ليلة الأثنين من البصخة المقدسة

 

 

ذابح الحمد يمجدني والمقوِّم طريقه أريه خلاص الله” (مز ٥٠ : ٢٣)

[طوبى للإنسان الذي يترك عنه هذا العمر واهتماماته المملوءة تعب القاتلة للنفس. ويحمل صليبه يوما فيومًا ويلصق عقله باسم الخلاص الذي لربنا يسوع المسيح.] (إبصالية الجمعة)

[النفس التي أوشكت أن تقبل الكلمة اللوغوس، يجدر بها أن تموت عن العالم (غل14:6) وتُدفن في المسيح (رو٤:٦)، (كو٢ : ١٢) فلا تجد إلا المسيحَ، فهذا هو الاستقبال اللائق الذي يطلبه منها لنفسه[ (القديس أمبروسيوس)[1]

 

شرح القراءات

بعد ما رأينا في قراءات يوم الأحد طريق الملكوت بالصليب، وكيف يملك الله على حياتنا بصليبه، وكيف نعيش هذا الملكوت،

تأتي قراءات ليلة الأثنين لتشرح الطريق إلى رؤيته الإلهية، أيضاً بالصليب، فهو الطريق الوحيد لمعرفة الله المعرفة الحقيقية، والمدخل الوحيد لاستعلانه.

والعجيب في قراءات هذه الليلة، أنها ليس فقط تشرح كيف ارتبط الصليب برؤيته كعطية الله المجانية والخلاصية لنا، بل وتُقدِّم لنا خطوات عملية لنراه، وتكون رحلة حياتنا هي النمو في معرفته ورؤيته كمسؤولية على كل واحد منِّا.

ولعلَّ هذا ما نراه واضحاً في مقدمة الأناجيل للخمس ساعات [إذا أخذنا الجملة الأولي من بداية كل إنجيل من كل ساعة] والتي ترسم لنا كيف نعيش ملكوته، ويُسْتَعلن مجد حضوره يوماً بعد يومٍ:

إرادة رؤيته ← “نريد أن نري يسوع” (إنجيل الساعة الأولى).

الصلاة ← “وإذ كان يصلي منفردا وحده” (إنجيل الساعة الثالثة).

الصعود ووضوح الهدف ← “وكانوا في الطريق صاعدين إلى أورشليم” (إنجيل الساعة السادسة).

خدمة القرى والمحتاجين ← “ثم خرج يسوع وتلاميذه إلى قرى..” (إنجيل الساعة التاسعة).

الخلوة ← “جاء التلاميذ إلى يسوع منفردين وحدهم” (إنجيل الساعة الحادية عشر).

 

وتُعلِـــن:

النبــــوّات مُعوقات رؤيته.

والمزامير ← الصراخ لرؤيته.

والأناجيـل تدبير رؤيته.

تشرح أناجيل الساعات حضور ورؤية ابن الله في حياتنا:

“نريد أن نرى يسوع” (إنجيل الساعة الأولى).

أنت مسيح الله” (إنجيل الساعة الثالثة).

وكان يسوع يسير قدامهم” (إنجيل الساعة السادسة).

أنت هو المسيح” (إنجيل الساعة التاسعة).

“حينئذ جاء التلاميذ إلي يسوع منفردين وحدهم” (إنجيل الساعة الحادية عشر).

 

 

الساعة الأولى من ليلة الأثنين

تبدأ قراءات ليلة الأثنين بإحتياج النفس الشديد للنور الإلهي ولحضوره، وتجاوب الأبرار لدعوته ورفض الأشرار محبّته.

النبوّةصَفُنْيَا (١: ٢ – ١٢)

تتكلّم النبوة عن عُرْس العهد الجديد، وذبيحة الخلاص، التي قدمها الله مجاناً بصليب إبنه الوحيد، وكيف رفض اليهود دعوته ولم يطلبوه، وإنحرفت إرادتهم:

“والذين لم يطلبوا الرب ولم يلتمسوه … لأن الرب قد أعد ذبيحته وقدَّس مدعويه”

وتشرح النبوة أسباب ومعوقات رؤيته:

التشبُّه بالعالم “ومن جميع لابسي البرفير”،

وظلم الآخرين “الذين يملأون بيت الرب إلههم ظلماً وخبثاً”،

ومحبّة الفضة “قد باد جميع المترفعين بالفضة”،

والتجديف “القائلين في قلوبهم أن الرب لا ينفع ولا يضر”.

 

المزمور (٢٦ : ١١،١٠)

“أُسبح وأرتل للرب، إستمع يا رب صوتي الذي به دعوتك، إرحمني وإستجب لي فإن لك قال قلبي”.

الرابط بين المزمور والأنجيل (القمص لوقا سيداروس)[2]

استمع يا رب صوتى الذي به دعوتك

فالرب يسوع في هذه الساعة وهو حمل جسم بشريتنا يطلب إلى الآب، ولكن ترى ماذا يطلب؟..

هذا ما يوضحه لنا الأنجيل:

يطلب مجد الآب قائلاً: “مجِّد اسمك” وهو يعلمنا أن نقول في الصلاة: “ليتقدس اسمك” والاستجابة تأتي في الحال من السماء بصوت الآب “مجدت وأمجد أيضاً”.

الآن يقال حقاً إن “كل من يطلب يأخذ وكل من يسأل يجد” وتجئ الاستجابة في المسيح لطلبات البشرية كلها في الحال وبصوت من السماء .

منذ الآن يستعلن مجد الاسم الإلهى [يسوع المخلص] ويتمجد ليس في اليونانيين فقط، بل وفى جميع الأمم أيضاً، وليس في زمن معين بل وفى كل زمان؛ لأن صوت الآب يقول: “أمجد أيضاً”

يتمجد الرب بالثمر المتكاثر من حبة الحنطة [المسيح] التي تقع في الأرض وتموت .

أرحمني واستجب لي  ..

لقد جمع الرب يسوع في نفسه المجد الإلهي والضعف البشري، فالصوت يستجيب من السماء في مجد وفى ذات الوقت يقول نجني من هذه الساعة. وهو يقول نفسي قد اضطربت، ويقول في ذات الوقت رئيس هذا العالم يطرح خارجاً.

على أننا إذا ما جزنا مع المسيح في طلب “نجني من هذه الساعة” كان علينا أن نلتزم أيضاً بتسليم المشيئة معه “لتكن لا إرادتي بل إرادتك”.

 

الأنجيل (يو ١٢: ٢٠-٣٦)

يشرح بوضوح العلاقة بين طلب رؤيته والصليب والموت عن العالم.

فلا يوجد معرفة حقيقية كاملة لله دون الصليب، ولا يُسْتَعلن ابن الله للبشر إلَّا بموتهم عن العالم:

“يا سيد نريد أن نرى يسوع … إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها ولكن إن ماتت فهي تأتي بثمر كثير … وأنا إذا إرتفعت عن الأرض جذبت إليّ كل أحد”.

والعجيب أيضاً مجئ دعوة ابن الله للبشر لقبول نوره متوافقة مع دعوة العُرْس في النبوة:

“إن النور معكم زماناً يسيراً فسيروا في النور ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام”.

وإذا كان الرب سيُفتِّش أورشليم بسراجه الإلهي ونوره السماوي في نبوّة صفنيا “وسيكون في ذلك اليوم أني أفتش أورشليم بسراج”، فإنه سيرى من هم في النور “مادام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور”.

كما أن الصليب سيُعْلِن مجد المسيح والذين رفضوا خلاصه سيُدانون:

“فجاء صوت من السماء قائلاً قد مجدت وأيضاً أمجد … ليس من أجلي كان هذا الصوت بل من أجلكم قد حضرت الآن دينونة هذا العالم”.

[وتأتي الترجمة القبطية هنا “يا أبت مجد إبنك” مُختلفة عن الترجمة البيروتية “أيها الآب مجد إسمك” كما يقول الأرشيدياكون بانوب عبده][3]

 

 

الساعة الثالثة من ليلة الأثنين

النبوة – صَفُنْيَا النبي (صف ١: ١٤-١٨، ٢: ٢،١)

تأتي هذه النبوَّة مُكَمِّلة لنبوة الساعة الأولى من صَفُنْيَا النبي أيضاً (صف ١: ٢-١٢)

ففي نبوّة الساعة الأولى أعد الرب ذبيحته (ذبيحة الخلاص)، وقدس مدعويه، وعاتب الذين لم يلتمسوه، وحذَّرهم من أنه سيفتش بسراج عن طالبيه.

يأتي في نبوّة الساعة الثالثة ليُعْلِن يوم مجيئه الثاني العظيم المخوف، ويدعو الجميع للتوبة والعدل والحق وطلب الرب بتواضع القلب للنجاة من الدينونة.

“قريب هو يوم الرب العظيم … أطلبوا الرب يا جميع متواضعي الأرض، إصنعوا الحكم وأطلبوا العدل وجاوبوا لهما لعلكم تستترون في يوم رجز الرب”.

