يوم الأثنين من الأسبوع الرابع للخماسين المُقَدَّسَة

نور التعليم الإلهي

تتكلم قراءات هذا اليوم عن نور التعليم الإلهي..

  • نور كلمة الله وتعليم الله في حياتنا،
  • وكيف تُقدم الكنيسة للعالم نور هذا التعليم السماوي ليضئ على الجالسين في الظلمة وظلال الموت.

المزامير

لذلك في:

  • مزمور عشية يتكلم عن ← حزن النفوس التي لم تتعرف بعد على هذا النور، وكيف تصير دائماُ مضطربة ومنزعجة “لماذا أنت حزينة يا نفسي ولماذا تزعجينني” (مز٤٢: ٥).
  • مزمور باكر عن ← الإحتياج لهذا النور الإلهي “أرسل نورك وحقك فإنهما أهدياني وأصعداني إلى جبلك المقدس وإلى مسكنك” (مز ٤٢: ٣).
  • مزمور القداس عن ← إشراقة هذا النور خلال الكلمة الإلهية “مصباح لرجلي هو ناموسك ونور لسبيلي فليضئ بوجهك على عبدك وعلمني حقوقك” (مز ١١٨: ٨١، ١٠٥).
  • إنجيل عشية

وفي انجيل عشية عن ← كرازة الكنيسة بقيامة الرب نور البشرية في العهد الجديد وتأييد الرب للكنيسة الكارزة بنور التعليم والكرازة بالقيامة المقدسة “وأما أولئك فخرجوا وكرزوا في كل مكان وكان الرب يعمل معهم ويثبت الكلام بالآيات التي تتبعهم إلى أبد الآبدين آمين”.

 

انجيل باكر

وفي انجيل باكر عن ← انتشار نور الإنجيل في كل المسكونة “وقال بماذا نُشَّبِه ملكوت الله أو أي مثل نضربه له إنه كحبة الخردل….. فإذا زُرعت ترتفع وتصير أكبر البقول جميعها وتصنع أغصاناً كبيرة حتى أن طيور السماء تستطيع أن تتآوى تحت ظلها”.

 

البولس

وفي البولس عن ← نور التعليم الالهي المُعلن في الكتب المقدسة مُظهراً بر الآب للبشرية في العهد الجديد “كما قال داود في تطويب الإنسان الذي يحسب له الله براً بدون أعمال. طوبى للذين غُفرت آثامهم وسُترت خطاياهم”.

 

الكاثوليكون

وفي الكاثوليكون عن ← نور التعليم الإلهي المُعلن في حياة أولاد الله في المحبة الأخوية “لأن هذه هي الوصية التي سمعتموها من البدء أن يحب بعضنا بعضاً”.

 

الابركسيس

وفي الابركسيس عن ← مسئولية ورسالة الكنيسة في العالم في إعلان نور التعليم الإلهي لكل الناس “فلما سمعوا دخلوا إلى الهيكل نحو الصبح وطفقوا يُعَلِّمُون…. هوذا الرجال الذين وضعتموهم في السجن هم في الهيكل يعلمون الشعب”.

 

انجيل القداس

وفي انجيل القداس عن أن ← نور التعليم والحق الإلهي للآب الذي أُعلِن في شخص إبنه يسوع المسيح “إنساناً يقول لكم الحق الذي سمعته من الله….. فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأني خرجت من الله وأتيت”.

 

ملخص الشرح

❈ إشراقة نور كلمة الله على النفوس المضطربة المحتاجة لمعرفة طريق الحياة.     (مزمور عشية – مزمور باكر – مزمور القداس).

❈ مسئولية الكنيسة في كرازتها وخدمتها أن يرتكز تعليمعها على القيامة نور البشرية في العهد الجديد. (انجيل عشية).

❈ إنتشار نور الإنجيل في كل المسكونة. (انجيل باكر).

❈ نور التعليم الإلهي في الكتاب المقدس يُعلن بر الآب للبشرية. (البولس).

❈ نور التعليم الإلهي يعلن في حياة أولاد الله في محبتهم بعضهم لبعض. (الكاثوليكون).

❈ رسالة الكنيسة أن تُعلن نور الإنجيل ونور تعليم المسيح للبشرية. (الابركسيس).

❈ نور الحق الإلهي وتعليم الآب مُعلن في إبنه يسوع المسيح. (إنجيل القداس).

 

 

عظات آبائية للأثنين من الأسبوع الرابع من الخمسين يوم المقدسة

 

العظة الأولى من الرسائل الفصحية – للقديس أثناسيوس الرسولي[1]

لنحتمل الضيق من أجل الملكوت.

إذ كان بولس الرسول متمنطقا بكل فضيلة (أف٦: ١٤) وقد دعي مؤمنًا بالرب، لأنه لم يكن يشعر بشيء في ذاته (١كو٤:٤) بل كان يتوق إلى الفضيلة والتسبيح ومع ما يتفق مع الحب والبر، لهذا كان دائما ملتصقاً بهذه الأمور أكثر فأكثر، وكان يحمل إلى المواضع السمائية ويختطف إلى الفردوس (٢كو١٢: ٤) وإذ فاق غيره في توبته، فسيتمجد أكثر منهم.

وعندما نزل (من الفردوس) كرز لكل واحد “لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ” (١كو ١٣: ٩) “الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت” (١كو١٣: ١٢) فأنه في الحقيقة قد عرف بين القديسين كرعية معهم (أف٢: ١٩).

فمعرفته للأمور المستقبلة والكاملة هي بعض المعرفة، أما الأمور التي أمره بها الرب وأتمنه عليها فقد عرفها معرفة  كاملة كقوله “فليفتكر هذا جميع الكاملين منا” (في٣: ١٥).

فكما أن إنجيل المسيح هو كمال وتحقيق للخدمة التي سبق أن أعطيت بواسطة الشريعة (الموسوية)…، هكذا أيضا ستكون الأمور المستقبلة هي تحقيق وتنفيذ لما هو موجود حالياً، حيث يتحقق للمؤمنين ما لم يرونه الآن، والتي لم يترجونها كقول بولس “لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضاً؟! ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فأننا نتوقعه بالصبر” (رو٨: ٢٤، ٢٥).

فإذ كان لهذا الرجل الطوباوي هذه الصفات، وقد عهدت إليه النعمة الرسولية، لهذا كتب مشتاقاً أن يكون جميع الناس مثله (١كو٧:٧)…

عظيمة هي الشركة في ملكوت السموات، لأن هناك ألوف ألوف وربوات ربوات يخدمون الله.

ومع أن طريق الملكوت ضيق وكرب بالنسبة للإنسان، لكنه متى دخل رأى إتساعا بلا قياس، وموضعاً فوق كل موضع إذ شهد بذلك أولئك الذين رأوا عياناً وتمتعوا بذلك.

(يقول البشر في الطريق) “جعلت ضغطاً (أحزائاً) على قوتنا” (مز٦٦: ١١) لكن عندما يروون فيما بعد عن أحزانهم يقولون “أخرجتنا إلى الخصب” (مز٦٦: ١٢) وأيضا “في الضيق رحبت لي” (مز٤: ١) حقاً يا أخوتي نصيب القديسن هنا هو الضيق، إذا هم يتعبون متألمين بسبب شوقهم إلى الأمور المستقبلة، مثل ذاك الذي قال “ويل لي فأن غربتي قد طالت” (راجع مز 120) إذ يتضايقون وينفقون بسبب خلاص الآخرين كما كتب بولس الرسول إلى أهل كورنثوس قائلاً “أن يذلني إلهي عندكم إذا جئت أيضاً وأنوح على كثيرين من الذين أخطأوا من قبل ولم يتوبوا عن النجاسة والزنا والعهارة التي فعلوها” (٢كو١٢: ٢١) وكما ناح صموئيل بسبب هلاك شاول، وبكي أرميا من أجل سبي الشعب.

هؤلاء عندما يرحلون من هذا العالم، فأنهم بعد هذا الحزن والكآبة والتنهد ينالون سعادة وسروراً وتهليلاً إلهياً، ويهرب منهم البؤس والحزن والتنهد.

بولس يعلمنا بجميع رسائله

إن كان هذا هو حالنا يا أخوتي فليتنا لا نتوانى في طريق الفضيلة، إذ ينصحنا قائلاً “كونوا متمثلين كما أنا بي أيضا بالمسيح” (1كو11: 1). فأنه إن كان قد قدم هذه النصيحة إلى أهل كورنثوس وحدهم، لكنه ينصحنا نحن جميعاً عن طريقهم، إذ لم يكن رسولهم وحدهم بل كان “معلماً للأمم في الإيمان والحق” (1تي2: 7).

وباختصار، فإن الأمور التي كتب بها إلى أشخاص معينين، إنما يأمر بها الجميع لهذا كتب إلى شعوب مختلفة، فأمر بعض (الوصايا) في رسائله إلى روما وأفسس وفليمون. وإنتهر البعض ساخطاً عليهم، كما في حالتي أهل كورنثوس وأهل غلاطية. وقد كان ناصحاً للبعض كما صنع مع أهل كولوسي وأهل تسالونيكي. أما أهل فيلبي فقد زكاهم وفرح بهم. والعبرانيون علمهم أن الشريعة هي ظل لهم. أما بالنسبة لأبنيه الخاصين تيموثاوس وتيطس، فإنه عندما كانا قريبين منه قدم لهما تعليمات، وعندما كانا بعيدين كان يذكرهما.

وهكذا فقد كان بولس كل شيء لكل الناس، وبكونه إنسان كامل طبق تعاليمه حسب احتياج كل واحد، حتى يخلص بكل الطرق بعضاً منهم، لهذا لم تكن كلمته بغير ثمر، إنما نبتت في كل موضع وصارت مثمرة حتى يومنا هذا

يبدأ بتعريفنا بالله ثم يليها الوصايا الإلهية

بحق يلزمنا أن نبحث في الفكر الرسولي، لا في بداية الرسائل بل وفيما جاء بنهايتها وفي صلبها حيث يورد المعتقدات والنصائح.

وأنني أرجو بصلواتكم أن أظهر لكم طريقة هذا القديس التي هي ليست باطلاً. وإذ هو قد تمرن مرائًا حسناً في هذه الأمور الإلهية، وعرف قوة التعليم الإلهي، لذلك حسبها ضرورية.

