قراءات يوم الجمعـة من الأسبـوع السابع

 

“هكَذَا الْمَسِيحُ أَيْضًا، بَعْدَمَا قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ، سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً بِلاَ خَطِيَّةٍ لِلْخَلاَصِ لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ.” (عب ٩: ٢٨).

[وأعطنا كمالنا المسيحي يرضيك أمامك لأن ملكوتك نقي ومملوء مجـداً أيها المسيح إلهنا هـذا الـذي نرجـو أن نناله كلنا] (القدّاس الغريغوري – صلاة وضع يد بعد التناول).

[كما يقال للخاطئ أنت تـراب وإلى التـراب تعـود هكذا يقال للقديس أنت سماء وإلى السماء تعـود] (القديس جيروم)[1]

شـواهــد القــراءات

صلاة باكر: ( النبوات) (تك٤٩: ٣٣- ٥٠: ١- ٢٦)، (ام١١: ٢٧- ٣١ – ١٢: ١- ٢٢)، (اش٦٦: ١٠- ٢٤)، (اي٤٢: ٧- ١٧)،

المزمور (مز٩٧: ٥-٦)، الانجيل (لـو١٧: ٢٠- ٣٦)،

القداس  (٢تي٣: ١- ١٧ )، (٢تي ٤: ١- ٥)، (يع٥: ٧- ١٦)، (اع١٥: ١- ١٨)، (مز٩٧: ٨)، (لو١٣: ٣١- ٣٥).

شـرح القــراءات

تختم اليـوم قـراءات الصوم الكبير بكمال عمل الملك وقـرب مجيئه الثاني ودينونته لغير المؤمنين والرافضين الخلاص، فاليوم هـو يـوم المكافأة العظيمة للأبرار ويـوم الفـرح لإفتقاد الله لهم وفي نفس الوقت هـو يـوم دينونة الأشرار وقضاء الله العادل لهم.

لـذا تبدأ القـراءات بسفر التكويـن ونبـوءة يـوسف عن إفتقاد الله لشعبه.

“وسيفتقدكم الله افتقاداً ويصعدكم من هـذه الأرض إلى الأرض التي حلف الله لآبائكم ابراهيم واسحـق ويعقـوب”.

وفي أمثال سليمان يوضّح أن الخلاص يحتاج لجهاد الإنسان ليحفظ مكانه ومكانته في المسيح.”إذا كان البار بالجهد يخلص فالخاطئ والمنافق أين يظهران”.

وفي سفر أشعياء يبشّر المؤمنين بفرح الخلاص وكمال خلاصه ويحذّر الأشرار من الدينونة العتيدة.”افرحوا مع أورشليم وعيدوا فيها، لأنه هكذا قال الـرب هأنذا أدير إليها السلام كالنهر ومجد الأمم كالوادي الطافح، لأنه هوذا الرب يأتي كنار ومركباته كعاصفة لينتقم بغضب ورجز ولهيب نار لأن الرب بالنار يدين الأرض كلها”.

وفي سفر أيـوب كمال تـوبة أيـوب وغفـرانه لأصحابه وتعـويضات الله المضاعفـة له.”ورفع الرب أيوب جداً حين صلي لأجل أصحابه الثلاثة وصفح عن اسائتهم وضاعـف الرب لأيوب ضعف ما كان له قبلاً، وبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أوائله”.

وفي مزمـور باكـر تتهلّل الأرض كلّها بالخلاص المزمع أن يكون.”هللـوا للـرب يا كل الأرض سبحـوا وهللـوا ورتلـوا”.

وفي إنجيـل باكـر يوبّخ الـرب الفريسيين لترقبّهم ملكوت الله بينما ابن الانسان في وسطهم ويحذّرهم بأن غياب التوبة تجعل المصير مظلم مثل أيام نـوح وقت الطوفان وأيام لوط في هلاك سدوم وعمورة.”ولما سأله الفـريسيون متى يأتي ملكوت الله أجابهم وقال لا يأتي ملكوت الله بترقب، فهوذا ملكوت الله داخلكم، فإنه كما أن البرق يظهر من السماء ويضئ تحت السماء كذلك يكـون ابـن الانسـان في يومـه، أذكـروا إمـرأة لـوط من يطلب خـلاص نفسـه يهلكها ومن يهلكها يحييها”.

ويحـذّر البـولس من شكلية الحياة المسيحية ودينونتها العتيدة.”إعلـم هـذا أنه ستأتي في الأيام الأخيرة أزمنة شريرة (صعبة) لأن الناس يكونـون محبين لأنفسهم محبين للمال، محبين للـذات دون محبة الله، لهم صورة التقـوى لكنهم ينكرون قوتها، أنا أشهد أمام الله والـرب يسوع المسيح الـذي سيدين الأحيـاء والأمـوات عنـد ظهـوره وملكوته”.

ويؤكّد الكاثوليكـون على مجئ الرب وأهمّية أن ننتظر مجيئه وقلوبنا ثابته فيه ولا تحمل أنين من أحد ونتحمل المشقّات بصبر.”فتأنوا أنتم أيضاً وثبتوا قلوبكم فإن مجئ الـرب قـد اقتـرب لا يئن بعضكم من بعض يا اخوتي لئلا تدانـوا هـوذا الديان واقـف على الأبـواب”.

ويتكلّم الإبركسيس عـن إفتقاد الله للأمم وكمال إعلان الخلاص لكل الشعـوب وهـو في تدبير الله منذ الأزل.”قـد تكلم سمعان كيف افتقد الله الأمم أولاً ليتخذ منهم شعباً لإسمه، سأرجع وأقيم خيمة داود الساقطة، حتى تطلب الـرب بقية الناس وجميع الأمم الذين دعي اسمي عليهم يقـول الـرب الصانع هـذا ومعلـوم عند الـرب منذ الأزل جميع أعماله”.

ويعلن مزمـور القـدّاس عـن الفـرح العظيم بمجئ الـرب وعن دينونة الـرب للمسكونة بالعـدل والإستقامة.”الجبال تبتهج أمام وجه الـرب لأنه أتي ليدين الأرض يدين المسكونة بالعـدل والشعوب بالإستقامة”.

ويختم إنجيـل القـدّاس بكمال العمل الإلهي للشفاء والخلاص وكمال رفض الأمّة اليهودية وكمال دينونة الله.”هأنذا أخـرج شياطيـن وأتـم الشفاء اليـوم وغـداً وفي اليـوم الثالث أكمـل، كم مرة أردت أن أجمع بنيك مثل الطائر (يجمع فراخه) في عشه تحت جناحيه ولم تريدوا هوذا بيتكم يترك لكم خراباً”.

ملخّص القــراءات

سفـر التكويـن نبـوءة يـوسف عـن إفتقـاد الله لشعبه
سفر الأمثال جهاد البار لأجل خلاصه
سفر إشعياء كمال فـرح الأبرار وكمال دينونة الأشرار
سفر أيـوب كمال غفران أيوب لأصحابه وكمال تعويضات الله له
مزمور باكـر كل الأرض تتهلّل للخلاص
إنجيل باكر مجئ ابن الانسان مثل البرق كأيام نوح وسدوم وعمورة
البـولس الدينونة العتيدة على تزايد الشر وزيف العبادة والحياة
الكاثوليكـون الأنين من الإخوة يمكن أن يعرّضنا للدينونة
الإبركسيس كمال إعلان الخلاص للأمم وإفتقاد الله لهم
مزمور القدّاس دينونة المسكونة والشعوب بالعدل والإستقامة
إنجيل القدّاس كمال الشفاء الإلهي والخلاص بموت المسيح وقيامته ورفض الأمّة اليهودية

 

الكنيسة في قــراءات اليــوم

سفـر الأمثـال جهاد الأبـرار
إشعياء- إنجيل باكر- البولس- الكاثوليكون مجئ الـرب
البـولس التقليـد والتسليم الـرسولي
الكاثوليكـون سر الكهنوت وسر مسحة المرضي
الإبركسيس مجمع أورشليم

 

أفكـار مقتــرحـة للعظـات

(١) كمالات الله فينا

سفر التكويـن

وسفر أيـوب

كمال الغفران: يوسـف مـع إخوتـه.
وأيوب مع أصحابه.
سفر إشعياء كمال السلام والمجد: هأنذا أدير إليها السلام كالنهر.
سفر أيـوب كمال التعويضات: وضاعف الـرب لأيـوب ضعف ما كان له.
الإبركسيس كمال إفتقاد الأمم: تطلب الرب بقية الناس وجميع الأمم.
إنجيل القدّاس كمال الشفاء الإلهي والخلاص بالصليب والقيامة.

 

(٢) لماذا يديـن الله البشر

سفر الأمثال اللسان الكاذب وشهادة الزُّور: كراهة الـرب شفتا كذب
إنجيل باكـر محبّة الـذات والأنا: من يطلب خلاص نفسه يهلكها
البـولس صورة التقـوي : محبين للمال مفتخـرين متكبريـن
الكاثوليكون الأنين من الآخـريـن
إنجيل القدّاس رفض الخلاص

 

عظات آبائية

مجئ المسيح للشفاء والخلاص – عند الأنبا أنطونيوس الكبير[2]

معرفة النَّفس ومعرفة الله:

الإنسان العاقل الذي أعد نفسه لكي يتحرر (يخلص) بظهور ربنا يسوع يعرف نفسه في جوهره العقلي، لأن الذي يعرف نفسه يعرف تدابير الخالق وكل ما يعمله وسط خلائقه.

يا أعزائي المحبوبين في الرب (أنتم) أعضاؤنا والورثة مع القديسين، نتوسل (لأجلكم) باسم يسوع، أن يعطيكم الله روح التمييز، لكي تدركوا وتعرفوا عظم المحبة التي في قلبي من نحوكم، وتعرفوا أنها ليست محبة جسدية بل روحية الهية، لأنه لو أن الأمر بخصوص اسمائكم الجسدية لما كانت هناك حاجة لأن أكتب اليكم بالمرة لأنها (هذه الأسماء) مؤقتة، لكن إذا عرف انسان أسمه الحقيقي فسوف يري (يعرف) أيضاً اسم الحق، ولهذا السبب أيضاً عندما كان يعقوب يصارع طوال الليل مع الملاك كان لا يزال اسمه يعقوب، لكن عندما أشرق النهار دعي اسمه اسرائيل أي “العقل الذي يري الله” (تك٣٢: ٢٤- ٣٠).

افتقاد الله لخلائقه دائماً:

وأعتقد أنكم لا تجهلون أن أعداء الفضيلة يتآمرون دائماً ضد الحق، لهذا السبب فقد افتقد الله خلائقه ليس مرة واحدة فقط، بل من البدء كان هناك البعض مستعدين لأن يأتوا إلى خالقهم بواسطة ناموس عهده المغروس فيهم، هذا الناموس (الداخلي) الذي علمهم أن يعبدوا خالقهم باستقامة، ولكن بسبب انتشار الضعف وثقل الجسد والإهتمامات الشِرّيّرة جف وتوقف الناموس المغروس (في البشر) وضعفت حواس النَّفس، حتي أن البشر أصبحوا غير قادرين أن يجدوا أنفسهم على حقيقتها بحسب خلقتهم، أي كجوهر (طبيعة) عديم الموت لا يتحلل مع الجسد، ولذلك فهذا الجوهر (النَّفس) لم يتمكن من التحرر (الخلاص) بواسطة بره الذاتي، ولهذا السبب سكن الله معهم (البشر) حسب صلاحه بواسطة الناموس المكتوب، لكي يعلمهم (الناموس) كيف يعبدون الآب كما يجب، الله واحد، أي أنه جوهر واحد عاقل، وأنتم تفهمون هذا، يا أحبائي، أنه في كل مكان حيث لا يوجد توافق وانسجام، يحارب البشر بعضهم بعضاً ويتقاضون (في المحاكم) بعضهم البعض.

مجيء المسيح للشفاء والخلاص:

وقد رأي الخالق أن جرحهم يعظم وأنه يحتاج لرعاية طبيب – ويسعَ نفسه- هو خالقهم وهو نفسه الذي يشفيهم، ولذلك أرسل أمام وجهه السابقين، ونحن لا نخاف أن نقول إن موسى واضع الناموس هو أحد سابقيه، وإن نفس الروح الذي كان مع موسى كان يعمل أيضاً في جماعة القديسين (جوقة الأنبياء) وأنهم جميعاً صلوا لإبن الله الوحيد، ويوحنا أيضاً هو أحد سابقيه ولهذا السبب فإن الناموس والأنبياء كانوا إلى مجيء يوحنا “وملكوت الله يُغصب والغاضبون يأخذونه بالقوة” (مت١١: ١٢- ١٣).

واذ كانوا لابسين للروح رأوا إنه ولا واحد من الخليقة قادر أن يشفي هذا الجرح العظيم، وإنما فقط صلاح ونعمة الله، أي أبنه الوحيد الذي أرسله ليكون مخلصاً للعالم كله، لأنه هو الطبيب العظيم الذي يستطيع أن يشفي الجرح العظيم، وطلبوا إلى الله، وهو في صلاحه ونعمته، وهو آب كل الخليقة، لم يضن بابنه لأجل خلاصنا بل سلمه لأجلنا جميعاً ولأجل خطايانا (رو٨: ٣٢).

ووضع نفسه وبجلداته شفينا (راجع فيلبي٢: ٨ ؛ إشعياء٥٣: ٥). وبقوة كلمته جمعنا من كل الشعوب ومن أقصاء الأرض إلى أقصائها ورفع قلوبنا بعيداً عن الأرض، وعلمنا أننا أعضاء بعضنا البعض.

لنتحرر نحن ايضاً بمجيئه:

أتوسل اليكم يا أعزائي المحبوبين في الرب، افهموا أن هذا الكتاب المقدس هو وصية الله، وأنه لأمر عظيم جداً أن نفهم الصورة التي أخذها يسوع لأجلنا، لأنه صار في كل شيء مثلنا ما عدا الخطية (عب٤: ١٥).

والآن إنه من الصواب أن نتحرر (نخلص) نحن أيضاً من كل شيء بواسطة مجيئه، حتي أنه بجهله يجعلنا حكماء وبفقره يجعلنا أغنياء، وبضعفه يقوينا، ويهب القيامة لنا كلنا، مبيداً ذاك الذي له سلطان الموت (عب٢: ١٤).

وحينئذ نكف عن أن نطلب يسوع لأجل احتياجاتنا الجسدية، إن مجيء يسوع يساعدنا علي أن نفعل كل صلاح، إلى أن نبيد تماماً كل رذائلنا، وعند ذلك يقول يسوع لنا لا أدعوكم بعد عبيداً بل إخوة (راجع يوحنا ١٥: ١٥).وعندما وصل الرسل إلى قبول روح التبني علمهم الروح القدس أن يعبدوا الآب كما يجب.

الخلاص والدينونة بمجيئ يسوع:

أما بالنسبة لي أنا الأسير الفقير ليسوع، فإن الوقت الذي نعيشه قد تسبب في فرح ونوح وبكاء، لأن الكثير من جنسنا (الرهبان) قد لبسوا الثوب الرهباني ولكنهم أنكروا قوته، أما الذين أعدوا أنفسهم للتحرر (الخلاص) بمجيئ يسوع، فهؤلاء أنا أفرح بهم.

أما الذين يتاجرون باسم يسوع بينما هم يعملون مشيئة قلوبهم وأجسادهم، فهؤلاء أنا أنوح عليهم، أما الذين نظروا إليّ طول الوقت وخارت قلوبهم وخلعوا ثوب الرهبنة وصاروا وحوشاً فأنا أبكي لأجلهم، لذلك اعلموا أن مجيء يسوع يصير دينونة عظيمة لمثل هؤلاء.

لكن هل تعرفون نفوسكم يا أحبائي في الرب، لكي تعرفوا هذا أيضاً هذا الوقت، وتستعدوا بتقديم نفوسكم ذبيحة مقبولة لدي الله، وبكل يقين يا أحبائي في الرب -أنا أكتب لكم كأناس حكماء قادرين أن يعرفوا أنفسهم وأنتم تعرفون أن من يعرف نفسه يعرف الله وأن من يعرف الله يعرف أيضاً تدابيره التي يصنعها من أجل خلائقه.

