أحد توما
“ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع” (عب ١٢: ٢).
- وأصعدهم معه إلى العلو: إلى موضع راحته: خلصهم لأجل إسمه: وأظهر قوته لهم.
فلهذا نحن أغنياء: بالخيرات الكاملة: وبإيمان نرتل: قائلين الليلويا. (ذكصولوجية القيامة).
- بي اخرستوس بينوتي.. آمين إس ايشوبي.. المسيح الهنا.. حقاً يكون. (شهادة إيمان الكنيسة في ختام ليتورجية القداس).
- الإيمان الثابت برج حصين، فبالنسبة للمؤمن المسيح هو كل شئ. (مار اسحق السرياني).[1]
شواهد القراءات
عشية: المزمور (مز ٣٢: ٢-٣) – الإنجيل (لو ٥:١- ١١).
باكر: المزمور (مز ٩٥: ١) – الإنجيل (يو ٢١:١- ١٤).
القداس: البولس (أف ٤: ٢٠- ٣٢) – الكاثوليكون (١يو ٢: ٧- ١٧) – الابركسيس (أع ١٧: ١٦- ٣٤) –
المزمور (مز ٩٧: ١-٥) – الانجيل (يو ٢٠: ١٩- ٣١).
ملاحظات على أحد توما
تُعيِّد الكنيسة اليوم بأحد توما كما جاء في الدسقولية:
[وأيضاً بعد ثمانية أيام فليكن لكم عيد آخر، لأن هذا هو اليوم الثامن الذي أرضاني فيه أنا توما لما كنت غير مؤمن بالقيامة، فأراني علامات المسامير وطعنة الحربة في جنبه].[2]
شرح القراءات
- تحدثنا قراءات الأحد الأول عن: يقين قيامة ربنا يسوع المسيح.
- والعجيب هنا مجئ الدعوة للتسبيح الجديد «تسبيح الخليقة الجديدة بالقيامة» بنفس الكلمات “سبحوا الرب تسبيحاً جديداً” من ثلاث مزامير مختلفة وهي: ٣٢، ٩٥، ٩٧، وهي مزامير عشية وباكر والقداس:
- والدعوة للتسبيح الجديد في مزمور عشية مرتبطة بأهمية التهليل الحسن “لأن كلمة الرب مستقيمة وكل أعماله بالأمانة” (مز ٣٢: ٢).
- وفي مزمور باكر يرتبط تسبيح الخلاص بدعوة كل الأرض بتسبيح الرب كل يوم “بشروا من يوم إلى يوم بخلاصه” (مز ٩٥: ١).
- وفي مزمور القدٍّاس يذكر سبب التسبيح أعمال الله العظيمة (قيامته المقدَّسة) “سبحوا الرب تسبيحاً جديداً لأن الرب قد صنع أعمالاً عجيبة” (مز ٩٧: ١).
انجيل عشية
ويتكلَّم إنجيل عشيَّة عن ← كنيسة العهد القديم التي لم تأت بسمك بعد ليل الناموس الطويل إلى أن أشرق إبن الله وملأ بكلمة الحياة كنيسة اليهود وكنيسة الأمم بالثمار حتي الفيض، وبهذا ظهر يقين القيامة في ثمارها في الشعوب الغريبة، كما أوضح القديس أثناسيوس الرسولي “فلما فرغ من كلامه قال لسمعان تقدم إلى العمق واطرحوا شباككم للصيد، فأجاب سمعان وقال: يا معلم لقد تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئاً وبكلمتك نطرح الشباك، فلما فعلوا ذلك جمعوا سمكاً كثيراً جداً وكادت شباكهم تتخرق… فأتوا وملأوا السفينتين” (لو ٥: ٤- ٦).
انجيل باكر
وفي إنجيل باكر يوضِّح:
- أنها صارت سفينة واحدة (تضم الجميع يهود وأمم).
- وأيضاً هنا الرب هو الذي أعد الطعام بنفسه لتلاميذه “فلما أتوا إلي الأرض تطلعوا فرأوا جمراً موضوعاً وسمكاً عليه وخبزاً”.
- وهنا رغم كثرة السمك لم تتخرَّق الشبكة بخلاف سفينتي بطرس ويعقوب ويوحنا التي تخرَّقت.
- وهنا الإشارة إلى يقين القيامة في وحدة الكنيسة، وحراستها لمواهب أعضاءها.
البولس
يتكلَّم البولس عن ← يقين القيامة في سلوك الإنسان الجديد: “أما أنتم فلستم هكذا تعلمتم المسيح إن كنتم قد سمعتموه وعلمتم به كما هو حق في يسوع فاطرحوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد.. والبسوا الإنسان الجديد المخلوق نظير الله في البر وقداسة الحق” (أف ٤: ٢٠- ٢٤).
الكاثوليكون
- وهو ما تُعلنه المحبَّة المسيحية في الكاثوليكون: “أيها الأخوة لست أكتب وصية جديدة بل وصية عتيقة كانت عندكم منذ البدء، الوصية العتيقة هي الكلمة التي سمعتموها من البدء” (١يو ٢: ٧).
- ويتكلم أيضاً عن ثمار القيامة: “أكتب إليكم أيها الأولاد لأنه قد غفرت لكم الخطايا من أجل اسمه، أكتب إليكم أيها الآباء لأنكم قد عرفتم الذي من البدء، أكتب إليكم أيها الأحداث لأنكم قد غلبتم الشرير” (١يو٢: ١٢، ١٣).
الابركسيس
وتصميم القديس بولس في الإبركسيس على ← الكرازة بالقيامة رغم إستهزاء أهل أثينا به: “وأما بولس فإذ كان في أثينا احتدت روحه في ذاته إذ رأى المدينة مملوءة أصناماً فكان يكلم في المجمع اليهود والمتعبدين وكل الذين يجتمعون في السوق كل يوم … كان يبشرهم بيسوع وقيامته” (أع ١٧: ١٦- ١٨).
وأيضاً “لأنه قد أقام يوماً هو مزمع فيه أن يدين المسكونة كلها بالعدل على يد الإنسان الذي عينه وأعطى الإيمان لكل أحد إذ أقامه من الأموات” (أع ١٧: ٣١).
“فلما سمعوا بالقيامة من الأموات فبعضهم كانوا يستهزئون وبعضهم قالوا سنسمع منك عن هذا أيضاً”.
انجيل القداس
وفي انجيل القداس عن ← الأبن الذي يظهر خصيصاً لتوما لإعلان يقين قيامته، ولكن في الوقت ذاته يُطوِّب إيمان الحياة معه أكثر من إيمان الرؤى والآيات “ثم قال لتوما هات اصبعك إلى هنا وأنظر يدي، وهات يدك وضعها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل آمن، فأجاب توما وقال له: ربي وإلهي.. فقال يسوع: لما رأيتني آمنت، طوبى للذين لم يروا وآمنوا” (يو ٢٠: ٢٧- ٢٩).
ملخص الشرح
- نالت البشرية التسبيح الجديد بقيامة المسيح وتعيشه كل يوم والمؤمنين في جميع أقطار المسكونة. (مزمور عشية وباكر والقداس).
- بدأت كنيستي اليهود والأمم تقطف ثمار الخلاص في تجسُّد الكلمة، لكن بعد القيامة صارت كنيسة واحدة مملوءة بفيض من كل ثمار القيامة. (إنجيل عشية وباكر).
- يُسْتَعلن يقين القيامة في سلوك الإنسان الجديد (البولس)،
- والوصية الجديدة أي المحبة (الكاثوليكون)،
- والتعليم الجديد أي الكرازة بالقيامة (الإبركسيس).
- ظهور الرب خصيصاً ليؤكِّد لتوما حقيقة قيامته ويُطوِّب من آمنوا ولم يروا (إنجيل القداس).
عظات مقترحة للأحد الأوَّل من الخمسين يوم المقدسة
فعل الإيمان بمسيح القيامة
تصديق حقيقة القيامة وفعلها فينا:
- الإيمان بكلمته:
“فأجاب سمعان وقال يا معلم قد تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئاً وبكلمتك نطرح الشباك، فلما فعلوا ذلك جمعوا سمكاً كثيراً جداً” (إنجيل عشيّة).
- الإيمان بأعمال كلمته وقدرتها:
“فقال لهم يسوع: أيها الفتيان أعندكم شيئاً يؤكل؟ فأجابوه: لا .. قال لهم: القوا الشبكة عن يمين السفينة فتجدوا، فألقوا ولم يقدروا أن يجذبوها إلى فوق من كثرة السمك” (إنجيل باكر).
الفرق بين المعجزتين:
- أن الأولي الإيمان فيها بكلمته أعقبه المعجزة.
- أما الثانية فإن المعجزة أعقبها الإيمان.
- الإيمان العملي:
“فاطرحوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد .. والبسوا الإنسان الجديد المخلوق نظير الله في البر وقداسة الحق” (البولس).
- الإيمان الواحد في العهدين:
“أيها الأخوة لست أكتب وصية جديدة بل وصية عتيقة كانت عندكم منذ البدء” (الكاثوليكون).
- ثمار إيمان العهد الجديد:
- غفران الخطايا.
- معرفة الآب.
- النصرة على الشرير.
“أكتب إليكم أيها الأولاد لأنه قد غفرت لكم الخطايا من أجل اسمه، أكتب إليكم أيها الآباء لأنكم قد عرفتم الذي من البدء، أكتب إليكم أيها الأحداث لأنكم قد غلبتم الشرير” (الكاثوليكون).
- الشهادة للإيمان الصحيح وسط المعتقدات الغريبة الخاطئة:
“وبعضهم قال: ماذا يريد هذا المهذار أن يقول، وآخرون قالوا نظن أنه يبشر بآلهة غريبة لأنه كان يبشرهم بيسوع وقيامته” (الإبركسيس).
- الإيمان هو عطيّة الله:
“وأعطي الإيمان لكل أحد” (الإبركسيس).
- الإبن يدعم إيمان الكنيسة وإيمان كل عضو في ضعفه:
حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود جاء يسوع ووقف في وسطهم وقال لهم السلام لكم… ثم قال لتوما هات اصبعك إلى هنا وأنظر يدي، وهات يدك وضعها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل آمن” (إنجيل القدَّاس).
من وحي ظهورات الرب بعد القيامة
توما ..عَظِّمْ (بالشدة على الظاء) طلبك من المسيح.
- كيف يجرؤ توما أن يشترط ظهور المسيح لكي يؤمن بقيامته؟.
- كيف يربط ايمانه بلمس جراحات المسيح له المجد بيده؟.
- كيف لا يكتفي بشهادة الآخرين حتى لو كانوا رسلاً ومعتبرين؟.
- كيف لم يستكثر لنفسه ظهورًا خاصًا مميزًا عن إخوته الرسل؟.
- كيف لم يستحي من شكه وضعفه، ويطلب من الله احتواء وقبول ضعفه؟.
- كيف لم يتأسف ولم يعتذر عن شرط ايمانه بعد ظهور الرب له؟.
- كيف لم يخجل أمام الآخرين من شكه وعدم تصديقه؟.
الإجابة:
ببساطة أنه:
- طلب من الرب طلبًا عظيمًا،
- وتأكد أنه يتبع إله الطلبات العظيمة
- ولم يتردد في طلبه.
- أشكرك يا إله احتواء الضعفات، وقبول كل نقائص دون تعيير أو توبيخ.
- ورغم تطويب الرب لمن آمنوا ولم يروا، فإنه لم يحتقر من اشترطوا أن يروا لكي يؤمنوا.
عظات آبائية للأحد الأوَّل من الخمسين يوم المقدسة
طوبى للذين آمنوا ولم يروا .. القديس كيرلس الاسكندري[3]
(يو٢٠: ٢٩) “قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا”.
قول المخلص مناسب جدًا، ويمكن أن نستمد منه أعظم فائدة. فهو بهذا القول يورينا اهتمامه العظيم بنفوسنا: لأنه صالح ويُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ. حسب المكتوب (١تي٢: ٤).
وما يقوله الرب هنا لا يستدعي أي دهشة. فقد كان من الضروري له في الواقع أن يكون طويل الأناة، كما كانت طريقته التي عامل بها توما، الذي عبَّر عن شكه. وأيضا عامل التلاميذ الآخرين، الذين ظنوا أنهم نظروا روحًا أو شبحًا. ولكي يظهر آثار المسامير وجنبه المطعون، كما سبق أن فعل، لأجل الاقتناع الشامل. وأيضًا أن يأكل من الطعام. بعكس المعتاد وبدون احتياج. لكي لا تُترك حجة لعدم الإيمان لأولئك الذين يسعون لكي يربحوا من قوته.
ولكن كان من الضروري أيضًا أن ينظر الرب إلينا نحن الذين نأتي بعد الرسل لكي يحفظنا من عدم الإيمان. لقد كان من الضروري أيضًا أن ينظر إلى طرف آخر، أي إلى أولئك الذين سيأتون في الأزمنة الأخيرة، حتى لا يجدّوا بسهولة إلى عدم الايمان لأنه من المحتمل أن ينحرف البعض عن الطريق المستقيم، ونتيجه الجهل يكون لديهم حرص زائف، فيرفضون الإيمان بالقيامة من الأموات، ويقولون لنا مثل ذلك التلميذ غير المؤمن “إن لم أبصر في يديه أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه لا أؤمن.
فما هي الوسيلة التي يمكن بها إقناعهم، والمسيح لم يعد مرئيًا على الأرض بل قد صعد إلى السماء؟.
وهل لا يظن أحبابنا أنهم محقون عندما يتحدثون بهذه الطريقة، حينما يظهرون أنهم يتمثلون بتلميذ المخلص في هذا الأمر، ويعتبرونه أمرًا نبيلاً أن يمتنعوا عن الإيمان بطريقة سطحية، بل بالحري يطلبون أدلة أكثر لكي يصلوا إلى اليقين الكامل، ولذلك يطلبون أن يروا بأنفسهم ما أظهر للتلاميذ القديسين؟
لذلك فالمسيح يبعد الناس عن مثل هذا الميل، ويحفظهم من السقوط، فلكونه بالحقيقة هو الإله حقًا فهو يعرف جيدًا خداع الشياطين وحيلهم الخبيثة.
ولذلك يعلن أن الذين يؤمنون دون أن يروا هم مطوبون، وهم بالتأكيد جديرون بكل اعجاب. ولماذا؟..
لأن الإيمان الذي لا يسأل هو بسبب أنه يرى ما هو أمام عينيه، إذ ليس هناك ما يثير فينا الشك بالمرة.
ولكن الذي يقبل ما لم يره، ويؤمن أن لقنه إياه المُعلم وإن الكلمات التي سمعها منه، هي حق، حينئذ فإنه يكرم الرب الذي بشر به بإيمان جدير بالثناء. كذلك، مبارك كل من يؤمن بما بشر به الرسل القديسون، الذين كانوا معاينين لما فعله المسيح وخدامًا للكلمة، كما يقول لوقا (انظر لو١: ٢). وينبغي أن نسمع لصوت الرسل إن كنا مفتونين بالحياة الأبدية، ونتمسك في قلوبنا بالرغبة في أن نسكن في المنازل السمائية العلوية.
اشتراك توما في الروح القدس – القديس كيرلس الاسكندري[4]
سوف نجد في الفقرة التالية لما شرحناه، الكلمات التالية: “أَمَّا تُومَا، أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ” (يو٢٤:٢٠). كيف؟.. ربما سأل البعض وهو سؤال معقول. كان بعيدًا واشترك معهم في الروح القدس عندما ظهر المخلص وقال لهم: اقبلوا الروح القدس؟..
والإجابة على هذا السؤال هي: أن قوة الروح تملأ كل البشر وعندما قصد الرب أن يعطيه للتلاميذ لم يكن يقصد أن يعطيه للبعض دون الآخرين، ومن كان غائبًا منهم فقد قبله، لأن كفاية الواهب ليست قاصرة على الموجودين بل تمتد الى كل جماعة الرسل.
وهذا الحق ليس من خيالنا ولا هو من ضلال، ولذلك علينا أن نقنعهم من الكتب المقدسة نفسها مؤكدين ذلك بفقرة من توراة موسى، لأن الرب الإله أمر موسى الحكيم أن يختار سبعين شيخًا من جماعة اليهود وصرح علانية: “سوف آخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم” (عد١٧:١١).
وأطاع موسى واحضرهم إلى خيمة الاجتماع (عد٢٤:١١) إلا رَجُلَين تخلفا عن الحضور ومكثا في المحلة وهما ألداد وميداد، لكن الله وضع عليهم الروح الالهي كما وعد وأخذ الكل النعمة.. الذين كانوا في خيمة الاجتماع مع موسى وكذلك الأثنين اللذين تخلفا، الكل تنبأوا.. وفي الحقيقة أن الرجلين اللذين تخلفا تنبآ ونالا النعمة من فوق قبل الباقين.
إلا أن يشوع بن نون الذي كان يلازم موسى دائماً والذي لم يفهم معنى السر ظن أن الرجلين آلداد وميداد يمهدان لإنقسام مماثل لما صنعه “داثان وأبيرام”، ولذلك أسرع إلى موسى قائلًا: “يا سيدي موسى أردعهما” (عد٢٨:١١)، ولكن بماذا أجاب الرجل العظيم والحكيم الذي رأى بحكمته أن النعمة من فوق وأنهما قد نالا معاً قوة الروح؟.. هل تغار أنت لي؟ يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذا جعل الرب روحه عليهم (عد٢٩:١١). ولاحظ كيف ينتظر شيوع الذي لم يعرف ماذا حدث.