 

المزمور (مز ٢٧: ١٠، ٢)

المزمور المسياني (الخاص بإبن الله)، وهو الذي كان يُرتَّل أمام الهيكل وأمام تابوت العهد الذي يُمثَّل الحضرة الإلهية.

وهذه الطلبة في هذه الساعة “خلص شعبك. بارك ميراثك. إرعهم وارفعهم إلى الأبد. إستمع يا رب صوت تضرعي إذ أبتهل إليك” تُعْلِن صراخ نبوّة العهد القديم للإحتياج للمُخلِّص، والذي سيُعْطِي لكنيسته من خلال الصليب الخلاص والبركة والرعاية والرفعة.

وكما يقول أبونا تادرس يعقوب ملطي: [يسأل داود الله عن شعبه للتمتع بالعطايا التالية:

الخلاص: أن ينقذهم من أعدائهم. فنحن لا نستطيع أن نتمتع بالشركة معه ما لم يهبنا النصرة على “الأناego “، والخطايا والشيطان.

البركة الصادرة عن الله فيتباركون. لا يكفي خلاصنا من الأعداء الروحيين، وإنما نحن في حاجة إلى تذوق عذوبة الله نفسه، إذ هو برّنا، وقداستنا، ومجدنا، وفرحنا.

الاهتمام بنا ورعايتنا، إذ يقوتنا في مرعاه السماوي، أي في كنيسته. يقدم لنا الخبز السماوي، الجسد الافخارستي، ودم المسيح الافخارستي، مع مواهب الروح القدس.

الارتفاع فوق الأعداء، وفوق المخاوف والمخاطر إلى التمتع بالميراث الأسمى والمجد الأبدي. إنه يرفعنا إلى الأبد. إنه لا ينتزع الآلام من حياة المؤمنين، لكنه يرفعهم فوق كل ضيقة وحزن لينعموا به حتى في تجاربهم][4]

الرابط بين المزمور والأنجيل (القمص لوقا سيداروس)[5]

خلص شعبك

في الصباح عندما دخل اورشليم صرخ الشعب قائلاً: “أوصنا … أوصنا خلصنا”، وفى المساء يردد يسوع هذه الطلبات عينها ويرفعها إلى الآب الذى يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق (المسيح) يقبلون .

كيف يصلى قائلاً:” خلص شعبك” وهو المخلص (يسوع)؟:

من أجل ذلك سأل التلاميذ لكى لا تكون هناك فرصة لعدو الخير ينفذ بها إلى إيمان التلاميذ…

وعندما نطق بطرس بكلام الإيمان أوصاهم الرب أن لا يقولوا لأحد بل يحفظوا هذا في قلوبهم، مثلما كانت تفعل العذراء القديسة مريم. إذ كانت تحفظ هذه الأمور متفكرة بها في قلبها .

بارك ميراثك

لقد قيل في المزمور اسألنى فأعطيك الأمم ميراثاً … ويسوع يطلب بركة هذا الميراث .. بينما تتبارك فيه جميع قبائل الأرض، ونحن ميراثه الذى باركنا فيه بكل بركة روحية في السماويات في المسيح (أف ١: ٣)

ارعهم وارفعهم

هو أيضاً يطلب هكذا وهو نفسه الراعى الذي يبذل نفسه عن الخراف … وهو أيضاً الذي يرفع البائس من المزبلة، والرب في هذه الساعة رفع قلبهم إلى مستوى الإعلان الإلهى في وجه يسوع المسيح.

 

الأنجيل (لو ٩: ١٨- ٢٢)

ثم يختم الأنجيل بالربط أيضاً بين معرفته وإستعلانه وبين موته وقيامته.

لذلك نرى هنا كيف يسأل الرب تلاميذه عن من هو في رأي الناس، وأيضاً من هو في نظرهم، وبعدما نال القديس بطرس نعمة الإعلان السمائي عن حقيقة ابن الله وأقرّ بها، أعلن الرب عن صليبه وقيامته، وكأنهما لا ينفصلان عن بعضها، إعلان معرفته، وطريق آلامه وقيامته.

“كان تلاميذه معه فسألهم قائلاً: من تقول الجموع أني أنا؟.. وأنتم من تقولون أني أنا؟ فأجاب بطرس وقال أنت مسيح الله.. وقال أنه ينبغي لإبن البشر أن يتألم كثيراً ويُرذل من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتلونه وفِي اليوم الثالث يقوم”.

 

الساعة السادسة من ليلة الأثنين

قراءات هذه الساعة تسير بنا نحو الكنيسة المُقدَّسة:

وكيف تصرخ للنجاة (النبوة).

وكيف ستُكلَّل بمجد العهد الجديد (المزمور).

وكيف يسير أمامها ابن الله في طريق الألم (الأنجيل).

 

النبوَّة (يؤ ١: ٥- ١٥)

نرى هنا دعوة الرب لكنيسته ورعاته وخدّامه وشعبه للصلاة والصوم:

“إتزروا بالمسوح ونوحوا أيها الكهنة .. أدخلوا وبيتوا بالمسوح يا خدّام الله … وأصرخوا إلى الرب إلهكم جداً”.

 

المزمور (مز ٢٨: ٢،١)

“قدموا للرب يا أبناء الله قدموا للرب أبناء الكباش قدموا للرب مجداً وكرامة قدموا للرب مجداً لإسمه أسجدوا للرب في ديار قدسه”.

يرى الآباء القديسون أن أبناء الله هم المسيحيين الذين جاؤا من كل الأمم والقبائل.

ويرى القديس باسيليوس:

[أن الكبش هو الذي يتقدم القطيع ويرشده للمراعي والمياه والحظائر، فهؤلاء يرمزون إلى الرؤساء، المتقدمين على رعية السيد المسيح، لأنه بتعاليمهم يرشدون الخراف الناطقة إلى المراعي والمساقي الروحية؛ وأنهم مستعدون لنطاح الأعداء بقرني العهدين القديم والجديد، ليجتذبوهم بكلمة الله إلى الحياة الصالحة التقوية. بهذا يصيّرونهم أبناء لهم، يقربونهم لله، ليقولوا: “ها نحن والأولاد الذين أعطانيهم الله”.

ويرى أيضاً أن دار قدسه هي الكنيسة الواحدة المقدسة وليست مجمع اليهود، الذين بسبب خطيتهم صارت دارهم خرابًا، واحتلت الكنيسة مركزها، حيث فيها نلتقي بالله لنسجد له بالروح والحق، وخارجها لا يليق بنا أن نسجد][6].

 

 

الرابط بين المزمور والأنجيل (القمص لوقا سيداروس)[7]

قدموا للرب يا أبناء الله

تأملوا في دقة إحكام كلام النبوة في المزمور .. فالتلاميذ صاعدون إلى أورشليم يتقدمهم يسوع (الذبيحة الحقيقية) والمزمور ينادي التلاميذ يا أبناء الله قدموا للرب ذبيحة، وكأنه يشير إلى المسيح الذى يتقدمهم. الرب يسوع نفسه يتكلم مع تلاميذه بأنه سوف يُسَلَّم ويُجلَد ويموت .

وقد سبق الله وأشار إلى هذا الحمل الوديع بيد يوحنا المعمدان الذي قال: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو ١: ٢٩)

إن هذا اليوم بالذات هو يوم اختبار الحمل (في العاشر من نيسان) لكى يكون تحت الحفظ إلى يوم الذبح، والحمل الذي يتقدمهم ليذبح عنهم هو نفسه الراعى الصالح الذي يسير أمام الخراف والخراف تتبعه فهو يقدم نفسه ذبيحة وهم يقدمون له مجداً وكرامة.

قدموا للرب

لقد قدم اليهود للرب تعييرات وشتائم وقالوا: إنه مضل للشعب، وأنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين. وقدموا له غضباً وصياحاً أمام بيلاطس، وقدم له الجند الجلد والاستهزاء، وقدموا له الصليب ليحمله. وعندما قال يسوع: أنا عطشان، قدموا له خلاً ممزوجاً بمر ليشرب. وبسوع البار قَبِلَ واحتمل كل هذا وها هو يخبر تلاميذه بتقدمات الناس الأشرار والمعتبرين رؤساء في الشعب. بل لا تزال تقدم للمسيح كل يوم وفى كل مناسبة مثل هذه التقدمات النجسة من مبغضي الصليب ورافضي الحق .

ولكن المزمور يقول: أما أنتم يا أبناء الله .. قدموا للرب مجداً لاسمه. اسجدوا للرب في دار قدسه. ليس شيء يدعونا للسجود والتسبيح أكثر من آلام الرب الذى سكب للموت نفسه وقدم ذاته ذبيحة ومحرقة من أجلنا. وعندما نصعد إلى أورشليم لنقدم ذبيحة السجود لابد أن نتحقق أن يسوع يتقدمنا .. سنسير وراءه حتى إلى الصليب .. حيث قدم نفسه لأجلنا “من أجلك نمات كل النهار . قد حسبنا مثل غنم للذبح” (رو ٨ : ٣٦).