ففي المكان الأول يظهر الكلمة الخاصة بالمسيح والسر الخاص به، وبعد ذلك يشير إلى تصحيح العادات، إذ يكونوا قد عرفوا الرب، فيشتاقون إلى تنفيذ الأوامر الإلهية.

لأنه لو أن “المرشد” (المسيح) إلى الوصايا غير معروف، فأنهم لا يكونوا مستعدين لحفظ الوصايا.

وقد استخدم موسى المؤمن -خادم الله- نفس الطريقة. لأنه عندما أذاع كلمات الشريعة الإلهية، تكلم أولاً عن الأمور الخاصة بمعرفة الله، قائلاً “اسمع… الرب إلهنا رب واحد” (تث6: 4) وبعدما أشار للشعب عن الله وعلمهم بمن يؤمنون به وأخبرهم عن الله الحقيقي، عندئذ بدأ يقدم الشريعة الخاصة بالأمور التي بها يكون الإنسان مرضياً لله، قائلاً “لا تزن. لا تسرق” مع بقية الوصايا.

هكذا بحسب التعليم الرسولي “يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن بأنه موجود، وأنه يجازي الذين يطلبونه” (عب11: 6).

الآن فإنه يبحث عن الله عن طريق الأعمال الصالحة كقول النبي “اطلبوا الرب ما دام يوجد. ادعوه وهو قريب. ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره” (إش55: 6، 7).

أمثلة أخرى:

وأيضا لم يخطئ الإنسان (هرماس) في كتاب “الراعي” إذ بدأ في أول الكتاب قائلاً.. [قبل كل شيء آمن أنه يوجد إله واحد، الذي خلق كل الأشياء وأوجدها من العدم إلى الوجود].

وبالحري الإنجيليون الطوباويون الذين سجلوا كلمات الرب، في بداية أناجيلهم كتبوا عن الأمور الخاصة بالمخلص، حتى أنهم إذ يعرفون أولاً الرب الخالق، يصدقهم الغير عندما يروون الحوادث الواردة. لأنه كيف يمكن تصدیق، كتب من جهة تفتيح عيني المولود أعمى من بطن أمه وغيره من العمى، وإقامة الموتى وتحويل الماء خمراً وتطهير البرص، إن لم يتعلموا أولاً أنه هو الخالق، إذ كتب “في البدء كان الكلمة”؟! (يو1: 1).

وما جاء في إنجيل متى أنه ذاك الذي من زرع داود “عمانوئيل” ابن الله الحي؟! هذا الذي يخفي اليهود والأريوسيين وجوههم عنه، أما نحن فنعرفه ونتعبد له.

لهذا فقد أرسل الرسول كما رأينا – إلى شعب مختلف، لكنه يذكر ابنه الخاص لكي لا يزدري بالتعاليم التي أستلمها منه (2تي3: 14) آمرا إياه “أذكر يسوع المسيح المقام من الأموات من نسل داود بحسب إنجيلي” (2تي2: 8).

وإذ يحدثه عن هذه الأمور التي سلمه إياها، لكي يتذكرها على الدوام، لهذا يكتب له في الحال قائلاً “اهتم بهذا. كن فيه” (1تي4: 15).

فائدة التأمل في الكلمة الإلهية

لأن التأمل الدائم وتذكر الكلمات الإلهية، يقوي التقوى تجاه الله، وينتج حباً لذاك الذي هو غير منفصل (عنا). وإذ هو مفكر في هذا، يتكلم عن نفسه وعن الآخرين المشابهين له في الفكر، قائلاً بشجاعة “من سيفصلنا عن محبة الله (المسيح)” (رو٨ : ٣٥) لأن أمثال هؤلاء الناس إذ ثبتوا في الرب وصار لهم تدبير ثابت تجاهد، وبكونهم واحداً في الروح (لأن من يرتبط بالروح روح واحد)، فإنهم يكونون ثابتين “مثل جبل صهيون” فإنه وإن ثارت آلاف التجارب ضدهم فإنهم يكونون مؤسسين على الصخر الذي هو المسيح.

ثمار الشر

أما المهملون فأنهم لا ينالون في المسيح بهجة، وإذ لا يكون لهم غرضاً دائماً للصلاح لهذا فهم يتدنسون بالهجمات الزمنية، ولا يهتمون بالأمور التي تسمو على الزمنيات إذ هم غير ثابتين، ومستحقين التوبيخ من جهة الإيمان. لأن هم هذا العالم أو غرور الغني يخنقانهم (مت13: 22) أو كما قال يسوع في ذلك المثل الذي أشار به عليهم، إذ هم ليسوا مؤسسين على الإيمان الذي بشر لهم به، بل قبلوه إلى حين وحالاً في وقت الاضطهاد أو الضيق من أجل الكلمة حالاً يعثرون (مت13: 21).

فأولئك الذين يفكرون في الشر، نقول أنهم يفكرون تفكيراً باطلاً وليس تفكيرا صحيحاً، ليس تفكيراً صالحاً بل طالحاً، لأن ألسنتهم تعلم النطق بالكذب.

إنهم صنعوا شراً ولم يكفوا تائبين. وإذ هم محتفظين بالابتهاج بالأعمال الشريرة، يسرعون في هذا بغير توقف، مطئين تحت أقدامهم الوصية الخاصة بالأقوياء وبدلاً من أن يحبوا الأقرباء يدبرون شرورا ضدهم، كما يشهد القديس قائلاً “والملتمسون لي الشر تكلموا بالمفاسد واليوم كله يلهجون يلهجون بالغش” (حز38: 12).

والسبب في مثل هذا التفكير ليس إلا بسبب جهلهم وذلك كما أعلن المثل الإلهي من قبل قائلاً بأن الابن الذي ينسى وصية أبيه يفكر في الشرور. وإذ مثل هذا التفكير شر.. لهذا يوبخ الروح القدس قائلاً.. “لأن أيديكم قد تنجست بالدم وأصابعكم بالإثم. شفاهكم تكلمت بالكذب ولسانكم يلهج بالشر ليس من يدعوا بالعدل وليس من يحاكم بالعدل وليس من يحاكم بالحق” (إش59: 3، 4).

ولكن ما هي نهاية الأحتفاظ بمثل هذه الأفكار، إذا يعلن للحال قائلًا “يتكلمون على الباطل ويتكلمون بالكذب وقد حبلوا بتعب وولدوا أثماً. فقسوا بيض أفعى ونسجوا خيوط العنكبوت. الآكل من بيضهم يموت والتي تكسر تخرج أفعى” (إش59: 4، 5).

مرة أخرى. أي رجاء لمثل هذه الأمور، فقد أعلنه “من أجل ذلك أبتعد الحق عنا ولم يدركنا العدل. ننتظر نوراً فإذا ظلام. ضياءً فنصير في ظلام دامس. نتلمس الحائط كعمي وكالذي بلا أعين نتجسس. وقد عثرنا في الظهر كما في العتمة، في الضباب كموتي. نزأر كلنا كدبة وكحمام (هدراً نهدر) (إش59: 9- 11).

هذه هي ثمار الشر. إذ ينال هذه الجزاءات من يأنس بها، لأن الإلتواء لا ينقذ صاحبه، بال بالحقيقة يأتي ضد من يستخدمه، ممزقاً إياهم أولاً مهلكاً إياهم..

هؤلاء (الأشرار) ألسنتهم حسب شهادة المرتل أنه سيف ماض وأسنانهم أسنة وسهام (إ59: 9- 11). ولكن الأمر العجيب أنه بينما يهاجم الآخرين لا يضرهم، إنما يتمزقون هم بأسنتهم التي لهم. لأنهم يملكون في ذواتهم الغضب والحقد والحسد والخداع والكراهية والمرارة..

وبالرغم من أنهم يعجزون عن أن يضروا الآخرين (بهذه الشرور)، إذ بها ترتد على أنفسهم هم أولاً وضدهم، وذلك كما يصلي المرتل قائلاً “سيفهم يدخل في قلبهم” (مز37: 15). وهناك أيضاً عن مثل هذا “الشرير.. بحبال خطيته يمسك” (أم5: 22).

مثال: اليهود الأشرار: إذ كانت أفكار اليهود هو أن يصنعوا بالرب ظلماً. نسوا أنهم كانوا يجلبون الغضب ضد أنفسهم لهذا انتخبهم الرب (على لسان النبي) قائلاً: “لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب في الباطل” (مز١:٢).

حقاً باطل هو تفكير اليهود، إذ يفكرون في الموت ضد الحياة، ويشيرون بأمور غير معقولة ضد كلمة الآب!  ومن يتطلع الآن إلى تشتيتهم وخراب مدينتهم يقول: “الويل لهم، فقد فكروا شراً ضد أنفسهم”.. حسن هو هذا يا اخوتي، لأنهم إذ أخطأوا في حق الكتاب المقدس لم يعرفوا أن “من يحفر هوة يقع فيها ومن ينقض جداراً تلدغه حية” (جا۱۰: 8)…

الأبرار يفشلون بالوصايا الإلهية

خدام الرب الأبرار المؤمنون الذين هم تلاميذ ملكوت السموات، يخرجون منه جدداً وعتقاء (مت13: 52)، ويتألمون في الكلمات الإلهية أثناء جلوسهم في بيوتهم، وعند النوم، وعند قيامهم، وهم سائرون في الطريق (تث6: 7).

هؤلاء لهم رجاء صالح بسبب وعد الروح الذي قال “طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة المنافقين، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئ لم يجلس. لكن في ناموس الرب إرادته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً” (مز1).

