يوم الأربعاء من الأسبوع الرابع للخماسين المُقَدَّسَة

قراءة نصف الخمسين يوم المُقدسة

كما توجد قراءة لأحد النصف في قراءات الصوم الكبير «أحد النصف – السامرية»، توجد أيضاً قراءة يُمْكِنْ أن نُطْلِق عليها قراءة النصف للخمسين يوم المقدسة،

لكن الإختلاف مع الصوم في أنه كان ثمانية أسابيع فجاءت قراءة النصف في أحد السامرية، ولكننا هنا في الخمسين يوم المقدسة «سبعة أسابيع» يأتي المنتصف في يوم الأربعاء للأسبوع الرابع!.

وتتعجب عندما تجد في هذه القراءة الخاصة بيوم الأربعاء من الأسبوع الرابع في القطمارس الحالي:

  • ” ولما صار المساء كانت السفينة في وسط البحر”                 (إنجيل عشية).
  • ” ثم نظر إلي الجالسين حوله (أي يسوع في الوسط)”            (إنجيل باكر).
  • ” ونقض بجسده حائط السياج الذي كان واقفاً في الوسط”            (البولس).
  • ” صنع خلاصاً في وسط الأرض”                                       (مزمور القداس).
  • ” وعند انتصاف العيد”                                              (بداية إنجيل القداس).

ولكن لا تأتي هذه القراءة يوم الأربعاء للأسبوع الرابع في قطمارس وجه بحري لإبن كبر،

والعجيب أن قراءة الأحد الثالث في قطمارس [مخطوط المعلقة / لندن شرقيات ٤٢٥ (قرن ١٣)] متوافقة أيضاً مع قراءة أربعاء النصف في القطمارس الحالي..

  • ” صنع خلاصاً في وسط الأرض” (مزمور القداس).
  • ” ولما انتصف أيام العيد” (إنجيل القداس).

ويأتي الإبركسيس في مخطوط المعلقة من (أع ١٩: ٣٥- ٢٠: ١٦)، وفي القطمارس الحالي من (أع ٢٠: ١- ٦).

ورُبَّما تكون القراءة حسب مخطوط المعلقة هي الأدق من القراءة في القطمارس الحالي لأن الجزء الزائد جاء فيه “وأطال الكلام إلى منتصف الليل” (أع ٢٠: ٧)، وكان يمكن إضافة هذه الآية للقراءة الحالية لتناسب ما جاء في باقي القراءة عن قراءة النصف.[1]

 

مصدر وجوهر كل تعليم

تتكلم قراءات اليوم عن ← الرب يسوع المسيح مصدر وجوهر كل تعليم كما توضح القراءات جوهر تعليمه الإلهي وغايته خلاص الإنسان وشفائه ..

 

المزامير

لذلك توضح المزامير أن ناموس الله هو مصدر تعليم النفس ورجاءها وتعزيتها وطريق حياتها وأن الرب هو أساس حياتها وخلاصها ونصرتها..

  • مزمور عشية: “أذكر كلامك لعبدك الذي عليه اتكلت هذا الذي عزاني في مذلتي لأن قولك هو أحياني”.
  • مزمور باكر: “ضع لي يا رب ناموساً في طريق حقوقك فأطلبه في كل حين فهمني فأفحص ناموسك وأحفظه بكل قلبي”.
  • مزمور القداس: “أما الله فهو ملكنا قبل الدهور صنع خلاصاً في وسط الأرض…. قم يا الله فأقض لقضائي ولا تنس صوت المتضرعين إليك”.

 

إنجيل عشية

وفي إنجيل عشية عن ← خطورة عدم إدراك جوهر تعليم المسيح وغاية تدبيره للبشر “وصعد إليهم إلى السفينة فسكنت الريح فبهتوا جداً في أنفسهم لأنهم لم يدركوا أمر الأرغفة إذ كانت قلوبهم غليظة”.

 

انجيل باكر

وفي انجيل باكر عن أن ← التطويب لأمنا العذراء لم يكن لأنها ولدت المسيح بالجسد فقط بل أساساً لأنها عاشت حسب تدبير الله وهو سر التجسد، لذلك صارت نموذجاً ورمزاً عظيماً لكل من يصنع مشيئة الله “لأن كل من يصنع مشيئة الله فهذا هو أخي وأختي وأمي”.

 

البولس

وفي البولس يوضح أن ← الرب يسوع بتجسده وموته وقيامته قد أبطل العداوة وأعاد للإنسان وحدة كيانه الداخلي وأعاد له أيضاً سلامه مع الله “فإنه هو سلامنا الذي جعل الإثنين واحداً ونقض بجسده حائط السياج الذي كان واقفاً في الوسط، أي أزال العداوة… لكي يخلق الإثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً صانعاً سلاماً”.

 

الكاثوليكون

وفي الكاثوليكون عن أن ← المسيح هو مصدر التعليم والخدمة في الكنيسة وأن التعليم الكنسي يجب أن يؤول إلى مجد الله “وكل من يتكلم بمثل كلام الله وكل من خدم فليخدم بقوة يمنحها الله لكي يتمجد الله في كل شئ بيسوع المسيح الذي له المجد والقدرة والكرامة إلى دهر الداهرين آمين”.

 

الابركسيس

وفي الابركسيس عن أن ← قوة الكنيسة وسندها في العالم في تمسكها وارتكازها على كلمة الله “ومن بعد ما انتهى الشغب دعى بولس التلاميذ فعزاهم وودعهم وخرج فإنطلق إلى مكدونية فلما جال هذه البلدان وعظهم بكلام كثير”.

 

إنجيل القدَّاس

وفي انجيل القداس عن أن ← تعليم إبن الله لا يرتبط بالمعرفة العقلية للكتاب بل بوحدة ارادته مع الآب.. لذلك فإن تعليم العهد الجديد لا يعتمد على قدرات البشر الفلسفية ومنطق العقل؛ بل على وحدة إرادتنا مع الله، وهذا هو الطريق الوحيد لمعرفة وإستعلان تعليم الآب والإبن لنا “وكان اليهود يتعجبون قائلين كيف هذا يعرف الكتاب ولم يتعلم. أجابهم يسوع وقال: تعليمي أنا ليس هو لي بل للذي أرسلني فمن يصنع إرادة الذي أرسلني يعرف تعليمي هل هو من الله أم أنا أتكلم من نفسي..”.

كما يوضح أيضاً النتيجة الطبيعية لغياب إرادة الآب ومشيئته من حياة المعلمين، غياب هدف وجوهر التعليم خلاص الإنسان وشفائه والتعلق الشديد بالحرف وضياع الهدف “فإن كان الإنسان يقبل الختان في السبت لئلا ينقض ناموس موسى فَلِمَ تسخطون عليّ لأني أبرأت إنساناً كله في السبت، لا تحكموا بحسب الوجوه بل أحكموا حكماً عادلاً”.

 

ملخص الشرح

  • ناموس الله ووصيته هما رجاء النفس وقوتها وعزاءها وخلاصها. (مزمور عشية – ومزمور باكر – ومزمور القداس).
  • خطورة عدم إدراك جوهر تعليم المسيح. (إنجيل عشية).
  • طوبت العذراء بالأكثر لأنها عاشت حسب فكر الله ومشيئته لذلك صارت نموذجاً لكل أم في المسيح. (إنجيل باكر).
  • غاية تعليم المسيح في الكنيسة عن موته وقيامته هو وحده كيان الإنسان وسلامه مع نفسه ومع الله. (البولس).
  • التعليم الكنسي يرتكز على كلام الله وقوة الله ويهدف إلى مجد الله في كل شئ. (الكاثوليكون).
  • قوة الكنيسة وسندها في العالم في تمسكها وإرتكازها على كلمة الله. (الإبركسيس).
  • تعليم إبن الله يرتبط بوحدة ارادته مع الآب ووحدة إرادتنا مع الله تجعل تعليم الآب والإبن يستعلن لنا..

غياب إرادة الآب ومشيئته من حياة المعلمين يحرمهم من رؤية هدف وجوهر التعليم الإلهي ويحصرهم في الشكل والحرف. (إنجيل القداس).

 

عظات آبائية للأربعاء من الأسبوع الرابع من الخمسين يوم المقدسة

 

من الرسائل الفصحية – للقديس أثناسيوس الرسولي[2]

المسيح عيدنا.

إن سعادة عيدنا يا أخوتي هي قريبة منا جداً، ولن يفشل في بلوغها من يرغب تبجيله. لأن “الكلمة” هو قريب، هذا الذي هو كل الأشياء لأجل خيرنا. لقد وعدنا ربنا يسوع المسيح أن يكون على الدوام معنا.. قائلاً “هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ” (مت28: 20)۔

فإذ هو الراعي، ورئيس الكهنة، والطريق، والباب، وكل شيء في نفس الوقت لأجلنا، هكذا يظهر أيضاً “عيداً” لنا كقول الطوباوي بولس “لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ” (1كو5: 7)

أنه هو ما كنا ننتظره، لقد أضاء على صلوات المزامير القائل “أَبْتَهِجُ وَأَفْرَحُ بِرَحْمَتِكَ، لأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى مَذَلَّتِي، وَعَرَفْتَ فِي الشَّدَائِدِ نَفْسِي” (مز31: 7) إنه بحق فرح حقيقي، إنه عيد حقيقي، إذ يخلصنا من الشر، وهذا يبلغه الإنسان خلال تبنيه الأحاديث الصالحة، وتزكية فكره بخضوعه لله.

لأنه إذ يتوق القديسون إلى هذا كل حياتهم، يكونون كبشر فرحين بعيد.

واحد يجد راحته في الصلاة لله، وذلك مثل داود الطوباوي، الذي يقوم بالليل “فيصلي” لا مرة بل سبع مرات.

وآخر يعطي المجد خلال تسابيح الحمد، مثل موسى العظيم.

وآخرون يتعبدون بمثابرة دائمة مثل العظيم موسى والطوباوي إيليا.

هؤلاء كفوا عن أعمالهم هذه هنا. لكنهم يحفظون العيد في السماء، ويفرحون فيما قد سبق أن تعلموه خلال الظلال إذ عرفوا الحق خلال الرموز.

بدمه نتقدس

ولكن ماذا نرش في احتفالنا بالعيد؟!

من سيكون “قائدنا” إذ نسرع نحو هذا العيد؟! لا يقدر أحد أن يقوم بهذا العمل يا أحبائي، إلا ذاك الذي دعي اسمه عليكم معي، إذ يقول ربنا يسوع المسيح “أنا هوالطريق”.

وكما يقول الطوباوي يوحنا أنه هو الذي “يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَم” (يو١: ٢٩). إنه يظهر أنفسنا، وذلك كما يقول النبي إرميا ” قِفُوا عَلَى الطُّرُقِ وَانْظُرُوا، وَاسْأَلُوا عَنِ السُّبُلِ الْقَدِيمَةِ: أَيْنَ هُوَ الطَّرِيقُ الصَّالِحُ؟ وَسِيرُوا فِيهِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً (تطهيراً) لِنُفُوسِكُمْ” (إر٦: ١٦). ففي العهد القديم كان “دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى الْمُنَجَّسِينَ، يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ الْجَسَدِ” فقط (عب٩ :١٣) وأما الآن فأنه خلال نعمة الله الكلمة، كل إنسان خلاله يتقدس.

وإذ نتبعه، نكون ونحن هنا كما على عتبة أورشليم السمائية، متأملين مقدماً العيد الأبدي وذلك كما تبع الرسل الطوباويون المخلص قائدهم، وقد صاروا متعلمين بنفس النعمة قائلين “هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ” (مر10: 28)

لأن التبعية للمسيح، والعيد الذي للرب، هذان لا ينفذان بالكلام فقط بل وبالأعمال أيضاً بحفظ الوصايا.. لأنه كما أن موسى العظيم، عندما كان يخدم الوصايا المقدسة أخذ وعداً من الشعب أن يتعهدوا بتنفيذ ما جاء بها، حتى بوعدهم هذا لا يهملون الوصايا ويصيرون كاذبين، هكذا أيضاً عند قيامهم بعيد الفصح، وإن لم يتراءى سؤال ولا طلب منهم إجابة، إنما أعطيت الكلمة يتبعها التنفيذ إذ قال أنهم يحفظون الفصح.. مشيراً إلى أن يكونوا مستعدين لتنفيذ الوصية، بينما الوصية ذاتها تساعدهم على التنفيذ.