 

الأنجيل (مر ١٠: ٣٢- ٣٤)

ويختم الأنجيل بالكنيسة الصاعدة إلى أورشليم في المسيح، والتي يُطمئنها في خوفها، ويُعرِّفها أن طريق صعوده (أو صعودها فيه) لاينفصل عن طريق آلامها وطريق موتها وقيامتها، طالما هو يسير أمامها:

“وكانوا في الطريق صاعدين إلى أورشليم وكان يسوع يسير قدامهم وكانوا يتحيرون والذين كانوا يتبعونه كانوا خائفين .. ها نحن صاعدون إلى أورشليم وإبن الإنسان سيسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الأمم، فيهزأون به ويتفلون عليه ويجلدونه ويقتلونه وفِي اليوم الثالث يقوم”.

 

الساعة التاسعة من ليلة الأثنين

وتأتي قراءات هذه الساعة للتحذير من:

مُعطِّلات إعلان خلاص الله لنا وفينا في ظلم الآخرين والجشع (النبوة)

وعدم طلب بر الله وعدله (المزمور)

والإهتمام بما هو للناس وليس ما لله (الأنجيل).

ما أروع إختيار الكنيسة لهذه الثلاثة معاً النبوة والمزمور والأنجيل.

 

النبوَّة (ميخا ٢: ٣-١٠)

تشرح النبوَّة معالم الظلم وسماته التي يجب أن لا توجد بين أولاد الله:

“وقام شعبي بالعداوة قبالة سلامته سلخوا جلده لينزع الرجاء من إنكسار الحرب، من أجل ذلك مدبروا شعبي يُطرحون خارجاً من بيوت نعمتهم”.

وفِي نفس الوقت تُعْلِن القراءة من هم الذين ينالون الخلاص:

“أيها المسمى بيت يعقوب هل قصرت روح الرب أهذه أفعاله أليست أقوالي صالحة نحو من يسلك بالاستقامة”.

 

المزمور (مز ١٦: ١،٦)

“أنا صرخت لأنك قد سمعتني يا الله. أمل يا رب أذنيك وأنصت لكلامي. إستمع يا الله عدلي. وأصغ إلى طلبتي”.

والعجيب هو إختيار هذا المزمور بعد هذه النبوِّة.

فهذا المزمور هو إحدى المزامير المسيانية (١٦-٢٤) والتي كل مزمور منها يُقدِّم نبوَّة واضحة عن المسيح المُخلِّص.

ويقول القديس جيروم:

[أن كل ما ورد في هذا المزمور ينطبق على السيد المسيح له المجد.

وبالرغم من أن هذا المزمور هو مرثاة قدمها إنسان متهم ظلمًا فاحتمى بالهيكل ينتظر حكم الله في قضيته غير أن السمات الواردة هنا (عدلي – بريّ)، بشفتين بلا غش، تنطبق على السيد المسيح أولًا وقبل كل شيء، إذ هو البار الكامل، وشفتاه بلا غش (1بط ٢ : ٢٢)، يشفع ببره عن شعبه، ويستمع الآب على الدوام إلى شفاعته.

أي أن هذا المزمور يتكلَّم أيضاً عن الظلم وخاصَّة ظلم الأبرياء والحمل بلا عيب الذي حمل أوجاعنا ليهبنا برُّ الآب، وكلمة “أذنيك” في المزمور تُشير إلى إبن الله الذي تجسّد ليسمع ويعيش أنيننا ويُسْمِعنا صوت بر الآب.

لذلك يقول أحدهمC. Stuhlmueller : نحتاج إلى المزمور ١٧ كاحتياجنا إلى آلامنا السرية ونحن أبرياء، لا لننطلق إلى ما وراء آفاق تلك الأرض فنبلغ الأبدية فحسب، وإنما لكي ندخل إلى قلب يسوع الذي أُتهم ظلمًا (يو ٨ : ٤٦)، البريء الذي “لم يعرف خطية صار خطيةلأجلنا” (٢كو ٥: ٢١). وحينما نتلو المزمور 17 نصلي أيضًا من أجل الأوقات التي فيها نحن قد أسأنا الحكم وظلمنا أبرياءً: نصلي من أجل كل ضحايا الظلم][8]

ويُضيف القمص تادرس يعقوب ملطي تعقيباً على كلمات هذا المزمور:

[لا يمكننا فهم الدفاع بالبر هنا كتعبير ساذج عن البر الذاتي، فهو ليس مجرد تأكيد من جانب الإنسان العابد على خلوه من الخطية، إنما هي محاولة لتبرير الإنسان من اتهامات معينة ظالمة.

فبقولنا: “استمع يا الله عدلي (بري)”، لا نعني أننا بلا خطية، وإنما نعني أن صوت دم السيد المسيح واستحقاقاته أعظم من صوت الاتهامات الباطلة ضدنا، بل ومن صوت الخطية التي تشهد ضدنا، صوته فينا أقوى، لأنه صوت برّ المسيح، الحق الإلهي!]8

 

الأنجيل (مر ٧: ٢٧- ٣٣)

وربما كان في بداية وختام إنجيل الساعة ما يحمينا من الوقوع في الظلم فلا نخسر خلاصنا.

فبداية الأنجيل هو الخروج إلى القرى والأماكن البسيطة وخدمة الفقراء والمعدمين والتي تجعلنا نسند الضعفاء.

وختام الأنجيل في الإحتراس من فكر العالم وآراء البشر التي تُبرِّر الظلم وتبعدنا عن فكر الله:

“ثم خرج يسوع وتلاميذه إلى قرى قيسارية فيلبس .. إذهب عني يا شيطان، لأنك لا تفكر فيما لله بل فيما للناس”.

ولكن لا يفوتنا هنا أيضاً الربط الواضح بين معرفة المسيح له المجد وبين صليبه وقيامته:

“أجاب بطرس وقال أنت هو المسيح .. ينبغي لإبن الإنسان أن يتألم كثيراً ويرذل من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتلونه وبعد ثلاثة أيام يقوم”.

 

الساعة الحادية عشر من ليلة الأثنين

وتُخْتَم قراءات هذه الليلة بإعلان:

سبب الضعف والهزيمة (النبوَّة).

وكيف نجَّانا الابن من الأعداء الأقوياء (المزمور).

وكيف أعطانا النصرة الكاملة عليهم (الأنجيل).

 

النبوَّة (ميخا ٣ : ١-٤)

تبدأ بالتحذير من عدم التوبة ورفض صوته فيصرف وجهه عنهم فيصيبهم الشر.

“حينئذ يصرخون إلى الرب فلا يجيبهم، بل يصرف وجهه عنهم في ذلك الوقت والشر الذي صنعوه بإساءتهم يأتي عليهم”.

والمُقارنة هنا بين:

الصراخ المُستجاب إليه:

“أنا صرخت لأنك قد سمعتني” ← للأبرار (في مزمور الساعة التاسعة).

والصراخ غير المُستجاب إليه:

“حينئذ يصرخون إلى الرب فلا يجيبهم، بل يصرف وجهه عنهم” ← للأشرار (في نبوّة الساعة الحادية عشر).

 

المزمور (مز ١٧: ١٦، ١٧)

“نجني من أعدائي الأقوياء ومن أيدي الذين يُبغضونني، لأنهم تقووا أكثر مني، أدركوني في ضُرّي”.

ويطبق بعض المفسرين المزمور كله على السيد المسيح.

وهو يُصنَّف كمزمور مسياني، إذ أوضح داود أن مُلكِه إنما كان صورة ورمزًا لمملكة المسيح.

لقد اكتشف أن الخلاص الحقيقي لا يتحقق بهلاك شاول ورجاله بل بهلاك إبليس وجنوده الروحيين، خلال نصرة المسيح وموته وقيامته ومجده وملكوته. لقد أقامنا ملوكًا روحيين (رؤ ١: ٦).

والمزمور هنا أيضاً هو أحد المزامير المسيانية (١٦ – ٢٤).

واقتبس القديس بولس هذا المزمور مرتين بكونه يخص السيد المسيح (رو ١٥: ٩) ؛ (عب ٢: ١٣)

بل ويرى البابا أثناسيوس الرسولي أن [المزمور يتضمن سبعة أمور:

مقاومة الأعداء لنا.

الأستعانة بالله.

نزول السيد المسيح إلينا ليخلصنا.

صعود الرب إلى السماء.

الله ينقذ الإنسان من الأعداء.

رفض اليهود (فقدان كرامة البنوة لله وصيرورتهم غرباء).

قبول الأمم (قبولهم نعمة الملوكية بالإيمان خلال السماع).

ويُقال إنها قصيدة انتصار سجلها داود في أواخر حياته بعد أن استراح من جميع أعدائه. لذلك ما جاء في هذه الساعة يُعبِّر عن لسان حال البشرية أمام أعدائها الأقوياء والذين يبغضونه (قوات الظلمة) والتي تصرخ للمُخلِّص ليُعطيها النجاة][9]

 

الأنجيل (مت ١٧: ١٩- ٢٣)

ويختم الأنجيل برسم طريق النصرة الكاملة على الشيطان بالإيمان الذي ينقل الجبال وبالصوم والصلاة:

“الحق أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل إنتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شئ غير ممكن لديكم وأما هذا الجنس فلا يخرج إلَّا بالصلاة والصوم”.