لتكن هذه الكلمة ظاهرة لكم، إنه لا يوجد عندي حب جسدي من ناحيتكم، وإنما محبة روحية الهية، لأن الله يتمجد في جميع قديسيه (مز٨٨: ٨ س) هيئوا نفوسكم طالما أن لكم من يتوسلون عنكم لله لأجل خلاصكم، لكيما يسكب الله في قلوبكم النار التي جاء يسوع لكي يلقيها على الأرض (لو١٢: ٤٩). لكي تستطيعوا أن تدربوا قلوبكم وحواسكم وتعرفوا كيف تميزوا بين الخير والشر، واليمين من الشمال، والحقيقة من الوهم، إن يسوع عرف أن الشيطان يستمد قوته من الأشياء المادية الخاصة بهذا العالم، ولذلك دعي تلاميذه وقال لهم “لا تكنزوا لأنفسكم كنوزاً على الأرض”، “ولا تهتموا للغد” (مت٦: ١٩، ٣٤).

وحقاً يا أحبائي إنكم تعرفون أنه عندما تهب ريح معتدلة يفتخر ربان السَّفينة (عندما يكمل الرحلة)، لكنه في وقت الرياح العاصفة المضادة يظهر كل ربان ماهر. إعرفوا إذاً من أي نوع هو هذا الوقت الذي نعيش فيه.

أما عن تفاصيل كلمة الحرية فتوجد أمور كثيرة أقولها لكم، لكن اعطوا الفرصة للحكيم فيكون أكثر حكمة (أم ٩:٩). أحييكم من الصغير إلى الكبير في الرب، آمين.

 

الرب يفضح الفريسيين – للقديس كيرلس الأسكندري[3]

(لو ١٣: ٣١- ٣٥) “في ذلكَ اليومِ تقَدَّمَ بَعضُ الفَرِّيسيِّينَ قائلينَ لهُ: “اخرُجْ واذهَبْ مِنْ ههنا، لأنَّ هيرودُسَ يُريدُ أنْ يَقتُلكَ”. فقالَ لهُمُ: “امضوا وقولوا لهذا الثَّعلَبِ: ها أنا أُخرِجُ شَياطينَ، وأشفي اليومَ وغَدًا، وفي اليومِ الثّالِثِ أُكَمَّلُ. بل يَنبَغي أنْ أسيرَ اليومَ وغَدًا وما يَليهِ، لأنَّهُ لا يُمكِنُ أنْ يَهلِكَ نَبيٌّ خارِجًا عن أورُشَليمَ! يا أورُشَليمُ، يا أورُشَليمُ! يا قاتِلَةَ الأنبياءِ وراجِمَةَ المُرسَلينَ إليها، كمْ مَرَّةٍ أرَدتُ أنْ أجمَعَ أولادَكِ كما تجمَعُ الدَّجاجَةُ فِراخَها تحتَ جَناحَيها، ولم تُريدوا! هوذا بَيتُكُمْ يُترَكُ لكُمْ خَرابًا! والحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنَّكُمْ لا ترَوْنَني حتَّى يأتيَ وقتٌ تقولونَ فيهِ: مُبارَكٌ الآتي باسمِ الرَّبِّ!”.

إن جماعة الفريسيين كانوا أشراراً ومصمّمين ومتلهفين إلى الخداع والغش، ويصرّون بأسنانهم على المسيح وتشتعل قلوبهم بنيران الحسد حينما يرون الناس يبدون إعجابهم به، مع أن واجبهم كان بالأولى – بصفتهم قادة الشعب ويرأسون جموع العامة – هو أن يقودوهم إلى الإعتراف بمجد المسيح، لأن هذا كان هو الغرض من سَنّ الشريعة وكرازة الأنبياء القديسين، ولكنهم في شرّهم العظيم لم يتصرفوا هكذا، بل بالعكس فإنهم بكل طريقة، أثاروا سخطه باستمرار، ولذلك قال المسيح لهم: “ويلٌ لكُمْ أيُّها النّاموسيّونَ! لأنَّكُمْ أخَذتُمْ مِفتاحَ المَعرِفَةِ. ما دَخَلتُمْ أنتُمْ، والدّاخِلونَ مَنَعتُموهُمْ” (انظر لو١١: ٥٢). لأنه يمكن للمرء أن يرى أنهم قد سقطوا في حالة الخبث هذه، وفِي وضع مضاد تماماً لمحبة الله، حتى أنهم لم يكونوا يرغبون أن يقيم في أورشليم خوفاً من أن يفيد الناس، سواء بملئهم بالدهشة بسبب معجزاته الإلهية أو بإنارتهم بنور الرؤية الصحيحة لله بواسطة تعليم الحقائق التي هي أعلى من تعاليم الناموس.

هذه هي الأفكار التي تقودنا إليها الدروس الموضوعة أمامنا الآن، إذ يقول النص: “في ذلكَ اليومِ تقَدَّمَ بَعضُ الفَرِّيسيِّينَ قائلينَ لهُ: اخرُجْ واذهَبْ مِنْ ههنا، لأنَّ هيرودُسَ يُريدُ أنْ يَقتُلكَ”.

تعالوا لنثّبت عين الذهن الفاحصة على ما قالوه هنا، لنفحص بتدقيق لكي نرى هل الذين قالوا هذا الكلام هم من بين الذين يحبونه أم هم ضمن من يقاومونه، ولكن كما هو واضح فمن السهل أن ندرك أنهم كانوا يقاومونه بشدة. فمثلاً أقام المسيح المّيت من القبر مستخدماً في ذلك قوة هي قوة الله، لأنه صرخ: “لعازر هلّم خارجاً” (يو١١: ٤٣)، وقال لابن الأرملة: “أيها الشاب لك أقول قم” (لو ٧: ١٤)، أما هم فقد جعلوا المعجزة وقوداً لحسدهم، بل إنهم قالوا حين اجتمعوا معاً: “ماذا نَصنَعُ؟ فإنَّ هذا الإنسانَ يَعمَلُ آياتٍ كثيرَةً. إنْ ترَكناهُ هكذا يؤمِنُ الجميعُ بهِ، فيأتي الرّومانيّونَ ويأخُذونَ مَوْضِعَنا وأُمَّتَنا. فقالَ لهُمْ واحِدٌ مِنهُمْ، وهو قَيافا -الذي كان يخطط لقتله- كانَ رَئيسًا للكهنةِ في تِلكَ السَّنَةِ:”أنتُمْ لستُمْ تعرِفونَ شَيئًا، ولا تُفَكِّرونَ أنَّهُ خَيرٌ لنا أنْ يَموتَ إنسانٌ واحِدٌ عن الشَّعبِ ولا تهلِكَ الأُمَّةُ كُلُّها!” (انظر يو١١: ٤٧- ٥٠).

وهم قاوموه أيضاً بطرق أخرى، أحياناً بمعاملته بإزدراء والإستهزاء بقوته المعجزية، بل والتجاسر على سلطانه الإلهي قائلين: إن كل ما يعمله هو بواسطة بعلزبول، بل وفِي مرّة أخرى سعوا في تسليمه إلى سلطات القيصر، فلكي يتهموه أنه يمنع الإسرائليين من دفع الجزية لقيصر، اقتربوا منه بخبث ومكر قائلين: “أيَجوزُ لنا أنْ نُعطيَ جِزيَةً لقَيصَرَ أم لا؟” (لو٢٠: ٢٢). فهل يمكن إذاً لكل من وضعوا له أنواع الفخاخ هذه، الذين في وقاحتهم وقساوتهم لم يتورّعوا حتى عن القتل، الذين لكونهم بارعين في الشر، هاجموه بعنف شديد القسوة، ومارسوا باجتهاد كل هذه الحيّل لأنهم يكرهونه كراهية مُطلقة، هل يمكن أن نعتبرهم ضمن من أحبوه؟!.

فلماذا إذاً تقدّموا إليه قائلين: “أخرُجْ واذهَبْ مِنْ ههنا، لأنَّ هيرودُسَ يُريدُ أنْ يَقتُلكَ”؟!، وما هو غرضهم من هذا الكلام؟.

إن البشير يخبرنا عن هذا بقوله: “في ذلك اليوم (تلك الساعة) تقدّم إليه”. وما معني هذه اللهجة المدقَّقة؟.. لماذا كان هذا الإتقان (في التحديد)؟.. أو أي يوم (حرفياً ساعة) يقصد أن الفريسيين قالوا فيه هذا الكلام ليسوع؟..

كان يسوع مُنشغلاً في تعليم جموع اليهود، عندما سأله أحدهم إن كان كثيرون هم الذين يخلصون، ولكنه عبر على السؤال كأمر غير مفيد، واتجه إلى ما كان مناسباً أن يخبرهم به إذ أخبرهم عن الطريق الذي ينبغي للناس أن يسيروا فيه ليصيروا ورثة لملكوت السموات، إذ قال: “اجتَهِدوا أنْ تدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّقِ” وأخبرهم أنهم لو رفضوا أن يفعلوا هذا، فإنهم سيرون “إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ وجميعَ الأنبياءِ في ملكوتِ اللهِ، وهُم مَطروحونَ خارِجًا”، وأضاف بعد ذلك قوله: “حيث إنهم كانوا أوَّلينَ، فسيصيرونَ آخِرينَ” بسبب دعوة الوثنيين.

أثارت هذه الملاحظات غضب الفريسيين إذ رأوا الجموع تتوب بالفعل، وتقبل الإيمان به بحماس، وأنهم لم يعودوا يحتاجون سوى قليل من التعليم أيضاً ليعرفوا مجده وعظمة سر تجسده الذي يستحق السجود، لذلك إذ كان من المحتمل أن يفقد (الفريسيون) وظيفتهم كرؤساء للشعب، بل وإذ كانوا قد سقطوا بالفعل وطُردوا من سلطانهم على الشعب، وحُرموا من المنافع التي يجنونها منه، لأنهم كانوا محبين للمال وجشعين، وباعوا أنفسهم للربح الحرام – نراهم وقد تظاهروا بالمحبة له، فتقدموا إليه قائلين: “أخرُجْ واذهَبْ مِنْ ههنا، لأنَّ هيرودُسَ يُريدُ أنْ يَقتُلكَ”.

لكن أيها الفريسي صاحب القلب الحجري، لو كنت حكيماً، لو كنت على دراية حسنة بشريعة موسى الحكيم جداً، لو أنك ثبَّتّ ذهنك على إعلانات الأنبياء القديسين، لما غاب عنك أنه مادام ذهنك مملوءاً مرارة وحقداً، فلابد أن تنكشف مشاعرك الكاذبة، إنه لم يكن مجرد إنسان وواحد من الذين يشبهوننا حتي يكون بذلك مُعرضّاً للخداع، بل هو الله في شبهنا، هو الله الذي يفهم كل شيء، كما هو مكتوب: يعرف الأسرار وفاحص القلوب والكلي (مز٤٣: ٢١س؛ مز٧: ١)، وهو الذي: كل شيء عريان ومكشوف له (عب٤: ١٣) والذي لا يُخفي عليه شيء لكنك لم تعرف هذا السر الثمين والعظيم، وظننت أنه يُمكنك أن تخدع حتي ذلك الذي قال: من الذي يُخفي عني فكره ويُغلق على الكلمات في قلبه ويظن أنه أخفاها عني؟ (أي ٣٨: ٢س) .

فكيف أجاب المسيح عن هذه الأشياء؟..

إنه أجابهم برفق وبمعني خفي كما هي عادته، إذ قال: “امضوا وقولوا لهذا الثعلب”.

أصغوا بانتباه إلى قوة التعبير، لأنه يبدو أن الكلمات المستخدمة كانت موجهة لشخص هيرودس، لكنها بالحري تشير أيضاً إلى دهاء الفريسيين، لأنه بينما كان من الطبيعي أن يقول: “قولوا لذلك الثعلب”، فإنه لم يفعل هكذا، بل استخدم بمهارة فائقة نوعاً وسيطاً من التعبير، وأشار إلى الفريسي الذي كان بالقرب منه وقال: “هذا الثعلب”، وهو يقارن الإنسان بثعلب، لأنه من الثابت أنه حيوان ماكر جداً، ولو كان لي أن أقول، فهو خبيث تماماً كما كان الفريسيون، لكن ماذا أوصاهم أن يقولوا (لهيرودوس)؟: “ها أنا أخرج شياطين وأشفي اليوم وغداً وفِي اليوم الثالث أُكمَّل”. أنتم ترون أنه يُعلن قصده في أن يعمل ما يعرف أنه سيُحزن معشر الفريسيين، الذين يريدون طرده من أورشليم لئلا بعمل الآيات يربح كثيرين إلى الإيمان به، لكن حيث إن هدفهم هنا لم يُخفَ عليه لكونه الله، فإنه يعلن قصده في عمل ما يبغضونه ويقول إنه: سينتهر الأرواح النَّجسة، ويخلّص المرضى من أتعابهم، وأنه سيُكمَّل والتي تعني أنه بمشيئته سوف يحتمل الآلام على الصليب لأجل خلاص العالم. لذلك كما يبدو، فإنه عرف كيف ومتى سيحتمل الموت بالجسد.

لكن الفريسيين تخيّلوا أن سلطان هيرودس سيرعبه، وسوف يخضعه للمخاوف رغم أنه رب القوات الذي يُولَّد فينا شجاعة روحية بكلماته التي تقول: “لا تخافوا مِنَ الذينَ يَقتُلونَ الجَسَدَ ولكن النَّفسَ لا يَقدِرونَ أنْ يَقتُلوها” (مت١٠: ٢٨)، وأوضح أنه لا يضع اعتباراً لعنف الناس، بقوله: “بل ينبغي أن أسير اليوم وغداً وما يليه”. وبقوله: “ينبغي لي” فإنه لا يعني بأنها ضرورة حتميّة – قد وُضعت عليه، بل بالحري تعني أنه بسلطان مشيئته الخاصة، وبحرية وبدون تعرّض للخطر فإنه سيمضي إلى حيث أراد أن يمضي ويجتاز اليهودية دون أن يقاومه أحد أو يتآمر ضده، إلى أن يقبل نهايته بإرادته الخاصة بالموت على الصليب الثمين.

لذلك فليمتنع قتلة الرب هؤلاء عن التباهي بأنفسهم أو أن يتشامخوا بعجرفة عليه. أنت أيها الفريسي، لم تحرز النصرة علي شخص هارب من الألم، أنت لم تمسكه رغماً عنه، ولم تبسط سيطرتك على من رفض أن يُضبط في شباك مكرك، بَلْ هو الذي بمحض إرادته ارتضي أن يتألم لأنه متيقن جداً أنه بموت جسده سيلاشي الموت ويعود ثانية إلى الحياة، فإنه قام من الأموات وقد أقام معه الطبيعة الإنسانية كلها وأعاد صياغتها من جديد إلى حياة لا تفسد.

لكنه يُظهِر أن أورشليم ملوثة بدماء كثير من القديسين فيقول: “لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أورشليم”، وما الذي ينتج من هذا؟.. ينتج من هذا أنهم كانوا على وشك أن يَسقُطوا من عضويّتهم في عائلة الله الروحية، وأنهم كانوا على وشك أن يُرفَضوا من رجاء القديسين ويُحرّموا تماماً من ميراث تلك البركات المُذَخّرة لمن قد خّلصوا بالإيمان. أما عن كونهم كانوا ناسين تماماً لعطايا الله وجامحين ومتكاسلين من جهة كل شيء يمكن أن ينفعهم، فهذا أظهره بقوله: “يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً” (لو١٣: ٣٤- ٣٥). لأن الله علّمهم بواسطة موسى الحكيم جداً ورتب لهم ناموساً ليوجّههم في سلوكهم ويكون قائدهم ومرشدهم في حياة جديرة بالإعجاب، والذي رغم أنه ليس سوى ظلال لكنه كان يحوي رمز العبادة الحقيقية، فالله قد نصحهم بواسطة الأنبياء القديسين، وكان سيجعلهم تحت الحماية أي تحت سلطانه، لكنهم فقدوا هذه البركات الثمينة بكونهم أردياء في دوافعهم وغير شاكرين ومستهزئين.

ثم يقول الرب: “إنكم لا ترونني حتي يأتي وقت تقولون فيه مبارك الآتي باسم الرب” (تابع لو١٣: ٣٥).

