عظات عن السجدة

عظة مُقْتَرحة للسجدة

 

سجود الجسد والنفس والروح

السجود بصفة عامّة هو خضوع لمن له السلطان ، وإعتراف الإنسان بعجزه ونقصه دون الله ، وهو يختلف ما بين سجود الإعتراف ، إلي سجود العبادة ، ثم إلي سجود الكيان الإنساني كلّه

بتعبير آخر هو سجود الجسد                         ( سجود الإعتراف)

، وسجود النفس                                       ( سجود العبادة )

، وسجود الروح                                  (سجود الكيان الإنساني كلّه)

أولاً : سجود الجسد ( سجود الاعتراف )

نري هذا السجود لله إعترافاً بقدرته وسلطانه وجبروته ، كما يمكن أن نراه سجوداً للبشر ( خضوع واحترام ) إعترافاً بقدرة الله فيهم وهو اعتراف اللحظة والموقف ، الذي يُمْكِن أن يقود إلي الإيمان بالله وتتغير حياة الإنسان ويعيش حسب إرادة الله ، لكن يحدث أيضاً أن لا يزيد الموقف عند البعض عن مجرد انفعال وقتي ، ولا تتغير حياته.

نري سجود الموقف واللحظة في الذين سجدوا لله بعد نزول نار من السماء وقت إيليا وقبول الذبيحة بنار (١مل ١٨ : ٣٩)  ، ونراه في شيوخ بني إسرائيل عندما قابلهم موسي بعد دعوة الله له لإخراج الشعب من مصر (خر ٤ : ٣١) ، ونراه في المولود أعمي (يو ٩ : ٣٨)، وفي السامري الغريب الجنس بعد شفاؤه من البرص (لو ١٧ : ١٦)  ، وفي المجوس بعد ما رأوا نجمه في المشرق (مت ٢ : ١١) ، ومع شاول الطرسوسي في رحلته إلي دمشق (أع ٩ : ٤) ويستمر هذا السجود مع الإنسان في رحلة حياته علي الأرض كُلَّما إكتشف قدرة الله العجيبة وسلطانه ، كما حدث مع القديس بطرس بعد صيد السمك (لو ٥ : ٨) ، ومع المريمات بعد القيامة (مت ٢٨ : ٩)

لكننا نري هذا النوع من السجود ( سجود الاعتراف ) يكون  لرجال الله ، أي لمن استعلنت فيهم قدرة الله ( وهو ليس سجود عبادة لكن خضوع واحترام لمهابة الله فيهم ) ، مثلما حدث مع رئيس الخمسين الثالث مع إيليا (٢مل ١ :١٣) ، وسجود كرنيليوس لبطرس (أع ١٠ : ٢٥) ، وسجود غير المؤمنين للمؤمنين (١كو ١٤ : ٢٥) كما نري في هذا النوع من السجود ( سجود الإعتراف ) خضوع البشر لله حتي لو لم يؤمنوا به ، وأيضاً خضوعهم لرجال لله حتي لو لم يؤمنوا برسالتهم

” هكذا قال الرب: «تعب مصر وتجارة كوش والسبئيون ذوو القامة إليك يعبرون ولك يكونون. خلفك يمشون. بالقيود يمرون ولك يسجدون. إليك يتضرعون قائلين: فيك وحدك الله وليس آخر. ليس إله» ” أش ٤٥ : ١٤” هنذا أجعل الذين من مجمع الشيطان، من القائلين إنهم يهود وليسوا يهودا، بل يكذبون، هنذا أصيرهم يأتون ويسجدون أمام رجليك، ويعرفون أني أنا أحببتك ” (رؤ ٣ : ٩)

وهو ما عَبَّر عنه القديس جيروم في رعدة الأرض كلها في حضرة الله :

” إرتعدي قدامه يا كل الأرض”. أنصت إلى ما يقوله المرتل. السماء لا ترتعب في حضرة الله، لكن الإنسان الأرضي في فكره يتطلع إلى الرب بقلقٍ، ويرتبك جدًا، ويرتعب.[1]

ثانياً : سجود النفس ( سجود العبادة والحياة )

وهو سجود المؤمنين اليومي ، في عبادتهم ، وفي مخدعهم ، وفي شركتهم

وهو سجود المخافة ، والفرح ، والحب

” الرب إلهك تتقي، وإياه تعبد، وباسمه تحلف. ” (تث ٦ : ١٣)

” أما أنا فبكثرة رحمتك أدخل بيتك. أسجد في هيكل قدسك بخوفك. ” (مز ٥ : ٧)

” قدموا للرب مجد اسمه. اسجدوا للرب في زينة مقدسة. ” (مز ٢٩ : ٢)

” اسجدوا للرب في زينة مقدسة ” (مز ٩٦ : ٩)

ثالثاً : سجود الروح ( سجود الكمال )

وهو سجود الكيان الإنساني كله لله ، أي يعيش الإنسان بفكره وروحه بالكامل لله مثلما قال القديس بولس عن التكريس الكامل لله ” غير المتزوجة تهتم في ما للرب لتكون مقدسة جسدا وروحا ” (١كو ٧ : ٣٤)