 

 

 

أفكار لعظات مقترحة

معرفة إبن الله

“سأل تلاميذه قائلاً ماذا يقول الناس في إبن البشر من هو؟

السؤال يُعبِّر عن إحتياجنا من وقت لآخر لمراجعة إيماننا وتنقيته دائماً من أي معرفة عالمية أو أي صورة خاطئة عن الله منأفكار غير مسيحيَّة في المجتمع.

لكن الله لا يحتاج لرأي البشر فيه (يو٢: ٢٥،٢٤)، (مت١٧:١٠)، (لو٢٦:٦) لكنه يسأل التلاميذ ليراجع إيمانهم هل هو مثل باقي الناس؟.

“قالوا يوحنا المعمدان وقال آخرون إيليا وقال آخرون إرميا

لعل البعض رأي في مناداة الرب بالتوبة (مت٧:١٠) أنه يوحنا المعمدان والبعض الآخر رَآه يطرد الباعة من الهيكل (مت ٢١: ١٣،١٢) فظنَّوا أنه إيليا وآخرين رأوه يبكي علي أورشليم (لو٤١:١٩) فقالوا هو إرميا ولكن ابن الله أعظم من أن نري فيه جانباً أو شبيهاً فهو الذي دعا الأنبياء وهو موضوع نبوتهم.

فأجاب بطرس

العجيب أن الرب سأل التلاميذ والوحيد الذي أجاب هو بطرس وواضح أن إستعداد القديس بطرس في هذه اللحظة كان أكثرمن باقي التلاميذ ولكن للأسف كما يحدث معنا في ضعفنا سرعان ما ننتقل إلي أقصي اليسار إذا لم نستمر في تمسُّكنا بإعلان الله وإكتفينا برأينا البشري وهذا حدث بعد هذا الموقف بلحظات عندما أعلن الرب عن صليبه وإندفع القديس بطرسولكن ليس بإعلان من الآب لكن بغواية من الشيطان “إذهب عني يا شيطان” (مت ٢٣:١٦).

إن لحماً ودماً لم يُعْلِن لك هذا لكن أبي الذي في السموات

معرفة الله ليست باللحم والدم والمنطق والعقل لكن بإعلانات الله لأن الله هو الذي يُعْلِن ذاته لنا “والذي يحبني يحبه أبي،وأنا أحبه، وأظهر له ذاتي” (يو ٢١:١٤) ورحلة حياتنا هي رحلة نمو في النعمة وفِي معرفة ربنا يسوع المسيح (٢بط ٣: ١٨).

على هذه الصخرة

الصخرة هنا هو ربنا يسوع المسيح (١كو ١٠: ٤) والإيمان به يُحطِّم كل حصون الشر (٢كو١٠: ٤).

ولا يُقْصَد بالصخرة هنا القديس بطرس لأن الرب لا يبني كنيسته على إنسان وكيف وهو القائل عن نفسه أنه حجر الزاوية (مز٢٢:١١٨، مت ٤٢:٢١، أف ٢٠:٢).

وأبواب الجحيم لن تقوي عليها

يمكن أن يكون لهذه الآية تفسيران:

التفسير الأوَّل هو أن أبواب الجحيم تهجم علي الكنيسة وعلي شعبها ولا تقدر عليهم.

التفسير الثاني هو أن الكنيسة هي التي تخترق الجحيم (جحيم الخطية والشر) لتنقذ أولادها منه ولا تقدر أبواب الجحيم أنتقف أمامها.

 

 

عظات آبائية لليلة الإثنين من البصخة المقدسة

العظة الأولى

علاقة إنجيل الساعة الأولي بالصليب عند القديس كيرلس الأسكندري[10]

(يو ١٣، ٢١: ٢٢)

“فتقدم هؤلاء إلى فيلبس الذى من بين صيدا الجليل، وسألوه قائلين، يا سيد نريد أن نرى يسوع فأتى فيلبس وقال لأندراوس ثم قال أندراوس وفيلبس ليسوع”.

رغم أن الفريسيين لم يكونوا يعرفوا، فأنهم نطقوا بالحق حينما قالوا: “هوذا العالم قد ذهب وراءه” فليس اليهود فقط، بل الوثنيين أيضاً كانوا مزمعين أن يقبلوا الإيمان لذلك، فإن طلب اليونانيين حدث في ذلك الوقت كنوع من باكورة دخول اليونانيين للإيمان.

واليونانيون الجليليون جاءوا إلى فيلبس لأنه هو نفسه جليلي. وسألوه أن يروا يسوع الذى كانوا مشتاقين إلى رؤيته لأنهم كانوا يسمعون باستمرار أخبار طيبة عنه، وذلك لكي يكرموه ويصلوا إلى غاية أشواقهم، ولكن فيلبس عندما تذكر ما قاله الرب: “إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا” (مت ١٠: ٥)، خاف لئلا يخطئ بأن يحضر إلى المسيح أناساً لم يؤمنوا به بعد، وهو كان يجهل أن قصد الرب هو أن يمنع التلاميذ من الاقتراب من الأمم إلا بعد أن يرفض اليهود النعمة المقدمة لهم، وهكذا أخبر فيلبس أندراوس الذي كان معتاداً على مثل هذه الأمور، وعندئذ بموافقة اندراوس تقدم الاثنان وأخبرا يسوع.

ويعلمنا فيلبس بتصرفه الحكيم، أنه ليس حسناً أن نتحدث بدون حرص إلى أولئك الذين هم أكبر منا حتى لو كان الأمر سليم وصائب، بل بالحري نستشير الأصدقاء الحكماء فيما يجب علينا أن نفعل .

(يو ١٢،٢٢)

” وأما يسوع أجابهما قائلاً ، لقد أتت الساعة ليتمجد ابن الأنسان ”

اذ رأى الرب أن الأمم يسرعون برغبة حارة لكى يروه ولكى يتحولوا إليه، لهذا قال: “لقد أتت الساعة” وذلك لأن وقت آلامه قد أقترب جداً، والذى سيتبعه مباشرة دعوة الأمم، وهو يدعوا الوقت الحاضر حينئذ “بالساعة”، لأنه يقصد أن يوضح أنه لا توجد أية فرصة أخرى يمكن أن تضطره للتأمل، سوى هذا الوقت الذي عينه هو بحسب تحديداته الخاصة.

فلأنه صنع كل الأمور التي يمكن أن تودى بالناس إلى الإيمان، ولأنه كرز بكلمة ملكوت السموات، فهو الآن يريد أن يتقدم إلى قمة ما يرجوه، وأعنى أن يبطل الموت، وهذا لم يكن ممكناً أن يحدث لو لم تجتاز الحياة الموت لأجل كل البشر، لكي بهذا نحيا جميعنا فيه لأنه على هذا الأساس أيضاً يتحدث عن نفسه أنه يتمجد بموته، وبإجتيازه آلاماً مرعبة وشديدة على أيدي الخطاة الذين يزدرون به.

ورغم أنه كان ممجداً من الملائكة في السماء منذ الأزل، إلا أن صليبه كان هو بداية تمجيده على الأرض من الأمم كإله، لأنه بعد أن ترك اليهود لأنفسهم وهم الذين إحتقروه علناً، فإنه تحول إلى الأمم وهم يمجدونه كإله، منتظرين بثقة أن يأتي ثانية “بمجد الآب” (مت ١٦: ٢٧)، وهو يعلن ليس فقط أن الكلمة سوف يتمجد حينئذ، بل يوضح أن ذاك الذي بطريقة تعلو على الفهم يعتبر إنساناً وإلهاً معاً هو الأبن الواحد الوحيد، والمسيح الواحد، وهكذا يستعمل لقب “ابن الإنسان”، لأنه هو الابن الواحد والمسيح الواحد، وهو لا يقبل أي انفصال في الطبيعة منذ التجسد، بل هو يظل أبدياً، إلها رغم أنه لابس الجسد.

هو ابن واحد ومسيح واحد، لا يقبل أي إنفصال في الطبيعة،

سوى إننا يمكن أن نقول إننا نعترف بطبيعة الكلمة (وبطبيعة) الجسد، ويمكن أن نقول: إنهما مختلفان في فهمنا، لأن واحدة هي من جوهر الله الآب، أما الأخرى فإن جذورها في الأرض من العذراء القديسة، ومع ذلك فهناك مسيح واحد فقط من اثنين، وهو لا ينقسم إلى ابنين بعد هذا الإتحاد لهذه الطبائع التي ذكرناها، بل يظل كما هو يملك قوة اللاهوت، رغم أنه مكتسي بالجسد.

(يو ١٢: ٢٤)

“الحق أقول لكم: إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهى تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير”.

الرب يخبر مقدماً ليس فقط عن آلامه وعن إقتراب الساعة، بل يخبر أيضاً عن السبب في أنه يعتبر ألامه ثمينة جداً، قائلاً إن فائدة آلامه ستكون عظيمة جداً، وإلا لما كان قد أختار بإرادته أن يتألم، فهو لم يتألم رغماً عنه.

