قراءات يوم الأربعــاء من الأسبوع السادس من الصوم الكبير

 

“لأَنَّنَا رَائِحَـةُ الْمَسِيحِ الذَّكِيَّةِ للهِ، فِي الَّذِينَ يَخْلُصُونَ وَفِي الَّذِينَ يَهْلِكُونَ.” (٢كو٢: ١٥)

[الـرعـاة أضبطهم والذين يـرعـونهم ثبتهم أعطِ بهاء للإكليروس] (القـدّاس الغريغـوري – الطلبات)

[آه يـا رب إن أولئـك المتقدميـن في كنيستـك كثيـراً ما يكونـوا أول مضطهديـك] (القديس اغريغوريوس)[1]

شــواهــد القــراءات

(خر١٠: ١)-الخ، (ص١١: ١)-الخ)، (إش٤٤: ٢١)- الخ)، (أم ٨: ٢٢)- الخ)، (أي٣٤: ١)- الخ)، (مز١٠١: ١٤، ١٧)، (مر٧: ١- ٢٠)، (رو٢: ١٢- ٢٤)، (٢بط ١: ٢٠)- الخ، (ص٢:  ١- ٦)، (أع٢٦: ١- ٨)، (مز٩: ٧، ٨)، (لو١١: ٤٥-٥٢).

شــرح القــراءات

تتكلّم قــراءات هـذا اليــوم عـن الشهود الأمناء والشهود الكذبة فالكنيسة المقـدّسة هى التي تمتلىء من الشهود الأمناء.

“فليضئ نوركم هكذا قدّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة فيمجدون أباكم الذي في السموات” (مت ٥: ١٦).

وخطورة أن يتواجـد في الكنيسة شهود كذبة يزيفـون صورة الكنيسة ويقـدمون صورة خاطئة عن رأس الكنيسة

“لأن اسم الله يجـدّف عليه بسببكم بين الأمم كما هـو مكتــوب” (رو ٢: ٢٤).

تبـدأ القــراءات بسفـر الخـروج الذي يتكلم عن هـرون وموسى كشهود أمناء أرسلهم الـرب لقيادة الشعب في خروجه من أرض مصر والنعمة التي أعطاها الـرب لهم في عيون الشعب وفي عيون عبيد فـرعـون.

“وأعطى الـرب نعمة لشعبه أمام المصريين فأتمنوهم أما الـرجل موسى فصار عظيماً جـداً أمام المصريين وأمام فـرعـون وأمام عبيده”.

ويعلـن سفـر إشعيـاء كيف يبطل الله الشهود الكذبة وكيف يقيم كلام الشهود الأمناء.

“مبطل آيات الكذبة ومحمق العرافين ومرجع الحكماء إلى الوراء ومجهل مشورتهم مقيم كلام عبده وجاعل مشورة رسله بـراً”.

ويكشف سفر الأمثال عن كيف نكون شهود أمناء لله.

“الآن يا ابني اسمع لي فطوبى للذين يحفظون طرقي، اسمعوا الحكمة وكونوا حكماء ولاترفضونها، طوبى للانسان الذي يسمع لي وللرجل والحافظ طرقي الساهـر عند أبوابي كل يوم حافظاً قوائم أبوابي”.

بينما في سفر أيـوب يظهر طبيعة الشهود الكذبة ولماذا يُدَانـوا.

“فإنهم أدبروا عن ناموس الله، وبره لم يعرفـوه ولم يبلغوا إليه صراخ المسكين وهو يسمع صراخ البائسين”.

والعجيب في مزمور باكــر يطمئن الـرب النفس بأنه يسمع صراخ المساكين وطلبتهم أي أنّه برغم الشهود الكذبة يتدخّل الله شخصياً لأجل خلاص أولاده.

“لأنه نظر إلى صلاة المساكين ولـم يـرذل طلبتهم ليخبروا في صهيون باسم الـرب وبتسبحته في أورشليـم”.

ويقـدّم إنجيل باكــر صورة للشهود الكذبة التي تهتّم بالشكل دون الجـوهـر وما هـو للناس عن ما هـو لله.

“ثم سأله الفـريسيون والكتبة لماذا لا يسلك تلاميذك حسب سُنة الشيوخ بل بأيد دنسة يأكلون الخبز فأجابهم قائلاً: حسناً تنبأ عنكم إشعياء أيها المراءون كما هـو مكتوب: هـذا الشعب يكرمني بشفتيه وأما قلـوبهم فبعيدة عني، فهم باطلاً يعبدونني إذ يعلمون تعاليم هى وصايا الناس”.

ويؤكد البولس هذه الصورة الكاذبة والمزيّفة للمعلمين الكذبة الذين نسوا وأهملوا حياة التوبة.

“فان كنت تسمي يهودياً وتعتمد على الناموس وتفتخر بالله وتعرف مشيئته وتميز الأمور المتخالفة متعلماً من الناموس وتثق أنك قائد للعميان ونور الذين في الظلمة ومهذب للأغبياء ومعلم للأطفال ولك صورة العلم والحق في الناموس فأنت الذي تعلم غيرك ألست تعلم نفسك”.

ويقـارن الكاثوليكـون بين شهود الـرب الأمناء كالأنبياء مثل نوح البار وبين الشهود الكذبة.

“لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الـروح القـدس، وقد كان أيضاً في الشعب أنبياء كذبة كما أنه سيكون فيكم أيضاً معلِّمون كذبة، لأنه إن كان الله لم يشفق على الملائكة الذين أخطأوا، ولم يشفق على العالم القـديم إنما حفظ نوحاً ثامناً كارزاً للبر”.

ويشرح في الإبركسيس القـديس بـولس كيف إفتقده الله وحرّره من الحـرف للـروح وجعله شاهـده الأمين.

“وهـم يعرفونني من قبل لـو أرادوا أن يشهدوا إني قد عشت فرّيسياً على مذهب ديننا الأقـوم”.

لكن مزمور القـدّاس يحذّر من محاسبه الله للشهود الكذبة.

“واخبروا في الأمم بأعماله لأنه طلب الـدماء وتذكرهـا”.