فإذ يكون مؤسساً على الإيمان، وفرحاً بالرجاء يتجاسر فيقول “فمي يتكلم بالحكم (الحكمة) ولهج قلبي فِهْم” (مز49: 3)، وأيضا “لهجت بكل أعمالك بصنائع يديك أتأمل” (مز143: 5)، “إذا ذكرتك على فراشي في السهد (الصباح) ألهج بك” (مز63: 6). ثم يتقدم فيتجاسر قائلاً “فكر قلبي «مرضية» أمامك في كل حين” (مز19: 4). وما هو قصد هذا الإنسان؟ أنه يقول “يا رب أنت معيني ومخلصي” (مز18: 14). مثل هذا الإنسان يدرب نفسه ويشغل قلبه بالرب، فلا يصيبه شيء مضاد، لأنه بالحق يتقوى قلبه بالثقة في الرب، كما هو مكتوب “المتوكلون على الرب مثل جبل صهيون لا يزول إلى الأبد، الساكن بأورشليم” (مز125: 1).. مثل هذا وإن كانت التجارب والأحزان تهاجمه من الخارج لكنه إذ يمتثل للكلمات الرسولية يكون ثابتا في التجارب ومداوماً على الصلاة (رو12:12)، متأملاً في الناموس، لذلك فهو يثبت ضد ما يحل به ويكون مرضياً لله، وينطق بهذه الكلمات المكتوبة “ضيق وشدة أصاباني أما وصاياك فهي لذاتي” (مز119: 143).

الفكر يسبق العمل في الخير

يتحرك مثل هذا في عمل الفضيلة لا بالعمل فحسب ولكن من جهة أفكار ذهنه أيضاً، لهذا يقول.. “سبقت عيناي وقت السحر لألهج في (جميع) أقوالك” (مز119: 48)، لأنه بالنسبة للكاملين يسبق الفكر التنفيذ الجسدي.

ألم يبدأ مخلصنا بأفكار الذهن عندما أن يعلمنا نفس هذا الشيء؟! إذ قال “أن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه” واعتبر غضب الإنسان على أخيه قتل. لأنه عندما يزول الغضب لا يوجد القتل، وإذ تستبعد الشهوة لا يحدث زنا. هكذا أيها الأحباء. إن التأمل في الوصية أمر ضروري، وكذلك الحديث المتواصل بخصوص الفضيلة “لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح” (2تي3: 17).

فبهذه الأمور يكون الوعد بالحياة الأبدية، لما كتب بولس إلى تيموثاوس داعياً إياه إلى التدرب على التفكير المستمر قائلاً “روض نفسك للتقوى. لأن الرياضة الجسدية نافعة لقليل ولكن التقوى نافعة لكل شيء إذ لها موعد الحياة الحاضرة والعتيدة”.

مستحقة كل إعجاب هي فضيلة هذا الرجل يا أخوتي! لأنه خلال تيموثاوس يأمر الجميع ألا يهتموا بشيء أكثر من التقوى، بل وفوق كل شيء أن يهتموا اهتماماً رئيسياً بالإيمان في الله. لأنه أي نعمة تكون لرجل شرير وهو غريب عن حفظ الوصايا؟!. بلي، فإن الشرير لا يستطيع أن يحفظ أي من الوصايا، لأنه حسبما يكون فكره هكذا تكون أفعاله. وذلك كالروح الذي يوبخ أمثال هؤلاء “قال الجاهل في قلبه ليس إله” مرداً بعد ذلك الأعمال التي تطابق هذا الفكر.. “فسدوا رجسوا بأفعالهم” (مز14: 1، 2).

فالرجل الشرير (أي فاسد الفكر) يفسد جسده على أي وضع بالسرقة، إرتكاب الزنا، السب، السكر، وأمثال هذه.

وإذ يستذنب أرميا إسرائيل بسبب ارتكابهم مثل هذه الأمور يصرخ قائلاً “يا ليت لي في البرية مبيت مسافرين فأترك شعبي وأنطلق من عندهم لأنهم جميعا زناة جماعة خائنين. يمدون ألسنتهم كقسيهم للكذب لا للحق قووا في الأرض. لأنهم خرجوا من شر إلى شر وإياي لم يعرفوا يقول الرب” (إر9: 2) فهو ينتهرهم بسبب أعمالهم من شر وكذب وخروجهم من شر إلى شر، ويتهمهم بالشر بسبب عدم معرفتهم بالرب.

الإيمان والأعمال

فالإيمان والأعمال هما أختان مرتبطتان بعضهما البعض.

فمن يؤمن بالرب يكون تقياً، ومن يكون تقياً فهو مؤمن بالأكثر.

لهذا فمن هو شرير يكون بلا شك ضالاً عن الإيمان، ومن يترك التقوى يتخلى عن الإيمان الحقيقي.

وكمثال، بولس إذ يشهد بهذا أيضاً، نجده ينصح تلميذه قائلاً “وأما الأقوال الباطلة الدنسة فأجتنبها لأنهم يتقدمون إلى أكثر فجور. وكلمتهم ترعى كآكلة، الذين منهم هيميناس وفيليتس”. وقد أشار فيما كان شرهما قائلاً “اللذان زاغا من الحق قائلين أن القيامة قد صارت” (2تي2: 16- 18).

ومرة أخرى إذا أراد إبراز ارتباط الإيمان بالصلاح، يقول “وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون” (2تي3: 12).

بعد هذا، لكي لا ينكر أحد صلاحه في أثناء الاضطهاد، ينصحهم أن يحفظوا الإيمان قائلاً “وأما أنت فأثبت على ما تعلمت وأيقنت” (2تي3: 14).

وكما أنه عندما يساعد الأخ أخاه، يصيران حصنين لبعضهما البعض، هكذا أيضا الإيمان والصلاح، إذ ینمیان متشابهان ممسكان بعضهما البعض، فمن يختبر أحدهما بالضرورة يتقوى بالآخر.

لذلك إذ يرغب في أن يتدرب التلميذ على الصلاح حتى النهاية، وأن يجاهد من أجل الإيمان، نصحه قائلاً “جاهد جهاد الإيمان وتمسك بالحياة الأبدية” (1تي6: 12). لأنه متى أقلع شر الأوثان وتمسك بالله الحقيقي.. فأنه بعد ذلك يحارب بالإيمان ضد أولئك الذين يضادون الله (أي الشياطين)!.

رجاء الإيمان والأعمال واحد

رجاء الأمرين اللذين نتكلم عنهما –أي الإيمان والصلاح- هو رجاء واحد أي الحياة الأبدية، إذ يقول (الرسول) “جاهد جهاد الإيمان الحسن وأمسك بالحياة الأبدية”، “روض نفسك للتقوى.. التقوى نافعة لكل شيء إذ لها موعد الحياة الحاضرة والعتيدة” (1تي4: 7، 8).

لذلك فإن Ario-maniacas الذين يخرجون الآن عن الكنيسة بكونهم أضداد للمسيح ينقبون حفرة عدم الإيمان، التي يتعطشون إليها. واذ هم يتقدمون في الشر، فأنهم يفسدون إيمان البسطاء (رو16: 18) مجدفين على ابن الله قائلين أنه مخلوق وأنه وجد من العدم.

لنحذر من هؤلاء كما حذرنا الرسول من هيميناس وفيليتس قائلاً “ولكن أساس الله الراسخ قد ثبت إذ له هذا الختم. يعلم الرب الذين هم له. وليتجنب الإثم كل من يسمى اسم المسيح” (2تي2: 19) لأنه حسناً أن ينفصل الإنسان عن الشر وأعمال الإثم، حتى يقدر أن يقدس العيد. أما من يتدنس بأدناس الأشرار، فإنه لا يستطيع أن يقدم الفصح للرب إلهنا.. إذ يقول الرب “اخرجوا من وسطهم (أي من وسط الخطية والإثم) واعتزلوا.. ولا تمسوا نجساً” (2كو6: 7). لأن الإنسان لا يعتزل الخطية ويتمسك بالأعمال الفاضلة، ما لم يتأمل في أعماله، وإذ يروض نفسه للتقوى يتمسك بالاعتراف بالإيمان، فبعدما جاهد بولس الجهاد، حفظ إكليل البر الذي وضع له والذي سيهبه له الديان العادل، ليس له وحده بل وكل الذين على مثاله.

التعييد هو التمسك بالإيمان مع الأعمال

وإذ هذا التأمل والتدرب في حياة الصلاح، كلاهما من عمل القديسين في كل الأزمنة، لذلك فهما ضروريان لنا في وقتنا الحاضر، عندما ترغب الكلمة الإلهية أن نكون محفوظين مع القديسين بسلوكنا على منوالهم. فما هو العيد إلا التعبد الله، والاعتراف بالتقوى، والصلاة الدائمة من كل القلب..؟!.

هكذا إذ يرغب بولس في أن نكون على هذا الحال على الدوام، يوصينا قائلاً “افرحوا كل حين. صلوا بلا انقطاع. اشكروا في كل شيء” (1تس5: 16- 18). لا على انفراد بل جميعنا نعيد معاً في وحدة.. إذ يوصينا النبي قائلاً “هلم نرنم للرب نهتف لصخرة إلهنا” (مز ١:٩٥).

ومن هو هذا المهمل العاصي للصوت الإلهي، فلا يترك كل شيء ويجري إلى اجتماع العيد العام؟! هذا الذي لا يحفظ في مكان واحد، بل “في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم” (مز ٤:١٩). ولا تقدم الذبيحة في مكان واحد بل في كل الأمم (راجع مل ۱۱:۱)..

هكذا تصعد التسابيح والصلوات بصورة متشابهة، مرتفعة ومن كل مكان إلى الآب الصالح واهب النعم. فالكنيسة الجامعة التي هي في كل مكان تقدم نفس العبادة الله ببهجة وسرور، مرسلة أغنية التسبيح قائلين “آمين”.

حقا كيف يحرم من التطويب، ذاك الذي لا ينشغل بالصلاة يا إخوتي؟..

لنفرح بالعيد وسط مضايقات جماعة أوسابيوس

ما دام الأمر هكذا، فليتنا نقدم أصواتاً مفرحة مع القديسين، ولا يفشل أحد عن تقديم واجبه من جهة هذه الأمور، حاسباً كأنها لا شيء تلك الآلام والتجارب التي تحل بنا خاصة في هذه الأيام عن طريق جماعة أوسابيوس.

أنهم يرغبون في أن يلحقوا بنا الضرر، ويقذفوا بنا إلى الموت بأتهاماتهم، وذلك بسبب صلاح الله معيننا!

لكننا كخدام مؤمنين بالله، نعرف أنه منقذنا في وقت الضيق. فقد وعدنا ربنا مقدماً قائلاً “طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السموات” (مت5: 11، 12).