لأنه بسبب سخائه من نحونا، فقد أظهر مثل هذه الشفقة العظيمة والعطوفة، لكى يحتمل بإرادته كل أنواع القسوة لأجلنا. وكما أن “حبةالحنطة” التي تزرع في الأرض تعطي سنابل كثيرة من القمح، دون أن يحدث لها أي خسارة بسبب هذه السنابل، بل هي موجودة بقوتها في كل الحبوب التي في كل سنبلة، لأن كل هذه السنابل جاءت منها، هكذا أيضاً فإن الرب مات وبموته فتح جيوب الأرض، وأصعد معه نفوس البشر، إذ هو نفسه كائن فيهم، بحسب تعليم الإيمان. وفوق هذا وأعلى منه كائن بذاته في وجوده المتميز.

وهو لم يمنح قوة نوال ثمار الفائدة التي يأتي بها للأموات فقط بل للأحياء أيضاً؛ إن كنا نجعل التعليم مماثلاً بأمانة لما جاء في المثل. لأن حياة كل البشر، الأموات والأحياء، هي ثمرة لآلام المسيح، لأن موت المسيح صار بذرة حياة.

هل يمكن إذاً أن تكون الطبيعة الإلهية للكلمة قابلة للموت؟

بالتأكيد إنه ضد التقوى أن نقول هذا، لأن كلمة الله الآب هو حياة بطبيعته، هو يقيم من الموت إلى الحياة؛ وهو لا يفشل، هو يبيد الموت، هو لا يصير خاضعاً للفساد، هو يحيى ذاك الذى ليس له حياة، وهو لا يأخذ حياته الخاصة من آخر، لأنه كما أن النور لا يمكن أن يصير ظلاماً، هكذا من المستحيل أن الحياة تتوقف عن أن تكون حياة، فكيف إذاً يقال إن نفس الشخص “يقع في الأرض كحبة حنطة”، وأيضاً أن “يصعد” “كالله بهتاف”؟ (أنظر مز ٤٧: ٥). بالتأكيد إنه أمر واضح أن تذوق الموت كان مناسباً له من جهة صيرورته إنساناً، ومع ذلك فالصعود كإله، هو امتيازه الطبيعى الذاتي .

 

العظة الآبائية الثانية – ليلة الأثنين

الأسبوع العظيم (البصخة) والتسبيح – للقديس يوحنا ذهبي الفم[11]

ها قد قطعنا رحلة الصوم وبنعمة اللة وصلنا الى الميناء، ولأننا وصلنا إلى نهاية المطاف ينبغي علينا أن نعطي اهتماماً عظيماً لهذاالاسبوع.

فربابنة السفن يفعلون هكذا، حينما يصلون بسفنهم الضخمة المليئة بالقمح وبالبضائع، يقودونها بكل حرص وخوف لئلا تصدم بالأحجار وتتحطم وتغرق كل البضائع. ونحن أيضا ينبغي علينا أن نزيد من جهدنا، كى ننال جعالة تعبنا في نهاية سعينا.

والعداءون أيضاً، حينما يقتربون من الجوائز، فإنهم يضاعفون سرعتهم والرياضيون أيضًا، فبعد منافسات لا تحصى وانتصارات لاتنتهي، يشددون بالأكثر من سعيهم، ويزيدون حماسهم، عندما يقتربون من أكاليل النصر .

فلنفعل نحن أيضًا هكذا، لأن هذا الأسبوع كالميناء لربابنة السفن وكأكاليل النصر للرياضيين والعدائين، أما بالنسبة لنا، فهو مصدر الخيرات، وفيه نجاهد كى ننال الأكاليل .

نحن ندعوه بالأسبوع العظيم، ليس لأن أيامه أعظم من سواها إذ توجد أيام عظيمة أخرى، بل لأن الرب صنع فيه آيات عظيمة لأجلنا:

أزال طغيان الشيطان الذين دام طويلاً.

ولم يعد للموت سلطاناً علينا، سحقت قوتة تجرد من أسلحته، قهرت الخطيئة، إنحلت اللعنة.

فتح باب الفردوس، وهبنا رسم دخول السماء.

اتحدت صفوف الملائكة مع البشر، نقض الحائط المتوسط، ونزع الستار الفاصل.

بسط إله السلام سلامه على السمائيين والأرضييين، لهذا دعي بالأسبوع العظيم.

وكما إنه أعظم من بقية الأسابيع، فيوم السبت (أي سبت النور) هو رأسه كالرأس بالنسبة للجسد، ولهذا السبب فكثير من الشعب يضاعفون من جهادهم خلال هذه الفترة:

فالبعض يطيلون ساعات أصوامهم وأسهارهم المقدسة.

والبعض الآخر يقومون بأعمال الرحمة، وبهذا الإندفاع نحو الأعمال الصالحة، والنمو المتزايد من أعمال التقوى في كل سلوكيات حياتنا، فإننا نشهد ونؤكد على عظم الخير الذي صنعه الله لأجلنا.

فبعد أن أقام الرب لعازر، أسرع كل سكان أورشليم ليروه، وشهد هذا الجمهور على أن المسيح أقام ميتاً، فكان شغف القادمين لرؤيته دليلًا على تلك المعجزة التي صنعها يسوع .

هكذا، إذن فإن شغفنا نحو هذا الأسبوع يعد شهادة وبرهاناً على عظم مقدار الآيات التي صنعت فيه لأجلنا.

المسكونة بأسرها تخرج في هذا الأسبوع لملاقاة يسوع، أما نحن فلا نخرج اليوم من مدينة أورشليم فقط بل تخرج من كل كنائس المسكونة شعوب لا تحصى لملاقاة يسوع، غير ممسكين بأيديهم سعف النخل، بل مقدمين له بالأحرى (أعمال) الرحمة، ومحبة الخير للبشر والفضيلة، والصوم، والدموع، والصلوات، والسهر وكل أنواع الفضائل.

وليس نحن الذين نكرم هذا الأسبوع فحسب، بل يكرمه أيضاً كل ملوك الأرض – ليس كحدث عرضى – إذ فيه يكفوا عن الانشغال بالشئون العامة للدولة حتى يقدروا أن ينالوا عطلة يكرسون فيها هذه الأيام لممارسة الرياضة الروحية ولا يقفون عند هذا الحد بل يغلقون كل أبواب المحاكم ويرسلون خطابات ملكية يأمرون فيها بإطلاق سراح كل من في السجون.

ولأن سيدنا صنع كل هذه الآيات لأجلنا، فلنعمل نحن العبيد أعمالاً صالحة، وكما أن المسيح نزل إلى الجحيم لكى يحرر أولئك الذين كانوا تحت سلطان نير الموت، فعلى العبيد أن يتمثلوا بمحبة الله للبشر على قدر استطاعتهم، وأن يتحرروا من رباطات الجسد، لأنهم لا يقدرون أن يتحرروا من رباطات الروح .

التسبيح لله

ولأننا نقدس هذا الأسبوع، فقد خرجت معكم لكى أقدم التعليم بدلاً من سعف النخيل، ملقياً الفلسين كما فعلت الأرملة (لو٢:٢١)

يخبرنا الكتاب المقدس أن أولئك الممسكين بأيديهم سعف النخيل خرجوا صارخين قائلين: “مبارك الآتي باسم الرب” (متى٩:٢١)

فلنخرج نحن أيضا لملاقاة يسوع، ولنقدم إرادة مفعمة بالثمر الوافر والمبارك ولنرتل مع المزمور قائلين: “هللويا. سبحى يا نفسى الرب. أسبح الرب في حياتى” (مز ١٤٦: ١-٢). إن الكلمات التي رتلها داود النبي والتي سوف أقولها ليس إلا انها (نابعة) من نعمة الروح القدس .

فعندما حرَّك الروح القدس المُعزي لسان داود النبي، تكلَّم وقال: “لساني قلمُ كاتب ماهر” (مز ٤٥: ١)، وكما أن القلم لايكتب من تلقاء ذاته، بل حينما تُحركه اليد، هكذا أيضاً ألسنة الأنبياء فإنها لا تتحدث من ذاتها، بل من سلطان نعمة الله، ولكن لماذا لم يقل داود النبي ببساطة: “لساني قلمُ كاتب” وقال: “لساني قلمُ كاتب ماهر”؟ لتَعلَم أيها الإنسان، أن هذه الكلمات نابعة من حكمة الروح القدس، ولهذا تحدْث لسان “داود” بسهولة وبسرعة عظيمتين، فعندما يتكلَّم البشر من تلقاء ذاتهم، فإنهم يتروون، ويفكرون، ويتأخرون في الحديث، بل ويستغرقون وقتاً طويلاً، ولأن كلمات المزمور هذه تتدفَّق من نبع واحد، ولا يوجد ما يُعيقها، فجريان الأفكار يتغلّب علي سرعة اللسان، ولهذا قال المرتل: “لساني قلمُ كاتب ماهر”، ولانحتاج إلى التفكير ولا إلى الدراسة ولا إلى التعب، بل فلنرى ماذا يقول القديسون يحيون معنا: فلنرتل نحن، اليوم مع داود النبي قائلين: “سبحي يا نفسي الرَّب”. وبالرغم من أنه لا يتواجد معنا هنا على الأرض بالجسد، إلاَّ أنه معنا بالروح دائماً .