فماذا يعني هذا أيضاً؟.. الرب ينسحب من أورشليم، ويترك أولئك الذين قالوا له اخرج واذهب من ههنا، لأنهم غير مستحقين لحضوره بينهم، وبعد ذلك إذ اجتاز اليهودية وخلّص كثيرين، وأجرى معجزات كثيرة يعجز الكلام عن وصفها بدقة، عاد ثانية إلى أورشليم، هذا حدث عندما دخل جالساً على أتان وجحش ابن أتان، بينما الجموع المحتشدة والأطفال يحملون في أيديهم سعف النخيل وساروا أمامه وهم يسبحونه قائلين: “أوصَنّا لابنِ داوُدَ! مُبارَكٌ الآتي باسمِ الرَّبِّ!” (مت٢١: ٩). لذلك إذ قد تركهم بسبب أنهم غير مستحقين، يقول إنهم لن يروه إلا حينما يكون وقت آلامه قد حلَّ، لأنه مضى أيضاً إلى أورشليم ودخلها وسط التهليل، وفِي تلك المرة ذاتها كابد آلامه المُخلّصة نيابة عنا، لكي بالآلام يُخلّص ويجدّد – إلى عدم فساد – سكان الأرض، لأن الله قد خلّصنا بالمسيح، الذي به وله مع الآب والروح القدس التسبيح والسلطان إلى دهر الدهور.آمين.

 

فمن يشفق عليك يا أورشليم –  للعلامة أوريجانوس[4]

(إر١٥: ٥- ٧) “فمَنْ يَشفُقُ علَيكِ يا أورُشَليمُ، ومَنْ يُعَزِّيكِ، ومَنْ يَميلُ ليَسألَ عن سلامَتِكِ؟ أنتِ ترَكتِني، يقولُ الرَّبُّ. إلَى الوَراءِ سِرتِ. فأمُدُّ يَدي علَيكِ وأُهلِكُكِ. مَلِلتُ مِنَ النَّدامَةِ. وأُذريهِمْ بمِذراةٍ في أبوابِ الأرضِ. أُثكِلُ وأُبيدُ شَعبي.”

وعيد الله لأورشليم

١ -نريد ان نفهم جميع تلك الكلمات المملوءه وعيداً لأورشليم: “فمَنْ يَشفُقُ علَيكِ يا أورُشَليمُ، ومَنْ يُعَزِّيكِ، ومَنْ يَميلُ ليَسألَ عن سلامَتِكِ؟ أنتِ ترَكتِني، يقولُ الرَّبُّ. إلَى الوَراءِ سِرتِ. فأمُدُّ يَدي علَيكِ وأُهلِكُكِ. مَلِلتُ مِنَ النَّدامَةِ. وأُذريهِمْ بمِذراةٍ في أبوابِ الأرضِ. أُثكِلُ وأُبيدُ شَعبي.”.

لقد وضعتني هذه الكلمات في مأزق، وهو محاولة التوفيق بين صلاح الله وبين رفضه الرحمة لشعبه. أقدم مثالاً: لو أن ملكا حكم على إنسان في مملكته بأنه عدو له، فإنه لا يليق بأي شخص ان يُظهِر تعاطفاً مع ذلك العدو أو أن يبدي أية شفقة عليه، لأنه إذا فعل ذلك يُحسَب هذا إساءة إلى الملك وإلي أحكامه. إذا فهمت هذا المثل، أنظر إذاً إلى الإنسان المحكوم عليه من قِبَل الله من أجل خطاياه الكثيرة، ولاحظ أنه لا يحصل على أية شفقة من الملائكة رغم أن وظيفة هؤلاء الملائكة هي خدمة الطبيعة البشرية ونجدتها وإنقاذها. لأنه ليس أحد من الملائكة حينما يرى أن الله هو القاضي، وأن الذي حمى غضبه هو الخالق، وأن الخطايا وصلت إلى درجة أجبرت الله – إن صح هذا التعبير- الصالح علي توقيع الحكم ضد الخاطيء، فلا يستطيع أحد من الملائكة بعد رؤيته لكل ذلك أن يُشفِق ولا أن يحزن ولا أن يطلب الرحمة أو السلام من أجل انسان مثل هذا.

فلنفترض فعلاً أن أورشليم هذه – لأنها هي المقصودة بالمعنى الحرفي – هي التي أخطأت تجاه السيد المسيح وعظمت خطاياها أمامه حتي قال لها: “يا أورُشَليمُ، يا أورُشَليمُ! يا قاتِلَةَ الأنبياءِ وراجِمَةَ المُرسَلينَ إليها، كمْ مَرَّةٍ أرَدتُ أنْ أجمَعَ أولادَكِ كما تجمَعُ الدَّجاجَةُ فِراخَها تحتَ جَناحَيها، ولم تُريدوا! هوذا بَيتُكُمْ يُترَكُ لكُمْ خَرابًا.” (مت٢٣: ٣٧، ٣٨). وأن أورشليم هذه، هي التي أًهمِلَت وتُرِكَت من الله. وأن الملائكة الذين لم يتوقفوا عن مساعدة أورشليم، والذين من خلالهم سُلِمَت الشريعة لموسى، تركوا أورشليم وقالوا: إن خطاياها أصبحت عظيمة لأن شعبها قتلوا السيد المسيح ووضعوا عليه الأيادي. حينما كانت خطاياهم قليلة كان في إمكاننا أن نتشفع وأن نطلب من أجلهم، وكان في استطاعتنا أن نشفق على أورشليم، ولكن الآن وبعد هذه الجريمة فمن يشفق عليك يا أورشليم؟ “قد أخطأتْ أورُشَليمُ خَطيَّةً، مِنْ أجلِ ذلكَ صارَتْ رَجِسَةً” (مرا ١: ٨).

نعم لنفرض أن أورشليم هذه هي التي قيل لها: “فمَنْ يَشفُقُ علَيكِ يا أورُشَليمُ، ومَنْ يُعَزِّيكِ”. يجب علينا نحن أيضا ألا نشفق على أورشليم ومصائبها ولا نحزن على ما أصاب شعبها، لأنهً: “بزَلَّتِهِمْ صارَ الخَلاصُ للأُمَمِ (لنا) لإغارَتِهِمْ ” (رو١١:١١).

وعيد الله للنفس البشرية

2- أنتقل من  التفسير الحرفي إلى التفسير الروحي، مُطَبِقاً ما قيل لأورشليم على النفس البشرية. فإنك بعدما أخذت التعاليم الإلهية أصبحت أورشليم، التي كانت قبلًا “يبوس”. فإن هذه القصة ترجع في الواقع إلى أن ذلك المكان كان يسمي “يبوس” ثم تغير اسمها فيما بعد إلى أورشليم. يقال أن “يبوس” ترجمتها “مدوسة بالأقدام”.

إذاً، فإن يبوس، النفس “المدوسة بالأقدام” من قوات العدو، قد تغيرت وأصبحت أورشليم “رؤية السلام”. بعدما صارت يبوس أورشليم (يتم هذا في المعمودية حيث تتخلص النفس من القوات الشريرة)، أخطأت. إذا “دُست بأقدامك” دم السيد المسيح الذي للعهد الجديد، وإذا سقطت في خطايا عظيمة، يقال عنك: “فمَنْ يَشفُقُ علَيكِ يا أورُشَليمُ، ومَنْ يُعَزِّيكِ”، طالما وصَلتَ الى حد خيانة مسيحك؟.. كل واحد منا حينما يخطيء، خاصة الخطايا الجسمية، إنما يُخطئ ضد السيد المسيح نفسه. “فكمْ عِقابًا أشَرَّ تظُنّونَ أنَّهُ يُحسَبُ مُستَحِقًّا مَنْ داسَ ابنَ اللهِ، وحَسِبَ دَمَ العَهدِ الذي قُدِّسَ بهِ دَنِسًا، وازدَرَى بروحِ النِّعمَةِ؟” (عب١٠ : ٢٩).

فإذا دست ابن الله واستهنت بروح النعمة، فمن يُشفِق عليك ومن يُعزيك؟ ومن يميل ليسأل عن سلامتك”؟ إنه أبن الله، الذي خانه الخطاة، هو نفسه الذي سأل السلام لنا، فمن من بعده يستطيع أن يتشفع من أجل سلامنا؟.. ولندرك جيداً أن: “لأنَّ الذينَ استُنيروا مَرَّةً، وذاقوا المَوْهِبَةَ السماويَّةَ، وصاروا شُرَكاءَ الرّوحِ القُدُسِ، وذاقوا كلِمَةَ اللهِ الصّالِحَةَ وقوّاتِ الدَّهرِ الآتي، وسَقَطوا، لا يُمكِنُ تجديدُهُمْ أيضًا للتَّوْبَةِ، إذ هُم يَصلِبونَ لأنفُسِهِمُ ابنَ اللهِ ثانيَةً ويُشَهِّرونَهُ” (عب ٦: ٤-٦). متى أدركنا تلك الكلمات يلزمنا أن نعمل كل ما في وسعنا لئلا يُقال علينا نحن ايضا: “فمَنْ يَشفُقُ علَيكِ يا أورُشَليمُ، ومَنْ يُعَزِّيكِ، ومَنْ يَميلُ ليَسألَ عن سلامَتِكِ؟”.

السير إلى الوراء والإمتداد إلى قدام

3- “أنتِ ترَكتِني، يقولُ الرَّبُّ. إلَى الوَراءِ سِرتِ.”

لأن مدينة أورشليم – التي تجعلنا نتذكر كل اليهود – تركت الرب، فقد قيل لها: “إلَى الوَراءِ سِرتِ”. كان هناك وقت صارت فيه أورشليم إلى الأمام وليس إلى الخلف، أما حالياً فهي تسير الي الوراء: “ورجعوا بقلوبهم إلى مصر”

أما بالنسبة لمعنى السير إلى الوراء أو الإمتداد إلى ما هو قدام، نشرحه كالآتي:

الانسان البار ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام، أما الإنسان الذي يوجد في وضع مضاد للإنسان البار، فإنه سوف يتذكر ما  هو وراء ولن يمتد الى ما هو قدام. بتذكره لما هو وراء يرفض سماع السيد المسيح القائل: “فلا يرجع الى الوراء ليأخذ ثوبه”، يرفض سماع السيد المسيح القائل: “تذكروا امرأة لوط”، يرفض سماع السيد المسيح القائل: “إن الذي يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء لا يصلح لملكوت الله”. وفي العهد القديم مكتوب أيضاً أن الملائكة قالوا للوط بعد خروجه من سدوم: “لا تنظُرْ إلَى ورائكَ، ولا تقِفْ في كُلِّ الدّائرَةِ. اهرُبْ إلَى الجَبَلِ لِئلا تهلِكَ” (تك١٩: ١٧):

“لا تنظرالى ورائك” امتد دائماً إلى ما هو قدام، لقد تركت سدوم، فلا تنظر إذاً اليها، لقد تركت الشر والخطية فلا تعود بنظرك اليهما، “ولا تقِفْ في كُلِّ الدّائرَةِ”. فإنه حتي إذا أطعت الأمر الأول “لا تنظُرْ إلَى ورائكَ”، هذا غير كاف لإنقاذك إن لم تطع الأمر الثاني أيضا: “ولا تقِفْ في كُلِّ الدّائرَةِ”.

ان بدأنا التقدم والنمو الروحي، يجب علينا ألا نتوقف في حدود دائرة سدوم، بل نتخطى تلك الحدود ونهرب إلى الجبل. إذا أردت ألا تهلك مع أهل سدوم فلا تنظر أبداً إلى ما هو وراء، ولا تقف في دائرة سدوم، ولا تذهب إلى أي مكان آخر سوى الجبل، لأنه هناك فقط يمكننا أن نخلص، الجبل هو ربنا يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين. آمين.

 

و ايضأ العلَّامة أوريجانوس فرح وحزن في السماء

قد يكون ما أورده متناقضا بعض الشئ مما يبدو أننا نعطي للرب والملائكة أسباب للأعياد والفرح ونحن الذين على الأرض، نعطي سببًا للفرح والاستبشار للذين في السماء ” فإن سيرتنا نحن هي في السموات ” (في٣: ۲۰)، وهذه هي فعلاً الطريقة التي نعطي بها فرصة لأعياد الملائكة. ولكن إذا أعطت تصرفاتنا الجيدة وتقدمنا في الفضائل فرصة لأعياد الرب والملائكة، فإن سلوكنا السيئ، يعطي مجالاً للأنين والحزن، ليس فقط على الأرض ولكن أيضًا في السماء. من الممكن أيضًا أن تؤلم خطايا الناس الرب نفسه.

أليس مكتوبا ” فحزن الرب إنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه” (تك ٦:٦). ونرى ذلك الحزن عند ربنا يسوع المسيح المخلص في الإنجيل قائلاً: ” يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا ” (مت ۲۳: ۳۷).

ولا نتخيل إنه لا يعني هنا إلا القدماء وهم ها أنا أرسل لكم أنبياء وحكماء وكتبه فمنهم تقتلون وتصلبون ومنهم تجلدون”. إذا حدث اليوم أني استهنت بإنذارات نبي من أنبياء المسيح بدلاً من سماعه، أنا أيضًا “أصلبه” بدلاً من أن يكون في، في رفضي للكلام كأنه قد مات عند علمه بهذا الكلام.

الرب تألم من الجنس البشري عندما جعل النبي يقول ” ويل لي لأني صرت كجني الصيف كخصاصة القطاف لا عنقود للأكل ولا باكورة تينه اشتهتها نفسي، قد باد التقي من الأرض وليس مستقيم بين الناس جميعهم يكمنون للدماء، يصطادون بعضهم بعضا بشبكه” (مي ٧: ٢)

هذا هو أنين المسيح الذي يبكي على الجنس البشري، لقد أتي هو ذاته لكي يلتقط الحصاد ولم يجد غير القش بدلاً من الحصاد، ولقد أتي ليقطف العنب ولم يجد لكل جني إلا بعض العنب الذين هم الرسل، ” الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير” (يو ١٢: ٢٤)، ” لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة ” (أش ١: ٩).

لقد قلنا إن عند ملائكة الرب أيضًا ” يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب “، أي عندما يسرون بسعادتنا ولكننا نحزن مَنْ يحبوننا، إذا هم ينتهجون بالتوبة ويبكون الخطايا المقترفة. إذا ” أخطأت أورشليم خطيئة ” (مز ۱۱: ۸)، مثل ما هو مكتوب في المراثي “لقد تزعزعت” وكل أعيادها واحتفالاتها اختفت بسبب أن سكانها قتلوا سيدي يسوع المسيح. لهذا يقول لهم الرب ” رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي ” (أش ١: ١٤). وبينما عند اجتيازنا للنظام الخاص بالتقدمات في الوقت الذي لم يكن فيه خطية بعد، الرب قال: ” أعيادي” وبعد الخطية لم يعد يقول أعيادي بل أعيادكم ولكن كل هذه الكلمات: الرب يبكي، أو يفرح يكره أو يحب. يجب أن نأخذ هذه كتعبيرات مجازية حسب عادات اللغة الإنسانية، لأن الطبيعة الإلهية لا تعرف أي انفعال وتغير، أنها تظل دائماً ثابتة وراسخة على قمة سعادتها.

المرجع : عظات علي سفر العدد للعلامة أوريجانوس ( صفحة ٢١٥ ) – ترجمة القس برسوم عوض وآخرون – إصدار مؤسسة القديس أنطونيوس للدراسات الآبائية

 

القديس إيريناؤس

[البشر يملكون أرادة حرة، وهم مزودون بملكة الإختيار، لذلك فليس صحيحا أن البعض هم بالطبيعة صالحون وآخرون أشرار ]

١-هذا التعبير (الذى لربنا ) ، كم مرة أردت أن أجمع أولادك، ولم تريدوا (مت ۳۷:۲۳) قد أعلن القانون القديم للحرية الإنسانية. لأن الله صنع الإنسان كائنا حرا منذ البداية، يملك سلطانه الذاتى، وهو يطيع وصايا الله باختياره وليس بالإجبار من الله فلا يوجد إكراه عند الله، بل مسرة صالحة من نحونا موجودة عنده بإستمرار. ولذلك هو يعطى مشورة صالحة للجميع، ووضع في البشر وفي الملائكة القدرة على الإختيار ، فالملائكة كائنات عاقلة حتى أن أولئك الذين قدموا الطاعة ، ينالون بعدل ما هو صالح، معطي من الله حقا، ولكنه يحفظ بواسطتهم هم أنفسهم.

ومن الناحية الأخرى، فالذين لم يطيعوا فلن ينالوا الصالحات، وذلك بعدل، وسينالون العقوبة المستحقة، لأن الله أنعم عليهم بما هو صالح، ولكن هم لم يحفظوه بجدية، ولا يعتبرونه شيئًا ثمينًا ، بل هم يزدرون بصلاحه المتفوق والبارز جدا ، لذلك، إذ هم يرفضون الصلاح، وكما لو كان يعزلونه، فإنهم يجلبون بإستحقاق على أنفسهم جميعًا دينونة الله العادلة، التي يشهد لها أيضا الرسول بولس في الرسالة إلي أهل رومية حيث يقول: “أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلي التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب وإستعلان دينونة الله العادلة” (رو ٥ ، ٤:٢ ) ويقول “ومجد وكرامه وسلام لكل من يفعل الصلاح” (رو ٩:٢).

