قراءة هذا اليوم ( تذكار وجود رأس يوحنا المعمدان ونياحة أنبا مينا بابا الإسكندرية ) مُحوَّلة علي قراءة يوم الثاني من بؤونة ( تذكار وجود عظام يوحنا المعمدان )
لا يذكر الدفنار أو السنكسار نياحة أنبا مينا بابا الإسكندرية
عظات آباء معاصرين
المتنيح القمص لوقا سيداروس لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض
من إنجيل معلمنا مار متي (مت ٦ : ۱۹ – ۳۳) بركاته علينا آمين.
لا تشغل بالك بالأمور الجسدية اطْلُبُوا أَوْلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تزداد لَكُمْ. (مت ٦: ٣٣)
من نعم الله علينا أيها الأحباء في هذا الجيل الذي عشنا فيه أن أنعم على الكنيسة بالبابا كيرلس السادس ليكون شاهداً للمسيح ليس في هذا الجيل فقط، بل إلى أجيال الأجيال ونحن نعتبر أنفسنا مغبوطين جداً، أن أتاح الله لنا فرصة أن نرى هذا القديس الذي تنيح عام ۱۹۷۱ ، منذ اثنتي وثلاثين عاماً. لكن حتى الذين لم يرونه، يتشفعون به وبخاصة الذين يعانون من ضيقات أو آلام أو أتعاب. أذكر أننا في المعتقل عام ۱۹۸۱ ، كان في ذهن كل منا بلا استثناء، في كل يوم وكل ساعة، أن السند الذي كان يستند إليه الموجودين في هذه الضيقة، هو البابا كيرلس والقصص لا تُعد ولا تُحصى من رأوه يعرفون أن بابه كان مفتوحاً لكل أحد ، والجميع يدخلون إليه بلا فرق بين كبير وصغير أو بين وزير وفقير. ومن لم يكن له نصيب في أن يراه في الجسد، يشعر بذات الروح ونفس الحب والعناية والحنان المفرط الذي أغدق منه على شعبه. هذا المساء سيكون هناك فرصة نجتمع فيها حول سيرة البابا كيرلس ونهنئ أبونا كيرلس بعيد رسامته السادس. يعطيه الرب أياماً مقدسة يخدم فيها شعب المسيح. منذ خلقة الإنسان وسقوطه في الخطية، صارت محبة الملكية مزروعة في الطبيعة البشرية والحيازة سمة في الكيان الإنساني لذلك يُطلق على الأرض الحيازة وأصبحنا نلاحظ حب القنية في الأطفال الذين لا يعرفون خطية، ولا يدركون من أمرهم شيئاً . والملكية تقوي الإحساس بالذات، ويصحبها دائماً كلمات مثل “أنا” و “عندي”. فمتى يتحول ذهن الإنسان عن الممتلكات والحيازة؟ وكيف يتخلص من هذه السمة المزروعة في الطبيعة ويُصلح الطريق؟ كل منا يعرف نفسه جيداً. لن يتخلى الإنسان عن الملكية إلا إذا اتجه بصره نحو السماء، وأصبحت السماء هي وجهته حينها يصير إنساناً سماوياً يطلب ملكوت الله. في آخر آية في إنجيل اليوم يقول المسيح له المجد: “اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ”. لا تشغل بالك بالأمور الجسدية، لأن جميعها للاستعمال الوقتي، وتزول بزوال الجسد. قد تجد من الأطباء من يعلق الشهادات الكثيرة في العيادة. حتى متى ؟ أليس لوقت محدود ؟ هذا ليس آخر جيل من الأطباء، فقد تعاقبت أجيال وأجيال علقوا الشهادات وانتهوا وكم من كراسي لوزراء ورؤساء انتهوا وجاء من يخلفهم لأن الكرسي والمركز والسلطة والملكية والمال والعظمة وكل مجد العالم يدوم لفترة مؤقتة محدودة وتنتهي. هذا الأمر لا يحتاج لشرح ، لأن كل منا يدركه في جسده وفيما يطرأ عليه من تغيرات بمرور الزمن، حتى يأتي اليوم الذي يخلع الإنسان الجسد فيعود الجسد إلى التراب.