القديسون يتواجدون بالقرب منا ويرتلون معنا أيضاً، فأنصت إلى ما يقوله إبراهيم للغني الذي قال: “يا أبي إبراهيم، ارحمني وأرسل لعازر … لأن لي خمسة إخوة، حتَّي يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضاً إلى موضع العذاب هذا، قال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء ليسمعوا منهم” (لو ١٦: ٢٤- ٢٩).

ولكن موسى رقد وجميع الأنبياء بالجسد منذ زمن طويل، والبعض منهم ترك لنا كتاباته. فإذا التقط أحد بيده صورة لطفل أو لصديق ما، فإنه يظن أنه موجود بالقرب منه ويتخيَّله من خلال صورته، فكم بالأحرى نحن الذين نتعزَّى بصحبة القديسين في الكتب المقدسة، لأن أقوالهم صارت لنا بمثابة أيقونات لأرواحهم، أتعرف أن القديسين يحيون معنا على الأرض؟ لا أحد يدعوالراقدين شهوداً، بينما دعي السيد المسيح قديسيه شهوداً لألوهيته، ولكي يعلَّمك أن داود يحيا بالروح معنا، فقد دعاه المسيح قبلهم شاهداً .

ولأن اليهود تشكَّكوا في ماهية المسيح، سألهم قائلاً: “ماذا تظنون في المسيح؟ ابن مَنْ هو؟ قالوا له: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً؟ قائلاً: قال الربُّ لربي: اجلس عن يميني حتي أضع أعداءك موطئاً لقدميك” (متي ٢٢: ٤٢- ٤٤).

أرأيت كيف يحيا داود النبي معنا هنا بالروح، لأنه إذا لم يكن حياً، ما كان قد دعاه السيد المسيح شاهداً لألوهيته، وما قال: “كيف دعاه داود بالروح رباً”، بل قال: كيف يدعوه رباً”، قال لهم هذا لكي يؤكد أن داود ما زال يحيا بالروح ويتحدَّث مع من كتب عنه وتنبأ به .

ولأن داود قد رتل للرب، فلنرتل نحن أيضاً معه اليوم، ألف داود قيثارة ذات أوتار مائتة، أمَّا قيثارة الكنيسة فذات أوتار روحيَّة حية، إنها ألسنتنا التي تعزف ألحاناً وأناشيد مختلفة حسب التقوى، وأيضاً النساء، والرجال، والشيوخ، والفتيان، فبالرغم من أنهم متفاوتون في الأعمار، لكنهم في الوقت ذاته يرتلون بانسجام، لأن الروح القدس يوحَّد أصواتهم معاً في صوت واحدٍ، ويجعل الجميع في سيمفونية عذبة التسبيح، كما دعي داود نفسه كل نسمة وكل الطبائع نحو التسبيح قائلاً: “كل نسمة فلتسبح الرَّب” (مز ١٥٠: ٥).

 

 

عظات آباء وخدام معاصرين لليلة الأثنين

العظة الأولى

تسبحة البصخة – للمتنيح البابا شنودة الثالث[12]

لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين..

بهذه التسبحة نرتل للمسيح طول أسبوع الآلام. ونحن نتبعه في كل تنقلاته، وفي كل حالاته. نقولها بدلًا من صلوات الأجبية، في الخمس صلوات النهارية، وفي الخمس صلوات المسائية، ونرددها ١٢ مرة في كل صلاة بدلًا من المزاميرالـ١٢ التي تشملها كل صلاة من صلوات الأجبية.

يترك المسيح أورشليم ويذهب إلى بيت عنيا، فتتبعه إلى هناك قائلين له لك القوة والمجد والبركة والعزة ..

ويتضايق منه الكهنة لتطهير الهيكل، فيقول له “بأي سلطان تفعل هذا؟” أما نحن فنقول “لك القوة والمجد والبركة والعزة … يا عمانوئيل ألهنا وملكنا ..

يتآمرون عليه كيف يقتلونه أما نحن فنحتج علي مؤامراتهم قائلين له: لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين.

ينحني السيد الرب في اتضاعه ليغسل أرجل التلاميذ، ونهتف له نحن قائلين: لك القوة والمجد والبركة والعزة.

ويصلي في بستان جثسيماني في صراع حتى ينزل عرقه كقطرات الدم، ونصرخ نحن: لك القوة والمجد.

هكذا نسير معه هاتفين بهذه التسبحة، عندما يقبض عليه، وعندما يحاكم أمام أعدائه، وعندما يكلل بالشوك. وعندما يجلد، وعندما يقع تحت الصليب، وعندما يسمر بالمسامير، وعندما يسلم الروح في يد الآب، وعندما يدخل باللص اليمين إلي الفردوس قائلين في كل وقت: لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد أمين.

لك القوة

أول ما نسبح به السيد المسيح في هذا الأسبوع هو أن له القوة. نعم يا رب لك القوة.

أنت الذي قال عنك بولس الرسول أنك “قوة الله ” (١كو ١: ٢٤).

هؤلاء يظنونك ضعيفًا على الصليل. أما نحن فنعلم من أنت. أول شيء نعلمه عن قوتك هو أنه:

لك القوة كخالق “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو ١: ٣).

لك القوة كديان يأتي على سحاب السماء ويدين الأحياء والأموات.

نعم أن هذا المصلوب الذي يبدو ضعيفًا أمامهم، لو أنهم تأملوه في كل الأيام التي قضاها بينهم على الأرض، لرأوه قوياً في كل شيء.

أعطانا الرب مفهوماً جديداً لمعني القوة

أن العالم يفهم القوة بطريقة غير التي قدمها لنا السيد المسيح .. العالم يرى القوة الخارجة، قوة العنف، قوة الإنسان الذي يستطيع أن يضرب، وأن يحمي نفسه من الضرب، قوة الإنسان الذي يستطيع أن يخضع غيره له.

أما السيد الرب، فأعطانا مثلًا للقوة التي تحب، وتستطيع أن تبذل، وتستطيع أن تحتمل، وأن تعطي ولو على حساب ذاتها.

ونحن عندما نفكر في القوة، إنما نفكر فيها على المستوى الروحي وليس على المستوى الجسدي، وبهذه النظرة ننظر على المسيح في آلامه. إن العالم المادي المسكين يظن أن المسيح كان ضعيفًا عندما ضرب ولطم واستهزأوا به وعلقوه على الصليب. وحقًا كان يمكن أن يقال ذلك، لو أن المسيح احتمل كل تلك الإهانات عن عجز..  ولكنه بالعكس من ذلك كان أقوى من ضاربيه ومهينيه وصلبيه.

كانت له القوة أن يبيدهم جميعًا، ولكنه لم يفعل لأنه كان يحبهم، ومحبته كانت أقوى من الموت.

كان يمكنه أن يميت كل هؤلاء، ولكنه لم يفعل. لأنه كان قد جاء ليخلصهم من الموت، ويعطيهم الحياة بموته. لذلك نحن نمجد المسيح في هذا الاحتمال، شاعرين أن الذي يحتمل هو الأقوى. وهكذا يقول الرسول”فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعفات الضعفاء ولا نرضي أنفسنا” (رو ١٥: ١). هناك أشخاص ضعفاء لايستطيعون أن يحتملو،ا أقل كلمة تهزهم، فينهارون بسرعة وينتقمون، وفي انتقامهم، أو ردهم للإهانة بمثلها، نشعر بضعفهم وعدم قدرتهم على الاحتمال.

أما المسيح فكان قويًا في احتماله تدل على قوة حبه. فالشخص الذي يحب هو الذي يقدر أن يحتمل.

وما عدم احتمالنا نحن، إلا دليل على نقص محبتنا. ولقد جاء المسيح خصيصًا ليحمل خطايانا “كلنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه. والرب وضع عليه إثم جميعنًا” (إش ٥٣: ٦). وحمل الرب كل هذه الخطايا عنا، ليدفع ثمنها بنفسه، من أجل كل فرد فينا، احتمل الرب الإهانات والتعيير والضرب واللطم والبصق، فرحًا في عمق محبته مغنياً في أذن كل واحد منا بقوله “من أجلك احتملت العار، غطي الخزي وجهي” (مز ٦٩: ٧). ونحن نسمع ذلك ونجيبه في انسحاق من أجلي احتملت ظلم الأشرار. بذلت ظهرك للسياط، وخديك للطم. لم ترد وجهك عن خزي البصاق”.

إن قوة المسيح في آلامه وصلبه تظهر في أنه كان يستطيع أن يبيد كل هؤلاء المعتدين ولكنه لم يفعل، من فرط حبه لنا.. هو أخذ عقوبتنا، وأعطانا سلامه. أخذ خزينا وأعطانا مجده.