وهو أيضاً سجود التسبيح الدائم بلا إنقطاع ، وأن يضع الإنسان كل رجاؤه في الله

مثال : المرأة التي أعطت الفلسين ، هو تسليم كامل للحياة في يد الله ، أي خضوع الروح والنفس والجسد وكل إحتياجاتهم لإرادة الله وتدبيره الصالح

مثال آخر : داود النبي في المزمور

” من لي في السماء ؟ ، ومعك لا أريد شيئاً في الأرض ” (مز ٧٣ : ٢٥)

والسجود الأول يأتي بنخس الروح (يو ١٦ : ٨) أي الإستجابة لعمل الروح القدس فينا ، والثاني بنعمة الإبن (٢بط ٣ : ١٨) أي النمو في معرفة ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح ، والثالث بمحبة الآب (أف ٣ : ١٩) أي أن نمتلئ إلي كل ملء الله

 

 

عظات ابائية عن السجود

السجود بالروح والحق للقديس كيرلس الأسكندري

ان الابن ليس في عداد الساجدين ، إذ هو الكلمة والله بل بالحري يُسجد له مع الأب

(يو ٤: ٢٢) :” أنتم تسجدون لما لستم تعلمون ، أما نحن فسنجد لما نعلم “.

يتحدث المسيح مرَّة أخري كيهودي وكإنسان ولأن المسيح لم يكن يترك الفرصة السانحة دون أن ينفع الآخرين ، لكنه مع هذا يوضّح شيئاً آخر أكثر بخصوص مفهوم عبادة اليهود ، لأن السامريين يعبدون الله ببساطة ودون فحص ، بينما اليهود قد استلموا بالناموس والأنبياء ، وبقدر استطاعتهم ، معرفة ذاك الذي هو الكائن ، لهذا يقول الرب إن السامريين ” لا يعلمون ” لكن اليهود لهم معرفة طيبة ، وهذا ما يؤكد أن الخلاص سوف يُستعلن منهم ، إذ هو المخلّص عينه ، لأن المسيح هو من نسل داود حسب الجسد ، وداود من سبط يهوذا ، فالذي يُعبد مع الآب بواسطتنا نحن والملائكة والقديسين قد وضع نفسه كإنسان في عداد الساجدين ، لأنه إذ لبس ثوب العبد ، تمم الخدمة اللائقة بعبد ، دون أن يفقد كونه الله والرب الذي يجب له العبادة ، لأنه يظل كما هو لا يتغير ، رغم أنه صار إنساناً ، مبقياً علي تدبير خطة الخلاص بالجسد علي الدوام .

وأنت أيضاً متي رأيت هذا التواضع العظيم ، اقترب منه متعجباً دون أن تتهم أو تتصيد الأخطاء بل بالحري تمثل به ، لأنه هكذا اشتاق بولس أن يري المؤمنين ، قائلاً ” فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً : الذي إذ كان في صورة الله ، لم يَحسب خُلسة أن يكون معادلاً لله ، لكنه أخلي نفسه ، آخذاً صورة عبد ، صائراً في شبه الناس ، وإذ وجد في الهيئة كإنسان ، وضع نفسه “(في ٢: ٥- ٨)

هل رأيتم كيف صار الابن لنا مثالاً في الاتضاع والتنازل ، إذ وهو المعادل للآب وهو صورته ، كما هو مكتوب ، تنازل لأجلنا إلي طاعة إرادية واتضاع ؟ فكيف يمكن لهذا الاتضاع أن يظهر إن لم يكن من خلال الأعمال والكلمات التي هي أدني من الكرامة اللائقة به كإله ، وقد نزل إلي درجة أدني بكثير جداً من تلك التي كان فيها ، عندما كان لا يزال الكلمة والكائن مع الآب ، أي عندما لم يكن قد أتخذ بعد صورة عبد ؟ فكيف نقول إنه قد نزل علي الإطلاق إن لم نقبل عنه أي شيء غير جدير به ، وكيف صار في شبه الناس بحسب قول القديس بولس ، إن لم يأت بالأفعال التي تناسب الإنسان ؟ لكن أكثر ما يناسب البشر هي العبادة ، إذ هي تعتبر بمثابة دين ، ونحن نقدّمها لله ، لذلك فإنه حينما صار إنساناً ، فهو يسجد كإنسان ، لكنه يُسجد له دائماً مع الآب ، لأنه كان ويكون وسيكون هو إله بالطبيعة ، وهو الله ذاته .

لكن الذي يعارضنا لن يقبل ذلك ، بل سيواجهنا قائلاً : ألا تظنوا أنه أمر غريب ، حينما نقول ، أن الابن يسجد لأننا لا نفترض أن الابن يتحتم عليه أن يعبد الآب، بنفس الطريقة كما نفعل نحن أو الملائكة ، مثلاً، لكن عبادة الابن هي أمر خاص وأفضل بكثير من عبادتنا نحن ؟ .