كان موسى يتمنى أن يُعطَي الروح للشعب كله، ولكن هذا كان سيحدث في الوقت المُعين عندما يمنح الرب المسيح الروح القدس للكل، وينفخه على تلاميذه كباكورة البشرية قائلًا: “اقبلوا الروح القدس”. ومع أن توما لم يكن موجودًا إلا انه لم يُحرَم من قبول الروح القدس، لأن الروح حلَّ في الكل أي الذين وُعِدوا بأن يأخذوه وهم الذين حُسِبوا ضمن جماعة الرسل المكرمين.
من غفرتم خطاياه:
وعندما اعطي المسيح الروح القدس قال: “من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت”. والله الحيّ وحده هو القادر على أن يمنح الخطاة غفران الخطايا. ولا يستطيع أحد أن يعفو عن ذنوب الذين يخطئون ضد الناموس الإلهي إلا واضع الناموس نفسه.
ولكننا نستطيع أن ندرك معنى النص بالمقارنة بالأمور البشرية مع الاحتفاظ بالفوارق.
الذين ينفذون أحكام وقوانين ملوك الأرض أو يلغون قرارتهم هم الذين نالوا المقام والكرامة الملوكية. وقياساً على هذا، بأي كيفية وبأي معنى أعطي المخلص لرسله الكرامة اللائقة بالله وحده؟
الكلمة الذي في الآب لا يمكنه ان يخطئ، وما يفعله إنما يفعله بكل صلاح فهو الذي دبر أن الذين منحوا الروح القدس وهو الرب والله، تصبح لهم القوة على أن يغفروا ويمسكوا الخطايا لأن الروح القدس الساكن فيهم هو الذي يغفر ويمسك، حسب إرادته رغم أن العمل يتم بوسيلة بشرية.
والذين لهم روح الرب يغفرون او يمسكون الخطايا بطريقتين:
أولاً: انهم يدعون الناس للمعمودية والذين يستحقون المعمودية بسبب التوبة ونقاوة حياتهم بعد اختبار التصاقهم بالإيمان ينالون المغفرة، ولكن في نفس الوقت يمنعون بل يطردون الذين لا يستحقون هذه النعمة الإلهية وهكذا يمسكون الخطايا.
ثانياً: انهم يغفرون الخطايا أو يمسكونها عندما ينتهرون أبناء الكنيسة الذين يخطئون ويمنعون الصفح عمن لا يتوب كما فعل بولس عندما سلم الذي زنى في كورنثوس لهلاك الجسد لكي تخلص الروح (١كو٥:٥)، وبعد ذلك أعاده إلى الشركة لكي لا يبتلع من الحزن، وعندما يسكن روح المسيح في قلوبنا فإنه يعمل الأمور التي تخص الله وحده، لأنه الله الحي الذي له المجد والكرامة الخاصة باللاهوت وله القوة والسلطان على القوانين المقدسة.
عن الثبات يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: “فإن كان يجب على المتنافس في جولات الملاكمة والمصارعة أن يكون ثابتًا بكل قوة قبل بداية المباراة، فكم بالحري في الحروب والشئون العسكرية، فالإنسان الثابت غير المهتز، الذي لايستند على آخر لا يمكن أن يسقط أبدًا، فموقف الثبات الدقيق، يتضح في الطريقة التي بها يقف المرء.. فالكائنات القائمة باستقامة، هذه قد ثبتت، أما التي لم تثبت، فستصبح عرضة للإنحلال والتفكك. فمحب اللذة لا يقف بثبات، بل يستند على شيء ما، كذلك محب الشهوة، ومحب المال.
فمن يعرف أن يثبت، سيكون الصراع سهلًا بالنسبة له، بسبب ثباته في موقفه، كأنه مدعوم بدعم ما. يقول: “فأثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق”، لا يتكلم عن حزام أو منطقة حقيقية، لأن كل ما جاء في هذا الجزء يتكلم عنه بشكل رمزي، ولاحظ كيف يتقدم في كلامه بشكل منظم. فهو أولاً يمنطق الجندي من جديد.. ماذا يعني هذا؟.. يعني أنه يوقف العمل بتلك المنطقة المتحللة والمتفسخة، بسبب الشهوات، ولا يسمح أن يعاق، بسبب الثياب المتشابكة حول الساق، بل يتركه يركض بأرجل مرنة..
“فأثبتوا ممنطقين أحقاءكم” ما يعنيه هنا بالأحقاء هو الآتي: فكما هو الحال بالنسبة للقوارب، يكون الأساس هو الجزء الأسفل في الهيكل الكامل للقارب، هكذا بالنسبة لنا فإن الأحقاء هي الأساس لكل جسد، وكأنه الأساس الذي فوقه يُبنى كل شيء، كما يقول الأطباء.[5]
الإيمان بأمور لا ترى – القديس أغسطينوس أسقف هيبو[6]
أدلة منطقية تثبت إمكانية الإيمان بأمور لا تُري بالعيون المادية:
١- هناك أناسُ يعتقدون أن الديانة المسيحية يلزم السخرية منها، وليس التمسُك بها، وذلك لأنه لا يمكن إثباتها بأمور مرئية، بل أن الناس فيها مطالبون بالإيمان بأمور لا ترى. ونحن إذاً لكيما نَدحض فكر هؤلاء الحكماء في أعين أنفسهم الذين لا يريدون أن يصدقوا ما لا يستطيعون أن يروه بعيونهم، فإننا لا نستطيع بالطبع أن نُظهر للعيون البشرية هذه الأمور الإلهية التي نؤمن بها لكننا نستطيع أن نُظهر للفكر البشري أنه يمكننا تصديق حتى الأشياء التي لا تُرى. بداية يجب أن نقول لهؤلاء الذين بحماقتهم قد أعطوا لعيونهم الجسدية أهمية جعلتهم لا يصدقون كل ما لا يرون بهذه العيون : كم من أمور يصدقونها بل ويعرفونها ولكنها لا تُرى بعيونهم تلك؟.. هذه الأمور غير المحصاة توجد في عقولنا نفسها – مع العلم أن طبيعة هذا العقل ذاته أيضاً أنه غير مفحوص – كالإيمان الذي به نصدق أمراً ما والفكر الذي به نحكم بأن نصدق الشيء أو لا نصدّقه، بالإضافة إلى أمور أخرى كثيرة، هذه الأمور جميعها غريبة عن أنظار العيون الجسدية، وبرغم من ذلك كم هي مكشوفة وواضحة ومؤكدة لعيون فكرنا الداخلية؟.. إذا كنّا بدون شك ندرك وجود الإيمان والأفكار رغم أنه لا يمكن رؤيتهما بالأعين الجسدية، فكيف لا نؤمن بالمسيح إذاً؟.
٢- لكن قد يقولون أن الأمور التي في العقل، نستطيع بواسطة العقل نفسه أن نميزها فلَيْس لنا حاجةُ أن نراها بعيون الجسد، لكن تلك الأمور التي تطالبنا بأن نؤمن بها ليست هي أشياء خارجة عنا حتى نراها بعيون الجسد، ولا هي داخل عقولنا حتى أنه بتمرينات مُعيَّنة للفكر قد نراها.. زاعمين أن تلك الأشياء التي يصدقونها هي فقط الأشياء التي يرونها أمامهم.[7] لذلك أقول أنه يجب علينا بالتأكيد أن نؤمن ببعض الأمور الحاضرة، وإن كنّا لا نراها، لكيما نستحق أيضاً أن نرى الأشياء الأبدية، التي نؤمن بها.
لكن أنت يا مَنْ لا تصدق إلا ما تراه، هوذا الماديات التي حولك تراها بعيون الجسد، ونيَّاتك وأفكارك الخاصة تراها بعيون عقلك إذ هي حاضرة في عقلك، ولكن أخبرني، نية صديقك نحوك.. بأي عيون تراها؟.. فلا يمكن أن تُرى النيات بعيون الجسد. فهل ترى في عقلك أيضاً ما يدور في عقل آخر؟.. ولكن إن كنت لا تراها، فكيف تُبادل نية صديقك الصادقة نحوك إن كنت لا تؤمن بما لا تراه؟. هل ستقول جدلاً بأنّك ترى نية الآخر من خلال أعماله؟ إذن أنت سترى أفعالاً، وستسمْع كلمات، ولكن نية صديقك التي لا يُمكن أن تُرى أو تُسمع فأنت ستصدقها.
فهذه النية ليس لها لون أو شكل حتي تراها العينان، وليس لها صوت أو نغم، حتي تسمعها الأذنان ، وهي ليست نيتك، لكي ما تَكُون محسوسة في قلبك. وعلي الرغم من أنها لا تُرى، ولا تُسمع، ولا هي منظورة بداخلك فيجب عليك أن تصدّق هذه النية، وإلا ستشعر بالوحدة في حياتك، بدون صداقة، ولن تستطيع أن تبادل من يحبك نفس الشعور. فأين هذا الذي تقوله إذن أنك لا تستطيع أن تصدق شيئاً إلا لو رأيته بعين الجسد أو رأيته داخل قلبك؟.. هوذا من كل قلبك تصدِّق ما في قلب غيرك وتؤمن حيث لا تستطيع أن ترى بعينيك أو بقلبك. فوجه صديقك تستطيع أن تميزه بعين الجسد وموقفك نحوه يمكنك أن تميزه بعقلك، لكنك لن تستطيع أن تُقدَّر محبة الآخر لك مالم تبادله هذا الحب، إذ تصدق أن فيه هذا الحب الذي لا تراه. فمن الممكن أن يخدع الرجل غيره باختلاق النية الحسنة، وإخفاء الحقد. وحتى إن لم يكن يفكرُ في إيذائك ولكن لأنه قد ينتظر أن ينتفع منك بشيء، فمن الممكن أن يختلق المحبة على الرغم من أنها ليست فيه.
٣- لكنك تَقُول، إنك تصدق صديقك، الذي لا يمكن أنْ ترى قلبه، لأنك اختبرته في تجاربك، إذ لم يتركك في وقت الشدة.. فقد عرفت حقيقة شعوره نحوك. فهل هذا معناه أنه يَجِبُ أنْ نتمنى أن تصيبنا الشدائد لكيما نتيقن من صدق حب الصديق لنا؟.. فهذا يعني أنه لن يوجد رجل سعيد مع الأصدقاء الأوفياء، مالم يحزن الصديق في المصائب التي تصيب صديقه!.. ولن يتمتع أحد إذن بحب الآخر مالم يتألم بأحزان ومخاوف!.. وكيف نتمنى السعادة مع الأصدقاء المخلصين ولا نخشاها، إن كنّا لا نستطيع أن نُثبت صدق حبهم إلا من خلال الأحزان؟.. ولكن من الممكن أن يكون لك صديق في وقت السعة، وإن كنت تستطيع أن تُثبت صداقته بالأكثر في وقت الشدة. لكنك بالتأكيد لن تُعَرِض نفسك للخطر لكيما تتيقن من صداقته، مالم تكن متأكداً أنه سيُثبت حسن ظنك،[8] وهكذا فأنت فيما تعرض نفسك للخطر فأنت تُصَدِّق صديقك من قبل أن تُجَرِبه. بالتأكيد، إن كان لا يجب علينا أن نصدق الأمور التي لا تُرى، لكننا حقاً نصدق قلوب أصدقائنا وإن كنّا لم نبرهن على صدق شعورهم، وحتى بعد أن نتأكد من صداقتهم من خلال ضيقاتنا فنحن نصدق نيتهم الصادقة نحونا دون أن نراها. إذاً عظيم جدًا الإيمان الذي به نحكم بشكل ملائم إننا نرى – بعيون ما – الذي نؤمن به، فإننا يجب أن نؤمن إذن، لأننا لا نرى.
ظهور المسيح لتوما – عند كل من: القديس غريغوريوس أسقف نيصص، والقديس أمبروسيوس[9]
- لا مجال الآن لأنْ يشك أحد في قوة القيامة
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
“إذ هو قد عوَّد الناس أنْ يعاينوا إقامة آخرين، كذلك فإنه قد أثبت كلمته بالبرهان بفعل ناسوته. وأنت قد اطّلعت على مجرد لمحة مما عملته تلك الكلمة مع أناس قد أدركهم الموت: كالطفل الذي قد فارق الحياة، والشاب الذي كان على حافة القبر، والجسد الذي قد أنتن… كل هؤلاء على حد سواء قد رُدّت لهم الحياة بأمرٍ واحد.
فانظر إذن لمَن ثُقِبَت يداه بالمسامير؛ انظر لهذا الذي طُعِن جنبه بحربة. المس بأصابعك أثر المسامير؛ مد يدك وضعها في جرح الحربة؛ وبالتأكيد أنت ستقدّر عمق الجرح الذي قد تصل إليه يدك لكبر علامته مِن خارج – لأن الجرح الذي يتسع لإدخال اليد يخبر بالعمق الذي إليه دخل الحديد. وإذ هو قد قام، فلننطق بصياح الرسول المتعجب: “فكيف يقول قومٌ بينكم أنْ ليس قيامة أموات؟” لهذا إذن، فإن كل نبوءة عن الرب قد تحققت ببيان وبشهادة الأحداث.
وفي الحقيقة فإننا لم نَعرف بهذا الأمر مِن كلامه فقط، بلْ قد وجدنا البرهان في أعماله التي تجسّدت في الناس أنفسهم، هؤلاء الذين عادوا للحياة بالقيامة. فماذا بعد مِن دليل لمَن لا يؤمنون؟ فحريّ بنا أنْ نودّع كل مَن يضلّلنا ب “الفلسفة والخداع الباطل” عن إيماننا البسيط، وبدلاً مِن ذلك نتمسك باعترافنا “بالقيامة” وصحتها؛ هذا الاعتراف الذي أنبأنا به القول الحسن للنبي: “تنزع أرواحها فتموت وإلى ترابها تعود. ترسل روحك فتُخلَق. وتجدّد وجه الأرض”.
القديس أمبروسيوس
“قد قرأتم أن الآب هو الرب وهو الله: “أيها الرب إلهي: إني أدعوك؛ فاستجب لي.” وتجدون أن الابن أيضًا هو ربٌّ وإله، فهكذا قرأتم في الإنجيل: إذ لمس توما جنب المسيح، قال: “ربي وإلهي” إذن، فكما أن الآب هو الله والابن رب، كذلك الابن أيضًا هو الله والآب رب: فالإسمان المقدسان يتداولهما كل منهما مع الآخر.
الطبيعة اللاهوتية لا تتغير لكن الكرامة تظل بلا تغيير. لأنهما لم يكونا قد أعطيا لهما مِن قَبيل الهبة، بلْ مِن قَبيل العطايا الإرادية لطبيعة المحبة. فإن الوحدانية لها صفاتها الخاصة، وتلك الصفات الخاصة تتجمّع معًا لتكون وحدة واحدة مع الروح القدس.
- الطوبى الخفية تحت الألم
أمبروسيوس
“هناك بعض أناس يظنون أن حياة النعيم والطوبى تكون مستحيلة لدى هذا الجسد الزليل الواهن: إذ أننا لا بد أنْ نقع تحت الألم والحزن، والنحيب والمرض… كل ذلك قد يكون له هذا الجسد عرضة. فليس مِن الطوبى في شيء أنْ نكون في وسط الألم؛ لكن الطوباوية تكون بالنصرة على هذه كلها، وبألّا تكون شدة الألم الوقتي سببًا في اشتداد الضيقات.
ضعوا بعين الاعتبار أن الأمور تبدو صعبة لِمَا تتسبب فيه مِن أسى؛ مِثل العمى والنفي والجوع واغتصاب الإبنة وفقدان البنين.
مَن ذا الذي ينكر أن إسحق قد كان طوباويًّا، هذا الذي لم يعُدْ يستطيع الرؤية في شيخوخته، إلّا أنه لطوباويته قد أعطى البركة؟..
ألم يكن يعقوب طوباويًا، وهو الذي بعد أنْ ترك بيت أبيه تحمّل الغربة وعمل بالرعي مِن أجل العيش، وحزن بسبب ما أصاب ابنته مِن تدنيس، وذاق عناء الجوع؟..
ألم يكونوا طوباويين هؤلاء الذين على صلاح إيمانهم قَبِل الله الشهادة؟.. لأنه هكذا مكتوب: “إله إبراهيم، وإله إسحق، وإله يعقوب.” كم هي بائسة العبودية! لكن يوسف لم يكن بائسا. حقًا قد كان طوباويًّا بالفعل: فبينما كان عبدًا، فقد وقف ضد شهوانية سيدته.
وماذا أقول عن داود القديس الذي ناح على موت ثلاثة مِن أبنائه؟ بلْ والأسوأ مِن هذا كان ما وقع بابنته مِن سفاح قربى. كيف يكون غير طوباوي هذا الذي مِن نسله جاء مَن أوجَد البركة نفسه، الذي جعل كثيرين طوباويين؟ لأنه “طوبى للذين آمنوا ولم يروا”.. كل هؤلاء شعروا بضعفهم، لكنهم بشجاعة تغلّبوا عليه.