ولكي نفهم قوة المسيح على حقيقتها علينا أن نسأل. ماذا كان سيحدث لو أن المسيح رفض الإهانة والصلب؟! لو أنه أمر أن تنفتح الأرض وتبتلع كل هؤلاء القائمين، أو أن تنزل نار من السماء وتحرقهم؟! كان يمكنه ذلك، ولكن يكون الثمن هو هلاكنا نحن لأن الفادي رفض أن يموت عنا. لذلك قال الرب: أموت أنا ولا تموتون. وأهان أنا، وتتمجدون أنتم. أنني أنما جئت في الجسد خصيصًا لأجلكم، لكي أبذل ذاتي عنكم واحتمل الإهانات عنكم، حباً لكم وللمهينين. ولذلك فإنه لم يحتمل فقط ظلم الأشرار، وإنما أكثر من هذا أحبهم، وغفر لهم، وصلى من أجلهم مدافعًا عنهم ومتشفعًا فيهم بقوله: “يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون”.

هذه هي القوة الحقيقية، قوة القلب المملوء بالمحبة والذي يستطيع أن يحتمل المسيء ويحبه ويصلي من أجله، ويفديه بحياته.

مَنْ مِنَ الناس يستطيع هذا، مهما بلغ قوة في الجسد، أومن رفعة من المنصب، أي مدير عمل يستطيع أن يحتمل لطمة من فراش، ويحبه ويغفر له، ويدافع عنه، ويرقيه..  والقياس مع الفارق بالنسبة إلى هذا الذي حدث بين خالق ومخلوق..

إن بطرس الرسول لم يفهم القوة بمعناها الروحي المسيحي، عندما استل سيفه دفاعًا عن معلمه وقت القبض عليه، وقطع أذن العبد، لذلك أمره الرب أن يرد سيفه إلى غمده.

حسن أن تكون لك غيرة مقدسة، ولكن العنف ليس هو طريقنا. فنحن لنا أسلوب آخر هو الحب. وهكذا لمس الرب أذن العبد فشفاها. وسلم نفسه للخطاة الذين جاء ليفديهم أيضًا..

كذلك أن يوحنا ويعقوب الرسولين لم يفهما معني القوة، عندما قالا له “أتشاء يا رب أن تنزل نار من السماء وتحرق هذه المدينة” دفاعًا عنه إذ رفضته تلك المدينة، ولكن الرب أجابهم لستما تعلمان من أي روح أنتما، فإن ابن الانسان لم يأت ليهلك العالم بل ليخلص العالم” (لو ٩: ٥٤- ٥٦). إن هذا ليس هو أسلوبي. لقد جئت لأخلص ما قد هلك، بنفس هذا الأسلوب تقدم الرب بإرادته نحو الصليب، ليبذل نفسه فدية عن كثيرين. لذلك نحن يا أخوتي عندما نقف إلى جوار الصليب، لا نقف لكي نبكي على المسيح مثلما فعلت المجدلية ومثلما بكت بنات أورشليم.. ولسنا نقف إلى جوار الصليب، لكي نرثي المسيح ونؤنبه، إنما نحن نقف إلى جوار الصليب، لكي نمجده ونمجد المصلوب عليه ولكي نقول له تلك العبارة الجميلة:

لك القوة

لذلك فنحن نفتخر بالصليب، ونقول مع بولس الرسول: “وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح به قد صلب العالم لي وأنا للعالم” (غل6: ١٤).

“إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله” (١كو ١: ١٨)

لو كان الصليب علامة ضعف، ما افتخرنا به، وما كنا نتخذه شعارًا لنا..

لو كان الصليب علامة ضعف، ما كنا نعلقه فوق كنائسنا وفوق مناراتنا، وما كنا نضعه على صدورنا، ونرشمه علي أيدينا، ونرسمه في كتاباتنا.. بل إن الصليب عندنا هو رمز للقوة، فيه تظهر قوة المحبة، وقوة البذل وقوة إنكار الذات، وقوة الاحتمال، هي القوة في حقيقتها..

كثيرون كانوا يقولون للسيد المسيح: لو كنت ابن الله، انزل من على الصليب، فنؤمن بك.. ولو استسلم لإثارتهم ونزل من على الصليب لهلكنا نحن، وضاعت البشرية وضاع الخلاص.. ولكنه كان أقوى من إثارتهم، فبقى على الصليب ولم ينزل..

إن المسيح لم تغلبه إثارات هذا المجد الباطل: لو نزلت من على الصليب تكون حقًا ابن الله. وتثبت قوتك، وتذهل الناس بالمعجزات..؟!! إنه لم يغلب من الملق الباطل، ولم يغلبه هذا المفهوم الخاطئ لمعني القوة.. كان يقدر أن ينزل من على الصليب. ولكنه لم يفعل، لكي نخلص نحن.

إن السيد المسيح لم يفكر في ذاته، إنما كان تفكيره فينا نحن. لم يهتم بتخليص نفسه من الموت، إنما فكر في تخليصنا نحن بأن يفدينا بذاته. لم يستسلم للصليب عن ضعف، وإنما عن حب.

لم يفكر في ذاته “فالمحبة لا تطلب ما لنفسها” (١كو ١٣: ٥) لو كان يفكر في ذاته وكيف تتمجد بأسلوب العالم، ما أخلى ذاته وأخذ شكل العبد.

إنه لم يفكر في ذاته، لأنه جاء ليبذل ذاته عنا وعندئذ يعرف الناس قوة محبته وقوة بذله “ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو ١٥: ١٣). وبذلك أعطانا المسيح علي الصليب مثالا للقوة في الانتصار على الذات من أجل هذا رأينا شيئا عجيبًا جدًا، وهو أن السيد الرب قابل كل تعدياتهم باستسلام عجيب “كشاه تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه” (إش ٥٣: ٧).

كان يعلم بكل الإجراءات التي تعمل ضده ومع ذلك لم يقاوم الشر.. بل قال ليهوذا الاسخريوطي في هدوء “ما أنت تعمله فأعمله بأكثر سرعة” (يو ١٣: ٢٧). ولسنا نجد تبريراً لكل هذا، سوى أن الرب كان يريد أن يموت عنا. كانت له القوة أن يحطم الصليب والصالبين. ولكنه رضى به قوة أعظم هي قوة الحب والبذل.

والمجد..

في أسبوع الآلام نرى السيد المسيح كما وصفه النبي “محتقراً ومخذولاً من الناس .. فلم يعتد به” (إش ٥٣: ٣). ونحن إذ نراه محتقرًا من أجلنا، نتابعه بتلك التسبحة الخالدة: “لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين. يا عمانوئيل ألهناوملكنا”..

وفي الحقيقة انه لم يخل ذاته من المجد في أسبوع الآلام فقط، بل بذل كرامته من أجلنا في كل حين.

حتى كان “بلا كرامة” في وطنه. وكانوا يعيرونه قائلين: “أليس هذا ابن النجار؟” (متى ١٣: ٥٥). من أجلنا احتمل العار، وشبع شتائم وتعبيرات.. من أجل تواضعه في الجلوس مع العشارين والخطاة، قالوا عنه أنه أكول وشريب خمر. ومن أجل محبته في شفائه للمرضى قيل عنه عنه أنه كاسر للسبت.. ومن أجل اهتمامه بتعليمنا التعليم البعيد عن الشكليات الذي يترك الحرف ويدخل إلى العمق، وقالوا عنه أنه ناقض للشريعة.. ونحن إذ نراه مهاناً من أجلنا، نتبعه بنفس التسبحة “لك القوة والمجد”.

نحن نعلم يا رب لماذا أهانوك، لقد فعلوا ذلك لأنك لست مثلهم، لأن تواضعك كان يكشفهم.

لم تفعل مثلهم إذ كانوا “يعرضون عصائبهم، ويطيلون أهداب ثيابهم. ويحبون المتكأ الأول في الولائم والمجالس الأولى في المجامع، والتحيات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس سيدي سيدي” (متى ٣: ٥- ٧). أما أنت فعشت متواضعًا وديعًا، تعاشر الأدنياء والصغار والمحتقرين، وتؤاكل الخطاة والعشارين، وتلمسك المرأة الخاطئة، وتناقشك المرأة السامرية، ويقترب إليك الأطفال. وأنت تسير فقيرًا، بلا منصب ولا مال، وليس لك أين تسند رأسك.

لقد رفضوا أن يمجدوك، لأنك احتقرت أمجادهم، وقلت “مجدًا من الناس لست أقبل” (يو ٥: ٤١).

وهكذا رفضت الملك والعظمة. أما نحن الذين نعرف حقيقة عظمتك، فنخاطبك قائلين: “لك القوة والمجد”.. إن كل تحقيرهم لك لا يمكن أن ينقصك شيئًا من مجدك. لقد باعوك بثمن عبد “ثلاثين من الفضة”. وباستهزاء ألبسوك ثوبًا أرجوانيًا، ووضعوا إكليل من الشوك فوق رأسك. أما نحن فنتبعك في كل ذلك قائلين: “لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين”.