ويختم إنجيـل القـدّاس بويلات الـرب للناموسيون الذين يحمِّلـون الناس أحمالاً عسرة.

“وأنتم أيضاً أيها الناموسيون ويل لكم لأنكم تحمِّلون الناس أحمالاً عسرة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال بأحدى أصابعكم، ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفاتيح المعرفـة فلم تدخلـوا أنتم والـداخلـون منعتموهم”.

 

ملخّص القــراءات

سفر الخـروج الكنيسة المقـدّسة مملوءة بشهود أمناء.
سفر إشعياء يبطل الله الشهود الكذبة ويدعم الشهود الأمناء.
سفر الأمثال طبيعة الشهود الأمناء.
سفر أيـوب طبيعة الشهود الكذبة.
مزمور باكـر يسمع الله صراخ المساكين.
إنجيل باكر الشهود الكذبة تهتم بالشكل دون الجوهـر.
البولس الشهود الكذبة لا يراجعـون أنفسهم.
الكاثوليكون الشهود الكذبة ينكرون الـرب ويتجرون في الطمع.
الإبركسيس الله يفتقد بولس الرسول ويحوّله لشاهد أمين.
مزمور وإنجيل القـدّاس الله سيدين الشهود الكذبة وسينتقم لدماء الشهود الأمناء.

 

الكنيسة في قــراءات اليــوم

سفر الأمثال ولادة الإبن من الآب.
البولس ومزمور القدّاس الـدينـونة.
الكاثوليكون الـوحي وكلام الله – الملائكة الذيـن سقطـوا.
الإبركسيس قيامة الأموات.
إنجيل القّـداس الأنبياء والـرسل.

 

عظات ابائية

شرح إنجيل القدَّاس للقديس كيرلس الأسكندرى

ويل لكم أيها الناموسيون  

(لوقا۱۱: ٤٥ – ٤٨)” فأجاب واحد من الناموسيين وقال له: يا معلم حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضاً. فقال: وويل لكم أنتم أيها الناموسیون لأنكم تحملون الناس أحمالاً عسرة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال باحدى أصابعكم. ويل لكم لانكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم. إذا تشهدون وراضون باعمال آبائكم لأنهم هم قتلوهم وأنتم تبنون قبورهم “.

إن التوبيخ هو دائماً أمر عسير أن يحتمله أي إنسان، ولكنه ليس بغير فائدة للعاقلين، لأنه إنما يقودهم إلى التزام ممارسة تلك الأشياء التي تجعلهم مستحقین للكرامة، وتجعلهم محبين لاقتناء الفضائل، أما الذين يسرعون إلى الشرور بكل اهتمام، والذين جعلوا قلوبهم ضد قبول النصح، فإنهم ينجرفون بسرعة إلى خطايا أعظم عن طريق نفس الأسباب التي كان يجب أن تجعلهم أكثر تعقلاً، بل إنهم يتقسون بواسطة كلمات الذين يحاولون أن ينفعوهم. وكمثل لهذه الحالة من التفكير أنظر إلى أولئك الذين يدعون بالناموسيين عند اليهود. كان مخلص الجميع يوبخ الفريسيين كأناس منحرفين بعيداً عن الطريق الصحيح وواقعين في ممارسات غير لائقة، إذ وبخهم على كونهم منتفخين، ومرائين، ومحبين للتحيات في الأسواق، وراغبين في الجلوس في المتكآت الأولى في المجامع، بل ودعاهم أكثر من ذلك قبور تظهر جميلة من الخارج، ولكن من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة (مت۲۳ : ۲۷). وعندما قال هذه الكلمات، تذمرت فئة الناموسيين الأغبياء، ونهض واحد منهم وعارض تصريحات المخلص وقال: “يا معلم حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضاً .

يا له من غباء عظيم! أي عمي في العقل والفهم من جهة كل شيء ضروري! إن هؤلاء الناس يعرضون أنفسهم للتوبيخ، بل بالأحرى أن قوة الحق أظهرتهم أنهم مستحقون كذلك لنفس الاتهامات كالفريسيين، وأنهم يفكرون مثلهم ويشاركونهم في أعمالهم الشريرة ما داموا يعتبرون أن ما يقوله المسيح عن الآخرين قد قيل ضدهم هم أيضاً، وإلا فأخبرني لأي سبب تغضب! لأنه حينما يوجه أي لوم إلى الفريسيين فأنت تقول إنك أيضاً تشتم، إذن فأنت تعترف بأعمالك، وأنت تدرك طبعاً في نفسك بأن سلوكك مثلهم. ولكن إن اعتبرت هذا توبيخاً واجباً لهم على أي شيء من هذا النوع، ورغم ذلك فإنك لا تغير سلوكك، فإن سلوكك هذا هو الذي يستحق اللوم.

إن كنت تكره التوبيخ كما لو كان شتيمة، فاظهر نفسك أنك أسمى من الأخطاء التي تتهم بها أو بالحري لا تنظر إلى كلمة التقويم على أنها شتيمة. ألا ترى أن هؤلاء الذين يشفون أجساد الناس يتحدثون مع المرضى عن الأسباب التي أدت إلى أمراضهم ويستخدمون الأدوية المؤلمة ليوقفوا ما حدث، ومع ذلك فلا يغضب منهم أحد لهذا السبب ولا يعتبر أحد أن ما يقولونه شتيمة، ولكنك أنت ضيق الفكر في تقبل النصائح ولا ترضى أن تتعلم ما هي الأوجاع اني تؤذي قلبك. كان من الأفضل جداً أن تحب التوبيخ وأن تطلب لأجل التخلص من أمراضك ولأجل شفاء قروح نفسك، وكان من الأفضل جداً بالحري أن تقول: “اشفنى، خلصني فأخلص، لأنك أنت هو تسبيحى”(إر ١٧ : ١٤).

لا شيء من هذا النوع يدخل عقل الناموسيين ولكنهم تجاسروا أن يقولوا: ” بقولك هذا تشتمنا نحن أيضاً ” معتبرين بجهلهم أن اللوم الذي هو لمنفعتهم وفائدتهم، شتيمة.