ومن جهة هذه الأمور، فإنني متيقن من حكمتكم وحرصكم على التعاليم.. وقد أرسلنا لكم مثل هذه التعليمات في رسائل كثيرة متعددة.

رموز الفصح القديم وتحققها في شخص المسيح

والأمر ضروري، الذي هو فوق هذا كله، أنني أرغب في تذكيركم، وتذكير نفسي معكم، كيف أن الوصية التي جاءت إلينا من جهة عيد الفصح لم تأتى بطريقة أرضية أو بدون إعداد، بل بسنن مقدسة تعليمية، وملاحظات دقيقة مرتبطة، وذلك كما نعرف من التاريخ.

كل ابن غريب لا يأكل منه، وأيضا كل شخص مبتاع بفضة غير مختتن لا يأكل من الفصح (خر١٢: ٤٣- ٤٨) ولا يؤكل في “أي” منزل بل أمر الرب أن يكون بسرعة كما لو كنا متنهدين وحزاني وفي عبودية فرعون..

فإذ كانوا في القديم يصنعونه بهذه الطريقة، استحقوا أن ينالوا الرمز، الذي وجد لأجل هذا العيد، وليس العيد الحالي لأجل الرمز. وهكذا كان كلمة الله يشتهي هذا الفصح، إذ قال لتلاميذه “شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ” (لو٢٢: ١٥).

والأمر العجيب أن يراهم الإنسان إلى هذا اليوم، يستعدون كالموكب والرقص، ويخرجون بالدفوف والصنادل والفطير. هذه الأمور التي وجدت قبلاً كظلال وكانت رموز. وأما الآن فإن “الحق” قريب منا، “الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ” (كو١: ١٥) ربنا يسوع المسيح، النور الحقيقي، الذي عوض العصا، هو صولجاننا، وعوض الفطير هو الخبز النازل من السماء، وعوض الأحذية أنعشنا باستعداد الإنجيل (أف٦: ١٥) وباختصار يقودنا الرب بهذه كلها يقودنا إلى أبيه.

وإذ يضايقنا الأعداء (الأريوسيون) ويضطهدوننا فأنه عوض موسى، يشجعنا بكلمات صالحة قائلاً “يا أعزائي لقد غلبت الشرير” (راجع (يو١٦: ٣٣)؛ (١يو٢: ١٣)

فإننا حتى عبورنا البحر الأحمر.. وثار ضدنا ولحقتنا مرارة الحياة، فأن الرب يظهر لنا، مقدماً لنا حلاوته، وينبوعه واهب الحياة، بقوله “إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ” (يو٧: ٣٧).

فلماذا لا نزال متهاونين؟! لماذا نحن متأخرون؟! ولا نأتي بكل شوق ومثابرة إلى العيد، واثقين أن يسوع هو الذي يدعونا. هذا الذي هو كل شيء بالنسبة لنا، وقد حمل في عشرات ألوف الطرق لأجل خلاصنا. إنه قد جاع وعطش لأجلنا، مع أنه هو واهب الطعام والشراب في عطاياه المنقذة. لأن هذا هو مجده، هذا هو أعجوبة لاهوته، أنه قد حمل آلامنا لأجل سعادتنا.

وهو الحياة مات (بالجسد) لكي يحيينا.

وهو الكلمة صار جسداً، حتى يعلم الجسد في الكلمة.

وهو مصدر الحياة عطش عطشنا، لكي نتعطش للعيد قائلاً “إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ” (يو٧: ٣٧)

لقد أعلن موسى في ذلك الوقت عن بداية العيد قائلاً “هذَا الشَّهْرُ يَكُونُ لَكُمْ رَأْسَ الشُّهُورِ (بداية الشهور) هُوَ لَكُمْ” (خر١٢: ٢) ولكن الرب الذي جاء في آخر الأزمنة (عب٩: ٢٦) أعلن يوما مختلفاً، لا بقصد إبطال الناموس، حاشا. إنما لتثبيت الناموس وليكون هو نهاية الناموس “لأَنَّ غَايَةَ النَّامُوسِ هِيَ: الْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ”(رو١٠: ٤) كما يقول الرسول الطوباوي “أَفَنُبْطِلُ النَّامُوسَ بِالإِيمَانِ؟ حَاشَا بَلْ نُثَبِّتُ النَّامُوسَ” (رو٣: ٣١). هذه الأمور حيرت حتى الخدام الذىن أرسلهم اليهود إذ رجعوا إلى الفريسيين يقولون “لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هكَذَا مِثْلَ هذَا الإِنْسَانِ” (يو٧: ٤٦).

ما هو هذا الذي حير هؤلاء الخدام، وما الذي أدهشهم هكذا؟! إنها شجاعة مخلصنا وسلطانه!

فالعهد القديم عند درس الأنبياء والكتبة الكتاب المقدس أدركوا أن ما يقرأونه لا يشير إليهم بل إلى غيرهم. فموسى كمثال يقول “يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي لَهُ تَسْمَعُونَ” (تث١٨: ١٥)

وإشعياء يقول “هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ” (إش٧: ١٤)

وآخرون تنبأوا عن الرب بطرق كثيرة متنوعة.

أما الرب فنسب النبوات إلى نفسه وليس إلى غيره، لقد حصرها في نفسه قائلاً “إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ” (يو٧: ٣٧) وليس إلى آخر بل “إِلَيَّ”. قد يسمع إنسان من أولئك الأنبياء عن مجيئي، لكن يلزمه ألا يشرب من غيري، بل مني أنا.

بين الأعياد المسيحية وأعياد الوثنيين الأشرار

ليتنا إذاً عندما نأتي إلى العيد، لا نأتي إليه في ظلال قديمة، لأنها قد تحققت، ولا نأتي إلى أعياد عامة، بل نسرع نحو الرب الذي هو نفسه “العيد”، غير ناظرين إلى العيد كمتعة وإشباع للبطن بل إعلان للفضيلة. فأعياد الوثنيين مملوءة شراهة وتراخ، لهذا هم يحسبون أنفسهم أنهم يعيدون متى كانوا في كسل، ويقومون بالأعمال المهلكة في تعييدهم.

أما أعيادنا فلتكن فيها ممارسة الفضائل واختبار العفة، كما تشهد الكلمات النبوية قائلة “إِنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ وَصَوْمَ الْخَامِسِ وَصَوْمَ السَّابعِ وَصَوْمَ الْعَاشِرِ يَكُونُ لِبَيْتِ يَهُوذَا ابْتِهَاجًا وَفَرَحًا وَأَعْيَادًا طَيِّبَةً فَأَحِبُّوا الْحَقَّ وَالسَّلاَمَ” (زك٨: ١٩).

وإذ توجد أمامنا فرصة للاختبار، وسيأتي يوم كهذا، وقد جاءنا الصوت النبوي لنعيد، لذلك ليتنا نثابر بقوة في هذا الإعلان الصالح.. ولنحيا محافظين على نقاوة الصوم بالسهر في الصلوات، ودراسة الكتاب المقدس، والتوزيع على الفقراء ومسالمتنا للأعداء (الأريوسيين).

لنجمع من قد تشتتوا، ولنبطل الكبرياء ونعود إلى أتضاع الفكر، إذ نكون في سلام مع جميع الناس، حاثين الأخوة على المحبة.

هكذا كان بولس الطوباوي على الدوام مشغولاً بالأصوام والأسهار، ويود أن يكون مهاناً من أجل أخوته.

وداود النبي إذ أتضع بالأصوام، تجاسر قائلاً “يَا رَبُّ إِلهِي، إِنْ كُنْتُ قَدْ فَعَلْتُ هذَا إِنْ وُجِدَ ظُلْمٌ فِي يَدَيَّ، نْ كَافَأْتُ مُسَالِمِي شَرًّا، وَسَلَبْتُ مُضَايِقِي بِلاَ سَبَبٍ” (مز٧: ٣، ٤)

إن فعلنا هكذا ننتصر على الموت، وننال غيرة نحو ملكوت السموات.

 

شرح لأنجيل القداس – القديس كيرلس الأسكندري[3]

(يو٧: ١٧)إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ، هَلْ هُوَ مِنَ اللهِ، أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي“. 

علينا ودون حرج، وبلا أدنى شك، أن نقبل كلام الحق، وأن نؤمن أن الشيء إذ قيل مرة، لا يمكن أن يكون سوى ما كان قد أعلن قبلاً. لكن المسيح لا يسمح أن يكون قوله من غير برهان، بسبب غير المؤمنين، بل هو يقدم حلاً منتهى الوضوح والبيان، وهو يصيغ كلماته بمهارة بالغة. أما كيف تكون المهارة، وما هو نظام التدبير، فهذا ما سوف نقوله: كان اليهود يطلبون أن يقتلوه بسبب المخلع أعني ذلك الذي نال الشفاء يوم سبت، وبرفق كان المسيح يخيفهم بسبب قصدهم الملتوي ضده، ويوبخ أولئك الذين كانوا يسعون بمرامهم الدموي ضده، إذ أنهم كانوا قد اختاروا أن يحققوا شهوتهم الخاصة، وليس مشيئة معطي الناموس، وهو يقول: حينئذ ستعرفون بالتمام “تعليمي”، إنه من “الله الآب”، حين تختارون أن تتبعوا مشيئته لا مشيئتكم، لكن “مشيئة” معطي الناموس والذي هو الله، هي أن نبتعد تماماً عن القتل. وهو يقول: لهذا إذن فإنكم لم تأسروا مسبقاً من بغضكم الذي بلا سبب، ولا من اندفاعكم في هيئة حيوانية في غضب وبلا مناسبة، فتعرفوا بوضوح، ما إذا كانت كلمة “تعليمي”، هي من الله، أم “أتكلم أنا من نفسي” وإذ قد نسج الرب التوبيخ بالمنفعة، فإنه يتهمهم بعدل، أنهم يسخرون من تعليمه بلا سبب، مع أن الله الآب يوافق على تعليمه وهو شريك معه، أو ما هو أيضاً حق، أنه شريك يعلم معه في التعليم وفي التفسير. لكنه يضع عبارة “من نفسي”، لأنه وبشكل خاص وكامل لا يختلف عن شركة المشيئة والقصد مع الآب. لأني لا أحسب أن إنساناً ذا عقل سليم يمكنه أن يظن أن المسيح يتهم كلماته هو شخصيا أنها زائفة، بل يقول إنها لن تكون شيئاً آخر خلاف ما يتفق مع مشيئة الله الآب لأن الآب يتكلم بكلمته الذاتي وبحكمته، التي هو وليده الذاتي، أما الابن فلا يتكلم من نفسه أبداً بشكل مختلف، فكيف له أن يفعل ذلك؟!

(يو١٨:٧): “مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ“.