أنتم لستم من العالم لا تكنزوا لَكُمْ كُنُوراً عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ (مت٦: ١٩)
المسيح له المجد لا يُضيق علينا حين يقول “لا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ”. لا تأخذ كلامه بالمعنى السلبي، فله معنى إيجابي كبير جداً، وهو أنك لست محصوراً في الجسدانيات والتراب والعفن أبداً . المسيح نقل سيرتك وحياتك للسماوات. فما جدوى كنوز الأرض! لذلك يقطع الإنسان داخل قلبه في هذا الأمر، ويضع في ذهنه أن وجهته ومحطته الأخيرة هي السماء، وينفرد بنفسه ليرسى ويواجه نفسه بهذه التساؤلات: إلى أين أنا ذاهب ؟ كيف أعيش وماذا أعمل؟ ماذا عن المشغوليات التي لا حدود لها، والخيالات التي بلا نهاية، ودوامات الحياة التي تعصف بي؟ تارة تدفعني يميناً ويساراً، وتارة ترفعني إلى السماء ثم تلقي بي على الأرض بلا هوادة. يقف الإنسان. مع نفسه موقفاً قوياً ليقطع في هذا الأمر ، ويقرر من تلك اللحظة أن ينظر إلى ما هو فوق. وحين يتحقق الإنسان في نفسه من أنه يطلب ملكوت الله بالحق، صدقني تتغير الحياة كلها. الأمر الذي يُربك المرء جداً في حياته العادية كل يوم، أنه لا يعرف لنفسه محطة وصول، لأن هدفه ليس واضحاً. أحياناً يمشي مع أهواء العالم، وأحياناً يصلي يحضر القداس ويقرأ الإنجيل، ثم تجده في مكان شرير. يتحدث عن الله في وقت وفي وقت آخر يُلقي النكات البذيئة ويضحك بكلام بطال. يسلك كأولاد الله حيناً، ويسلك كأهل العالم أحياناً، وقد اختلطت الأمور في حياته. كلام المسيح “اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ ” ، غالي جداً. هذه الكلام يجب أن يرن داخل أعماق نفسك، لأنك تنتسب للملكوت. أنت لست من العالم، وهذا هو كلام المسيح. أنت مدعو للملكوت، فاطلبه ملكوت الله ليس خيالاً. عندما يبتدئ الإنسان يدرك ويفهم ويستنير ، يطلب ملكوت الله ويحيا فيه. أوصانا المسيح أن نطلب الملكوت في الصلاة فنقول: “أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأتي ملكوتك”. نحن مدعوون للملكوت، وبالأحرى فإن أسماءنا مكتوبة في السماء. لكن ينقصنا الإيمان، فنحن لا نصدق تماماً أن أسماءنا مسجلة في السماوات بالحق.
ترمومتر الحياة الروحية حَيْثُ يَكُونُ كَنْرُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً (مت ٦: ٢١)
“لا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الْأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ حَيْثُ لا يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَةٌ وَحَيْثُ لا يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلَا يَسْرِقُونَ”. طبعاً ثروات الأرض ومقتنياتها تَفْسَد وتضمحل. هذا هو كلام المسيح. كذلك أجسادنا تذبل وتبلي ويصيبها العجز والأمراض وأخيراً تزول. لأنه حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً. فلا تخد عن نفسك. إن كان كل ما يشغل بالك ويُفرح قلبك موجود على الأرض، تكون بعيداً عن الملكوت. إذا لاحظ الإنسان أن عواطفه تتأرجح في ارتفاع وهبوط بسبب الأمور الأرضية، فيفرح من أجل مكسب أو نجاح، ويحزن بسبب خسارة أو رسوب، يفرد عضلاته في الصحة ويكتئب في المرض تكون هذه علامة على أن العالم هو الذي يحرك قلبه ومشاعره. المسيح ليس عنده تغيير ولا شبه ظل دوران لذلك الفرح الروحي يظل موجوداً ومستديماً وممتداً لا يتراجع حتى لو أصاب الإنسان مرض أو كارثة، يظل الفرح كما هو لا يخبو. وفي الموت تنساب الدموع على الوجه، لكن الفرح يكون في الداخل. حكي لي أحد الآباء الرهبان عن طقس دفن الرهبان فقال: حين” ينتقل أحد الرهبان، لا نخبر أهل الراهب المنتقل لئلا يُسببون إزعاجاً في الدير. نبكي ونصلي صلاة الجناز، ثم نحمله إلى الطافوس مكان الدفن، ونستودعه لأنه سافر إلى مكان أفضل بعد أن كان يجاهد معنا. وأمام القبر نرتل لحن القيامة “إخرستوس آنستي”، وهو أكبر لحن فرح في الكنيسة كلها. فنحن ندفنه ونودعه بالدموع ثم نقول المسيح قام بفرح وتهليل أمر غريب جداً أنه حين تنحاز للمسيح، تسود مشاعر الفرح حتى في الموت. لأن المسيح غلب الموت. لأنه حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أيْضاً. فإذا وجدت قلبك في تذبذب، ومشاعرك متقلبة، تارة تكون في فرح غامر ، وتارة يسيطر عليك الحزن والهم والتعب من أجل شيء من تفاهات العالم. إعرف أنك لا تزال متعلقاً بالعالم ومتأثراً بما يقدمه لك. إذا كانت مشاعر القلب تعلو وتهبط بسبب الأمور الأرضية، فنحن لا نزال مرتبطون بالأرض. أما إذا استوثق الإنسان بالملكوت وتمسك بالحياة الأبدية، يهرب الحزن ووجع ويصبح الإنسان بشوشاً حتى في عز الآلام والضغوط. لأن الحياة الأبدية ليس فيها القلب حزن صدقني رأيت شخصاً في شدة الآلام وقسوة المرض، يطحنه الألم لكن يكسو الفرح وجهه ولا تعرف الكآبة طريقاً إلى قلبه سلام الله الذي يفوق كل عقل حين يملأ القلب، يغلب الآلام والأوجاع والأتعاب. لذلك هذه الآية ” حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً، هي الترمومتر الذي به تقيس حرارة قلبك انفعالك بحركات العالم وتأثرك بتقلبات أمواجه من مد وجزر. هذه هي الحياة. ودوام الحال من المحال فالمكسب الكبير لا يدوم، وكذلك لا تستمر الخسارة ولا الصحة والشباب.