بماذا نجيب نحن إذاً علي هذا ؟ أتظن أيها الرفيق أنك تضلّلنا فتفرض علي الابن الوحيد عبودية نُظهرها وكأنها شريفة محاولاً إعطاء كرامة للعبد ، بكلماتك الخادعة ، كف إذن عن تمجيدك الخادع للابن ، حتي يمكنك أن تستمر في تكريم الآب ، لأن ” من لا يكرم الابن لا يكرم الآب ” كما هو مكتوب (يو ٥: ٢٣) ، أخبروني إذاً ما المنفعة التي تعود علي الابن الوحيد لو كان حراً وليس عبداً وليست له المساواة مع الآب ، حتي تكون عبادته معنا ، للآب أكثر سمواً من عبادتنا ؟لأنه طالما هو بين الساجدين فإنه يكون عبداً تماماً ،حتي إن قيل عنه أنه عابد متفوق ، إلا أنه لن يختلف بأي حال عن المخلوقات من جهة كونه مخلوقاً ، بل فيما يخص حالات السمو الأخير ، فإن ميخائيل أو غيره من القوات العقلية المقدسة هم أسمي من البشر ، فالملائكة هم أسمي بشكل جوهري من الذين يعيشون علي الأرض.

سواء من جهة القداسة أو من جهة التفوق في المجد ، فهكذا جبلنا الله الخالق الأعظم الذي جبل كل الأشياء ، فان كل المخلوقات تشترك معاً في كونها مخلوقة ، أما الكلمة الذي هو في الآب ومن جوهر الآب بالطبيعة فلا يمكن أن يكون مخلوقاً بأي حال ، حتي لو قيل عنه إنه يسجد بطريقة أكثر سمواً جداً ، لأنه كيف يكون المخلوق إبناً أو كيف يكون العبد الساجد بالطبيعة رباً ؟ لأنني افترض أن الكرامة الملكية والربانية تبرز أصلاً في كونه معبوداً ،

لكن وظيفة العبد والخادم تُعرف من تقديمه للعبادة ، ونحن إذاً نعترف عن طريق خضوعنا ، إننا ملتزمون أن نعبد الطبيعة الفائقة والتي هي فوق الجميع ، لهذا أعلن موسي العظيم الحكمة لكل الخليقة :” للرب إلهك تسجد (تخدم) وإياه وحده تعبد “(مت ٤: ١٠ ، تث ٦: ١٣) ، لهذا فكل من يختص بالعبودية بطبيعته ، وكل من ينحني تحت نير اللاهوت ، محتاج بالضرورة أن يقدم العبادة والسجود لله ، لأنه بقوله “يارب ” فهو يحدد وجود عبودية ، وبقوله ” الله ” يحدد وجود المخلوق لأنهما يُدركان معاً ، كما أنهما متقابلان فالعبودية هي في مقابل مَنْ هو بالطبيعة رب ، والمخلوقية هي في مقابل اللاهوت غير المخلوق.

لكن إذ نري أن الابن أزلي في الآب وهو الرب لأنه الله ، فإني أتساءل متي كان وقت يمكن أن يبدو الابن فيه من الساجدين ؟ لكن دعهم يزدادون في ثرثرتهم ، قائلين إن الابن الوحيد سوف يعبد الآب ، ليس كعبد أو كمخلوق بل كابن يسجد للآب ! لأن هذا يجعلنا نُدخِل التعبد ضمن تعريف البنوة ،

ونقول إنه يليق بالابن أن يعبد الآب ، لأنه في هذا يقوم كيانه ، مثلما يحدث فينا نحن ذوي العقل والمعرفة بكوننا مخلوقات عاقلة مائتة عندما نقدّم العبادة بتعقل ووعي وإدراك وليس بمجرد تسليمنا أنفسنا للحركات الخارجية والمندفعة وإلي تقلبات الإرادة ، لأنه إن كان مغروساً في الابن الوحيد بالطبيعة ، واجب وضرورة تقديم العبادة ، كما يزعمون ويقولون.

فكيف لا يسقطون في التجديف الصريح علي الآب نفسه ، لأنه سيصبح من الحتمي التفكير فيه هكذا ، إذ أن الابن هو صورته وختمه ، والأشياء المتماثلة لا تختلف في شيء عن بعضها البعض ، لكن إن كانوا يقولون إن الابن يتعبد للأب بالإرادة وحدها ، فهم يعتمدون علي التخمين ، أكثر من كونهم يعرفون الحق ، لأنه ما الذي يمنع غيرهم من القول ، وهم يصطنعون تقوي زائفة خطرة ، أن مشيئة الآب هي أن يسجد له الابن ، رغم أن الابن ليس عابداً بالطبيعة ؟ وهم يقولون إن اللياقة نفسها تستبعد شخص الآب ، وستخضع الابن لذلك ، وأن عبادته للآب هي فعل إرادي .

ماذا تقول يا سيد ؟ أتراك تأتينا بوحي من الأموات ، أو من الأساطير الإغريقية ، أم تراك أتيتنا مثل (شمعيا النحلامي) ، تُكلمنا من عندياتك من قلبك وليس بفم الرب ؟ (قابل أر ٢٩: ٢٤) .