ماذا يمكن أنْ نظنّه أسوأ مما أصاب أيّوب الصدّيق سواء مِن احتراق بيته، أَمْ مِن موت باغت بنيه العشرة أَمْ مِن آلامه الجسمانية؟ أَمَا كان أقل طوباوية ما لم يكن قد تحمَّل كل هذه الأوجاع التي بها قد تبرَّر؟
حقيقي أن في هذه الآلام مرارة، وأننا لا نستطيع أنْ نغلّب العقل على العاطفة في التقليل مِن وطأة الألم. فلا ينبغي لي إذن أنْ أُنكِر أن البحر عميق لمجرّد أن شاطئه ضحل، ولا أن السماء صافية لأنها أحيانًا تُغطّى بالسحب، ولا أن الأرض مثمرة لأن عدة مواضع منها تكون أرضًا قفرة ولا أن نتاجها خصب وافر لأن الأعشاب البرية أحيانًا تنبت في وسطها وتختلط بها. لذلك أيضًا احسبوها حقيقة أن حصاد الضمير النقي قد تختلج به بعض مشاعر الأسى المريرة.
ففي جملة أحداث حياة الطوبى قد تكون هناك بعض ملابسات بسوء الحظ تأتي صدفة؛ فإنْ كان هكذا الحال: أليس هذا هو ما يحدُث إذا نبتت الأعشاب البرية واختبأت؟ أو كما لو اختفت مرارة الزوان بفعل رائحة القمح الزكية؟”.
عظات آباء وخدّام معاصرين للأحد الأوَّل من الخمسين يوم المقدسة
القيامة والإيمان – قداسة البابا تواضروس الثاني[10]
توما الرسول يمثل الشخص السوداوى (المتشائم) كما يبدوا في ثلاثة مواقف:
١- وقت نياحه لعازر (يو ١١: ١٦) “لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضًا لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ”.
٢- عندما قال المسيح ” فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ،… وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ” أجاب توما: ” يَا سَيِّدُ، لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ، فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟” (يو١٤: ٢- ٥).
٣- مع الرسل بعد القيامة “إِنْ لَمْ أُبْصِرْ… وَأَضَعْ إِصْبِعِي…” (يو٢٠: ٢٥).
المشكلة: ليست أنه لا يريد أن يؤمن أو أنه يرفض الإيمان، بل أنه يريد المعرفة أولاً ثم الإيمان، ولكن “طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا” لقد كان “آخر” الرسل في الإيمان بالقيامة، ولكنه صار “أول” من اعترف بلاهوت المُخلص القائم.
وهكذا أمام الإيمان نجد ثلاثة أنواع من البشر :
١- من لا يؤمن حتى وإن رأى: ومثال على ذلك فرعون مصر.
٢- من يؤمن فقط إن رأى: ومثال ذلك توما الرسول.
٣- من يؤمن حتى وإن لم يرى: ومثال على ذلك نوح وإبراهيم وكثيرون – ونحن لذلك تُسمى الكنيسة هذا الأحد “بالأحد الجديد” حيث تجدد فيه إيمان توما الرسول، لقد جس يسوع كإنسان وانتهى به الأمر فآمن به كإله وكانت صرخة الإيمان “رَبِّي وَإِلهِي” هي مركز حياته الإيمانية الجديدة وكرازته فيما بعد في بلاد الهند.
طُوبَى لِمَنْ آمَنَ وَلَمْ يَرَىَ
هذا الظهور الخاص لتوما الرسول له دلالات:
أ – علامة الاهتمام الفردي (من أجل كل فرد) وافتقاد الغائب.
ب- علاج للضعف البشري (الشك) لأن التلاميذ العشرة لم يقدروا أن يقنعوا توما.
ج- استجابة لطلبة مرفوعة (لمس الأثر) من خلال التلاميذ وطلب توما الرسول.
حروب عدوا الخير تأخذ شكلين:
١ – شك:← في الإيمان – في حنان المسيح – في غفرانه – في رعايته – في محبته… الخ.
٢ – يأس:← من الجهاد من الحياة – من المذاكرة – من العمل الروحي – من الشفاء من الخطية… الخ.
إننا نحتاج الإيمان والثقة في المسيح، وهناك الطوبى لمن آمن ولم يرى (يو٢٠: ٢٩).
كان توما الرسول: غائباً مُتشككاً ← ثم حاضراً مؤمناً ← ثم شاهدا كارزاً بالقيامة .
وهكذا كان كل من:
- أليصابات: “مِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟”
- بطرس الرسول: “اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ”.
- زكا العشار: “هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ”.
- اللص اليمين: “اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ”.
- شاول الطرسوسي: “يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟”.
لقد ظهر السيد المسيح عشر مرات بين القيامة والصعود، خمس فيها يوم القيامة فجراً ونهاراً وعصراً، والخمس الأخرى بعد يوم القيامة، وكان أولها هو الظهور لتوما الرسول مع تلاميذه.
الأحد الأوَّل من الخماسين المقدسة – للمتنيح القمص لوقا سيداروس[11]
(يو٢٠: ١٩- الخ)
أحد توما
قال التلاميذ لتوما: قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ. فقال توما: إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ”.
اجتماع الكنيسة
في المرة الأولى التي ظهر فيها الرب يسوع بعد قيامته لم يكن توما معهم، ولم يشترك معهم في التمتع برؤية الرب قائمًا من الأموات.. ولسنا نعرف السبب الذى لأجله تخلف توما الرسول عن اجتماع التلاميذ. ربما كان قد حجزه الخوف في مكان ولم يستطيع أن ينضم إلى بقية التلاميذ. أو ربما كان معهم وخرج من العلية لسبب من الأسباب.. ولكن مهما كان سبب تخلفه عن اجتماعهم، فقد ترك لنا درساً لن ينسى للذين يتخلفون عن اجتماع الكنيسة مهما كانت الأسباب.
بالحقيقة إن تخلفنا عن اجتماع الكنيسة يحرمنا في كل مرة من رؤية المسيح قائماً من بين الأموات ويحرمنا من وضع يدينا في أثر مساميره. ومن السماع لكلماته الإلهية، ومن نعمة السلام التي أعطاها للتلاميذ.. ففي كل مرة نجتمع في الكنيسة الآن.. نجتمع حول المسيح القائم من الأموات الواهب حياة للعالم.. وحينما نشترك في احتياجات القديسين نكون قد لمسنا جراحات الرب. وعندما ندخل الكنيسة نكون قد احتويتنا علية التلاميذ، نأخذ معهم بالتساوي سلام المسيح الذي يفوق كل عقل.
القيامة كما عاشها التلاميذ
١- فرح التلاميذ إذ رأوا الرب: لقد قال لهم الرب قبل الصليب: “سَأَرَاكُمْ أَيْضًا فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ”. فالقيامة من الأموات كانت بالنسبة للتلاميذ طاقة من الفرح دخلت إلى حياتهم، ولقد صبغت حياة التلاميذ بصبغة الفرح هذه في كل عمل، وفى كل تصرف.. فكانوا يتناولون الطعام بابتهاج.. وحين دخلوا السجون كانوا يرتلون بفرح، وحين جلدوهم في مجمع اليهود خرجوا فرحين، وحين سلبت أموالهم قبلوا سلب أموالهم بفرح، وحين تألموا قالوا: “أَفْرَحُ فِي آلاَمِي”، وحين وقعوا في تجارب قالوا: “اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ”. فالقيامة فرح.. فرح لا ينتهى، ولا تستطيع قوى العالم أن تنزعه منا.
٢- فتح ذهنهم ليفهموا الكتب: القيامة من الأموات فسرت العهد القديم، وكملت مواعيد الله، وفتحت ذهن التلاميذ روحياً.. لم تعد كلمات الإنجيل ولا نبوات القديم تحتاج إلى جهد أو تفسير. صار الإنجيل بالقيامة معاشاً. ولم يعد التلاميذ بعد القيامة يقولون للرب فسر لنا المثل.. لقد أصبح كلام الكتب هو حياتهم يعيشوا مواعيد الله وتحقيقها. وأصبح الناموس مكتوباً في أذهانهم، ومكتوباً على قلوبهم وليس في الكتب.
أراهم يديه ورجليه
القيامة تلامس مع المسيح القائم من الأموات.. قبل الصليب كان كل من يلمسه ينال الشفاء، مثل: المرأة نازفة الدم التي لمست ثوبه، وكان هو يضع يديه على كل واحد ويشفيهم. وقيل أيضاً: وَقَعَ عَلَيْهِ لِيَلْمِسَهُ كُلُّ مَنْ فِيهِ دَاءٌ… ولكن بلمسة بعد القيامة شيء آخر..
فالمسيح هنا هو الذى يكشف جراحاته المخلصة أمامنا قائلاً: جسوني.. إذن هي دعوة للتعرف على المسيح قائماً من الأموات.. لقد عرفه التلاميذ شافياً للأمراض وفاتحاً عيني الأعمى بلمسة من يده، ومقيماً لإبنة يايرس من الموت عندما أمسكها هو بيده.. ولكن في هذه المرة هو يريد أن يعرفوه قائماً من الأموات.. وقد قال لهم الرب عندما ظهر “أَنَا هُوَ” نفس العبارة التي قالها الرب لموسى ويعقوب: “أَنَا هُوَ” لقد سمعها التلاميذ منه عند قبر لعازر: “أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ”،
إن لمسة يسوع بعد القيامة جعلت توما يصرخ قائلاً: “رَبِّي وَإِلهِي”. لابد لنا من هذا التلامس الجديد الذى قال عنه يوحنا الحبيب: “اَلَّذِي لَمَسَتْهُ أَيْدِينَا”. إن كل الأمور الأخرى المختصة بإيماننا بالمسيح يكفيها مجرد خبر لنؤمن بها. أما القيامة فلابد من لمسة، ولابد من وضع أيدينا.
ولكن كيف يكون هذا في أيامنا هذه؟
ابحث عن أثر المسامير والحربة في جسد المسيح (الذي هو الكنيسة). وحاول أن تتلامس مع هذه الأعضاء التي ذاقت الآلام.. وعندما تتلامس معها تكتشف الرب قائماً من الأموات. إننا نستطيع أن نتحقق بيقين عندما نقترب من المساكين والمعوزين والمجروحين والمجربين ونلمس هذه الأعضاء بإيمان ومحبة.. سوف تتفتح أعيننا في الحال ونكتشف المسيح المخفي وراء هذه الأعضاء المتألمة. وحينئذ يتشدد إيماننا ويقوى رجاؤنا.
عند كسر الخبز
لقد كان كسر الخبز عملًا ملازماً للقيامة عنده. تتفتح أعين التلاميذ على الرب القائم من الأموات. هكذا اختبر تلميذي عمواس. وهكذا فعل الرب مع التلاميذ وهم مجتمعين، قال لهم: “أَعِنْدَكُمْ ههُنَا طَعَامٌ؟ فَنَاوَلُوهُ جُزْءًا مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ، وَشَيْئًا مِنْ شَهْدِ عَسَل”. وعندما ظهر لهم أيضاً عند بحيرة جنيسارات أكل معهم.
فإن كان كسر الخبز في القداس هو اشتراكنا في جسد المسيح القائم من الأموات “الْخُبْزُ الَّذِي نَكْسِرُهُ، أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ الْمَسِيحِ؟”. فخبز المحبة المكسور بلا قوة هي تعرفنا على المسيح في حياتنا العملية، وفى وسط إخواتنا.
قلب واحد
لقد حصل التلاميذ بقيامة الرب على قلب واحد. فالقيامة كما رآها حزقيال في القديم عظام يابسة جداً وملقاة متفرقة على وجه الأرض. والقيامة هي التي قاربت العظام إلى بعضها وكستها لحماً ودخل فيها روح وأقامها.
قيامة المسيح من الأموات جعلت لجمهور التلاميذ قلب واحد، وروح واحد حينما يصلون، وحينما يجتمعون، وأينما ذهبوا.. وهذه الوحدانية كم عملت فيهم من قوة هزت الأباطرة، وكسرت السجون، وحطمت الأنانية والذاتية..
الكنيسة التي ليس فيها قلب واحد وروح واحد، بل تنقسم على ذاتها لا تستطيع أن تقف أمام قوى الشر الذى في العالم، وأن تغلب الموت. البيت الذى لم يحصل على قوة قيامة المسيح، يصير منقسماً على ذاته.
الوحدانية في القلب والفكر هي علامة تمتعنا بقيامة المسيح من الأموات..
الرب يسوع هو إيماننا وقيامتنا من الشك – للمتنيح القمص بيشوي كامل[12]
الأحد الأول من الخماسين المقدسة بتعتبره الكنيسة عيد سيدي، يعني المسيح ليه أعياد سيدية كبيرة، وأعياد سيدية صغيرة.
من الأعياد السيدية الصغيرة: زي الختان، ودخول أرض مصر، الهروب لمصر، ودخول الهيكل.. فأحد توما ده عيد من أعياد المسيح السيدية الصغيرة.
الأعياد الكبيرة زي البشارة والميلاد والغطاس، والقيامة.. فالنهاردة عيد من أعياد المسيح السيدية، ويمكن إحنا ما بناخدش بالنا منه لأنه دايماً بيجي يوم أحد وإحنا بنعتبر يوم الأحد دايماً يوم فرح. لكن حقيقتة النهاردة عيد من الأعياد السيدية بتاعة المسيح اللي هو أحد توما.
والكنيسة الواعية بالروح القدس أعتبرت أن إصلاح الإيمان بتاع تلاميذ المسيح ده عيد لأن الإيمان لو إنحرف يبقى خطر كبير جداً.. لكن المسيح نفسه هو اللي بييجي ويصلح الإيمان اللي إحنا أحياناً بنتعثر فيه. فقال له: “هات إيدك وحطها مطرح الجروح… ولا تكن بعد غير مؤمن.. وشوف يا توما.. فيه ناس هتآمن من غير ما تشوف.. طوبى لهم.
لكن يا أحبائي موضوعنا بنعمة ربنا هو القيامة في حياتنا. عايز النقطة دى تبقى ثابتة في ذهننا إن المسيح مش جاي علشان يقوم الأموات من القبور، وإن كان هذا حدث في وجود المسيح على الصليب لما أسلم الروح، خرج كثير من الأموات اللي في القبر ودخلوا المدينة المقدسة أورشليم، ومشوا فيها.
- القيامة عمل اختباري
لكن أريد إن إحنا نكون واضحين جداً.. صحيح إن المسيح كسر الموت وشوكته.. وقام من القبر، لكن المسيح مش جاي علشان خاطر يقوِّم الأموات في اليوم الأخير، لأن الله قادر بدون مجيئه للعالم إن هو يحدد يوم أو لحظة لقيامة الأموات.. والناس كلها تقوم وكل واحد يعامله ربنا حسب أعماله، لكن أرجو أن يكون ذهننا واضح جداً، إن القيامة بتاعة المسيح عمل اختياري يدخل في حياة كل واحد مننا زي ما نشوف دلوقتي حتى لو كانت الأبواب مغلَّقة.
في عشية يوم القيامة جه المسيح دخل وكانت الأبواب مغلَّقة وقال لهم “سلام لكم” ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب. وبعدين نفخ في وجوههم وقال لهم: اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياهم تغفر لهم “بس ما كنش موجود معاهم توما.. فجه مرة تانية في يوم الأحد.. ونقطة لطيفة تقدر تحس منها أن ظهورات ربنا يسوع المسيح كانت بتتم غالباً يوم الأحد. مع إنه هو ممكن يظهر في أي وقت، لكن هو كان بييجي يوم الأحد لأن يوم الأحد ده أصبح يوم الرب.
والكنيسة بتجتمع لكسر الخبز يوم الأحد.
وفيه ناس الأيام دي بيبقوا اصلاً غالباً يهود يعني فيه برة كنيسة مخصوصة لليهود المتنصرين، أو اليهود المسيحيين.. دول بعض منهم يقول لك نعيد يوم السبت. فإنت عارف دايماً إن اليهود لهم حاجات دايماً يبقوا متمسكين بها زي أيام الرسل. يطلع إشكالات عن الختان ولازم المسيحى يتختن ولا ما يتختنش، فتبص تلاقي موضوع السبت والأحد برضه بيثيروه اليهود الداخلين في الإيمان حسب عاداتهم الأولى. لكن المسيح قام يوم الأحد، وظهر للتلاميذ تاني يوم الأحد.. والروح القدس حل يوم الأحد. أصبح اليوم الجديد.. يوم الرب ده يوم الأحد.
- القيامة حياة معاشة واختبار شخصي
القيامة يا أحبائي عمل.. يعني طلَّع من مخك نهائياً إن القيامة حكايته إن الناس تقوم من القبور يوم القيامة اللي بتتكلم عنها كل الديانات. إحنا بنتكلم عن موضوع تاني بعيد خالص خالص.. إحنا بنتكلم عن القيامة كاختبار شخصي في حياة المسيحي.. تقول لي ازاي عملياً؟.. آهو الإنجيل بيعلمنا.. كان التلاميذ مجتمعين بسبب الخوف.. كانوا مجتمعين من أجل الخوف من اليهود فجاء يسوع ووقف في وسطهم وقال سلام لكم وأراهم يديه ورجليه. إنت عارف حتى التعبير العادي يقول لك فلان ده ميت من الخوف فدول كانوا في حالة موت.
فالموت في الواقع مش بيجى من بره.. الموت جوه. فالخوف موت لأنه قلة إيمان، نسيوا وعود المسيح. وكلامه في الكتب.. زي ما قال لتلميذي عمواس اللي كانوا ماشيين بيتضاربوا في الطريق.. قال لهم أيها الغبيان والبطيئا القلوب.. فالخوف ده موت.