متى امتلأ القلب من النعمة فاضت الحياة سخاء. إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جيش لاَ يَخَافُ قَلْبِي إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذَلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌ (مز۳:۲۷)
حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً ” ، قانون إلهي . وقد وضع القديسون كنزهم في السماء، فغلبوا العالم ولم يعد للأرض بكل ما فيها تأثيراً عليهم . فمع أن الأمواج تضطرم والرياح تعصف على سطح المحيط، إلا أنه عندما تنزل إلى القاع في الأعماق، تجد السكون والثبات. كذلك في اللحظة التي تسمع كلام المسيح وتضع كنزك كله في السماء، تشعر باستقرار وثبات الحياة بسبب الثبات في المسيح. إنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْسٌ لَا يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذَلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌ وأَيْضاً إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِ الْمَوْتِ لَا أَخَافُ شَرّاً لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. لأنه يعلم الكشاف الثاني الذي يكشف إن كان كنزك في السماء أو في الأرض، هو أن يصبح الإنسان سخياً يجزل العطاء بكل سرور، كريماً في أمور الدنيا . الماديات بالنسبة له لا قيمة لها. يعطي وهو مسرور أن كل ماله من يد الرب. كما يقول الكتاب “الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ”. قلبه لا يتعلق بالماديات ويعرف أنه سيخرج من الحياة بدونها فيعمل بها عملاً صالحاً، ما دامت قد وصلت إلى يده. أما من يجد في نفسه شحاً وتمسكاً بالماديات يريد أن يستزيد منها بحق أو بغير حق، إفهم أن قلبه بعيداً عن السماء. متى امتلأ القلب من النعمة، فاضت الحياة سخاء ليس في الأموال فقط، وإنما تجد الإنسان يمن على كل أحد، يبذل لكل أحد ، محب لكل إنسان، قلبه مفتوح، محب للعطاء، يكره الأخذ ، يُسَّرُ حينما يعطي ويتضايق إن أصر أحد أن يقدم له شيئاً. الإنجيل هو دستور للحياة. لا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الْأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ. والمجد لله دائماً أبدياً آمین.
المرجع كتاب الينبوع للمتنيح القمص لوقا سيداروس صفحة ٧٦، ٧٧، ٧٩، ٨٠
إمسك بالحياة الأبدية التي إليها دعيت لا تَخَفْ أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ ( لو ۱۲ : ۳۲)
افرحوا أن أسماءكم مكتوبة في السماوات. لك مكان في الملكوت، ولك اسم وميراث وإكليل لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل محفوظ عند المسيح من قبل إنشاء العالم. فقط جاهد حتى تصل، لأن كثيرين خابوا من الدعوة. كثيرون دعوا لكنهم لم يصلوا . كانوا مدعوين رسميين ببطاقة الدعوة، لكنهم لم يذهبوا فلم يأخذوا المسيح اشتري لنا الملكوت بدمه، لذلك أصبحنا ورثة الملكوت ، لكن لابد أن تتحقق بنفسك وتثق فيه وتصدقه. “لا تَخَفْ أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ لأنَّ أبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ”. كرر هذه الآية “أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ”. الإنسان يدخل إلى الحق في نفسه ويقارن بين ملكيات الأرض وملكوت الله يضاهي بين مَنْ يملك في الأرض ويقتني أموالاً وأمتعة وممتلكات يتكل عليها ليُؤمن مستقبله ، وبين من أمسك بملكوت الله. القديس بولس الرسول يقول لتلميذه تيموثاؤس: “أمْسِكْ بِالْحَيَاةِ الأبَدِيَّةِ الَّتِي إِلَيْهَا دُعِيتَ”. فهل تُمْسَكَ بها؟ تمسك بالحياة الأبدية فهي ليست خيالاً، بل هي الحق ذاته هل تقدر أن تقيم مقارنة بين ملكوت الله، وبين كل ما هو على وجه الأرض! لا يمكن. كيف تقارن مجد العالم الفاني الكذاب، بمجد المسيح الأبدي! لا وجه للمقارنة بين غني المال وغني الروح البابوي سيرة البابا كيرلس تشهد أنه عاش فقيراً ومات فقيراً من ناحية الأمور المادية بعد نياحته سافرنا إلى القاهرة في ذات اليوم، وخلعنا عنه ملابسه لتلبسه ملابس الكهنوت التي سيجلس بها علي الكرسي كطقس تقليد البطاركة. كان يرتدي جلباباً فقيراً جداً، لا يرضى به أفقر فقير في مصر. لكنه لم يكن فقيراً، بل كان يُغنى كثيرين كان يأتي إليه كل محتاج وكل ضعيف وكل مسكين وكل مريض وكل من هو في ضيقة، يبكي أمامه لكي يعطيه ويفك كربه. ألا يدل هذا على أنه كان غنياً؟ بلي، كان غنياً جداً، لكنه افتقر عن العالم بإرادته. والفقر الإرادي ليس فقراً بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْماً فَيَوْماً”. حين يقول المسيح اطلبوا أولاً ملكوت الله ” ، ” بيعوا مالكم وأعطوا .. ” ، هل يريد أن يجعلك فقيراً؟ كلا، المسيح يريد أن يشبعك ويغنيك بغني الروح كل أموال الدنيا ومجدها لا يُشبع. هذا حق صدقني. من سعوا خلف شهوات الجسد ، لم يشبعوا ولم يكتفوا حتى الموت. ومن تركوا أنفسهم للإباحية، لم يشبعوا من الشهوات، حتى أن أجسادهم ضُرِبَت بالأمراض والأوبئة وشردوا في الشوارع.