نعود مرة أخرى فنقول أنها كلمات المخلص تعلن بأن الأحزان لا تحل على جميع الناس في هذا بل (خاصة) على القديسين الذين يخافونه. لهذا فإنه قدر ما يكتنفنا الأعداء نتحرر وبالرغم من تعييرهم لنا لإجتماعنا معاً فأنهم إذ يريدون أن يخرجوننا من حياة التقوى، إلا أننا نجسر فنبشر قائلين “هذا كله جاء علينا ولا نسيناك” (مز44: 17)..

بموته أبطل سلطان الموت

لقد أراد رب الموت أن يبطل الموت، وبكونه هو “الرب” لهذا فأن ما قد أراده حققه لأجلنا نحن جميعاً إذ عبرنا من الموت إلى الحياة.

أما توهمات اليهود ومن على أمثالهم (الأريوسيين) فهي أوهام باطلة، لذلك جاءت النتيجة على خلاف ما توقعوا، بل جاءت النتيجة ضدهم، لأن “الساكن في السموات يضحك، الرب يستهزء بهم” (مز2: 4).

عندما أقتيد الرب إلى الموت صد النسوة اللواتي كن يتبعن إياه باكيات، قائلاً “لا تبكين علي” بمعنى أن حادث موت الرب ليس للحزن بل للفرح، لأن الذي يموت عنا هو حي (قادر أن يقوم)، إذ هو ليس مخلوق من عدم، بل مولود من الآب.

إن موته بحق موضوع فرح، إذ نرى علامات النصرة ضد الموت، ونرى عدم فسادنا خلال جسد الرب. لأنه إذ قام ممجداً، فأنه من الواضح أنه سيقيمنا جميعاً. وإذ بقى جسده بغير فساد، فأننا لا نشك في أننا سننال عدم الفساد!

لأنه كما يقول بولس (رو5: 12) -وقوله حق- أنه إذ بإنسان واحد أخطأ جميع الناس، هكذا بقيامة ربنا يسوع المسيح سنقوم جميعنا. ويقول (الرسول) “لأن هذا الفاسد لا بد أن يلبس عدم فساد. وهذا المائت يلبس عدم موت” (1كو15: 53).

 

شرح لأنجيل القداس – القديس كيرلس الأسكندري[2]

(يو8: 42)فقال لهم يسوع..لو كان الله اباكم لكنتم تحبونني، لاتي خرجت من قبل الله وأتيت“.

إن الرب بهذه الكلمات لا يسلب من أحد السلطان الذي يجعله يحسب بين أبناء الله، بل يوضح بالحري من هو الذي يلائمه الفخر «بأنه ابن الله»، وأن هذا الفخر موجود في القديسين؛ وهو يدين بالحري اليهودي الشاتم بكونه أحمق. (وهو يقول) لأني أنا الابن الواحد والحقيقي بالطبيعة، مولود من الله الآب، بينما أن الجميع هم متبنون وشُكِّلوا على صورتي، لكي ينظروا إلى فوق إلى مجدي، تكون دائماً على حسب أصولها. (ويقول)، كيف تستطيعون إذن أن تحسبوا بين أولاد الله وأنتم الذين ليس فقط لم تهتموا بأن تحبوا ذاك الذي أشرق من الله وهو الذي يغير شكل الذين يؤمنون به إلى صورته الخاصة؛ بل إنكم أيضاً بطريقة واحدة بل بطرق كثيرة؟ وأولئك الذين لا يقبلون رسم (صورة) الله الآب، فكيف يتشكلون بأي حال على شكله؟ (ويقول) وإضافة إلى ذلك، فليس من الواجب أن أشخاصا مهما كانوا بلا لوم، يدعون الله أباً لهم، بل فقط أولئك الذين يبرق فيهم جمال التقوى نحوه  هؤلاء وليس غيرهم  أحسب أنهم يناسبهم «أن يدعو الله أبا لهم».

لقد أتيت من السماء لأرشدكم إلى الأمور الفائقة جداً وأدعوكم بكلمتي أن تتشكلوا الله. ولكن لو كان حقاً هدفكم واشتياقكم هو أن يكون الله لكم أباً، لكنتم بالتأكيد قد أحببتموني أنا مرشدكم ومعلمكم في هذا الطريق، الذي يعطيكم الفرصة لمشابهة الابن الواحد والحقيقي، والذي بواسطة الروح القدس يجعل أولئك الذين يقبلونه مشابهين لنفسه. وكأنه يقول: إن الذي يفتخر أنه من خاصة الله، فكيف لا يحب ذلك الذي من الله. أخبرني كيف يمكن أن يكرم الشجرة ذلك الذي يشمئز بحماقة من الثمرة الناتجة عنها؟ لذلك.. كما هو مكتوب: “اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيداً، أو اجعلوا الشجرة ردية وثمرها ردياً” (مت۳۳:۱۲).

لذلك فإن كانت الشجرة جيدة، أي الله الآب، وتعرفون كيف تجتذبوا بهاءه على رؤوسكم، فلماذا لا تحبون الثمرة التي هي منه، مؤمنين بأنه مثله. وإذن فالعبارة التي أمامنا فيها توبيخ مر لليهود: لأنها تظهر أنهم كاذبون، لأنهم بينما هم يدعون الله أباهم فإنهم بعيدون جداً عن الفضيلة الخاصة بالمدعوين لهذه الدعوة الله -أي أن يدعو الله أباهم- بسب أنهم لا يحبون ذلك الذي هو من الله بالطبيعة. وكذلك أيضاً فإن هذه العبارة تذكر – بطريقة نافعة  بولادته التي لا يعبر عنها، لكي يمسكوا متلبسين بالكفر في هذا الأمر أيضاً، إذ أنهم يدعونه: حقير المولد وابن زنا، لأنه إن كان القول “خرجت من الله” يعنى ولادته  التي لا يعبر عنها والتي بلا بداية  فإنه بإضافة “وأتيت” فهو يبين مجيئه إلى هذا العالم بالجسد. وبالتأكيد فلن يقول أحد الآن إن الله الكلمة أشرق لأول مرة من الله الآب حينما صار إنساناً -فهذا ما يراه بعض الهراطقة غير المقدسين- بل بالحري سيأخذ هذا القول كما يليق ويفكر فيه بتقوى. لأنه ليس بسبب ربطه للعبارتين أي خرجت وأتيت يكون خروج كلمة الآب في نفس الزمن مع الولادة بالجسد. بل يجب أن نحفظ لكل واحد من الأمرين المشار إليهما، المعنى المناسب له. لأننا نؤمن أن الميلاد الأول للكلمة المدرك أنه من الله، هو بلا بداية وفوق العقل؛ لذلك فقد وضع أولاً الكلمات “خرجت من قبل الله”، وبعد ذلك الثانية أي ما هو حسب الجسد “لأني لم آت من نفسي، بل ذاك أرسلني” (يو٤٣:٨). أنا بتجسدي صرت مثلكم أي صرت إنساناً، وبمسرة الله الآب الصالحة، أتيت أنا في هذا العالم لأعلن لكم أمور الله، ولكي أخبر أولئك الذين يجهلون، ما هي الأمور التي ترضيه. (ويقول) ولكنكم لم تحبوا ذاك الذي أظهر لكم من المشورة الإلهية أنه المخلص والمرشد. فإن كنتم لا تكرمون ذاك الذي هو منه فكيف تدعون بعد أولاد الله، وكيف تقتنون نعمة كونكم من أهل بيته. وربما يشير الرب أيضا بهذا إلى شيء ما، ويهدف بمثل هذه الكلمات أن يسكت شعب اليهود الذين يصرخون باطلاً ضده. وسوف نقول باختصار ما هو الذي يقصده.

كثيرون من بين اليهود لم يكونوا يوقرون بالمرة المخافة الإلهية بل يعجبون فقط بكرامات الناس ويقبلونها، ولأنهم إنغلبوا بالربح القبيح فإنهم تجاسروا أن يتنبأوا متكلمين “من قلبهم الخاص وليس من فم الرب” (إر١٦:٢٣). وبحق وبخهم سيد الكل قائلاً: “لم أرسل الأنبياء بل هم جروا. لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا” (ار۲۱:۲۳)، بل هدد أن يفعل بهم أموراً مرعبة صارخاً: “ويل للأنبياء الحمقى الذاهبين وراء روحهم ولم يروا شيئا” (حز٣:١٣). وحنانيا هو واحد من هؤلاء وهو الذي عارض كلمات إرميا بكذبه، وإذ أخذ نير الخشب وكسره قال: “هكذا تكلم رب الجنود إله إسرائيل قائلاً: قد كسرت نير ملك بابل” (إر٢:٢٨). ولذلك فحينما يقول مخلصنا المسيح: “ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله” (يو٤٠:٨) فإن اليهود بدأوا يتذمرون، وإذ لم يكونوا يعرفون من يكون هو بالحق، ويظنون أنه أحد الأنبياء الكذبة، فلذلك تقسوا بل إنهم تجاسروا أن يشتموه، وبغضب شديد يريدون أن يقتلوه، وكأنهم مصممون أن يفعلوا هذا، فإنه بطريقة نافعة أيضا يخيفهم قائلاً أنه لم يأت من نفسه . كما كانت عادة أولئك الذين يتنبأون كذباً. بل إنه أرسل من الله، لكي بهذا، أي برفضه قولهم عنه أنه نبي كذاب، وتعليمه أن الذين يهينون الذي قد من أرسل من الله الآب ويتجاسرون أيضاً أن يدبروا لقتله، يستحقون إدانة غير قليلة فإنه بهذين الأمرين معاً يوقف جسارتهم المتهورة.