هو هنا يقدم هذا البرهان الواضح أنه بتعليمه، لا يعمل لمجده الشخصي، وأنه لم يستخدم أية كلمات غريبة خارجة عن الناموس (لأن هذا هو معنى أن “يتكلم من نفسه”)، لكنه كان يحضهم بالحري أن يطيعوا كلمات الوحي السابقة، بينما يزيل فقط ظل الحرف الكثيف، ويحوله بطريقة مقنعة إلى المعنى الروحي الذي كان مخفياً في المثال، إذن ما يقوله في الإنجيل حسب متى “مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ” (مت١٧:٥)، إنما يشير إليه هنا مرة أخرى بشكل غير مباشر لأن نهج الإنجيل قد حول الحرف إلى الحق، إذ قد حول المثال الموسوي إلى ما هو أكثر ملائمة، أي إلى الذي فيه معرفة العبادة بالروح، لهذا فالمسيح لا يتكلم من نفسه، أي لا يقول شيئا يختلف عما تم التنبؤ به قبلاً، لأنه لا يتجاهل موسى، ولا هو يعلمنا أن نرفض تأديب الناموس، هو يفوق ما كان محتجباً في مثال، وكأنه يعطي نوراً أكثر لمعاناً ليظهر الحق، وبمنتهى المهارة يربح اليهود بأن يقدم المجد والكرامة لله الآب لأنه حيث أن اليهود لم يعرفوا الكلمة الذي ظهر من عند الله الآب، افترضوا أن الناموس أعطي من الآب فقط، ولهذا السبب يؤكد (المسيح) أنه تمجد بحفظ الناموس، وأنه سيتحمل العكس لو لم يكن الناموس قد، تم حفظه كما ينبغي . لكن حتى وإن كان الابن شريكاً لمجد الآب، وأن الله الآب قد تكلم بواسطته إلى موسى، فإنه يوافق علي آرائهم بشكل تدبيري، لكن حال كونه “لا يتكلم من نفسه”، أي بما لا يتفق مع الناموس، يعترف أنه يقيناً لا يسعى إلى تأكيد مجده الشخصي، بل إلى ذلك المجد اللائق بمعطي الناموس.

بالإضافة إلى ذلك، يجب ملاحظة هذا أيضاً، لأنه بشكل غير مباشر وغامض، يجد أن ثمة خطأ في وسط اليهود، الذين يقعون في تلك الأمور عينها، والتي يلومونها عن جهل، وأنهم قد اعتادوا أن يطلبوا لأنفسهم مجداً بدلاً من مجد الله. رب الجميع: كيف؟ هذا ما سأقوله لكم، لأنهم إذ ينحرفون عن وصايا الناموس، قد انشغل كل واحد منهم بما يروق له، معلمين تعاليم هي وصايا الناس، كما هو مكتوب (مت٩:١٥). لهذا فحسنًا يتهمهم المسيح كمتعدين، وكمخطئين ضد معطي الناموس نفسه، باستمالتهم لسامعيهم؛ لا ليحيوا حسب وصايا الله، بل بالحري أن يلتفتوا إلى تعاليمهم هم. ولهذا، وعلى الرغم من أن المسيح لا يزال يقول إن “مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ” (يو١٨:٧)، فهو يوبخ مرض جنون الفريسيين، في أنهم باندفاعهم للتحدث بأقوالهم هم، يسرقون مجد معطي الناموس، ناقلين إلى أنفسهم الأمور الواجبة لله، لهذا فإنهم لم يحجموا في النهاية عن السعي لقتله. فعلى هذا الأساس يتهمهم المسيح بالتعدي، إذ هم يغالون في تبرير أنفسهم بزعم أنهم غيورون على حفظ الناموس، وأنهم بهذا يكرمون الله الآب.

وهو يقول: “وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ”، فالذي لا يطلب مجد الله بل مجد نفسه، ليس صادقاً، بل ظالم إلى أبعد الحدود، وهو ليس “صادقاً” لأنه يفتري على الناموس، ويصنع إرادته هو، عوض الناموس، وهو ظالم جداً للغاية أيضاً، إذ أنه يطرح جانباً، الحكم العادل الذي لمعطي الناموس، ويضع حكمه فوق حكم ربه. فالمسيح إذن عادل وصادق، إذ أنه ليس عرضة لأي من الاتهامات السابقة.

(يو٢٤:٧): “لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلاً“.

وهو يقول: إن الناموس الذي أنتم غيورون هكذا على الاشتراك فيه، والذي بسببه اشتعلتم بثورة عارمة، إنما يصرخ عالياً فيقول “لاَ تَهَابُوا وَجْهَ إِنْسَانٍ لأَنَّ الْقَضَاءَ ِللهِ” (تث١٧:١). إذن أنتم يا من تدينونني كمتعد بسبب السبت وتقررون أنه من اللائق تماماً أن تغضبوا لهذا، هل تهتمون بكرامة الناموس، إذن اخجلوا من الكلمة التي تقول “لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلاً” (يو٢٤:٧)لأنكم إن كنتم تستبعدون موسى من التعدي، وبصواب تعتبرون أنه لا دينونة عليه في ذلك، رغم أنه يكسر فريضة السبت بسبب الختان الذي هو من الآباء، فهل تعتقون الابن أيضا من اللوم، وهو الذي يتفق دوماً مع فكر الآب ويوافق مشيئته، وكل ما يفعله الآب، فهذا يفعله الابن أيضاً؟ فإن كنتم تدينون الابن فقط، ولا تدينون موسى، رغم أنه مشترك (كما يقول الرب) في نفس اللوم فيما يخص ما تفترضون أنتم أنني أنا أيضا متورط فيه بسبب السبت فكيف لا تحسبون أنتم أنكم تدوسون الناموس الإلهي، وتهينون القوانين العلوية، من باب محاباة بعض الذين يفسدون الحكم بعدل، ورغم أنه يتعدى الوصية، تجعلونه فوق الوصايا الإلهية، وتوقرونه من باب محاباة الوجوه؟.

وليلاحظ السامع الحكيم مرة أخرى حكمة المسيح مخلصنا، تلك الحكمة المثيرة للعجب. فحين أتهم بخرق الناموس، أدانهم كمتعدين بواسطة عدة مناقشات، كلها تنطق بكلمات الإنجيل: “وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟” (مت٣:٧). إن إدانة الآخرين إذن هي أمر شرير. لأنه كما هو مكتوب أن الإنسان “لأَنَّكَ فِي مَا تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ” (رو۱:۲). وقال المخلص نفسه أيضاً “وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ فَلاَ تُدَانُوا لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ” (لو٣٧:٦). وهذا نقوله فيما يخص أنفسنا: لأن المسيح لن يصبح متعدياً بتغييره لنواميسه الخاصة لمن يريده هو، فيغلف ظلال الناموس بجمال الحق الخالص، حتى أنه في النهاية، تتحول الأمور ذات المعنى الجسداني في القديم إلى معنى روحاني.

لكن لما كانت عظتنا، التي هي حول ذكر السبت، قد تدرجت إلى ذكر الختان، أظن ذلك لن يكون أقل نفعاً لدى الباحث عن الحكمة ومن خلال استكشافه الجلي، أن يعرف ما الذي تعنيه راحة اليوم السابع، والتي يشار إليها بالختان في اليوم الثامن. وبتعليمه أيضاً، لماذا يقبل الختان في السبت نفسه، دون المحافظة على الراحة الشرعية: وإذ افحص كل نقطة بشكل صحيح، وبقدر ما أستطيع، سأسعى جاهداً أن أجعل الشرح واضحاً:

أول ما نهتم به هو ما يعنيه اليوم السابع أو السبت، وراحته، لأنه بذلك يكون التساؤل حول ما يلي من أمور استفساراً مقبولاً. لهذا هيا نستفسر عن القانون الأول المعين حول هذا الموضوع، وكيف وبأية وسيلة قد نشأ الأمر.

لأنه عندما أعتق الله إسرائيل من العبودية في مصر وأتي بهم إلى حريتهم الأصلية والقديمة، بيد الحكيم جداً موسي، وإذ أجازهم البحر بطريقة معجزية، بأقدام جافة غير مبتلة، أمرهم أن يسرعوا إلى أرض الموعد، وقد عودهم على ضرورة أن يطهروا أنفسهم مقدماً، وأن يغتسلوا، فإنه قد دعاهم إلى اجتماع على جبل سيناء: وإذ نزل عليه في شبه نار، أعطاهم وصايا للخلاص، قائلاً “أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ، لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ، لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ” (خر٢٠: ٢-٥)، لأنه كان لائقاً، نعم كان لائقاً آنذاك أن يبدأ بعرض ما كان نافعاً، وأن يبدأ أولاً مع أولئك الذين كانوا قد سلموا أنفسهم مرة لخدمة الله وطاعته، وذلك بأن يعطيهم تعاليم المعرفة الإلهية، لأن معرفة الله هي أصل كل الفضائل والإيمان هو أساس التقوى، وإذ أعلن عن نفسه، وجعل نفسه ظاهراً بقوله “أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ”، وإذ قد حرم نهائياً صنع صورة وعبادة الآلهة الزائفة الاسم، يظهر أن تعديهم لن يمر دون عقاب، وهو يضع أمامهم عقوبة الإرتداد، صارخاً “لاَ تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً” (خر٧:٢٠) أي لا تصنع صنماً باطلاً للاسم الإلهي المخوف جداً: “لأن الرب (كما يقول) لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً” ، وبعد أن قال إن ذالك الذي يسر بعبادة آخر ويخضع نفسه لإله زائف، إنما هو مذنب بتعد ليس بقليل. وبعد أن هددهم، تبعاً لذلك كشعب جاء إلى الإيمان حديثاً وله فهم ضعيف يضيف في وقته، وكأني به يؤسس قانوناً ثانياً، قائلاً “اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ. سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ لاَ تَصْنَعْ عَمَلاً مَا” (خر٢٠: ٨-١٠).

ولنفعهم يظهر لهم من يتمثلون به في هذا العمل، فيقول، “لأَنْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ لِذلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ” (خر۱۱:۲۰).

وقد يقول قائل فما هي فحوى فريضة السبت إذن؟ أو لماذا بعد التهديد الموجه ضد التعديات، كان هناك ناموس ثان مماثل قد تم وضعه مباشرة؟

لهذا نقول: كان من الصائب لا أن يهدد المتعدين فقط أنهم سيعانون من آلام مروعة، وليس بالخوف وحده يؤسس إسرائيل على التقوى «لأن خدمة الخوف هي خدمة العبودية»، بل لكي يظهر ما يصيرون شركاء فيه وما ينتهون إليه، أولئك الراسخون بثبات في محبتهم له، لذلك هو يعرف، ويعطيهم كما في مثال الوعد بالخيرات العتيدة. “لأَنَّ النَّامُوسَ، إِذْ لَهُ ظِلُّ الْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَة” كما هو مكتوب (عب۱:۱۰)، ويبدو شكله كتمرين تمهيدي للحق. لأنه يأمرهم أن يستريحوا من كل عمل، وأن ينتهوا منه، وأن يمارسوا الراحة عندئذ، مشيراً بذلك إلى الراحة والتمتع الذي سيصير للقديسين في انقضاء الدهور، حين تنتهي حياتهم في العالم وقد غسلوا عرق أعمالهم الصالحة، أولئك الذين سيحيون في المسيح حياة بلا تعب، خالية من كل قلق، حسبما قيل عنهم بفم النبي القائل “لأنهم سينسون ضيقتهم السابقة، ولن تأتي على قلوبهم بعد ، بل يكون فرح أبدي على رؤوسهم، لأن على رأسهم سروراً، ويستقر عليهم فرح، ويهرب منهم الحزن والكآبة والتنهد” (إش٦٥: ١٦س). هم أيضا يحاكون الخالق الذي إستراح من أعماله، هكذا هم ستتوقف أتعابهم في هذه الحياة، ويبلغون الفرح الذي يهبه المسيح لهم في نهاية الدهور. واعتقد أن الراحة المعنية في السبت تتجه نحو تلك الغاية.

لكن، لاحظوا كيف أن معطي الناموس ينفي بالقول، عبادة آلهة أخرى، لأنه وهو يعطى الوصية القريبة الصلة حول السبت والتي تلي هذا الكلام، يقول “أذكر” ولماذا ؟ لأن زمان عبادة آلهة أخرى قد ولى الآن «لأنه لذلك يوصيهم على الفور أن يجتهدوا في هذا الأمر». لكن كان من الممكن من خلال الذكرى أن يعاينوا أموراً مستقبلة، وأن يروا مقدماً بالفكر ما كان موصوفاً مثلاً بأمثلة. علينا نحن أيضاً أن نلاحظ ذلك، لأنه حينما عزز موقفنا حسناً من جهة إيماننا، فإنه يضيف على الفور ذكرى الوعد في نهاية الأزمنة، ثم يرتب من النواميس الباقية “أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ.. لاَ تَقْتُلْ” (خر۱۲:۲۰، ۱۳) وهكذا : وحتى لا نظن أننا نتبرر بالأعمال، غير ناظرين إلى سخاء الله الوفير كثمرة لأتعابنا، بلأإننا سنناله بالإيمان، لذلك، فقد دخلت النعمة جنباً إلى جنب مع إيماننا ورجائنا في الخيرات، قبل النواميس التي تناولها الحديث الإلهي.