والبركة

نحن نتبع سيدنا المسيح في صلبه، ونقول في أذنه لك البركة. لأن الكتاب يقول “ملعون كل من علق علي خشبة” (غل ٣: ١٣).

لذلك كان لابد أن تدفن في نفس اليوم جثة هذا المستوجب الموت ولا يبيت معلقًا، لئلا ينجس الأرض، لأن المعلق ملعون من الله (تث ٢١: ٢٢، ٢٣). وهكذا حمل الرب عنا لعنة الناموس، و”صار لعنة لأجلنا”. ولكننا نعلم أنه قدوس بلا خطية، وأن اللعنة التي حملها هي لعنتنا نحن، هي اللعنات التي تستوجبها خطايانا حسب الناموس (تث ٢٨). إنه ليس خاطئا، حاشا.. بل هو حامل خطية، خطية غيره، خطية العالم كله. لذلك نحن نتبعه آسفين على ما حملناه إياه، قائلين له من عمق قلوبنا “لك القوة والمجد والبركة .. يا عمانوئيل إلهنا وملكنا”.

بسبب هذه اللعنة صلبوه خارج المحلة، لكي لا ينجسها، ونحن في أسبوع آلامه نخرج وراءه أيضًا كما قال معلمنا بولس الرسول “فلنخرج إذن إليه خارج المحلة حاملين عاره” (عب ١٣: ١٣). نعم نحمل عاره “حاسبين عار المسيح غنى أعظم” كما قيل عن موسى النبي (عب ١١: ٢٦).

وهكذا تجلس الكنيسة طوال أسبوع الآلام خارج المحلة، بعيدًا عن المذبح، بعيدًا عن الهيكل، بعيدًا عن الخورس الأول، خورس القديسين، متذكرين خطيتنا التي أخرجتنا خارج المحلة مثل آدم عندما طرد من الفردوس. وإذا نتبع الرب خارج المحلة، نقول له: أنت البار، ونحن الأشرار. نحن نستحق اللعنة والطرد، أما أنت فلك البركة إلى الأبد آمين يا ربي يسوع المسيح المخلص الصالح.

بينما ينظر اليهود إلى صليب المسيح كرمز للذل والعار، نقول له نحن: لك البركة ولصليبك ننال البركة في كل شيء.

الكهنة يرشمون به الشعب فيتباركون، وبرشم الصليب يتم التكريس والتقديس. به نرشم المعمودية، فننال بركة الميلاد الجديد. وبه نرشم كل عضو من أعضائنا في سر الميرون، فتتبارك أعضاؤنا جميعًا وتتقدس. وبه تتم الرشومات المقدسة في الأفخارستيا وفي سر الكهنوت وفي جميع أسرار الكنيسة، ننال به النعمة والبركة والمواهب، ونصرخ من أعماقنا “لك البركة”..

به نرشم طعامنا قبل أن نأكل، وبه نرشم ذواتنا قبل أن ننام وبه ننال البركة في كل شيء. وإذ ننظر إلى بركات الصليب، نقول للرب في آلامه “لك البركة إلى الأبد آمين يا عمانوئيل إلهنا وملكنا”.. لك يا رب البركة التي فقدناها منذ سقطة آدم، ظللنا نحلم به حتى هذا اليوم، منتظرين أن ننالها منك، أنت يا من بك تتبارك جميع قبائل الأرض..

عندما خلق الإنسان باركه الله، ولكنه عندما سقط، دخلت بسقوطه اللعنة إلي الأرض، إذ قال الرب لآدم “ملعونة الأرض بسببك” (تك 3: 17). ثم بدأت اللعنة تدخل إلى البشر أنفسهم، فلعن الرب قايين (تك ٤: ١١). ثم لعن كنعان ونسله (تك ٩: ٢٥ ). ثم امتدت اللعنة حتى وصلت إلى كل خاطئ. إذ تقول الشريعة للإنسان “إن لم تسمع لصوت الرب الهك لتحرص أن تعمل جميع وصاياه وفرائضه.. تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركه.. يرسل الرب عليك جميع هذه اللعنات وتدركك.. يرسل الرب عليك اللعن والاضطرابات في كل ما تمتد إليه يدك لتعمله حتى تهلك وتفنى سريعًا..” (تث ٢٨: ١٥- ٢٠).

ووسط لعنات الناموس، كانت البشرية تحلم بتحقيق وعد الله لإبراهيم عندما قال له بنسلك نتبارك جميع أمم الأرض” (تك٢٢: ١٨).

وظلت البشرية تترقب هذا النسل الذي تتبارك به جميع أمم الأرض.. ومرت أجيال طويلة والبشرية مدنسة في سقطاتها “الجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الرب، ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد”.. وظلت البشرية تنتظر مجيئك حتى أتيت، أيها المحب الحنون، الذي بك ترفع عنا جميعًا لعنة الناموس، وبك تتبارك جميع قبائل الأرض. ونحن نقف إلى جوارك على الصليب، واثقين من وعدك لأبينا إبراهيم. وننظر إليك وأنت تغمس زوفاك في دمك الكريم، وتنضح علينا فنطهر، ونرتل لك بكل تمجيد وتقديس “لك البركة إلى الأبد آمين”.. .

 

 

العظة الثانية لآباء وخدام معاصرين ليلة الأثنين

أين نرى يسوع؟ – للمتنيح القمص بولس باسيلي [13]

نراه فى بيته:

“ببيتك يارب تليق القداسة” “بيتى بيت الصلاة يدعى” (مت٢١: ١٢) ان الكنيسة سميت “بيت ايل” أى بيت الله (تك٢٨: ١٧) وقال داود “الوقوف على عتبة بيت الرب خير من الجلوس فى خيام الأشرار” وأيضاً “واحدة سألت من الرب واياها التمس أن أسكن فى ديار الرب كل أيام حياتى”.

نراه فى كتابه :

“اتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الانسان كله” (جا ١٢: ١٣) “افعل هذا فتحيا” (لو١٠: ٢٨) ونرى بولس يمتدح كنيسة تسالونيكى قائلاً “اذ تسلمتم منا كلمة خبر عن الله قبلتموها لا ككلمة أناس بل كما هى بالحقيقة ككلمة الله التى تعمل أيضاً فيكم أنتم المؤمنين” (١تس ٢: ١٢) “ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت٤: ٤).

نراه فى اخوته :

فالمساكين هم عمل يدي الله كقول أيوب (أي٤٣: ١٩) وإهمالهم إهمال للمسيح نفسه الذى قال “كل ما فعلتموه بأخوتى هؤلاء الأصاغر فبي قد فعلتم” (مت٢٥: ٤٢) فعلينا أن نوزع على الفقراء (مت١٩: ٢١) مثال ذلك زكا، غزالة، كرنيليوس.

نراه فى الطبيعة :

“السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه” انظر حادثة انتهاره للريح فقيل “حتى أن البحر والرياح يطيعانه”.

“اسأل البهائم فتعلمك، سمك البحر فيخبرك إنى أنا هو الله” انظر سلطان الرب على الطبيعة فى حادثة يونان وتعكيره لجو السفينة، وأمره للحوت ثم موضوع اليقطينة.

نراه فى حياتنا :

“أنتم هياكل الله وروح الله ساكن فيكم” “أنتم رسالة الله المقروءة والمنظورة من جميع الناس” “ليضىء نوركم قدام الناس ليمجدوا أباكم الذى فى السموات” “يا رب من ينزل فى مسكنك السالك بالكمال والعامل بالحق والمتكلم بالصدق” (مز١٥: ٢).

 

 

المراجع

 

[1]  تفسير رسالة كولوسي – إصحاح ٢ –  القمص تادرس يعقوب ملطي.

[2]  كتاب تأملات في مزامير الآلام – صفحة ١٨ – القمص لوقا سيداروس.

[3]  كنوز النعمة – البصخة المُقدَّسة – ص ١٠٧.

[4]  تفسير مزمور ٢٨ (٢٧) –  القمص تادرس يعقوب ملطي.

[5]  كتاب تأملات في مزامير الآلام صفحة ٢١ – القمص لوقا سيداروس.

[6]  تفسير مزمور ٢٩ ( ٢٨ ) – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[7]  كتاب تأملات في مزامير الآلام –  صفحة ٢٤ – القمص لوقا سيداروس.

[8]  تفسير المزمور – أبونا تادرس يعقوب ملطي.

[9]  تفسير المزمور – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[10]  شرح إنجيل يوحنا للقديس كيرلس السكندري – المجلد الثاني –  صفحة ٦٢ –  ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[11]  كتاب الأسبوع العظيم والتسبيح – للقديس يوحنا الذهبي الفم – صفحة ١٢ –  ترجمة ريمون يوسف رزق – وتقديم نيافة أنبا إرميا.

[12]  كتاب لك القوة والمجد والبركة – البابا شنودة الثالث.

[13]  كتاب المواعظ النموذجية – المجلد الاول صفحة 166- الاستاذ فؤاد باسيلي ( القمص بولس باسيلي).