تذوق طعم الملكوت ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ (مز ٣٤: ٨)
المسيح له المجد قال للسامرية: ” كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَسُ أَيْضاً. وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ”. لذلك لا وجه للمقارنة. إذا ذقت طعم غني الروح وعشت ملكوت الله داخلك، لن تعبأ بملكيات العالم، لأنك حينها تصبح غنياً مكتفياً غير راغب في شئ، بل أن العالم كله يصبح عديم القيمة في نظرك من حاز المسيح واغتني به كفَّ عن أن يطلب ما في أيدي الناس، وعاش عن المال لا يريد شيئاً من متع الدنيا، لأنه يملك ما هو أفضل بما لا يُقاس. زهد البابا كيرلس في كل ما في العالم، وكان يعلق لافتة صغيرة مكتوب عليها: “ازهد فيما بين أيدي الناس، يحبك الناس”. متعففاً نحن مدعوون للملكوت، لا لنسمع عن مجد القديسين وفضائلهم ومعجزاتهم كنوع من التسلية. أعطانا الله أن نعرف عن القديسين كي نتذوق طعم الملكوت. “ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أطْيَبَ الرَّبَّ!” ذُقه يا أخي فهو مسيحك. الملكوت هو ملكوتك أنت وليس ملكوت القديسين فحسب. والمسيح هو مسيحك، كما أنه مسيح القديسين الذين أحبوه وعاشوا له وكرسوا العمر القديسين عينات يراها الإنسان فيتشجع ويشتهي الملكوت بأكثر جدية. وفي خضم سعيه باجتهاد نحو الملكوت، يدوس على الأرض بكل ما فيها ويحتقر مباهجها.
المرجع : كتاب الينبوع للمتنيح القمص لوقا سيداروس ( صفحة ٧٧، ٧٨ )
المتنيح القمص لوقا سيداروس الصلاة في حياة البابا كيرلس
من إنجيل معلمنا مار يوحنا البشير (يو ۱۰ : ١ – ١٦) بركاته علينا آمين.
حروب ضد الصلاة وَمَتَى وَقَفْتُمْ تُصَلُّونَ فَاغْفِرُوا إِنْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ لِكَيْ يَغْفِرَ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ زَلاتِكُمْ. (مر۱۱ : ٢٥)
حروب كثيرة قائمة ضد الصلاة، فالشيطان يكره جداً أن يجد إنساناً يقف للصلاة. لذلك يشن حروباً كثيرة جداً منها الشعور بالكسل ، وتشتت الفكر، والملل، الأتعاب والأمراض وغيرها من المعاكسات الأخرى التي تهاجم الإنسان بمجرد وقوفه للصلاة. أكثر شيء حورب به البابا كيرلس في بداية حبريته، كانت شكاوى الناس عليه من داخل الكنيسة، من الأساقفة والكهنة والعلمانيين. قالوا نريد بطريركاً، لا عريفاً يصلى ويسبح نهاراً وليلاً. يقضي يومه ما بين التسابيح والصلوات. كانوا يدَّعون أنه لا يصلح لإدارة الكنيسة بشكل مشرف، وأن الكنيسة في حاجة إلى بطريرك له هيبة أمام الرئيس ورجالات الدولة، مؤهلاً لحل المشكلات ورعاية الكنيسة وحقوق ومصالح الأقباط. ومن العجب أن تقوم ضده كل هذه الشكاوى بسبب الصلاة، حتى أن بعض الأساقفة نادوا بعمل مجلس بطريركي لعزله. وذلك بأن ينتخبوا عدداً من الأساقفة ليقوموا بأعمال البطريرك ويعزلوه بسبب عدم صلاحيته، التي أرجعوها لكثرة صلواته. فإذا كان البابا صاحب تلك القامة الروحية قد عانى من مثل هذه الحروب، فكم بالحري يكون حالنا نحن الضعفاء! إن الشيطان يهيج ويقف ضد الإنسان، بمجرد أن يبدأ حياة الصلاة. لكن تبطل جميع . الحروب، لو كان الإنسان أميناً لإلهه. حين كان البابا كيرلس يصلي ولا يتحدث مع أحد سوى الله، هاجت الدنيا من حوله. أما الذين قاوموه وافتروا عليه فقد انتهوا نهايات سيئة وصعبة جداً جداً. كان أحدهم يعاني من دور برد، فتناول زجاجة كانت بجانب فراشه وشرب منها معتقداً أنها زجاجة الدواء، فمات في الحال لأنها كانت تحتوي على مبيد سام. استمر البابا كيرلس في حياة الصلاة وكان شفوقا جداً على جميع الناس حتى المسيئين إليه، واضعاً نصب عينيه كلام المسيح له المجد “متى قمتم للصلاة فاغفروا”. إعلم هذا أنك إذا أردت الدخول الحقيقي إلى الله، فإن أول طلبة تطلبها من الله هي الغفران والسماح من أجل المسيئين. هذه هي البداية والمدخل الحقيقي للصلاة. في فترة ترشيح البابا للبطريركية، أصابته شائعات كثيرة وافتراءات حيث اتهموه بالشعوذة وأعمال السحر والدجل، بالإضافة إلى الادعاء بعدم صلاحيته كما ذكرنا سلفاً . قام الكثيرون وروجوا لمثل هذا الكلام فطبعوا المنشورات ووزعوها. وكان من بين من أشاعوا تلك الافتراءات أحد كبار المحامين بالإسكندرية. فقد ساهم في كتابة ونشر تلك الشائعات. وحدث أنه عندما اختار الله البابا كيرلس وأصبح بطريركاً، حضر إلى الإسكندرية ليجتمع مع أعضاء المجلس الملي الذين لم يقابلهم قبلاً. بدأ الأعضاء بتعريف البابا بأنفسهم، وكان من بينهم هذا المحامي، الذي عندما هَمَّ بتعريف نفسه للبابا في دوره، وقال له “أنا فلان الفلاني”، سلم عليه البطريرك وقال له “انت” يا أخويا بتاع الثلاث ورقات!” في عتاب رقيق، إشارة إلى ما أشاعه عنه فركع الرجل على الأرض طالباً السماح فأقامه البابا وضمه إلى صدره بحنان وربت على كتفه مهدئاً من روعه ومؤكداً أنه غفر له ما بدر منه.