أو أنك تحمّر خجلاً وأنت تضع اللياقة في مواجهتنا ، وكأنها أمر لا مفر منه في هذه الأحوال ؟ أو لا تراه لائقاً بذلك الذي هو بالطبيعة الله ، أن يكون الكلمة المولود منه إلهاً ، والذي تتعبد له الخليقة كلها ، أن يُدعي بالطبيعة أب لابن ، وهذا الابن تقدم له العبادة وليس عابداً ؟

وإني اعتقد أنني لم أقل شيئاً لا يرضي الحكماء بالحق ، لكن كيف لنا أن نقول إنه يليق بالآب أن يُعبد من وليده الذاتي ، في حين أن هذا المفهوم يضر بهما كليهما معاً أشد الضرر ؟ لأنه في المقام الأول مَنْ لا يعبد لن يكون في مساواة في الكرامة ، ولا في صورة الطبيعة مع ذاك الذي يُعبد ، لأنه يُعبد كأدني ، والعبادة لا تُقاس بالكم ، لأنها خاصية طبيعية ، لأن من يكون إلهاً أو رباً لن يكون أقل ، لأنه كيف يكون صادقاً في قوله :” الذي رأني فقد رأي الآب ” (يو ١٤: ٩) . وكيف له أن يقول إن عليهم أن يكرمّوه بنفس درجة تكريم الأب ، إن لم يكن مساوياً له في المجد ؟

إذاً فإن الآب ذاته سيظهر علي قدر غير كبير من عدم اللياقة ، لأن مجده هو في أن يلد مَنْ هو مثله بالطبيعة ، من جهة أخري فإنه من الشائن للغاية أن يكون له ابن من نوع آخر وغريب عنه ، الأمر الذي تنفر منه حتي طبيعة المخلوقات (فكل جنس يلد جنسه ). لأن القادرين علي الولادة بتدبير ومشيئة خالق كل شيء لا يلدون أسوأ من أنفسهم ، إذ يقول ” لتنبت الأرض عشباً وبقلاً يبزر بزراً ، وشجراً ذا ثمر يعمل ثمراً كجنسه “(تك ١: ١١) .

إذاً سيكون اللاهوت في حال أسوأ من خلائقه ، فبينما الذين وُضع لهم أن تكون ذريتهم مرتبة بحسب أجناسهم ، نري اللاهوت وحده وقد وُجد ناقصاً في ذلك !

مَنْ إذاً يحتمل قولكم أيها السادة النبلاء ، إنه يليق بالابن أن يُعبد الآب آباه ؟ وأيضاً حينما تضيفون إلي كلامكم هذا أن الابن الوحيد يفعل ذلك بإرادته ، وتدعمون جدلكم باللياقة فقط ، تعالوا نفهم الأمر من الأسفار الإلهية ، لأنني اعتقد أن علي المرء أن يفحصها بغيّرة بحثًا عن برهان لكل نقطة من نقاط الخلاف ، لقد أمر الناموس أن يُسدد نصف شاقل من جانب كل يهودي (خر ٣٠: ١٣) لذاك الذي هو فوق الكل ، لا علي سبيل ابتداع طريقة لجمع ثروة ، وليس كمساهمات مالية بلا هدف ، بل لتعليمنا بأوضح الأمثلة ، أولاً : أن ما من واحد منا هو رب لذاته ، بل أننا جميعنا لنا ربُّ واحد ، نقدم له تقدمة عبوديتنا ،

ثانياً : تقدمة الثمار العقلانية والروحانية ، التي تشير إليها التقدمات المادية ، (إذ يقول ” أكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلتك “(أم ٣: ٩) ، هذه الثمار التي تحققت بالإنجيل ، وقد بطلت أيضاً العبادة بحسب الناموس ، لأننا لم نعد نفتقد أننا يجب أن نعبد رب الجميع بواسطة تقدمات خارجية فنجبر الناس علي سداد نصف شاقل من مادة فانية ، لكن ” السجود الحقيقي هو أن نسجد لله الآب بالروح والحق “(يو ٤: ٢٣) . هذا هو المعني الذي ينبغي أن نفهم أنه كامن في حرف الناموس .

وعندما كان الرب في أورشليم ، سأل جُباة الدراهم بطرس أن يسدد جزية نصف شاقل ، قائلين له ” أما يوفي معلمكم الدرهمين ؟” قال بلي فلما دخل بطرس البيت سبقه يسوع قائلاً : ماذا تظن يا سمعان ممن يأخذ ملوك الأرض الجبايةأو الجزية ؟أمن بينهم أم من الأجانب ؟ (مت ١٧: ٢٤) ، وحينما قال بطرس من الأجانب ، قال يسوع إذاً فالبنون أحرار ، ولكن لئلا نعثرهم أذهب إلي البحر وألق صنارة والسمكة التي تطلع أولاً خذها ومتي فتحت فاها تجد أستاراً فخذه وأعطهم عني وعنك .( مت ١٧: ٢٦- ٢٧) . أرأيتم كيف دفع الابن الجزية ، وكواحد تحت نير العبودية ، فقد مارس شيئاً يمارسه العبيد ، إذ لأنه يعلم كرامة طبيعته الذاتية يؤكد أنه لا يمارس عملاً خاصاً بالعبودية لله الآب ، إذ يقول ” البنون أحرار ” فكيف إذاً يعبد مثل العبيد ، وذلك بمحض إرادته الخاصة ، ذاك الذي لم يقبل حتي أدني شبهة عبودية ، كيف يقبل واقع العبودية نفسه ، ألسنا نحسب العبادة تقدمة حاملة للأثمار الروحية ، ونقول إنها نوع من الخدمة .