فدخل المسيح علشان يقوم الناس الميتة دي جوه العلية. فدخل وقال بس كدة “سلام لكم”. أول لما قال سلام لكم، راح الخوف. رد الفعل على طول يقول لك كدة: ففرح التلاميذ.. من الحزن وخوف.. إلى فرح آهى دي القيامة. في اختبار الإنسان دي اسمها قيامة حصل إزاي الكلام ده؟!..
كل اللي نعرفه إن ربنا دخل وأراهم يديه ورجليه وجراحاته.. يعني علامات الصليب وراها لهم. بعدين قال لهم كمان سلام لكم.. بس هو ده طيب نجيبوا منين يسوع علشان يضيع الخوف؟ علشان الخوف ده مرض من أمراض الموت. قال ده يدخل والأبواب مُغلَّقة.. والأبواب مُغلَّقة ده موضوع هو عمق اختبار القيامة..
أحياناً نتوقع إن ربنا يدخل من الباب المفتوح.. دية مش القيامة، ده هو عايز يقول كدة.. ربنا لما التلاميذ وصلوا لدرجة من اليأس والفشل، وقالوا خلاص ما فيش فايدة إن يسوع يقوم من الأموات.. ووصلوا للدرجة إنهم خافوا من اليهود وإنتظروا حكم الموت يتنفذ فيهم، واليهود بيدوروا عليهم بعد ما خلصوا من موضوع المسيح هيدوروا على التلاميذ. فكانوا في منتهى الخوف لأنهم كانوا متوقعين الموت.
- القيامة هي الدخول والأبواب مُغلَّقة
والأبواب المغلقة دخل المسيح .. فالقيامة هي الدخول في حياتنا والأبواب مُغلَّقه.
علشان كدة المسيحية لا تعرف اليأس أو الفشل.. ماتعرفهوش أبداً أبداً.. إيه أقصى درجات القسوة اللى في العالم.. الموت!.. إذا كان الموت ده هو آخر حدود يعني اليأس والفشل. خلاص الواحد بيطلَّع في الروح إيه الأمل اللي ليه؟ هنا يبتدي يعمل ربنا اللي هو القيامة من الأموات علشان كدة المسيحى دايماً قلبه مليان بالرجاء، وبالقيامة.. قلبه مليان بالقيامة.. يسوع يقول: “أنا هو القيامة”.
ما كانش توما موجود كان فيه موت تاني بيدب في حياة توما. تتصور يا عزيزي إن توما ده يقول لا ده ما فيش ربنا، وإن المسيح ده كان خِداع.. تتصور إنسان تقابله بالشكل ده، مثلًا مسيحى يقول لك لا.. ولا مسيح، ولا كلام من ده.. ده كلام نظري ومش عملي. ولو كان المسيح معانا ما كانتش أصابتنا المشاكل والضيقات والتجارب والحاجات دي،
تقول له لا يا أخى ده فيه ربنا موجود، وفيه صليب الألم، وفيه مسيح هيقوم في اليوم الثالت.. يقول لك لا دي حالة توبة ما تفتكرش إن دي حاجة بسيطة: توما كان في حالة الشك بتاعته كان في منتهى الموت، فدخل ربنا والأبواب مغلقة وقوِّم توما وقال له: لا تكن بعد غير مؤمن ولكن خليك مؤمن. وقال له يا توما أنا عندى دواء للإيمان إذا انت تأملت في الصليب اللى هو كان عثرة ليك وافقدك الإيمان.. لو تأملت في الجراحات والمسامير بتاعتي ها تتحول لإنسان مؤمن. فتوما حس بحاجة كدة جريت في دمه اسمها القيامة. قال له يا رب أنا مآمن ١٠٠٪ قال له طبعاً لأن أنا اللي إديتك القيامة دية.. وأنا ها أديها للناس من غير ما يشوفوني. إنت شفتني وآمنت، لكن ها أديها للناس من غير ما يشوفوني.
- القيامة هي عمل ربنا القائم من الأموات.. عمل داخلي
من أجل هذا يا أحبائي القيامة هي عمل ربنا القائم من الأموات، هي ضد الموت.
القيامة هي عمل داخلي يشتغل في حياة الإنسان.. معلش ها أكرر الجملة دي كتير خالص.. وها أكررها في المرات اللي جاية.. سفر الرؤيا بيقول فيه قيامتين:
في الإصحاح عشرين القيامة الأولى اللي هي بيعملها المسيح في قلبنا وفى حياتنا.
القيامة التانية اللي هي نبقى نطلع فيها من القبر.
القيامة الأولى: ده عمل المسيحية.. فالمسيحي تعرفه إزاي؟! يقول لك شخص.. القيامة عملت فيَّ. قيامة إيه يا عم؟ ده لسه فاضل على القيامة.. يوم القيامة ده يعلم به ربنا.. قل له: لا.. ده أنا عايش القيامة دي.. دي اسمها القيامة إيه؟ الأولى. يقول كدة سفر الرؤيا إصحاح ٢٠ “مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى”.
- القيامة هي خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد
القيامة الأولى زى ما تكلمت عنها قراءات النهاردة .. بتقول كدة: اخلعوا الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الطغيان، وتجددوا بروح ذهنكم والبسوا الإنسان الجديد المخلوق نظير الله. اخلعوا القديم والبسوا الجديد.. آهي دى قيامة.. طبعاً هو إنت لو تشيل الجسد بتاعي ده برة، وتحط لي واحد تاني ما هي دي تبقى القيامة فعلاً. إحنا في القيامة ها نعمل كدة. فبولس الرسول قال لا.. دة القيامة بنمارسها دلوقتي.. بنخلع حاجة وبنلبس حاجة علشان كدة القيامة عندنا مش مسألة إنك ما تعملش خطية.. لا ده إنت بتلبس حاجة تانية بتشيل حاجة وتحط حاجة تانية. بتشيل إنسان ميت.. ميت.. وتحط إنسان تاني حي الإنسان الميت ده اسمه الإنسان العتيق بحسب شهوات الجسد، وشهوات العالم، واغراءاته.. إلخ.
تقول يا أبونا ده كلام صعب.. أنت عارف الضعط الحالي على الإنسان من ناحية العالم الخارجي.. أقول لك فعلاً الكلام ده صعب، لكن أتؤمن أن يسوع يدخل من الأبواب المُغلَّقة؟! تقول لى آه أنا بآمن بالحكاية دي.. خلاص..
إذاً إذا كانت كل السكك قدامنا إن إحنا نعيش حسب الإنسان الجديد مقفلة فإن لك إيمان إن الله يدخل في حياتك.. “حياتك” مش عايز حياتك الكويسة.. حياتك الوحشة جداً جداً جداً.
إن كان لك إيمان إن يسوع يدخل والأبواب مُغلَّقه، فثق تماماً إنه يتخلق في حياتك إنسان جديد يتجدد مرة أخرى حسب صورة خالقه. أما إيماننا إحنا الكنسي – بتاع الكنيسة بتاعتنا – إن هذا الإنسان الجديد اتخلق من يوم المعمودية اتدفّنا فيبقى إيه؟ متنا.. وبعدين اتخلق انسان جديد علشان كدة بولس الرسول كان حريص جداً أن يقول إن هذا الإنسان يتجدد في ذهننا حسب صورة خالقه.
ما معنى التجديد
فكلمة يتجدد يعني إيه؟ يتجدد يا إخوتي زي انسان إتولد بس ملامحه بتبان أكتر، يعني لما يجي كدة بعد ما يتولد بيوم يقول لك الولد ده شبه مين؟ يقول لك مش عارف لسه شكله ما تكونش.. بعد يومين يقول لك فيه ملامح من أبوه.. شوية شوية يقول لك ده واخد من أمه شوية.. بعد أسبوع شكله يوضح.. آهو كل لما يتغذى.. كلما يكبر، كلما يبان.
بعد شوية.. سنة.. اتنين.. يقول لك الولد ده شكل أبوه تمام.. وأخد ملامحه بالضبط.. إذاً عملية تجديد بتخلق في شكله رغم إنه اتولد.. خلي بالك علشان فيه ناس بتغلط وتقول لا، ده أنا يادوبك وأنا عندى عشرين سنة، كدة لما أقول أنا خلصت ولا أنا.. ولا بتاع.. ربنا يحمي الكنيسة من هذه الأمور اللي الشيطان بيزقها في هذه الأيام.
الكنيسة ما علّمتناش كدة ابداً. علّمتنا إن الإنسان إتولد فينا بالمعمودية.. تقول لي لكن فيه ناس اتعمدوا والإنسان الجديد مش واضح في حياتهم، لأن هم بيغطوا عليه.. بيردموا عليه بالأعمال الوحشة الشريرة.
وتعرف لو كان الإنسان الجديد ده بيتخلق لما بيبقى عندك عشرين سنة ولا تلاتين سنة.. لما تآمن بربنا وتبقى كويس وبتاع.. يبقى ده عملك إنت.. يبقى ما دخلش والأبواب مُغلَّقه.. يبقى لك الحق إنك تقول أنا خلصت، أو أنا اتجددت. في اليوم الفلانى في الساعة الفلانية.. لك حق تقول أنا.. لكن ماتقولش المسيح.. تقول أنا اتجددت.
لكن أنا ما أقدرش أقول أنا اتجددت في اليوم الفلاني.. لكن أقول ولدني المسيح في المعمودية بالنعمة المعطاة لي.. لكن ولا كنت استحقها ولا أدرى بها.
أما وظيفتي حالياً إن أنا أخلع بإستمرار الإنسان العتيق اللي بيتراكم من الجسد ومن العالم. اللي قال عنه الرسول.. قال عنه ربنا يسوع: “اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق”. تقول لي النهاردة دلوقتي ممكن يكون فيه اختبار للقيامة؟ أقول لك آه.. اختبار للقيامة.. مش إنت عايز تقول أنا عايز النهاردة اختبار للقيامة.. هل الإنسان الداخلي الموجود فيك بيكبر؟ تقول لي وده مين يعرفه؟ أقول لك إنت.. بس تبص تلاقي ملامح حياتك الداخلية بتاخد ملامح حياة ربنا.. يتجدد حسب صورة خالقه.. طب وصورة خالقه؟.. هو حد شاف ربنا؟ أقول لك آه.. مسيحيتنا لذيذة..
لما تلاقى حياتك ابتدت تنطبق على حياة المسيح على الأرض.. الوداعة بتاعة المسيح، اللطف بتاع المسيح.. المحبة بتاعة المسيح ابتدأت تبقى في إنسانك الداخلي.. تبدأ تقول آه.. ابتدأ ينمو.. حاسس بيه يا أبونا خالص.. حاسس بالإنسان الجديد اللي بيتجدد حسب صورة المسيح.. حسب صورة خالقه.. آه أُمّال أنا اسمى مسيحي ليه؟ ما سموني مسيحى لأن الإنسان الجديد اللى إتولد فيَّ، اللي بيتجدد بالقيامة يوم فيوم هو ذلك الإنسان ده شكل المسيح. فعلشان كدة سموني مسيحي.
- فالقيامة اختبار يومي
نعيشه في حياتنا كل يوم. يمكن إذا كانت القيامة لابد أن يسبقها موت. خلع للإنسان العتيق.. علشان كدة المسيح لما وصى قال للشاب الغني: “اذهب وبع كل مالك وتعال اتبعني كل يوم حاملاً الصليب.. تعال واتبعني حاملاً الصليب.. كل يوم.. كل يوم يقصد إن كل يوم تخلع الإنسان العتيق، وكل يوم يتجدد فيك الإنسان الجديد.. حاجة لذيذة ولطيفة جدأ إن كل يوم الإنسان الجديد يكبر.. وكل يوم الإنسان العتيق يتخلع ويترمي.. آدى عملية القيامة.
فاختبارك للقيامة في حياتك اختبار يومي.. اختبار يومي علشان كدة يوحنا الحبيب يقول: “مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى، سوف لا يكون للموت التاني سلطان عليهم”.
مبارك ومقدس يا أخي إن كان لك نصيب في القيامة الأولى، سوف لا يكون لك نصيب في الموت التاني.. لا يقدر الموت التاني أن يؤذيك.. علشان كدة ربنا يسوع بعد توما ما آمن يقول: “أما هذه فكتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي يكون إذا آمنتم تكون لكم حياة أبدية باسمه”.
الإيمان بالله ـ فعاليته وثماره للمتنيح أنبا يؤانس أسقف الغربية
ما هو الإيمان ؟
العقل والإيمان – الإيمان والأمور التي لا ترى .
إيماننا المسيحي في الله وهل يتضمن عقائد محددة ؟
هل للإيمان درجات ؟
علاقة الإيمان بالحياة الروحية .
بعض ثمار الإيمان .
مشجعات الإيمان ومعوقاته …
الإيمان هو المدخل لعلاقة سليمة تقوم بين الإنسان والله … فكما يقول الرسول بولس انه بدون إيمان لا يمكن إرضاء الله . لأنه يجب أن الذي يأتي إلى الله ، يؤمن بأنه موجود، وانه يجازي الذين يطلبونه (عب ١١: ٦) … ويضيف نفس الرسول : « كل ما ليس من الإيمان فهو خطية » (رو ١٤ : ٢٣ ) … وكون عدم الإيمان خطية، فمعنى ذلك أنه لا يمكن أن تقوم علاقة بين الإنسان والله على أساس غير الإيمان …
من هنا كان الإيمان شيئاً ثميناً جداً . هكذا يعبر بطرس الرسول حينما يوجه رسالته الثانية (إلى الذين نالوا معنا إيماناً ثميناً) (۲بط ١ : ١) … وبالحق فإنه لا يوجد ما هو أثمن من الإيمان، لأن به نقترب إلى الله ، بل ونرتبط به « فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذى به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون » ( رو ٥ : ١ ، ۲) … و به يسكن المسيح قلب الإنسان. هذا ما يقوله بولس الرسول صراحة إلى أهل أفس : « ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم » (أف ۳ :۱۷) … وهو الوسيلة التي يحيا بها الأبرار (وأما البار فبالإيمان يحيا ) (عب١٠ :٣٨)، فضلاً عن أنه احدى فضائل المسيحية الكبرى الإيمان والرجاء والمحبة (۱كو ۱۳ : ۱۳ ) .
ولا شك أن الإيمان يعتبر أعظم عطية وهبها الله للبشر مجاناً ، فيه تحصل على الخلاص من عبودية الخطية والموت الأبدى …يقول رب المجد يسوع : « من آمن واعتمد يخلص ، ومن لم يؤمن يدان » ( مر ١٦ : ١٦ ) .. وحينما سأل حافظ سجن مدينة فیلبی بولس وسيلا عما ينبغى أن يفعله لكى يخلص – وذلك بعد المعجزة التي حدثت بسبب وجودهما داخل السجن كان جواب الرسولين: «آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك» (أع ۱٦ : ۳۰ ، ۳۱)… ويختم الرسول يوحنا إنجيله يقوله : « كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله . ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه » (يو ۲۰ :۳۱)… وصدق القديس امير وسيوس إذ يقول : [ الإيمان نهار دائم لا يعقبه ليل ] .
ما هو الإيمان ؟
الإيمان هو حياة يحياها الإنسان « البار بالإيمان يحيا » ، وإلا صار إيماناً نظرياً يتلخص وينحصر في اعتناق عقائد معينة يرددها الإنسان كما في قانون الإيمان … ولا فائدة للإيمان بالله بدون علاقة خاصة به، تقودنا إلى محبته وطاعته، وتؤول إلى عشرة تبدأ هنا ونستكملها فى الملكوت الأبدى … ولا فائدة للإيمان بحياة بعد الموت إن لم نعد أنفسنا لها بالتوبة والمحبة والجهاد. هذه هي حياة الإيمان. الإيمان العملى الذى يخلص النفس وتظهر ثماره في حياتنا ، وليس الإيمان النظرى الذي لا يخلص النفس بل يجلب عليها دينونة …
الإيمان ليس بالادعاء أو الانتساب أو الوراثة ، كأن يدعى الإيمان حاملاً اسم مؤمن ، أو ينحدر من أسرة مؤمنة تقية … والإيمان ليس مجرد عقيدة نظرية بل هو حياة « من ثمارهم تعرفونهم» (مت ۷ : ۱٦ -۲۰) …. وهو يختبر بحياة الطاعة لله (بهذا تعرف أننا قد عرفناه إن حفظنا وصاياه .
من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه فهو كاذب وليس الحق فيه ) ( ١ يو ٢ : ٣، ٤ ) . والإيمان بالله لا يتطلب معرفة لاهوتية ، لكنه يتطلب بالدرجة الأولى ثقة في الله وتصديقاً لأقواله ومواعيده … و يقدم لنا القديس بولس في رسالته إلى العبرانيين والاصحاح الحادي عشر، نماذج من رجال الإيمان الذين ليس بينهم فيلسوف أو لاهوتي واحد … منهم أخنوخ الذى كل ما تعرفه عنه انه (سار مع الله » ( تك ٥ : ٢٢ ، ٢٤) ، وانه ( أرضى الله ) (عب ۱۱ : ٥) … ومنهم إبراهيم الذي «لما دعى أطاع ان يخرج إلى المكان الذي كان عتيداً أن يأخذه ميراثاً فخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب » ، وقدم ابنه إسحق الذى عنه قبل المواعيد إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات » ( عب ۱۱ : ۸، ۱۷ – ۱۹ ) … وسارة وضعت في قائمة أبطال الإيمان (لأنها حسبت الذي وعد صادقاً ) (عب ۱۱ : ۱۱ ) .