اقتدار الصلاة
وَأَمَّا هَذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلا بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ (مت ۱۷ : ۲۱)
وهكذا نرى أن إنسان الصلاة يكون غفوراً كثير السماح بينما الإنسان الذي يحمل في قلبه خصاماً، لا يستطيع أن يدخل في حضرة الله. وعلينا أن نفهم جيداً أن من يحمل ضغينة في قلبه لا يستطيع أن يتراءى أمام الله، لأن إلهنا إله محبة. يستمر عمل الصلاة مدى الحياة لأنها عِشرة دائمة مع المسيح ليس لها حدود. لذلك كان الناس يتعجبون أن البابا كان يقضي ساعات طويلة في الصلاة، غير مدركين لعمق عشرته مع الله. كان في البدايات عندما يُطلب إليه أن يصلي على مريض من أجل الشفاء أو إخراج الشياطين كان يصلي كثيراً ويتلو الكثير من المزامير ، أما في النهايات فقد عاينت بنفسي أن الأمر لم يكن يستدعي منه أكثر من كلمة واحدة. فحينما يعيش الإنسان في عشرة حقيقية مع المسيح، يتقدم ويترقى حتى تصبح حياته في السماء، فتكفي كلمة واحدة. أمر فوق التصور أن يصبح العالم معلقا بكلمة واحدة من فمه الطاهر. ويمكنك أن تتخيل كم يختلف الأمر مع شخص ما زال يتمرن على الصلاة، أو لا يدرك معنى الصلاة وأهمية المزامير . فلا يعرف كيف يقف أمام الله ، ويترك نفسه للعالم يسحبه بتياراته ويشوش على أفكاره. توطدت العلاقة بين عبد الناصر والبابا كيرلس بعد قطيعة امتدت منذ عام ١۹۵۹ إلى عام ١٩٦٥. لم يحدث أن تقابلا في تلك الفترة، حتى كان من تدبير الله أن أحسن البابا لأحد أقرباء عبد الناصر واسمه أبو وافى. كان الرجل غير مسيحي ولم ينجب أولاداً . صلى البابا من أجل الرجل، وطلب له من المسيح نسل، فأعطاه ولداً. حفظ الرجل هذا الجميل، وأحب البابا جداً. وكان يزور البابا بين الحين والآخر ليراه ويلتمس بركته. فلما طالت القطيعة مع عبد الناصر وساءت الأمور، طلب البابا من الرجل أن يتوسط لتحديد موعد لمقابلة الرئيس. فرحب الرجل جداً وأبدى استعداداً طيباً للمساعدة في هذا الأمر، ووعد البابا بأنه في الغد سيخبره بموعد المقابلة. وبالفعل تحدد الميعاد بعد أيام قلائل. فلما ذهب البابا في الموعد المحدد، قابله الرئيس عبد الناصر بجفاء شديد جداً، ويبدو أنه كان مثقلاً بهموم. البلاد أو مشكلات أو متاعب. فبمجرد أن قابل البابا، بادره بحدة قائلاً: “أليس عندي هموم سوى الأقباط وهم الأقباط؟ أنتم تعيشون حياة جيدة، فما الأمر؟ ماذا تريدون؟ فوجئ البابا باستقبال الرئيس وحدة كلامه في بداية اللقاء، رغم أنها كانت المرة الأولى التي يراه فيها . فرد البابا مأخوذاً وقال: “هل هذه تحيتك لي والمقابلة التي تقابلني بها أنا لم أحدثك في شيء بعد ؟ منك لله يا أخي.. منك لله”. انتهت المقابلة عند هذا الحد، وخرج البابا حزيناً استقل سيارته عائداً إلى البطريركية، ثم دخل قلايته وأغلقها على نفسه. في الواحدة والنصف صباحاً، سُمِعَ طرقاً عنيفاً على باب البطريركية الخارجي، وقد وقف بالباب أبو “وافي” يطلب سرعة مقابلة البابا لنجدته، فاعتذر تلميذ البابا لأن سيدنا أغلق باب قلايته ومن غير اللائق الدخول إليه فى هذا الوقت المتأخر. أشار الرجل إلى خطورة الأمر وضرورة إيقاظ البابا. فاعتذر التلميذ مرة أخرى عن عدم استطاعته الطرق على باب حجرة البابا في ذلك الوقت المتأخر، خاصة أن البابا يستيقظ في الساعة الرابعة فجراً للتسبحة أصر الرجل وأخبر التلميذ أنه إن لم يبادر بإيقاظ البابا، فسوف يقرع باب الحجرة بنفسه. ومع إصرار الرجل اتجها ناحية القلاية. ومن فرط دهشتهما، فُتِح الباب وخرج البابا بكامل ملابسه مستعداً للخروج، وقال للرجل: “هيا يا ابني خذني إلى حيثما تريد”. كانت الساعة الثانية والنصف بعد نصف الليل عندما دخل البابا بيت عبد الناصر. وكانت ابنته قد أُصيبت بحالة هياج شديد لم تفلح معها محاولات الأطباء لتهدئتها، ولم تنفع معها أدوية دخل البابا بيت الرئيس وصلى لها فهدأت في الحال. كانت صلاته حقاً مقتدرة. ومنذ تلك اللحظة تغير عبد الناصر، وخضع لمحبة البابا، وأصبحا من أعز الأحباء بعد سنين جفاء. كان البابا دائماً ما يقول لي: “يا بني عبد الناصر بيقول لى يا والدنا.. نفسه يقول لى يا ابويا بس محرج.. يا بني ابوك ده غلبان، دى نعمة الله”. ويبدو أن شعبية البابا كانت قد أثارت عبد الناصر في البداية. فعندما كان البابا في السنين الأولى لحبريته يزور الكنائس في مختلف البلاد، كان الناس يلتفون حوله في زحام شديد، يقيمون له الاحتفالات، معبرين عن فرحتهم به بشكل يفوق العقل ، والتصور. فاعتقد عبد الناصر أن البابا ينافسه على شعبيته وقال: ” كم رئيساً في البلاد!”. علم البابا وفي تواضع وخضوع جم، توجه من تلقاء نفسه إلى قصر القبة، ووقع في سجل التشريفات تحت عبارة “كيرلس السادس مواطن خاضع لرئيس الدولة”.