لأنه لماذا يربط الناموس بين الخدمة والعبادة قائلاً :” للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد “(مت ٤: ١٠ مع تث ٦: ١٣) . لأن العبادة إن جاز القول هي الباب والطريق إلي الخدمة بالفعل ، لأنها بداية العبودية لله ، لهذا يقول المرنم للبعض ” هلم نأتي ونسجد ونركع ونبكي أمام الرب صانعنا “(مز ٩٥: ٦س) ، ألا تري كيف أن واجب السجود تابع للعبادة ومرتبط بها ؟ فأي شيء يليق أكثر بالعبد ، علي الأقل في نظر أولئك الذين يقدرون خصائص الأمور بدقة ؟ .

لكن إن كان معارضونا يستمرون علي ما هم عليه بغطرسة في وقاحة لا تليق ولا يكفون عن أفكار جهالتهم في هذه الموضوعات ، فليدرسوا الأسفار الإلهية كلها ، ليبينوا لنا متي ذُكر عن الابن أنه يعبد الله الآب ، هل حين كان لا يزال هو ” الكلمة ” فقط قبل أزمنة التجسد ، وقبل أن يأخذ صورة العبد ؟ حاشا ، بل بعد أن صار إنساناً فقط ، يعبد بلا لوم ، ولكن آنذاك لم يكن يفعل ذلك ؟ لكنهم سيعجزون عن إثبات رأيهم من الأسفار الإلهية المقدسة ، ولأنهم يحشدون تخمينات وظنوناً من خيالاتهم الفاسدة ، سيسمعون بحق ” تضلون إذ لا تعرفون الكتب ” ولا مجد الابن الوحيد (قابل مت ٢٢: ٢٩) ، لهذا هو لا يسجد بصفته الكلمة والإله ، لكنه إذ قد صار مثلنا ، فقد أخذ علي عاتقه أن يفعل هذا كما يناسب الإنسان ، بسبب تدبير تجسده ، ولن نبحث عن البرهان من الخارج ، لكننا سنعرفه من كلماته هو نفسه ، لأنه ماذا يقول للمرأة السامرية ؟ ” أنتم تسجدون لما لستم تعلمون ، أما نحن فنسجد لما نعلم “(يو ٤: ٢٢) .

أليس من الواضح جداً إذاً ولكل واحد أنه باستخدامه صيغة الجمع حاسباً نفسه مع أولئك الذين يسجدون عن ضرورة وعن عبودية قد فعل هذا وهو في الطبيعة البشرية التي هي في وضع العبودية ، ولهذا فهو يقول هذا الكلام ؟ وإلا فأخبرني ما الذي كان يمنعه من أن ينسب السجود إلي أقنومه الذاتي “لاهوته” ، لو أنه كان يرغب في أن نعرفه معابد ؟

لأنه كان ينبغي أن يقول بالحري ” أنا أعرف لمن أسجد ” حتي عندما لا يكون معدوداً مع الباقين ، تكون قوة الكلام قاصرة علي نفسه وحده ، لكنه الآن وبتعبير فائق الروعة وكامل الدقة يقول “نحن” إذ قد صار ضمن رتبة العبودية بسبب إنسانيته ، كمعدود بين الساجدين و كيهودي بحسب الوطن

(يو ٤: ٢٣- ٢٤) :” ولكن تأتي ساعة ، وهي الآن ، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق ، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له ، الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا “.

هو الآن يتحدث عن زمان حضوره الشخصي ويقول أن المثال قد تحول إلي الحق ، وإن ظل الناموس قد انتقل إلي العبادة الروحية ، ويخبرنا أنه من خلال تعليم الإنجيل ، فإن الساجد الحقيقي أي الإنسان الروحي سوف ينقاد إلي رعيّة تُسر قلب الآب ، مسرعاً إلي الانضمام مع أهل بيت الله ، لأن الله يُعرف بأنه روح ، بالمقارنة بالطبيعة الجسدية ، لهذا هو يقبل الساجد بالروح وبالحق ، الذي لا يحمل في الشكل أو المثال صورة التقوي اليهودية ، لكنه بطريقة الإنجيل يسطع بممارسات الفضيلة وباستقامة التعاليم الإلهية ، وهكذا يتمم العبادة الحقة الصادقة[2] .