يعرف القديس بولس الرسول الإيمان بأنه « الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تری » (عب ۱۱: ١) … فالإيمان والحال هذه هو ثقة في الله وكلامه المقدس واعلاناته . لذا فإن نفس الرسول بعد تعريفه للإيمان يقول : « بالإيمان نفهم أن العالمين
أتقنت بكلمة الله » (عب ۱۱ :۳). ولأن الإيمان هو ثقة مطلقة في الله وكلامه وإعلاناته ، لذا « فكل ما ليس من الإيمان فهو خطية » ( رو ١٤ : ٢٣) . لأن عدم الإيمان يعنى انعدام الثقة في الله وكلامه المعلن …
العقل والإيمان :
إن الإيمان والحال هذه ليس مجرد شعور أو إحساس أو عاطفة . كما أنه ليس دعوة مبهمة نحو أمور غامضة ، أو ارغام للنفس للتسليم بغير المنظور، وما لا يدرك بالحواس والإيمان ليس الغاء للعقل، بل هو تصديقه للحقائق الإيمانية بقبول ورضى …. لكن العقل لكى يتقبل الحقائق الإيمانية، ويذعن للإيمان بدون مقاومة أو فحص ، يحتاج إلى اتضاع فكرى من جانب الإنسان …
يقول القديس والفيلسوف المسيحي أغسطينوس :
[ إن شئت أن تبلغ إلى سمو الله ، فابحث عنه أولاً في تواضعه . اتضع إن شئت فالتواضع مفيد لك، لأن الله قد اتضع من أجلك وليس من أجل ذاته . خذ المسيح المتواضع وتعلم منه الاتضاع . وحين تأخذ تواضعه ترتفع معه … آمن بوصايا الله ، واعمل بموجبها حتى ما يعطيك القدرة على الفهم .
لا تعتد بعلمك ولا تفضله على وصية الله ، لئلا تخسر قدرتك وتضعف … المسيح يسكن بالإيمان في قلبك … تذكر شهادة الرب يسوع : « احمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك اخفيت هذه عن الحكماء والفهماء واعلنتها للأطفال » ( مت ۱۱ : ٢٥ ) … لقد اخفاها عن الحكماء والفهماء، ولم يكشفها للجهال والبلهاء ، بل أعلنها للأطفال أى المتواضعين … لا تطلب ما يرتفع في قلبك ، بل اطلب ما يستحق قلبك أن يسمو إليه .
إن تعلمت أن تفتخر بالمصلوب أخذت المجد من الملك. كثيرون رأوا الهدف وما اكتشفوا السبيل إليه وهو التوضع … لا تستكبر، فالإيمان نعمة من الله تعطى مجاناً، وليست أجراً على عمل ، بل رحمة من قبل المعطى. إيمانك هبة من الله ، وليس حقاً لك. اسمع قول الرب يسوع : « لا يقدر أحد أن يأتى إلى إن لم يُعط من أبي » ( يو ٦ : ٦٥) …. آمن فتأتي ، وأحبب فتدعى . هلم إلى المسيح ولا تخف من طول الطريق . آمن وتعال ].
وحينما يظهر العقل الخضوع ، ويقدم التسليم الكامل للحقائق التي يعلن عنها الإيمان، ففى هذه الطاعة المحبوبة، التي تتولد عن الاتضاع، يكشف الروح القدس للعقل كل ما يتعلق بهذه الحقائق الإيمانية (الروح القدس …. يعلمكم كل شيء ) (يو ١٤ : ٢٦ ) … يقود الروح القدس العقل في ضوء المعرفة الروحانية الجديدة حتى يوصله إلى الحق … قال السيد المسيح لمرثا أخت لعازر (ألم أقل لك إن آمنت ترين مجد الله ) ( يو ١١ : ٤٠ ) .
بعد ذلك يأتى دور العقل . فبعد أن يقبل الحقائق الإيمانية بخضوع وتسليم و يستنير بالمعرفة الروحانية، يستطيع أن يفحص الحقائق الإيمانية. والفحص العقلي في هذه المرحلة يزيد هذه الحقائق الإيمانية وضوحاً . ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه الحقائق الإيمانية التي يُسلّم بها العقل باديء ذي بدء هي أمور أعلنها الله . ولا أحد سواه يستطيع أن يكشفها أو يعلن عنها … فهي أمور فائقة لطبيعتنا البشرية، لأنها تختص بغير المنظور وما وراء الطبيعة … ولا يمكن للإنسان أن يصل إلى معرفتها المعرفة اليقينية بواسطة فكره وحواسه … يقول القديس بولس : (لأن من من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه . هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله . ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذى من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله . التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية ، بل بما يعلمه الروح القدس … ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه ، فأعلنه الله لنا نحن بروحه . لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله ) (۱ کو ۲ : ۱۱ – ١٣؛ ، ٩ ،١٠).
وعن العلاقة بين العقل والإيمان يقول القديس والفيلسوف أغسطينوس :
[آمن تصبح أهلاً لأن تفهم . على الإيمان أن يسبق الادراك ، ليكون الادراك جزاء الإيمان … من اللازم أن تؤمن بما تبشر به ببساطة ، لأن غاية العقل أن يناقش بدقة . بالإيمان تتحد، وبالعقل تحيا . يجب عليك قبل كل شيء أن تتحد بواسطة الإيمان لتحيا بواسطة العقل . إن لم تتحد تقاوم . وإن كنت تقاوم فلست مؤمناً . وإن كنت تقاوم فكيف تحيا . إنك تجعل نفسك
عدواً لشعاع النور الداخل فيك … يقول واحد أريد أن أفهم . من الواجب على أن أفهم حتى أؤمن . فأجيب آمن تفهم. الإيمان مرقاة، عليها تبلغ الفهم. والفهم جزاء الإيمان …. اعطاك الله عينين جسديتين وعقلاً باطنياً . ايقظ عقل قلبك، وارفع الساكن في عينيك الباطنيتين ، ليفتح نوافذه ويتأمل في خليقة الله … آمن بما لم تر من أجل الأشياء التي تراها … الإيمان يدرك ما لا يدركه العقل البشرى. وحيث يعجز العقل ينجح الإيمان . وحيث يعجز العقل ينمو الإيمان ] .
نخلص من هذا كله إلى أن للعقل تقديره ، وبه ميز الله الإنسان عن الحيوان. ومع ذلك فالعقل له حدود ، ولا يرتئى فوق ما ينبغى أن يرتئى (رو ۱۲ :۳). والأمور التي هي فوق ادراكه يجب أن يُسلّم قياده للإيمان …. فالعقل قد يوصلك إلى بداية الطريق، لكن الإيمان هو الذى يكمل معك الطريق كله إلى الله. وعلى ذلك فالإيمان لا يتعارض مع العقل لكنه يتجاوزه إلى مراحل أبعد بما لا يقاس ، ولا يستطيع العقل بمفرده أن يصل إليها …
الإيمان والأمور التي لا ترى :
في تعريفه للإيمان يقول بولس الرسول عنه انه : « الثقة بما يُرجى ، والإيقان بأمور لا ترى » (عب ۱۱ : ۱ ) .. وكلمة الإيقان من اليقين ويفيد التأكد الشديد الذي لا يأتيه الشك… وفي هذه المناسبة نقول ان ثمة فارق بين رجال الإيمان ورجال البحث العلمي … رجال الإيمان يصدقون ما لا يرى ويثقون فيه ، أما رجال البحث العلمي فإنهم يريدون أن يخضعوا كل شيء لما تقبله عقولهم … هنا نتذكر كلمات السيد المسيح لتوما بعد أن لحقه الشك عقب قيامته المجيدة : « لأنك رأيتني يا توما آمنت ، طوبى للذين آمنوا ولم يروا » ( يو ۲۰ : ۲۹ ) … لكن ما هي الأمور التي لا ترى التي يشير إليها بولس الرسول في تفسيره للإيمان ..؟
من الأمور التي لا ترى الله وصفاته « الله لم يره أحد قط » ( يو ۱ : ۱۸ ) …. وحينما يقول داود مثلاً : (تقدمت فرأيت الرب أمامي في كل حين ) ، فبلا شك ان الرؤية تمت بعين الإيمان. ومن الأمور التي لا ترى مواعيد الله . فرجال الإيمان «لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدقوها وحيوها » (عب ۱۱ : ۱۳ ) … ومن الأمور التي لا ترى انذارات الله بأمور ستحدث، كما فى حالة الطوفان وحريق سدوم وعمورة …
ومن الأمور التي لا ترى بركات الله ونعمته في داخل الإنسان ، كأن يصبح هيكلا الله (۱ کو ٣ : ١٦ ؛٦ : ١٩) … ومن الأمور التي لا ترى الخلائق العلوية ، على نحو ما حدث في حرب ملك آرام مع إسرائيل زمن اليشع النبي . فقد رأى جيحزى تلميذه جيشاً يحيط المدينة وخيلاً ومركبات. لكن حينما صلى إليشع إلى الله ليفتح عینی جیحزى، فقد رأى الجبل مملوءاً خيلاً ومركبات نار حوله ( ٢ مل ٦) . ومن الأمور التي لا ترى كل ما يتعلق بالعالم الآخر وما ينتظر المؤمنين من مجد ، والأشرار من ويلات … ومن الأمور التي لا ترى عمل الروح القدس في أسرار الكنيسة … إلخ .
إيماننا المسيحي في الله :
الله في إيمان المسيحيين ليس مجرد قوة عليا خفية غير منظورة تدير الكون وتدبر حياة البشر وحسب … لكن المسيحيين يؤمنون بإله واحد مثلث الأقانيم الآب والابن والروح القدس. ويؤمنون ان ابن الله ، الأقنوم الثاني في الذات الإلهية، في ملء الزمان تجسد وتأنس ، أى أخذ جسداً من العذراء الطاهرة مريم وصار إنساناً كاملاً ، بعد أن جعل هذا الجسد الذى أخذه من أحشاء البتول مريم واحداً مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير …
وهكذا فإن الله الذي لم يكن منظوراً في العهد القديم، صار منظوراً في المسيح في العهد الجديد (الكلمة صار ( اتخذ ) جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقاً ) ( يو ١ : ١٤ ) .
ولا تعارض بين هذا الكلام وما قاله الله لموسى النبي قديماً حينما طلب أن يرى مجده «لا تقدر أن ترى وجهى . لأن الإنسان لا يرانى و يعيش » (خر ۳۳ : ۱۸ ، ۲۰) … بل إن يوحنا الإنجيلى الذى استفتح بشارته بالكلام عن أزلية ابن الله وتجسده ، قد أكد على ذلك بقوله : ( الله لم يره أحد قط ) ( يو ۱ : ۱۸ ) …
لكن الأمر في غاية البساطة …. فالمقصود هنا بعدم امكانية رؤية الله ، عدم امكانية رؤية الإنسان للاهوت. وهذا صحيح . لذا حينما اراد ابن الله الكلمة الأقنوم الثاني، أن يتمم عمل الفداء للبشر، اتخذ جسداً اخفى به لاهوته ، وقبل فيه الآلام نيابة عن البشر…
هذه عقيدة أساسية في الإيمان المسيحى ، بها يرتبط خلاصنا وغفران خطايانا، واستحقاقنا للحياة الأبدية في السماء، ومفاعيل النعمة الإلهية بعمل الروح القدس الذى نقل وينقل للبشر بركات الخلاص من خلال أسرار الكنيسة المقدسة …
ويعلق المسيحيون أهمية عظمى على عقيدة التجسد وإيمانهم به وببركاته … فيه ( التجسد ) تباركت طبيعتنا البشرية، وصرنا شركاء الطبيعة الإلهية (٢بط ٤:١) . بل إن الكنيسة المسيحية مؤسسة على صخرة الإيمان أن المسيح هو ابن الله الحى ( مت ١٦ : ١٨ ) .
فالإيمان المسيحي هو إيمان بالتجسد والفداء والبركات التي نتجت عنهما …(من آمن واعتمد يخلص ) ( مر ١٦ : ١٦) … «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية » (يو ٣: ١٦ ) … «الذى يؤمن به ( المسيح ) لا يدان. والذي لا يؤمن به قد دین » ( يو ۳ : ۱۸ ) … ووبخ السيد المسيح اليهود قائلاً : « إن لم تؤمنوا اني أنا هو تموتون في خطاياكم » ( يو ٨: ٢٤) … المسيح فى عقيدة المسيحيين هو المخلص ، لذا فالإيمان به وبعمله الفدائى هو الذى يخلص …. قال بولس وسيلا الحافظ السجن في مدينة فيلبي حيث كانا مسجونين: (آمن بالرب يسوع فتخلص أنت وأهل بيتك» (أع ١٦ : ٣١) … ومن أجل الإيمان بيسوع المسيح المخلص كتبت الأناجيل وكرز بها ، وكتبت رسائل الرسل …. يقول يوحنا في خاتمة إنجيله : «أما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ، ولكى تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه » (یو ۲۰ : ۳۱).
هل يتضمن الإيمان المسيحى عقائد محددة ؟
نتساءل ، هل الإيمان المسيحى مجرد إيمان ساذج بشخص الرب يسوع المسيح و خلاصه، قوامه حياة التعبد والتقوى الخالصة، ولا شيء غير ذلك ؟ والا توجد عقائد إيمانية محددة في نطاق هذا الإيمان المسيحي ؟
الحق ان القول بعدم وجود عقائد محددة في نطاق الإيمان المسيحى فهم خاطيء للمسيحية الأصيلة وإيمانها المسلم مرة واحدة للقديسين (يه ٣) … فالكنيسة منذ البداية – منذ عصر رسل المسيح – كانت لها – إلى جانب الإيمان المسيحي العام عقائد إيمانية أساسية محددة، صاغتها فى قانون إيمان عرف باسم قانون إيمان الرسل، حفظه كل راغب فى نوال سر العماد المقدس، وكان يعلنه لحظة عماده ، متعهداً التمسك به … ولما ظهرت البدع والهرطقات فى عصور لاحقة ، صاغت الكنيسة في مجامع مسكونية قانون الإيمان الذي يؤمن به كل مسيحي، والذي مازلنا نردده حتى الآن، ونعلن به عن حقيقة إيماننا …
يقول أحد أساتذة اللاهوت غير الأرثوذكسى : [ إن تصوير المسيحية الأولى على أنها مجرد طريق للحياة بدون عقيدة لاهوتية – على نحو ما تصورها العظة على الجبل، ولا شيء غير ذلك – أمر ليس فيه انصاف ، ولا تؤيده الأسانيد التاريخية. لقد وجد منذ البداية إيمان عام واحد، كثيراً ما أشار إليه العهد الجديد تحت اسم « التقليد » (۱کو ۱۱ : ۲ ) ، ( صورة التعليم التي تسلمتموها)( رو ٦ : ١٧) «تعليم الرسل» (أع ٢ : ٤٢ ) ، ( صورة الكلام الصحيح ) (۲تي ۱ : ۱۳)، «الإيمان المسلم مرة للقديسين » (يه ٣)] . وقد دافع رسل المسيح عن هذه العقائد المسيحية في نطاق الإيمان الواحد ، وحاربوا الخارجين عنها ، الذين وصفوا بأنهم (يدسون بدع هلاك ) (۲ بط ۲ : ۱). بل أمر يوحنا الرسول المؤمنين بمقاطعتهم تماماً حتى لا يصيروا شركاء في أعمالهم الشريرة (٢يو ۱۰ ، ۱۱ ) .
الإيمان العامل بالمحبة :
هناك نوعان من الإيمان : الأول إيمان عقلى نظرى يشترك فيه ملايين الناس ، بل وحتى الشياطين يشتركون معهم فيه …. يقول يعقوب الرسول : «أنت تؤمن أن الله واحد، حسناً تفعل. الشياطين يؤمنون و يقشعرون» (يع ۲: ۱۹). هذا الصنف من الإيمان هو ما يصفه هذا الرسول بأنه : « ميت في ذاته » (يع ۲ : ۱۷ ) …
والنوع الثاني إيمان عملى، وهو ثمين ونادر عن هذا النوع قال السيد المسيح : (الحق أقول لكم ، لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل ، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم)(مت ۱۷ :٢٠) . وعنه كتب الرسول بولس إلى أهل غلاطية : (لأن في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة ، بل الإيمان العامل بالمحبة ) (غل ٥ : ٦) … والمعنى الحرفي الدقيق « للإيمان العامل بالمحبة » انه هو الإيمان الذي يعبر عن ذاته بالمحبة ، أو الذي يعمل من خلال المحبة … لأن الإيمان إن لم يعبر عن ذاته ووجوده في الإنسان صار إيماناً نظرياً لا قيمة له .