إذن تشير راحة السبت إلى حياة القديسين في راحة وقداسة، بعد أن يخلعوا في النهاية كل ما يضايق، ويتوقفوا عن كل كد، فإنهم يبتهجون بالخيرات التي من الله. وحين يحدثنا المغبوط بولس عن هذه الأمور حقاً، ويحاول أن يستفسر عن كيفية راحة الشعب، يقول هكذا “وَلِمَنْ أَقْسَمَ: «لَنْ يَدْخُلُوا رَاحَتَهُ»، إِلاَّ لِلَّذِينَ لَمْ يُطِيعُوا؟ فَنَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا لِعَدَمِ الإِيمَانِ” (عب۱۸:۳، ١٩). لأنه إذا افترض البعض أن تلك كانت أرض الراحة التي جاء إليها الذين أتوا من مصر، رغم أنها أخذت كرمز للأرض التي سيعطيها المسيح للقديسين، والتي دعاها داود “أَرْضِ الأَحْيَاءِ” (قابل (مز١٣:٢٧). ويسعى الحكيم جداً بولس أن يظهر أن تلك، أعطيت كميراث لبني إسرائيل بأمر هوشع كانت مثالاً لتلك الأرض المنتظرة، وهو يثبت أن تلك الأمور أخذت كمثال للحق، فهو يثبت الأمر باجتهاد التي بمناقشة توضيح ما قيل، إذ يتكلم هكذا: “فَإِذْ بَقِيَ أَنَّ قَوْمًا يَدْخُلُونَهَا، وَالَّذِينَ بُشِّرُوا أَوَّلاً لَمْ يَدْخُلُوا لِسَبَبِ الْعِصْيَانِ، يُعَيِّنُ أَيْضًا يَوْمًا قَائِلاً فِي دَاوُدَ:«الْيَوْمَ» بَعْدَ زَمَانٍ هذَا مِقْدَارُهُ، كَمَا قِيلَ:«الْيَوْمَ، إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ»، لأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَشُوعُ قَدْ أَرَاحَهُمْ لَمَا تَكَلَّمَ بَعْدَ ذلِكَ عَنْ يَوْمٍ آخَرَ” (عب٦:٤- ٨).

أترون كيف أنه باجتهاد يسقط الاعتراض الظاهري؟ لأن من ينخرط في المناقشات اليهودية، يجب عليه أن يقول “ماذا تقول أيها السيد الفاضل جداً؟” ألم يأت يشوع بالشعب إلى أرض الموعد؟ ألم يستريحوا ويحفظوا السبت فيها؟ ويقول: “أجل” لكن في رمز وكمحاكاة للحقيقة. لأنه إن كان في تلك الأمور فقط تقاس نعمة الله ويقدر قياس وعده، وفيها تحققت لإسرائيل مواعيدهم، ولا يشير حرف الناموس إلى شئ آخر سواه، فكيف تحددت فترة أخرى بواسطة المبارك داود، وكأن يشوع لم يعطهم راحة، رغم أنه جاء بعد يشوع بفترة طويلة؟ وبعد أن أظهر أن الأحداث التاريخية هي مثال وصورة للأمور الروحية، نراه يكشف التفسير المختوم المخفي للسبت، بحكمة وحزن شديدين، فيضيف قائلاً ” إِذًا بَقِيَتْ رَاحَةٌ لِشَعْبِ اللهِ لأَنَّ الَّذِي دَخَلَ رَاحَتَهُ اسْتَرَاحَ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَعْمَالِهِ، كَمَا اللهُ مِنْ أَعْمَالِهِ” (عب٤: ١٠،٩). كيف لا نقر إذن في النهاية وبوضوح، أن ذهن القديسين يعرف أن الراحة من الأتعاب، أي الراحة من أتعابنا، هي حفظ السبت، حين تبتهج جوقة القديسين المشرقة بأعمالهم الصالحة التي سبقوا وعملوها في هذه الحياة، على مثال خالق كل الأشياء، الذي استراح وفرح في اليوم السابع، كما يقول الحكمة في سفر الأمثال “وكنت أنا فرحه وفي بهجة أمامه يوماً بعد يوم بعد أن تهلل لتكميله الأرض ومبتهجاً مع بني البشر” (أم٨: ٣٠، ۳۱).

وسأرجع مرة أخرى للموضوع الأساسي، فأوجز ملخص الحديث كله،

لهذا ، فإن راحة السبت تشير إلى حياة القديسين التي بلا تعب. لأن الله سيعطي القديسين كل الصالحات في ذلك الدهر بلا تعب. وحينئذ فنحن أيضاً لن نصنع خطية، والتي هي أصل كل الأوجاع، لأنها ستُباد من داخلنا بجذورها وفروعها، مع ذاك الذي كان يبذرها فينا، حسب ما قيل: “لا يكون هناك أسد. وحش مفترس لا يصعد إليها، بل تكون هناك سكة نقية يقال لها الطريق المقدسة” (إش٣٥: 8، ٩).

أجل وسيتذكر القديسون كل الأمور الصالحة دون تعب. هكذا فإن من جمع عصياً أيضا السبت يموت رجماً، لأنه أخطأ إلى الحق في مثال. لأنه بعد توقفنا، وبلوغنا تلك الراحة، لن نكف عن تلك العادة المدهشة والشهيرة وسط الفضائل، كما فعلوا هم من خيمتهم، ولن نجمع خطية فيما بعد، والتي هي وقود النار وأصلها (كالعصي تماماً)، كما يجمع ذلك الرجل الحطب، من خلال حماقته الشديدة، دون أن يفهم معنى الأمثلة التي تشير إلى الحق. ولذلك أيضا يرجمه المنتقمون مع الأحجار العديمة الحس، لأنه حُسب عديم الحس هو أيضا، إذ له نفس صفاته الأخلاقية مكتوبة فيما عوقب به، لذلك من الواضح أننا لن نقترف أية خطية شائنة حينئذ، كما أننا لن نجتهد لنحصل على ما هو نافع، وهذا ما ستراه أيضاً واضحاً وإن بشكل مبهم بعض الشيء في كتب موسى، لأن الله أمطر المن مثل ندى على بني إسرائيل، في البرية، وأعطاهم خبز الملائكة، كما هو مكتوب (مز٢٥:٧٨)، ثم عيّن ناموساً أيضاً بخصوصه بواسطة الحكيم جداً موسى. لأنه هكذا نادي قائلاً: ” كُلُوهُ الْيَوْمَ، لأَنَّ لِلرَّبِّ الْيَوْمَ سَبْتًا الْيَوْمَ لاَ تَجِدُونَهُ فِي الْحَقْلِ. سِتَّةَ أَيَّامٍ تَلْتَقِطُونَهُ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَفِيهِ سَبْتٌ، لاَ يُوجَدُ فِيهِ” (خر٢٥:١٦، ٢٦). لأنه يلمح أنه قبل انقضاء الدهور، من الملائم أن نجمع بكد ما ينفعنا ويقوينا للحياة الأبدية، كما عبروا هم البرية الواسعة وجمعوا من كل الأطراف منًا لطعامهم، لكن في اليوم السابع، أي، في النهاية الأخيرة فإن زمن ما هو نافع يكون قد ولي، ونحن سنبهج أنفسنا بالأمور التي سبق أن وهبت لنا، كما قيل بالمرنم “لأنك ستأكل ثمرة أتعابك” (مز۲:۱۲۷).

فالله إذن معطي الناموس، إذ لا يجد مسرة في الظلال، بل هو يتطلع مسبقاً إلى نفس صورة الأشياء، أعلن ألا نعمل في السبت، لكن بعض الناس الذين احتقروا الناموس المعطى لهم، ولم يحجموا عن الإساءة وبحماقة بالغة إلى رب الكل، قرروا أنهم ينبغي أن يخرجوا ليجمعوا المن حتى في يوم السبت، ولم يكن مسعاهم المتجاسر هو في المشورات فقط، بل في الفعل ذاته فقد عملوا ما بدا لهم حسناً. لذلك فإن معطي الناموس يلومهم مرة أخرى بسبب هذا “إِلَى مَتَى تَأْبَوْنَ أَنْ تَحْفَظُوا وَصَايَايَ وَشَرَائِعِي؟ اُنْظُرُوا إِنَّ الرَّبَّ أَعْطَاكُمُ السَّبْتَ (راحة). لِذلِكَ هُوَ يُعْطِيكُمْ فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ خُبْزَ يَوْمَيْنِ اجْلِسُوا كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَكَانِهِ لاَ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْ مَكَانِهِ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ” (خر٢٨:١٦، ٢٩). أترون كيف أنه سبق وعين لنا حياةً خالية من كل تعب وعرق، في الراحة في مثال، لهذا يحثهم ألا يفعلوا شيئا في يوم السبت؟ لأنه لم يسمح لهم أن يجمعوا، وبالإضافة إلى ذلك يأمرهم ألا يبرحوا بيتهم ويذهبوا إلى أي مكان وألا يغادروا مكانهم. فما الذي يريدنا أن نتعلمه أيضاً من هذا، هذا ما سنوضحه لكم، بأن نضع أمامكم وصية أخرى قريبة ومماثلة. فقد قال النبي الطوباوي إرميا لليهود حول هذا الأمر: ” هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: تَحَفَّظُوا بِأَنْفُسِكُمْ وَلاَ تَحْمِلُوا حِمْلاً يَوْمَ السَّبْتِ وَلاَ تُدْخِلُوهُ فِي أَبْوَابِ أُورُشَلِيمَ، وَلاَ تُخْرِجُوا حِمْلاً مِنْ بُيُوتِكُمْ يَوْمَ السَّبْتِ، وَلاَ تَعْمَلُوا شُغْلاً مَّا، بَلْ قَدِّسُوا يَوْمَ السَّبْتِ كَمَا أَمَرْتُ آبَاءَكُمْ” (إر 17: 21، 22).

وماذا بعد إذن، إذ هو يحثهم كما قلنا قبلاً على أن يكونوا في حالة سهر، فإنه يوصينا أن نحفظ نفوسنا؛ وهكذا سنحقق بسهولة واجبنا في الإسراع إلى الحفظ المرجو للسبت. لكن كم من الخيرات العديدة سوف تكشف لأولئك الذين يقتنون هذا، ذلك هو ما يجعله معروفا بشكل جميل بعرضه لأمور أخرى، لأنه لم يجعل أحداً يحمل حملاً، لأنه ما من أحد في زمان الراحة سيثقل كاهله بحمل الخطية الثقيل. لأنه زمان القداسة، حيث تكون خطيئتنا القديمة قد طرحت طرحاً نهائياً وأبيدت تماماً، وحين تتجدد نفس كل واحد إلى حالة الفضيلة غير المتذبذبة. أجل، فهؤلاء لا يدعهم يخرجون إلى أبواب أورشليم. لأنه بحسب التعليم الصحيح والقديم ، فإن جوقة القديسين المجيدة ستسكن آمنة في أورشليم السماوية، ولن تخرج من المدينة المقدسة، بل تبقى بالحري هناك إلى الأبد. مثبتة بالقوة الإلهية، فلا تقدر أن تترك الخيرات التي أعطيت لها مرة واحدة. “لأَنَّ هِبَاتِ اللهِ وَدَعْوَتَهُ هِيَ بِلاَ نَدَامَةٍ” كقول القديس بولس (رو۲۹:۱۱).