 

 

السجود بالروح والحق للقديس غريغوريوس النيسي

وبما ستقول أنك تضع في الأعتبار ، وهذا هو مقصدك ، أن اسم الأب يشتمل على الابن ، حسناً . وعندما وضعت في ذهنك الابن ، ألم تضع معه الروح القدس ؟ إنك لا تستطيع أن تعترض .

كيف ستعترف بالابن ، إن لم يكن هذا بنعمة الروح القدس ؟ إذاً متى انفصل الروح عن الابن ، حتى وصل أنه عندما يسجد للأب ، لا يشتمل هذا السجود على الابن والروح القدس ؟

وكيف يفهمون هذا السجود ، فبينما يقدمونه كتقدمة متميزة لإله الكل ، ويمتدون به أحياناً إلى الابن الوحيد الجنس ، إلا أنهم لا يعتبرون الروح القدس مستحقًا لهذه المكافأة ؟ إن البشر عادةً ما يعتبرون الروح القدس إنحناء المستعبدين حتى الأرض ، عند استقبالهم لمن هم أكثر قوة سجوداً . كما ظهر في حالة يعقوب أب الآباء ، وأظهر بتواضع أنه أدنى أو أقل ، من خلال السجود إلى الأرض عند ملاقاته لأخيه ، محاولاً تهدئة غضبه ، إذ سجد إلى الأرض سبع مرات.

وأخوة يوسف بالرغم من عدم معرفتهم من هو ، وعلى الرغم من تظاهره بأنه لم يعرفهم ، قدموا لسلطانه كرامة السجود ، من أجل منصبه الرفيع . والعظيم أبراهيم سجد لنبى حث ، واعتقد أن الأجنبي هو الذى يظهر عملياً لأبناء الوطن الأصليين الحقوق الكثيرة التي يتمتعون بها أكثر من المهاجرين .

ونستطيع أن نقول أموراً كثيرة أخرى مثل التي جاءت في الرويات القديمة ، بل ومن أمثلة الحياة المعاصرة أيضاً .

ترى هل فهم هؤلاء السجود على هذا النحو ؟ ألا يُعد من قبيل السخرية أنهم لا يعتقدون أن الروح القدس مستحق للسجود ، الذى اعتبر أبراهيم أن الكنعانيين يستحقونه ؟ أم أنهم يعتبرون السجود شيئًا مختلفاً عن هذا ، حتى يكون هناك سجود يُناسب البشر بشكل تام ، ولا يقدمون له حتى السجود الذى يُقدم للبشر ؟

وما هي طريقة السجود التي يعتقدون أنها تليق بالله ؟ هل يعبرون عنها بالكلام ، إما يؤدونها عملياً ، أم أن الطرق المختلفة للسجود تعتبر مشتركة بين البشر ؟ إذاً ما هو الاستثناء بالنسبة لله ؟ آلا يظهر الآن حتى لبسطاء العقول ، أن الطبيعة الإنسانية لا تملك أي عطية تتناسب مع بهاء ومجد الله ، لأن خالقنا غير محتاج لتقدماتنا .

أما نحن البشر فإن جميع تعبيراتنا عن الكرامة والمحبة الموجودة فيما بيننا تُظهر أن الواحد أقل من الآخر ، وهذا ما نعلنه نحن حين نقدم العبادة لله ، مُقدمين ، كعطايا ، كل واحد ما نقدمه نحن للطبيعة المخلوقة.

إن الناس يذهبون إلى الملوك وإلى الحكام من أجل ما يريدون تحقيقه من سادتهم ، ولا يقدمون فقط لهؤلاء مجرد الاحترام الواجب ، بل لكى يستطيعون أن ينالوا بالأكثر تعاطفهم ورضاهم ، فإنهم يتحدثون بكلام الخشوع ، ويتخذون وضع السجود ، ويسقطون بوجوههم على الأرض ، راغبين في نوال الرضا ، ويقدمون كل ما من شأنه أن يُثير الشفقة .

ويفعل هذا كل من عرف السلطة التي تحكم جميع الكائنات ، فأصحاب النفوس الضعيفة يترجون أن يحصلوا من الحكام على كل ما يتمنونه في هذا العالم ، أما ذوى البصائر المتميزة فيطلبون الرجاء الأبدى الكامل ، كما أن الطبيعة الإنسانية ليس لديها الإمكانية أن تعبر عن الكرامة التي تليق بعظمة وبهاء المجد الإلهى ، ولذلك نقلوا الكرامة البشرية إلى العبادة الإلهية .

إن المعنى المحدود للسجود يكمن في الطلبه التي يرفعها المرء إلى من يترجاه بتضرع واتضاع  .ولهذا دانيال أحنى ركبتيه أمام الرب طالباً رحمته للشعب المأسور ، أيضاً ذكر الإنجيل أن المسيح الذى حمل خطايانا ، والذى أخذ الطبيعة الإنسانية ، قد سجد إلى الأرض وقت الصلاة وترجى الآب من اجلنا ، وكان يُصلى ساجداً .

اعتقد أنه وضع قانونًا للحياة الإنسانية أن تتضع وقت الطلبة ، بل على قدر ما يتضع الإنسان فإنه يكون مُستحقاً للرحمة ، لأن : ” الله يقاوم المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمةً ” .