الله، إذا أعطى ما هو صالح كما يخبرنا الرسول في هذه الرسالة، والذين يعملونه سينالون مجدًا وكرامة، لأنهم عملوا ما هو صالح بينما كان في إمكانهم أن لا يفعلوه، أما أولئك الذين لا يعملونه فسينالون دينونة الله العادلة، لأنهم لم يعملوا الصلاح حين كان في إمكانهم أن يفعلوه.

٢-لكن لو أن البعض خلقوا أشرارًا بالطبيعة وأخرون خلقوا صالحين، فإن هؤلاء الآخرين لن يكونوا مستحقين للمديح لكونهم صالحين، لأنهم خلقوا هكذا ، ولا الأولون مستحقون للتوبيخ، لأنهم هكذا خلقوا (أصلاً). ولكن حيث إن جميع البشر هم من نفس الطبيعة، قادرون أن يمسكوا بالحق وأن يعملوه – فالبعض بعدل ينالون المديح بين الناس الذين هم تحت ضبط قوانين صالحة (وبالأكثر من الله)، ويحصلون على شهادة جديرة لسببب إختيارهم الصلاح عموما، وثباتهم فيه، أما الآخرون فيلامون وينالون دينونة عادلة، بسبب رفضهم كل ما هو جميل وصالح.

لذلك، كان الأنبياء يعظون الناس عن ما هو صالح، لكي يعملوا بعدل، وأن يعملوا البر، كما سبق أن أوضحت كثيرًا جدًا ، لأنه في إمكاننا أن نفعل هكذا ، ولأنه بالإهمال الكثير نصير ناسين، ونصير في حاجة إلي تلك المشورة الصالحة التي أعطانا الإله الصالح أن نعرفها عن طريق الأنبياء.

لهذا السبب قال الرب أيضا : “فليضيء نوركم قدام الناس لكي يروا أعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السموات (مت ١٦:٥). وأيضا “إحتزروا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكر وهموم الحياة” (لو٣٤:٢١). وأيضا لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسرجكم موقدة، وأنتم مثل أناس ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس، حتى متى جاء وقرع يفتحون له للوقت طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا” (لو ٣٥:۱۲ ، ٣٦) . وأيضا العبد الذي يعرف إرادة سيده ولا يعمل بها ، يضرب بضربات كثيرة (لو ٤٧:١٢). وأيضا “لماذا تدعوني يارب يارب وأنتم لا تفعلون ما أقوله” (لو ٦ : ٤٦) . ومرة أخرى أيضا : “لكن إن قال ذلك العبد في قلبه. سيدي يبطيء قدومه، فيبتديء يضرب العبيد رفقاءه، ويأكل ويشرب ويسكر، يأتي سيده في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها ، فيقطعه ويجعل نصيبه مع المرائيين ” (لو ٤٥:١٢ ، ٤٦) ، (مت ٤٨:٢٤، ٥١). كل هذه الآيات، توضح إرادة الإنسان المستقلة، وفي نفس الوقت توضح المشورة التي يعطيها الله له، التي بواسطتها يحثنا أن تخضع أنفسنا له، ويسعى أن يحولنا بعيدا عن خطية الكفر به، ولكن دون أن يقهرنا بأي حال.

٣-  لا شك إن كان أي واحد لا يريد أن يطيع الإنجيل نفسه، فهذا في إمكانه أن يرفضه، ولكن هذا غير ملائم لأنه في إمكان الإنسان أن يعصي الله، ويخسر ما هو صالح ، ولكن مثل هذا السلوك، يأتي بقدر غير قليل من الجروح والأذى. ولهذا السبب يقول بولس: “كل الأشياء تحل لي لكن ليس كل الأشياء توافق” ( اكو ۱۲:٦). مشيرًا إلي حرية الإنسان التي فيها تحل كل الأشياء”، فالله لا يمارس أي إجبار عليه، وبتعبير) “لا توافق” يشير إلي أننا لا يجب أن نستعمل حريتنا كذريعة للخبت أو الشر (أنظر ابط ٢ (١٦) ، لأن هذا لا يوافق. ومرة أخرى “تكلموا كل واحد بالصدق مع قريبه (أف ٢٥:٤). وأيضًا ولا تخرج كلمة ردئية من أفواهكم، ولا القباحة، ولا كلام السفاهة والهزل التي لا تليق بل بالحرى السكر” (أف ٢٩:٤ ، ٤:٥). وأيضًا لأنكم كنتم قبلاً ظلمة، أما الان فنور في الرب” اسلكوا كأولاد “نور” (أف ٨:٥) ، “لا” بالبطر والسكر، ولا بالمضاجع والعهر، ولا بالخصام والحسد” (رو ۱۳:۱۳). وهكذا كان أناس منكم، لكن أغتسلتم بل تقدستم بإسم الرب يسوع وبروح إلهنا” ( ١ كو٦ : ١١).

فلو إنه لم يكن في إمكاننا أن نفعل أولاً نفعل هذا الأشياء، لما كان الرسول وبالإكثر جدا ، الرب نفسه، يعطينا مشورة أن نعمل بعض الأشياء، وأن نمتنع عن أشياء أخرى؟ ولكن لأن الإنسان يملك من البداية حرية الإرادة، والله يملك حرية الإرادة وهو الذي علي مثاله خُلق الإنسان، فإن النصح يقدم له دائما أن يتمسك بالصلاح والتي يتم بواسطة طاعة الله

٥- وليس في مجرد الأعمال فقط بل في الايمان أيضا، حفظ الله إرادة الإنسان حرة، وتحت سلطانه، قائلاً : “حسب إيمانك يكون لك” (أنظر متى ٢٩:٩)، مبينا هكذا أنه يوجد إيمان هو ملك خاص للإنسان، حيث إنه رأي خاص به. وأيضا كل شيء مستطاع للمؤمن (مر ۲۳:۹). وأيضا إذهب وكما أمنت ليكن لك” (مت ۱۳:۸).

والآن، فكل هذه العبارات توضح أنه في إمكان الإنسان أن يؤمن، ولهذا السبب فالذي يؤمن به له حياة أبدية، بينما الذي لا يؤمن بإبن الله، لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله (يو ٣٦:٣) . ولذلك بنفس الطريقة إذ يبين صلاحه، وفي نفس الوقت يوضح إن الإنسان يملك إرادته الخاصه به والحرة، وسلطانه الشخصي، يقول لأورشليم: “كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها، ولم تريدوا لذلك هوذا بيتكم يترك لكم خرابا مت ۳۷:۲۳، ۳۸)

٦- ومرة أخرى، فإن أولئك الذين يقولون ما هو مضاد لهذه النتائج، هم يعتبرون الرب كأنه معدم من القوة، وكما لو كان غير قادر أن يحقق ما أراده، أو من الجهة الأخرى كأنه يجهل أنهم بالطبيعة ماديون” ، كما يعبر عنها هؤلاء الناس، بحيث أنهم لا يستطيعون أن ينالوا خلوده. ويقولون ولكن، ما كان ينبغي أن يخلق الملائكة. بمثل هذه الطبيعة القادرة علي التعدي، ولا البشر الذين ثبت بسرعة أنهم غير شاكرين له، لأنهم خلقوا كائنات عاقلة قادرة علي الفحص والتمييز والحكم، ولم يخلقوا مثل الكائنات غير العاقلة، وبمجرد طبيعة حيوانية، لا تستطيع أن تفعل شيئًا باراداتها ، بل هي محكومة بحكم الضرورة، والإجبار علي ما هو صالح. هذه الأشياء التي يوجد فيها فكر واحد ، وإستعمال واحد، يعمل أليا في روتين واحد وهي غير قادرة على أن تكون أي شيء آخر سوى ما خلقت عليه.

ولكن علي أساس هذا الإفتراض، فلا من هو صالح يكون شاكرا له، ولا الشركة مع الله تكون ثمينة، ولا يكون الصلاح شيئا عظيما يستحق السعي إليه، وهو سيقدم نفسه بدون أي محاولة منهم للحصول عليه، للإهتمام به او دراسته، بل سيغرس من تلقاء ذاته وبدون اهتمامهم. وهكذا سيحدث أن كونهم صالحين ليس له أي أهمية، لأنهم كانوا هكذا بالطبيعة بدلاً من الإرادة، وهم يملكون الصلاح (الخير) تلقائيًا وليس بالإختيار، ولهذا السبب، فهم لن يفهموا هذه الحقيقة، أن الخير هو شيء جميل ، ولن يجدوا فيه أي متعة. لأنه كيف يمكن للذين يجهلون الخير أن يتمتعوا به؟ وأي ديانة هي لأولئك الذين لم يهدفوا إليها ، وأي تاج هو لأولئك الذين لم يسعوا نحوه، مثل أولئك المنتصرون في السباق.

٧- ولهذا السبب أيضا، أكد الرب أن ملكوت السموات هو من نصيب الغاصبين، ويقول: “الغاصبون يختطفونه” (متى ۱۲:۱۱ ) ، أي أولئك الذين بالقوة والجهاد الجاد يسهرون لينتزعوه في لحظتها. ولهذا السبب أيضا يقول بولس الرسول إلى أهل كورنثوس: “الستم تعلمون أن الذين يركضون في الميدان جميعهم يركضون ولكن واحدًا بأخذ الجعالة. هكذا أركضوا لكي تنالوا. وكل من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء. أما أولئك فلكي يأخذوا إكليلاً يفنى. وأما نحن فإكليلاً لا يفنى. إذا فأنا أركض هكذا كأنه ليس عن غير يقين هكذا أضارب كأني لا أضرب الهواء. بل أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً” (١ كو ٩ : ٢٤ – ٢٧).

هذا المصارع المقتدر، يحثنا أن نكافح لأجل الخلود، لكي نكلل وأن نحسب الأكليل ثمينا ، أي ذلك الذي نربحه بكفاحنا ، ولكنه لا يطوق رؤوسنا من تلقاء نفسه. وكلما جاهدنا أصعب، كلما كان غاليًا أكثر، كلما كان يجب أن نعتبره أكثر. وفي الحقيقة إن تلك الأشياء التي تأتي تلقائيًا لا تعتبر إعتبارا عاليا جدا ، مثل التي نصل إليها بعناية واهتمام كثير. إذا ، حيث إن هذه الإمكانية قد منحت لنا، فإن الرب علم، والرسول أمرنا بالأكثر أن نحب الله، لكي نصل إلي هذه الجائزة لأنفسنا بالكفاح لأجلها. وإلا ، بلا شك فإن صلاحنا هذا، يصبح عمليا غير معقول، لأنه ليس ناتجا عن إختبار.

وإضافة لذلك فإن ملكة البصر لم تبدو مرغوباً فيها ، إن لم نكن قد عرفنا مقدار الخسارة التي تكون عندما نحرم من النظر، والصحة كذلك تصير محل تقدير أعظم بعد التعرف علي المرض، والنور كذلك بمقابلته بالظلام، والحياة بمقارنتها بالموت. هكذا بنفس الطريقة، فإن الملكوت السمائي يكون أكثر كرامة بالنسبة الذين قد عرفوا الملك الأرضي. ولكن بحسب النسبة التي يكون بها أكثر كرامة، هكذا بالأكثر جدا نثمنه أكثر، وإن كنا قد ثمناه أكثر، فإننا نصير ممجدين أكثر في حضرة الله.

لذلك، فالرب قد تحمل كل هذه الأمور نيابة عنا، لكي إذ نكون قد نلنا تعليما بواسطتها كلها ، نصير، من كل النواحي محترسين من جهة الزمن الآتي وإذ نكون قد تعلمنا بتعقل أن نحب الله نستمر في محبته الكاملة : لأن الله قد أبدى طول أناة في حالة إرتداد الإنسان، بينما الإنسان قد تعلم بواسطة هذا الارتداد، كما يقول النبي أيضًا “وعصيانك سيشفيك” (إر١٩:٢س). وهكذا إذ يحدد الله كل الأمور مقدمًا ، لأجل توصيل الإنسان إلي الكمال، لأجل بنيانه ولأجل إعلان تدبيراته، لكي يصير الصلاح ظاهرا وكذلك البر مكملاً، ولكي تتشكل الكنيسة على صورة إبنه، ولكي يصل الإنسان إلي حالة النضوج في المستقبل، ويصير هكذا ناضجا بواسطة مثل هذه الامتيازات، لكي يرى الله ويدركه.

المرجع : كتاب ضد الهرطقات للقديس إيريناؤس – الجزء الثاني ( صفحة ٢٥٣ – ٢٥٨ ) – مؤسسة القديس أنطونيوس للدراسات الآبائية – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد

 

عظات آباء وخدام معاصرون :

لو ( ١٣ : ٣١ – ٣٥ ) كم مرة أردت ؟ – لقداسة البابا تواضروس

يوجه السيد المسيح سؤاله : ” كم مرة أردت ؟” لكل شخص منا ، كم مرة كنت أريد أن أفعـل لـك شـيئاً ولكنـك رفضـت ، بـل عـانـدت نفسـك ، ومـن هـنـا يـأتي السـؤال : ” يا أورشليم يـا أورشليم يـا قاتلة الأنبياء وراجمـة المرسلين إليهـا كـم مـرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تُريدوا ” (لو ١٣ :٣٢). أورشليم تمثـل النفس المعاندة ، ونلاحظ تكرار كلمـة ” أورشليم “، فأورشـلـيـم فـي العهد القديم هـي ” مدينة السلام “، وبالرغم من أن اسمها ” مدينة السلام ” لكنها لم تعرف السلام إلا سنوات معدودة جدا عبر تاريخها الطويل . أُريدك أن تضع أمامك المقارنة التي أوضحها السيد المسيح عندما خاطب هيرودس وقال : ” امضـوا وقولوا لهذا التّعلب ” (لو١٣ : ٣٢)، ويقصد بالثعلب الشيطان عدو الخير ، وفـي المقابل نجـد المسيح يقـول ” كـم مـرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها ” (لو١٣ :٣٤)، فنجد ثعلب ودجاجة ، والفرق شاسع بين الدجاجة المسالمة وبين الثعلب المكار الخبيث . أما المقصود ” بالأولاد ” فليس هم الشعب فقط ، ولكن يقصد أفكار الإنسان أيضاً ، فالرب هنـا يخاطـب النفس البشرية ، وكـم مـرة يـريـد أن يجمـع أفكار الإنسان ، كـل مواهب الإنسان ، كل قدرات الإنسان تتجمع مع بعضها ؛ لأن من الملاحظ أن هناك أناس يعيشون مشتتين ، والتشتيت عندما يزيد يصل إلى درجة من الصراع النفسي ، والصراع النفسي هو عبارة عن رغبات متصارعة متحاربة داخل قلب الإنسان . كم مرة أراد الله أن يجمع أفكارك ورغباتك وطموحاتك ومسيرة حياتك ؟

عندما يقول لك كم مرة أردت ؟ فإن هذا السؤال يوازي سؤال : كم مرة أعطيتك فرصة ؟

إذا حاول الإنسان أن يجمع هذه الفرص لا يستطيع حصرها ، وأتجاسر وأقـول أن الفرص التي يمنحها الله للإنسان يمكن أن تكون بعدد أيام عمر الإنسان ، ولذلك أحياناً نطلق على الفرص الصدفة ، ولكن لا بد أن تعرف أنه لا يتم شيء على وجه الأرض إلا بتدبير مـن يـد الله ، ولذلك تسمي الله دائماً ” ضابط الكل “، وهذه نقطة مهمة جداً عندما يقول : ” كم مرة أردت أن أجمع أولادك … ولم تريدوا “، فكم من الفرص أعطاها الله لك ؟ وهل أنت واثق في إلهك أنه هو ضابط كل شيء ؟

أمثلة

۱ـ زكـا العشـار :

جاءت هذه الفرصة لزكا ، هـو أراد أن يـرى المسيح فقط لم يكـن فـي حسبانه أن يقابله ويتكلم مـعـه ، وأن يـزوره فـي بيتـه ، لكـن جـاءت لزكـا الفرصة وتسلق الشجرة ومسك في الفرصة فتغيرت حياته .