وبتعبير آخر هو إيمان ميت … فالمؤمن الحقيقي سلوكه في توافق تام مع إيمانه . وليس في تصرفه تناقض البتة مع عقيدته . كما يكثر من أعمال المحبة لأن إيمانه حى… فالإيمان الحي هو إيمان عامل …وأما الإيمان الذي لا يعمل فهو إيمان ميت لا قيمة له ( الإيمان بدون أعمال ميت )( يع ۲: ۲۰) وفي كل مرة يذكر الكتاب المقدس الإيمان، إنما يعنى الإيمان العامل بالمحبة …
وموضوع لزوم الأعمال الصالحة لخلاص الإنسان مع الإيمان هو مثار جدل عقيدي، لكننا لن نتعرض لهذا الجدل هنا … لكن نقول ببساطة إن الأعمال الصالحة هي بمثابة ثمار للإيمان الحى، والشجرة تعرف من ثمارها . وكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى فى النار هكذا قال رب المجد في عظته الخالدة على الجبل (مت ۷ : ۱۹ ) … و يعقوب الرسول يتساءل : ( ما المنفعة يا اخوتى إن قال أحد إن له إيماناً ، ولكن ليس له أعمال . هل يقدر الإيمان أن يخلصه ) ( يع ٢ : ١٤ ) . و يستطرد الرسول قائلاً : «ترون إذا انه بالأعمال يتبرر الإنسان لا بالإيمان وحده» (يع ٢ : ٢٤)…
يقول رب المجد : « إن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته ، وحينئذ يجازي كل واحد حسب أعماله » (مت ١٦ : ۲۷) … كما يقول : «تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته . فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة » ( يو ٥ : ۲۸ ، ۲۹ ) … والقديس بولس يتكلم عن الله الذي (سيجازى كل واحد حسب أعماله ) ( رو ٢ : ٦ ) …. كما يقول : «لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها » ( أف ۲ : ۱۰ ) … ويختم رب المجد يسوع المسيح على كتاب العهد الجديد في الرؤيا التي أعلنت ليوحنا و يقول : « ها أنا آتي سريعاً وجزائي معى لأجازى كل واحد كما يكون عمله » ( رؤ ۲۲ : ۱۲ ) .
هل للإيمان درجات ؟
يقول القديس بولس الرسول : « فإنى أقول بالنعمة المعطاة لى لكل من هو بينكم أن لا يرتئى فوق ما ينبغى أن يرتئى ، بل يرتئى إلى التعقل كما قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان » ( رو ۱۲ : ۳ ) . لعل هذا النص يوضح أن الإيمان يتفاوت من إنسان إلى آخر. وأن الأمر ليس كما يصوره البعض حينما ينسبون عدم الإيمان إلى ضعيف الإيمان . أو يقولون إن هذا مؤمن وذاك غير مؤمن !!
فالرسول بولس في معرض حديثه عن الأسقف يشير إلى حداثة الإيمان ، فيشترط فيمن يختار لدرجة الأسقفية ألا يكون «حديث الإيمان » (۱ تي٣ : ٦) … والمسيح له المجد أشار إلى ضعاف الإيمان أو قليلي الإيمان . ففيما يتكلم عن طيور السماء التي لا تزرع ولا تحصد وكيف أن الله يعتنى بها وزنابق الحقل وكيف يكسوها الله جمالاً قال : « أفليس بالحرى جداً يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان » (مت ٦: ۳۰). ووبخ بطرس حينما لحقه الشك وهو يمشى على الماء بناء على أمر السيد بقوله : « يا قليل الإيمان لماذا شككت » ( مت ١٤ : ٣١) … كما وبخ التلاميذ في السفينة لما خافوا من الأمواج بقوله لهم : (ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان )…وهنا نلاحظ أن الخوف والشك من مظاهر قلة الإيمان .
ويشير بولس الرسول إلى نوع رابع يسميه « ضعيف الإيمان » ( رو ١:١٤) وذلك في معرض حديثه عمن يعثر من أكل ما يذبح للأوثان . وهناك عينة من الناس إيمانهم غير مطلق أى محدود …. ومن أمثلة ذلك مريم ومرثا اللتان كانتا تؤمنان أن المسيح يقدر أن يشفى فقط ، هذا أقصى ما وصل إليه إيمانهما « يا سيد لو كنت ههنا لم يمت أخي » (يو ۱۱ : ۲۱ ، ۳۲) . وهناك عينة أخرى إيمانها بطيء نتيجة عدم الفهم والمعرفة . ومن أمثلته تلميذا عمواس اللذان قال لهما المسيح : (أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء ) ( لو ٢٤ : ٢٥) .
وثمة عينة أخرى من الناس إيمانهم فى حالة نمو . فيكتب بولس الرسول إلى أهل تسالونيكي شاكراً الله من جهتهم لأن إيمانهم ينمو كثيراً (۲تس ١: ٣) …و يكتب لأهل كورنثوس يصفهم بأنهم يزدادون في كل شيء في الإيمان والكلام والعلم وكل اجتهاد (۲کو ۸ :۷).
وهناك عينة أخرى من الناس يوصفون بأنهم مملوؤن من الإيمان كاستفانوس (أع ٦: ٥، ٨).
وأخيراً فهناك ذوو الإيمان الميت كما يصفهم يعقوب الرسول ( يع ٢ : ١٧ ) …. ومن يرتدون عن الإيمان كلية …. لكن الروح يقول صريحاً انه « في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان تابعين أرواحاً مضلة وتعاليم شياطين » ( ١ تي ٤ : ١ ) …
علاقة الإيمان بالحياة الروحية :
ولأن الإيمان المسيحي مفروض فيه أن يكون إيماناً عاملاً بالمحبة ، فلا بد وأن يكون وثيق الصلة بحياة الإنسان الروحية، أو كما يدعوه القديس أغسطينوس : [ رأس الحياة الصالحة ] … يقول أحد الآباء : [ إنى أعتقد أن لا شيء ينمى روحنا بقوة وسرعة، أكثر من الإيمان وحده. ولا أقصد بالإيمان، الإيمان النظري بوجود الله ، بل الإيمان الحي القائم في الداخل … ذلك الإيمان الذى يجعل النفس قادرة أن تؤمن ، وتشهد بإمكان اكتسابها في هذا الدهر حالة القديسين المغبوطة ] …
في الإيمان الحقيقي يكون الإنسان خاضعاً لإيمانه ، لا الإيمان خاضعاً للإنسان ،يتغير تبعاً لأهوائه وحالته النفسية وأفكاره … إلخ . وعندما يخضع للإيمان، يعمل على تطهيرنا تدريجياً، فنحن بالإيمان تتغير وتنمو، بل بالإيمان تتجاوز أنفسنا …
وتقدم بعض الأمثلة على ذلك :
أ – الإيمان يؤثر على وعى الإنسان وإرادته …. فالأهواء والشهوات تستعيد الإنسان. ومن يخضع لها يصبح بصورة ما غير خاضع للعقل، بل يأتي أفعالاً لا عقلانية … له عقل ولكنه يجعله في خدمة أهوائه، إذ تستعيد الأهواء العقل فيعمل ويفكر في خدمتها … وهنا فإن العقل يبرر الأهواء المنحرفة أو كما يقال : «العقل خادم أمين للنفس » ويقصد بالنفس شهواتها وميولها المنحرفة …
أما الإيمان فهو يثبت العقل ، ويلقى فيه بذار زرع مقدس جدید ، به يقاوم الإنسان تجربة إشباع الأهواء واخضاع كل شيء لها … وبالجملة فإن الإيمان يرقى الإرادة ويسمو بها … يقول القديس اغسطينوس : [ لن تحيا حياة صالحة إلا إذا بدأت تؤمن. ومنى رعيت الإيمان زيد لك الباقي …. إن كل عمل مستقيم يأتيه إنسان لا يمكن أن يكون مستقيماً إذا لم يرتبط بتقوى الله . وإذا لم يكن الإيمان سابقاً ، فلا صلاح في الحياة … اسمع الرسول (بدون إيمان لا يمكن إرضاء الله) (عب ۱۱ : ٦) .. إن لم يستقم إيمانك فلست باراً، لأن البار بالإيمان يحيا] …
ب – والإيمان وثيق الصلة بالصلاة …. يقول القديس أغسطينوس عن علاقة الإيمان بالصلاة : [ إن لم يكن فيك إيمان، فلا مجال للصلاة. إذ كيف تصلى لمن لا تؤمن به الإيمان هو ينبوع الصلاة. ويُظهر الرسول ان الإيمان هو ينبوع الصلاة بقوله : « كيف يدعون بمن لم يؤمنوا به » (رو ١٠ : ١٤). والنتيجة : آمن لكي تصلى، وصل حفاظاً على إيمانك الذى به تصلى الإيمان يفيض صلاة. والصلاة المُفاضة تقوى الإيمان] … إذا كان هذا الكلام عن الصلاة بوجه عام، فإن الإيمان وثيق الصلة بالصلاة المقتدرة المقبولة …. يقول رب المجد : « كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالون » (مت ۲۱ : ۲۲ ) … (لذلك أقول لكم كل ما تطلبونه حينما تصلون ، فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم) (مر ۱۱ : ٢٤) ،ولذا يقول يعقوب الرسول : «صلاة الإيمان تشفى المريض والرب يقيمه » (يع ٥ : ١٥)
ج – والإيمان يولد فينا الصبر … وما يناله الإنسان بالصبر لا يستطيع أن يناله بوسيلة أخرى. يقول يعقوب الرسول : «احسبوه كل فرح يا اخوتى حينما تقعون في تجارب متنوعة . عالمين أن امتحان إيمانكم ينشيء صبراً، صبراً .. وأما الصبر فليكن له عمل تام لكي تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين في شيء » (يع ٢:١-٤).
د – والإيمان يمنحنا قوة زمن التجارب والشدائد … بقدر ما يضعف إيماننا بقدر ما تقوى علينا التجربة. وبقدر ما يكون إيماننا ثابتاً ووطيداً بقدر ما تقاوم التجربة وننتصر عليها … الإيمان النقى يحيا وسط التجارب وضيقات هذا العالم العالم يهتز، أما الإيمان فلا يتزعزع، بل هو الإيمان الراسخ كما يدعوه بطرس الرسول : (اصحوا واسهروا لأن ابليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو فقاوموه راسخين في الإيمان ) (۱ بط ٥: ٨، ٩)…
بالإيمان يعرف الإنسان انه ليس وحده في حروبه وجهادته …. الإيمان يقوى ثقة الإنسان في جهاده، ويقوى رجاءه فى الله. إن مسبحنا دعى « عمانوئيل » أى (الله معنا ) . وإن كان الله معنا فمن علينا ( رو ۸: ۳۱) .
هـ – إن الإيمان يزيدنا ثقة في تصديق مواعيد الله التي تملأ أسفار الكتاب المقدس …. كل مواعيد الله هى لنا، وننالها بالإيمان … الإيمان بمن ؟ « برئيس الإيمان ومكتله يسوع » (عب ۱۲ :۲)…. وتعبير (رئيس الإيمان) يعنى بدء الإيمان، وعلى ذلك فإن المسيح هو أساس إيماننا ، وبدء إيماننا ، ومكمل إيماننا …. وبالإیمان به ننال كل شيء حسب مواعيده الصادقة، إن حفظنا وصاياه، وعشنا في طاعة الإيمان الله ولكنيسته (عمود الحق وقاعدته ) (۱ تي ٣: ١٥ ) .
و – وبالجملة فإن الإيمان له صلة بنواحي كثيرة فى حياة الإنسان الروحية …
فمثلاً الإنسان يستحى أن يخطيء أمام إنسان كبير في مقامه ، كما يترفع عن الخطأ أمام من هو أدنى منه احتراماً لذاته … وهكذا فإن الناس يرتكبون الخطايا في الخلفاء، لذا قيل عن الخطاة انهم : (أحبوا الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة) (يو ٣ :١٩)… إذن فالإنسان يخجل أو يخاف من إنسان يراه إنساناً يخطى .. إن الإيمان يجعلنا نحس أننا فى حضرة الله دائماً وانه يرانا. هذا ما حفظ يوسف الصديق في تجربة امرأة فوطيفار، وهذا ما يحفظنا نحن أيضاً، وما يمنح القلب اتضاعاً .
إن آمنا بالأبدية فلنضعها أمامنا انها تعطى ضمائرنا يقظة ، وإن كنا نؤمن بمحبة الله فلنحرص ألا نجرحها . فأشد الجروح هي التي يجرح بها الله في بيت أحبائه (زك (۱۳ : ٦) … وإن آمنا بالفضيلة كمنهج لحياتنا فلنسلك في طريق التقوى والفضيلة . وإن آمنا بفناء العالم وتفاهته ترفعنا عن الخطأ . إن الإيمان يدفعنا إلى الزهد في العالم (الذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه لأن هيئة هذا العالم تزول)(۱کو ۷ : ۳۱) … وبالإيمان نغلب العالم بكل ما فيه « وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم إيماننا » ( ١ يو ٥ : ٤ ) .
بعض ثمار الإيمان :
للإيمان ثمار روحية كثيرة ومباركة منها حياة التسليم ، والسلام والفرح ، والرضا والشكر، والتغلب على الصعاب …
١ – حياة التسليم …
تأتي كثمرة للإيمان … إذا كان الإيمان بالله هو الثقة به ، فإن هذا الإيمان ، أو بالتالي الثقة تقودني إلى تسليم حياتى الله الذى أثق به … وما لم تتوفر الثقة لا يمكن أن يكون هناك تسليم … إنه طاعة الإيمان .
المؤمن يسلم حياته الله بلا تحفظ ولا شروط أو ضمانات …. انه واثق في محبته وحكمته وقدرته . كثيرون لا يسلمون الله إلا إذا فشلت أساليبهم البشرية . ليس هذا هو الإيمان. إنما هو الاضطرار إلى الله. يقول السيد المسيح : «بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئاً » (يو ١٥ : ٥) . إن اخطر ما يهدد حياة الإنسان الروحية هو محاولة العمل مستقلاً عن الله ، والاعتماد على فكره وتدبيره بعيداً عن مشورة الله . انه لا يرى انه محتاج لأن يُشرك الله معه في العمل … لقد وهب الله الإنسان العقل والإرادة ، لكن ليس ليستقل بهما عنه … يقول الحكيم : « وعلى فهمك لا تعتمد » ( أم ٥:٣) … إن خطية الإنسان الأولى كانت محاولة الحصول على المعرفة بعيداً عن الله .
والمؤمن الحقيقي لا يكتفى بالاعتماد على الله بل يسلمه كل شيء، لأن معرفة الإنسان جهالة عند الله (۱کو ۱ : ۲۰ ) … والمعرفة الحقيقية هي من عند الله المذخر فيه كل كنوز الحكمة والعلم » ( كو ۲ : ٣) … إن حياة التسليم تعنى اعتراف الإنسان بعدم معرفته .
وحياة التسليم لا تعرف الشكوى والتذمر بل تقبل كل شيء برضى وفرح وشكر. ومن يحيا حياة التسليم لا يخضع لمشيئة الله في تغصب واضطرار وحزن ، بل انه من أعماقه يهتف برضى : « لتكن مشيئتك»، لأن ما أبعد احكامك عن الفحص وطرقك عن الاستقصاء ( رو ۱۱ : ۳۳) .
ونسوق بعض أمثلة لرجال الله الذين عاشوا حياة التسليم الكامل .
نوح لما أمره الله أن يصنع فلكاً لأنه آت بطوفان الماء على الأرض ليهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء . كل ما في الأرض يموت (تك ٦ : ١٧) ، أطاع نوح وفعل حسب كل ما أمره به الله هكذا فعل (تك ٦ : ٢٢ ) … في تسليم كامل بنى الفلك عن أمر لا يرى له أثراً أمامه ( عب ١١ : ٧) .
وإبراهيم لما دعاه الله أن يخرج من أرضه وعشيرته وبيت أبيه إلى الأرض التي يريه إياها ( تك ۱٢ : ١) لم يعترض بل أطاع في تسليم كامل ( وخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب ) (عب ۱۱ : ۸) … ومرة ثانية حينما امره الله أن يقدم ابنه وحيده اسحق ذبيحة أطاع في تسليم كامل رغم أن الله وعده انه باسحق هذا يدعى له نسل بالإيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مجرب . قدم الذي قبل المواعيد وحيده ، الذي قيل له إنه باسحق يدعى لك نسل » (عب ۱۱ : ۱۷ ، ۱۸ ) … وإبراهيم لما أرسل عبده لعازر الدمشقى ليأخذ زوجة لابنه إسحق قال له : « الرب إله السماء الذي أخذني من بيت أبي ومن أرض ميلادى والذى كلمني والذي أقسم لي قائلاً لنسلك أعطى هذه الأرض، هو يرسل ملاكه أمامك فتأخذ زوجة لابنى من هناك (تك ٢٤ : ٧) .
وموسى في عبوره وشعب الله البحر الأحمر سلك في طاعة كاملة الله في أمر خارق للطبيعة، إذ كيف يتحول الماء إلى يابس ( خر ١٤ ) … ورحلة شعب الله في البرية مدة أربعين سنة مثال لحياة التسليم فلم يفكروا إلى أين هم ذاهبون، أو ماذا يأكلون وكيف يشربون ، وماذا سيلبسون في هذه الرحلة الطويلة !!
والعذراء الطاهرة مريم مثال لحياة الطاعة والتسليم . فمع كل محبتها الحياة البتولية قبلت أن تخطب لرجل هو يوسف وتعيش معه في بيت واحد … وحين بشرها الملاك بالحبل الإلهى قالت فى تسليم : (ليكن لى كقولك ) ( لو ۱ : ۳۸) .
والتسليم والطاعة يظهران في حياة رسل المسيح وتلاميذه … فلاوى الجالس عند مكان الجباية حينما قال له السيد المسيح «اتبعني» ، قام وتبعه ( مر ٢ : ١٤؛لو ه: ۲۷) … و يلخص بطرس الرسول كل هذه القصص بقوله للرب : « ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك ، فماذا يكون لنا » (مت ۱۹ : ۲۷ ؛ لو ۱۸ : ۲۸) .