لماذا إذن أجابهم المسيح؟ إنه جعل توبيخه لهم أكثر شدة وأوضح كبرياءهم الفارغ بقوله هكذا:” ويل لكم أيها الناموسيين، لأنكم تحملون الناس أحمالاً تقيلة عسرة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال بأحد أصابعكم”. إنه يصوغ نقاشه ضدهم بمثل واضح، لأنه كان أمراً معترفاً به أن الناموس عسر الحمل للإسرائيليين.

كما اعترف بذلك أيضاً التلاميذ الإلهيون بأنهم كانوا ينتهرون أولئك الذين سعوا لجعل الداخلين إلى الإيمان أن يعودوا إلى فرائض الناموس، لأنهم قالوا: “فالآن لماذا تجربون الله بوضع نير على عنق التلاميذ لم نستطع نحن ولا آباؤنا أن نحمله؟” (أع ١٥ : ۱۰).

والمخلص نفسه علمنا هذا منادياً بقوله “تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نیري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت۱۱: ٢٨ ، ٢٩). إذن فهو يقول إن الذين تحت الناموس هم متعبون وثقيلوا الأحمال، بينما يدعو نفسه وديعاً، كما لو كان الناموس ليس فيه شيئاً من هذه الصفة، لأنه كما يقول بولس: “لأن من خالف ناموس موسی فعلى فم شاهين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة ” (عب۱٠ : ۲٨). لذلك فهو يقول، ويل لكم أيها الناموسيون، لأنكم بينما تحملون الناس أحمالاً عسرة الحمل و غير ممكن رفعها، تضعونها على أولئك الذين هم تحت الناموس، وأنتم أنفسكم لا تلمسونها. لأنهم بينما يأمرون بأن تحفظ شريعة موسی بدون انتهاك، ويحكمون بالموت على الذين يستخفون بها، فإنهم هم أنفسهم لا يظهرون أي مبالاة لواجب تنفيذ فرائضها – وإذ اعتادوا أن يفعلوا هكذا، فإن بولس الحكيم يعنفهم أيضاً بقوله: “هوذا أنت تسمي يهودياً وتتكل على الناموس وتفتخر بالله، وتعرف مشيته وتميز الأمور المتخالفة متعلماً من الناموس، وتثق أنك قائد للعميان، ومهذب لمن هم بلا فهم، ومعلم للأطفال، ولك صورة العلم والحق في الناموس، فأنت إذا الذي تعلم غيرك ألست تعلم نفسك؟ الذي تكرز أن لا يسرق أتسرق ؟ الذي تقول أن لا يزني أتزني؟ الذي تستكره الأوثان أتسرق الهياكل؟ الذي تفتخر بالناموس ابتعدي الناموس تهين الله ؟”(رو٢: ۱۷-۱۳). 

لأن المعلم يصير مرفوضاً ويخزى إذا كانت تصرفاته لا تتفق مع كلماته، ويحكم عليه المخلص بالعقاب الشديد، لأنه يقول: “إن من علم وعمل يكون عظيماً، أما من يعلم ولا يعمل فانه يدعي صغيراً في ملكوت السموات”(مت ٥ : ۱۹). ولنفس السبب يكتب لنا تلميذ المخلص ويقول: “لا يكن فيكم معلمين كثيرين يا إخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم، لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا”(یع ۳: ۱)

وهكذا بعد أن أظهر المخلص هذه العصبة الرديئة من الناموسيين فانه يواصل حديثه لينطق بتوبيخ عام لكل رؤساء اليهود فيقول “الويل لكم ! لأنكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم، فأنتم اذن تشهدون وترضون بأعمال أباءكم، لأنهم هم قتلوهم وأنتم تبنون قبورهم”. دعنا إذن نفحص بعناية ماذا يقصد المخلص، لأن ما هو العمل الشرير الذي يمكننا أن نقول إنهم أجرموا فيه ببنائهم قبور القديسين؟ ألم يصنعوا بهذا تكريماً متميزاً لهؤلاء القديسين؟ فمن وقت لآخر كان أسلاف اليهود يسلمون للموت الأنبياء القديسين الذين يأتونهم بكلمة الله ويقودونهم إلى الطريق الصحيح، أما أبناؤهم فإذ اعترفوا أن الأنبياء كانوا قديسين ورجالاً مكرمين فإنهم يشيدون قبوراً ومدافن لهم، كما لو كانوا يمنحونهم كرامة تليق بالقديسين.

إذن، فأباؤهم ذبحوهم، أما هم فبإعتقادهم أنهم أنبياء ورجالاً قديسين صاروا قضاة لآبائهم الذين ذبحوهم، لأنهم بعزمهم على تقديم الكرامة لأولئك الذين قتلوا فإنهم بهذا يتهمون آباءهم بخطئهم فيما عملوه. أما هم فإذ أدانوا آباءهم بسبب هذه الجرائم القاسية، فقد صاروا على وشك أن يقترفوا ذنب جرائم مساوية، ويرتكبوا نفس الأخطاء، أو بالحري أخطاء أكثر شناعة منها لأنهم ذبحوا رئيس الحياة المخلص والمنقذ للجميع، وأضافوا أيضاً لشرهم نحوه أعمال قتل أخرى، ممقوتة.

فها هم قد قتلوا إستفانوس، لا كمتهم بأي شيء رديء بل بالحري بسبب نصحه لهم إذ كلمهم بما هو في الكتب الموحى بها، وجرائم أخرى بجانب هذه ارتكبوها ضد كل قديس كان يبشرهم برسالة الإنجيل الخلاصية

لذلك فإن الرب يبكت الناموسيين والفريسيين بكل طريقة، كأناس يكرهون الله، وهم دائماً منتفخون ومحبون للذة أكثر من محبة الله، ومن كل وجه يرفضون أن يخلصوا، لهذا أضاف المسيح تلك الكلمة: “ويل” كشيء يختص بهم، الذي به وله ومعه الله الأب

التسبيح و السلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.[2]

 

 

عظة أخري للقديس كيرلس الأسكندري عن إنجيل القدَّاس

كان الناموس بالنسبة للإسرائيليِّين محزنًا كما اِعترفوا، وقد عرف التلاميذ اللاهوتيُّون ذلك، إذ انتهروا الذين سعوا لإرجاع الذين آمنوا إلى الطقوس الناموسيَّة، قائلين: “فالآن لماذا تجُرِّبون الله بوضع نيرٍ على عنق التلاميذ لم يستطع آباؤنا ولا نحن إن نحمله؟”(أع١٥: ١٠)… وقد علِّمنا المخلِّص نفسه ذلك، إذ صرخ قائلًا: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. اِحملوا نيري عليكم وتعلَّموا منِّي، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لأنفسكم” (مت١١ : ٢٨ – ٢٩).