٢– لاوي العشـار :

 الفرصة جاءت أيضا للاوي العشار الذي صار بعد ذلك القديس متى ، وجاءت له أيضاً له الفرصة بكلمة واحدة ” اتبعنـي ” (مت ۹ : ۹)، حيث مر السيد المسيح أمامه ووقف وقال “، له ” اتبعني ” تصور إذا كان لاوي طلب من المسيح أن يعطيه بعض الوقت حتى ينتهي من أعماله ، لكن يقول الكتاب : ” إنه ترك كل شيء وقـام وتبع المسيح ” (لو ٥ : ٢٨)، وصار بعد ذلك متى الرسول كاتب البشارة الأولى وأحد تلاميذ المسيح الاثني عشر الذين له :  نشروا الإيمان في بلاد كثيرة .

٣– السـامـرية :

نسمع عن السامرية والفرصة التي أتت إليها رغم أنها في البداية كانت تحاول الهروب من تلك الفرصة ، لكن الفرصة أتت بثمن كبير حيث اصطادت قلب المرأة ، ثم قلب هذه المدينة بأكملها ” مدينة السامرة “. تصور إذا كانت هذه المرأة رفضت تلك الفرصة ، أو أن مدينة السامرة رفضت هي أيضاً لكان قد تغير الحال تماما . 

٤۔ القديس مار مرقس الرسول :

عندما أتى القديس مارمرقس الرسول إلى مصر ودخل الإسكندرية ، وقصة الحذاء الذي تهرأ، وجاءت له الفرصة وقت أن أصيب الإسكافي إنيانوس في يده بالمخراز وصرخ قائلاً : ” يا الله الواحد “، ومن هنا جاءت للقديس مار مرقس الفرصة ، فهنا كان المفتاح الذي فتح باب الإيمان عن طريق القديس مارمرقس الرسول .

٥– البابا ألكسندروس البطريرك (١٩ ) 

من القصص المشهورة في تاريخ الكنيسة قصة البابا ألكسندروس البطريرك (١٩) عندما رأى مجموعة من الأطفال يلعبون بالقرب من شاطئ البحر ، ورأى طفلا يلعـب وبه نوع من القيادة ، وكانت الفرصة لهذا الطفل الذي صارفيما بعد ” البابا أثناسيوس الرسولي “. 

الخلاصة أن القصص لا تنتهي ، فالله يطرح عليك هذا السؤال في نهاية الصوم ، بـل يطرحه عليك في كل يوم ، كم مرة كنت معك وقدمت لك خطة فـي حياتك وأنت ربما رفضتها عن غير قصد أو دون معرفة أو عن عناد وكسل أو أي ضعف من هذه الضعفات ؟

+ أمثلة من الفرص :

١- قراءة كتاب معين ممكن أن يكون فرصة ، قد يعطيك شخص نبذة صغيرة ، ولكنها تكـون فـرصـة كبيرة لـك ، قـد تـكـون رسالة وتُحسب عليـك ، وأنـت أخـذت الكتيب وأهملته … كم مرة أردت ؟ ٢

٢- الكتاب المقدس : كم مرة جاءت إليك الفرصة أن تقرأ الكتاب الإنجيل وأنت أهملت ؟ أو تذكرت الإنجيل في بعض المناسبات وليس كل يوم .

٣- مقابلة صـديق : ربما تكون مقابلـة صـديق لـك هـي بترتيـب مـن اللـه ، فهـو يـريـد أن يعطيك رسالة معينة ، ربمـا تـدرس معـه شـيئاً ، أو تتعلم معـه شيئاً ، أو تكتسـب منـه خبرة … كم مرة ؟ ثق أن حياتـك علـى الأرض مضبوطة ، وليسـت بـدون نظـام أو قـانون ، فحياتـك مضبوطة تماماً كما يضبط الله الفلك والطبيعة ، وكما يضبط الخلايا الصغيرة . فـي جسمك ، تصـور أن كـل خليـة داخلـهـا نظـام يحركهـا وينظمها ، كلـهـا أمـور مضبوطة.

٤- زيارة مكان : من الفرص التي يعطيها الله لنا فرصة زيارة مكان مقدس ” دير، كنيسة ، مكان أثري “، كم مرة أراد الله أن يرسل لك رسالة من خلال هذه الزيارة لينبهك إلى شيء ما .

٥- الاستماع إلى عظة أو محاضرة ، أو الاستماع إلى حوار ، أو تكـون فـي خلـوة من خلالها قد يرسل لك الله رسالة . أيها الحبيب هناك فن لا بد أن تقتنيه وهو ما يعرف ” بفن الالتقاط “، من الممكن أن تسمع محاضرة ربع ساعة لكن فيها ثوان معدودة تسمع فيهم كلمتين لك أنت ، ممكن من خلال القراءات الكنسية في القداس يرسل الله لك رسالة . 

فن الالتقاط هو أحد الفنون الجميلة التي يجب أن يقتنيها الإنسان السائر في طريق الله . 

نتذكر الأنبا أنطونيوس الكبير أب جميع الرهبان عندما دخل الكنيسة وهـو شـاب واستمع للإنجيل وهو يقرأ ، واعتبر أن هذه الآية : ” إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء ، فيكون لك كنز في السماء ، وتعال اتبعني ” (مت ۱۹ : ۲۱)، اعتبرها

رسالة موجهة له . كم مرة كلمك المسيح ؟ كم مرة أب اعترافك قدم لك النصيحة ؟ كم مرة صديقك أرشدك ؟ كل هذه لا تتم صدفة لكنها هي بتدبير من الله .

+ الفرص التي يعطيها الله لك :

هناك سبع نقاط تمثل فرص يعطيها الله لنا ، ويجب أن يستثمرها الإنسان فـي حياته وهي :

١– فرصة التربية :

لكل أب وأم الله يعطيهم الفرصة في تربية أبنائهم ، هذه الفرصة يجب أن يستغلها الوالدان جيدا حتى لا تضيع منهما ، وهي فرصة تربية أبنائهم في وقت الطفولة ، فإذا ضاعت هذه الفرصة من الصعب زرع المبادئ . 

ربما تتذكر معي في مجال التربية قصة الابن الضال ، وبالتأكيـد قـد ربـاه أبـواه وعلمـاه أمـورا كثيرة ، وضروري أن هـذا الابـن عنـدمـا ذهـب إلى أبيـه طالباً نصيبـه فـي الميراث لم يوافق الأب بكل سهولة ، بل نصحه عدة مرات ، وبدأ يشرح له مدى خطورة هذا الطريق الذي يسير فيه ، ولكن في النهاية لم يستجب الابن لكلام أبيه وأخذ نصيبه وتـرك البيت ، وكانت النهاية المأساوية لـه إلى أن تـاب وقـرر العـودة إلى أبيـه بعـد أن نـدم بشـدة عـلـى مـا فـعـلـه ، لذلك نحـن نمجـد تـوبـة الابن الضال . التربيـة فرصـة لا تُضيعها .

۲۔ الدراسـة :

دراسة الإنسان من بدايتها إلى أن يتخرج من الجامعة أو ما بعدها ، قد يهمل فيها الإنسان وتكون النتيجة سيئة ، كـم مـرة الأب والأم أو مدرسيك قـد نبهـوك إلى هـذا الإهمال والكسل ؟

الدراسة فرصـة يمنحهـا اللـه لـك ، والطالـب النجيـب هـو الـذي يـتعـلم مـن كـل صغيرة وكبيرة سواء في البيت أو المدرسة أو الكلية … إنها فرصة لا تضيعها باطلاً . 

۳۔ فترة الشباب :

فترة الشباب هـي الفترة الـتي مـا بـين سـن ١٨ إلى ٣٠ سنة ، وهـي فـترة الحيوية والنشاط والانطلاق ، ولكن هل الحرية هنا حرية مضبوطة أم حرية مطلقة ؟ فـي هـذه الفترة هناك من يستطيع أن يبني شخصيته بصورة صحيحة ، فهناك من يستغل الفرص ويبني ذاته ، ويبني معرفته ، هناك شاب تجلس معه تعجب بكلامه وأفكاره وشخصيته رغم صغر سنه ، وهناك آخر تجد شخصيته باهتة تافهة لا معنى لها . فترة الشباب يمكن أن يقـول عليها الإنسان بعـدمـا تمـر كم مـرة ؟ كـم مـرة أردت أنك تكون إنساناً متكاملا ولكنك أضعت الفرصة ، وأضعت الوقت والسنين الدسمة التي تبنى الشخصية الجيدة في فترة الشباب ؟ 

٤ـ الخطـوبة :

كلمـة خطوبـة مشتقة مـن كلمـة ” خطب ” أي تكلـم ، ففترة الخطوبـة هـي فـترة الكلام المشترك بين الاثنين ، ويجـب عـلـى الاثنين أن يتحـدوا فكرياً ، وهـذه هـي بدايـة الاتحاد قبل الاتحاد الروحي أو الاتحاد الاجتماعي أو الاتحاد الجسدي . ومن طقس الكنيسة الجميل أنها تضع رأس الاثنين في يوم الإكليل وتقربهم من بعض ، ثم يضع أبونا الصليب على رأسيهما فـي الوسط ، كأنهـا رمـز إلى وحدة الفكر الذي يكون في هذا البيت الجديد أو الأسرة الجديدة . فترة الخطوبـة هـي فرصـة لبنـاء زواج قـوي ، فـلا تضـيـع هـذه الفرصـة وحـاول أن تكتشف الحقائق ، فكم من مرة ربنا أعطى الفرصة من خلال أب الاعتراف ، أو من خلال عظة ، وكتيب يتكلم عن الأسرة والبناء القوي لها … كم مرة ؟

٥– الصداقـة :

بلا شك الصداقة وسيلة قوية جدا يحتاجها الإنسان ، فالصداقة هي أغلى هدية أعطاها الله للإنسان ، والصديق كالمرآة بالنسبة لصديقه ، وكلمة صداقة مـن الصدق أي الحياة الحقيقية الخالية من الزيف أو الكذب . الصداقة فرصة قوية للإنسان في أن يعدل من سلوكياته وأفكاره ، والصديق مؤثر جـدا فـي صـديقه ، وكـم مـن مـرة يرسـل اللـه رسـائـل مـن خـلال الصديق وهذه نقطة مهمـة جـداً ، فالإنسـان الـذي بـلا صـديـق قـد يعـرض نفسـه لأتعـاب نفسية كثيرة ، ومن الأمور الجميلة في كنيستنا أن كل منا له أب اعتراف ومعه تكون بداية الصداقة ، فهو يرشدك الإرشاد الصحيح ، وبحسب وظيفته الكهنوتية يعطي لك الحل ، لكنه أيضاً صـديق ، فكـم مـرة أردت أن تفهـم وتعـرف الرسالة التي أرسـلـهـا لـك اللـه مـن خـلال صديقك ؟ الله قد يستخدم صديقك لكـي مـا يرشدك ، وخير مثال على ذلك داود ويوناثان ومدى الصداقة القوية التي كانت بينهما . 

٦ – الخـدمة :

الله يدعونا للخدمة فـي بدايات الشباب في وقت معين ، وفـي أي سـن ربنـا يـحـدده لنا ، ومن خلال هذه الدعوة يقول لك : ” كم مرة أردت ؟”. في العهد القديم تكلم الله مع إرميا وقال له : ” جعلتك نبياً للشعوب ” (إر ١ : ٥ )  فأجاب إرميا قائلا : ” إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد ” (إر ١ : ٦ )  فقال الرب له : ” لا تقل إني ولد، لأنك إلى كل من أرسلت إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به ” (إر ۱ : ۷) فـي العهـد الجديـد يقـول القديس بولس الرسول لتيموثاوس : ” لا يستهن أحـد بحداثتك ” (١ تي ٤ : ١٢)، وهذا شيء مهم ، فهو رسالة من الله لك .  إذا الخدمة هي فرصة يتيحها الله لك ، لتعبر بها عن محبتك لله وللناس ، إن الخدمـة بكـل صـورهـا هـي دعـوة من الله لك ، فالله في الخدمة يعطي رسائل كثيرة والمهم أنك تحترس من الثعلب ( خطية العناد )؛ لأن العناد يغلق الباب أمام الفرص التي يمنحها الله للإنسان .

٧ -العمـل :

قد يتيح الله فرصة عمل صغيرة لشخص ما ولكنه يرفضها ، لأنها صغيرة ودخلها محدود ، في حين أن هناك آخر يقبلها ، وبأمانته يثبت نجاحه ويتوسع في هذا العمل ، وكأن الله أعطاه فرصة قوية أن يبدأ صغيرا ، فلكي يكون لدينا شجرة مثمرة لا بد أن يكون عندنا بذرة صغيرة .

قصة 

يحكـى عـن أحـد الأشخاص كـان طالبـاً وذهـب للتـدريـب فـي إحـدى الشركات ، وقـد أعجـب بـهـا جـداً وبأفكارهـا وبطريقتهـا وأسلوبها ، وكانت الفرصـة باجتهاده وصل إلى أن صارت هذه الشركة له في يوم من الأيام . لقد وضع أمامه هدفاً ، والله يرسل رسائله ويقوي من خلال هذه الرسائل .

+ ” يا أورشليم يـا أورشليم يـا قائلة الأنبياء وراجمـة المرسلين إليها ” (لو ١٣ :٣٤) ، وقاتلة هنا بمعنى رافضة ، فهي رافضة للمشورة والنُصح ، رافضة للرسالة وللفرصة .

والسؤال الذي يتردد في أذهاننا : كيف رفضت أورشليم بالرغم من أن الله صنع فيها معجزات كثيرة ، كما أنها استمعت إلى عظات عديدة ، وأمثالاً شرح فيها الله تعاليمه لجمـوع كثيرة ؟ أورشليم قابـل فـيها السيد المسيح أفـراداً وجماعات ولكنها رفضت ، وكانت النتيجة خطيرة جدا ” هوذا بيتكم يترك لكم خراباً !” (لو ١٣ :٣٥). البيت في أورشليم كان يقصد به الهيكل ، والهيكل فـي ذلك الوقت كان مركزاً للحياة اليهودية وللعبادة .

احترس أيها الحبيب لئلا يكون عنادك هو السبب في تأخر حياتك بأية صورة من الصور ، فالعناد لا يأتي بأي ثمـر ، بـل يفقدك فرصا كثيرة الله يريدها لك ، وتكون النتيجـة الخـراب والضياع ، فالخراب كلمـة مؤذيـة للسـمـع تـؤدي إلى ظهـور ضعفات كثيرة ، وبالتالي لا تكون النتيجة سوى الندم .

لذلك انتهز الفرصة … 

+ اخدم 

+ تعلم 

 + ابن علاقة إنسانية جيدة . 

+ انتهز الفرصة في عملك . 

+ انتهز الفرصة في التربية .

 إلى آخر الفرص التي وضعها الله أمامك ، وضع أمامك السؤال الذي يطرحه الله عليك دائماً : ” كم مرة أردت ؟”، ولتكن إجابتك أن تسير حسب مشيئة ربنا وفقاً لما تصليه في الصلاة الربانية ” لتكن مشيئتُك ” في حياتي دائماً ، والتمتع بالخير الذي يريده الله لك. ولإلهنا كل المجد والكرامة من الآن وإلى الأبد. آمين. [5]

 

 أحذر التهاون وتذكر الدينونة  – للمتنيح أنبا يؤانس أسقف الغربية[6]

بعد أن تحدثنا إليك طويلاً يا أخانا عن “مراحم الله الواسعة” ومحبته للخطاة واستعداده لقبولهم مهما كانت خطاياهم، نود أن نمرر إليك ملاحظة هامة:

إياك أن تفهم خطأ مراحم الله الواسعة.. إياك أن تطمع في مراحمه أكثر من اللازم وتقول أنه محب للبشر وشفوق ولن يعاقب أولاده، لئلا تصبح نظرتك وفكرتك عن رحمة الله حافزاً لك على التهاون، ودافعاً للتمادي في حياة التراخي والشر، فكما أن الله رحوم فهو عادل أيضاً، وإن كانت “مَراحِمُهُ علَى كُلِّ أعمالِهِ” كما يقول داود النبي (مز١٤٥: ٩). ولن يكون الله رحوماً وليس عادلاً، فإن هذا يتنافى مع كماله الالهي.