قوة الصلاة
لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا الْجَبَلِ انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِن لَدَيْكُمْ. (مت ١٧: ٢٠)
حقاً تستطيع الصلاة أن تخضع الوحوش وتُغير القلوب. هذا ما قصده السيد المسيح له المجد عندما قال: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا الْجَبَلِ انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ .”. يقصد قدرة الصلاة الحقيقية على إزالة أية عقبات من أمام الإنسان. طبعاً من ضمن الانحرافات الشديدة جداً، أن يعتقد الإنسان أن حياة الصلاة تخدم الحياة الحاضرة. فتكون طلباته من الله من أجل نجاح أو شفاء أو تدبير الأمور التي تنحصر في الأيام التي نعيشها على الأرض. إذا كان الإنسان يحصر صلاته في أمور تلك الدائرة الصغيرة، وهي الأمور المادية والحياة الزمنية، فهو لا يعلم معنى الصلاة. السيد المسيح له المجد يقول: “اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ”. حين تصلي عليك أن تطلب ملكوت الله أولاً. أما الأمور المادية والزمنية، يعطيها الله للوثنيين ولمن لم يطلبوها، فهو يشرق شمسه على الأبرار والأشرار. لذلك لا يجب أن تظن أن الهدف من الصلاة هو خدمة الحياة الحاضرة. نحن دعينا أولاد الله، فأصبح لنا دخول إليه وشركة معه واتحاد وتلذذ به، وعشرة معه، وحب له، وتقديس الحياة كلها فيه. الآيات والعجائب التي تتحقق بالصلاة لا حصر لها، فقد أعطي الله القديسين مواهب وعطايا ليصنعوا الآيات والمعجزات، وقال: “هَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ”. أما المؤمن البسيط الذي يعيش في العالم، فقد يصيبه الشك في إمكانية حدوث المعجزات من جراء صلواته . ثق أن هناك الكثير من الأمور التي تخفى عن الإنسان وتتجاوز حدود تصوراته. ربما لا يراها ولا يدركها لكنها تحدث في تفاصيل الحياة بتدخل إلهي عجيب جداً . كم من مرة يشعر الإنسان أنه على وشك الضياع ضياعاً نهائياً، لولا أن قوة خفية غير مرئية ويد عجيبة تحول مجرى الأمور، لتنقذ الإنسان من المآزق والفخاخ ، وتحجب عنه شروراً وضربات كثيرة، وليس لها تفسير ! علينا أن ندرك معنى الصلاة الحقيقية . ونتذوقها فالصلاة ليست ترديد كلام بل هي رفع القلب نحو الله فاحص القلوب مُختبر الكلى، الذي يعلم دواخل قلب كل أحد . الله يقبل الصلوات المرفوعة إليه من قلب نقي، أما حين يتعكر القلب، لا تُقبل الصلاة، لأن قنوات الاتصال تكون مسدودة. نقاوة القلب هي التي أهلت الأنبا كيرلس للوصول إلى هذه الدرجة في صلاته حين يطلب، يُستجاب له في الحال. وكان يقول: “الصلاة قادرة على كل شئ لأنها تحرك اليد التي تدير الكون”. أخبرني أبونا صليب سوريال الذي كانت له صلة قرابة بالبابا ودالة كبيرة عنده منذ بداية عهده بالرهبنة، أنه في بدايات عهد البابا كيرلس ضاق الحال بالأقباط جداً بعد أن توقفت تعيينات خريجي الجامعة لأكثر من عشر سنوات، حتى أصبح هناك ألوف مؤلفة من شباب الخريجين بلا عمل. يقول أبونا سوريال دخلت إلى البابا منفعلاً وصحت