هذا إذن بخصوص الكلام الذي أمامنا. ولكن يحتمل أن الهرطوقي يجعل ما قد قيل مادة لكفره المتأصل فيه. فقد يهاجم جوهر الابن الوحيد ويعتبره أقل من جوهر الآب بسبب قوله إنه قد أرسل منه. ولكن دع مثل هذا يفكر في طريقة التدبير التي يجري الحديث عنها الآن، ويتذكر بولس وهو يصرخ عالياً عن الابن:  الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً الله، لكنه أخلى نفسه، أخذا صورة عبد، صائرا في شبه الناس، وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت” (في٢: ٦-٨) ولكن إن كان قد وضع نفسه بإرادته وكان الآب موافقاً ومشاركاً معه في الإرادة، فكيف يعقل أن تنسب له أية تهمة ، وهو يمضي في طريق التدبير حتى نهايته؟. ولكن إن كان بسبب قوله إنه قد أرسل، تحسبون أن الابن في وضع أقل من الآب، فاخبروني  في جهلكم  كيف أن ذلك الذي هو في وضع أقل، يعمل بالضبط كل ما يخص الله؟. لأنه أين يظهر ما هو أقل في (أعمال) ذاك الذي يملك بشكل كامل كل ما هو خاص بالذي ولده، ويملك سلطان الله الأكمل؟ لذلك فلن نفكر من جهته أنه أقل بسبب كونه مرسل، بل هو إله من إله بالطبيعة وبالحق. وحيث إنه هو حكمة الآب وقوته . فإنه يرسل كما يرسل النور من الشمس، ذلك النور الذي ينتشر منها. وذلك لكي يجعل الذي تنقصه الحكمة حكيماً والذي كان ضعيفاً يرفع بواسطته ويتقوى في معرفة الله الآب ويستعاد إلى كل فضيلة. لأن كل ما هو حسن جداً، قد أضاء على الجنس البشري من خلال المسيح وحده. لذلك فلا يوجد في المسيح أي نوع من مذلة العبودية، بل هي خاصة فقط بهيئة الجسد: إن سلطانه إلهي وقوته على الكل، رغم أن اللغة التي تصاغ بحسب قياس التواضع تأخذ شكلا بشرياً.

 

السيد المسيح واليهود – القديس أغسطينوس[3]

“أنا عالم أنكم ذرية ابراهيم. ولكنكم تطلبون أن تقتلوني لأن كلامي لا موضع له فيكم”.

“أنا أتكلم بما رأيت عند أبي. وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم”.

“أجابوه وقالوا له أبونا هو ابراهيم. قال لهم يسوع: لو كنتم أولاد ابراهيم لكنتم تعملون أعمال ابراهيم”.

“ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله. هذا لم يعمله ابراهيم”.

“أنتم تعملون أعمال أبيكم. فقالوا له إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد وهو الله”.

“فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم، لكنتم تحبونني لأنني خرجت من قبل الله، وأتيت. لأني لم آت من نفسي، بل ذاك أرسلني”.

“لماذا لا تفهمون كلامي. لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي”.

“أنتم من أب واحد هو إبليس…” (يو ٨: ٣٧- ٤٤)

١- إن ربنا، وهو في هيئة عبد، مع أنه ليس بعبد، ولكن في هيئة عبد، [لأن هيئة الجسد هنا كانت حقاً كهيئة العبد، ولكن مع أنه كان في “شبه جسد الخطية” (رو٨ : ٣). إلا أنه لم يكن جسد خطية] إن الرب قد وعد بالحرية لأولئك الذين يؤمنون به. أما اليهود، وهم يتشامخون متباهين بحريتهم، فلقد رفضوا بإباء أن يتحرروا، بينما هم عبيد للخطية. ولذا فقد قالوا إنهم أحرار، لأنهم ذرية ابراهيم، والجواب الذي أجابهم به الرب هو “أنا عالم إنكم ذرية ابراهيم، ولكنكم تطلبون أن تقتلوني، لأن كلامي لا موضع له فيكم”، إنه يقول: أنا أعرفكم، “إنكم ذرية ابراهيم. لكنكم تطلبون أن تقتلوني”.. أنا أعرف الأصل الجسدي، ولكن ليس القلب المؤمن.. “إنكم ذرية ابراهيم”، ولكن حسب الجسد . ولذلك فإن الرب يقول: “إنكم تطلبون أن تقتلوني، لأن كلامي لا موضع له فيكم”. ولو كان لكلامي موضع، لأمسك بكم. ولو إنكم أمسكتم، لأخذتم كالسمك في شباك الإيمان. إذن فما هو معنى “لا موضع له فيكم”؟ إنه لا موضع له في قلوبكم، لأن قلوبكم لم تقبله. لأنه هكذا شأن كلمة الله، وهكذا ينبغي أن يكون حالها مع المؤمنين، مثل شص (سنارة) للسمك: تأخذ حينها تؤخذ. ولا ضرر يعود على الذين يؤخذون، لأنهم يؤخذون للخلاص، وليس للهلاك. ولذا فإن الرب يقول لتلاميذه: «هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس” (مت4: 19). أما أولئك فلم يكونوا هكذا، ومع ذلك فقد كانوا أبناء ابراهيم، أبناء لرجل من رجال الله، لأنهم ورثوا صفة الجنس الجسدي، ولكنهم صاروا في حالة إنحلال وتدهور، لأنهم لم يحذوا حذو إيمان ذاك الذي هم أولاده.

٢- إسمعوا ما قاله الرب بعد ذلك: “أنا أتكلم بما رأيت عند أبي، وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم”. ما هو هذا الذي تعملونه؟ “إنكم تطلبون أن تقتلوني”. وهذا لم يروه قط عند ابراهيم. أما الرب فإنه كان يريد أن يفهموا الله الآب، حينها قال “أنا أتكلم بما رأيت عند أبي”. إنى قد رأيت الحق. وأتكلم الحق، لأنه أنا هو الحق. لأنه إذا كان الرب يتكلم الحق الذي رآه عند الآب ، فإنه قد رأى نفسه، وهو يفصح عن نفسه، لأنه هو نفسه حق الآب ، الذي رآه عند الآب . لأنه هو الكلمة  الكلمة الذي كان عند الله . إذن فالشر الذي يعمله هؤلاء الناس ، وهو الشيء الذي يذمه الرب ويوبخه، فأين رأوه؟ عند أبيهم. اننا عندما نستمع إلى ما يلى ذلك من وقائع أكثر وضوحاً، عمن يكون أبوهم، فعندئذ سنفهم أي نوع من الأشياء قد رأوه عند مثل هذا الأب. لأن يسوع لم يعطه اسماً بعد. فمنذ برهة وجيزة قد أشار الرب إلى ابراهيم، وإنما كان ذلك  بالنسبة إلى أصلهم الجسدي، وليس بالنسبة إلى مشابهتهم له في حياته. إنه على وشك أن يتكلم عن ذاك الأب الآخر الذي لهم، الذي لم يلدهم قط، ولا خلقهم، لكى يكونوا بشراً، ومع ذلك فلقد كانوا أبناءه، بمقدار ما كانوا أشراراً، وليس بمقدار ما كانوا بشراً، فيما حذوا حذوه، وليس لأنهم مخلوقون بواسطته.

3- “أجابوا وقالوا له أبونا هو ابراهيم”، كأنهم يقولون: ماذا تريد أن تقول عن ابراهيم؟ أو: إن كنت تستطيع، فهل تتجاسر أن تجد خطأ في ابراهيم؟ ليس أن الرب لم يجرؤ أن يجد خطأ في ابراهيم، وإنما لم يكن ابراهيم شخصا يجد الرب فيه عيباً، بل بالأحرى انه كان مقبولاً. ولكن هؤلاء الناس كان يبدو أنهم يتحدونه، حتى يقول شراً عن ابراهيم، وبهذا يجدون فرصة ليعملوا ما كانوا يقصدون إلى عمله.

٤ – فلنستمع كيف أجابهم الرب، مشيداً بابراهيم، لدينونتهم “قال لهم يسوع لو كنتم أولاد ابراهيم، لكنتم تعملون أعمال ابراهيم، ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني” وأنا انسان قد كامكم بالحق الذي سمعه من الله، هذا لم يعمله ابراهيم، انظروا ، ان ابراهيم قد امتدح ، أما هم فقد أدينوا . إن ابراهيم لم يكن قاتلا للناس، يعنى، أنا لا أقول أنى رب ابراهيم، على أننى لو قلتها، لكنت أقول الحق،، لأنه قال في موضع آخ : “قبل أن يكون ابراهيم، أنا كائن” (آية ٥٨) وحينئذ طلبوا أن يرجموه، انه لم يقل هكذا ولكن: حالياً، كما ترونني أنتم، وكما تنظرون إلى، وكما تفتكرون في أنا فقط، فأنا انسان ، فلماذا إذن تريدون أن تقتلوا انساناً بسبب ما سمعه من الله، سوى لأنكم لستم أولاد ابراهيم؟ ومع ذلك فلقد قال آنفاً: “أنا عالم أنكم أولاد ابراهيم”، إنه لا ينكر أصلهم، ولكنه يدين أعمالهم، إن جسدهم كان منه، أما حياتهم فلم تكن كذلك.

٥ أما نحن، أيها الأحباء، فهل نأتى من جنس ابراهيم، أم أن ابراهيم من أية ناحية  كان أبانا حسب الجسد؟ إن جسد اليهود ينحدر أصلاً من جسده، أما جسد المسيحيين فليس كذلك. اننا قد أتينا من أمم أخرى، ومع ذلك، فبالاقتداء به، صرنا أولاد ابراهيم. انصتوا إلى الرسول: “وأما المواعيد فقيلت في ابراهيم وفى نسله” ثم يضيف قائلاً “لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحد؟ وفي نسلك الذي هو المسيح، فإن كنتم للمسيح، فأنتم إذاً نسل ابراهيم، وحسب الموعد ورثة” (غل٣: ٦، ٢٩).

فنحن إذن، قد صرنا نسل ابراهيم بنعمة الله. انه ليس من جسد ابراهيم إن الله جعلنا ورثة معه (مع ابراهيم). إنه أخلى الواحد عن الميراث، واتخذ الآخر “وريثاً”، ومن تلك الزيتونة التي كانت جذورها في الآباء البطاركة، اقتطع الأغصان المستكبرة والطبيعية، وطعَّم الزيتونة الحقيرة والبرية (رو11: 17). وهكذا، فعندما أتى اليهود إلى يوحنا ليعتمدوا انفجر فيهم، وخاطبهم قائلاً: “يا أولاد الأفاعي”. حقاً كم كانوا يتباهون بكرم أصلهم، ولكنه دعاهم أولاد الأفاعي – ليس أولاداً للبشر، بل أولاداً للأفاعي. لقد رأى هيئة البشر، ولكنه تبين السم، ومع ذلك فقد أتوا ليتغيروا (ليتطهروا)، لأنهم  على أية حال  سوف يعتمدون، إنه قال لهم “يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا ابراهيم أباً لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لابراهيم”. إن كنتم لا تأتون بثمر يليق بالتوبة، فلا تخدعوا أنفسكم بهذا النسب. إن الله قادر أن يدينكم، دون أن ينخدع ابراهيم في أولاده. لأن عنده الطريقة التي بها يقيم أولاداً لابراهيم. فأولئك الذين يقتدون بإيمانه، سيكونون أولاده “إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لابراهيم”. وهذا هو حالنا، لقد كنا حجارة في آبائنا، حينما كنا نسجد للحجارة كآلهة لنا، ومن مثل هذه الحجارة، قد خلق الله عائلة لابراهيم.