إذن يقول بأن الذين تحت الناموس هم تعابى وثقيلوا الأحمال، بينما يدعو نفسه وديعًا لأنه ليس في شخصه شيئًا من الناموس. وكما يقول بولس: “من خالف ناموس موسى، فعلى شاهديْن أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة”(عب١٠: ٢٨). إذن ويل لكم أيها الناموسيُّون -كما يقول- لأنكم تُحمِّلون من هم تحت الناموس أحمالًا عسِرة الحمل، وأنتم لا تمسُّون الأحمال. لأنهم بينما يأمرون بالتزام حفظ وصايا موسى بلا كسر للوصيَّة، ويحكمون بالموت على من يستهين بها، إذا بهم لا يُبالون بتحقيق أصغر الوصايا الهيِّنة. وإذ كان ذلك أمرًا عاديًا قال الحكيم بولس موبِّخًا إيَّاهم: “هوذا أنتَ تُسمَّى يهوديًا، وتتكل على الناموس، وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته، وتميِّز الأمور المتخالفة متعلِّمًا من الناموس، وتثق أنك قائد للعميان ونور للذين في الظلمة، ومهذب للأغبياء، ومعلِّم للأطفال، ولك صورة العلم والحق في الناموس، فأنت إذًا الذي تعلِّم غيرك ألست تعلِّم نفسك؟ الذي تكرز ألا يُسرق أتسرق؟ الذي تقول أن لا يُزني، أتزني؟ الذي تستكره الأوثان، أتسرق الهياكل؟ الذي تفتخر بالناموس، أبتعدِّي الناموس تُهين الله؟” (رو ٢: ١٧- ٢٣). فإن المعلِّم يُحتقر وتسوء سمعته حينما يكون سلوكه غير متَّفق مع كلماته

آباؤهم قتلوا الأنبياء، وإذ آمنوا أنهم أنبياء قدِّيسون صاروا قضاه ضد الذين قتلوهم. لقد صمَّموا أن يكرموا الذين حُكم عليهم بالموت، وبتصرُّفهم هذا أدانوا من أخطاؤا . ولكن الذين أدانوا آباءهم على جرائمهم القاسية كانوا في طريقهم أن يرتكبوا جرائم مشابهة، بل وأبشع منها، إذ قتلوا رئيس الحياة، مخلِّص الجميع، وأضافوا إلى جريمة قتلهم له جرائم أخرى. فقد أُقتيد استفانوس للموت، ليس لاتهامه بشيء دنيء، وإنما لأنه نصحهم وتحدَّث معهم ممَّا ورد في الكتب الموحَى بها.

وجرائم أخرى ارتكبت بواسطتهم ضد كل قدِّيس كرز بالإنجيل رسالة الخلاص. هكذا برهن الناموسيُّون والفرِّيسيُّون بكل طريقة أنهم مبغضو الله ومتكبِّرون ومحبَّون للملذَّات أكثر من حبِّهم الله، وبكل وسيلة يكرهون الخلاص لأنفسهم، لذلك أضاف السيِّد كلمة “الويل” لهم على الدوام

الذين يبحثون في الكتب المقدَّسة، ويعرفون إرادة الله، إن كانوا أناسًا فاضلين وغيورين على صلاح الناس، ومهرة في قيادتهم قيادة سليمة في كل أمر عجيب، يكافئون بكل بركة إن تمَّموا واجباتهم بغيرة. هذا ما يؤكِّده المخلِّص بقوله: “فمن هو العبد الأمين الحكيم الذي أقامه سيِّده على خدَمِه ليعطيهم الطعام في حينه، طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيِّده يجده يفعل هذا، الحق أقول لكم أنه يُقيمه على جميع أمواله” (مت٢٤: ٤٥- ٤٧).

أما إن كان متراخيًا ومهملًا ومعثرًا لمن هم في عهدته، فينحرفون عن الطريق المستقيم، مثل هذا يكون بائسًا ويسقط في خطر العقوبة بلا رجاء. مرَّة أخرى يقول المسيح نفسه: “من أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخير له أن يُعلَّق في عنقه حجر الرحى ويغُرَّق في لُجَّة البحر” (مت١٨: ٦). هكذا برهن المسيح للذين حسبوا أنفسهم مهرة في الناموس أنهم يرتكبون أخطاء جسيمة كهذه، أقصد بهم الكتبة والناموسيِّين. إذا قال لهم “ويل لكم أيها الناموسيِّين لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة…” نفهم مفتاح المعرفة أنه الناموس ذاته، والتبرير بالمسيح أقصد الإيمان به. فمع كوْن الناموس ظلًا ورمزًا، فإن هذه الظلال تشكِّل لنا الحق وهذه الرموز تصوِّر لنا سرّ المسيح بطرق متعدِّدة… فإن كل كلمة في الكتاب المقدَّس الإلهي الموحَى به تنظر إليه وتشير نحوه… فكان من واجب الذين يُدعون ناموسيِّين بكونهم يدرسون ناموس موسى وعارفين لكلمات الأنبياء القدِّيسين، أن يفتحوا أبواب المعرفة لجماهير اليهود. لأن الناموس يقود البشر إلى المسيح وإعلانات الأنبياء التقويَّة تقود إلى التعرُّف عليه… لكن هؤلاء الذين دُعوا ناموسيِّين لم يفعلوا ذلك، بل على العكس أخذوا مفتاح المعرفة الذي به يُفهم الناموس والإيمان المُحق بالمسيح، لأنه بالإيمان معرفة الحق، كما يقول إشعياء “إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا” (إش٧: ٩) لقد أخذوا مفتاح المعرفة، إذ لم يسمحوا للناس أن يؤمنوا بالمسيح مخلِّص الجميع .[3]