فيه قائلاً: “اعمل حاجة يا أخي بقي” وقد خرج عن طور الأدب في حديثه إلى البابا، بينما جلس البابا صامتاً ثم قال له “يا ابني صلى” قال له أبونا ، صلي بس اعمل حاجة.. إيه صلي وبس! ” أعاد البابا ما قاله مؤكداً يا ابني صلى. من غير الصلاة مش هنعمل حاجة” خرج ابونا سوريال من عند البابا غاضباً ومغتاظاً وهو يتمتم ايه” صلي دي مش هتنفع”. بعد أيام قليلة صدر قراراً جمهورياً بتعيين ألوف مؤلفة من الأقباط فشعر أبونا بخجل شديد جداً، فكيف له أن يواجه البابا بعد ما صدر منه، وقد علم كم أن الصلاة مقتدرة. ذات في مرة كان هناك مشكلة في كنيسة مار جرجس سبورتنج ، وكان البابا كيرلس متواجداً في الإسكندرية. فاتفقنا على أن نذهب إليه لنطرح عليه الموضوع، وجاء معنا أعضاء اللجنة. وبينما نحن في الطريق نتباحث في كيفية عرض الأمر على سيدنا ، قال أحد الأحباء وقد كان كثير الكلام: ” هيقول لنا صلوا.. هنحط قدامه الموضوع هيقول صلوا . فقال أبونا بيشوي: “لا بأس، نأخذ بركته لأنه هو أبونا ولابد أن نسأله”. عندما دخلنا إلى البابا سلم علينا وأعطانا قربان ، ثم سأل عن أحوالنا، فطرحنا الموضوع. فقال البابا: “يا ابني صلوا.. يا حبيبي صلوا”. ثم أشار البابا إلى الرجل وقال له: وأنت ما رأيك؟ مش عاجبك الصلاة؟ انت تقدر تعمل حاجة من غير “صلاة؟ هل تدرك عمل الصلاة بالصلاة نقلوا الجبال وأخرجوا شياطين وأقاموا موتي وشفوا أمراض اعتذر الرجل في الحال وقد إحمر وجهه من الخجل وقال: ” أخطأت يا سيدنا سامحني”. ثم صمت تماماً. إذ لم يكن الناس يدركون معنى الصلاة وقوتها. اسكب نفسك أمام الله واثقا في كلمات المسيح له المجد : “كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي الصَّلَاةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ”. لَا تحصر طلباتك في تلك الدائرة الصغيرة الخاصة بالحياة الوقتية من مأكل ومشرب وملبس وشفاء من ألم ومرض وخلافه. نحن مدعوون لملكوت الله، فاطلبوا أولاً ملكوت الله. افتح قلبك دائماً للملكوت، أما الأمور الوقتية، فستعطى لك وبزيادة كبيرة جداً. السيد المسيح له المجد قال للتلاميذ: “حِينَ كَسَّرْتُ الْأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ لِلْخَمْسَةِ الآلآفِ كَمْ قُفَّةً مَمْلُوَّةً كِسَراً رَفَعْتُمْ؟” ، قالوا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً”. قال لهم فلماذا تعولون الهم وأنا معكم وأنت أيضاً مع المسيح فلماذا تقلق وتهتم لماذا تحصر نفسك في الزمن! لماذا تعطي المشكلات الصغيرة حجماً كبيراً ! الصلاة حلت الحديد أخضعت وحوش الأرض، نقلت الجبال، أقامت موتي وأخرجت شياطين. لا تقلل من شأنها وأدخل إلى الله لتتذوق طعم الصلاة صلي بإيمان تنال صلي بإخلاص، صلي بقلب نقي. انزع العكارة التي يلقيها الشيطان في القلب ليعكر صفو حياتنا . يعكرها بخصومة، بعداوة، بكلام بطال، بسيرة أو بأفكار رديئة. وحينما يتعكر القلب، تكون الصلاة كلاماً في الهواء. أما الصلاة من قلب نقي، فهي ترتفع أمام الله كرائحة بخور مقبولة.