٦ فلماذا إذن، يرتفع هذا الزهو الأجوف الفارغ؟ ألا ليتهم يكفون عن المباهاة بأنهم أولاد ابراهيم. قد سمعوا ما كان ينبغي لهم أن يسمعوه: “إن كنتم أولاد ابراهيم” فاثبتوا ذلك بأفعالكم، لا بأقوالكم “أنتم تطلبون أن تقتلوني، وأنا انسان”، لا أقول حالياً: ابن الله، ولا أقول الله، ولا أقول الكلمة، لأن الكلمة لا يموت، وإنما أقول: هذا الذي ترونه انتم. لأن هذا الذي ترونه تقدرون أن تقتلوه، وأما الذي لا ترونه، فلا تقدرون أن تلعنوه إذن “فهذا لم يعمله ابراهيم. أنتم تعملون أعمال أبيكم”. وإلى هذا الحد فإنه لا يخبرهم عمن يكون أبوهم هذا.

٧ – والآن فبماذا أجابوه؟ لأنهم بدأوا يدركون أن الرب لم يكن يتكلم عن النسب الجسدي، بل عن طريقة حياتهم. ونظراً لأن هذه هي عادة الأسفار، التي يقرأونها ، أن تسمى هذا بمعنى روحي، زنا، حينما تزنى النفس باستسلامها لآلهة عديدة كاذبة، فإنهم قد أجابوه: “فقالوا له إننا لم نولد من زنا ، لنا أب واحد وهو الله” إن ابراهيم الآن قد فقد أهميته لأنهم قد ارتدوا على أعقابهم، كما كان يحق لهم أن يرتدوا، بهذا الفم الناطق بالحق، لأنه هذا هو ابراهيم، وهو الذي قد فشلوا أن يتقدوا بأعماله، غير أنهم تباهوا بالانتساب إليه. ولذلك غيروا اجابتهم قائلين فيما بينهم، كما أعتقد: طالما اننا ندعى أولاد ابراهيم، ، فإنه سوف يستمر في القول لنا، فلماذا لا تقتدون بذاك الذي تعتزون بالانتساب إليه؟ إن مثل هذا الرجل القديس البار، الذي لا غش فيه، لا نستطيع أن نحذو حذوه. فلنقل إن الله هو أبونا، ولننظر ماذا يقول لنا.

۸ – أترى هل وجد الباطل ما يقوله، ولا يجد الحق الجواب اللائق. فلنستمع إلى ما يقولونه ، ولنستمع إلى ما يسمعونه، إنهم يقولون: لنا أب واحد وهو الله، فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأني خرجت من قبل الله وأتيت، لأني لم آت من نفسي، بل ذاك أرسلنى، إنكم تدعون الله أباكم، فاعرفوني إذن، على الأقل كاخ. ثم إنه في نفس الوقت قد استنهض قلوب الفاهمين، بتلك اللمسة التي اعتاد أن يقولها: “لم آت من نفسي، بل ذاك أرسلني”، أذكروا ما نحن معتادون أن نقوله: إنه آت من عنده، والذي من عنده، قد أتى معه أيضاً، والذي أتى منه، أتى معه. ولهذا كان ارسال المسيح، هو تجسده. أما عن مجيء الكلمة من الله، فإن هذا الإقبال أبدي. فإن الزمن، لا يمسك ذاك الذي به قد خلق الزمن. ولا يقل أحد في قلبه ، قبل أن كان الكلمة، كيف وجد إله؟ لا تقل أبدأ، قبل ان كان كلمة الله، لأن الله لم يكن قط بدون الكلمة. لأن الكلمة دائم الوجود، وليس متغير الإقامة. انه الله، وليس صوتا  ذاك الذي به قد خلقت السماء والأرض. والذي لم يمض ويتلاشى، مع تلك الأشياء التي خلقت على الأرض فمنه إذن، قد أتى (يسوع) كإله، المساوي، الابن الوحيد، كلمة الآب. وأتى إلينا، لأن الكلمة قد صار جسداً، لكي يحل بيننا. ومجيئه يدل على بشريته  كما أن حلوله، يدل على الوهيته. اننا تتقدم نحو ألوهيته، بواسطة بشريته ولو أنه لم يصر ذاك الذي به يمكننا أن نتقدم، لما كان في مقدورنا أبدأ أن نستحوذ على ذاك الموجود دائماً.

 

معني أولاد إبراهيم – للقديس كيرلس الأورشليمي[4]

“أنتم تعملون أعمال أبيكم. فقالوا له إننا لم نولد من زنا، لنا أب وأحد وهو الله.” (يو8: ٤١)

كشف السيد المسيح لهم عن حقيقة مخفية عنهم، وهي أنهم بأعمالهم هذه يحملون البنوة لإبليس القتال منذ البدء الذي لم يثبت في الحق (يو8: ٤٤).

ربما قصد اليهود بذلك أنهم ليسوا من نسل إسماعيل ابن الجارية، إنما من نسل اسحق ابن سارة الحرة. كما أنهم ليسوا من نسل موآب أو أدوم الذين ولدوا خلال علاقة أثيمة بين لوط وبنتيه. لا يقف الأمر عند العود والحجارة بل اختار الإنسان حتى الشيطان مهلك النفوس ليكون أباً له.

لهذا إنتهرهم الرب قائلاً: أنتم تعملون أعمال أبيكم أي الشيطان، أب البشر بالخداع لا بالطبيعة. فكما صار بولس بتعليمه الصالح أباً للكورنثيون، هكذا دعي الشيطان أبًا للذين وافقوه بإرادتهم (مز۱۸:٥٠).

 

عظات آباء وخدّام معاصرين للأثنين الرابع من الخمسين يوم المقدسة

أولاد إبراهيم – للمتنيح الأنبا إبيفانيوس أسقف دير القديس الأنبا مقار[5]

يتكرر إسم إبراهيم أبي الآباء فى العهد الجديد مراراً كثيرة، وفى انجيل القديس يوحنا بمفرده يتكرر إحدى عشر مرة، تقع جميعها فى الأصحاح الثامن منه (٣١- ٥٨). وإذا عرفنا وجهة نظر اليهود أيام المسيح حول علاقتهم بإبراهيم أمكننا فهم الحوار الذى دار بين المسيح واليهود والذى ورد ذكره فى انجيل يوحنا (٨: ٣١- ٥٨).

لقد بارك الله إبراهيم وأعطاه الوعد قائلاً: “َأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً. وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ” (تك١٢: ٢، ٣). وأضاف الله على هذا الوعد بعد ذلك قائلاً: “لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ” (تك١٢: ٧). ثم تأكد هذا الوعد عندما وعده الله بميلاد اسحق: “انْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ وَعُدَّ النُّجُومَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعُدَّهَا. وَقَالَ لَهُ: هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ” (تك١٥: ١- ٦). ثم تأكد الوعد مرة أخرى عندما غيَّر الله إسم إبراهيم من إبرآم الى إبراهيم، وكان الختان هو علامة هذا الوعد (تك١٧: ١- ١٤).

على هذا الأساس الكتابي صارت شخصية إبراهيم ممجدة جداً فى التقليد اليهودي المتأخر بسبب مآثره وشخصيته المثالية.

وقد كال له اليهود المديح لأنه تمم أقصى متطلبات الحياة الفاضلة كما كان ينادي بها فلاسفة اليونان. فيصفه المؤرخ اليهودي يوسيفوس أنه: [إنسان فائق الكمال من جهة جميع الفضائل]. أما كتاب المشنا، وهو مجموعة تعاليم الربيين اليهود والتى أشار اليها الانجيل تحت اسم: “تقليد الشيوخ” (مر٧: ٣)، فإنها في تعليقها على آية سفر التكوين: “مِنْ أَجْلِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ لِقَوْلِي وَحَفِظَ مَا يُحْفَظُ لِي: أَوَامِرِي وَفَرَائِضِي وَشَرَائِعِي” (تك٢٦: ٥)، تقول: [إن أبانا إبراهيم قد حفظ جميع أحكام الشريعة قبل أن تعطى الشريعة]. كما تعتبره أول من أدان عبادة الأوثان بسبب ايمانه بالله. اذ يقرر يوسيفوس أن السبب الوحيد لترك إبراهيم منطقة ما بين النهرين هو العداوة التي لاقاها من جراء رفضه لعبادة الأوثان.

وبسبب هذه الكرامة التى أُسبِغَت على شخصية إبراهيم، نسجت أيدي الخيال حوله القصص، وقد تسجلت هذه القصص فى بعض كتابات اليهود المتأخرة مثل: “رؤيا إبراهيم”، وكتاب: “عهد إبراهيم”؛ وهى تحوي حياة إبراهيم كما ورد فى سفر التكوين بالإضافة إلى أساطير الربيِّين التى تخيَّلت إبراهيم فى تعامله مع الملائكة، والرؤى التى شاهد فيها الله، ورحلاته فى عالم السماويات.

أما قمة المديح لإبراهيم فنجده فى التقليد اليهودي الذى يقرر أن ايمان وطاعة إبراهيم كانا من العظمة بمكان حتى انهما  بالإضافة الى بر اسحق ويعقوب  يعتبران كنزاً عظيماً لما يُسمَّى ب “استحقاقات الآباء”.

هذا الكنز من بر وتقوى الآباء كان أكثر من احتياجهم لكى ينالوا الخلاص. لذلك فقد كانوا يعتقدون بأن الله يسمح بإنتقال هذا البر للشخص اليهودي عندما يحتاج اليه لكي يكفر عن خطاياه. وبالرغم من أن بعض الربيِّين اليهود قد عارضوا هذا الرأي، إلا أن وجوده يوضح الكرامة  التى نالتها شخصية إبراهيم.