ولكن بقوله ثانية “لاَ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْ مَكَانِهِ”، يبدو أنه يقصد هذا الأمر بكل وضوح. لأنه في الحقيقة توجد “منازل كثيرة عند الله الآب” كقول المخلص انظر (يو٢:١٤). وعن هذا كانت الخيمة المقدسة في كل مجدها هي المثال، والتي كان لها عشرة غرف، وسيعطى لكل واحد مسكناً حسب ما يستحقه وبما يتناسب مع أعماله الصالحة، لكن الذين يملكون مساكنهم تلك، فهؤلاء سيسكنون إلى الأبد هناك، ولن يفقدوا أبداً الأشياء التي أعطيت نصيباً لهم بالهبة الإلهية المجانية وسنقدم شهادة حقيقية عن هذا: فالنبي إشعياء إذ أوضح تلك الأمور بجلاء، يتحدث هكذا: “سوف ترى عيناك أورشليم، مدينة مزينة”..  خياماً لا تنتقل، لا تقلع أوتادها إلى الأبد” (انظر إش۲۰:٣٣س). لأنه بقوله إن الخيام في المدينة المزينة الثرية لن تهتز، يكشف عن عدم تغير المسكن والإقامة هناك. أجل، بل إنه يقول أكثر من ذلك، “ولا تعملوا شغلاً ما، بل قدسوا يوم السبت”. وكما قلنا مراراً، فإن زمان الراحة والانتعاش يخص كلا الأمرين، وهو محفوظ بالكامل مقدساً كعيد للمسيح.

وسنعرف من مصادر أخرى أيضا أننا يجب ألا نعمل شيئاً في السبت، بل نستريح، ونكف عن كل شئ يجلب تعباً وعرقاً. لأنه يقول في الخروج “وَسِتَّ سِنِينَ تَزْرَعُ أَرْضَكَ وَتَجْمَعُ غَلَّتَهَا، وَأَمَّا فِي السَّابِعَةِ فَتُرِيحُهَا وَتَتْرُكُهَا” (خر۱۰:۲۳، ۱۱). وفي سفر اللاويين يقول “مَتَى أَتَيْتُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنَا أُعْطِيكُمْ تَسْبِتُ الأَرْضُ سَبْتًا لِلرَّبِّ. سِتَّ سِنِينَ تَزْرَعُ حَقْلَكَ، وَسِتَّ سِنِينَ تَقْضِبُ كَرْمَكَ وَتَجْمَعُ غَلَّتَهُمَا، وَأَمَّا السَّنَةُ السَّابِعَةُ فَفِيهَا يَكُونُ لِلأَرْضِ سَبْتُ عُطْلَةٍ، سَبْتًا لِلرَّبِّ” (لا٢٥: ٢-٤).

لأنه ليست الأرض التي لا تحس بالتعب هي التي يطلقها، ولا الله قد أعطى هذا الناموس للأرض نفسها. بل قد أعطاه لأولئك الذين يمتلكونها، لكي لا يتعبوا، من خلال تحريره للأرض.لأنه بطرق كثيرة يشير إلى إحتفالنا في المسيح، الذي فيه يسرع، أولئك الذين عاشوا في مخافة الله، إلى الحرية الكاملة والتامة، الحرية التي في القداسة، وإلى نعمة الروح الفائقة الغنى، هذا نعرفه أيضا من وصايا موسى ذاتها.. لأنه مكتوب هكذا “إِذَا بِيعَ لَكَ أَخُوكَ الْعِبْرَانِيُّ أَوْ أُخْتُكَ الْعِبْرَانِيَّةُ وَخَدَمَكَ سِتَّ سِنِينَ، فَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ تُطْلِقُهُ حُرًّا مِنْ عِنْدِكَ” (تث١٢:١٥). لأننا نحن الذين كنا في القديم عبيدا للخطية، وبتلذذنا بالشر قد بعنا أنفسنا للشيطان، لكننا إذ قد تبررنا في المسيح بالإيمان، سنرتفع إلى الحفظ الحقيقي والمقدس للسبت، مكتسين بالحرية التي هي بالنعمة، وممجدين بالخيرات من الله.

 

العظة الآبائية الثالثة شفاء يوم سبت – القديس كيرلس الأسكندري[4]

شفاء المرأة التي بها روح ضعف

(لو١٣: ١٠- ۱۳): “وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي أَحَدِ الْمَجَامِعِ فِي السَّبْتِ. وَإِذَا امْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضَعْفٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ الْبَتَّةَ. فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ دَعَاهَا وَقَالَ لَهَا:«يَا امْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضَعْفِكِ». وَوَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ، فَفِي الْحَالِ اسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ اللهَ”.

كان هناك في المجمع امرأة منحنية لم تقدر أن تنتصب لمدة ثماني عشرة سنة بسبب روح ضعف، وربما تبرهن حالتها على منفعة ليست بقليلة لمن لهم فهم، لأنه ينبغي لنا أن نجمع ما هو مفيد لنا من كل جانب، إذ مما حدث نرى أن الشيطان غالباً ما ينال السلطان على بعض الأشخاص، منهم مثلاً الذين يسقطون في الخطية فيصيرون متراخين في بذل الجهد لأجل التقوى. لذلك فكل من يمسك به الشيطان في نطاق سلطانه يصيبه بأمراض جسدية، إذ إنه يفرح بالعقوبة وهو عديم الرحمة. الله الحكيم جداً الذي يرى كل شيء يمنحه هذه الفرصة حتى إذا ما تضايق الناس جداً من ثقل بؤسهم يصممون في أنفسهم أن يتغيروا إلى الطريق الأفضل. لأجل ذلك سلم القديس بولس الشيطان أحد الأشخاص في كنيسة كورنثوس كان قد اتهم بالزنا “لِهَلاَكِ الْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ” (١كو ٥: ٥).

لذلك قيل عن المرأة التي كانت منحنية إنها عانت هذا من قسوة الشيطان بحسب كلمات ربنا إذ قال: “رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً”. وكما قلت فإن الله سمح بهذا، إما بسبب خطاياها، أو بسبب قانون عام وشامل، لأن الشيطان الملعون هو سبب مرض أجساد البشر، كما نؤكد أن تعدي آدم، كان بتأثير الشيطان، وبواسطة هذا التعدي صارت هياكلنا البشرية معرضة للمرض والانحلال. ومع أن هذا كان حال البشر فإن الله الصالح بطبعه لم يتخل عنا ونحن نعاني من عقوبة مرض مستعص طويل الأمد، بل حررنا من قيودنا، مظهراً – كعلاج مجيد لأتعاب البشرية – حضوره الذاتي وظهوره في العالم، لأنه جاء ليعيد صياغة طبيعتنا إلى ما كانت عليه في الأصل، لأنه كما هو مكتوب: “إن الله لم يصنع الموت وهو لا يُسر بهلاك الأحياء. لأنه إنما خلق البرايا لتكون موجودة، وصنع أجيال العالم معافاة وليس فيها سم التهلكة” (حكمة ١: ١٣، ١٤ س)، لكن “بحسد ابليس دخل الموت إلى العالم” (حك ٢: ٢٤ س).

إن تجسد الكلمة وأخذه لطبيعة بشرية تم لأجل دحر الموت وملاشاة ذلك الحسد الذي ألهبته الحية الشريرة التي كانت العلة الأولى للشر. وهذا يتبرهن لنا من الحقائق نفسها. ولذلك حرر ابنة إبراهيم من مرضها المزمن، فدعاها قائلاً: “يَا امْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضَعْفِكِ”. وهذا كلام يليق جداً بالله، وهو مملوء قوة فائقة للطبيعة، لأنه بالسلطان الإلهي لمشيئته طرد المرض. وهو أيضاً وضع يديه عليها، وفي الحال استقامت. ومن ثم يمكننا أيضاً أن نرى أن جسده المقدس يحمل داخله قوة الله وفاعليتها، لأنه هو جسده الذاتي وليس جسد ابن أخر بجانبه، مميزاً ومنفصلاً عنه كما يتخيل بعض عديمي التقوي.

(لو ١٣: ١٤)فَأَجابَ رَئِيسُ الْمَجْمَعِ، وَهُوَ مُغْتَاظٌ لأَنَّ يَسُوعَ أَبْرَأَ فِي السَّبْتِ، وَقَالَ لِلْجَمْعِ: هِيَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا الْعَمَلُ، فَفِي هذِهِ ائْتُوا وَاسْتَشْفُوا، وَلَيْسَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ!”.

ولكن ألم يكن من الواجب عليه بالحري أن يندهش لكون المسيح حرر ابنة إبراهيم هذه من قيودها؟ إنك رأيتها تتحرر من بليتها على غير ما كان متوقعاً، وكنت شاهد عيان بأن الطبيب لم يتوسل، ولا نال – كمنحة من آخر – شفاء المرأة المريضة، بل إنه فعل هذا بفعل قدرته. وبحكم كونك رئيساً للمجمع أفترض أنك تعرف كتب موسي.

لقد رأيت موسى يصلي في كل مناسبة، ولم يعمل شيئا بقوته الذاتية، فعندما أصيبت مريم بالبرص لمجرد أنها تكلمت ضده بشيء من اللوم – وذلك عن حق لأنه أخذ لنفسه امرأة كوشية – لم يستطع موسى أن يقهر المرض بل على العكس سقط أمام الله قائلاً: “اللّهُمَّ اشْفِهَا” (عدد ۱۳:۱۲). ولكن رغم تضرعه هذا، لم ترفع عنها عقوبة خطيتها. كما أن الأنبياء القديسين عندما كانوا يصنعون أية معجزة، فإننا نرى أنهم صنعوها بقوة الله. أتوسل إليك أن تلاحظ هنا أن المسيح مخلص الكل لم يقدم أية صلاة بل تمم الأمر بقوته الذاتية وشفاها بكلمة وبلمسة يده. لأنه بسبب كونه رباً وإلهاً أظهر أن جسده الخاص له فاعلية مساوية مع نفسه؛ لتحرير البشر من أمراضهم، ومن ثم كان يقصد أن يدرك البشر فحوى السر المختص به. لذلك لو كان رئيس المجمع رجلاً ذا فهم لكان أدرك من هو المخلص وكم كان عظيماً بسبب هذه المعجزة العجيبة جداً، ولما كان قد تكلم بنفس الطريقة الجاهلة كالجموع، ولا كان قد اتهم من يقومون بشفاء المرضى، بكسر الشريعة، من جهة الامتناع التقليدي عن العمل يوم السبت.

لكن من الواضح: “أن تُشفى هو أن تعمل”. فهل تنكسر الشريعة عندما يظهر الله رحمة حتى في يوم السبت؟ من هو الذي أمر الله أن يكف عن العمل؟ هل أمر ذاته؟ أم لم يكن بالأحرى أنتم؟ لو كان قد أمر ذاته، لجعل عنايته الإلهية بنا تتوقف يوم السبت.. إذن لتسترح الشمس من مسارها اليومي، ليتوقف المطر عن الهطول، لتتوقف ينابيع المياه وكذلك الأنهار الدائمة الجريان، وكذلك تتوقف الريح. لكن لو أمركم أنتم بالراحة فلا تلوموا الله لأنه بسلطان أظهر رحمة حتى في يوم السبت.

ولماذا هو أوصى البشر أن يستريحوا في يوم السبت؟ إنه كان – كما قيل لكم – لكي يستريح عبدك وثورك وحصانك وماشيتك. لذلك فعندما يريح هو البشر بتحريرهم من أمراضهم وأنتم تمنعون ذلك، يتضح أنكم تكسرون السبت في عدم سماحكم لمن يعانون تحت ثقل الألم والمرض والذين ربطهم الشيطان، أن يستريحوا.

لكن عندما رأى رئيس المجمع غير الشكور المرأة المنحنية والتي كانت أطرافها كسيحة، وقد نالت رحمة من المسيح فانتصبت في استقامتها، بمجرد لمسة من يده وأنها تسير بخطوات منتصبة تليق بإنسان، وتعظم الله لأجل شفائها، اغتاظ جداً واشتعل بغضب ضد مجد الرب، وتورط في الحسد، وافترى على المعجزة، ولكنه تحاشى الحديث مع الرب – لأنه كان سيفضح رياءه – ووبخ الجمع لكي يبدو أن اغتياظه كان لأجل حفظ يوم السبت. لكن هدفه كان في الحقيقة هو أن يسيطر على من كانوا متفرقين على مدى الأسبوع ومنشغلين بأعمالهم، لكي لا يكونوا مشاهدين ومعجبين بمعجزات الرب يوم السبت لئلا يؤمنوا هم أيضاً به.

ولكن أخبرني – يا من أنت عبد للحسد – أي نوع من الأعمال يمنعه الناموس عندما يوصيك بأن تكف عن كل عمل يدوي في يوم السبت؟ هل يمنع عن عمل الفم والتكلم؟ إذن فامتنع عن الأكل والشرب والتحادث وترتيل المزامير في يوم السبت.

لكن لو امتنعت عن هذه الأعمال بل وامتنعت أيضاً عن قراءة الناموس، فما هي منفعة السبت لك؟ لكن لو قصرت المنع عن العمل اليدوي؟ فكيف يكون شفاء امرأة بكلمة نوعاً من العمل اليدوي؟ لكن لو دعوته عملاً لأن المرأة قد شفيت بالفعل فأنت أيضاً قد أديت عملاً في لومك لشفائها، لكن رئيس المجمع يقول إن المسيح قال: “أنت محلولة من ضعفك فانحلت منه” حسناً! ألا تحل انت منطقتك في يوم السبت ألا تخلع حذاءك وترتب فراشك وتغسل يديك عندما تتسخ بالأكل؟ فلماذا أنت غاضب هكذا من مجرد كلمة “أنك محلولة”؟ وما العمل الذي عملته المرأة بعد قول هذه الكلمة؟ هل شرعت في عمل النحاس أو النجار أو البناء؟ هل ابتدأت في هذا اليوم ذاته في النسج أو العمل على النول؟ سيجيب لا، إنها صارت منتصبة، كان مجرد الشفاء هو نوع من العمل.

لكن لا، فأنت لست غاضباً بالحق لأجل السبت، بل إنه يوجد شيء مخفي في قلبك وأنت تنطق وتتعلل بشيء غيره، ولهذا السبب فإنك إذ رأيت المسيح يُكرَّم ويُعبَد كإله اغتظت واهتجت وأكلك الحسد. فأنت مُدان تماماً من قبل الرب الذي يعرف حججك الباطلة، وتنال اللقب الذي يليق بك إذ دعاك: “مرائي” ومتصنِّع وغير مخلص.

(لو١٣: ١٥)يَا مُرَائِي أَلاَ يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ الْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟“.

يقول الرب: أنت تندهش لأني حللت ابنة إبراهيم من مرضها، بينما تريح ثورك وحمارك وتحله من أتعابه وتقوده ليشرب، لكن عندما يعاني كائن بشري من مرض، ويُشفي بطريقة عجيبة ويُظهر له الله رحمته، فإنك تلوم كليهما كمتعديين: أي ذلك الذي أجرى الشفاء والأخرى التي تحررت من مرضها.

أتوسل إليكم أن تنظروا كيف أن رئيس المجمع يعتبر أن كائناً بشرياً له في نظره اعتبار أقل من الحيوان، إذ أنه على الأقل يعتبر أن حماره وثوره جديران بالرعاية في يوم السبت، لكنه – في حسده – ما كان يريد أن المسيح يحرر المرأة المنحلة، ولا أن يراها وقد استعادت شكلها الطبيعي، ولكن الرئيس الحسود كان يُفضِّل أن تظل المرأة التي استقامت، منحنية دائماً مثل الحيوانات ذات الأربع، عن أن تستعيد الشكل الذي يليق بالبشر، ليس لهدف أخر سوى أن لا يتعظم المسيح ولا ينادي به كإله بسبب أعماله، لذا فقد أدين هذا الإنسان كمرائي، لأنه – على الأقل – يقود ماشيته الخرساء لتشرب في يوم السبت، ولكنه يغتاظ بسبب أن هذه المرأة – التي كانت ابنة إبراهيم بالجسد، وبالأكثر أيضاً بواسطة إيمانها، تتحرر من قيود مرضها. لأنه يعتبر أن خلاصها من مرضها تعد على شريعة السبت.

(لو١٣: ١٧) “وَإِذْ قَالَ هذَا أُخْجِلَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ، وَفَرِحَ كُلُّ الْجَمْعِ بِجَمِيعِ الأَعْمَالِ الْمَجِيدَةِ الْكَائِنَةِ مِنْهُ”.

خزى إذن جميع الذين نطقوا بهذه الآراء الفاسدة، الذين تعثروا أمام حجر الزاوية الأساسي، وانكسر الذين قاوموا الطبيب، الذين تصادموا مع الفخاري الحكيم أثناء انشغاله في تقويم الأوعية المعوجة، لم يكن هناك جواب يمكن أن يجيبوا به. لقد أدانوا ذواتهم بطريقة ليس فيها جدال، ودفعوا إلى الصمت، وتشككوا فيما ينبغي أن يقولوا.

وهكذا أغلق الرب أفواههم المتجاسرة، لكن الجموع الذين ربحوا فائدة المعجزات كانوا فرحين. لأن مجد وعظمة أعماله لاشت كل تساؤل وشك عند أولئك الذين سعوا إليه بدون نية سيئة.

 

عظات آباء وخدّام معاصرين للأربعاء الرابع من الخمسين يوم المقدسة

التدين الصحيح – للأستاذ لبيب راغب (القمص أنطونيوس راغب)[5]

احذروا التدين المزيف واسلكوا سبيل التدين الصحيح

“لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَارَبُّ، يَارَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ” وفي هذه الآية المقدسة أوضح لنا مخلصنا يسوع المسيح أن كثيرين ينتمون الى اسمه الأقدس لكن ليس كلهم يصل إلى ملكوت السموات. فهناك تدين صحيح وهناك تدين زائف.

ولكي نبحث هذا الموضوع حسناً، دعنا نتأمل في أربعة إخوة من المتدينين:

هذا صديقنا “هادی”: إنسان يبدو عليه حسن التدين – رجل “في حاله” كالتعبير الدارج  يذهب من بيته إلى الكنيسة، ويعود منها اليه، “هادی” رجل طيب، لا يؤذى أحداً  إذا سمع عن حزين ذهب اليه مشاركة له، وإذا رأى صديقاً فرحاً فرح معه، يتألم للمتألمين، ويبكى إذا كانت العظة مؤثرة ، يتلو الصلوات المكتوبة والمحفوظة فقط دائماً قبل أن ينام ، ثم يرقد هادئ  البال  هذا هو الأخ هادى.

أما أخانا “عليم”: فهو معلم مشهور وشخص متعمق في الدراسات اللاهوتية، يعرف أسرار عدد كبير من الكتب، وعنده في منزله مكتبة مملوءة بالمؤلفات الثمينة اللاهوتية و الطقسية والعقائدية، قديمها وحديثها، وهو حسن المنطق في الجدال الديني، سريع الإقناع في المناقشات العقائدية، فصيح في الوعظ والتعليم، وهو يدرس جماعة من الشبان في مدارس الأحد، وله مقالات كثيرة تنشرها المجلات الدينية مملوءة من أبحاث الأخ عليم.

و لعلك تذكر الأخ “طاكسيس”  فهو شماس طقسي هام، حريص على إتمام الطقوس الكنسية، تجده أول الحاضرين إلى الكنيسة، يتقن طريقة السجود وتقبيل الستور والصور وكتب القراءة، وهو حافظ تماماً لجميع مقتضيات المارسات الكنسية، يتلو التسبحة غيباً، ويتقن استخراج القراءات الكنسية على مدار السنة، و تجده بعد إتمام عملية قراءة التسبحة وإخراج الفصول  يتنهد مرتاحاً إلى انتهائه من هذه المهمة الكبيرة  ثم يقوم بتنظيم جلوس الناس في الكنيسة، وهو من فرقة جامعي الأطباق فيها  يخبرك دون أي تردد أو تفكير بسيط عن مواعيد الأصوام ومدتها، وما يؤكل فيها وما لا يؤكل  والألحان التي تصاحب كل صوم – بارع في إيقاد الشوريا، وحمل الصليب والشموع، يعرف أصحاب جميع الصور في الكنيسة، وهو بحكم وجوده الدائم فيها قد تليت على مسامعه عظات كثيرة  نشيط في الذهاب والإياب وقت القداس لأداء خدمات للكاهن أو للشماس  لابد أنك رأيت الأخ طاكسيس هذا عدة مرات.

و أخونا “باذل” هو شخص يبذل كل ما يستطيع لأجل الدين  يبذل المال للمساكين والمحتاجين، ويحرص على إعطاء العشور ويصرف أمواله على شراء صلبان أو صور دينية أو أناجيل، يقمع جسده بالصوم الدقيق، وحين يركعون في الكنيسة تراه راكعاً وجهته تلمس الأرض  أي ركوعاً صادقاً  يستعمل مواهبه في رسم الصور الدينية، كما يحث إخواته على استعمال مواهبهم في التطريز والحياكة بعمل الستور للكنائس واللفافات وملابس للفقراء ويتمنى لو كان صوته جميلاً حتى يستعمله بحرارة في مردات الشمامسة بالكنيسة، إذا لاحظته بعد انتهاء صلوات الجمعة العظيمة لوجدته يشرب كمية من المر أكثر مما يشرب أي واحد آخر – هذه هي صفات الأخ باذل.

فإذا علمت يا مبارك أن ما ذكر لك عن كل واحد من هؤلاء هو كل ما يتقنه من الدين، وكل يؤمن أن الدين لا يحتم عليه أكثر من هذا، فأي هؤلاء تراه سالكاً سبيل التدين الصحيح، و تتمنى أن تكون متديناً مثله؟ ألعله الأخ هادي الذي يميل بعواطفه نحو الدين؟

أو هو الأخ عليم الذي يميل بعقله نحو الدين؟

أو تراه الأخ طا كسيس الذي يميل بحواسه نحو الدين؟

أم تفضل الأخ باذل الذي يميل بقدرته نحو الدين؟

فأيهم المتدين حقاً من هؤلاء؟

الأخ هادي رأى أن كل ما في الدين هو هدوء الدين ورقته، فوهب للدين عواطفه.

والأخ عليم رأى أن كل ما في الدين هو معلومات الدين وعقائده، فوهب للدين عقله.

والأخ طاكسيس رأى أن كل ما في الدين هو طقوس الدين وشعائره، فوهب للدين حواسه.

والأخ باذل رأى أن كل ما في الدين هو خدمة الدين “بعافيته”، فوهب للدين قدرته.

فأيهم تراه أصحهم ديناً:

إن تدين الأول هو تدين العواطف فقط، ولكن هذا ليس كل التدين:  فلقد جاء الشاب الغنى إلى السيد المسيح مسوقاً بعاطفته “ماذا أفعل لأرث الحياة الأبدية” ولكن عواطفه لم تصلح وحدها لأن تقوده الى التدين الصحيح، لأنها تحطمت أمام محبة المال.

لا يا أخ هادي: إن تدينك العاطفي هذا وحده ليس كافياً  لأن الدين ليس مجرد أخلاق وآداب.

والمعلم عليم، تدينه تدين الفكر فقط، وهذا ليس يكفي: أما قرأت في سفر أعمال الرسل (ص ٢٥) أن أ بولس كان رجلاً فصيحاً مقتدرا في الكتب؟ ولكن هذا لم يكفه بل احتاج أن يأخذه بريسكلا وأكيلا ويعلما طريق الرب بأكثر تدقيق.

فأنت يا أخ عليم: إن تدينك العقلي هذا وحده ليس كافياً  لأن الدين ليس مجرد علم ودراسة.

والشماس طاكسيس: تدينه تدين الحواس فقط، وهذا أيضاً  للأسف ليس يكفي.. فقد تعرف كثيراً من الطقوس والشعائر  وهذا حسن جداً  ولكن ممارستها بطريقة ميكانيكية ليست تؤدي إلى التدين الصحيح  فقد كان الفريسي طقسيأ حريصاً: يحفظ الأصوام والعشور  وكفى أنه فريسي  و لكن العشار سبقه إلى نوال العدل الإلهي.

يا أخانا الشماس طاكسيس  لا يكفى تدين الحواس وحده، لان الدين ليس مجرد فن أو هواية.

بقى الأخ باذل: وهذا أيضاً تدينه تدين القدرة فقط: فهو بقدرته “وعافيته” يخدم الدين، ولكن هذا التدين ليس كاملاً: فلقد كان شاول غيوراً على ديانة آبائه، وفي سبيلها بذل كل شيء وتجشم أسفاراً كثيرة وأتعاباً لنصرتها، ولكن هذا البذل وحده لم يكفه، وكان بنبغي أن يتحول شاول هذا إلى بولس الرسول لكي يكون تدينه مقبولاً أمام الله.

وأنت أيضا يا أخ باذل لا يكفى تدين القدرة هذا وحده ليكون تديناً صحيحاً، فإن التدين ليس مجرد حرفة وصناعة وممارسة أعمال شاقة.

فما هو التدين الصحيح اذاً؟

إن التدين الصحيح هو أن تسلم أولاً: لا العواطف أو العقل أو الحواس أو القدرة، بل القلب نفسه، وهذا القلب ينبغى لا أن يسلم للدين أو الأمور الدينية، بل يسلم لصاحب الدين نفسه: ربنا يسوع المسيح، ولهذا ينادينا إلهنا قائلاً “يا ابني اعطني قلبك” “وفوق كل تحفظ أحفظ قلبك”.

إن هؤلاء الإخوة الأربعة يحومون حول الدين ولكنهم إذ قد اقتصروا من التدين على هذه الأمور فان تدينهم ليس كاملاً، وقد سبق مخلصنا فعلمنا قائلاً “ما أضيق الباب وأكرب الطريق المؤدي الى الحياة الأبدية  وقليلون هم الذين يجدونه”  فكأن جماعة المتدينين على اختلاف أنواعهم المتقدمة: قد وجدوا الباب الضيق، غير أن عدونا إبليس، محاولاً أن  يخيب الكثيرين من نعمة الله يعمل أن ينشغل البعض بالكلام عن الطريق، والبعض بالكلام عن الباب والبعض بالتأمل في الباب، حتى تنتهى حياتهم خارج الباب، أما المتدين الحقيقي فهو لا يهتم بالطريق أو الباب فور اهتمامه بالدخول من الباب إلى الأمجاد السمانية  كما يمكن أن يقال أن مثل هؤلاء المتدينين شكلاً، مثل جماعة جائعة تسكن مدينة الجوع الشديد، وإذ أراد الملك أن يشبعهم دعاهم الى وليمة عظيمة مملوءة من الأطعمة الدسمة، فحين ذهبوا: انشغل بعض الجماعة كل الانشغال في العناية بالمظاهر اللائقة بالوليمة: من ملابس خاصة وجلسة معينة، و نظرات حريصة وما إلى ذلك  ولم يفعلوا سوى هذا، وانشغلت جماعة أخرى بالتفكير الفني في أنواع الأطعمة المقدمة وكمية الفيتامينات والبروتينات والنشويات فيها  ولم يفعلوا سوى هذا، وجماعة ثالثة صبت اهتمامها في مراقبة نظام الأكل: من وضع الأطباق على المائدة ونظام وضع الملاعق والسكاكين وأماكن الماء والملح  ولم يفعلوا سوى هذا  وجماعة رابعة بذلت كل جهدها في تنظيف المائدة وحمل الأطباق الفارغة وملء الكوبات للمياه  ولم يفعلوا سوى هذا، فمن منهم استفاد بالوليمة؟.. ولا واحد.. فلن يستفيد، منها إلا من يتناول من أطعمتها لإشباع جوعه الشديد، فإذا ما انتهى من هذا الأمر الأهم فله أن يلتفت الى ما عدا ذلك. وهكذا الذين يحومون حول الدين وهم لا يستفيدون روحيا وقلبياً من عشرة المسيح ومحبته التي هي غاية الدين. ولنلاحظ أن الشيطان يهمه أن تنام ضمائر هؤلاء القوم على ما اكتفوا به من أنواع التدين، فيقنع الواحد أنه مادام “رجلاً طيباً” فهذا غاية الدين، ويقنع الآخر بأنه ما دام لاهوتياً بارعاً، فهذا جوهر الدين، ويرضى الثالث بما وصل اليه من كونه “رجل طقسي ضليع” كما يقنع الرابع بأنه “رجل مضحى لأجل الدين”  وماذا يطلب الدين منه أكثر من هذا، وفي هذا يتم قول الكتاب المقدس “توجد طريق تظهر للانسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت” كما أن هذا يوضح خطورة هذه الأنواع الغاشة من التدين. فقد تنصح خاطئاً فيسمع منك ويتوب فتحيا بنعمة المسيح نفسه، ولكنك إذا نصحت أحد هؤلاء نظر إليك متعجباً واستنكر منك النصيحة حاسباً أنك جاهل بما هو عليه من آداب أو علوم أو طقوس أو بذل، ما لم تتدخل نعمة الله فتفتح عين الإنسان الروحية ليرى طريقه واضحاً جلياً.

ما الفائدة يا إخوتي من الإنسان الحسن العواطف الدينية  الغزير المعلومات اللاهوتية – العريق في ممارسة الطقوس الكنسية – الباذل كل ما في جهده للدين  ما لم يتصل بينبوع الدين ويتقن محبته والركوع تحت قدميه خضوعاً وتعبداً.

ما الفائدة من الترام إذا كان حسن المنظر جميل المقاعد حديث التصميم إذا لم يتصل بينبوع الكهرباء: إنه لن يسير خطوة واحدة.

وما القوة في الأسد إذا كان مهيب المنظر غزير الشعر حاد المخالب إذا كان ميتاً ليست فيه الحياة. إنه لن يساوى نملة واحدة.

“إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن”.

“وإن كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً”.

“وإن أطعمت كل أموالي وإن أسلمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئاً”

هكذا قال الكتاب المقدس:

فبدلا من أن تحزن لأنك لم تصل في تدينك البسيط إلى هذا الهادي، أو ذاك العليم، أوهذا الطقسي، أو ذلكم الباذل، افرح بالكلمتين الصادرتين من قلبك المشتاق واللتين ترددهما لإلهك في صلاتك، وبالصلة التي تربطك به، وبالبساطة الجميلة التي تسود حياتك في المسيح، ابتهح أنك تلمس معونة الله لك في جهادك ضد الشهوات الشبابية، وانك تجد الفرصة على الدوام للتناول بتفهم من الأسرار الإلهية ، ولحسن التأمل الروحي في المواضيع التي تفيد حياة نفسك، واعلم أن هؤلاء الأربعة بهذا القدر فقط من تدينهم  لن يستطيعوا الانتصار على عادة رديئة، أو احتمال تجربة شديدة، أو التعمق في الأسرار الروحية التي تغذي الروح وتنعشها.

لازلت أحب تلك القطعة اللطيفة التي سمعتها منذ زمان بعيد، «وهي تشبه الى حد كبير قصة روسية قديمة» وتتحدث عن رجل راع مسيحي بسيط يسكن وحده في جزيرة ومعه ثلاث معزات يقودها بعصاه كل يوم للمراعي، ثم يرجع بها لتنام في حجرته، وكان يصلي قبل نومه  من قلب مخلص محب لإلهه مشتاق للحديث معه فيقول “عصاتي ومعزاتي یا رب اغفر لي خطاياتي” فسمع به كاهن قريب منه وأعجب ببساطته، فركب سفينة وذهب اليه واستفسر عن حاله، فقبله الرجل كملاك من الله مرحباً به، وأخبره أنه يشكر الله على كل بركاته وأنه لا يعوزه شيء  ولما علم منه كلمات صلاته، ابتسم الأب الكاهن لبساطة الرجل وابتدأ يلقنه الصلاة الربانية، ولكبر سنه استغرق هذا الأمر وقتاً ليس بقليل ولما اطمأن الكاهن إلى أن الرجل قد حفظ الصلاة، ركب السفينة عند الغروب راجعاً إلى بلدته ولكن الراعي بعد قليل نسى إحدى مقاطع الصلاة الربانية، وحاول عبثاً أن يتذكرها فببساطة جميلة تليق بالمؤمنين أسرع وجرى نحو البحر، بل تقدم وجرى على المياه نفسها مسرعاً نحو السفينة، أما الأب الكاهن  فلقد لاحظ في ظلام الليل نوراً آتياً من الجزيرة ومسرعاً اليه ، فأمر بإيقاف السفينة، وظل هذا النور يتقدم نحو السفينة حتى تبينه الكاهن فإذا به وجه الراعي يفيض نوراً، وهو يجرى على المياه ويصيح “يا أبانا  يا أبانا  لقد نسيت إحدى القطع الربانية” فأنذهل الأب الكاهن من هذا المنظر  و بعد أن أخبره بما أراد طمأنه قائلاً “إطمئن يا ابني، وإذا نسيت الصلاة الربانية فاستمر في صلاتك الحلوة: “عصاتي ومعزاتي ياى رب اغفر لي خطاياتى” فرجع الراعي فرحاً. نوراً حلواً ماشياً على المياه نحو الجزيرة، ومضى الكاهن الى بلدته متعجباً في نفسه مما كان.

أعلمت إذا يا أخى أن التدين الصحيح ليس تعجيزاً و تعسيراً، ولا يحتاج الى مجهودات شاقة كثيرة لكى يصل اليها الإنسان، بل ماذا يقول الكتاب المقدس “الكلمة قريبة منك في قلبك وفي فمك  أي كلمة الإيمان التي نكرز بها”.

فلنسر جميعاً على بركة الله في طريق التدين الصحيح ، في بساطة ويسر، فقد يدخل الرجل البسيط أمجاد السماء قبل العالم اللاهوتي، وقد تتمتع مريم الجالسة في بساطة تحت أقدام المسيح ببركات أكثر جدأ مما تناله مرثا التي اهتمت واضطربت في أمور كثيرة بينما الحاجة الى واحد  و هو المسيح.

على أن لا نفهم من هذا أن أمور التدين المذكورة هذه أمور يمكن إهمالها  بل ينبغي أن ندرك أن الأساس الصالح في حياتنا الروحية هو الذي يجب البدء به، و بعد ذلك فحسن جداً أن يتزين الإنسان بالعلم الديني والطقوس المنعشة للروح والتضحية دائماً، لأنه حينئذ يفعل هذا بفهم وحكمة وعن أساس صالح متين.

لا يضطرب قلبك  إذا  ولا تجزع، ولا يغرك عدوك ابليس بأنواع زائفة من التدين لكي تنشغل فتحفر لنفسك أباراً مشققة لا تضبط ماء، بل اجتهد أن تسير في طريق الرب باستقامة – محتفظاً بالحياة الأمينة معه، لكي إذا عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت، وإن عشنا وإن متنا فللرب نحن.

 

شرح انجيل القداس – القمص أنطونيوس فكري[6]

آية (١٥): “فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: كَيْفَ هذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ، وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟”

هذه أول نقطة تعثروا فيها في المسيح.. ما هو مصدر تعليمه. الكتب= الأسفار المقدسة. وهو لم يتعلم= لا تعني أن المسيح كان جاهلًا فهو كتب على الأرض (يو٨: ٦- ٨) وناقش الشيوخ في الهيكل وعمره ١٢سنة (لو٣) ولكن المقصود أنه لم يتتلمذ على يد أحد الربيين. وقوة تعاليم المسيح التي سببت دهشة الجموع راجعة للمصدر الإلهي الذي فيه فهو واضع الناموس.

آية (١٦): “أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي”

معروف عند اليهود أن أي ناموسي لا تقبل شهادته إلاّ إذا أعلن عن الشخص الذي تلقى عنه المعلومة، ويجب أن يكون رابي أي معلم رسمي معترف به لذلك يقول يسوع هنا: تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني أي الآب. إذًا أيها اليهود إبحثوا عن الحق في تعليمي، فتعليمي يعلن أن الله مصدره، إذًا فالله هو الذي أرسلني. ولا تبحثوا عن مصدر لتعليمي من مصادركم (يو٣: ١١، ١٤: ١٠، ١٢: ٤٩). ومع أن المسيح والآب واحد إلاّ أن السيد المسيح قال إن التعليم هو للآب “الله كلمنا في ابنه” (عب١: ١) فلو قال أنه هو مصدر التعليم لرفضوه، فهم قطعًا يجهلوا علاقة المسيح بالآب.

آية (١٧): “إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ، هَلْ هُوَ مِنَ اللهِ، أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي.”

الرب يطرح أمام سامعيه الوسيلة للتحقق من المصدر الإلهي لتعليمه وهذه الوسيلة هي أن من يريد أن يصنع مشيئة الله سيجد نفسه في توافق مع كلام المسيح. وبالتالي نستنتج أن الإنسان الذي يؤمن بالمسيح وأنه أتى من الآب يكون هو الإنسان الذي شاء ويشاء أن يعمل ويعرف مشيئة الآب. الذي يتعلم عند الربيين عنده مجموعة من المعلومات، ولكن السيد هنا يتكلم عن المعرفة الاختبارية لمن ينفذ مشيئة الآب (مت٧: ٢٤- ٢٧). إن شاء أحد= مَنْ يريد أن يطيع الله، أو مَنْ يتخذ قرارًا في حياته أن يطيع وصايا الله ويلتزم بالناموس ليرضي الله. يأخذ نورًا من الله ليعرف نوع التعليم وأنه من الله، وليس من يبحث بالطرق العلمية. إذًا المعرفة متوقفة على خضوع القلب لله.

آية (١٨): “مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ.”

من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه = هذا مبدأ عام يطبقه المسيح على نفسه. ومثل هذا الإنسان الذي يتكلم من نفسه بدون دعوة إلهية، يكون طالِبًا مجد نفسه فيدعي ما ليس فيه. أما أنا فأطلب مجد الآب. المسيح هنا يثبت ارتباطه بالآب، بأنه لا يطلب شيئًا لنفسه بل مجد الله الآب ولأنه أخرج نفسه من طلب الثمن فتعليمه يكون إلهيًا تمامًا. وبالنسبة لأي خادم يبحث عن مجده الشخصي وثمنًا لخدمته يكون كمن يبتز مجد الله لحساب نفسه. وكلام المسيح هنا هكذا لأنه أخلي ذاته آخذاً صورة عبد (في٢: ٧؛ يو٥: ٤١) بل هو غسل أرجل تلاميذه. لذلك مجّده الآب (يو١٢: ٢٨).

ليس فيه ظلم = ليس فيه بطلان أو كذب.

آية (١٩): “أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ! لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي؟”

ألَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ = يبدأ المسيح من هنا الرد على اتهامهم بأنه كسر الناموس إذ قام بشفاء مريض بركة بيت حسدا (ص ٥) يوم سبت. ويقول لهم هنا، بل أنتم من تكسرون ناموس موسى.

وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ = لو كنتم تتبعون وصايا الناموس وتعملون به، لكنتم قد عرفتم أنني من الآب. فالمسيح هنا يهاجم اليهود ويتهمهم بأنهم هم الذين يخالفون الناموس وليس هو، وأنهم لم يتبعوا وصايا الناموس والتي هي مشيئة الآب. ولو اتبعوا الناموس لكانوا قد اكتشفوا مصدر تعليم المسيح الإلهي، وأن تعليمه مطابق لإرادة الآب حسب آية (١٧). ولأنهم لا يتبعون الناموس، لم يعرفوه ولذلك يريدون قتله. وهذا ضد الناموس فلماذا يقتلونه وهو برئ، وهم شهدوا في آية (١٥) أن تعليمه على مستوى فائق.

المسيح هنا يهاجم اليهود ويتهمهم بأنهم يخالفون الناموس فهم يريدون قتله، وهذا ضد الناموس فلماذا يقتلونه وهو بريء، وهم شهدوا في آية (١٥) أن تعليمه على مستوى فائق. والمسيح يهاجمهم لأنهم لم يكتشفوا مصدر تعليمه الإلهي وشهادته للآب وبالتالي فحسب آية (١٧) فهم لا يريدوا أن يصنعوا مشيئة الآب، فلو أرادوا لعرفوه وعرفوا مصدره الإلهي.

الآيات (٢٠- ٢٤): “أَجَابَ الْجَمْعُ وَقَالوُا: «بِكَ شَيْطَانٌ. مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَقْتُلَكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «عَمَلًا وَاحِدًا عَمِلْتُ فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعًا. لِهذَا أَعْطَاكُمْ مُوسَى الْخِتَانَ، لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ مُوسَى، بَلْ مِنَ الآبَاءِ. فَفِي السَّبْتِ تَخْتِنُونَ الإِنْسَانَ. فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الْخِتَانَ فِي السَّبْتِ، لِئَلاَّ يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى، أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأَنِّي شَفَيْتُ إِنْسَانًا كُلَّهُ فِي السَّبْتِ؟ لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلًا».”

أجاب الجمع = أي ليس الرؤساء. وهؤلاء لا يعرفوا نوايا الرؤساء. هؤلاء إنعمت بصيرتهم فظنوا أن المسيح به شيطان. هم غالبًا لم يدروا أن الفريسيين يخططون لقتله، فقالوا به شيطان إذ قال أنهم يريدون قتله. وقولهم به شيطان يشير لأنه مجنون. ولكن كيف يقولون هذا، فهم رأوه قد شفى مريض بيت حسدا. وثاني نقطة تعثروا فيها في المسيح أنه يشفي في السبت = عملًا واحدًا عملت= شفاء المريض يوم السبت (إصحاح ٥).

ليس أنه من موسى = لأنهم يقولون له أنت كاسر لناموس موسى، والسيد يقول بل ناموس (أو وصية) الختان هو أسبق من موسى فهو من أيام إبراهيم = الآباء = الله طلب الختان من إبراهيم ثم قننه موسى. فكيف لم يفهموا أنها بركة من بركات الله ويسيئوا ويعوجوا الفهم. والمسيح ضرب لهم مثلًا فالختان هو عمل وهم يكسرون السبت ليعملوا هذا العمل، يكسرون حرفية الناموس لأنهم يطبقون ناموسًا يرونه الأفضل وهو الختان الذي به يصيرون من شعب الله، فلماذا لا يكسر المسيح حرفية ناموس السبت لأجل ناموس أفضل وهو الإبراء التام. وهذا الناموس الأفضل هو ناموس الرحمة. لو كانوا يحكمون حكمًا عادلًا لفهموا أن المسيح قد أكرم السبت

عَمَلًا وَاحِدًا عَمِلْتُ فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعًا. لِهذَا أَعْطَاكُمْ مُوسَى الْخِتَانَ = كلام السيد هنا يعني أن الله أعطى إبراهيم ناموس الختان ليصبح المختون من شعب الله وابنًا له. وجاء موسى ليؤكد المعنى في الناموس. فهذه إرادة الله عودة البشر إليه وشفاءهم من أثار الخطية التي فصلتهم عنه فتألموا ومرضوا وماتوا، إرادة الله هي شفاء البشر شفاءً كاملًا نفسًا وجسدًا وروحًا “أنا هو الرب شافيك” (خر١٥: ٢٦). وما عملته مع هذا المريض هو ما يريده الله لكل إنسان أي الشفاء من الطبيعة الساقطة المتألمة.

الآيات (٢٥- ٢٧): “فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ؟ وَهَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جِهَارًا وَلاَ يَقُولُونَ لَهُ شَيْئًا! أَلَعَلَّ الرُّؤَسَاءَ عَرَفُوا يَقِينًا أَنَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ حَقًّا؟ وَلكِنَّ هذَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ».”

من أهل أورشليم = أي ساكنين في أورشليم وليسوا حجاجًا. يطلبون أن يقتلوه = هؤلاء يعلمون مؤامرات الفريسيين ضده أما أهل الجليل فلا يعرفون (آية ٢٠). الذي يتكلم هنا هو الشعب العادي وهؤلاء واضح أنهم سمعوا حديث المسيح السابق مع الفريسيين فانحازوا للمسيح ولكن بقيت لهم مشكلة أنهم توارثوا عن آبائهم أن المسيح إذا أتى لا يكون معروفًا من أين يأتي. ولكنهم هم يعرفون أباه وأخوته. هذه هي النقطة الثالثة التي أعثرتهم في المسيح، فهو من الجليل وهم يحتقرون الجليليون. وكتب اليهود تقول أنه حين يأتي لا يعرف أحد من أين أتى ونحن نعرف أباه وأمه (راجع (ملا ٣: ١). والمسيح عرف ما في قلوبهم ورد عليهم بالآتي.

غالبًا فكرة أن المسيح إذا أتى لا يكون معروفًا من أين أتى، من انقسام الربيين في تحديد مكان ميلاد المسيح. فهناك من قال أن المسيح سيولد في بيت لحم وإستند على قول ميخا النبي “أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي ٱلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ ٱلْأَزَلِ” (مي٥: ٢). والمسيح وُلِد فعلًا في بيت لحم.

وهناك من قالوا لا بل يولد في برج القطيع. وهؤلاء استندوا على نبوة أخرى لميخا النبي أيضًا “وَأَنْتَ يَا بُرْجَ ٱلْقَطِيعِ، أَكَمَةَ بِنْتِ صِهْيَوْنَ إِلَيْكِ يَأْتِي. وَيَجِيءُ ٱلْحُكْمُ ٱلْأَوَّلُ مُلْكُ بِنْتِ أُورُشَلِيمَ” (مي٤: ٨). وبرج القطيع هذه كانت حيث يوجد الرعاة المُتبدين (لو٢: ٨- ١٤) الذين يرعون الخراف المختومة «يكشف عليها الكهنة ويختمونها دليلا على أنها بلا عيب رمزا للمسيح الكامل الذي هو بلا خطية» (يو٦: ٢٧). وهذه الخراف المختومة هي التي سيقدم منها الذبائح في الهيكل. والملائكة ظهروا لهؤلاء الرعاة الذين يرعون الخراف التي ترمز للمسيح، ليدلونهم عن المسيح حمل الله المرموز له بهذه الخراف التي يرعونها.

ولكن فكر الربيين كان حق فهل كان يتصور أحد أن المسيح الذي يظهر بغتة (ملا ٣: ١) يكون آتيًا من السماء بل هو يهوه بنفسه.

 

 

 

المراجع

 

[1]  مرجع هذا الفصل (دون التعليق عليه): كتاب زمن الخمسين المقدسة –  صفحات من ٧٥: ١١٨ – الراهب القس أثناسيوس المقاري.

[2]  كتاب الرسائل الفصحية للقديس أثناسيوس الكبير – الرسالة الرابعة عشر (عيد القيامة في 16 برمودة سنة 58 ش. – 11 أبريل سنة 342 م.) – صفحة 64 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[3]  شرح انجيل يوحنا للقديس كيرلس الاسكندري – المجلد الاول ص 466 – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد وآخرون.

[4]  كتاب تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الأسكندري – صفحة ٤٦٥ – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[5]  مجلة مدارس الأحد – عدد أبريل لسنة ١٩٥٤.

[6]  تفسير انجيل يوحنا – الاصحاح السابع – القمص انطونيوس فكري.