ومن أمثلة حياة التسليم يوسف الصديق الذي – رغم الأحلام وكل ما صادفه من شدائد – لم يشك بل كان يسلم الله .
ومن أمثلة حياة التسليم داود الذي كان يرعى غنم أبيه ، وأرسل الله صموئيل ومسحه ملكاً ، لكنه لم يُسلّمه من الملك شيئاً . وبقى يرعى الغنم دون تذمر. ثم اختير خادماً لشاول الملك المرفوض من الله الذي كان يبغته روح رديء من قبل الرب ( ١ صم ١٦ : ١٤) … لم يحتج داود ولم يقل أنا الملك المختار من الله ، كيف اخدم هذا المرفوض . بل فى تسليم كامل قبل الوضع . وكان يهدىء شاول الملك حينما تبغته الأرواح الشريرة … وظل شاول يطارد داود من برية إلى برية يحاول قتله حسداً وغيرة . ولم يحدث أن داود اعترض على الله ، ولم يقل له مثلاً ماذا فعلت من شر حتى استحق كل هذا ، بل انتظر في هدوء خلاص الرب… لقد كان لله حكمة في كل ذلك . فلقد كان داود صبياً حين اختياره ومسحه ملكاً . وكان الانتظار نافعاً له حتى يكبر و ينضج ويزداد الناس حباً له يوماً بعد يوم .
إن حياة التسليم الكامل – بدون أدنى مبالغة – هي حياة الكمال المسيحي … ففيها يكون الله هو العامل بالإنسان وفيه … وهذا ما يعينه الرسول بولس بقوله : « مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في . فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان – إيمان ابن الله الذى أحبنى واسلم نفسه لأجلى » (غل ۲ : ۲۰ ) … في هذه الحالة لا يتمم الإنسان مشيئته بل يصبح آلة بر يتمم بها الله مشيئته تشبهاً برب المجد الذي قال : (نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني ) ( يو .(٣٨:٦ ).
٢- حياة السلام والفرح
السلام يصاحب الإيمان . فالشخص الذى يحس انه وحده يخاف ، أما من يؤمن أن الله معه فلا يخاف (إن حاربني جيش فلا يخاف قلبی ) (مز ۲۷ : ٣) … « إن سرت في وادى ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معى » (مز ٢٣ : ٤ ).
إن السلام والفرح هما ثمرتان حلوتان من ثمار الإيمان … يقول القديس بولس لأهل رومية : « فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون » (روه : ۱، ۲) … ويقول القديس بطرس (يسوع المسيح الذى وان لم تروه تحبونه . ذلك وان كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد ) ( ۱ بط١: ٧، ٨) … وحافظ السجن فى فيلبى بعد أن آمن واعتمد على يد بولس وسيلا (أصعدهما إلى بيته وقدم لهما مائدة ، وتهلل مع جميع بيته إذ كان قد آمن بالله ) ( أع ١٦ : ٣٤ ) .
في صلاة الشكر التي نتلوها فى صلواتنا الفردية والكنسية ، نذكر ثلاث صفات الله : فهو صانع خيرات، وهو ضابط الكل أى كلى القدرة، وهو محب للبشر … إن الإيمان بالله وبصفاته هذه يمنحنا سلاماً وفرحاً …
إيماننا بأن الله صانع خيرات معناه أنه لا يستطيع أن يصنع إلا خيراً، ولا يمكن أن يصنع شراً بأحد، لأن الشر لا يتفق وطبيعته … ثم هو يريد أن يصنع بك خيراً لأنه محب للبشر. وهو قادر على ذلك لأنه قادر على كل شيء. وغير المستطاع عند الناس مستطاع عنده … إذا آمنت بهذا حقاً عشت مطمئناً ، واثقاً من أن الله سوف يدير لك كل ما هو صالح ونافع . وسوف لا يلحق بك إلا ما هو مفيد ونافع لك . عندئذ يملك السلام على قلبك، ويزول منك القلق، ويغمرك فرح عظيم، لأنك واثق بمن بيده حياتك.
أما ان وقعت فى القلق والخوف ، فاعلم أن إيمانك ليس راسخاً . ومن ضعف إيمانك تخاف كما خاف بطرس وهو يشى على الماء بأمر السيد المسيح. وحينما أحسن بقدميه تغوصات في الماء صرخ : «يارب تجنى» . قمد الرب يسوع يده وأمسك به وقال له : (يا قليل الإيمان لماذا شككت) مت ١٤ : ٣٠، ۳۱) .
وإذا قلت إنك لا تخاف الله إنما تخاف الشياطين والأرواح الشريرة وشرورها، فاعلم يقيناً أن هذه مجرد مخلوقات خاضعة الله، ولا يمكن أن تصنع شيئاً إلا في حدود ما يسمح به الله. وهذا واضح من قصة أيوب وتجربته (أي ١، ٢).
ومن أمثلة السلام وعدم الخوف لقاء داود مع جليات – يقول داود : لا تن هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يغير صفوف الله الحي لا يسقط قلب أحد بسيه وقال داود تجليات : «أنت تأتى إلى بسيف ورمح وبترس. وأنا أتى إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم. هذا اليوم يحبسك الرب في يدى فأقتلك واقطع رأسك، وأعطى جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء وحيوانات الأرض. فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل. وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب لأن الحرب للرب وهو يدفعكم ليدنا » (١صم ٢٦:١٧، ٠٣٢ ٤٥-٤٧ ) .
ومن أمثلة السلام وعدم الخوف لقاء إيليا بآخاب ملك إسرائيل ، فبعد أن أغلق إيليا السماء بصلاته فلم يسقط مطر ولا طل على الأرض مدة ثلاث سنين ونصف، أمر الرب إيليا أن يذهب ويتراءى لآخاب حتى يعطى مطراً على الأرض. وما أن التقى آخاب بإيليا حتى قال له : (أنت هو مكدر إسرائيل ، فقال لم اكدر إسرائيل، بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب وبسيرك وراء البعليم)(١ مل ١٧، ١٨) لنتأمل ثبات إيليا وعدم خوفه من الملك نتيجة السلام الذي يغمر قلبه نتيجة إيمانه بالله الذي كان يحس دائماً انه واقف أمامه…
ومن أمثلة السلام الثلاثة فتية الذين أمر نبوخذنصر ملك بابل بإلقائهم في أتون نار مُحمّى سبعة أضعاف … كان تحدى الملك لهم بقوله : « من هو الإله الذي ينقذكم من يدى …. أما الثلاثة فتية فكان ردهم على هذا الكلام : « هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك » (دا ۳: ١٥ : ۱۷).
ومن أمثلة عدم الخوف والسلام نتيجة الإيمان ، دانيال الذي القاه الملك في جب الأسود. ولما ذهب الملك فى صباح اليوم التالى ليرى ماذا حدث لدانيال وناداه بصوت اسيف كان جواب دانيال : « أيها الملك عش إلى الأبد. إلهى أرسل ملاكه وسد أفواه الأسود فلم تضرني لأني وُجدت بريئاً قدامه وقدامك أيضاً أيها الملك لم أفعل ذنباً » (دا ٦ : ۲۱ ، ۲۲).
ومن أمثلة السلام أيضاً نتيجة الإيمان القديس بطرس الرسول في السجن … كان هيرودس مزمعاً أن يقتله فى اليوم التالى، أما بطرس فكان في تلك الليلة « نائماً بين عسكريين مربوطاً بسلسلتين … وهذا موقف يدل على نفس مملوءة من السلام ولا أثر للخوف فيها . أما بقية القصة فنحن نعلمها ، وكيف أخرج ملاك الرب بطرس من السجن : ايقظه فسقطت السلسلتان من يديه وسار خلف الملاك وإذا بباب السجن ينفتح لهما من ذاته (أع ١٢).
٣- الرضا والشكر :
الإنسان المؤمن يعيش فى رضى . هو راض دائماً بحالته التي سمح الله له أن يوجد فيها ، لأنه مؤمن بأنه لا توجد حالة أخرى أصلح له مما هو فيه … لأنه لو كانت توجد حالة أفضل لكان الله – كصانع للخيرات وعالم بكل شيء – قد نقله إليها . لأن الله الذي قال على فم يعقوب الرسول : « من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية له » (يع ٤ : ١٧ ) ، ألا يُنفذ هو هذه الوصية على ذاته الإلهية ؟!
ورجل الإيمان يعرف أيضاً أن الله كحكيم ، إن أراد أن ينقله إلى حالة أفضل، يختار لذلك الوقت المناسب الذى يعرفه هو بالأكثر، ويختار الظروف المناسبة لصالحه … ولذا فإنه يعيش فى رضى بحاله، إيماناً منه بمحبة الله وحكمته . وهو لذلك يشكر الله دائماً على كل حال ومن أجل كل حال وفي كل حال. ويتطور به الشكر حتى لا يصبح مجرد ألفاظ في الصلاة ، وإنما هو شعور دائم في القلب يفيض فرحاً وسعادة كل حين .
٤- التغلب على الصعاب :
الإنسان المؤمن لا يوجد شيء يقف أمامه ، ولا توجد صعوبة مهما بلغت تحول دونه وبلوغ ما يريده، وهو لابد وأن يكون أمراً صالحاً … الإيمان يصنع المعجزات ، ويجترح الآيات … إنه ينتصر على قوى الشر « إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو. فقاوموه راسخين في الإيمان » ( ۱ بط ٥: ٨، ٩ ) ….. و يكتب يوحنا في رسالته الأولى عبارة جامعة عن قوة الإيمان ، يقول : ( وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم إيماننا . من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله ) ( ١ يو ٥ : ٤ ، ٥) . وغلبة العالم هنا تشير إلى النصرة في كل شيء، وعلى كل شيء … إن هذا الكلام – كما ينطبق على الأفراد ينطبق أيضاً على الكنيسة التي ثبتت بإيمانهم إزاء كل المحاولات الغاشمة لتحطيمها ومحو الإيمان المسيحي .
مُشجعات الإيمان ومعوقاته :
الايمان كأى فضيلة ينمو ويقوى ويتدرج ، كما انه يضعف أحياناً وينحل . مقويات ومشجعات كما ان له أيضاً أسباباً تضعفه ، علماً ان لكل إنسان له في كل مرحلة من مراحل حياته درجة إيمان خاصة …
أولاً – مشجعات الإيمان :
من مشجعات الإيمان المعرفة والبساطة والقراءة عن عجائب الله في قديسيه ، والجرأة ( الشجاعة ) والصلاة …
أ – المعرفة :
يقول مار إسحق إن هناك نوعين من المعرفة . إحداهما تسبق الإيمان، والأخرى تأتى نتيجة له … فالإنسان بحسب معرفته وصفاته وقدرته العقلية يؤمن بالله ويتكل عليه ، وإذ يدخل في حياة الإيمان العملية، وتمر عليه تجارب وخبرات ، وهو ثابت يرى معونة الله له في الضيقات والأحزان المتنوعة، حينئذ يكتسب من خبرات إيمانه لوناً آخر من المعرفة العملية غير تلك المعرفة النظرية التي بدأ بها … وهذه المعرفة الأخيرة أقوى وأثبت. وهي تشجعه وتنميه أكثر فى الإيمان. وهكذا كلما تزداد معرفته العملية يزداد إيمانه. وكلما يزداد إيمانه يُلقى بنفسه في أمور أعلى، وخبرات أصعب، تزداد بها معرفته، ويزداد بها إيمانه أيضاً .
ب – البساطة :
وإذا كانت المعرفة من مشجعات الإيمان ، فالبساطة أيضاً تشجعه . ولا تعارض هنا بين المعرفة والبساطة . فالمعرفة الإيمانية لا تتنافى مع البساطة ، بل هي أيضاً بسيطة … ونقصد بالبساطة هنا بساطة الإيمان في بعده عن شكوك العقل ودوام تساؤله : لماذا وكيف ؟!… فرجل الله الذى فى بساطة يؤمن أن الله قادر على كل شيء، لا يسمح للحكمة البشرية – التي هي جهالة عن الله – أن تضعف إيمانه . فالله فرق هذه الحكمة، وفوق كل علم بشرى، ويستطيع ان يعمل أشياء كثيرة تفوق العقل . فكيف نجعل هذا العقل المحدود حاجزاً أمام الإيمان بها ؟!
ج – القراءة عن عجائب الله في قديسيه :
مثل هذه القراءة تقوى الإنسان وتشجعه ، وتلهب قلبه بالإيمان حتى يتكل على الله ويثق به. وعلى الإنسان فى كل أمر يمر به أن يتلمس يد الله فيه . ربما حدث أمر واحد لشخصين أحدهما يحلله عقلياً محاولاً أن يرجعه إلى أسباب طبيعية أو شخصية أو نتائح منطقية أو محض الصدفة . مثل هذا الإنسان لا يستفيد من هذا الأمر روحياً. أما الشخص الثاني فيأخذ الأمر من الناحية الإيمانية ويرجعه إلى عمل النعمة فيه . وهكذا يزداد إيمانه .
و -الجرأة والشجاعة :
هناك أمور إيمانية تحتاج إلى شجاعة وجسارة قلب . ونقصد بها جسارة القلب المبنية على الثقة بالله وتصديق مواعيده …. الرجل الخائف يجين على الدخول فيها ، فيظل إيمانه على ضعفه . ويظل واقفاً على شاطيء البحر الأحمر خائفاً من أن يضع قدمه في الماء لثلا يغرق. وإنسان آخر لا يخاف فيلقى بنفسه في الأمور الصعبة – في إيمان . فيكتسب إيماناً جديداً عملياً. وهكذا (فإن من له سيعطی ویزاد)(مت ۱۳ : ۱۲). لكن الله لا يترك ضعاف الإيمان في ضعفهم ، بل يُدرجهم في هذا السبيل . إن كانوا لا يستطيعون الاتكال عليه في الأمور الخطرة، ولا حتى في الأمور الصعبة ، فإنه يبدأ معهم بأمور سهلة .
هـ ـ الصلاة :
اشرنا ونحن نتكلم عن علاقة الإيمان بالحياة الروحية – أشرنا إلى الصلاة … ونضيف إلى ما قلناه هنا ، إنه قد يضعف إيمان الإنسان، فإما أن يتراخي فيخسر اكليله، وإما أن يشعر بضعفه فتنسحق نفسه في داخله ويطلب من الله المعونة . وكما يقول مار إسحق : [ إذا اتضع الإنسان ففى الحال تحيط به النعمة، فيحس القلب بالمعونة الإلهية، ويمتلىء القلب بالإيمان ] … لذلك يجب على الإنسان أن يطلب من الله باستمرار أن يعطيه إيماناً ، وأن يقوى هذا الإيمان، لأن الإيمان قبل كل شيء هو هبة من الله ، وليس عملاً بشرياً « لا يقدر أحد أن يقبل إلى إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني » (يو ٦ : ٤٤ ) … كذلك فى كل عمل تعمله ابدأ بالصلاة، حتى إذا ما اعانك الله واتممته تفرح بمعونة الله ويزداد إيمانك به . أما إذا عملت عملاً بدون صلاة ونجحت فيه، فقد تنسب نجاحك إلى مجهودك الخاص أو إلى أسباب خارجية أخرى ، فتخسر إيمانياً بتجاهلك معونة الله التى كانت معك دون أن تدرى .
ثانياً – معوقات الإيمان :
هناك ثلاثة معوقات أساسية تعوق الإيمان ونموه : الأخذ بالمعرفة الطبيعية وحدها، والخوف، ثم الشك.
أ – الأخذ بالمعرفة الطبيعية وحدها :
الأخذ بالمعرفة الطبيعية وحدها يعطل الإيمان … هناك مثلاً قوانين في الطبيعة مثل عدم امكان المشى فى الماء أو نقل الجبال أو انتهار الريح والأمواج لتهدأ أو اقامة الموتى بكلمة … أما الإيمان فلا يخضع لمثل هذه القوانين الطبيعية . وتمسك الإنسان بها يعطل عمل الإيمان الذي يستطيع كل شيء … (كل شيء مستطاع للمؤمن ) ( مر ٩: ٢٣).