قال القدِّيس يوحنا ذهبي الفم “قل لي يا من لا تؤمن بالعقاب العتيد، ما الذي جلب الطوفان المخوف في زمان نوح البار، وأغرق ساكني الدنيا قاطبة.. من أرسل البروق والصواعق علي أرض سدوم وعمورة وأحرق سبع مدن مع أولئك القتلة مضاجعي الذكور وأبادهم جميعاً.. من أغرق فرعون وجنوده في البحر الأحمر، من أباد الستمائة

ألف من اليهود في البرية، من أحرق محلة ابيرام، من أمر الأرض أن تفتح فاها وتبتلع قورح وداثان وابيرام أحياء، من قتل في أيام داود سبعين ألف نفس، من قتل من الأشوريين خمسة وثمانين ألفا في ليلة واحدة؟ فأي جواب لك ترد به على هذه كلها؟”.

أياك أن تطمع في رحمة الله بتطرف وبفهم خاطيء. استمع إلي قول السيد المسيح وهو يخاطب أولئك الذين أخبروه عن الجليليين الذين خلط هيرودس دماءهم بذبائحهم، والثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام “إنْ لم تتوبوا فجميعُكُمْ كذلكَ تهلِكونَ” (لو١٣: ٥).

قلنا قبلاً اننا الأن في زمن الرحمة وغداً سنكون في زمن العدل، وشتان بين طريقتي الله في معاملة البشر في الحالين!!، فقد تجسد الرب الإله وأتى إلى عالمنا وصنع فداء أبدياً لبني البشر، وسيأتي أيضاً دفعة ثانية في مجده ليدين الأحياء والأموات ويعطي كل واحد كنحو أعماله. وفِي مجيئه الاول “أخلَى نَفسَهُ، آخِذًا صورَةَ عَبدٍ، صائرًا في شِبهِ الناسِ. وإذ وُجِدَ في الهَيئَةِ كإنسانٍ، وضَعَ نَفسَهُ، وأطاعَ حتَّى الموتَ، موتَ الصَّليبِ” (في٢: ٧، ٨). لم يكن أحد يعرفه، أتى كراع يطلب الخروف الضال لكن في مجيئه الثاني سيأتي دياناً للأرض كلها، سيأتي في مجده ومجد أبيه يحيط به ملائكته وقديسوه. سوف لا يكون في مغارة حقيرة ومزود للبهائم، وسوف لا يكون محكوما عليه كأحد الأثمة، مصلوباً بين لصين، بل سيأتي جالساً على منبر حكمه العادل.. في مجيئه الاول كان لا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته، قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفيء، لكن حينما سيأتي في مجده سيأتي بصوت البوق والرعود وتساقط الكواكب وتزعزع قوات السموات، وانحلال العناصر محترقة بضجيج، في مجيئه الأول كان طويل الروح، متأنياً على الخطاة، لا يدينهم وهو الديان، حتى إنه قال للزانية “ولا أنا أدينك” (يو٨: ١١)، وقال لمن سأله أن يقول لأخيه أن يقاسمه الميراث “يا إنسانُ، مَنْ أقامَني علَيكُما قاضيًا أو مُقَسِّمًا؟” (لو١٢: ١٤). أحتمل المجدفين وسمع الشاتمين وسامحهم، لكنه في المجيء الثاني سيأتي دياناً عادلاً يعطي كل واحد حسب عمله.

في مجيئه الأول جاء ختناً (عريساً)، خطبنا لذاته، وقال لكل نفس في محبة ووداعة بلسان داود النبي “اِسمَعي يا بنتُ وانظُري، وأميلي أُذُنَكِ، وانسَيْ شَعبَكِ وبَيتَ أبيكِ، فيَشتَهيَ المَلِكُ حُسنَكِ، لأنَّهُ هو سيِّدُكِ فاسجُدي لهُ” (مز ٤٥: ١٠،١١) شبهنا بالعذارى اللائي ينتظرن العريس، وقدَّم في سبيل ذلك مهراً غالياً – دمه الذكي الكريم – لكن في مجيئه الثاني سيأتي كملك غاز، فاتح منتقم من قوم عصاة متمردين، سبق أن أرسل لهم رسل خير وسفراء سلام، لكنهم طردوا كل هؤلاء ولم يسمعوا لهم بل قتلوا من قتلوا وأهلكوا من أهلكوا ..

هذا هو المجيء الثاني، مجيء الرب للدينونة، يوم أعلان الحكم “تأتي ساعَةٌ فيها يَسمَعُ جميعُ الذينَ في القُبورِ صوتهُ، فيَخرُجُ الذينَ فعَلوا الصّالِحاتِ إلَى قيامَةِ الحياةِ، والذينَ عَمِلوا السَّيِّئاتِ إلَى قيامَةِ الدَّينونَةِ” (يو ٥: ٢٨). في ذلك اليوم لا يدري ماذا يفعل فاعلوا الإثم “مُلوكُ الأرضِ والعُظَماءُ والأغنياءُ والأُمَراءُ والأقوياءُ وكُلُّ عَبدٍ وكُلُّ حُرٍّ، أخفَوْا أنفُسَهُمْ في المَغايِرِ وفي صُخورِ الجِبالِ، وهُمْ يقولونَ للجِبالِ والصُّخورِ:”اسقُطي علَينا وأخفينا عن وجهِ الجالِسِ علَى العَرشِ وعَنْ غَضَبِ الخَروفِ، لأنَّهُ قد جاءَ يومُ غَضَبِهِ العظيمُ. ومَنْ يستطيعُ الوُقوفَ؟” (رؤ ٦: ١٥- ١٧) . لكن شكراً لله الذي أطال أناته علينا وأعطانا فرصة لنصنع أثماراً تليق بالتوبة، ورفع الفأس في حنو عن أصل الشجرة، وتركها هذه السنة أيضاً، فلنفتد الوقت لأن الأيام شريرة، ولننتبه الى ذواتنا، ونستيقظ من غفلتنا، لأن نهار حياتنا قد بدأ يميل.

 

المتنيح أنبا بيمن أسقف ملوي

إرادة الله وحياتنا قضية الإرادة مسيحياً

في هذا المقال نعالج قضية إنسانية هامة ، هى مدى علاقة إرادة الإنسان بإرادة الله . ونود أن نركز على الجانب الكياني والروحى من واقع عملي . تاركين الجوانب الفلسفية والصراعات الفكرية اللاهوتية في هذا المجال

الإرادة كيانياً:الله خلق الإنسان كائناً فريداً .. ومن ثم فالإرادة مرتبطة صميمياً بحريته ، التي هي صورة الله في أعماقه . وإرادته خيرة طالما هي خاضعة لمشيئة الله ، وهي ساقطة عندما تبتعد بحريتها عن المجال الإلهى . لم تكن في الإنسان ثنائية إرادية ، ولكن السقوط في التجربة ، أنتج في الإنسان هذه الثنائية المريرة   والرسول بولس عندما عبر عن هذه الثنائية ، في رسالته إلى رومية . لم يتحدث عن ثنائية كيان في الإنسان . وإنما التمزع والتضارب والتناقض كان في الكيان الواحد كله . أى أنه عندما يضع الجسد ضد الروح ، في ثنائيته الشهيرة الجسد ضد الروح ، إنما يعنى الإرادة الهابطة والإرادة السامية وأما البدن والنفس والروح ، أي الكيان الإنساني كله ، فهو الذى يعانى بصمات السقوط ونتائج العصيان .. فالجموح الذى أصاب الإنسان ، أصابه في جسده ونفسه وفكره جميعاً . ولكن الصورة الإلهية لم تنمح نهائياً من الإنسان . يقول في هذا معلمنا بولس ” فأني أعلم أنه ليس ساكن في ، أي في جسدي ، شئ صالح . لأن الإرادة حاضرة عندى ، وأما أن أفعل الحسني فلست أجد ، لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذى لست أريده فإياه أفعل . فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل ، فلست بعد أفعله أنا ، بل الخطية الساكنة في ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائى يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي ، ويحى أنا الإنسان الشقى من ينقذني من جسد هذا الموت ” (رو ۷ : ١٨ – ٢٤) .

الرب يسوع وإرادتنا : 

لما وجد الله أن الإنسان لم يثبت في الحرية الحقيقية ، وانكسرت قوة إرادته التي كانت تستمد فاعليتها من طاعة البر .. نزل بنفسه إلى عالمنا ، وأخذ ما لنا وأعطانا ما له . ووهبنا من خلال حياة الشركة المقدسة معه ، طبيعة جديدة وحياة جديدة وإرادة جديدة . ترك الرب إرادة الإنسان حريتها : ” أتريد أن تبرأ ؟ ” .. ” هأنذا واقف على الباب وأقرع إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه ” .. ” كم مرة أردت .. ولم تريدوا ” . ودعم إرادة الإنسان بوسائط الخلاص : ” تكفيك نعمتى لأن قوتي في الضعف تكمل ” .. ” أستطيع كل شيء في المسيح الذى يقويني ” .. ” شكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ” . دعانا أن نطلب العمل بمشيئته نطلب في الصلاة الربية أن تسود مشيئته علينا بملء حرية إرادتنا ، كما هي سائدة في السماء .

إرادتنا فيه :

على ذلك كل من يلتصق بالرب تتدعم إرادته الروحية ، وتتلاشى تدريجيا الثنائية التي يعاني منها . حتى يصبح فعل الخير شبه طبيعة سائدة في حياة أولاد الله (رو ٦ : ٢٢) . على أن حفظ الإرادة من الهبوط يحتاج إلى جهاد مرير ، ومعاناة وصلب للأهواء ويقظة لحروب الجسد وفخاخ العدو . الأمر يحتاج إلى استماتة في حفظ الوصية .. يقول الكتاب المقدس وأما دانيال فقد وضع في قلبه ألا يتنجس بأطايب الملك وخمر مشروبه . وسير الشهداء ترينا التصميم المقدس الحازم في حفظ الوصية ، ضد كل تهديد وإغراء، وعندما أراد فرعون أن يتفاوض مع موسى في قضية إخراج شعب الله من نير العبودية قال له موسى ” لا يبقى ظلف ” . ” من سيفصلنا عن محبة المسيح ، أشدة أم ضيق . أم إضطهاد أم جوع أم عرى أم خطر أم سيف .. في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا ” (رو ۸ : ٣٥ – ٣٧) .

كيف أعرف مشيئة الله ؟

هناك أمور يستطيع المؤمن العادى أن يتعرف على مشيئة الله فيها بوضوح . فعندما يقف في مفارق طرق ، بعضها نير روحاني ، والبعض الآخر يتسم بأعمال الظلمة ، فإنه سرعان ما يدرك الفارق بين ما هو حق وجليل وصيته حسن ، وبين ما هو من أعمال إبليس وحيله الرديئة . فاللون الأسود واضح ، واللون الأبيض واضح جدا ، وأولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس ظاهرون أيضا . ولكن هناك مواقف أخرى لا تكون بهذا الشكل . فإما أن تكون كلها طاهرة ونيرة ومطلوب من المؤمن أن يحدد موقفا واحدا من هذه كلها أو أن يكون العدو قد غير شكله ، وأخذ شكل ملاك ، وألبس موقفه شكلاً مزيفاً ، يصعب أحياناً تحديد الفارق بينه وبين مشيئة الله الطاهرة المقدسة . ولكي نعرف إرادة الله في حياتنا ، لابد أن نفهم ولو القليل في طبيعة الله ، كما تعلنه المسيحية لنا الله في اللاهوت المسيحي هو وحدة ثلاثة أقانيم .. إنه واحد .. إنه وحدة الحب ، فجوهر الله كما يعلن الكتاب المقدس المحبة .. المحبة منذ الأزل وإلى الأبد. وهذه المحبة هي في الحق هو الحق .. وهو الحياة الحقيقية ، والحياة هي نور الخليقة كلها . فالله إذا وحدة حب وحق وحياة ونور وفرح لا ينطق به ومجيد .

إرادة الله : 

ومن هذا المنطلق ، يمكننا أن نفهم انعكاس هذه الطبيعة الممجدة على مقاصد الله من الإنسان . فالإنسان خلق على صورة الله ومثاله فى الحرية والإرادة والنطق والقدرة على الإبداع ، إنه مدعو أن يحقق كيانه ، من خلال تحقيق إرادة الله فيه . الله يريد له الوحدة ، ولا يقبل له التمزع ، إنه يريد له الحياة ، ولكن الموت دخل إلى البشرية بحسد إبليس وهو يدعوه إلى الفرح ، وأما الحزن فهو أحد ثمار الخطيئة والعصيان . فيوم أن يسعى الإنسان إلى تنفيذ مقاصد الله نحوه ، فإنه يحقق متطلباً كيانيا ، ويستجيب إلى نداء إنسان . داخلی . والإنسان خلق سيداً على الخليقة المادية كلها . ودعى إلى أن يسوع على الأرض والكائنات أجمعها ، فهو كاهن الخليقة وشفيعها أمام الله . يجمع في طبيعته العالم الأرضى والعالم السمائي . إنه يحتضن الخليقة كلها في كيانه ، ويقدم التسبيح والشكر لله نيابة عنها . فيوم أن ينفذ الإنسان إرادة الله فيه ، فإنه يحقق الدور الذي من أجله خلق على الأرض رئيساً وسيداً . وإرادة الله كما يعلنها لنا بولس الرسول ، أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون . هى إرادة صالحة في كل أهدافها . وهى إرادة مرضية في كل طرقها ووسائطها وهي إرادة كاملة ، لأنها عمل الروح القدس في حياتنا لقد كان آدم في الجنة يعرف جيداً إرادة الله ومقاصده الصالحة ، ولكنه بعد السقوط صار تفكيره جسدياً ، وضعفت الرؤية الروحية. وجاء المسيح ليعيد إلينا  البصيرة ، ووهبت لنا الكنيسة المعمودية والميرون المقدس ، لندرك الحق ونحبه فنحيا له وهي صالحة أولاً أى أنها لا تبغى إلا الصلاح وحده فمشيئة الله لا ترضى بطريق غير صالح مهما كانت الظروف أو الأحوال ، لأن الله نفسه صالح وإلى الأبد رحمته . وهى لا تقبل ما هو للذات . لأن الذين يسلكون حسب الجسد لا يرضون الله . وهي مرضية بمعنى إنه إن كان الهدف صالحاً فالوسيلة أيضاً يلزمها أن تكون بنفس مستوى الهدف ، فالمسيحية لا تؤمن بنظرية ميكافيللي القائلة (الغاية تبرر الوسيلة) . الوسيلة في المسيحية كالغاية تماماً ، كلاهما يلزم أن يكون طاهراً وصالحاً ، لأن المسيح هو الطريق ، وهو الألف والياء ، البداية والنهاية . ومن اتخذ المسيح منهج حياته فلابد إن يبدأ به حياته وإليه تنتهى مسيرة خلاصه وهي كاملة بمعنى أنها لا تقف عند حد الصلاح البشرى أو الفضائل الاجتماعية ، وإنما تتعدى مشيئة الجسد ومشيئة الرجل لتصل إلى طبيعة الذين ولدوا من الله . هذه الطبيعة السماوية المعجزية التي لم يفهمها نيقوديموس . ولكن شرح معالمها الرب يسوع إنها ولادة من فوق . فالمشيئة الإلهية في حياة الناس تكون صالحة في هدفها ، مرضية في طرقها ، وكاملة عندما يكون روح الله هو العامل في حياة الإنسان . كما عبر المغبوط بولس ” أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في ” (غلا ۲ : ۲۰) . الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله (رو ٨ : ١٤) . والمعالم الأربعة التي ترشد الإنسان في تحسسه مشيئة الله في حياته تتحدد فيما يلي: 

١-روح الله الساكن فينا

في صلاة الساعة الثالثة تعلمنا الكنيسة في تلاوة الإنجيل المقدس أنه متى جاء المعزى الروح القدس الذى سيرسله الآب باسم الرب يسوع فهو يعلمنا كل شيء ويذكرنا بكل ما قاله لنا الرب . والقديس يوحنا يشرح هذا قائلا : ” وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد ، بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شئ وهي حق وليست كذباً . كما علمتكم تثبتون فيه ” (١يو ۲ : ۲۷) . أليس هذا هو تحقيق الوعد النبوى الذي أشار إليه بولس الرسول في العبرانين ” أجعل نواميسي في أذهانهم وأكتبها على قلوبهم وأنا أكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبا . ولا يعلمون كل واحد قريبة وكل واحد أخاه قائلا أعرف الرب ، لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم لأني أكون صفوحاً عن أثامهم ، ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم فيما بعد فإذ قال جديداً عتق الأول . وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال (عب ۸ : ۱۰-۱۳) . ومعنى هذا أن الإنسان الروحي يلزمه أن يتدرب على أن يسأل روح الله الساكن فيه وأن يستشير الرب الذي أرتضى أن يسكن صهيون أفضل من جميع مساكن يعقوب وصهيون هذه هي قلب المؤمن وحياته الداخلية . إن معاملات الله الروحية مع أولاده تتسم بالعمل الباطني ، (سرى) وكل من يفقد هذا التعامل يحرم نفسه من أعظم عطية يمنحها الله للإنسان المؤمن ، وهو إنه يتكلم الله معه بالسلام في القلب وليس في الخارج ولا بالرؤى والأحلام .