لقد جاء شعب إسرائيل من نسل إبراهيم، وبالتالى فهو الشعب المختار الذى تحققت فيه الوعود والبركة التى منحها الله لإبراهيم، وإن كانت كل هذه الوعود والبركات لم تتحقق إلَّا فى المسيَّا الآتي من نسل إبراهيم. لذلك كان اليهود يلقبون إبراهيم دائماً فى كتاباتهم بلقب “أبينا إبراهيم”. ويقابلنا نفس هذا اللقب أيضاً فى كتابات العهد الجديد:

  • “الْقَسَمَ الَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ أَبِينَا: أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ” (لو١: ٧٣، ٧٤).
  • “ظَهَرَ إِلهُ الْمَجْدِ لأَبِينَا إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ فِي مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ، قَبْلَمَا سَكَنَ فِي حَارَانَ” (أع٧: ٢).
  • ” فَمَاذَا نَقُولُ إِنَّ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ قَدْ وَجَدَ حَسَبَ الْجَسَدِ؟… وَأَبًا لِلْخِتَانِ لِلَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْخِتَانِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا يَسْلُكُونَ فِي خُطُوَاتِ إِيمَانِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ” (رو٤: ١، ١٢).
  • “أَلَمْ يَتَبَرَّرْ إِبْرَاهِيمُ أَبُونَا بِالأَعْمَالِ، إِذْ قَدَّمَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ؟” (يع٢: ٢١).

حتى الرب يسوع نفسه استخدم هذا اللقب فى مثل الغني ولعازر، فيقول على لسان الغني بعد أن إنتقل إلى الهاوية: “فَنَادَى وَقَالَ: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، ارْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي…” (لو١٦: ١٩- ٣١). لذلك كان يطلق على اليهود عادة لقب “أولاد إبراهيم” (يو٨: ٣٩)، و”ذرية إبراهيم” (يو٨: ٣٣)، و”إبن إبراهيم” (لو١٩: ٩)، و”إبنة إبراهيم” (لو١٣: ٦).

هذه الإشارات المتكررة فى كتابات القرن الأول لإعتبار إبراهيم أباً لليهود، وأن اليهود هم ذرية إبراهيم، تحتاج إلى فحص دقيق، فربما تحمل معنى مغايراً تماماً للمعنى المقصود. فهل تكرار هذا اللقب يشير الى أية امتيازات أو استحقاقات لليهود، أم أنه يؤكِّد على واجبات والتزامات مفروضة على من يحمل هذا اللقب؟.

كلا هذين الإتجاهين  أى الإمتياز والإلتزام  واضحان في رواية سفر التكوين. فالوعود الممنوحة لإبراهيم في سفر التكوين مرتبطة بإيمان إبراهيم وطاعته:

فالوعد بالبركة فى الإصحاح الثاني عشر مرتبط بأمر الله لإبراهيم: “اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ” (تك١٢: ١).

كما أن التأكيد على البركة وإضافة الوعد بميراث الأرض (تك١٢: ٢، ٣). يحمل فى طياته بصورة متلازمة الوجهين: العطية والإلتزام.

فالوعد بإنجاب الوريث يتطلب الإيمان (١٥: ١- ٦)، والوعد بميراث الأرض يتطلب تقديم ذبيحة (١٥: ٧- ٢١).

وتأكيد الوعد بعلامة الختان (١٧: ٢- ١٤) سبقها الوصية: “أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً” (١٧: ١).

وحتى بعد أن منحه الله اسحق الذى وعده بأن يكون هو الوارث للمواعيد والبركة، فلكي يتثبت له وعد الله وبركته، تطلَّب هذا امتحاناً لإيمانه عندما طلب منه الله أن يقدم اسحق ذبيحة. وكان هذا هو الإمتحان: هل يؤمن أن الله قادر أن يقيم له اسحق من الموت، هذا الذى تقبَّل فيه المواعيد، وحيده؟ (تك ٢٢: ١- ١٨)

واذا فحصنا مفهوم البنوة لإبراهيم فى الفترة التي واكبت مجيء المسيح بالجسد، نجد كلا المفهومين  أي الإمتياز والإلتزام  موجودين، ولكن التركيز بالأكثر كان على مفهوم الإمتياز دون الالتفات كثيراً إلى متطلبات البنوة. فمن أقوال الربيين اليهود المعاصرين لتلك الفترة، نلاحظ الإشارة إلى إمتيازات البنوة لإبراهيم وكأنها حق واجب غير مشروط بأية شروط. فيذكر الرائي مير Meir أن: [الاسرائيلين هم دائماً أولاد إبراهيم، سواء ضايقوه بأعمالهم أم لا، سواء فسدوا فى حياتهم أم لا، وسواء عصوا الله أم لم يعصوه]

هذا المفهوم كان شائعاً فى زمن المسيح، وكان اليهود يرون أنهم ما داموا أولاد إبراهيم فلهم حق ميراث الوعود وميراث الأرض والمستقبل المجيد. وقد ذكر القديس يوستينوس الشهيد فى حواره مع تريفو أن اليهود  كأولاد إبراهيم  كانوا يتوقعون نوال ملكوت الله بغض النظر عن سلوكهم فى الحياة. وقد واجه القديس يوحنا المعمدان هذا المفهوم الخاطيء عندما بدأ البعض يقبلون رسالة التوبة القوية التي نادى بها:

  • “وَكَانَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ الَّذِينَ خَرَجُوا لِيَعْتَمِدُوا مِنْهُ: يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ ولاَ تَبْتَدِئُوا تَقُولُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَبًا لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْرَاهِيمَ وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ” (لو٣: ٧- ٩؛ ومت ٣: ٩، ١٠).

فهنا كان يوحنا يذكِّر سامعيه أن البنوة لإبراهيم لا تلغي أمر الله لكل انسان: “سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً”.

بيد أن هناك بعض الربيين المعتدلين الذين فهما البنوة لإبراهيم بمفهوم الإلتزام والمسئولية تجاه متطلباتها. وقد نادى أولئك بضرورة التشبه بأخلقيات وفضائل ابراهيم، ففى كتاب المشنا نجد هذا المفهوم: [إن من يمتلك هذه الخصال الثلاث وهى العين البسيطة (القنوعة) والروح الوديعة والنفس المتضعة، فهذا هو تلميذ لأبينا ابراهيم، ومن فيه هذه الصفات الثلاث وهى العين الشريرة (الطمَّاعة) والروح المنتفخة والنفس المتعالية فهو من تلاميذ بلعام الشرير… فتلاميذ أبينا إبراهيم يتمتعون بالعالم الحاضر ويرثون الحياة الآتية… أما تلاميذ بلعام فيرثون جهنم وينحدرون الى هاوية الهلاك].

هذه الفقرة المقتبسة من تعليم الربيين توضح أنه كان هناك من قادة اسرائيل الروحيين من نادى بأن مصير الانسان إنما يحدده سلوكه الروحي وليس مجرد انتسابه الى ذرية إبراهيم. وهذا المفهوم ما أكد عليه الرب يسوع عند مقابلته لزكا رئيس العشارين. فبعد أن أعلن زكا توبته والتزامه بالعطف على المساكين وإنصاف المظلومين، والكفّ عن أعمال الظلمة التي كان يمارسها، أجابه الرب يسوع قائلاً: “الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضًا ابْنُ إِبْرَاهِيمَ” (لو١٩: ٩). وقد أكد بولس الرسول على هذا المفهوم فى رسائله، إذ نادى فى تعاليمه أن “فى المسيح” ليس هناك أهمية روحية لأصل الانسان سواء كان يهودياً أو أممياً (غل ٣: ٢٨)، وأن الانسان لا يحسب يهودياً إن كان يهودياً من الخارج فقط، أي بسبب انتمائه فقط الى ذرية إبراهيم، والختان لا يحسب ختاناً إن كان مصنوعاً فى الجسد فقط. أما اليهودي الحقيقي فهو اليهودي من الداخل، أي الذي يسير على خطوات إيمان إبراهيم (رو٢: ٢٨، ٢٩).

يمكننا الآن أن نتتبع الحوار الذى دار بين الرب يسوع واليهود فى انجيل يوحنا الأصحاح الثامن، لنرى انعكاس وجهات النظر المختلفة حول مفهوم البنوة لإبراهيم. فعندما أخبرهم يسوع بحاجتهم الى الحرية: “وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ” (٨: ٣٢)، أجابوه من وجهة نظر الربيين التى تنادي بامتيازات البنوة لإبراهيم: “إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأَحَدٍ قَطُّ” (٨: ٣٣)، وهو الرأي الذي يرى أن جميع اليهود هم أحرار  بالرغم من أنهم فى ذلك الوقت كانوا تحت عبودية الدولة الرومانية  [حتى الأفقر فى اسرائيل فجميعهم أحرار، وإن فقدوا جميع ممتلكاتهم، وذلك لأنهم أولاد ابراهيم واسحق ويعقوب].

لقد استثار المسيح فى هؤلاء اليهود  الذين أظهروا فى البداية قبولاً لكلام المسيح  أفكارهم الدفينة المترسبة عبر الأجيال والدهور، القائمة على الغلو فى الوطنية السياسية المصبوغة من الخارج بالعبادة، والموضوع عليها شعار يهوه، لتصبح السياسة المقدسة التى لا يستطيع أن يمسها أحد. فكيف لهذا المعلم أن ينفي عنهم الحرية وهم قد أخذوا السيادة على العالم بكل شعوبه وأممه، بوعد وتعهُّد من الله لأبيهم إبراهيم! وإن كانت بلادهم اجتاحتها جيوش أعداء على مر السنين، مصريين وبابليين وأشوريين ورومان، فكما جاءوا هكذا رحلوا دون أن يمسوا ميراثهم أو تراثهم أو عوائدهم أو عبادتهم . لقد خرج اليهود من نير الأسر وهم أحرار كما كانوا، بوعد أبيهم إبراهيم. فكيف يعدهم هذا بالحرية وهم فى حريتهم قائمون؟

لقد أقر الرب يسوع ببنوتهم الجسدية لإبراهيم: “أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ” (٨: ٣٧)، لكنه أضاف أن لهم أباً آخر: “أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي، وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ” (٨: ٣٨). لقد كان بهذا الكلام يستفزهم لكي يؤكدوا على ادعائهم بالبنوة الجسدية لإبراهيم: “أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ: أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ” (٨: ٣٩). وهنا فنَّد الرب مزاعمهم مستنداً الى تعاليم اليهود التى تنص على أن أولاد إبراهيم الحقيقيين هم أبرار. فبالمقارنة بين ما فعله إبراهيم وبين ما يفعلونه هم يظهر أنهم ليسوا أولاد إبراهيم: “قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ، لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ؛ وَلكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي، وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللهِ هذَا لَمْ يَعْمَلْهُ إِبْرَاهِيمُ” (٨: ٣٩، ٤٠). أي أن إبراهيم لم يكن قتالاً للناس، وأنتم تريدون أن تقتلوني، وإبراهيم لم يكن معانداً للحق، وأنتم تقاومونني لأنني كلمتكم بالحق، وإبراهيم كان مطيعاً لكلام الله، وأنتم تعصون الكلام الذى أخبرتكم أنني سمعته من الله.