والمعرفة الطبيعية بالاضافة إلى كونها لا تسلم بالمعجزات ، فهي تنشىء خوفاً في النفس ، والخوف لا يدع مجالاً للإيمان …
في معجزة إقامة لعازر من الموت ، تقول مرثا للسيد المسيح حينما احست انه ینوى اقامته من القبر : (يا سيد قد انتن لأنه له أربعة أيام )… أي لا فائدة . ربما لو اتيت عقب الوفاة مباشرة لكان هناك شبه احتمال لإقامته من الموت … أما جواب المسيح عليها فكان : « ألم أقل لك إن آمنت ترين مجد الله » (يو ١١ : ٣٩ ، ٤٠ ) … و بالفعل قام لعازر…
وبطرس الرسول مشى على الماء ، وهدأ البحر والريح بكلمة …
معلوم أن الحيات والعقارب مؤذية جداً بل مميتة ، لكن الإيمان يبطل مفعول أذاها (ها أنا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء )( لو ۱۰ : ۱۹ ) … العلم يقول إن السم مميت، لكن الإيمان يبطل مفعوله « هذه الآيات تتبع المؤمنين …. يحملون حيات وان شربوا شيئاً مميتاً لا يضرهم » (مر ١٦ : ١٧ ، ۱۸) . وكم من معجزات تجرى حتى الآن وكل يوم بفعل الإيمان … للعلم دائرة خاصة لها قوانينها . والإيمان له دائرة أخرى لا تخضع لمنطق العلم أو قوانينه …
ب – الخوف :
الخوف يقف ضد الإيمان الذي يستند إلى قوة الله ذاته ومواعيده … لقد قدم إبراهيم ابنه إسحق ذبيحة « إذ حسب ان الله قادر على الاقامة من الأموات » ( عب ۱۱ : ۱۹ ) … والثلاثة فتية الذين القاهم نبوخذنصر في أتون النار ببابل ، ارتفعوا فوق الخوف ، وقالوا للملك : « يا نبوخذ نصر لا يلزمنا أن نجيبك عن الأمر. هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة، وأن ينقذنا من يدك أيها الملك » ( دا ٣ : ١٦ ، ١٧ ) … وهكذا دانيال الذى لم تؤذه الأسود في الجب بما هو خارج عن مألوف طبيعتها (فأصعد دانيال من الجب، ولم يوجد به ضرر لأنه آمن بإلهه ) ( دا ٦ : ٢٣ ) …
و يشير يوحنا في رؤياه إلى قائمة الذين لا نصيب لهم في ملك المسيح الأبدى ، فيقول : « وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة، فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني » (رؤ ۲۱ : ۸) … ونلاحظ أن الخائفين وضعوا على رأس هذه القائمة قبل القتلة والزناة والسحرة وعبدة الأوثان !!
ج – الشك :
هو عائق شديد ضد الإيمان … انه خطية موجهة ضد الله مباشرة . لأنه – أى الشك – عدم تصديق لوعود الله … فبطرس الذي مشى على الماء بكلمة المسيح ، لما رأى الريح شديدة اعتراه الخوف فابتدأ يغرق . فقال له السيد المسيح : « يا قليل الإيمان لماذا شككت » (مت ۱٤ : ۲۸ – ۳۱) … ويجب أن نلاحظ هنا أن الخوف جاء نتيجة الشك …
يقول يعقوب الرسول : « لكن ليطلب بإيمان غير مرتاب البتة ، لأن المرتاب يشبه موجاً من البحر، تخبطه الريح وتدفعه . فلا يظن ذلك الإنسان انه ينال شيئاً من عند الرب » (يع ٦:١ ، ٧) …
ويقول رب المجد يسوع المسيح : « لأنى الحق أقول لكم إن من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر، ولا يشك فى قلبه، بل يؤمن ان ما يقوله يكون فمهما قال يكون له » (مر ۱۱ : ۲۳ ) .[13]
الأب أنتوني م. كونيارس
وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا
“… وأنه ظهر لصفا للاثني عشر. وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمئة أخ أكثرهم باق إلى الآن، ولكن بعضهم قد رقدوا. وبعد ذلك ظهر ليعقوب، ثم للرسـل أجمعين. وآخر الكل كانة للسقط ظهر لي أنا” (كورنثوس الأولى ١٥: ٥-٨).
المسيح قام! كيف تعرف هذا!
هناك وسيلة واحدة لذلك، استدع الشهود! هذه هي طريقة بولس الرسول. لقد استشهد بولس الرسول بخمسة ظهورات ليسوع المسيح بعد قيامته: لبطرس، للاثني عشر تلميذا، للخمسمئة أخ، لكل الرسل، و”وآخر الكل ظهر لي أنا”. بولس الرسول يضع ظهور المسيح له بطريق دمشق في نفس مرتبة ظهوراته الأخرى لبطرس، ويعقوب، والاثني عشر تلميذا، بالرغم من أن ظهوره لبولس حدث بعد ٦ سنوات من ظهوراته الأخرى. إنها كانت تجربة قيامة حقيقية للمسيح القائم من الأموات. لقد كان هذا هو الظهور الذي غير تاريخ العالم. لقد حول هذا الظهور مضطهدا متعصبا إلى صديق يسوع المسيح الأعظم، مهديا العهد الجديد أعظم رسائله، ومهديا المسيحية أعظم معلميها، بعد السيد المسيح.
كأنه للسقط (كأنه لجنين سقط قبل مولده)
بولس الرسول يقول: “كانه للسقط ظهر لي أنا”، لأن القديس بولس الرسول لم يكن من ضمن المجموعة الأصلية من التلاميذ، فقد جاء مستحق بعدهم، وليس هذا فقط بل إن بولس الرسول يعبر عن شعوره بأنه غير مستحق مطلقا لمثل هذه الدعوة، فيقول: “لأني أصغر الرسل، أنا الذي لست أهلاً لأن أدعى رسولاً، لأني اضطهدت كنيسة الله” (اکو١٥ : ٩). بولس الرسول لم يكف أبدا عن التعجب من اختيار الرب له، لأنه يقول عن نفسه: “الخطاة، الذين أولهم أنا” (١تى١: ١٥). لقد شعر بولس دائما أن هذا من أعمال نعمة ومراحم الرب العالية: “ولكن بنعمة الله أنا ما أنا… ” (اکو١٥: ١٠ ).
فالكنيسة الأولى لا تعتمد أن الإنسان يمكنه أن يصبح رسولاً إن لم يكن رأى الرب يسوع القائم من الأموات رؤية العين، فالرسول يجب أن يكون شاهد عيان للقيامة، فيجب أن يكون قادرًا على أن يشهد على حقائق من خلال معرفة شخصية بالسيد المسيح، لذلك كان بولس الرسول يؤكد دائما على أن له هذه الخاصية الضرورية: “ألست أنا رسولاً؟ ألست أنا حُرا؟ أما رأيت يسوع المسيح ربنا؟” (اکو ۹ : ١)، “وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا” (١كو١٥: ٨).
ظهورات السيد المسيح الأخرى
عقب القيامة،. ظهر السيد المسيح لعدد من تلاميذه في اللحظات التي كانوا في أمس الاحتياج إلى ذلك، فقد ظهر لمريم المجدلية في أقصى لحظات حزنها عندما ظنت أن سيدها المحبوب قد مات. ظهر يسوع المسيح لها واهبا إياها بهجة غامرة.
ظهر كذلك لسمعان بطرس في لحظة شعوره العميق بالأسف والخزي لإنكاره السيد المسيح عند القبض عليه. عندها ظهر له يسوع المسيح ليؤكد له أنه غفر له وقبله.
ظهر لتلميذي عمواس، عندما كانا في حالة من البؤس والتشكك لأن مخلصهما قد صلب، فظهر لهما يسوع المسيح مانحا إياهما استبصارا وأملا جديدا.
كذلك ظهر في العلية لتلاميذه حينما كانوا مختبئين من السلطات الرومانية واليهودية خلف الأبواب المغلقة. هذا الظهور الذي حول هؤلاء الرجال المنكسرين إلى رجال أقوياء، مفعمين بالثقة، جسورين كالأسود. لقد هللوا وابتهجوا، لقد برئوا، لقد تعلموا، لقد شعروا أنهم منتصرون، ليس فقط لعدة أيام من حياتهم على أثر فورة حماس عابرة، لكن إلى آخر أيام حياتهم. هذا التغيير الإعجازي حدث لأن المسيح بالحقيقة ظهر لهم.
الرب يسوع المسيح هو نفسه أمسا، واليوم، وإلى الأبد، فكما أتي في تلك الأيام، هو يأتي الآن أيضا، وكما أظهر نفسه في تلك الأيام، يظهر لنا ذاته الآن أيضا؛ هو يأتي لنا في أوقات إحساسنا بالحزن ليريح قلوبنا، في أوقات إحساسنا بالإخفاق والندم على خطايانا ليغفر لنا ويقيمنا واقفين مرة أخرى، في أوقات التشكك والإحباط، ليزرع فينا أملا جديدا، في أوقات إحساسنا بالخوف ليسندنا بيديه .
يسوع المسيح ليس بميت، فهو ليس مجرد معلم عظيم، ومثال بشري جميل؛ إنما هو ابن الله، الرب القائم بمجد من الأموات، هو يأتي اليوم، هو يظهر اليوم لي ولك كما فعل مع الرسل، يعقوب، صفا، وللخمسمئة، للاثني عشر تلميذا، ولبــولس: “وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا”.
المسيح يظهر الآن
أثناء قراءة الإنجيل في صلاة عشية وصلاة باكر، يأخذ القس الإنجيل مع لوح محفور لصورة قيامة المسيح ويحملها خارجا للمصلين معطيا لهم التقديس والبركة، هذا العمل الكنسي الجميل يمثل المسيح القائم من الأموات خارجا من القبر، واقفا في وسط شعبه كما كان يقف وسط تلاميذه. هذا الطقس الكنسي يعلمنا أن الرب يسوع المسيح يظهر لنا اليوم. نحن نستطيع أن نلمسه،نحن نستطيع أن نسمعه، نحن نستطيع أن نقبله، نحن نستطيع أن ناخذ قوة منه.
المسيح ليس مدفونا في قبر بجوار أورشليم، بل هو يعيش هنا ، في قلبي، وأنا أسير معه كل يوم.. هو يأتي معي الآن!
“إنه حي!”، “وكيف لك أن تعرف؟”، “ببساطة إعرف ذلك عندما تتحدث معه في الصلاة، إنه يأتي من خلال الصلاة.
هذا ما قاله مسيحي ورع بعدما قرأ جزءا من كلمة الله: “يسوع المسيح حقيقي، إنه يبدو كما لو كان خارجا للتو من الكتاب المقدس ليساعدني”. هو يأتي من خلال كلمته المقدسة.
في عمله الدرامي: “محاكمة يسوع المسيح”، يصف جون ماسيفيلد John Masefield حوارا تخيليا بين قائد المئة الروماني لونجينوس (وهو الذي طعن جنب المسيح بالحربة واعترف بعدها بأنه ابن الله) عند الصليب وزوجة بيلاطس التي تسأله: “هل تظن أنه مات؟”، فيجيبها قائد المئة: “لا يا سيدتي، لا أظن هذا”، فتعيد سؤالها إذن، فأين هو”، فيجيبها: “إنه يجري عمله في هذا العالم سيدتي، فلا الرومان أو اليهود باستطاعتهم وقف حقيقته”. هو يأتي!
كتب أحد المرسلين الأتقياء من سجنه إلى أحد اصدقائه فقال له:
“يسوع المسيح أتى إلي في زنزانتي الليلة الماضية، وكل حجر فيها يومض كانه ياقوت أحمر”. هو يأتي!
الظهورات المعاصرة
لقد ظهر السيد المسيح لمالكولم ماجريدش Malcolm Muggeridge، الصحفي البريطاني اللامع رفيع الثقافة، بينما هو في فلسطين ليصور فيلما عن المواقع التي عاش فيها يسوع المسيح لمحطة الـ .B.B.C، فهناك اختبر حضور يسوع المسيح الحي، وقد كان هذا كفيلاً بأن يترك تشککه الديني ويتحول لشخص مسيحي متوهج بالإيمان، ونحن ننصحكم بقراءة كتابه: “إعادة اكتشاف المسيح – Jesus Rediscovered” .
ظهر الرب لجوني كاش Jonny Cash في عام ١٩٧١م ليقيمه من جحيم إدمان المخدرات ليعطيه حياة جديدة في المسيح. يقول جوني: “لقد كرست حياتي بالكامل ليسوع المسيح. ليس لي عمل وظيفي بعد الآن، ما أعمله الآن هو خدمتي الدينية، كل ما لي وكل ما أفعل مخصص تماما ليسوع المسيح”، ونحن ننصحكم بقراءة سيرته الذاتية: “جوني كاش الجديد _ The New Johnny Cash”. لقد صار جديدا بنعمة الرب الذي أتى إليه بالغفران والقوة.
ظهر كذلك لألكسندر سولزهنيتسين Alexander Solzhenitsyn، أعظم الأدباء الروس الذين لا يزالون على قيد الحياة، والحائز على جائزة نوبل بالأدب، والمولود بدولة تعادى فكرة وجود الله، وتستعمل قوتها العظمى لسحق الدين. التحق ألكسندر سولزهنيتسين بالكنيسة الروسية الأرثوذكسية في عام ١٩٧١م، وتناول فيها لأول مرة من الأسرار المقدسة. حدث بطريقة أو بأخرى، أثناء معاقبته على هذا بإرساله لمعسكرات العمل الرهيبة لمدة ثماني سنوات، أو قد يكون أثناء إحدى النوبات الشديدة المؤلمة لمرض السرطان، أو أثناء رفضه لإعلان ندمه ورجوعه للفكر الشيوعي، ظهر له السيد المسيح، معطيا إياه القوة ليقف في مواجهة جبروت الاتحاد السوفيتي، واحدا بمفرده، لفضح فظاعة معسكرات العمل الرهيبة. وعند علمه أنه سوف يتلقى ۸۰۰۰۰ دولار مع جائزة نوبل، قرر أن يخصص هذا المبلغ لبناء كنيسة في روسيا، وعندما وصل إلى سويسرا مطرودا من الاتحاد السوفيتي كان أول ما فعله هو حضوره للقداس الإلهي: “وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا” (كورنثوس الأولى١٥: ٨).
أليس هذا ما يهم حقا؟ لقد كان هذا ما يهم في حياة بولس. لقد كان هذا ما يهم في حياة الرسل. لذلك يجب على كل مسيحي أن يكون قادرا على كتابة قائمة ظهورات المسيح القائم من الأموات في حياته، مضيفا في نهاية هذه القائمة، ما قاله بولس: “وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي انه (١ كو ١٥ : ٨) .
إن لم يظهر الرب لك، فهو يرغب في ذلك، إن أنت دعوته. لا تشعر أبدا بأنك أخطى من أن يأتى إليك، فأنه أتى لبولس الذي يصف نفسه: بـ : “الخطاة، الذين أولهم أنا”. فالرب لن يتردد أن يأتي إليك. هو يطرق باب قلبك الآن: “هأنذا واقف على الباب وأقرع إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه واتعشى معه وهو معي» (رؤيا ۳ : ٢٠) هو سيظهر لك أنت، حتى تستطيع أنت أيضا أن تقول مع بولس الرسول: “وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا” .(١كو١٥: ٨) .
صلاة :
نشكرك لانك ما زلت تظهر ذاتك لكل من يدعوك،
ولا زلت تظهر عظمة نورك للعائشين في الظلمة،
وقوة خلاصك للسائرين في طرق الهلاك،
وقوة قيامتك للموتى روحيا.
لك كل المجد والتسبيح إلى الأبد. آمین.
المراجع:
[1] تفسير المزامير – الجزء الأول – ص 503 – القمص تادرس يعقوب ملطي.
[2] كتاب إلهنا القائم في وسطنا الآن – صفحة ٢١ – إعداد د. مايكل مدحت، د. مينا مدحت – إصدار إيبارشية المعادي.
[3] كتاب شرح إنجيل يوحنا للقديس كيرلس الأسكندري – المجلد الثاني صفحة ٥١٣ – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد وآخرون.
[4] كتاب شرح إنجيل يوحنا للقديس كيرلس عامود الدين – تعليقاً على (يو٢٠: ٢٢- ٢٥) صفحة 509 – مشروع الكنوز القبطية.
[5] تفسير الرسالة إلى أفسس – الإصحاح السادس، ص٣٣٥، ٣٣٦- القمص تادرس يعقوب ملطي.
[6] كتاب: الإيمان بأمور لا ترى – للقديس أغسطينوس أسقف هيبو – صفحة ٩- أسرة القديس ديديموس الضرير للدراسات الآبائية – كنيسة مار جرجس اسبورتنج.
[7] يريد القديس هنا أن يوضح أن هؤلاء الأشحاص يدَّعون أن أفكار الإنسان يمكن إدراكها لأن الإنسان يفكر فيها فهي إذن داخل عقله وصادرة عنه، أما الأمور المتعلقة بالله فهي خارج عقل الإنسان وبالتالي فهي أمور لا يجب الإيمان بها حسب اعتقادهم. وهذا بالطبع فكر خاطئ.
[8] يوضح القديس هنا أنه لا يمكن أن تكون وسيلتنا لإثبات صدق محبة الآخرين لنا هو تعريض أنفسنا للمشاكل والمخاطر حتى نرى رد فعلهم تجاهنا، وفي نفس الوقت فحتى لو فعلنا ذلك فإن هذا أيضاً يدل على تصديقنا لمحبتهم لنا، لأننا لو كنا نشك فيها ما كنا عرَّضنا أنفسنا للخطر من الأساس.
[9] مقالة للقديس غريغوريوس والقديس أمبروسيوس.
Elowsky,J.C.& Oden,T.C. ( 2007 ) John11 – 21 ( The Ancient Christian Commentary on Scripture,New Testament IVb ). Illinois ( U.S.A ) : InterVarsity Press. Page 372 ,374.
[10] كتاب المنجلية القبطية الأرثوذكسية – صفحة ٣٩١- قداسة البابا تواضروس الثاني.
[11] كتاب تأملات روحية في قراءات أناجيل آحاد السنة القبطية – صفحة 346 – المتنيح القمص لوقا سيداروس.
[12] كتاب عظات مضيئة معاشة – صفحة ٣٣٧ – إصدار مطرانية ملوي وأنصنا والأشمونين.
[13]– كتاب بستان الروح الجزء الثالث لنيافة الانبا يؤانس (ص٨٥-١٠٩)
[14]كتاب من كنوز رسائل بولس الرسول – ( الجزء الأول صفحة ٣١ ) – الأب أنتوني م. كونيارس – إصدار مطرانية بني مزار والبهنسا