٢- الكتاب المقدس نور وسراج

ولقد أعطى الرب لنا الكتاب سراجاً ونوراً حتى إذا ما أردنا أن نعاين النور نقول له ” بنورك يارب نعاين “النور” ومن خلال اكتشاف الوصية وانفتاح البصيرة لها ، والتهاب القلب بحرارة الحب نحوها ، وانجذاب الروح نحو تنفيذها . مهما كانت صعبة وشديدة في مظهرها ، فإن هذا يعنى أن المؤمن يتحسس طريقة بوضوح وليس في ظلال أو ظلمه . كل الذين تدربوا على أن يعرفوا مقاصد الله من خلال الكتاب المقدس ، تعزت نفوسهم للغاية ، وأكدت لهم خبراتهم الروحية أن نور  الكتاب كاشف وكلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين خارقة إلى  مفرق النفس والروح . تستطيع أن تميز ما هو نفساني مما هو روحاني ، وبالتالي أيضا تكشف ما هو جسداني لأن ما هو للجسد عداوة الله الصالحة الأزلية .

٣– الكنيسة وخبرة آبائها

لا يعيش المؤمن في فراغ وإنما هو عضو في الجسد الواحد ، ولكل مؤمن أب اعترافه ، له مرشده ، عنده الشيخ المختبر الذي تقدم في المسير الروحاني ، وتدرب على معرفة الحذر من المزالق والانحرافات والمتاهات ، وعرف كيفية النهوض في المسير باستقامة دون زلل . مثل هؤلاء في الكنيسة مشاعل في الطريق يلجأ إليهم المؤمن لكي يتأكد من النور الذي فيه من خلال النعمة التي فيهم .. هم لا يعطون فتوى شخصيه أو مشيئة خاصة ، ولكنهم يشيرون إلى صحة أنات الروح التي في القلب ، وسلامة الوصية المكتشفة في الكتاب ، ومدى أمانة الإرادة التى للمعترف في تنفيذ هذه الوصية وطاعة لمسات روح الله في الداخل طوبى لمن عثر على مرشد روحاني وأب نصوح ، فإنه ينمو سريعاً لأن خبرة الكنيسة وزخمها الروحى يحمله هؤلاء الأعمدة ليشددوا كل من يريد أن يصعد إلى جبل الرب في أمانة واستقامة قصد يقول البستان الذين بلا مرشد كأوراق الخريف يسقطون ” إن الإرشاد في الكنيسة لا يتعارض مع طلب مشورة الروح في القلب ولكن الاثنان يتكاملان ويتفقان ويتحدان ويتواكبان لأن الروح في الكنيسة واحد

٤- يفتح ولا أحد يغلق

بقى الأمر الأخير وهو أن الله يعلن لأولاده مشيئته عن طريق فتح الأبواب المغلقة ، وغلق الأبواب المفتوحة ألم يقل عن مسيحه في سفر أشعياء ” وأجعل مفتاح بيت داود على كتفه فيفتح وليس من يغلق ويغلق وليس من يفتح (أش ۲۲ : ۲۲) . وهو القائل عن نفسه في سفر الرؤيا أيضا ” هذا يقوله القدوس الحق الذي له مفتاح داود الذي يفتح ولا أحد يغلق ويغلق ولا أحد يفتح ” (رو ۳ : ۷) فهو وحده الذي يهيئ الطريق ويحطم المتاريس ويرتب المناسبات بطرق معجزية ليعلن ويكشف لأولاده عن مقاصده . وهو أيضا الذي يقوى مغاليق الأبواب حتى يحمى أولاده ويجعل تخومهم في سلامة (مز١٤٧) . وعلى المؤمن أن يسير . عاملاً بما يرشده الرب دون أن يكسر باب مغلقاً ، ودون أن يهرب من باب قد فتح له .. إنه يشبه مسيرته بالأبواب التي في المطارات الدولية عندما يقوده الرب إلى إحداها سيفتح له الباب بطريقة معجزية ليدخل إلى الدفء والراحة وليمر فى الممرات المباركة التي تقود إلى المراعي الخضراء ، أما إذا أغلق الأبواب فلينتظر الرب حتى تبدأ الأشارة الخضراء مرة أخرى ويفتح الباب . مبارك الرب الذى لا يدعنا لأنفسنا وحدنا بل هو يسير أمامنا ولنهتف مع مرنم إسرائيل الحلو ” الرب يرعاني فلا يعوزني شئ فى مراعى خضر يسكنني على ماء الراحة يوردني إن سلكت في وسط ظلال الموت فلا أخاف شراً لأنك معى عصاك وعكازك هما يعزيانني ” . 

ما الذى يدعم إرادة الله في حياتنا 

ولعل أول ما يعطى إرادة الله أن تعمل فينا هو :

١-الإيمان الإختبارى

فالرسول بولس يقول ” لأننى عالم بمن آمنت ” .. فإيمانه إيمان اختبارى ، ولأجل هذا  هو موقن أن الله قادر أن يحفظ وديعته إلى اليوم الأخير (۲ تي ۱ : ۱۲).هناك إيمان وراثى فقط ، وهناك إيمان شكلى مظهرى ، وهناك إيمان سطحى لكن هناك إيمان اختبارى من نوع إيمان أبينا إبراهيم الذى أختبر حياة الله في قلبه، كان مستعداً أن يذبح ابنه طاعة لصوت الله  ومن نوع إيمان العذراء مريم التي آمنت بكل ما قيل لها من قبل الرب واستسلمت تماماً لمشيئة الله في طاعة مذهلة ” ليكن لي كقولك ” .. الشاب الذي ليس له إيمان اختبارى باطنى لا تخضع إرادته لإرادة الله ، لأنه لا يعرفها ، ولم يختبرها . وهو إنسان طبيعي يعتبر كل أمور الروح جهالة كما يعبر بولس الرسول أما الشخص المؤمن الحقيقى فإنه يفهم مقاصد الله ويعرف رسالته في الحياة ويوقن بأهمية السير وراء الرب في الطريق الضيق . لأجل هذا هو مستعد أن يضحى بكل شيء في سبيل الاحتفاظ بالطريق والحق والحياة . يقول معلمنا بطرس الرسول : ” لأن زمان الحياة الذي مضى يكفينا لنكون قد عملنا إرادة الأمم سالكين في الدعارة والشهوات وإدمان الخمر والبطر والمنادمات وعبادة الأوثان المحرمة ” (١بط ٤ : ٣) . فالذين تجددت حياتهم بالمعمودية لا يستطيعون أن يعملوا إرادة الأمم ولا يستطيعون أن يعودوا إلى الأركان الضعيفة ، ولا يمكنهم أن يمارسوا أعمال الظلمة التي كانوا يعملونها قبلا .

٢-الحب الإلهى

فمحبه الله التي تنسكب في قلوبنا بالروح القدس هي وحدها القادرة أن تمنح القوة للصمود وتعطى للإرادة صلابة وللضمير يقظة وللروح حرارة ولهيبا فعندما نطالع سير القديسين والشهداء ونلاحظ المواقف الجبارة التي صمد فيها هؤلاء الأبطال . يكمن وراء هذه كلها حرارة المحبة التي ملأت قلوبهم ودفعتهم إلى أن يفرطوا في كل شيء حتى حياتهم وبيوتهم وأولادهم ليكونوا أمناء للذى أحبهم ومات لأجلهم وقام . فلنذكر الشماس الشهيد تيموثاوس الذى أراد الوالي أن يغير إرادته من جهة الإيمان فأتوا إليه بزوجته العروس الشابة وكان اسمها مورا ، وطلبوا منها بالقوة وتحت الضغط والإرهاب والتهديد أن تغرى زوجها العريس وتتوسل إليه بكافة التأثيرات العاطفية لكي يرجع عن إيمانه بالمسيح ، وعند اقترابها إلى زوجها المقيد. إذ بهذا الشاب صاحب الإرادة القوية يقول لأبيه الواقف بجواره : من فضلك غط رأس زوجتي مورا لكى لا أشتم فيها هذه الرائحة الكريهة فتفسد إيماني .. ولم تكن عندها روائح كريهة ولكنه رأى فى عدم عفتها وحشمتها رائحة كريهة ، وقد وعظها بكلام قوى وقال لها تعالى معى إلى معركة الاستشهاد الجميلة ، وظل يكلمها حتى تأثرت وأعلنت إيمانها للوالي ، الذي أمر بشد شعرها ففرحت كثيراً وقالت له : هلم بسرعة لأنك تعطيني فرصة لأكفر عن خطيتي لأنك كنت تريد أن أسقط زوجى بشعرى والآن سأنال الخلاص بتعذيبك لي عن طريق شعرى .. ويحكى لنا تاريخ هذا الشهيد إنه أتفق مع زوجته عندما يصلبان ألا ينعس واحد منهما ولا ينام إلى اللحظة التي تفارق فيها الروح الجسد . قال أحد الشهداء للحاكم ” استمروا في تعذيبنا اطحنونا إلى مسحوق فإن أعدادنا تتزايد بمقدار ما تحصدوننا ” وقال آخر عندما اقتلع الوالى عينيه : ” إنك باقتلاعك عينى الجسديتين ضاعفت من حدة البصر الروحي ” . لقد كان وراء هذا الصمود العجيب حب شديد للرب يسوع ، ونحن يعوزنا أن نحبه حبا صادقاً حتى تتجمع إرادتنا وتتحد في إرادته ، ويصير هو الكل في الكل ، الألف والياء ، البداية والنهاية.

العامل الثالث الذي يدعم الإرادة ويصقلها ويوجهها إلى الخير هو :

٣- صلب الجسد وقهر الذات

إن النفس لا يمكنها البلوغ إلى حرية مجد أولاد الله ما لم تقمع شهواتها ، والرب لم يُصلب إلا لكى نصلب نحن شهواتنا ، ولم يمت إلا لأجل أن نموت عن الخطية ونحيا له ، أتريد أن تخلص وتتحرر من نير العبودية ومذلة الشهوات ؟ إذا لابد أن تقاوم ميولك وأهواءك وتتمسك بزمام الحياة الداخلية ، وتكبح جماح شهواتك وتميت النزعات الجسدية وتقوم وتحمل صليب يسوع ، وتنكر ذاتك ، وترفض كل ما هو عتيق فاسد ” ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات “(غل ٥ : ٢٤) عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطية . لأن الذى مات قد تبرأ من الخطية .. كذلك أنتم أيضاً احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية ولكن أحياء الله بالمسيح يسوع ربنا ” (رو ٦ : ۶ و ۷ و ١١) فإن كنا أمواتاً عن العالم فنحن أحياء بالمسيح وفى المسيح وللمسيح .. لنتذكر القديس العظيم الأنبا أنطونيوس الذى وقف أمام جثة والده وكان قد ترك له أطيانا كثيرة وممتلكات عدة . قال له ها أنت خرجت برغم أنفك ، أما أنا فسأخرج بإرادتي قبل أن يخرجونى كارها ، لقد وقف ضد ذاته وممتلكاته ليقتني الحياة الأبدية التي هي الحياة الحقيقية . إن صلب الجسد لا يعنى مقاومة الشهوات الجسدية الحسية فقط ولكنه يعنى أيضا محاربة الشهوات النفسية مثل الغضب والهوى والكبرياء والحقد . فداود النبي بإخضاعه القوة الغضبية وإماتته روح الانتقام من شاول أظهر قوة أشد مما أظهرها بقتله جليات الجبار . يقول الكتاب المقدس ” لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله .. لإنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون ، ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون ” (رو ۸ : ۷ و ۱۳) . يقول أحد الآباء الروحيين : الله روح كلى البساطة فما لم تتجرد بالمرة عن عبودية الشهوات الحسية لا نستطيع أن نلهج معه ونتأمل وصاياه . إن النفس الروحانية مائلة إلى الروحيات ، وإرادتها لا تجد راحة إلا في الشركة مع الله ، والنفس الجسدية تستعبد لشهواتها حتى أن أعظم عقاب ينزله الرب على إنسان ، هو أن يسلمه لشهواته وميوله الرديئة . ” وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله فى معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق ” (رو ۱ : ۲۸) . 

وهناك عامل آخر يدعم الإرادة الروحانية في حياتنا هو :

…. في حفظ الوصية : 

وفي هذا يقول الكتاب المقدس فى العهد القديم ” أما دانيال فجعل في قلبه إنه لا يتنجس بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه ” (دا ۱ : ۸) .لقد صمم على هذا .. لقد رتب حياته على هذا . لقد وضع في قلبه أن يموت أفضل من أن يكسر وصيه الله . هذا العناد المقدس هو الذى يعطى للإرادة أن تكون صلبة ، ويسمح للروح القدس أن يدعم اتجاهنا الداخلي نحو مشيئة الله . لابد أن إغراءات كثيرة حاربت دانيال مثل كلام الموظفين في القصر ، ودسم المأكولات ومناظرها الشهية ، ولابد أيضاً أن تهديدات وجهت خشية عقوبة الملك التي قد تنصب عليهم وعلى الموظفين في القصر ، ولكن دانيال وضع في قلبه ألا يتنجس .ضع في قلبك ألا تتنجس بالشهوة الجنسية ، صل للمسيح كثيراً من أجل هذا وقل له أعطني القوة لكي أصمد وأصمم على حفظ الوصية ، وكما قال أيوب عهداً قطعته ألا أتطلع إلى عذراء هبنى نعمة هذا العهد الذي يحميني من النظرات الشريرة والأفكار الدنسة والعادات الرديئة . يحكى في تاريخ الكنيسة عن شابة أتى إليها أحد الشبان مراراً يداعبها ، وفي آخر مرة قالت له ماذا تريد منى ؟ قال لها عيناك الجميلتان قد ملأتا قلبي هوى نحوك . فقالت له تمهل ، وسرعان ما أحضرت مخرازاً وقلعت مقلة إحدى عينيها وقالت له تفضل . ولما رأى الشاب الدم ينزف غزيراً هذا تأثر تأثراً روحياً شديداً حتى تاب توبة حقيقية . إن إرادة الفتاة الصلبة تسربت قوتها إلى الشاب الشهواني فمنحته قوة لغلبة أهوائه وشهواته . ضع في قلبك إلا تنجس أذنك بنكت قبيحة ، أو هزار سخيف من الناس والشلل المنتشرة حولك . إذا صممت على هذا فسوف يعمل الروح على حمايتك من هذه العثرة . ضع في قلبك ألا تكره أحدا أو تحقد على أحد أو تظن السوء في أحد ، وكلما رغب الشيطان في زرع عداوة أو فكر شرير في داخلك أقتلع أنت الزوان بالصلاة وحسن النية وأعمال المحبة نحو الذين يضايقونك عامل آخر يدعم الإرادة الخيرة في حياتنا :

٤- الغيرة في الحسني

إذا كان الشباب يميل إلى التقليد والاستهواء والمشاركة فإن الكتاب المقدس وضع لنا أن نقلد ونقتدى بالقديسين فقط ” كونوا متمثلين بي كما أنا أيضا بالمسيح “(١كو ۱۱ : ۱) . وكلما أقترب المؤمن من القديسين عرف فقره وضعفه ومسكنته ، واختفت منه كبرياؤه وغطرسته وإكتفائيته . فالكتاب يوصينا أن ننظر إلى نهاية سيرتهم ونتمثل إيمانهم ، ونتأمل في غيرتهم وقدرتهم على قهر نفوسهم ، ومواظبتهم على العبادة وتدريب أنفسهم على الاتضاع والزهد واحتقار غنى العالم وأباطيله . 