 

عظات اباء وخدام معاصرون 

لمن هذه الويلات ؟ يوم الأربعاء من الأسبوع الخامس لقداسة البابا تواضروس الثاني  (لو١١ : ٤٥ -٥٢)

لمن هذه الويلات ؟

السؤال في هذا الفصل الإنجيلي ” لمن هذه الويلات ؟” وهو سؤال بالتلميح ، ونجد إجابته في فقرة هذا الإنجيل . يذكر معلمنا متـى فـي (أصحاح ٥) ” تطويبات” بـدأ بها ربنا يسوع المسيح عظته على الجبـل ، وفـي (أصحاح ٢٣) يذكر “ويلات”، وتُلاحظ أن عدد الويلات ثمانيـة فـي مقابل ثمانية تطويبات ، فمن استمع استحق التطويب ، ومن رفض تنصب عليه الويلات ، وهنا في (لو١١) يذكر معلمنا لوقا هذه الويلات. كلمـة “ويـل” كلمة صعبة جدا ، وبها خاطـب السيد المسيح الكتبة والفريسيين قائلا : “ويل لكم ….”، فقام واحد من الناموسيين وقال له : “يا معلم أنك تشتمنا نحن أيضاً”، فأكمل ربنا يسوع الويلات .

هذا الفصل من الإنجيل يتكلم عن موضوع خطير جداً نسميه ” آفة الحياة الروحية ” وهـو “الرياء”، هؤلاء الناس كان كل همهم أن يظهـروا أمام الناس لكي يمدحوهم ، ونسألهم مـاذا تعملـون مـن أجـل الله ؟ هـل تـوجـد لـديكم مخافة الله ؟! كانوا يضعون قوانين والتزامات على الناس باسم الشريعة اليهودية ، وهم لا يعملون بهـا ” تحملـون النّاس أحمالاً عسرة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال بإحدى أصابعكم . ويل لكم لأنكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم ” (لو١١: ٤٦ – ٤٧).

“ويل لكم” هي بمثابـة جـرس إنذار فـي الكتاب المقدس ، ونجـدهـا مكـررة فـي سـفـر الرؤيا ، وهذا الإنذار ينبه الإنسان عن الخطر الذي من الممكن أن يطيح بحياته الروحية وهو “الرياء”.الرياء يعتبر من الأمراض التي تصيب كثير من الذين يرتبطون بالكنيسة ، فمثلاً إنسان يجيد لحناً يقوله جيداً ، لكن هل حياة الفضيلة والخشوع الموجودة في اللحـن موجودة ؟ أو خادم يقدم درساً روحياً ويحضره جيداً ، لكن هل يعيش ما يعلمه ويطبقه في حياته ؟ السيد المسيح قدم لنا بعض الأمثلة عن ذلك ، من أشهرها :

مثل الخشبة والقذى : إنسان في عينيه خشبة ، وصديقه فـي عينـه قـذى (القذى هي شيء صغير جدا)، كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى مـن عينك وهـا الخشبة فـي عيـنـك أنـت ، يـا مـرائـي أخـرج أولا الخشبة مـن عينـك وحينئذ تبصر جيداً أن تُخرج القذى من عين أخيك . أسـهـل شـيء أن يقـف الإنسـان يعطـي نصـائح أو ينتقد الآخـرين ، لكـن هـل نـظـرت لنفسك أولا ؟

مثل شجرة التين غير المثمرة : جاء إليها السيد المسيح ولم يجد فيها شيئاً إلا ورقاً فقط ، والمعروف أن الثمار تظهر قبل الأوراق ، وقد لعنها السيد المسيح ليس لأنها بلا ثمار، ولكن لأنها ظهرت وكأنها مثمرة

مثل الفريسي والعشار : كانت عبادة الفريسي شكلية مظهرية غير مقبولة أمام الله ، فالعبادة الشكلية مهما كانت ومهما استطالت فـي الوقت غير مقبولة لدى الله “هذا الشعب يكرمني بشفتيه ، أما قلبه فمبتعد عني بعيداً” (إش ۲۹ : ۱۳)، الله يقول لك : “يا ابني أعطني قلبك” (أم ٢٣ : ٢٦)، ولا يقول : “يا ابني أعطني شفتيك”. مـن الأمـور الجميلة فـي الأديرة عندما يسأل الزائرون أحـد الرهبـان عـن مـدتـه فـي الدير ؟ تكون إجابته “من أمس”، مع أن من الممكن أن يكون له سنوات ، فيظل الراهب كل الأيام وكأنه مبتدئ في حياته الرهبانية ، ولا يأخذ مديحاً واستحساناً 

  •  طبيعة خطية الرياء :

١إنسان يتمسك بالحرف لا بالروح :

أنكم تحملون الناس أحمـالاً عسـرة الحمـل وأنتم لا تمسون الأحمال بإحـدى أصابعكم” (لو١١ : ٤٦). كان الناموسيون يتمسكون بالحرف إلى أقصى درجة (يقال أن الدجاجة إذا باضت يوم سبت لا يأكلون هذه البيضة)، إنها نظرة ضيقة وعقل ضيق .الشخص الذي يعيش في هذه الخطية يحكم على كل الناس ، ويدين كل الناس ، وتغيـب عنـه فضيلة مهمـة جـداً وهـي فضيلة الستر ، فعنـدمـا يـرى ضعفاً ينشره ، وقـد تساعده فـي ذلـك التكنولوجيا ، وهـو يعتقد أنه يحقق بطولة ، لا تنسـوا يـا إخوتي أنه بكلامك تتبرر ويكلامك تدان” (مت۱۲ : ۳۷)، الشخص الذي يعيش في خطية الرياء هو شخص يحاول أن يجمل نفسه ويزين الحرف بأي شكل . لا توجـد فـي مسيحيتنا شريعة حرفية قاسية ، فقد أعطانا السيد المسيح الـروح القدس الذي يدبر أمور حياتنا ، ولا يضع لنا شريعة حرفية لأن : ” الحرف يقتل ولكن الروح يحيي” (٢كو ٣ : ٦)، فالمعرفة ليست دليل العمل الصالح “من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل ، فذلك خطية له” (يع ٤ : ١٧)

۲ـ قتل الأنبياء :

تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم” (لو ١١ :٤٧)، وفي (لو ١١ :٥١) يقول :”من دم هابيل إلى دم زكريا الذي أهلك بين المذبح والبيت . نعم ، أقول لكم : إنه يطلب من هذا الجيل!”، زكريا كان نبياً قتله يوأش الملك ، وربما لهذا صرح نحميا قائلاً : “وقتلوا أنبياءك الذين أشهدوا عليهم ليردوهم إليك ، وعملوا إهائة عظيمة” (نح ٩ : ٢٦).