ولأن : ” كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع . إذا إن كان السجود هو نوع من التوسل أو التضرع الذى يُقدم لكى يُعزز هدف الطلبة ، وأن الطلبة تتجه للرب الذى يهب العطايا ، فما معنى هذا التشريع الجديد ؟ أنا لا أظن أنهم لا يطلبوا من ذاك الذى يُعطى ، أو أنهم لا يخضعون للحاكم ، ولا يخدموا سيدهم ، ولا يسجدون لقائدهم .

إن هذا كله يشهد للروح القدس . إذ أنه يقود كل من له طبيعة تدبيريه ، ويُحقق كل الأشياء في كل الأمور ، وهو يتحكم في تقسيم المواهب كما يريد ، يهب الحياة ، يرحم ويخلص ، يؤله ويقود إلى الله ، يجعل أبناء الله يملكون مع المسيح ، يمنح الملكوت ، يُقيم الموتى ، ويُقيم كل من سقط يعود بكل من خدع إلى طريقة الأول ، يضمن قيام كل من تعثر في شيء ما ، ويقيم الذى مات في خطاياه . ترى ، هل هذه كلها أمور لا تُذكر ، ولا تستحق الشكر ؟ إذًا ليخبرونا ما هي الأمور التي تُعد أسمى ، ولا يمتلكها الروح القدس ، والتي لأجلها يعتبرونه لا يستحق أن يسجدوا له .

ويُمكننا بعد ذلك أن تعرف من هؤلاء الأمر الآخر أيضاً ، فعندما يسجدون للآب كما يعتقدون ، هل ينزعون من ذهنهم تماماً ذكر الابن الوحيد الجنس والروح القدس ؟ أيضاً ، أن يُفكر المرء في الآب ، ولا يفكر في الابن معه فهدا أمر غير طبيعى ، وعندما يضع في اعتباره الابن ، آلا يشمل الروح القدس في معية الابن ؟ إن رفض هذا بالكامل ونقض الاعتراف ، هو أمر واحد سواء من اليهود أو من الصدوقيين الذين رفضوا الابن ، ولم يقبلوا الروح القدس.

غير أن من يعترف بأنه يشفع في كل الأحوال في كل ما يطلبه المسيحيون ، فإنه يعترف بالطبع بأنه يضع في ذهنه الآب ، وفى نفس الوقت يرى الإبن في الآب واستنار من قبل بالروح القدس ، لأنه : ” ليس احد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس ” . وبناء على ذلك فإن الساجد الحقيقى ، حين يهجر المعانى الوضعية جداً التي للهراطقة ، سيُكرم ذاك الذى يحكم ، ويسود ، ويتسلط ، ويقدم كل الخيرات في الكون ، لا من خلال الكرامة التي تُستحق لذاك ، بل بكل ما يمكن أن يقدمه ذاك ( أي الروح ) . فما فعلته تلك الأرملة ، هو أنها أضافت فلسيها إلى الكنوز المقدسة ، وقد أعلن عن هذا النموزج للكرم ، لا لأن مقدار المال الملقى يستحق الإعجاب ، بل لأنها لم تكن تستطيع تقديم المزيد ( قدمت كل ما لديها ) .

إن كل ما يبتدعه البشر لكى يمنحوا كرامة ومجدًا هو أدنى من بهاء وعظمة الروح القدس ، ولا يضيفوا إليه المجد الحقيقى . إن مجده قائم في نفس الدرجة من السمو كرامة البشر أم لا . والطبيعة الإنسانية تُقدم رغبتها فقط كعطية أو كمنحة ، وبالإرادة فقط يتحقق الهدف بواسطة النعمة التي يمنحها الروح القدس .

لم يكن للطبيعة الإنسانية أية قوة أخرى أكثر من إرادتها ، وانطلاقها ، ورغبتها . وإن كانت الإرادة تطلب أن تستجدى الإعجاب ، أو تسموا بتقديم مديح لعظمة القوة الإلهية ، فهى لا تمتدح الطبيعة الإلهية ، وكيف تمتدح شيئًا تجهله ؟ لكنها سمت بنفسها . لأن المرنم يقول : ” دود إلى دور يُسبح أعمالك وبجبرونك بجلال مجد حمدك وأمور عجائبك الهج . بقوة مخاوفك ينطقون وبعظمتك أحدث ذكر كثرة صلاحك يبدون وبعدلك يُرنمون ” .

أرأيت أن إعجاب النبى يكتمل من خلال الملامح الخارجية للطبيعة الإلهية التي نلاحظها ؟ لكن القوة الإلهية المطوبة ، تظل كما هي لا يُقترب منها ، وتبقى غير مرئية للأفكار . إن المرنم يتجاوز الشروحات والتعليقات الكثيرة للذهن ، وقوة الكلمة ، ووثبة القلب وحماسة الذاكرة ، فهذا ما يتجاوز بالكامل ، فعلى قدر عدم قدرة الأجساد على ملامسة النجوم هكذا هي القوة الإلهية ، لا يمكن إدراكها[3].