الصلاة ترهب الشياطين يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلَا يُمَلَّ (لو ۱۸ : ۱)
عندما يعيش الإنسان حياة الصلاة الحقيقية تخشاه الشياطين. أما نحن فقد أصبحنا نخاف من التجارب والشياطين، بعد أن أوقع بنا الشيطان في الكثير من الخطايا. لأتفه الأسباب يقع الإنسان في كذب أو شتيمة وفي العديد من الخطايا الأخرى. حين تتوطد علاقة الإنسان بالمسيح في الصلاة، كما رأينا مع البابا كيرلس كانت الشياطين تخاف منه وتخشاه وقد رأيت هذا بنفسي. ففي أحد الأيام بعد أن انتهى البابا من القداس وكنا حوله، جاءه شاب وارتمى على الأرض يرفس ويزبد في منظر مخيف. اقترب البابا منه ممسكاً الصليب وقال له “هيه ! ” فرد الشيطان “مش هاطلع”.. قال له البابا “بقولك سيبه” فقال “مش هاطلع ” قاله طب” بلاش” ، ثم استدار البطريرك لينصرف، فصرخ الولد “تعالى خلاص.. تعالى هاطلع خلاص.. خلاص” وكان يضرب نفسه في الأرض. فقد كانت الشياطين ترتعب منه. عاد البابا وأحضروا له إبريق ماء رش على الولد ورشم عليه إشارة الصليب، فوقف معافى في الحال. كانت الشياطين تخشاه حتى وهو نائم فقد كنت أقف بجواره ذات يوم وهو يجلس على الكرسي في البطريركية، وغلبه النعاس من شدة التعب والسهر فأغمض عينيه. تقدم شخص به روح نجس. وعندما اقترب من البابا، وقع على الأرض والبابا نائم فتح البابا عينيه وقال له قوم يا ابني قوم” فقام الولد وقد خرج الشيطان. كانت الشياطين تخاف من اسمه من شكله، من منظره. آمن أن كل ما نسأله في الصلاة بقلب مستقيم نناله الأمر يحتاج إلى تمرين ومواظبة. يحتاج إلى تكريس القلب، والابتعاد عن الملل صلوا ولا تملوا صلوا كل حين صلوا واسهروا ، صلي. آمن بنعمة الصلاة التي أعطيت لنا حتى نقول لله “أبانا”. أنت تقول الله أبويا، انْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الْآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ الله”. آمن أن الله أحبنا إلى المنتهى وأسلم ذاته لأجلنا، وأن طلباتنا مقبولة لديه. ستحتاج إلى أن تصبر وتتعلم وتفطن. دعك من القلق، فهو آفة الصلاة القلق يدل على ضعف الثقة في الله. لا تقلق حتى ولو تأخرت استجابة الصلاة في بعض الأحيان أجيب ابني بالرفض أو التأجيل من أجل مصلحته، وهي في الحقيقة تُعتبر استجابة. لذلك لو كانت إجابة الصلاة “لا” فهي أيضاً .استجابة. حياة التسليم يتعلمها الإنسان من الصلاة، نضع حياتنا في يد المسيح بهدوء وسلام قلبي بدون انزعاج، بتمام الثقة في مواعيد الله. لن يتركني إطلاقاً ولن يهملني فليس هذا طبعه أبداً. والذي بدأ فيكم عملاً صالحاً يقدر أن يكمل إلى يوم ربنا يسوع المسيح الذي له المجد الدائم إلى الأبد آمين.
المرجع : كتاب الينبوع للمتنيح القمص لوقا سيداروس ( صفحة ٧١- ٧٥ )