ولهذا لا نندهش من أن اليهود لا يزالون يتألمون في هذا العالم بلا معز . إنه لأمر خطير ، فسوف يظل لسان حال ظالميهم يصرخ دائماً : ” حقي عند الرب” (إش ٤٩ : ٤).الإنسان المرائي يقتل الناس ليس بسلاح ولكن ممكن أن يقتلهم بالكلمة ، فالكلمة ممكن أن تكون أحد من السيف . إن مقتـل هـابـيـل وزكريـا (تـك٤ : ٨ – ۱۰) (۲ أخ ٢٤ : ٢٠ – ۲۲) هـو المقتـل الأول والأخير في الكتاب المقدس العبري ، وهما يمثلان كافة جرائم التاريخ المقدس

۳ـ احتكار المعرفة :

يقـول : “ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم أخـذتم مفتاح المعرفة . ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهـم ” (لو١١ : ٥٢)، لقد أغلقوا الباب على كلمة الله وألقوا المفاتيح بعيداً .  

الإنسان المرائي لا يرى إلا نفسه ، فالرياء ممكن أن يضرب الإنسان فـي أي مكان ، وتكون النتيجة أنه يضيع حياته وعمره ، وهـو يـرى نفسه أنه صالح وهو لا يدري ، ويأتي يوم الرب العظيم يوم الدينونة ، ويقف أمامه ويجد كل شيء قد اختفى . نسمع عندما يقـول عـن مجـيء الـديـان الـعـادل مـن هـول الموقـف ينـادي شخص الجبـال ويقـول لـهـا “اسقطي علينا وغطينا”.

فـي صـلاة الصلح مـن القداس الكيرلسـي يقـول الأب الكاهن : “لا بحاسة مرذولة رافضة لمخافتك ، ولا بفكر غاش مملوء من شر الخائن ، غير متفقة نياتنا في الخبث “، هذه الثلاثية تشرح طبيعة الإنسان المرائي (ليس عنده مخافة الرب ـ له فكر مغشوش – غالباً إنسان خبيث أي كذاب). احترس من الرياء لئلا يسرق أيام عمرك … احترس لئلا تغيب عنك مخافة الله … احترس لئلا يمتلأ عقلك بالفكر المغشوش … احترس لئلا تكون نياتك خبيثة …. بهذه الكلمات تُنبه الإنسان باستمرار لئلا تلحقه هذه الويلات .

يأخذ الرياء صورا عديدة منها : النفاق والكذب والكلام الناعم الذي يخفي سماً مميتاً وخبثاً ومكراً والمظاهر الشكلية الكاذبة أي الإنسان الذي يعيش في حياة زائفة ، ولكن هذه الصور لا يقبلها الله أبداً.

وأنت في فترة الصوم … السؤال لك هل تنتبه لهذه الويلات لئلا تقترب منك ؟ لذلك انتهز الفرصة في أيام الصوم وراجع نفسك في هذا السؤال ، وكن صادقا مع نفسك ، هل تقع في خطية الرياء ؟

  •  كيف تتجنب الرياء في حياتك ؟

۱ـ كن صادقاً مع نفسك :

كن صادقا مع نفسك ومع الآخرين ، في كل ما تقوله ومـا تـقدمـه ومـا تقـوم بـه أحيانا يجلس الإنسان مع أب اعترافه ويجمل نفسه ، مع أنها فرصة لتقديم توبة وفضح النفس وكشف الأفكار (أفكارالكراهية ، أفكارالعظمة والبر الذاتي).

۲ـ شارك الآخرين فـي أحمالهم :

اشعر بالآخر، الأب والأم ، الخادم ، المسئول ، الأب الكاهن ، هذا الشعور هو الذي جعل كنيسـتنـا فـي صـلواتها تُصـلـي مـن أجـل الأب البطريرك والآباء الأساقفة والكهنـة والمرضى … وغيرهم ، فهؤلاء في حاجة إلى من يسندهم بالصلاة. المشاركة شـيء مهـم . مـن ضـعفات المجتمع عنـدنـا عـدم الاهتمام بثقافة التطوع سواء التطوع بالجهد أو الوقت ، تعلم وعلم أولادك هذه المشاركة .

۳ـ اهتم بالعمل قبل الكلام :

” من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل ، فذلك خطية له”(يع ١٧:٤). اهتم بالعمل قبل الكلام ، واعرف أن الحرف لا يبني ، والشكليات لا تبني الملكوت و”لغتك تُظهرك”، فالكلام إذا كان كلام رياء سوف تكشفه الأيام ، وإذا كان الكلام فيه مخافة الله سوف يظهر أيضاً .