إن المسيحى الحقيقى كالنحلة النشيطة تجمع عسلها من جميع الأزهار الجميلة يتعلم من واحد الصبر ، ومن آخر الاتضاع ، ومن ثالث الشجاعة ، ومن رابع الإيمان ، ومن مرشد روحي الوداعة ، ومن أحد قديسى الكتاب الطاعة والقداسة . ومن الرب يسوع نفسه نستطيع أن نقتدى بكمالاته لأنه هو الذى قال بفمه الطاهر ” تعلموا منى لأنى وديع ومتواضع القلب ” (مت ۱۱ : ۲۹) . وقد علمنا الآباء أن من يريد أن يتعلم إحدى الفضائل يلتصق بقديس أختبرها وامتلأ من ثمارها ومواهبها . وعندما تكلم الرسول بولس عن المواهب الروحية في رسالته الأولى إلى كورنثوس طوب عملية الاجتهاد في طلبها إذ قال ” ولكن جدوا للمواهب الحسنى وأيضاً أريكم طريقا أفضل ” (كو ۱۲ : ۳۱) . وهذا الطريق الأفضل هو المحبة التي قال عنها في (١كو : ١٣ : ١٣) ” أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة هذه الثلاثة ، ولكن أعظمهن المحبة ” . وهكذا جمع بين المحبة. والمواهب الروحية بقوله في مطلع الإصحاح الرابع عشر من نفس الرسالة ” أتبعوا المحبة ولكن جدوا للمواهب الروحية ” . ومعنى هذا أن الغيرة الحسنى مطلوبة ، ولكن على شرط ألا تخرج عن دائرة المحبة التي لنا في المسيح ، لئلا تدخل في نطاق الذات والغيرة المرة والعداوات ، هذه التي تتجه نحو جهنم . 

معطلات الإرادة 

ولكن لماذا لا أستجيب بسرعة لإرادة الله ؟

 إن أول معطل هو :

١البر الذاتي والطموح الذاتي : 

إن أول معطل يضعف إرادتنا عن أن تتحد بإرادة المسيح هو البر الذاتي إحساسنا أننا أطهار وليس فينا عيب حتى إذا ما ذهبنا لأب الاعتراف لا نجد ما نعترف به لأن كل حياتنا طيبة وأخلاقنا جيدة . هذه الحالة تنتج من دوراننا حول  أنفسنا ومقارنة حياتنا بحياة الشبان الذين حولنا في المعاهد والكليات ولكن إن فحصنا أنفسنا على ضوء كلمة الله فإننا نكتشف أننا في الموازين إلى فوق . ونتأكد من عوزنا واحتياجنا ، وقد سبق الرب وقال ” طوبي للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات ” . والذى يزيد البر الذاتي فينا هو فتح أذاننا لسماع المديح من الناس ، وخاصة عندما ننجح في بعض الأعمال والتصرفات والخدمات … وهكذا يدخل الشيطان من خلال تركنا حياة التوبة وفحص الذات فحصا دقيقاً وجعلنا نلتفت إلى آراء الناس ومديحهم وبذلك نفقد الإرادة الصالحة . ومن الأمور التي تميت الإرادة الصالحة في حياتنا المجد الباطل . فهو لص يسرق كل أمتعتنا ويسلبنا كل ثمار جهادنا . قال القديس أغريغوريوس ” إن المجد الفارغ لص مخفى متنكر يرافق المسافر كأنه مثله عابر سبيل ، وبعد ذلك يختله ويقتله حينما يكون أقل حرصاً على ذاته ويظن أنه في سلامة ” . وقال عنه القديس باسيليوس ” إنه يختطف الكنوز الروحية بحلاوة وهو يعد أنفسنا بلذة ” . فالله لا يرفع متكبر بل يقاومه ، وإنما يرفع المسكين والمحتاج والمتذلل له إذ مكتوب عنه ” المقيم المسكين من التراب . الرافع البائس من المزبلة (مز ۱۱۲) . وهناك تدريب نافع أعطانا إياه الرسول بولس وهو ” فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً فافعلوا كل شئ لمجد الله ” (١كو ۱۰ : ۳۱) . ” إن كان يتكلم أحد فكأقوال الله وإن كان يخدم أحد فكأنه من قوة يمنحها الله لكي يتمجد الله في كل شئ بيسوع المسيح الذى له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمین ” (١بط ٤: ١١) . ولنستذكر قول سليمان الحكيم : ” كبرياء الإنسان تضعه والوضيع الروح ينال مجدا ” (أم ۲۹ : ۲۳)

ومن الأمور التي تضعف إرادتنا التي لنا في المسيح :

٢- كلام الناس والضغط الإجتماعى : 

فإن الشاب (الإنسان) يعيش في مجتمع ، ومن الأمور الطبيعية أن يكون للجو الاجتماعي تأثيره ، ولكن الشاب (الإنسان) الروحى لا يدع حياته كريشة في مهب الرياح ولا يسمح لمبادئه واتجاهاته وأهدافه أن يحددها الناس . وإنما هو حريص على أن تبقى الحياة الداخلية مغلقة مكرسة تماماً للرب أختى العروس جنة مغلقة . عين مقفلة . ينبوع مختوم ” (نش ٤ : ١٢) . وعلى ذلك يستطيع المسيحى أن يؤثر في الناس دون أن يتأثر بالأمور الرديئة التي في الناس . فالرب يسوع شبه المؤمنين بالملح الجيد ، والملح يعطى للتربة ملوحته دون أن يأخذ من الأرض عفونتها .. والنور يبدد الظلمة والظلمة لا تدركه. وكلما كان الإنسان متأكداً من رسالته ومتعمقا صدق أهدافه فإنه لا يهتز لما يقوله الناس . يذكر في تاريخ الكنيسة إن أثناسيوس الرسول قيل له : العالم كله ضدك يا أثناسيوس ! .. فقال : وأنا أيضاً ضد العالم … والرسول بولس يقول لأهل كورنثوس في الرسالة الأولى وأما أنا فأقل شئ عندى أن يحكم في منكم أو من يوم بشر . بل لست أحكم فى نفسى أيضاً. فإني لست أشعر بشئ في ذاتي لكنني لست بذلك مبررا . ولكن الذى يحكم في هو الرب . إذا لا تحكموا في شئ قبل الوقت حتى يأتى الرب الذى سينير خفايا الظلام ويظهر آراء القلوب ، وحينئذ يكون المدح لكل واحد من الله ” (١كو ٤ : ٣ – ٥) . ويعطينا الكتاب المقدس نموذجاً رائعاً لغلبة الأجواء الاجتماعية، وهو شخصية موسى النبي الذي بالإيمان .. ” لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون مفضلا بالأحرى أن يذل مع شعب الله عن أن يكون له تمتع وقتى بالخطية . حاسباً عار المسيح غنى أفضل من خزائن مصر” (عب ١١ : ٢٤) . وفي هذا الصدد يقول الرب يسوع ” كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض ” (يو ٥ : ٤٤) ، وفى موضع آخر يقول ” ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسناً ” (لو ٦ : ٢٦) . أي أن المسيحى لا يسعى إلى إرضاء الناس في اتجاهاتهم المنحرفة ولكنه إذ يأخذ المسيح في قلبه فاديا ومخلصاً ومرشداً وموجهاً ، يستمد من الروح القدس الإلهام والقيادة ويدع الناس يقولون ما يشاءون ويحرص كل الحرص أن يعيش بضمير صالح بلا عثرة أمام الله والناس .

٣– الاندفاع

ومن الأمور الخطيرة التي تضعف الإرادة الروحية الاندفاع وعدم التريث ، وأخذ القرارات من واقع إرادة الذات ، والفكر البشرى دون التريث واستشارة الرب في كل شئ ، هذا الاندفاع قد أورث كثيرين هلاكا . فلنذكر مثلا شاول الملك الذي اندفع وقدم الذبيحة لأنه وجد أن صموئيل النبي قد تأخر ، ومع أن تقديم ذبيحة الله أمر ليس رديئاً ، لكن صموئيل أفهم الملك بعد وصوله أن الله لم يقبل منه تقديم الذبيحة لأنه ليس كاهناً ، ولأنه اندفع ولم يطع الوصية .. وأفهمه أن : ” الاستماع أفضل من الذبيحة ، والإصغاء أفضل من شحم الكباش ” (١صم ١٥ : ۲۲) ، ونزل القصاص على شاول ، إن الله سيقسم مملكته كما تمزقت جبة صموئيل عندما أمسك به شاول بعد الحديث الذي دار بينهما . ويقال في تاريخ الكنيسة إن أريوس إندفع في إحدى العظات وشرح آية ” أبي أعظم منى ” شرحاً منحرفاً ولأجل قساوة رقبته رفض أن يتراجع ، وملك عليه الشيطان وأخذ يدعم فكره بالآراء المنحرفة والتفسيرات الخاطئة للآيات . وقد يندفع الشاب في الحديث مع والديه أو أخوته ومثل هذا الاندفاع يسبب مشكلة خطيرة في البيت تسبب نكدا وغما وخسائر كثيرة ، لأجل هذا نحن نحتاج إلى تدريب أنفسنا على التريث والهدوء فى الفكر والقلب والتصرف وإعطاء الرب  فرصة أن يقود سلوكنا وتصرفاتنا مهما كانت صغيرة أم كبيرة ، بسيطة أم هامة . في كل شئ لنتدرب على أن نعطى روح القيادة الحقيقية .

٤- المفاوضات مع العدو : 

عندما ارسل الرب موسى لكى يخلص شعبه من العبودية يشرح لنا سفر الخروج كيف أن فرعون رفض أن يسمع لموسى وهرون ، وكيف شدد النير على شعب الله فأرسل الرب ضربات كثيرة على المصريين ، وهنا حاول فرعون أن يدخل مع موسى وهرون في مفاوضات ، فمرة يقول ” أنا أطلقكم لتذبحوا للرب ..ولكن لا تذهبوا بعيداً . صليا لأجلى ” (خر ۸ : ۲۸) ، ومرة أخرى يقول لهم: ” أذهبوا اعبدوا الرب .. ولكن من ومن هم الذين يذهبون ” (خر ۱۰ : ۸). ولما رفض موسى هذه العروض اقترح فرعون الذي يمثل الشيطان ” اذهبوا اعبدوا الرب غير أن غنمكم وبقركم تبقى .. فقال موسى .. فتذهب مواشينا أيضا معنا . لا يبقى ظلف ” (خر ١٠ : ٢٤ – ٢٦) . لا يبقى ظلف لأن هذا هو أمر الرب للخلاص .. فقصة المفاوضات بين موسى وفرعون هي مثل ما يحدث بين الشيطان وكل واحد فينا يريد حياة التوبة وحياة الإرادة الموحدة ، الذي يصلى قائلا ” وحد قلبي في خوفك ” . يقول له الشيطان حسن أن تبقى في حياة الخطية ولا مانع من الذهاب إلى الكنيسة للعبادة ، وإن رفض هذا العرض يقول له لا مانع من الابتعاد عن الأماكن المعثرة ولكن لا مانع من أن ترتبط فكرياً بها وإن أبت النفس هذه العروض يطلب ولو شهوة واحدة أو عرقلة عن التسبيح للرب . ولكن التوبة الحقيقية لا تقبل هذه المفاوضات ، والنعمة تكسر كل كبرياء فينا ، وتطفئ كل شهوة مستعرة ، وتهز كل جمود الأنانية وتحجر القلب . وتنير لنا مواضع الضعف حتى نقوم من سقطاتنا لكى نعمل أعمالنا الأولى ونحفظ منارتنا في مكانها (رؤ ٢ : ٥) .

٥– الترف 

ومن المعطلات التي تمنع الشاب ( الإنسان ) من أن يحيا حياة الصلابة الحقيقية والرجولة المسيحية الترف والتدلل ( الدلع ) وهذه هى مشكلة الجيل كله ، فالمجتمع بكل وسائله يسعى إلى تقديم وسائل الترف والراحة هذه التي لم يكن يتمتع بها آباؤنا وأجدادنا حتى أن أصعب الموضوعات في التعليم أصبحت تقدم لنا من خلال الأجهزة الحاسبة والعقل الإلكتروني ووسائل الإعلام المختلفة . إن الحضارة والمدنية المعاصرة شجعت الشباب على الترف والتدلل ، كما كثيراً من البيوت سايرت روح العصر وشجعت أولادها على عدم التغصب وإجابة كل متطلباته سواء كان هذا حسناً أو رديئاً حتى أن الشباب فقد كثيراً من الصلابة والحزم والإرادة الداخلية الحرة . ولا علاج لهذا الترف إلا بالصلاة العميقة والتوبة المستمرة والدموع الحارة والخلوات المنظمة والنسك والأصوام المتواترة حتى تتقوى الإرادة وتنتصب طالبة معونة الله ونعمته ورحمته .

وفي الكتاب المقدس مثال لأثر الترف في حياة الناس وهو داود النبي هذا الجبار الذي قال عنه الكتاب : فتشت قلب عبدی داود فوجدته حسب قلبي ، وفي موضع آخر نجد داود يقتل أسداً ودباً ، بل ويهاجم جليات الجبار بمقلاع وقليل من الحصى ، هذا العملاق ينهزم ويسقط فى خطية الزنا ، والسر في هذا هو الترف ، فقد سمح لنفسه أن يعيش على مستوى الملوك وأخذ يتمتع بامتيازات الملوك وامتنع عن أن أن يذهب للحرب تاركاً لغيره هذه المهمة . وكانت النتيجة أن داود صعد إلى سطح بيته فنظر وأشتهي ثم سقط ، وكان سقوطه عظيماً وهكذا نحن نحتاج في هذه الأيام إلى شباب يدرب نفسه على مقاومة الهزار والكلام الكثير والأكل الكثير والشهوات الداخلية . وقديما قال سليمان ” مالك روحه خير ممن يأخذ مدينة ” (أم ١٦ : ٣٢) .

وهناك عوامل أخرى تضعف الإرادة الروحية وأهمها :

العقلانية : 

إني أريد أن أحكم عقلى ، أريد أن أقتنع ، مع أن الإيمان فوق العقل ، وإن كان لا يتضارب معه ، لو أن إبراهيم أبا الأباء سمح لعقله أن يتحكم في صوت الله له ، لما ترك عشيرته وأهل بيته ، وما قدم أبنه وحيده إسحق ذبيحة على جبل المريا

الخوف : 

والخوف هو أحد نتائج ضعف الإيمان . أخاف من الصليب ، أخاف من الفشل ، أخاف من المخاطرة لا أريد أن أخالف ما توافق عليه الناس . أما المسيح فهو يريدنا أن نتبعه حيثما يمضى . حتى ولو إلى جثسيماني . وشكرا لله أنه بعد الجلجثة ، توجد القيامة ، وشكرا لله أنه في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا.

إرادة الله في كنيسته : 

وكما أن الله يعلن إرادته بوضوح ، لأولاده المخلصين الساعين نحو الحق ، فإن الله أيضاً يعلن مقاصده لكنيسته ، كوحدة وكجماعة متحدة : إنه يريدها أن تحيا للحق وتشهد له . ولا تفرط فيه ، ولا تستخدم طرق العالم ومناهجه  فهي عامود وقاعدته . وإن تجاهلته تفقد كيانها ، ويصبح وجودها بلا معنى . إنه يريدها وحدة ، لا يطيق بها انقساماً أو تحيزا ، أو تعصباً أو تفرقاً . إن شهوة قلبه أن يكون الجميع واحدا ، كما أنه هو والأب واحد . وعلى هذا تحرص الكنيسة ، على أن تتأصل فيها وحدانية القلب التي للمحبة . إنه يريدها ساهرة يقظة عابدة مصلية غير متراخية أو متكاسلة تسعى نحو خلاص الآخرين ، وتجرى وراء الخروف الضال والدرهم المفقود ، ولا تضحى بأحد في سبيل انشغالها بالأعداد الضخمة والمظهريات الكاذبة . إنه يريدها عروسا بلا عيب أو دنس ولا غضن ، جنة مغلقة ، عينا مقفلة ينبوعاً مختوماً . 

المرجع : موسوعة الأنبا بيمن المجلد العاشر ( صفحة ٢٤٢٧ – ٢٤٤٧ )

 

 

 

المراجع

 

[1]– تفسير سفر التكـويـن – ص ٧٧ – القمص تادرس يعقـوب ملطي.

[2]كتاب رسائل القديس أنطونيوس – ترجمة بيت التكريس لخدمة الكرازة – مؤسسة القديس أنطونيوس للدراسات الآبائية.

[3]كتاب: تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الأسكندري – عظة رقم ١٠٠ – صفحة ٤٧٩ – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[4]عظات على سفر أرميا – للعلامة أوريجينوس – عظة رقم ١٣ صفحة ٨٤ –  ترجمة جاكلين سمير كوستا – كنيسة مار جرجس سبورتنج.

[5] – اختبرني يا الله صفحة ٣٨١ – قداسة البابا تواضروس الثاني

[6]– كتاب بستان الروح – الجزء الأول صفحة 36- للمتنيح الأنبا يؤانس أسقف الغربية.