 

 

معني السجود عند القديس يوحنا ذهبي الفم

 

“لأن الخلاص هو من اليهود”، ما يقوله هو هكذا: أن بركة هذا العالم تأتي منهم (لأن معرفة الله وجحد الأصنام وإنكارها بدأت بهم، وبالنسبة لكم فإن عمل السجود وإن كنتم لا تؤدونه بالأسلوب الصحيح إلاَّ أنكم استلمتموه منهم)… كما أشار بولس الرسول إلى مجيئه إذ يقول: “ومنهم المسيح حسب الجسد، الكائن على الكل إلهًا مباركًا”  (رو ٩ : ٥). أنظر إليه كيف يمتدح العهد القديم، ويوضح أنه أساس البركات.

لم يظهر المسيح للمرأة السامرية لماذا سجد الآباء في ذلك الجبل، ولماذا سجد اليهود في أورشليم، فلهذا صمت، إذ أبطل وأزال عن الموضعين كليهما معالي التقدم. وأنهض نفسها موضحًا أنه لا يمتلك السامريون ولا اليهود فعلًا عظيمًا بالمقايسة إلى الفعل المزمع أن يوهب لنا. وبعد ذلك أورد الفصل بينهما، إلا أنه قد حكم أن اليهود أشرف قدرًا على هذا القياس، دون أن يفضل مكانًا على مكان.

لكنه أعطى لليهود التقدم، وكأنه قال: لا ينبغي لأحد أن يجادل لأجل مكانٍ فيما بعد، إلا أن اليهود في غريزتهم قد حازوا الشرف أكثر منكم أنتم أيها السامريون لأنه قال: “أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم”. فإن سألت: كيف لم يعرف السامريون من هو الذي يسجدون له؟! أجبت: لأنهم اعتقدوا بأن الله يحده مكان معين ويتحيز لهم، لهذا يسجدون له.

إذ أرسلوا للفرس قائلين: “إن إله هذا المكان غاضب من أجلنا” (٢مل ٢٦). ظنوا أنه يوجد إله محدود، فعلى هذا استرضوه وعبدوه، ولهذا السبب لبثوا يسترضون الأصنام، ويسترضون إله المسكونة، أما اليهود فكانوا بعيدين عن هذا الظن، فقد عرفوا الله أنه إله المسكونة كلها، وإن كان هذا الرأي لم يكن رأيهم كلهم، فلهذا السبب قال المسيح: “أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم ”

كان كل من اليهود والسامريين شديدي الاهتمام بالجسد، يطهرونه بمختلف الطرق. لذلك يقول إنه ليس بطهارة البدن، بل بطهارة ذلك الجزء غير الجسدي من كياننا، أي العقل. به نعبد الله اللا جسدي ، كما لا يكون القربان بذبح العجول والخراف، بل بتكريس الإنسان نفسه لله. أهلك ذاتك، فتقدم ذبيحة حية.

إذ يقول الحق استبعد السامريين واليهود. فإنه وإن كان اليهود أفضل من السامريين، إلا أنهم أقل بكثير من القادمين بقدر ما أن الرمز أقل من الحقيقة. إنه يتحدث عن الكنيسة التي لها العبادة الحقيقية التي تليق بالله بقوله “الحقيقيون” يستبعد اليهود والسامريين، لأن هؤلاء اليهود وإن كانوا أفضل من السامريين إلا أنهم أدنى كثيرًا من المزمعين أن يسجدوا “بالروح والحق”…. إن كان الله في الماضي قد سعى إلى مثل هؤلاء… إنما لطفًا وتنازلًا منه حتى يأتي بهم إلى حظيرة الإيمان.

وإن سألت: ومن هم الساجدون الحقيقيون؟ أجبتك: الذين لا يربطون عبادتهم بمكانٍ محددٍ، وهم ينجذبون بالروح. وكما يقول بولس الرسول: “الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه” (رو ١ : ٩). وفي موضع آخر يقول: “أطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم الفعلية” (رو ١٢ : ١).

قول المسيح للمرأة السامرية: “الله روح” لا يدل على معنى آخر إلا على أنه خالٍ من جسم، لذلك ينبغي أن تكون عبادة للخالي من جسم خالية من جسم أيضًا، وأن نقدمها بما هو فينا خالٍ من جسم، أي أن تكون بروحنا وبنقاوة عقلنا، لذلك قال المسيح: “والذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا[4]

 

 

 

المراجع:

 

١- تفسير مزمور ٩٦ – القمص تادرس يعقوب ملطي

٢- المرجع : كتاب شرح إنجيل يوحنا لكيرلس عامود الدين الفصل الخامس – مشروع الكنوز القبطية

٣- المرجع : كتاب الروح المحيي للقديس غريغوريوس النيسي – ترجمة دكتور سعيد حكيم يعقوب – مؤسسة القديس أنطونيوس – المركز الأرثوذكسي للدراسات الابائية

٤- المرجع : تفسير إنجيل يوحنا ( الإصحاح الرابع ) – القمص تادرس يعقوب ملطي