مهما طالت حياة الإنسان على الأرض فهي محدودة للغاية ، ويحتاج الإنسان أن يكون حقيقياً مع ذاته ، وأعماله أكثر من كلماته ، واعرف أن الرياء هو المرض الروحي الخفي الذي يمكن أن يسرق منك ملكوت السموات ويهلك حياتك ، حتى وإن خدعت كل الناس حتى نفسك ، لا تستطيع أن تخدع الله الذي ستقف أمامه يوم الدينونة ، لذلك لتكن أعمالك أكثر من كلامك . احـذر مـن أن تسـمـع هذه الكلمة القاسية : “ويـل لـكـم”، وأنصحك بقراءة فصـل التطويبات لكي تبنيك ، وفصل الويلات لكي تتعلم وتتجنب هذه الضعفات . [4]

 

 

اطلبوا الرب للمتنيح الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار

فى منتصف القرن الثامن قبل الميلاد ، كانت المملكة الشمالية لاسرائيل فى حالة من الفوضى الاجتماعية والسياسية والدينية . وكانت مناحى الحياة الثلاثة هذه، وما زالت ، مرتبطة ببعضها  البعض بطريقة معقدة . فالمشاكل الاجتماعية والسياسية فى أيام عاموس النبى ــ أى فى تلك الفترة ــ أثرت تأثيرا مباشرا فى الحياة الدينية . وكانت آمال وطموحات الأمة والمواطنين ، وما يطلبونه ويبحثون عنه ، السبب الرئيسى فى تفاقم مشاكلهم الدينية .وكانت الكلمات التى كتبها عاموس النبى على هذه الأمة ، هى رسالة الرب لاسرائيل . فلم تكن كلمات انسان ، بل كلمات الرب القدير الذى أعلن عن نفسه صراحه فى (عاموس ٥: ٤) انه الرب :” لأنه هكذا قال الرب لبيت اسرائيل : اطلبوا (الرب) فتحيوا “.

الكلمة العبرية التى ترجمت “الرب” هنا هى “يهوه”. وهذا هو الاسم الشخصى لله . ففى سفر الخروج (خر٣: ١٤ – ٥) . عرف الله نفسه لموسى بهذا الاسم ، عندما سأله موسى عن الاسم الذى يخبر به بنى اسرائيل ، قال له الله:” أهية الذى أهية”، أو ” أكون الذى أكون “، أو “أنا هو الكائن بذاتى”، أو كما قال الرب يسوع فى العهد الجديد “أنا هو”. وبغض النظر عن المعنى الحرفى لهذا الاسم الذى استعمله بنو اسرائيل  للتعريف بالاله الذى يعبدونه فى مقابل الآلهة الوثنية الكثيرة التى كانت منتشرة فى منطقة الشرق الأوسط قديما . لذلك بين الله لبنى اسرائيل تفرده ووحدانيته فى بداية الوصايا التى أمر بها شعبه، والمعروفة باسم “الشماع” (من كلمة اسمع) :” اسمع يااسرائيل : الرب الهنا رب واحد” (تث ٦: ٤) .

وكلمة واحد فى هذه الوصية تعنى الوحدة والتفرد ، والمعنى واضح ، فالله واحد أى ليس هناك اله آخر غيره. أما “طلب الرب” فهذه هى رسالة الأنبياء والكارزين على مدى العصور ، فما معنى عبارة طلب الرب فى أيام عاموس النبى ؟ يأتى الفعل “أطلبوا” فى اللغة العبرية ” درش darash”   وهذه الكلمة  تعنى أكثر من مجرد الطلب . فهى تعنى : يطلب بعناية واصرار، يطلب من النبى أو الكاهن أو الرائى من أجل الحصول على قرار أو اجابة لسؤال .

فمن يطلب يبحث عن حل الهى لمشكلة ما . والطلب يستلزم عناية فائقة من  الطالب . فالمنى يتضمن الاتجاه لله فى الطلب ، والاستمرار فى التوجه اليه وذلك كمنهج دائم للحياة . فطلب الله والبحث عنه يعنى مسيرة حياة تخضع لارادة الله ، وتسير حسب توجيهاته . والشعب الذى يطلب الله ، يتخلل العدل والبر كل تعاملاته، ويصبح الله هو الموجه لكل تصرفاته وباختصار ، فان طلب الرب هو صنع مشيئته.

لقد أمر الرب شعبه على فم عاموس النبى أن ” اطلبوا فتحيوا . ولا تطلبوا بيت ايل والى الجلجال والى بئر سبع لا تعبروا “(عا٥: ٤ -٥) . فقد وضعت بيت ايل والجلجال وبيت سبع كبديل لطلب الله . كان بيت ايل والجلجال أماكن مقدسة مشهورة فى مملكة اسرائيل الشمالية. كان ابراهيم أبو الأباء هو الذى أسس بيت ايل (تك١٢: ٨ ، ١٣: ٣- ٤) ، وارتبطت الجلجال بعبادة الشعب العبرانى منذ أيام يشوع بن نون (يش٤ : ١٩- ٢٤) وأثناء حكم القضاة (قض٢) .

أما بئر سبع فتقع على الحد الجنوبى لمملكة يهوذا ، على بعد حوالى ٦٤ كيلو متر جنوب أورشليم. وقد ارتبطت هى أيضا بابراهيم أبى الآباء (تك٢١: ٢٥- ٣٣) . وقد مثلت هذه الأماكن الثلاثة أماكن مقدسة للعبادة على مدى عدة عصور مرورا بأيام عاموس النبى .

كان عاموس النبى ، المتحدث بأسم الله ، يأمر الشعب بالتوقف عن اسشارة الكهنة والمنجمين فى هذه الاماكن الثلاثة، والاتجاه لطلب الله وحده . وقراءة كلمات عاموس النبى توضح الممارسات التى كانت تجرى باسم يهوه والتى كان يرفضها الله . فالنشاط الدينى الذى كان يمارس فى بيت ايل والجلجال اعتبر على مستوى المعصية والتمرد على الله ،  بالرغم من أنه كان نشاطا دينيا . فالشعب فى محاولته لاظهار بره الشحصى ، كان يحاول أن يقدم أكثر مما هو مطلوب منه فى الناموس .

هلم الى بيت ايل ، وأذنبوا الى الجلجال ، وأكثروا الذنوب ، وأحضروا كل صباح ذبائحكم ، وكل ثلاثة أيام عشوركم . وأوقدوا من الخمير تقدمة شكر ، ونادوا بنوافل وسمعوا . لأنكم هكذا أحببتكم يابنى اسرائيل، يقول السيد الرب “(عا٤:٤ – ٥)  .لذلك أوضح لهم الرب على فم عاموس النبى رفضه لهذه الممارسات الدينية حتى ولو كانت تجرى باسم الرب:

بغضت ،كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم . انى اذا قدمتم لى محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضى ، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت اليها . أبعد عنى ضجة اغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع”(عا ٥: ٢١ – ٢٣) .