وبالإجمال، فإن إبراهيم قَبِل الرسل الذين أرسلهم اليه الله واستضافهم وأطاع كلمتهم، أما أنتم فإنكم ترفصون: “الَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْعَالَمِ” (يو١٠: ٣٦). فالأعمال التى تعملونها أنتم لم يعملها إبراهيم. إذاً، بنوتكم لإبراهيم لا تفيدكم شيئاً.

وهنا أحس اليهود أنهم قد بلعوا الطعم الذى ألقاه لهم وأنه تفوق عليهم فى هذه الجولة. لذلك تركوا تمسكهم ببنوتهم لابراهيم ونادوا بأنهم ليس لهم أب إلا الله: “لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ” (٨: ٤١)، مستندين الى نبوة إشعياء النبي: “فَإِنَّكَ أَنْتَ أَبُونَا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْنَا إِبْرَاهِيمُ، وَإِنْ لَمْ يَدْرِنَا إِسْرَائِيلُ أَنْتَ يَا رَبُّ أَبُونَا، وَلِيُّنَا مُنْذُ الأَبَدِ اسْمُكَ” (إش٦٣: ١٦).

وهنا اعترض الرب يسوع بشدة على ادِّعائهم البنوة لله. فالبنوة لله أيضاً لها واجبات ومتطلبات كثيرة. وربما كان الرب يسوع أيضاً يشير الى نبوة إشعياء النبي: “رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ، أَمَّا هُمْ فَعَصَوْا عَلَيَّ… وَيْلٌ لِلأُمَّةِ الْخَاطِئَةِ، الشَّعْبِ الثَّقِيلِ الإِثْمِ، نَسْلِ فَاعِلِي الشَّرِّ (وليسوا أولاد الله)، أَوْلاَدِ مُفْسِدِينَ” (إش ١: 2، ٤). فحسب ما يراه الرب يسوع أمامه، فأولئك ليسوا أولاد الله، بل لهم أب آخر هو إبليس: “أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَق مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ” (يو٨: ٤٤). وفى هذا الهجوم أيضاً كان الرب يسوع يشير الى نبوة إشعياء النبي. “أَنْتُمْ أَوْلاَدُ الْمَعْصِيَةِ، نَسْلُ الْكَذِبِ” (إش ٥٧: ٤).

لقد أراد الرب يسوع أن يؤكد أن مجرد الانتساب الجسدي لإبراهيم لن يُجدي نفعاً ما دام الإنسان لا يسير فى إثر خطوات إبراهيم: ” إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا بَنُو الْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ” (مت ٨: ١١، ١٢). حتى الانتساب لله إن لم يحفظ الإنسان متطلباته، فالله نفسه سينكر هذا الإنتساب: “إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ” (مت ٧: ٢٣). أما اذا صنع الإنسان مشيئة الله، فإنه لا يصير فقط ابناً له، بل يدعوه المسيح: “أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي” (مت ١٢: ٥٠).

 

شرح لإنجيل القداس – القمص أنطونيوس فكري[6]

المسيح ينفي عن اليهود أنهم أولاد إبراهيم بالحقيقة (غل ٣: ٧، ٢٩)، فأولاد إبراهيم يعملون أعمال إبراهيم ولهم إيمان إبراهيم ولكنه قال إنكم ذرية إبراهيم =  أي نسله بالجسد ولكن هذا لا يحررهم من إبليس والخطية. أي لم يتبق لليهود سوى تاريخ يتمسحون به وهم غرباء عنه، وهذا يتضح من أنهم صاروا عمي وصم لم يسمعوا ولم يعرفوا المسيح الذي فرح به إبراهيم. بل يطلبون قتل المسيح لأنه يبكتهم ويريد أن يعرفهم طريق الحياة وذلك لأن قلوبهم مملوءة حسدًا وضعه إبليس، ووضع في قلوبهم خطط قتل للمسيح وهم إنصاعوا وراءه فهم بهذا مستعبدين لإبليس وليسوا أحرارًا. فالمسيح جاء ومعه خطة الآب للخلاص الذي سيتممه بموته. وهم إستلموا خطة القتل من إبليس أبيهم كما رسمها لهم فهو قاتل وأبو كل كذاب. أما إبراهيم فتشفع من أجل خطاة سدوم وعمورة حتى لا يموتوا. كلامي لا موضع له فيكم =  لقد أغلقتم قلوبكم بسبب حقدكم وحسدكم لي وتعصبكم الأعمى ضدي. كل هذا ملأ قلوبكم فما عاد فيها موضع لكلامي. فكلامي نزل على أرض محجرة. أتكلم بما رأيت عند أبي= [رأيت تشير لتطابق الإرادة ولكن ما يريده الآب ينفذه الابن]  فهو يعلن عن الحق والحياة الأبدية التي يريدها الآب للبشر. وهذه في مقابل أنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم أي إبليس فهم لم يروا الشيطان ولا ما عند الشيطان ولكن المعنى توافق الآراء بينهم وبين الشيطان في قتل المسيح. ونلاحظ في (٣٨) أن المسيح نسب لنفسه الكلام ونسب لهم الأعمال فهو يكلمهم عن الآب وهم يخططون لقتله. ونلاحظ في (آية ٤٠) إنسان كلمكم بالحق الذي سمعه من الله= فهو الإنسان يسوع المسيح الوسيط بين الله والناس.

أبونا هو إبراهيم= السيد لم يوافق على هذه العبارة فالبنوة لإبراهيم كما قال السيد هنا (وكررها بولس الرسول بعد ذلك) ليست بحسب الجسد، إنما بأن يعمل الإنسان أعمال إبراهيم ويكون له نفس إيمانه. هي بنوة روحية وليست جسدية.

  • هم يدَّعون هنا أنهم أولاد الله، ولو كانوا حقًا أولاد الله لعرفوا المسيح. ولكانت أعمالهم أعمال خير ومحبة.

أبناء زنا= أي لم تختلط دمائنا بالوثنيين، فالاختلاط بهم يسمونه زنا، وعبادة الأوثان زنا روحي. وهم يدَّعون كذبًا أنهم لم يعبدوا الأوثان، فالأنبياء اتهموهم بهذه التهمة.

  • هم قالوا أنهم أولاد الله والمسيح يرد عليهم بأنهم ليسوا أولاد الله لأنهم لو كانوا أولاد الله لعرفوه إذ هو ابن الله، ولو عرفوه لأحبوه لكنهم أرادوا قتله وبهذا أثبتوا أنهم يتبعون إبليس القتال الذي قتل آدم وبنيه.

عمومًا البنوة لله هي بصنع مشيئته “من هو أخي وأختي وأمي..” خرجت من قبل الله وأتيت= [خرجت من الله بترجمة أدق] والخروج يشير للبنوة الإلهية للمسيح وأتيت تفيد التجسد.

والخروج من…. له 3 حالات في اليونانية:

بمعنى الخروج والابتعاد وهذا التعبير إستخدمه التلاميذ عن إيمانهم (يو ١٦: ٣٠) وهذا بقدر معرفتهم في ذلك الوقت.

خروج مع بقاء بجانب، كزمالة. وهذه إستخدمها المسيح ولكن ليعبر بها عن وجهة نظر التلاميذ عن المسيح (يو ١٦: ٢٧) فهو يعبر عن قدر فهمهم.

خروج من الداخل مع البقاء في الجوهر (يو ١٦: ٢٨) وهذا هو تعبير المسيح عن نفسه والمستخدم هنا في آية (42). ويشير المعنى أن الابن هو من الله في وجوده وكيانه ومجده قبل الميلاد والتجسد. وهو باقٍ مع الله بالرغم من تجسده وبالرغم من خروجه. هو خروج دون انفصال عن الآب في الجوهر.

خرجت = خروج النور من الشمس، هذا له صفة الاستمرارية دون انفصال. أتيت = تفيد استعلانه كابن الله المتجسد لنا على الأرض. لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني = فهجومهم عليه هو هجوم على الله الذي يدَّعون أنه أبوهم، فالمسيح يمثله تمثيلًا ذاتيًا وكليًا كنائب له، وهو أتى بمشيئة الآب ليمجد الآب وليس ليطلب مجد نفسه.


 

المراجع

 

[1]  كتاب الرسائل الفصحية للقديس أثناسيوس الكبير – الرسالة الحادية عشر (عيد القيامة في 20 برمودة سنة 55 ش. – 15 أبريل سنة 339 م.) – صفحة 48 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[2]  كتاب شرح انجيل يوحنا للقديس كيرلس الاسكندري – المجلد الاول – ص 617 – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد وآخرين.

[3]  مجلة مدارس الأحد – عدد سبتمبر لسنة ١٩٦٦ – ترجمة الأستاذ شوقى ميخائيل .

[4]  كتاب نقاوة القلب في المفهوم الكتابي والآبائي – صفحة ٨١٣ – إعداد أحد الآباء الرهبان بدير السيدة العذراء “برموس”.

[5]  كتاب مفاهيم إنجيلية – صفحة ١١٢ – المتنيح أنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار .

[6]  تفسير إنجيل يوحنا  – اصحاح 8 – القمص أنطونيوس فكري.