لقد صارت عبادة الله عبادة آلية خالية من الروح . وأصبح الاهتمام بالطقس والآلحان بديلا للعلاقة الشخصية الحية مع الله . لذلك كان صراخ النبى عاموس للشعب أن يتوقف عن مظاهر العبادة الخارجية، ويلتفت الى عبادة الله من القلب . لقد أوضح الله مشيئته من جهة الشعب بهذه الكلمات :”وليجرالحق كالمياه، والبر كنهر دائم” ( عا ٥: ٢٤) . ثم يعود النبى ويوضح اكثر ما المقصود بطلب الرب ، وذلك فى قوله : “أطلبوا الخير لا الشر لتحيوا”( عا ٥: ١٤) .

هنا يعقد النبى مقارنة ، فطلب الرب يمثله طلب الخير ، وطلب الشر يمثله طلب بيت ايل والجلجال وبئر سبع . فبالرغم من أن تلك الأماكن كانت فى نظرهم أماكن مقدسة يقدم فيها العبادة لله ، فان الله رفض هذه العبادة، لأنها لم تكن عبادة حقيقية . لم تكن سوى عبادة شكلية ، ولم يكن وجه الله هو المطلوب فى العبادة ، بل تتميم فرائض وطقوس خارجية باطلة.

هذه الصورة القاتمة ليست ببعيدة عنا اليوم . فالبعض يظن أن مجرد الذهاب للكنيسة ، وتتميم الطقس ، ودفع العشور والنذور ، هو العبادة المطلوبة . فى القديم نصح عاموس النبى الشعب أن يدخلوا فى علاقة شخصية مع الله ، لا أن يمارسوا الطقس بطريقة شكلية فقط ، فالطقس فى حد ذاته مطلوب ، أما العبادة الحقة فلازمة . لقد وبخ الرب يسوع الكتبة والفريسين الذين يعشرون النعنع والشبث والكمون ، لكنهم تركوا أهم واثقل ما فى الناموس  :”الحق والرحمة والايمان”( مت٢٣:٢٣) .

لقد اهتموا بشدة بتنفيذ تعاليم الناموس والهيكل التى تحض على اعطاء عشر ما يقتنيه الانسان ، وهم فى ذلك لم يخطئوا ، بل كانت خطيئتهم أنهم نفذوا وصايا الله بطريقة شكلية دون الدخول فى جوهر وصية الله :”انى اريد رحمة لا ذبيحة” (مت ٩: ١٣) . لقد كانت حياة بنى اسرائيل اليومية وممارساتهم صورة حية لما يؤمنون به ويطلبونه. كانوا فى حياتهم اليومية” يحولون الحق أفسنتينا” (عا ٥: ٧). وكانوا يضايقون البار آخذين الرشوة (عا ٥: ١٢) .

ولم يكن العدل الاجتماعى والسياسى موجودا فى قاموس حياتهم . لذلك طالبهم النبى بالعدل الاجتماعى قائلا :”ثبتوا الحق فى الباب”(عا ٥: ١٥) . ومن الغريب أن هذا الشعب البعيد عن الله ، الطالب شكل العبادة دون جوهرها ، كان يشتهى يوم الرب :”ويل للذين يشتهون يوم الرب” (عا ٥: ١٨) . لقد كانوا يتوقعون أن يوم الرب سوف يأتى لهم بالعدل ، وبالقضاء على أعداء اسرائيل ، ولرد اسرائيل الى مركزها المرموق بين الأمم المجاورة . وربما كان يظنون أن يوم الرب سوف يكون يوم عبادة للرب ، يقدمون فيه عبادة نقية من قلوبهم ، وبلغة اليوم كانوا يعتقدون أن يوم الرب هو الحل .

وبغض النظر عن مفهوم يوم الرب عندهم ، فلقد كان للنبى عاموس وجهة نظر أخرى فى يوم الرب . لقد أخبرهم أنه سيكون يوم ظلام لا نور (عا ٥: ١٨) ، وقضاء الله لن يكون حسبما يتوقعون . فالنبى كان يتكلم عن دينونة الله لشعب اسرائيل . فلم يكن يوم الرب فى نظر النبى يوما مستقبليا ، بل يوم حاضر بينهم . ولم تكن نظرةالنبى سوداوية تشاؤمية ، بل كانت نظرة مفعمة بالرجاء :”اطلبوا الرب فتحيوا”. وأساس طلب الرب هو حياة التوبة والتغيير بمعنى الاستجابة لقضاء الرب وتغيير نمط الحياة ليتوافق مع ارادة الله . ومظاهر هذا التغيير ستظهر فى ترسيخ الحق فى الأرض ، والرحمة، والأمانة فى حياة الناس . الأمور التى سيظهر تأثيرها المباشر فى حياة الناس الدينية والسياسية والاجتماعية .

ان يوم الرب ليس يوما مستقبليا ، بل هو يوم حاضر . انه يوم نعيشه كل يوم ونحس به . ألا يأتى علينا يوم الرب فى كل يوم نسمع فيه كلمته ونحس بحضرته ؛ ألا يحل علينا يوم الرب فى كل يوم نقترب من مائدته المقدسة ونتحد به . هذا هو يوم الرب ،وهذا هو صراخ النبى لنا لكى نطلب الرب فتحيا قلوبنا ، نتحد به ، ونحيا معه وفيه .[5]

 

المراجع

 

[1]– الحب الـرعـوي ص ١٧٥ – القمص تادرس يعقـوب ملطي.

[2] – تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الأسكندري ( صفحة ٤٠٤ ، ٤٠٧ ) – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد

[3] – تفسير إنجيل لوقا (الإصحاح الحادي عشر) – القمص تادرس يعقوب ملطي

[4] – إختبرني يا الله صفحة ٣١٥ – قداسة البابا تواضروس الثاني

[5] – مفاهيم إنجيلية (صفحة ١٢٤ – ١٣٠) – الأنبا إبيفانيوس – أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار