الأحد الثاني من شهر توت المبارك

 

 

” صنع الكل حسنا في وقته وأيضا جعل الأبدية في قلبهم التي بلاها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلي النهاية ” (جا١١:٣)

واجعل شرفك ياقوتا وابوابك حجارة بهرمانيه وكل تخومك حجارة كريمة وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيرا بالبر تثبتين بعيدة عن الظلم فلا تخافين وعن الارتعاب فلا يدنو منك … هذا هو ميراث عبيد الرب وبرهم من عندي يقول الرب “(أش ٥٤: ١٢-١٧)

وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ” (يو ٣:١٧)

” ردَّنا يا الله إلي خلاصك واصنع معنا كصلاحك يا من يصنع أكثر ممَّا نسأل أو نفهم ” القدَّاس الغريغوري

” مملكة طاهر النفس داخل قلبه، والشمس التي تشرق فيها هي نور الثالوث القدوس وهواء نسيمها هو الروح القدس المعزي، والسكان معه هم طبائع الأطهار الروحانية وحياتهم وفرحهم وبهجتهم هو المسيح ضياء الآب. ” الشيخ الروحاني –[1]

 

 

شواهد القراءات

 

صلاة عشية (مز ٧: ١٢-١٣)  (لو ٤: ٣٨-٤١)

صلاة باكر (مز ٨ : ١-٣ ) (مر١: ٣٥-٣٩)

القداس (٢تي ١ : ١٢- ٢ : ١-١٠)  (يع ٢ : ٥-١٣)     (أع١١ : ١٩-٢٦)  (مز ٢٠ : ١-٢)  (لو ١٠ : ٢١-٢٨)

 

 

  ملاحظات على قراءات اليوم

+ قراءة البولس اليوم (٢تي ١: ١٢ – ٢: ١ – ١٠) تُشبه قراءة البولس (٢تي ٢: ٣ – ١٥) ليوم ٢٠ أبيب (شهادة القديس ثاؤدورس الشطبي ) قراءة اليوم تتكلَّم عن الإيمان والمحبَّة التي في المسيح يسوع والوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا، أمَّا قراءة يوم ٢٠ أبيب تتكلَّم عن الجندية للمسيح يسوع واحتمال المشقَّات والتي توافق القديس ثاؤدورس كقائد في الجيش

+ قراءة الإبركسيس اليوم (أع ١١: ١٩ – ٢٦) هي نفس قراءة الإبركسيس ليوم ٢٢ طوبة (نياحة أنبا أنطونيوس) ، وتُشبه قراءة الإبركسيس (أع١١ : ١٥-٢٤) ليوم ٩ هاتور ( تذكار انعقاد مجمع نيقية ) ومجيء القراءة اليوم فهو للإشارة إلي فرح برنابا بخلاص الأمم (كما تهلَّل يسوع بالروح لأجل إعلان الإيمان للأطفال أي الأمم ومؤمني العهد الجديد) أمَّا مجيئها يوم ٩ هاتور فهو لأجل إعلان إيمان الأمم، وإرسالية الكنيسة لبرنابا الرسول لهم لضمان سلامة الإيمان (تذكار مجمع نيقية) ، ومجيئها يوم ٢٢ طوبة للإشارة إلي ما قيل عن القدّيس برنابا كأنه وصف مُشابه لشخصية أنبا أنطونيوس ( رجلاً صالحاً وممتلئاً من الروح القدس والإيمان )

+ قراءة إنجيل قدَّاس اليوم (لو ١٠: ٢١ – ٢٨) تُشبه قراءة إنجيل قدَّاس (لو ١٠: ٢١ – ٢٤) ليوم ٢٠ أبيب (شهادة القديس ثاؤدورس الشطبي ) والكلام اليوم عن عطايا الإنسان الجديد من الآب في المسيح، بينما مجيئها يوم ٢٠ أبيب للتركيز علي السلطان المُعطي لأولاد الله من الآب في المسيح

 

 شرح القراءات

تتركز قراءات هذا اليوم على ” جوهر وغاية تدبير الآب ” الحياة الابدية وملكوت الله المعلن في الخلاص بإبنه

لذلك يوضح أيضا من هم الذين يتمتعون بالحياة الأبدية في المسيح يسوع

تبدأ المزامير بعطايا الملكوت                  (مزمور عشيّة)

ومكانة أبناء الملكوت                             (مزمور باكر)

وخلاص الله لهم                                  (مزمور القدَّاس)

لذلك يوضح مزمور عشية عطايا الملكوت للمؤمنين المعونة والنجاة (صادقة هي معونتي من الله المنجى مستقيمي القلوب

ويظهر مزمور باكر تميز الإنسان ومكانته عند الآب (من هو الإنسان حتى تذكره أو إبن الإنسان حتى تفتقده)

كما يتكلم مزمور القداس عن أن شهوة قلب إنسان العهد الجديد وسؤاله الدائم خلاص الله وقوته الذي به وحده يفرح ويتهلل الملك أو القائد وكل شعبه (يأرب بقوتك يفرح الملك وبخلاصك يتهلل جدا)

وتتكلّم القراءات عن إعداد الكارزين بالملكوت وجهادهم                ( البولس )

ومُستحقّي الملكوت                                                          ( الكاثوليكون )

والأمم المدعوين الجدد في ملكوت العهد الجديد                      ( الإبركسيس )

يبدأ البولس بالكلام عن الكارزين بهذا الملكوت وكيفية إعدادهم (وما سمعته مني بشهود كثيرين هذا أودعه أناسا أمناء يكونون أهلا أن يعلموا آخرين) وكيف يكون لهم جهاد الجندي في الحرب وصبر الفلاح في الزراعة (فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح ….فلن ينال الإكليل إن لم يجاهد قانونيا…..ولابد للفلاح الذي يتعب أن ينال أولا من الأثمار ) كما يوضح هدف جهاد الجندي وتعب الفلاح ( لأجل ذلك أنا أصبر علي كل شئ لأجل المختارين لكي ينالوا الخلاص الذي في المسيح يسوع مع المجد الأبدي )

بينما يعلن الكاثوليكون فئه أخري من مستحقي الملكوت وهم الفقراء (أما اختار الله فقراء العالم أغنياء في الإيمان) ويلاحظ أن آخر آية في البولس ” لأجل المختارين ” وأول آية في الكاثوليكون ” أما اختار الله ” لذلك يحذر أيضا من تسلط الأغنياء علي الفقراء وخطورة غياب الرحمة التي يمكن ان تحرم الإنسان من الملكوت (لأن الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة)

أما الإبركسيس فيعلن عن الكرازة للأمم الأعضاء الجدد في ملكوت العهد الجديد ” هؤلاء الذين لما دخلوا أنطاكية كانوا يتكلمون مع اليونانيين مبشرين بالرب يسوع ”

وتُوضِّح الأناجيل ملكوت الشفاء                                 (إنجيل عشيّة)

وملكوت بشارة الخلاص للبشر في كل مكان                  (إنجيل باكر)

وملكوت الفرح والشكر والاستنارة                              (إنجيل القدَّاس)

في إنجيل عشية تظهر إحدى الفئات المحتاجة للملكوت وهم المرضي المحتاجين للشفاء (جميع الذين عندهم مرضي فوضع يديه علي كل واحد منهم وشفاهم)

وفي إنجيل باكر احتياج الكل له ليس فقط المرضي والشفاء لكن أيضاً الاحتياج للخلاص ولحضوره الإلهي (قالوا له إن الكل يطلبونك) ويظهر أيضا محبة ابن الله للكل (لنذهب إلي مكان آخر ….لنبشر هناك أيضا )

ويختم إنجيل القداس بأعظم عطايا الثالوث للبشر الفرح القلبي بالروح القدس (تهلل يسوع بالروح القدس) وحياة الشكر الدائم للآب (أشكرك أيها الآب رب السماء والأرض) واستنارة الابن لإنسان العهد الجديد (وأعلنتها للأطفال….ومن يريد الإبن أن يعلن له ) كما تجد كلمة تهلل أو يتهلل تكررت في مزمور القدَّاس (وبخلاصك يتهلل جدا) وفِي إنجيل القدَّاس (وفِي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح القدس) كما يعلن المدخل الوحيد لهذه العطايا المجانية وهي انسكاب الحب الإلهي في القلب محبة الله من كل القلب والنفس والفكر والقدرة ومحبّة القريب كالنفس (تحب الرب إلهك من كل قلبك…. وقريبك مثل نفسك)

   ملحوظة

إنجيل عشيّة من الأحد الثاني (لو ٤ : ٣٨-٤١) تكرّر في الأحد الثالث ولكن من إنجيل مرقس (مر ١ : ٢٩-٣٤) – قصّة شفاء حماة سمعان – ونلاحظ فيها شفاء الرب لها بعد دخوله بيت بطرس واندراوس مباشرة لكن شفاء باقي المرضي حدث بعد غروب الشمس (لو ٤ : ٤٠) ، (مر١ : ٣٢) ولعل سبب هذا انه كان يوم السبت (لو ٤ : ٣١- ٣٣- ٣٨) فشفاء الرب لحماة سمعان كان قبل غروب شمس السبت لأنه هو رب السبت وهذا فهمه التلاميذ أنه يمكن أعمال الشفاء يوم السبت (يو ٩ : ٢-٧) ولكن لم تكن تفهمه بعد الجموع البسيطة لذلك انتظر الرب غروب الشمس ليشفي أمراضهم حسب الناموس ليُراعي بساطة فكرهم وإدراكهم

 

 

  ملخّص القراءات

أبناء الملكوت يتمتّعون بالعطايا الإلهية وأهمّها الخلاص                                  (مزمور عشية وباكر والقدّاس)

وهم من كل الأمم وكل فئات الشعب وجهادهم مثل الجنود في القتال     (البولس والكاثوليكون والإبركسيس وإنجيل باكر )

لذلك يتمتّعون بفرح الخلاص والشكر ومحبّة الجميع                                     (إنجيل عشيّة وإنجيل القدَّاس)

 

 

إنجيل القدَّاس في فكر آباء الكنيسة

معلّم الناموسيّ

“يعّد الأطفال أهلاً للخلاص بقدر أكبر مِن حكماء العالم.” (إكليمندُس السكندري)

“الابن يَعرِف الآب معرفةً تامة لأنه مِن الله.” (فم الذهب)

“ها إن التلاميذ أيضًا قد نالوا القوة التي لملكوت الله – قوة إخراج الشياطين وتطهير البرّص وإقامة الموتى – تلك العطية التي لم تَعدْ تمنح للملوك والأنبياء فقط.” (كيرلُّس السكندري)

“كان الناموسي يريد اصطياد يسوع؛ لكنه بهذا الفعل يظهر أنه لا يدرك سر التجسّد، وإن هذا الذي أمامه ليس مجرّد رجل؛ بلْ هو ابن الله بالحقيقة.” (كيرلُّس السكندري)

تفترض الإجابة أن طريق التوراة هو سبيل الحياة. وتعاليم يسوع كلها ترتكز على هاتين الوصيتين وتعلو بجناحيهما معا. (إفرام السرياني)

“لأن معرِفة الناموس هو معرِفة سر التجسّد الإلهي، وهو إدراك الحقيقة.” (أمبروسيوس).

توضح إجابة يسوع على سؤال الناموسي عن الحياة الأبديّة أن الناموسي فقد فريسته، وأن استجوابه يسوع لن يؤتي ثمرا.” (كيرلُّس السكندري)[2]

 

الكنيسة في قراءات اليوم

النعمة والجهاد القانوني                            البولس

الملكوت والدينونة                                    الكاثوليكون

الامتلاء من الروح القدس                           الإبركسيس

الوحدة الجوهرية بين الآب والإبن                 انجيل القدَّاس

مرشد الحياة الأبدية في كلمة الله                انجيل القدَّاس

 

 

أفكار مقترحة لعظات

 (١) العظة الأولي

من هم مُسْتَحقِّي الملكوت؟

١- المُبشِّرين والكارزين                                                      إنجيل باكر والبولس

٢- الذين يجاهدون مثل الجندي والذين يتعبون مثل الفلاح             البولس

٣- أغنياء الإيمان والمحبَّة                                                     الكاثوليكون

٤- حياة الصلاح والامتلاء من الروح القدس والإيمان                    الإبركسيس

٥- الذين يحبون الله من كل القلب والقريب كالنفس                     إنجيل القدَّاس

 (٢) العظة الثانية

” المحبة “

١- تحب الرب إلهك من كل قلبك

(مركز الاهتمام ) ومن كل نفسك ( مركز الوجدان ) ومن كل فكرك ( مركز الإدراك ) ومن كل قدرتك ( مركز الإرادة )

محبة الله تعبر عنها كل قوي وملكات الإنسان الاهتمام والانفعال والإدراك والإرادة

إذا حضر أحد قداس يظهر اهتمامه في استعداده الليلة السابقة وإرادته في استيقاظه مبكرا وانفعاله في مشاركته في صلوات وألحان القداس وإدراكه في فهمه لكل ما يحدث في الطقس فتنسكب المحبة الإلهية بغني في أعماقه

فأنت تحب بقلبك عندما تهتم، وتحب بوجدانك عندما تشارك، وتحب بإرادتك عندما تلتزم، وتحب بفكرك عندما تفهم.

راجع (تثنية ٤:٦) لتعرف كيف نعلن محبة الله

راجع (أفسس ١٨:٣) لتري أبعاد المحبة الإلهية

يمكن للمتكلم ان يستشهد بسيمفونية الحب الإلهي في القداس الغريغوري وفي قسمه الابن الوحيد (أيها الابن الوحيد الإله الكلمة الذي أحبنا)

  ٢- تحب قريبك كنفسك

محبه القريب كالنفس أفضل من جميع المحرقات والذبائح (مر٣٣:١٢)

ان تحب (لأن ) هذه هي محبه البشر لكن ان تحب أحد ( بالرغم من ) فهذه هي محبه المسيح راجع (١كو ١٣) لتعرف حدود محبه القريب مقابله الخير بالشر تصرف شيطاني، ومقابله الشر بالشر تصرف حيواني ، ومقابله الخير بالخير تصرف إنساني ، ومقابله الشر بالخير تصرف مسيحي ، فما عسانا نختار ؟

 (٣) العظة الثالثة

” تهلل بالروح…أشكرك…أعلنتها للأطفال ”

  ١- تهلل بالروح

تهليل الروح مختلف عن فرح النفس فالنفس قدر ما تلهب وجدان الإنسان سريعا سرعان ما تخبو وتنطفئ ربما الي النقيض فكثيرون ممن يضحكون كثيرا يخفون كآبة وحزن دفين أما تهليل وفرح الروح فهو يمس أعماق الإنسان ويفيض علي كيانه كله حتى الجسد

  ٢- أشكرك

الشكر المقدم لله هو خلاص الإنسان…أنبا انطونيوس

ليست عطية بلا زيادة الا التي بلا شكر …. مار إسحق السرياني

صلاة الشكر في كل مناسبات الكنيسة التسبحة الكنسية هي شكر وفرح الكنيسة الدائم بمحبة الله الغنية

  ٣-اعلنتها للأطفال

الأطفال هنا لا يقصد بها بساطة العقل والجهل لكن بساطة القلب ونقاوته وقبوله دون تشكيك في مواعيد الله

يعلن الله كل شيء لمن يتجهون إليه ببساطه

أعظم ما يعلنه الله هو تدبيره لخلاص الإنسان

إعلانات الله ليست ضد العقل لكنها فوق ادراكه

لنقبل ألي الآب السماوي كأطفال، ونصدق كل وعوده كأطفال، ونرتمي في أحضانه وقت تعبنا وألمنا كأطفال

 

 

عظات ابائية

الآب يعلن أسراره للأطفال عند القديس كيرلس الأسكندري

(لو١٠: ٢١) ” وفى تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب، رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب، لأن هكذا صارت المسرة أمامك ” .

قال أحد الأنبياء القديسين: ” هلموا إلى المياه أيها العطاش جميعاً ” (إش ٥٥: ١٠) وهو بهذا يوجهنا إلى كتابات البشيرين القديسين كما الي ينابيع مياه، فكما أن المياه مبهجة للنفس الظامئة كما يقول الكتاب (أم ٢٥: ٢٥) ، هكذا تكون معرفة أسرار المخلص التي تعطى الحياة للعقل الذى يحب التهذيب .

دعونا نقترب من الينابيع المقدسة، من المياه الحية والمعطية الحياة، تلك المياه التي هي عقلية وروحية. هيا لنمتلئ منها ولا نكل من الشرب. فإن ما يزيد عن الكفاية في هذه الأمور، لا يزال لأجل بنياننا، والشره هنا ممدوح جداً ، إذن ، ما هو الذى قاله المخلص – هذا الينبوع النازل من السماء ، نهر الفرح – فذلك نتعلمه مما قد تلى علينا الآن : ” في تلك الساعة تهلل يسوع بالروح القدس وقال ” إذن يجب على كل من يحب التعليم أن يقترب من كلمات الله بكل عناية وليس بلا حماس ، بل بالعكس ، بكل غيرة ، لأنه مكتوب : ” كلمن يتعب ويجتهد له خير وفير ” (أم ٢٤ : ٢٣) ، فالنفحص الكلمات وخاصة ما هو المقصود بالتعبير أنه ” تهلل بالروح القدس ” .

الروح القدس ينبثق من الله الآب كما من الينبوع، ولكنه ليس غريباً عن الابن، لأن كل ما للآب فهو للكلمة الذى هو بالطبيعة وبالحقيقة مولود منه . لقد رأى المسيح أن كثيرين قد ربحوا بفعل الروح الذي منحه هو للذين يستحقونه، وللذين أوصاهم ليكونوا خداماً للرسالة الإلهية. لقد رأى أن آيات عجيبة تجرى على أيديهم، وأن خلاص العالم بواسطته – أعنى الإيمان – قد بدأ الآن، لذلك فقد تهلل بالروح القدس، أي بالأعمال والمعجزات التي تمت بواسطة الروح القدس .

لقد عين الرب الاثنا عشر الذين دعاهم أيضاً رسلاً ، وبعد ذلك عين سبعين آخرين الذين أرسلهم كسابقين أمامه إلى كل قرية ، ومدينة في اليهودية ، ليبشروا به وبالأمور المختصة به ، وقد أرسلهم مزينين حسناً بالكرامات الرسولية ، ومميزين بفعل نعمة الروح القدس ، لأنه أعطاهم قوة على الأرواح النجسة ليخرجوها ، لذلك فبعد أن عملوا معجزات كثيرة ، رجعوا إليه قائلين : ” يارب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك ” وكما قلت لكم سابقاً ، إذ أن الرب يعلم جيداً أن الذين أرسلهم قد صنعوا خير الكثيرين بل وهم أنفسهم قد عرفوا مجده بالاختبار ، فإنه امتلأ بالفرح بل بالتهليل ، ولأنه صالح ومحب البشر ويريد خلاص الجميع ، فقد وجد لنفسه سبباً للتهليل ، ألا وهو تحول أولئك الذين كانوا في الضلال ، واستنارة الذين كانوا في الظلمة ، واستعلان مجده لأولئك الذين بلا معرفة أو تعليم .

فماذا يقول إذن؟ ” أحمدك أيها الآب رب السموات والأرض ” …. وهذه الكلمات : ” أعترف لك ” يقولها مثل البشر بدلاً من ” أقبل إحسانك ” أي ” أشكرك ” ، لأن الكتب الإلهية الموحى بها اعتادت أن تستعمل كلمة ” أعترف ” بمثل هذه الطريقة ، لأنه مكتوب : ” سيعترفون لاسمك العظيم المرهوب ، يا رب ، لأنه مرهوب وقدوس ” (مز٩٨ : ٣) ،

وأيضاً ” أعترف لك يأرب بكل قلبي وأخبر بجميع عجائبك ” (مز٨٥ : ٢) .

ولكنى ألاحظ أيضاً أن أذهان الناس الفاسدين لا ترعوى عن فجورها، وبعضاً منهم يعترض علينا قائلاً ” ها الابن يقدم اعتراف الحمد للآب، فكيف لا يكف أقل من الآب؟ ” ولكن كل من هو ماهر في الدفاع عن تعاليم الحق ، يجيب عن هذا قائلاً : ” وماذا يمنع أيها السادة الكرام ،أن الابن مع كونه مساوياً في الجوهر ، يحمد ويشكر أباه ، لأنه يخلص كل الذين تحت السماء بواسطته ؟ ولكن إن ظننت أنه بسبب شكره هو أقل من الآب، فلاحظ أيضاً ما يلى : أنه يدعو الآب ” رب السماء والأرض ” .

ولكن بالتأكيد فإن ابن الله الضابط الكل بالتساوي معه هو رب الكل ، وفوق الكل وليس هو أقل منه ، أو مختلف عنه في الجوهر ، ولكنه إله من إله ، مكلل بنفس الكرامات ، ويملك بحق جوهره ، المساواة معه في كل شيء ، وهذا كاف للإجابة عليهم .

لكن دعونا الآن نتأمل الكلمات التي خاطب بها أباه بخصوصنا ونيابة عنا إذ يقول: ” لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال، نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك “، لأن الآب قد كشف لنا السر الذى كان مكتوماً ومحفوظاً في صمت عنده ، من قبل إنشاء العالم الذى هو تجسد الابن الوحيد ، الذى كان معروفاً سابقاً حقاً ، قبل إنشاء العالم ، ولكن أعلن لسكانه في أواخر الدهر . فالمبارك بولس يكتب: ” لي أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة أن أبشر به بين الأمم بغنى المسيح الذى لا يستقصى ، وأنير الجميع في ما هو تدبير السر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع ” (أف ٣ : ٨) .

إن هذا السر العظيم المسجود له الذى لمخلصنا كان من قبل تأسيس العالم ، مخفياً في معرفة الآب ، وبالمثل نحن قد سبق أن عرفنا ، وسبق أن عيننا لتبنى البنين . وهذا ما يعلمنا إياه أيضاً المبارك بولس بقوله: ” مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه إذ سبق فعيننا في المحبة للتبني بيسوع المسيح لنفسه ” (أف ١: ٣ – ٥). فلنا إذن – كما للأطفال – كشف الآب السر الذي كان مخفياً ومحفوظاً في صمت طوال الدهور.

لقد سبقنا في هذا العالم حشد كبير كانوا على مستوى الكلمات، لهم لسان طلق متميز، لهم سمعة كبيرة في الحكمة، وفى فخامة التعبير، والأسلوب الجميل، ولكن كما قال عنهم بولس: ” حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي، وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذى يفنى والطيور والدواب والزحافات … لذلك أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ” (رو١: ٢١ – ٢٥)، ” وجعل الله حكمة هذا العالم جهالة ” (١كو ١: ٢٠)، كما أنه لم يعلن لهم السر. أما لنا نحن فقد كتب: ” إن كان أحد يظن انه حكيم بينكم في هذا الدهر، فليصر جاهلاً لكي يصير حكيماً، لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله ” (١ كو ٣: ١٨).

لذلك، فيمكن المرء أن يؤكد أن من له مجرد حكمة العالم فقط، هو جاهل وبلا فهم أمام الله، ولكن من يظهر أنه جاهل في نظر حكماء هذا العالم، ولكن له في قلبه وفكره نور رؤية الله الحقيقية فهو حكيم أمام الله. وبولس يؤكد هذا أيضاً بقوله : ” لأن المسيح أرسلني لا لأعمد بل لأبشر ، لا بحكمة كلام لئلا يتعطل صليب المسيح ، فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة ، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله ، لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء ” (١كو ١ : ١٧ – ١٩) (إش ٢٩ : ١٤) ، وقد أرسل بولس أيضاً قائلاً : ” فانظروا دعوتكم أيها الإخوة  أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد ، ليس كثيرون أقوياء ،ليس كثيرون شرفاء ، بل أختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء ” (١كو ١ : ٢٦) والذين يظهرون كأنهم جهلاء ، بمعنى أنهم ذوو ذهن نقى وعديم المكر ، وهم بسطاء كأطفال في الشر ، لهؤلاء أعلن الآب ابنه ، إذ هم أنفسهم أيضاً قد سبق فعرفهم وسبق فعينهم لتبنى البنين .

ومن المناسب في ظني أن نضيف أيضاً ما يأتي، أن الكتبة والفريسين الذين بلغوا شأنا عظيماً عند اليهود بسبب علمهم الناموسى كانوا يعتبرون أنفسهم حكماء، ولكن حكم عليهم بنفس النتيجة أنه ليسوا هكذا في الواقع، فإرميا النبى يخاطبهم في موضع ما قائلاً: ” كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا بينما حولها قلم الكتبة الكاذب إلى الكذب.

خزى الحكماء ارتاعوا وأخذوا، ها قد رفضوا كلمة الرب فأية حكمة لهم؟ (إر ٨ : ٨ -٩) ، لأنهم رفضوا كلمة المخلص أي رسالة الإنجيل الخلاصية ، أو بعبارة أخرى ، كلمة الله الآب الذى من أجلنا صار إنساناً ، لذلك فهم أنفسهم قد رفضوا ، وعنهم قال أيضاً إرميا النبي : ” وهم يدعون فضة مرفوضة ، لأن الرب قد رفضهم ” (إر ٦ : ٣٠) .

وقد أخفى عنهم سر المسيح أيضاً، لأنه قال عنهم في موضع ما لتلاميذ ” لأنه قد أعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات ، وأما لأولئك فلم يعط (مت ١٣ : ١١) ” أعطى لكم ” ، أي لمن ؟ هو بوضوح للذين آمنوا، لهؤلاء الذين تعرفوا على ظهوره، للذين يفهمون الناموس روحياً ، الذين يدركون أنه معنى الإعلان القديم الذى للأنبياء ، الذين يعترفون انه الله وابن الله ، لهؤلاء سر الآب أن يعلن ابنه الذى به ، ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى الأبدين آمين[3] .

 

 

محبة النفس للرَبٌ بلا شِبَع في عظات القديس مقاريوس الكبير

إن النفوس الْتي تحبُ الحقّ وتحبُ الله وتشتاق بعِظّم رجاءٍ وإيمان أنْ تلبس المسيح بالتَمام، لا حاجة بها إلى تذكير كثير من الآخرين، لا ولا تحتمل أن توجد محرومة، ولو قليلا، من شوقها السّماويّ ومن عشقها للرّب، بل إنها تكون بكل كيانها مستمرة على صليب المسيح ، وتدرك في ذاتها، يومًا بعد يوم الإحساس بارتقائها الروحيّ نحو العريس الروحاني.

فلكونها مجروحة بالشوق السّماويّ وجائعة لبر الفضائل، فإنها تقتني استنارة الروح القدس في توق شديد بلا شبع. بل وحتى اذا ما صارتا هلا  بواسطة أيمانها لأن تنال معرفة الأسرار الإلهية، أو أضحت شريكة لبهجة النعمة السّماويّة، فإنها لا تضع ثقتها في ذاتها حاسبةٌ أنها قد صارت شيئًا، بل كلما أُهِّلت للمواهب الرُوحيّة اقَتَنت الشوق السماويٌ بلا شبّع وفتشْت عليه باجتهاد، وكلّما أدركت في ذاتها تقدمها الروحي أضحت أكثر جوعا وعطشًا للاشتراك في النعمة والنموّ فيها، وكلّما اغتَنّت روحيًا أصبحت بالأحرى مسكينةٌ عند ذاتها، إذ تقتني شوقا روحانيًا نحو العريس السَّماويَ بلا شِبّع، كما هو مكتوب في الأسفار: “الَّذِينَ يَأْكُلونني يجُوعُونَ أَيْضًا (الي)، وَالْذِينَ يَشرَبُون ويعطشون أَيضا” (سي٢١:٢٤– حسب النص )

١) مثل هذه النفوس التي اقتنت حبّا ناريا للرّبَ بلا شبّع تصبح جديرة بالحياة الأبديّة، ولهذا أيضًا فإنها تحسب أهلًا للتّحرّر من الأهواء وتحظي بالتّمام باستنارة الرُوح القدس الفائق الوصف وبالشركة السَرَيّة معه في ملء النعمة. أما كل النفوس المائعة الرخوة فلكونها لا تزال في الجسد، فإنها لا تطلب منذ الآن، بالصّبر وطول الأناة أن تَقبل تقديس القلب، لا جزئيا فقط، بل كليا، ولا ترجو أن تشترك بالتَمام في الروح المعزي بكلّ فهم ويقين، ولا تنتظر أن تتحرّر من أهواء الشرّ بواسطة الروح القدس، ولهذا فحتي وإن كانت تُؤهَّل للنعمة الإلهيّة، فلكونها مسروقة ٌمن الشَّر، تُسَلّم ذاتها إلى اللّامبالاة والاسترخاء.

٢) ذلك لأنَّها لما نالت نعمة الرُّوح القدس واقتنت عزاءً النَّعمة في راحةٍ وشّوقٍ وحلاوةٍ روحانيّةٍ ثمّ اتكلت على هذا، استعلت وتهاونت، غير منكسرة القلب ولا متواضعة اللُّبّ ، رغم انها ما بلغت بعد قامةً انعدام الأوجاع بالكمال ولا هي تَرَجَّت بكلّ اجتهادٍ وأمانةٍ امتلاءها بالتمام بالنعمة ، بل إِنَّها اكتفت بالنَّزر اليسير من تعزية النِّعمة ورَكنّت إليه وقنعت به، فبات تقَدّمُها إلى الكبرياء أكثر منه إلى الاتضاع. مثل هذه النفوس تتعرَّى في النهاية من أَيَّة موهبةٍ أُهَّلَتْ لها، وذلك بسبب استهانتها وإهمالها وتشامخها الباطل في مُخَيِّلتها.

فإنَّ النفس الَّتي بالحقّ تحب الله وتحبٌ المسيح، حتىٌّ وإن كانت تعمل عشرةً آلافٍ من أعمال البر، فإِنها عند ذاتها كأنها ما عَمِلَت شيئا بالمرة، وذلك من أجل شوقها الذي لا يشبع نحو الرّبَ. وإن كانت تُضْني جسدها بأصوام وأسهار، تَحَسَب وكأنها ما بدأت بعد في السعي لأجل الفضائل. وإنْ هي صارت أهلًا لأن تنال مواهب الرّوح القدس المتنوِّعة أو تحظي باستعلاناتٍ وأسرار سماوية، فكأنها ما ظَفِرت بشيء ٍفي ذاتها حتى الآن، من أجل محبتها التي بلا قياس وبلا شبع نحو الرّب. بل إنها طوال اليوم بالإيمان والمحبّة والدّأْبِ على الصلاة، يتملكها الجوع والعطش، بلا شبّع لأسرارٍ النعمة ولاقتناء كلّ فضيلة؛ وتكون مجروحة بالعشق السّماويّ الذي للرُوح القدس، ومدفوعة في ذاتها كل حين- بشّوق ناريّ، بفعل النعمة – إلى العريس السَّماوي، وتَوَّاقَةً لأن تُؤَّهْل للشركة معه بالتّمام، تلك الشركة السريّة الَتي لا يُعَبرّ عنها، في تقديس الروح.

وتشخص النَّفْسُ بوجه مكشوف إلى العريس السّماوي، وجهاً لوجه، في نور روحاني لا يُنطّق به، ممتزجة به بكلّ يقين، متشبّهة بموته ومنتظرة كلَ حين، في توقٍ شديد، أن تموت لأجل المسيح، ومؤمنة بيقين أن تنال بالروح القدس الفداء الكامل من الخطيئة ومن ظلمة الأهواء حتي إذا ما تطهَّرّت بالرُوح القدس، وتقدّسَت نفساً وجسداً، تؤَّهل لتغدُو إناءً طاهراً لتَقبُّل الدُّهن السّماوي ومنزلاً للمسيح الملك الحقيقي وحينذاك تُعَيّن مستحقة للحياة السّماويّة، إذ قد صارت منذ الآن مسكنًا طاهرًا للرُّوح القدس[4]

 

 

رسالة من القديس انطونيوس لأولاده الرهبان

أعلموا أحبائي أنه من البدء لما حادت النفس عن الله الوحيد حصلت المخالفة وصار الشيطان يمضي بجميع النفوس إلى الجحيم. وكما قيل ” بآدم الأول صار الموت ” فتحنن الاله الكلمة وتجسد بالسر الذي لا يدرك وأكمل كل التدابير لخلاصنا فنزل إلى الجحيم وسبا سبياً وأعطى عطايا واجتذب النفوس المحبوسة فيه وخلصها من سلطة الشيطان.

وحفظ غير المطيعين في الظلمة بأمره لا بسلطة الشيطان. إلى يوم الحكم الرهيب. وأصعد الذين اطاعوا وسمعوا وعملوا بالأوامر الألهية إلى السماء حيث الفردوس وكان سبب صعودهم إلى السماء النار غير المرئية التي هي حرارة الأعمال الصالحة، التي اشتعلت في قلوبهم. هذه النفس التي تسكنها نار الله، تشبه طيراً ذا جناحين يطير بهما ويعلو مرتفعاً في جو السماء.

أما النفس التي تفتقد هذه الأجنحة فلا تبقى لها استطاعة أن ترتفع إلى الجو لفقدها قوة تلك النار وتبقى مثل طير نزع عنه جناحيه وصار لا يستطيع الطيران. وأيضاً شبهت نفس الانسان بالطير لتكون الحرارة فيه هي سبب وجوده في العالم لأن البيض إذا لم يحتضنه الطير في كل وقت فانه لا تخرج منه أفراخ لهذا قال الرب في الأنجيل المقدس يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين اليها كم مرة أردت أن اجمع بنيك كما يجمع الطائر فراخه تحت جناحيه فلم تريدوا. وإذا علمتم ان الحرارة سبب الحياة للفراخ في البيضة فلا تحرموا أنفسكم من هذه الحرارة.

لأن قوة هذه النار تنزع منكم حروباً كثيرة يعدها لكم الشيطان لينزع منكم هذه النار المعطاه لكم من الرب لأنه يعلم أنه لا قوة له عليكم مادامت معكم وفيكم هذه النار فجاهدوا اذاً قبالته وأعرفوا حيله لأنه يطمر لكم المرارة في الحلاوة حتى لا تظهر. ويصور لكم أشياء كثيرة حسنة وهي ليست كذلك ليميل قلوبكم اليه بحيله المتشبهة بالحق والشيطان يقاوم بقوته كل النفوس المتعبدة لله تعبداً حسناً. وأوجاع كثيرة يلقيها في النفس ليطفئ تلك النار التي تقام بها الفضيلة. وأول هذه الأوجاع راحة الجسد وما يختص بنياحه.

فاذا رأى الشيطان أنه لا يطاع ولا يقبل أمره في شيء منها فانه يأتي بحيل آخر فيظهر كملاك نور أو أشياء آخر مهيبة ليميل قلوبهم اليه فاذا رآهم أيضاً متحفظين من هذه الأخر ولا يقبلونها منه ولا يسمعونها مطلقاً فانه حينئذ يولى عنهم مخزياً. وعند ذلك تسكنهم روح الله. فاذا سكنت فيهم روح الله فانها تريحهم من أتعابهم في جميع أعمالهم ويحلو لهم حمل نير الله كما كتب الأنجيل ” أحملوا نيرى عليكم ” ونجدهم يصبرون ولا يتعبون قط لا في عمل الفضائل ولا في الخدمة ولا في سهر الليالي. ولا يغضبوا من شتيمة الناس ولا يخافوا البتة لا من انسان ولا من وحش ولا من جان.

لأن فرح الله معهم ليلاً ونهاراً، ويربى عقولهم وتغذيها . لأن النفس دائماً تتربى بهذا الفرح وتتغذى عليه وبه تسمو وتصعد إلى السماء. وكما أن الجسد قوامه وثباته بالخبز والماء لأننا نرى الطفل يتربى بلبن أمه وبعده بالطعام الرطب وبعده بما أتفق له يوماً فيوماً ويتقوى ويجسر قلبه على أعدائه المقاومين له. فان لحقه مرض يمنعه من الأكل فان أعداؤه يقوون عليه من كل جانب ويغلبونه ولا يمكنه أن ينال الصحة بعد مرضه ويغلب أعداءه إلا بملازمة الطبيب أياه ومعالجته له. وهكذا النفس الإنسانية ، اذا لم يكن فرح الله فيها فانها توجد مريضة ومطروحة بجراحات خبيثة ، فاذا هي اجتهدت في طلب انسان خادماً لله عارفاً بالطب الروحاني وتمسكت به فانه يشفيها من أوجاعها وتقوم دفعة أخرى ويعلمها ما يخص الله ويحصل لها ذلك الفرح الذى هو طعامها . وعند ذلك تقدر أن تواجه أعدائها الذين هم الأرواح الشريرة وتغلبهم وتدوس كل مشوراتهم وتتكمل بالفرح.

فالآن يا أحبائي اذا علمتم هذا فتحفظوا من مشورات الشيطان الردية لأنه يأتي بصورة من يقول الحق ليخدع من يقبله فاذا أتاكم بشبه ملاك نور فلا تصدقوه ولا تسمعوه منه لأنه يصطاد المؤمنين بأساليب تبدوا حسنة وهى ليست كذلك، بل والذين لم يكملوا بعد لا يعرفون حيله هذه ولا ما يلقيه في قلوبهم في كل وقت. أما الكاملون فانهم يعرفونها كما يقول الكتاب (الذين بسبب كثرة التمرن قد صارت لهم الحواس مدربه)،

أما المؤمنون الذين لم يكملوا اذا لم يحترسوا لذواتهم فأنه يخدعهم بطعامه الطيب الذى ليس بطيب ويجذبهم كمثل ما يجذب الصياد السمكة عندما يغطى رأس السنارة بالطعم لذلك لا يعلم السمك بالسنارة المستورة بالطعم بل يتقدم ويبلغ الطعام الجيد الذى تراه عينه فيؤخذ عاجلاً بسهولة لعدم فهمه فافهموا هذا، السمك لو علم أنه يؤخذ بذلك الطعم لكان ينفر منه ولا يقربه بتاتاً. هكذا فلنكن لنا حكمة السمك ولا نسلك فيما نعلم انه يفقدنا الحياة الأبدية. فالعدو يصطاد المؤمنين الغير الكاملين بأساليب تشبه الحق كما يقول سليمان الحكيم ” يوجد طريق يطن انها مستقيمة وآخرتها إلى أسافل الجحيم ” ومكتوب أيضاً في عاموس النبي ” فقال له الرب ماذا ترى يا عاموس قال أنا أرى شبكة لأخذ الطير ” ومعلوم أن الطير لفزعه من أن يؤخذ من على الأرض تراه يتعالى في الجو ويصنع له في المواضع العالية مكانًا لراحته ورقاده وهناك يكون آمناً. وقد نرى الصياد يحتال فيأتي إلى أسفل مكانه وينصب له شبكة ويخايله بالطعم فاذا نزل من العلو يقتنصه .

هكذا يصنع الشيطان ويصيد المؤمنين الغير كملاء بحيلة التي يشبهها بالحق وهي ليست كذلك وينزلهم من علوهم لأنه هكذا فعل لما اختفى في الحية وقال لحواء أنكما اذا اكلتما من الشجرة تصيران آلهة وتنفتح أعينكما وتصيران عارفان للخير والشر. حواء لما سمعت هذا الكلام مال قلبها له وظنت أنه حق لأنه لم تفحص كلامه فلما أكلت وأطعمت آدم أصابهما الذل العظيم وسقطا من علوهما. وهكذا يفعل بالمؤمنين الذين لم يكملوا عندنا لا يفرقون بين الخير والشر بل يتبعون شهواتهم وأهوائهم ويتمسكون برأيهم ولا يرجعوا ليتعلموا من آبائهم الذين قد كملوا وفرقوا بين الخير والشر ويظنون في أنفسهم الكمال. فهؤلاء يا أولادي يشبهون تلك الطيور التي صنعت وكرها في الجو وهبطت إلى الأرض واقتناصها الصيادون بالحيل الخيالية.

وهكذا يكون لهؤلاء لأجل اتكالهم على ذواتهم وعملهم مشيئات قلوبهم وتكميل ارادتهم وقلة طاعتهم وعدم استماعهم لآبائهم فان الشيطان حينئذ يأتي عليهم بهذه المناظر الخادعة ويصنع فيهم كبرياء القلب إذ يريهم في الليل احلاماً ويحققها لهم نهاراً ليضلهم وليس هذا فقط ويأتي لهم بأنوار في الليل حتى أن مواضعهم تضئ – ويصنع أشياء كثيرة وعلامات لا نستطيع أن تأتى عليها أو نكتبها .

فعندما يقبلونه بهذه الصفة فانه يهبط بهم عاجلاً من علوهم كمثل ما ذكرنا عن هبوط الطيور من أجل روح الكبرياء لعدم الطاعة التي تملكت عليهم ويجعلهم يظنون أنها صاروا عظماء واجلاء في الروحانية أكثر من الكثيرين فلا يرجعون يسمعون من آبائهم ويتم فيهم قول الكتاب انهم عناقيد زاهرة قاسية. لأن التعليم وطاعة الآباء صارت صعبة عليهم تظنهم انهم قد عرفوا كل شيء .

فيا أولادي المباركين أفهموا ما قلته لكم ، فأنكم لا تقدروا ان تتقدموا وتنموا بالزيادة ولا تتكلوا وتعرفوا ان تفصلوا بين الخير والشر اذا لم تسمعوا من تعليم آبائكم الكاملين في الروح لأن آبائنا صنعوا بسماعهم من آبائهم وتعليمهم منهم فتقدموا ونموا وصاروا معلمين كما هو مكتوب في حكمة يشوع ابن سيراخ وتعلموا من آبائكم واقبلوا تعليمهم ” فيجب عليكم أن تماثلوا هؤلاء الذين اطاعوا آبائهم وسمعوا منهم في كل شيء وتسلموا من آبائهم جميع الله التي تعلموها من آبائهم وهم أيضاً صاروا معلمين لبنيهم المؤمنين الطائعين.

لان اسحق اطاع إبراهيم. ويعقوب أطاع اسحق. ويوسف اطاع يعقوب، واليشع اطاع إليليا . وبولس اظاع حنانيا. وتيموثاوس اطاع بولس . وهؤلاء وأمثالهم من القديسين اطاعوا وأكملوا إرادة الله بتكميلهم الطاعة لمعلمهم في كل شيء ونفذوا مشيئتهم وعرفوا الحق وتعلموا البر واستحقوا خيرات روح الله. عند ذلك صاروا ينطقون بالحق في كل شيء كما هو مكتوب في حزقيال النبي ” إنى جعلتك مدبراً لبيت إسرائيل ”

فالآن يا أحبائى بالرب المستقيمون بقلوبهم أن تأتوا إلى قدام وتنموا بزيادة وتصيروا غير مضطربين بقلوبكم ولا يقدر الشيطان أن يهزأ بكم في كل شيء فاسمعوا من آبائكم واطيعوا فلا تسقطوا وأنا اعلمكم شيئاً آخر يثبت الانسان من بدايته إلى نهايته، وهو أن يحب الله من كل النفس ومن كل القلب ونيته ويتعبد له .

عند ذلك يعطيه الله قوة عظيمة وفرحاً وتحلوا له جميع أعمال الله مثل الشهد وكل أتعاب الجسد أيضاً ويصبح الهذيد والسهر وحمل نير الرب عليه خفيفاً حلوا . ولأجل محبة ربنا للبشر يحصنه ضد الشيطان حتى لا يتعظم بل يثبت في الجهاد ويزداد في النمو . فعوضاً عن القوة ثقلاً وضعفاً وعوضاً عن الفرح حزناً وعوضاً عن الراحة والهدوء قلقاً وعوضاً عن الحلاوة مرارة وبكثير مثل هذا يصاب بها محب الله ويتقوى بالأكثر في جهادها ويغلبها فاذا غلبها فان روح الله تكون معه في كل شيء وتقويه حتى لا يخاف البتة من شيء ردئ. وإنما اسأل سيدي الرب يسوع أن يعطيكم هذه النعمة لأجل طاعتكم ويحفظها لكم، الذي له مع أبيه وروح قدسه التسبيح والتقديس من جميع الناطقين إلى أبد الآبدين آمين.[5]

 

 

هو يتجوَّل ويبحث عن النفوس المتأهِّلة والقادرة على قبول عظمة حبه للعلَّامة أوريجانوس

نُظر الله بواسطة إبراهيم أو بواسطة قدِّيسين آخرين، وذلك خلال النعمة الإلهيَّة. لم تكن عينا إبراهيم هما وحدهما علَّة الرؤية، بل الله قدم نفسه لكي يُرى بواسطة الإنسان البار، الذي تأهَّل لرؤيته.

ربَّما يوجد ملاك بجوارنا الآن ونحن نتكلَّم، لكننا لا نقدر أن نراه بسبب عدم استحقاقنا.

ربَّما تسعى العين (الجسديَّة) أو الداخليَّة لتنال هذه الرؤيا، لكن إن لم يعلن الملاك نفسه لنا نحن الذين لنا هذه الرغبة لن نقدر أن نراه. هذه الحقيقة لا تخص رؤية الله في هذا العصر الحاضر فحسب، بل وعندما نرحل من هذا العالم. لأن الله وملائكته لن يظهروا لكل البشر بعد رحيلهم مباشرة… بل توهِب هذه الرؤيا للقلب الطاهر الذي تأهَّل لرؤية الله.

الإنسان الذي تثقَّل قلبه بالخطيَّة ليس في نفس الموضع مع ذاك الذي قلبه طاهر، فالآخر يرى الله بينما الأول لا يراه.

أظنّ أن هذا حدث عندما كان المسيح هنا في الجسد على الأرض. فإنَّه ليس كل من نظره نظر الله. بيلاطس وهيرودس الوالي تطلَّعا إليه وفي نفس الوقت لم ينظراه (كإله).

لذلك فإن ثلاثة رجال جاءوا إلى إبراهيم في منتصف النهار بينما جاء اثنان إلى لوط في المساء (تك ١٩: ١)، إذ لم يكن لوط قادرًا أن يتقبَّل عظمة نور الظهيرة أمَّا إبراهيم فكان قادرًا على قبول كمال بهاء النور

رؤية الله عقليَّة وروحيَّة وليست جسديَّة… ولهذا استخدم المخلِّص بحرص الكلمة اللائقة وقال: “لا يعرف أحد الآب إلاَّ الابن” ولم يقل “يرى”.مرة أخرى يقوم للذين يهبهم رؤية الله “روح المعرفة و”روح الحكمة” حتى أنَّهم خلال الروح نفسه يرون الله (إش١١: ٢)

العضو الذي به نعرف الله ليس عين الجسد، بل عين العقل، إذ يرى بما هو على صورة الخالق، ويتقبَّل فضيلة معرفته بعناية الله الآن وإن كنا نبدو متأهَّلين لرؤية الله بعقلنا وقلبنا، فإنَّنا لا نراه كما هو بل كما يصير بالنسبة لنا حيث يجلب عنايته فتحملنا يليق بنا أن ندرك كم من أمور يجب أن تقال عن (هذا) الحب، وكم من أمور يجب أن تقال عن الله، حيث إنَّه هو نفسه “الحب”. فإنَّه كما أنَّه لا يقدر أحد أن يعرف الآب إلاَّ الابن ومن يسر الابن أن يعلن له… بنفس الطريقة لأنَّه يدعى “الحب”، فإن الروح القدس المنبثق من الآب، الذي وحده يعرف ما هو في الله، كما أن روح الإنسان يعرف ما هو في الابن (١كو ٢ :١١) هنا فإن الباراقليط روح الحق المنبثق من الآب (يو ١٥ : ٢٦) هو يتجوَّل ويبحث عن النفوس المتأهِّلة والقادرة على قبول عظمة حبُّه، أي عظمة الله، إذ يشتهي أن يعلن ذلك لهم.[6]

 

 

العظة الآبائية الخامسة الخاصة بالأحد الثاني من شهر توت

الشكر للقديس يوحنا ذهبي الفم

ماذا تعنى ” في قلوبكم للرب ” ؟ أن يكون (التسبيح) بإصغاء شديد وفهم فمن لا يصغى تماماً بترنم ناطقاً بالكلمات، بينما يجول قلبه هنا وهناك يقول : ” شاكرين كل حين … ” بمعنى : ” لتعلم طلباتكم لدى الله بالشكر ” (في ٤ : ٦) ، فإنه ليس شيء يسر الله مثل إنسان شاكر … يقول : ” شاكرين كل حين على كل شيء ” ما هذا ؟ هل نشكر على كل ما يحل بنا ؟ نعم ، حتى وإن حل بنا مرض أو فقر . فإن كان في العهد القديم ينصحنا الحكيم : ” اقبل ما يحل بك بفرح وصبر حينما تصير إلى حال أقل ” . (ابن سيراخ ٢ : ٤) ، كم بالأولى في العهد الجديد ؟ ! نعم ، قدم التشكرات حتى لو لم تعرف الكلمة ( التي تقدمها ) ! …

إن كنت تشكر في الراحة والرخاء والنجاح والغنى ، فهذا ليس بالأمر العظيم ولا هو بالعجيب إنما يلزم الإنسان أن يشكر حين يكون في أحزان وضيقات ومتاعب . ليست كلمة أفضل من القول : ” أشكرك أيها الرب ” …

لنشكر الرب على البركات التي نراها والتي لا نراها أيضاً، والتي نتقبلها بغير إرادتنا ، فإن الكثير من البركات ننالها بغير رغبتنا ودون معرفتنا … حينما نكون في فقر أو مرض أو نكبات فلنزد تشكراتنا ، لا أقصد بالتشكرات خلال الكلمات واللسان ، وإنما خلال العمل والأفعال ، وفى الذهن وبالقلب لنشكره بكل نفوسنا ، فإنه يحبنا أكثر من والدينا ، وكبعد الشر عن الصلاح ، هكذا الفارق الشاسع بين الحب الله لنا وحب أبائنا . هذه ليست كلمات ، إنما هي كلمات المسيح نفسه الذى يحبنا .

اسمعه يقول : ” أم أي إنسان منكم إن سأله ابنه خبزاً يعطيه حجراً ؟ ! …. فإن كنتم وأنتم اشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحرى أبوكم الذى في السماوات ، يهب خيرات للذين يسألونه ؟ ! (مت ٧: ٩ – ١١) .

اسمع أيضاً ما قيل في موضع آخر: ” هل تنسى المرأة رضيعها، فلا ترحم ابن بطنها؟! حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك ” (إش ٤٩ : ١٥) إن كان لا يحبنا ، فلماذا خلقنا ؟ هل من ضرورة تلزمه على خلقنا ؟ هل نحن نقدم له عوناً أو خدمة؟ هل يحتاج منا أن نرد له شيئاً  ؟ اسمع ما يقوله النبي: ” قلت للرب: أنت ربى ، خيرى لا شيء غيرك ” (مز ١٦ : ٢) … لنمجد الله على كل شيء![7]

 

 

العظة الآبائية السادسة الخاصة بالأحد الثاني من شهر توت

حكمة الله قد كشفت لنا أسرار القوات العلوية للقديس غريغوريوس النيسي

مرآة الكنيسة :

والآن صوت الكلمة هو صوت القوة في الخليقة ، هو النور الذى يشرق على وصيته ، وهو يأمر فان السماء توجد وكل المخلوقات أيضا توجد حين ينطق الله بالكلمة . والأبن أيضا حين ينطق الكلمة للعروس أن تأتى اليه فأنه في الحال يعطى قوة للوصية وتنفذ ما يريده العريس في الحال . وتتحول العروس الى شيء سماوي وتتغير النفس من المجد الذى توجد عليه الى المجد الأعلى وذلك حين تسلك في الكمال .

ولهذا فان خورس الملائكة الذى يحيط بالعريس يعبرون عن اعجابهم بالعروس بكلمات المديح هذه ” قد سبيت قلبي يا أختي العروس ” (نش ٤ : ٩) لأن الكمال المنسوب للعريس والذى يشع منه على الملائكة وعلى النفوس التي تتبعه أيضا يجعلها مثله في طهارة وبلا شهوة جسدية وتصير النفس في علاقة كأخت لهذه القوات السمائية الملائكية ولذلك يقولون لها قد سبيت قلبي يا أختي العروس لأنها أصبحت أختا لهم بسبب كمالها وأطلق عليها كلمة عروس بسبب شركتها مع العريس الكلمة.

أما معنى كلمه قد سبيت قلبي فهو أنك قد أعطيتنا حياة كما لو كانوا يريدون أن يقولوا لها أنك قد أعطيتنا قلبا في داخلنا وهذا هو ما فسره الرسول بولس حين قال ” لكى يعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة حسب قصد الدهور الذى صنعه في المسيح يسوع ربنا الذى به لنا جراءة وقدوم بإيمانه عن ثقة ” (أف ٣ : ١٠ – ١٢) وتفسير ذلك أن حكمة الله قد كشفت لنا أسرار القوات العلوية التي تعلن حكمة الله وعجائبه .

ولكن كيف تأتى الحياة بعد الموت ؟ وكيف تتحول الخطية الى بر والشتيمة والسب الى مديح . والخوف الى مجد والضعف الى قوة ؟ أن هذه القوات السمائية لها خبرة فقط بالحكمة الالهية التي تصنع المعجزات ، والله الكلى القدرة يعمل خلال قواته ويأتي بالخليقة الى الوجود حين يريد الله ذلك وهو خلق كل الأشياء حسنا لأنها أتت من مصدر واحد كله جمال وهو الله . ولكن حكمة الله المتنوعة هذه قد أعلنت الآن خلال الكنيسة .

كيف صار الكلمة جسدا؟ كيف أتحد الموت بالحياة لأننا نحن شفينا بجراحاته وآلام الصليب هزمت كل قوات العدو . الله غير المنظور في الجسد حرر كل من سباهم الشيطان وأصبح الله نفسه هو المشترى وهو الثمن أيضا ، لأنه أسلم نفسه للموت من أجل فدائنا وهو لم ينفصل عن الحياة وهو في آلام الموت . هو جاء كعبد ولكنه لم يزل ملكا .

كل هذا وغيره أيضا هو عمل الحكمة الالهية المتنوعة والتى هى غامضة علينا. ان كل أصدقاء العريس يتعلمون خلال الكنيسة ويعطى لهم قلبا جديدا لكى يدركوا أسرار الحكمة الالهية الآخرى . وأيضا اذا ما نحن رأينا جمال العريس مطبوعا فى العروس ومدركا فى الخليقة كلها فأننا نمتلىء تعجبا لأن رغم أن ” الله لم ينظره أحد قط ” (١يو ٤ : ١٢) كما يقول الرسول يوحنا أو كما يقول بولس الرسول ” ولا يقدر (أحد) أن يراه ” (١تي ٦ : ١٦) ولكنه حين صنع الكنيسة التى هى جسده وبناها على الحب خلال نمو الانسان جعلنا نتحد كلنا ونصير واحدا فى كمال واحد ” الى انسان كامل الى قياس قامة ملء المسيح ” (أف ٤ :١٣) واذا كانت الكنيسة هى جسد المسيح ، فان المسيح هو رأس هذا الجسد وأعطى الكنيسة طهارته حيث نرى فى الكنيسة نقاوة غير المنظور مثل انعكاس النور فى السماء وهكذا فان أصدقاء العريس يرون شمس البر حين يبصرون وجه الكنيسة كما لو كانت مرآة نقية وعندئذ نستطيع أن ترى المسيح بانعكاس نوره على الكنيسة.

احدى عينيك

وهنا يقول أصدقاء العريس الى العروس ” قد سبيت قلبى ياأختى العروس. قد سبيت قلبى باحدى عينيك ” (نش ٤: ٩). وهذا معناه أنك قد أعطيتنا روحا وعملا بهما نستطيع أن نرى النور الذى فيك وهم اذ يكررون ذلك لانهم يضيفون الى تأكيدهم ثقة.

أما تفسير كلمة بإحدى عينيك فهو أن الروح لها عملان فى النظر أولهما هو رؤية الحق حين نبتعد عن الأشياء الحسية والثانية هى حين ننحرف ونخضع لسلطان الحواس . والمعنى هو أن العين النقية للعروس هى مفتوحة فقط لرؤية البر والصلاح أما العمل الثاني فهو معطل تماما . ولذلك يمدح الأصدقاء احدى عينيها وهى تلك التى تراه هو فقط ذاك الذى له طبيعة آبديه غير متغيرة هو الآب الحقيقى والأبن الوحيد والروح القدس .

وهذا الثالوث هو واحد ولا يوجد أى انفصال بين الأقانيم الثلاثة رغم وجود عمل مختلف عن الآخر لكل آقنوم ولكن هناك وحدة كاملة بينهم . ولكن يوجد بعض البشر لا يستطيعون الرؤية لأنهم يتصورون الأنفصال بين الثالوث وهم لذلك لا يبصرون أى شىء . أما الذين يتطلعون الى الله فأنهم يبتعدون عن رؤية الأشياء المادية عديمة الوجود .

ولكن الانسان الذى لديه الرؤية الحادة نحو الله فهو يصير مثل الأعمى بالنسبة للأشياء الأخرى المادية التي تجذب العين .وهذا هو السبب الذى من أجله تمدح العروس من الملائكة وهم أصدقاء العريس على احدى عينيها فقط لأنها اغمضت العين الأخرى عن رؤية الأمور الزائلة .

أما الانسان الذى لديه اعين كثيرة فهو أعمى بالنسبة للأمور الروحية لأنه يستعمل عيونه في رؤية الأشياء الزائلة فقط . ولكن العين الحادة والنظر الطاهر هو لذلك الانسان الذى ينظر بإحدى عينيه فقط الى الصلاح ولهذا فان النص يبدو غامضا ” قد سبيت قلبي بإحدى عينيك بقلادة (سلسلة ) واحدة من عنقك ” (نش ٤ : ٩). ومعنى الكلمة بعين واحدة أي بروح واحدة لأن الانسان الجسدي لا يتمتع بالوحدة في الهدف لوجود شهوات متعددة تملك على روحه وتصير منهزمة من الشهوات المتعددة ويكون نصيبها عندئذ هو الحزن والملذات والغضب والخوف والوقاحة والجبن

لذلك نحن نتعلم أن الانسان الذى يتطلع الى العريس الكلمة تصير له روح واحدة فقط بسبب انتظام حياة الفضيلة . وهذا هو السبب الذى من أجله نفهم معنى كلمة ” بإحدى ” أنه مطابق للكلمة بروح واحد ونظام واحد .

أما تفسير الآية ” بقلادة واحدة من عنقك ” فهو أن القلادة هى السلسلة التى عليها نيشان يعلق فى الرقبة . ومعنى ذلك هو أن عين العروس أصبحت تنظر الى أمر واحد فقط وهو العريس الكلمة وصارت لها روح واحدة فقط لأنها غير منقسمة للشهوات المختلفة التى تحاول أن تستعبدها وأصبح شكل رقبتها كاملا لأنها تحمل عليها نير تبعية المسيح الذى هو قلادة فى العنق الذى هو النظر الدائم والهدف المستمر نحو البر فقط . وهذا هو مثار مدح أصدقاء العريس وتعجبهم من العين الواحدة والروح الواحدة وحمل نير المسيح والآن بعد أن عرفنا أن أصدقاء العريس هم الملائكة وهذا هو سبب مديحهم لها ثم جاء العريس وأكد أيضا هذا المديح وشهد أيضا لجمال العروس التى هى الكنيسة وهذا ما سوف نتحدث عنه فى التأمل التالى عن سر جمال الكنيسة التى هى عروس المسيح[8]

 

 

القديس أغسطينوس الاتكال على حكمة العالم 

” أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهما. وأعلنتها للأطفال ” (مت ۱۱ : ۲۰)

ماذا يقصد بالحكماء ؟

١ – المتكبرون:

” لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال “. ما هذا يا إخوتى ؟ لتفهموا ما يقصده بـ  “الحكماء والفهماء ، بما جاء مناقضا لهم ، فإنه لم يقل “وأعلنتها للجهلاء والأغبياء ” بل “أعلنتها للأطفال”. لقد أخفاها عن هؤلاء الحكماء ، الذين هم بالحقيقة مثار سخرية ومتكبرين ، هؤلاء الذين يتظاهرون بالعظمة مع أنهم في الحقيقة متكبرون . لقد أوضح السيد أنه يقصد بـ ” الحكماء والفهماء ” المتكبرين فهو أخفاها عمن ليسوا أطفالا .

وما هو الشيء المخفي عن هؤلاء الذين هم غير أطفال أي غير متواضعين ؟ إنه طريق الرب ..

ولماذا تهلل يسوع ، لأنه أعلن الطريق للأطفال . إذن ينبغي علينا أن نكون أطفالا صغاراً ، فإن أردنا أن نكون عظماء ، أي حكماء وفهماء ، فإنه لا يعلن لنا طريقه … “وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء “. فهنا نجد العلاج ، فإن أردت الحكمة فلتصر جاهلا ، فلتعترف بجهلك وعندئذ تصير حكيماً. لتعترف أنك لست نورا لنفسك ، بل بالحقيقة عين لا نور. وماذا تنفع العين إن كانت سليمة ومفتوحة بدون وجود نور ؟ ! لتعترف أنك لست نورا لذاتك ، ولتصرخ كما هو مكتوب “لأنك أنت تضىء سراجي . الرب إلهى ينير ظلمتی” . فأنا كنت بكاملى ظلاماً، ولكنك أنت هو النور الذي يبدد الظلمة ويضيء في . أنا لست نورا بذاتي، فليس لى نصيب من النور إلا بك .

هكذا ظن الناس يوحنا ، صديق العريس ، أنه المسيح . حسبوه أنه النور “ولكنه لم يكن هو النور بل ليشهد للنور” .. أما النور الحقيقي فهو الذي يضيء لكل إنسان، فلابد وأن يكون قد أضاء يوحنا أيضا ، هذا الذي شهد له واعترف بالحق قائلا ” ومن ملئه نحن أخذنا ” كما قال يسوع : أنتم أرسلتم إلى يوحنا .. فشهد للحق . . وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة . إذن كان يوحنا سراجا موقداً منيراً، إنه السراج الذي أضاء ليضيء للآخرين. على أن السراج الذي يُضاء يمكن أيضا أن يُطفئ ، لهذا لم يكن يوحنا يعرض نفسه لريح الكبرياء حتى لا ينطفىء . لهذا “أعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء ” وأخفيتها عمن ظنوا أنفسهم نوراً رغم كونهم ظلمة 

٢ – المجدفون على الله :

لقد قصد السيد بـ “الحكماء والفهماء “، أولئك الذين قال عنهم الرسول بولس “أين الحكيم ؟ أين الكاتب ؟ اين مباحث هذا الدهر ؟ ألم يجهل الله حكمة هذا العالم ؟ ” .

ألازلت تسأل : من هم الحكماء والفهماء ؟ فربما يكونون أولئك الذين يجدفون على الله باطلا بجدالهم الكثير عنه . هؤلاء المتكبرون بتعاليهم دون أن يكون في استطاعتهم إدراك وجود الله أو معرفته بالحكمة ، هؤلاء الذين بسبب عدم إدراكهم لجوهر الله يحسبون الهواء والسماء أنهما الله .

مثل هؤلاء يزجرهم سفر الحكمة قائلا “لأنهم إن كانوا قد بلغوا من العلم أن استطاعوا إدراك كنه الدهر فكيف لم يكونوا أسرع إدراكا لرب الدهر” . إنهم يضيعون وقتهم وعملهم في الجدال ، يضيعونه في بحوث ومقاييس كما لو كان الله مخلوقا . إنهم يبحثون في دوران النجوم وبين الكواكب وحركات الأجسام السمائية . يا لها من مثابرة عظيمة ، ومجهود ذهنى ضخم!! لكنهم يبحثون عن الخالق خلال هذه الأمور رغم كونه غير بعيد عنهم. إنهم لم يجدوه ، هؤلاء الذين لو استطاعوا أن يجدوه ، لوجب عليهم أن يجدوه في داخلهم … لا تقلق كثيراً ، إن كنت تجهل حركات النجوم وعدد الأجسام السمائية . . تأمل جمال العالم النقى ، أنظر مجد الخالق مدبره. تطلع إلى صنعته وحب صانعها . ليكن هذا هو اهتمامك العظيم . حب خالقها الذي خلقك على صورته لكى تحبه .

الذين عرفره ولم يمجدوه :

إن العجيب في ذلك أن بعض الناس “حكماء وفهماء “، ومع ذلك ففى قدرتهم معرفته . لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم، أي حق هذا الذي يحجزونه بالإثم ؟ “إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها ا لهم” .. وكيف أظهر الله معرفته لمن لم يأخذوا الشريعة ؟ ! ” لأن أموره غير المنظوره ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات ” . . ففي استطاعتهم أن يعرفوا الله بواسطة المصنوعات المنظورة .. وكان في مقدرتهم أن يقولوا الكثير مما أشار إليه الرسول بولس في سفر أعمال الرسل عندما تحدث عن الله قائلا “لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد ” .فإذ كان يحدث الوثنيين الذين كان من بينهم متعلمين، لذلك أردف “كما قال بعض شعرائكم” ولماذا أظهر الله معرفته لهم ؟ “حتى أنهم بلا عذر” إذن فلماذا يوبخهم ؟ ” لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كاله” . . فأي شر أعظم من هذا ، أن نخلق على صورة الله ونعرفه ومع هذا لا نشكره ؟!  (مترجمة بتصرف) القس تادرس يعقوب 

المرجع : مجلة مدارس الأحد عدد فبراير لسنة ١٩٦٧

 

عظات اباء وخدام معاصرين

 

القديس البابا كيرلس السادس

المحبة

المقدمة

“أما الآن فيثبت: الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة” (1 كو ۱۳ :۱۳)

المحبة أساس الفضائل وينبوع الأدب ورباط الكمال وهي عقد ثمين يضم جميع الفضائل بمثابة لآلى متفرقة تحتاج إلى عقد يجمعها وهي المحبة، فبدون المحبة لا تنتظم الفضائل، فلا عبادة ولا صلاح، ولا تقوى ولا خشوع، ولا صلاة ولا تواضع، ولا وداعة ولا صبر، ولا احتمال ولا صدق، ولا احسان ولا لطف، ولا وجود سلام، ولا امتناع عن خصام ولا امتناع عن حرب وسلب، وبالجملة لا فضيلة إلا بالمحبة، وفي المحبة ولأجل المحبة، هي والدة الفضائل ومنشئة القديسين ومكملة الأبرار هي التي ملأت السماء بالبشريين.

المحبة مدرسة

المحبة مدرسة سامية مقدسة نتعلم فيها كل الفضائل ورئيس هذه المدرسة معلم ماهر مذخر فيه كل كنوز الحكمة، والمعلم قادر على كل شيء حتى يسكب مواهبه ونعمه على كل طلبة مدرسته. لا يمكن الدخول فيها إلا بالمحبة، فوق هذه المدرسة قد رفع علم مكتوب عليه بيد القادر على كل شيء، بيد دامية من أثر المسامير “الله محبة”. قد أسست على المحبة وبالمحبة فوقها محبة، وأساساتها محبة وأسوارها محبة وعلى يمنيها وعلى يسارها محبة وكل شيء فيها محبة في محبة، والدروس هناك لا تلقى إلا على منبر المحبة، والامتحان تظهر نتيجته من المحبة، لا يعرف التلميذ أنه ماهر في باقي فضائله إلا إذا أكمل المحبة في هذه المدرسة قد تعلم القديسون والشهداء والمجاهدون أجمعين وقد نالوا شهاداتهم وكل الذين في السماء قد تعلموا وتخرجوا من مدرسة المحبة.

ثمار المحبة

من يعطيني لسانا فصيحاً ملائكيا، وكلمات مقدسة سماوية لأمدحك أيتها المحبة المقدسة يا منشئة القديسين ووالدة الأبرار والمنتخبين، وهل يقوى لسان العجزة ولغة المائتين على أن يصفا مقدارك، وتقيس طولك وعرضك غير المتناهيين، فأنت أساس الفضائل ونطاق الكمال، ومن امتلكك فقد امتلك كل شيء، ومن تتلمذ لك فقد تعلم كل شيء، إن للمحبة فروعاً كثيرة لا تعد ولا تستقصي فالاتحاد والمسامحة وروح الاحتمال من بناتها ونتائجها. والتأني والرفق والصبر واللطف والصداقة والائتلاف وعدم الشقاق وعدم الحسد وعدم الظن بالسوء كلها من أولادها، فهي تلد بنين وبنات مباركين في قلب الإنسان، وتفرخ أغصاناً طاهرة وتبعث أشعة مقدسة تقية قوية تنير كل شيء،المحبة تتأنى وترفق المحبة لا تحسد المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء” (١كو ١٣: ٤-٧)

سمو المحبة

المحبة أثمن كل شيء، وأجمل كل شيء، المحبة تخفف الأثقال، وتحتمل المكاره بصبر، المحبة تجعل المر حلوا ولذيذاً، المحبة تقود الإنسان إلى العلو وترغب دائما في السلام، المحبة صادقة، مسالمة أنيسة، وديعة، أمينة، ذات حلم ومروءة في كل شيء، المحبة متواضعة، ومطيعة، خالية من العجرفة والكبرياء، المحبة هادئة ورصينة وتقية، منها يصدر كل خير، وصاحبها يستريح في السلام والراحة الكاملة، لا شيء أحسن من المحبة ولا شيء أثمن ولا شيء أجمل ولا شيء أفضل ولا شيء أكمل ولا شيء أبهج ولا شيء أعذب من المحبة، المحبة أرفع وأسمى وأحسن شيء ولا يوازيها شيء في السماء ولا على الأرض، من كانت المحبة ساكنة فيه يكون صبورًا متأنيا مترفقاً وديعاً، يفرح بالخير للأخرين ويحتمل الأتعاب والمشقات بصبر جميل، يصدق الناس ولا يكذب أحدًا، ويرج النفع والخير كما يرجوه لنفسه “فإن كان وعظ ما في المسيح. إن كانت تسلية ما للمحبة. إن كانت شركة ما في الروح. إن كانت أحشاء ورأفة، فتمموا فرحي حتى تفتكروا فكرًا واحدًا ولكم محبة واحدة بنفس واحدة، مفتكرين شيئا واحدا، لا شيئًا بتحزب أو بعجب، بل بتواضع، حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم” (في ٢: ١-٣). المحبة لها كل الإيمان وكل الرجاء وكل الصبر وكل الدعة وكل الحق وبالجملة لها كل شيء.

سلوك المحب

المُحِب لا ينطق بكلمات قاسية تغيظ أخاه وتجرح احساساته، بل يعتبر أنه خير له أن يموت من أن يسبب عثرة لأخيه، لسان المحب عذب وكلماته لطيفة ممزوجة بالوداعة، تقطر حبا وودا وتسيل عذوبة ولطفاً، فالمحب الوديع يسكن في حالة الهدوء والاطمئنان حتى في أوقات التجارب والاضطرابات الشديدة، ولا يجد الغضب إلى قلبه سبيلاً، وإذا حلت لديه الأوصاب فتجد عنده صدرا رحباً لتقبلها بفرح، المحب لا يتألم من قدح ولا يسر ويفرح بمدح، وسواء عند السراء والضراء.

قلب المحب ونفسه

قلب المحب عرش يسكنه الروح القدس ويحل فيه الثالوث الأقدس، النفس المتمسكة بالمحبة تسكنها الوداعة والبساطة وطول الأناة وهي مليئة من فرح الروح، شاعرة بسلوان الله الذي يفوق كل عقل، خالية من كل خبث، لا تعرف المكر والاساءة ولا تسعى وراء الحيل والمفاسد بل تفرح بالحق في إخلاص وبساطة القلب، لا تعرف الرياء والتصنع والنفاق في كل حركاتها وسكناتها

طوبانية من امتلك المحبة

ما أسعدك وأطوبك يا من تمتلك المحبة، وما أطهر نفسك وأقدس روحك، لأن الله يسكن معك لأن الله محبة، ايتها المحبة انت وحدك الفضيلة العظمى التي من يمتلكك يمتلك كل شيء، ومعك كل شيء نافع وبدونك لا شيء نافع.

ألا فأسع وراءها أيها الحبيب وتمسك بها ولا ترخها من يدك دعها تحيط بكل ما فيك تلذذ بودها وارتو بحبها احتضنها لأنك بها ترتقي الى السماء وبها تدخل المجد تقودك هي الي فردوس النعيم امسك بها لأنها هي الله “لأن الله محبة، ومن يثبت في المحبة، يثبت في الله والله فيه” (ايو ٤: ١٦)

تعليم الكتاب المقدس عن المحبة

(1) “وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضا. كما أحببتكم أنا تُحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضا، بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن كان لكم حب بعضا لبعض” (يو ١٣: ٣٤ و ٣٥).

(۲) تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى، والثانية مثلها : تُحِب قريبك كنفسك بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء” (مت ۲۲: ٣٧-٤٠)

(۳) “وأما غاية الوصية فهي المحبة من قلب طاهر، وضمير صالح، وإيمان بلا رياء” (تي ١: ٥).

(٤) “لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضا، لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس، لأن لا تزن، لا تقتل، لا تسرق لا تشهد بالزور، لا تشته»، وان كانت وصية أخرى، هي مجموعة في هذه الكلمة: «أن تحب قريبك كنفسك. المحبة لا تصنع شرا للقريب، فالمحبة هي تكميل الناموس” (رو ۱۳: ٨-١٠).

(٥) “إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة، فقد صرت نحاساً يطن أو صنعا يرن. وإن كانت لي نبوة، وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلست شيئاً. وإن أنفقت كل أموالى، وإن سلمتُ جَسَدِي حتى احترق، ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئا” ((كو ١٣: ١-٣).

(٦) إن الظلمة قد. مضت والنور الحقيقي الآن يضيء. من قال: إنه في النور وهو يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة. من يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة. وأما من يبغض أخاه فهو في الظلمة، وفي الظلمة يسلك، ولا يعلم أين يمضي، لأن الظلمة أعمت عينيه” (١يو٢: ۸-۱۱).

(۷) “نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأننا نحب الإخوة، من لا يحب أخاه يبق في الموت كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس، وأنتم تعلمون أن كل قاتل نفس ليس له حياة أبدية ثابتة فيه بهذا قد عرفنا المحبة أن ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا الأجل الإخوة، وأما من كان له معيشة العالم، ونظر أخاه محتاجاً، وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟ يا أولادي، لا نحب بالفم ولا باللسان، بل بالعمل والحق” (1 يو ٣: ١٤-١٨)

(٨) لنحب بعضنا بعضاً، لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله ومن لا يجب لم يعرف الله، لأن الله محبة” (١يو٤: ٧ و ٨).

( ٩) “إن قال أحد: «إني أحب الله وأبغض أخاه، فهو كاذب، لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره ؟ ولنا هذه الوصية منه: أن من يحب الله يحب أخاه أيضا (١يو ٢٠و ٢١) المحبة فلتكن بلا رياء” (رو ۱۲ : ۹)

المرجع : العدد الثاني من السنة الأولي لمجلة ميناء الخلاص الصادر في شهر برمهات ١٦٤٤ ش (ابريل ۱۹۲۸ م) 

عظة لقداسة البابا تواضروس الثاني

محبة الله الآب

+ هذا الشهر يتحدث عن محبة الله الآب ، ولذا نرى نظرة شاملة في محبة الإنسان لله كما يلى

١- كل القلب = الروح           روح هادئة فرحة .           بالعبادة / الصلاة والتسبيح

٢- كل النفس = النفس       نفس سوية مستقرة .      بالتوبة والاعتراف والتناول

٣- كل القدرة = الجسد.     جسد معافى صحيح.          بالصوم والانقطاع

٤- كل الفكر = العقل.         عقل ناضج نابض.               بالكلمة والانجيل

+ المسيحية صاحبة نظرة شمولية للإنسان تعالجه وتشبع عناصره الأربعة (روح ونفس وجسد وعقل) دون إهمال لعنصر أو تصغير أواهتمام بواحد دون الأبعاد الأخرى … مثل:

فلسفات احتقرت الجسد وجعلته عدو الإنسان الأول.

فلسفات نادت: نأكل ونشرب لأننا غداً نموت ، وهذا نسميه ( تسفيه الروح )

فلسفات اهتمت بالغرائز دون العقل والروح وخاصة الجنس والدنس

فلسفات اهتمت بالعقل والوجود فقط … وهكذا

الاستعداد للملكوت

+ كيف نستعد للملكوت؟

سؤال هام يليق مع بداية العام القبطي الجديد ويقدم لنا أنجيل هذا الأحد الأجابة عن هذا السؤال: أنها ” المحبة ” بكل أبعادها فهى الطريق الوحيد للملكوت

+ ما هي أبعاد هذه المحبة ؟

إنها ثلاثة  ابعاد يمكن تلخيصها فيما يلى:

١- محبة شاملة : ( مثل ) قصة الشاب الغنى

٢- محبة عاملة : ( مثل ) السامرى الصالح

٣- محبة دائمة : (مثل ) مريم ومرثا

+ وعين المحبة  لا ترى الخطأ وتستر على الضعف ، وتترجى كل شيء وتشجع كل شيء

+ وسواء كانت المحبة ” شاملة ” لله . و ” عاملة ” لكل الناس . فالمهم أن تكون ” دائمه ” في حياة الإنسان

+ وصية المحبة : المحبة للناس برهان المحبة لله . ومحبة الله نبع محبة للناس

القلب منه محبة الله: النفس ( المحبة في صورة العبادة )

القدرة (المحبة في صورة الطاعة)

الفكر (المحبة في صورة التأمل )[9]

 

 

المتنيح أنبا بيمن أسقف ملوي أعظمهن المحبة 

علامات الحياة المسيحية

الإيمان الاختباري ( عب ۱۱) ما هو الإيمان 

+ الثقة بما يرجى وبرهان الأمور التي لا ترى . ( الإيقان بأمور لا ترى ) .

+ هو صلة الحاضر بالأبدية .. أين إذا شوكة الزمان ؟

+ هو تسليم الحياة للرب في بساطة وثقة .

+ هو عبور لذيذ من الحسيات إلى ما لا يرى .. من الموت إلى الحياة .

+ هو الثقة بملكوت الله والإيقان الاختباري بالأبدية 

+ فالإيمان المسيحى إذا ليس مجرد اعتناق مبادئ أو أفكار أو عقائد أو خلقيات وإنما هو حياة الشركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح بالروح القدس

مضمون الإيمان

يتضمن الإيمان المسيحى فعلين أساسيين لازمين لحياة المؤمن :

فعل الموت عن الذات والإنسان العتيق وهذا يناله المؤمن بالمعمودية والتوبة الدائمة والانسحاق والتذلل أمام الله دائماً وفعل القيامة لجدة الحياة وللطبيعة الجديدة ، وهذا يناله المؤمن بالاتحاد الدائم بالمسيح في الصلاة وطاعة الإنجيل والأسرار المقدسة . فالمسيحية لا تؤمن بإصلاح القديم أو ترميمه ، وإنما لابد من غرس إلهى جديد .. فالإيمان هو هبة إلهية وغرس إلهى وقيامة حاضرة من الآن ( راجع يو ۱۱ : ٢٥ ، ١يو٥ : ۱۰ – ۱۲) .والحياة الإيمانية في جوهرها نعمة وحق لأن الناموس بموسى أعطى ، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صاراً” (يو ۱ : ۱۷) . النعمة توهب لنا مجاناً بالإيمان بالمسيح يسوع ، ووسائطها هي أسرار الكنيسة السبعة وجميع الوسائط الروحية التي نمارسها من خلال الإيمان الكنسى . والحق الذي يسكن فينا ويعطينا بصيرة لمعرفته والشهادة له . وهذا يتطلب منا احتمال معاناة مرة وصلب واضح للذات ، وموت حقيقى عن العالم ، وسير دائم في النور .

تحديات الإيمان

الوقوع تحت سطوة الزمان

فالإنسان الطبيعي يتلهف على المستقبل ويتحسر على الماضي ، دون أن يكون في وسعه يوماً أن يقبض على الحاضر يجمع يديه ، حياة الإنسان الطبيعي ضائعة بين ماض يثقل كاهله ومستقبل مخيف يجذبه ففي أمور الحياة المادية يتثقل الإنسان الجسدى بحرمانات الماضى ويهلع لأخطار المستقبل ويخشى امتداد هذه الحرمانات إليه . وفي الحياة الاجتماعية يحزن الفرد من مضايقات الناس ومتاعبهم القديمة التي خطت في نفسه جرحاً غائراً ، ويذكر أفراح الأيام الماضية ويبتئس لأنها ولت ولم تعد ، ويظل ابن آدم فى توقع لآلام ثقيلة قادمة تقض مضجعه . وفى الحياة الروحية كثيرا ما تمتص سطوة الزمان شعلة الإيمان في حياة الإنسان . فذكرى الخطايا الماضية وثقلها على الضمير وعدم الثقة في دم المسيح الغاسل المطهر .وكذا التخوف من السقوط في المستقبل وعدم التأكد من رعاية الله وحفظه وحراسته هذه كلها تفقد الإنسان حياته وإيمانه وخلاصه .

الاعتماد على الأقيسة المنطقية والعلمية :

الإيمان يتجاوز المعرفة الطبيعية والأقيسة المنطقية ، وقد أثبت لنا الرب يسوع هذا بسيره على الماء ، وإقامته لعازر الذى أنتن ، وتهدئة الرياح بكلمة . وليس معنى هذا أن الإيمان ضد العلم والمنطق ، ولكن الإيمان يعلو على العلم والمنطق . الإيمان له إمكانيات معجزية ، والعلم والمنطق لا يعرفان المعجزة.

الخوف 

الخوف ينتج من الاحساس بالزمن .. الخوف على المستقبل ناتج من عدم الثقة بذراع الرب . لهذا يفزع الإنسان راغباً في تأمينات إجتماعية وصحية تقلل من خوفه وفزعه . والذي يتأمل حياة الآباء القديسين والشهداء يلاحظ بوضوح كيف أنهم غلبوا الخوف بالثقة  والإيمان  واليقين الشديد في عناية الله ورعايته الأبوية 

+ أنطونيوس باع الأفدنة وعاش في الصحراء . + جاورجيوس ألقى بالوظيفة وتقدم للوحوش الكاسرة والعذابات الشديدة دون خوف

أو وجل . وهكذا جميع أولاد الله القديسين لا يخافون شيئاً لأنهم لا يشتهون شيئاً . والذي يتأمل في جسارة الإيمان في حياة الفتية الثلاث ، وكيف أنهم دخلوا النار دون خوف يدرك معنى الإيمان وفاعليته . والذي يدرس حياة دانيال ويراه في الجب مع الأسود يعرف كيف أن الإيمان يغلب الخوف ، لأن الله أعطانا سلطاناً أن ندوس الحيات والعقارب وكل قوات العدو.

 الشكوك :

تصلى الكنيسة فى أوشية الاجتماعات قاتلة الشكوك وفاعليها أبطلهم . ولينقض فساد افتراق البيع . حل تعاظمهم . عرفهم ضعفهم سريعا . والشكوك خطية موجهة ضد الله لأنه كما أن الإيمان يمجد اسمه ويرفعه ويعليه فإن الشكوك تطعن الإيمان بل وتميته أحياناً . ولقد أوضح لنا الكتاب المقدس كيف كاد بطرس يغرق عندما شك يوم أن دعاه السيد أن يختبر اختبارا إيمانياً ويسير على الماء (مت ١٤ : ٢٨ – ٣١) . وتنتج الشكوك من الكبرياء والاعتداد بالفكر البشرى ، كما تزرع من قراءة كتب الملحدين والإباحيين دون أن يكون القارئ متسلحاً بنعمة المسيح وقوة الروح القدس ، وأحيانا تكون الشكوك حرباً من حروب الشيطان . وهذه يلزم مقاومتها بالاتضاع الشديد والمسكنة الروحية حتى تقتلع بذارها .

قوة الإيمان :

يقول معلمنا بولس الرسول “أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني” (في ٤ : ۱۳) وهذه الإمكانية هي ثمرة الإيمان الاختبارى . وفي هذا يقول معلمنا يوحنا لان كل من ولد من الله يغلب العالم وهذه هى الغلبة التي تغلب العالم ايماننا” (١يو٥ : ٤ ) . وعندما أراد الرسول بولس أن يوضح لنا قوة الغلبة المدخرة لنا في الإيمان أخبرنا أنها على حسب شدة عمل الآب عندما أقام المسيح من بين الأموات (أف ۱ : ۸) أى أن ما هو لنا عند الأب إنما هو على مستوى قوة قيامة المسيح من الأموات . هذه القوة التي تفوق كل قوة في العالم . إنها قادرة على أن تغلب كل أجناد الشر الروحية في السماويات

أمثلة لإيمان قوى :

+ إبراهيم أبو الآباء أطاع وخرج إلى مكان لا يعلمه .

+ مريم العذراء قبلت رسالة الملاك المبشر غير عابئة بما ينتظرها من أخطار .

+ أثناسيوس الرسولى يتحدى العالم كله .

+ الأنبا ديوسقورس يحتمل اضطهادات وتعاذيب كثيرة .

+ الأنبا صموئيل المعترف تقلع عينه فرحا لأجل تمسكه بالإيمان الأرثوذكسي السليم.

مسئوليات الإيمان

الذي اختار الإيمان ككنز سماوى وكنصيب صالح إنما اختار طريقاً ضيقاً ومساراً كرباً ومعاناة شديدة ومسئوليات كثيرة ، من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني” (مت ۱۰ : ۳۸) وعندما شرح الرسول بولس موضوع الإيمان في الإصحاحات الثلاثة الأولى من رسالة أفسس أكمل الرسالة بمسئوليات الإيمان بقوله فأطلب إليكم أنا الأسير في الرب أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم إليها بكل تواضع ووداعة .. إلخ” (أف ٤ : ١ – ٢) . فإن كنا أبناء يلزمنا أن نشابه أبانا في كل شئ .. وإن كنا ورثة فلابد أن نعيش لأجل الميراث السماوى . ولعل أهم مسئولية يلقيها الإيمان المسيحى على أولاد الله هي الانقياد لروح الله ورفض مشيئة الذات (راجع رومية (٨ : ١٤) . وتعتبر الأعمال الصالحة من أهم ثمار الإيمان ، وفي هذا يقول نيافة الأنبا شنودة الأعمال الصالحة لازمة للخلاص وعدم وجودها يدل على أن الإيمان ميت وعلى أنه لا ثمرة له . ولكن الأعمال الصالحة وحدها لا تكفى للخلاص بدون إيمان وبدون معمودية وبدون استحقاقات دم المسيح . على أنه يلزمنا أن نوجه الانتباه إلى أمر هام جدا وهو أن أعمال الإنسان الصالحة تحتاج إلى مؤازرة من النعمة . فقد قال المسيح له المجد بدونى لا تقدرون أن تعملوا شيئا” (يو ١٥ : ٥٠) ونصوص الكتاب المقدس التي تقلل من قيمة الأعمال .. هذه إما أن يكون المقصود منها هو أعمال الناموس كالختان والممارسات الطقسية وحفظ الأيام والشهور والأعياد وما إلى ذلك . وإما أن يكون المقصود منها هو مهاجمة الأعمال غير المبنية على دم المسيح وفدائه فهي إما أعمال بدون إيمان ، أو أعمال سابقة على الإيمان” . وهكذا تتحدد علامات الإيمان الاختبارى فى حياة المسيحى الحقيقي فيما يلي.

١-وجود حياة داخلية سرية باطنية نامية بالصلاة وحفظ الوصية والحب الشخصي للرب يسوع المسيح .

٢-تصديق كامل لمواعيد الله في كتابه المقدس والإيمان بكل ما جاء في التسليم الرسولي للكنيسة . 

٣- تقديم وصية المسيح وجعلها في المرتبة الأولى حتى لو تضاربت مع العقل أو الراحة أو الكرامة أو الذات .

٤- احتمال الآلام والمعاناة مهما كانت مكلفة في صبر واتضاع وشكر .

النمو في الإيمان :

إن اختبار الإيمان ينمو في حياة أولاد الله كما تنمو حبة الخردل وكما تنتشر الخميرة الصالحة في ثلاث أكيال من دقيق . وكما تنمو الحبة وتنتشر الخميرة فى سرعة وقوة إذا ما كان الجو صالحا لنموها ، هكذا يحتاج الإيمان إلى جو صالح لتقدمه ونموه .وهذا الجو الصالح هو القلب المستعد والنفس الخاضعة والرقبة المنحنية المنكسرة والشخصية التواقه إلى التعرف على مقاصد الله والخضوع لها وتنفيذها مهما كلفها الأمر من تضحيات . وإذا ما أخذنا إبراهيم أبو الآباء مثالاً لوجدنا أن الله أخذ يدرب أبراهيم في مدرسة طاعة الإيمان وينقله من مرحلة إلى أخرى حتى اجتاز أصعب الامتحانات وأقساها في سهولة ويسر . فلو لم يرض أبرام أن يترك أرض حاران لما استطاع أن يقدم ابنه وحيده وحبيبه اسحق ذبيحة للرب على جبل الموريا . وداود النبي الذى كان أميناً فى رعايته للغنم وقتل أسداً ودبا استطاع أن يقف أمام جليات الجبار ويصرعه بمقلاع صغير . والفتية الثلاث لأنهم أطاعوا وصية الرب ورفضوا في تصميم ألا يأكلوا من أطايب الملك وخمر مشروبه استطاعوا أن يدخلوا أتون النار في جبروت الإيمان وعظمة التسليم الكامل . ودانيال النبي لأنه رفض مع الفتية أن يتدنس بأكل غريب ، وصمم على ألا يسجد لتمثال الملك استطاع أن ينزل جب الأسود دون أن يخاف شيئاً أو يتردد لحظة واحدة . وهكذا جميع أولاد الله قادتهم النعمة من امتحان إلى امتحان حتى أصعدتهم على جبل الإيمان الراسخ وأعطتهم أعظم وأقوى وأقدس الاختبارات . على أنه يلزمنا أن ننوه أن المؤمن إذا لم يصح ويسهر لنفسه فإن ما حصله من نعمة وما اختزنه من اختبار يمكن في غفلة أن يضيع منه ، وقصة سقوط داود مع امرأة أوريا الحثى إنذار لنا بل إن الرسول بولس يحذرنا فى وضوح عن أهمية السهر واليقظة حتى لئلا نكون بعد أن أخذنا اختبارات كثيرة نرفض ونهلك إذ يقول ” فإني لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم اجتازوا في البحر وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفى البحر وجميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحيا وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم ، والصخرة كانت المسيح . لكن بأكثرهم لم يسر الله لأنهم طرحوا في القفر (١كو ١٠: ٥١) .

الرجاء الحي

الرجاء هو الجانب المستقبلي أو الأخروى من الإيمان .. فالمؤمن يترجى قيامة الأموات والمجئ الثاني ، واثقاً من حدوث هذه الأمور المستقبلة تماماً كثقته في وجوده وكيانه . والمسيحى الحقيقى يثق أنه لم يخلق من أجل الحياة الأرضية ، وإنما خلق من أجل الحياة الأبدية ” لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة”(عب ١٣ : ١٤). والمؤمن الحقيقي حريص على ألا يفقد رجاءه في الأبدية لئلا يصير أشقى جميع الناس .. ” إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس”( ١كو ١٥ : ۱۹ ) . فحياة المسيحى المؤمن وسيرته كلها متعلقة بالسماء ” فإن سيرتنا هي في السموات التي منها أيضاً ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح ” (في ٣ : ٢٠) . ونستطيع أن نتعمق موضوع الرجاء عندما نطالع الإصحاح الخامس عشر من الرسالة الأولى إلى كورنثوس والإصحاح الثامن من رسالة رومية .

الرجاء الغاش

وكثيراً ما يتحول الإنسان عن الرجاء الحقيقى الذى له فى المسيح يسوع وفي ملكه الأبدى إلى رجاء غاش ، فالابن الضال يمثل لنا كيف كان يترجى السعادة في الكورة البعيدة ، وكيف أوصله هذا الرجاء الغاش إلى أشقى تعاسة . والغنى الغبي (لو ۱۲ : ۲۰) .. كان يترجى العمر المديد ووفرة المخازن ولكنه سمى غبياً لأنه وضع رجاءه في سراب ، لهذا يطالب الرسول بولس تلميذه تيموثاوس أن يوصى الأغنياء ألا يلقوا رجاءهم على الغنى وكبريائه بل على الله الحي ، ويكونوا أسخياء في العطاء كرماء في التوزيع ممسكين بالحياة الأبدية التي هي الرجاء الحقيقي (أتى ٦ : ١٧ – ١٩) . وسليمان الحكيم ينبه ضمائرنا بقوله : ” باطل الأباطيل الكل باطل .ومهما اشتهته عيناى لم أمسكه عنهما .. ثم التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداى وإلى التعب الذي تعبته فى عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس ” (جا ۱: ۲، ۲۰ : ۱۰ – ۱۱) .

أهمية الرجاء في حياة المسيحي

يقول الرسول بطرس عن أهمية الرجاء ” ولدنا ثانية لرجاء حى بقيامة يسوع المسيح من الأموات ” (ابط۱ : ۳) . ويقول معلمنا بولس الرسول ” لأننا بالرجاء خلصنا ” (رو ٨ : ٢٤) . ومعنى هذا أن شدة رجاء المؤمن في المسيح يسوع وشدة تعلق قلبه بالسماويات وارتباط وجدانه وسلوكه بالحياة الأبدية .. إنما هو أقوى ضمان أكيد لخلاص المؤمن والرجاء عند المسيحى أمر لازم لأنه كما يعبر عنه الرسول بولس أنه مرساة للنفس ” لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا . الذى هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب . حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا صائراً على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد ” (عب ٦ : ١٨ – ٢٠) . وإذا ما تعمقنا معنى هذه الآية نجد أن الرسول بولس يشبه الرجاء بالمرساة ( الهلب ) الذى يربط السفينة بالشاطئ .. وكما أن السفن المحيطية يسبقها الهلب ويوضع على الشاطئ قبيل وصولها . ولما يوضع الهلب يعتبر الربان السفينة أنها قد وصلت سالمة ، رغم عدم دخولها الميناء ، هكذا يرى الرسول أننا بالرجاء وضعنا قلوبنا في السماء واستقرت في الأقداس حيث قد دخل يسوع كسابق لأجلنا وهناك ضمان لهذا الدخول هو أن رئيس كهنتنا قد أعد لنا المكان ، وما هي إلا أيام الغربة القصيرة حتى نصل الميناء . ومادام حبل الرجاء قد ربط القلب بأقداس السماء فإن سفينة حياتنا تتحدى صعاب الحياة دون خوف لأن الركيزة الصلبة التي يستند عليها الرجاء هو شخص الرب يسوع المخلص الذى أتم الفداء لأجلنا ودخل الأقداس كسابق لأجلنا .. ولاشك أن هذا الرجاء يعطى للنفس طمانينة وسلاماً وثقة في الوصول والرجاء المسيحى يعطى للنفس تعزية لا تنضب ، وخاصة في أوقات الضيق والتجارب والمحن ولعل بولس الرسول أعظم مثال ، على قوة الرجاء في إمداده بالعزاء إذ يكتب شارحاً اختباره العميق هذا بقوله ” مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح أبو الرأفة وإله كل تعزية الذي يعزينا في كل ضيقتنا حتى نستطيع أن نعزى الذين هم في كل ضيقة بالتعزية التي نتعزى نحن بها من الله . لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضاً ” (٢ كو ١ : ٣ – ٥) . وفي موضع آخر يقول ” فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا ” (رو ۸ : ۱۸) . فقد كان قلبه دائماً مرفوعاً نحو السماء منتظراً الإكليل المعد للمجاهدين ” ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه ” (١كو ۲ : ۹) . لأجل هذا يقول الرسول بولس ” فرحين في الرجاء ” هذا الفرح له عربون في الحياة الحاضرة إذ يثق المؤمن أنه سائر في درب القداسة متجها نحو أورشليم السمائية ويتوقع بنعمة الله ومحبته ورحمته أن يدخل المدينة المقدسة الجديدة المزينة كعروس لرجلها حيث هناك لا يكون فيما بعد موت ولا حزن ولا صراخ ولا وجع لأن الأمور الأولى قد مضت (رو ۲۱ : ۳ – ۷) . ولكى تعرف مواعيد الله المعزية التى يعيش عليها الإنسان المسيحى ويحيا مترجياً حدوثها ، اقرأ سفر الرؤيا . وإليك بعضاً من هذه المواعيد : 

+ من يغلب فساعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله (رو ۲ : ۷). من يغلب فلا يؤذيه الموت الثاني (رؤ ۲ : ۱۱) .

+ من يغلب فساعطيه أن يأكل من المن المخفى وأعطيه حصاة بيضاء وعلى الحصاة اسم جديد مكتوب لا يعرفه أحد غير الذى يأخذ (رؤ ۲ : ۱۷) .

+ من يغلب ويحفظ أعمالى إلى النهاية فسأعطيه سلطاناً على الأمم (رؤ ٢ : ٢٦) . 

+ من يغلب فذلك سيلبس ثياباً بيضاً ولن أمحو اسمه من سفر الحياة وسأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته (رؤ ٣ : ٥) .

+ من يغلب فساجعله عموداً في هيكل إلهى ولا يعود يخرج إلى خارج . (رؤ۳ : ۱۲) . وهكذا يحمل الرجاء المسيحى معه مواعيداً غالية وثمينة تهون المعاناة ..وتخفف الألم .. وتعطى الصبر .. وتهب النظر الدائم إلى فوق . 

الأبدية حاضرة الآن :إن كل من عاش على هذه الأرض غريباً سائحاً وجهته الأبدية ، تذوق مقدماً السعادة الخالدة التي لا توصف ، فملكوت الله حاضر الآن فينا وما نترجاه نملك عربونه الآن .. وإن لم نكن قد تذوقنا يسوع هنا فلن نراه في المجد الآتي .. إن وجه الرب يسوع وقلبه المملوء عذوبة ورقة يضيئان بأعظم بهاء في حياة كل مؤمن يحيا بالرجاء والإيمان والمحبة . إن مخدع الصلاة والتلذذ بالكتاب المقدس وقراءة سير القديسين توضح الرؤية وتشعل القلب وتقوى الإرادة وتغذى النفس بطاقات جديدة وتدفع بالمؤمن نحو جعالة الله العليا التي له في المسيح يسوع . أيتها الأمجاد السماوية أشرقي في قلبي واجتذبى وجداني ومشاعري نحو إلهي ، وقربي ساعة لقيا حبيبي واجعليني متذوقاً حلاوة الملكوت المعد لي حتى لا أعود أذكر سوى مخلصي إلى أبد الآبدين . 

الرجاء ليس مخدرا إذا كان ماركس يقول إن الدين أفيون الشعوب فإنه قد أخطأ لأنه نظر نظرة سطحية إلى حياة المسيحي ، فإن اتكال المؤمن على الله وانتظاره الحياة الأبدية لا يعنى أن يتراخي في أداء أعماله ويهمل في الأمانة الموضوعة على عاتقه ، لأن حياة الرب نفسها وحياة القديسين أمثال بولس الرسول ترينا كم جاهدوا واحتملوا وشقوا طريقهم بكل تصميم وعزم وأمانة دون تكاسل أو تراخ . وقد يكون ماركس معذوراً عندما وجد حكومات تدعى أنها مسيحية وهي حكومات استعمارية تستغل خيرات الشعوب النامية وتنشر الدين المسيحى بين هذه الشعوب على مستوى الخضوع واحترام السلطات وعدم التذمر وقبول الأوضاع كما هي .. هذه هي دائما محاولة الرجعية البورجوازية في سبيل تدعيم استغلالها للشعوب .. وإذا كان الاستعماريون قد نجحوا في القرنين التاسع عشر ومنتصف العشرين في نشر هذه الاتجاهات فإن المسيحية بريئة منها تماماً لأن الرجاء المسيحي لا ينفى الإخلاص والنشاط والغيرة والحماس والتزام المواقف والاحتجاج على الظلم . فقد كان أنبياء الله وآباء الكنيسة يوبخون الظالمين دون وجل كما انتصب إيليا أمام أخاب وإيزابيل . وقد ظهر فى الحياة علماء وفلاسفة وأبطال غيروا مجرى التاريخ بقوة صلابتهم وشدة تمسكهم بمبادئهم ، وكانوا متدينين عابدين مترجين مجئ الرب من اعتنق المسيحية لم يعد بوسعه أن يهرب من العالم لأن الله ألقى بنفسه ومنتظرين ساعة الخلاص بفارغ الصبر ..بالتجسد في صميم العالم وأصبحت البشرية كلها جسد المسيح وأصبحت آلامها آلام المسيح . فليست المسيحية أفلاطونية تتوق إلى الهروب من هذا العالم للتحليق في عالم المثل ، إنما هي ديانة الإله المتجسد ، ديانة الكلمة الذي صار جسداً . ليست المسيحية ديانة ” ما وراء ” ، لأن ملكوت الله ليس ” ما وراء ” التاريخ .. هو سيتحقق بملئه عند نهاية التاريخ ولكنه منذ الآن حاضر ” إنها ستأتي ساعة وهي الآن ” .. فانتظار المسيحيين لمجئ ربهم ثانية لا يمكن أن يعنى هرباً من مجابهة الواقع ، لأن هذا الانتظار إن عنى شيئاً ، فإنما يعنى الامتداد إلى الملكوت والتحرك نحوه ، وبالتالي العمل على تحقيق بواكير التاريخ … فانتظار الملكوت لا يعنى الهرب من الحاضر وإنما يقتضى تجلى الحاضر.. من كان انتظار الملكوت يملأ قلبه لابد له أن يحاول عكس صورته في العالم الذي يعيش فيه ، وكأنه بذلك يعجل القيامة .. ” .

من عنده هذا الرجاء

من عنده هذا الرجاء به يطهر نفسه . فالمؤمن الذى يعيش منتظرا ملكوت الله لابد أن يحيا الآن في خضوع لإرادة الله التي هي قداستنا ” لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ” . فالقداسة هي التزام الرجاء المسيحى الحقيقى ودلالة حيويته وصحته وسلامته. ومن عنده هذا الرجاء يصبر لأن الرسول يقول ” ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر ” . ويقول أيضاً ” إن كنا نصبر فسنملك أيضاً معه ” (رو ٨ : ٢٤ – ٢٥) .وهو نفسه يشجعنا وينصحنا بقوله ” فلا تطرحوا ثقتكم التي لها مجازاة عظيمة لأنكم تحتاجون إلى الصبر حتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد .لأنه بعد قليل جدا سيأتي الآتى ولا يبطئ ” (عب ١٠ : ٣٥ – ٣٧) . ونحن نجد أمثلة رائعة لصبر الرجاء في شخصيات آبائنا القديسين أمثال نوح البار وإبراهيم أبو الآباء وبولس الرسول .. الخ . ومن عنده هذا الرجاء يركض دائماً نحو الجعالة حسب قول الرسول ” أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام . أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع ” (في ۳ : ۱۳) . ذلك لأنه من طبيعة الرجاء وفاعليته أن يظهر الإكليل والجعالة أمام المؤمن ، وكلما اتضح الإكليل استهان المؤمن بكل شئ في الحياة ونهض كالأيل يجدد قوة  يرفع أجنحة كالنسور … متشجعاً بقول الرب نفسه ” لا تخف لأنى معك .. أنا الرب إلهك الممسك بيمينك القائل لك لا تخف أنا أعينك ” ) أش ٤١ : ١٠ – ١٣ ) .

بعض الآيات للتأمل في الرجاء الحي

١-موضوع الرجاء

لكن الرجاء المنظور ليس رجاء لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضاً ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر (رو ٨ : ٢٤) . ولدنا ثانية لرجاء حى بقيامة يسوع المسيح .. لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل محفوظ في السموات لأجلكم (١بط ١ : ٢) .

+ إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس (١كو ۱٥ : ۱۹) ، راجع أيضاً ( ٢كو٤ : ١٦ – ١٨) .

٢-الرجاء مرتبط بالإيمان والمحبة

+ أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة ، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة (۱ کو ۱۳ : ۱۳) .

+ متذكرين بلا انقطاع عمل إيمانكم وتعب محبتكم وصبر رجائكم (اتس ۱ : ۳) .

٣-ثقة الرجاء

+ وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتة إلى النهاية (عب ٣ : ٦) .

+ ألقوا رجاءكم بالتمام على النعمة التي يؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح (ابط ۱ : ۱۳) .

٤– تعزية الرجاء

+ تكون لنا تعزية قوية نحن الذين التجأنا لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا (عب ٦ : ١٨ – ٢٠) .

٥ – تزكية الرجاء

+ عالمين أن الضيق ينشئ صبراً والصبر تزكية والتزكية رجاء والرجاء لا يُخزى لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا ( رو ٥ : ٥٣ ) ، راجع أيضاً (١بط ١ : ٥ – ٧) .

أجرة الرجاء وإكليله

+ آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا (رو ۸ : ۱۸) .

+ إن كنا نتألم معه لكى نتمجد ايضاً معه (رو ۸ : ۱۷) .

+ كما اشتركتم في آلام المسيح افرحوا لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضاً (ابط ٤ : ١٣) .

+ ها أنا آتي سريعاً وأجرتى معى لأجازى كل واحد كما يكون عمله (رو ۲۲ : ۱۲).

المحبة الطاهرة

ما هي المحبة وما هو الحب الحقيقي ؟

هناك ثلاثة أنواع من الحب يلزمنا أن نوضح كل واحد منها حتى نفرق بين المحبة المسيحية الحقيقية والمحبة الغاشة

النوع الأول : ويسمى ( ايروس ) العشق

وهذا النوع هو الحب الجسدى ، الحب الذاتي المتمركز حول الأنا هو عشق للذات وتثبيت المرحلة الطفولة . ولكن هذا النوع ليس حباً وإنما هو عبودية .. والإنسان عندما يقع في عبودية حبه لنفسه فإنه يسجنها ويفقدها معنى الحب وفاعليته .. والحب الأيروسي صورة ناقصة من صور الحب .. إنه دائرة مغلقة ، كل من يحبس نفسه فيها يصير سجيناً. يتوهم أنه قادر على الانطلاق ولكنه حبيس لا يرى نور الحرية لأنه في قبر الذات يعيش .. إن الحب الحقيقى لا يكتمل إلا في الآخر .. والآخر هو الذي يقضى على العزلة وينتزع النفس من الأنانية المرة .. وإذا أحب العاشق فإنه يحب نفسه في الآخر أنه لا يحب الآخر كما هو . إن العشق تمركز ذاتي ، ذلك لأن العاشق يتصور نفسه مركز الدائرة ويريد أن يدور الآخر في فلكه .هذه هي طبيعة الجسد .. يعيش ولا يحب ، يشتهى ولا يبذل يتلذذ ولا يرضى

بجراح المسئولية والالتزام .

النوع الثاني : التجاوب العاطفي

ليس التعاطف مجرد مشاركة وجدانية في الألم والسرور فحسب بل هو أيضاً وظيفة حيوية هامة تشعرني بأن ثمة تساوياً في القيمة بين ذاتى وذوات الآخرين … من حيث هم موجودات بشرية أو كائنات حية .. ولكن الأمر الذي يجب أن نشير إليه هو أن المشاركة الوجدانية والتعاطف ليس نفاذا مطلقاً أو اختراقاً تاماً لشخصية  الآخر .. ليس من شأن التجاوب العاطفى أن يصهر ” الذوات  في بوتقة واحدة أو أن يذيب الفوارق الفردية القائمة بين الشخصيات .. لابد أن نفهم أن التعاطف مجرد مشاركة وجدانية تفترض الانفصال بين الذوات .. وتظل محتفظة بتلك المسافة أو ذلك البعد الذى يفصل بين الشخصيات ويعطى كثير من العلماء أهمية للوظيفة الأخلاقية للتعاطف ويرون فيها بداية الطريق إلى محبة القريب . والحقيقة أن التجاوب العاطفى والمشاركة الإنسانية أرقى في مستواها كثيرا من العشق الأيروسي .. – ولكنها مسيحياً – مشاعر إنسانية أرضية نابعة من طبيعة الجسد .. وكل ما ينبع من الجسد – مهما كان رقيه – فهو في نظر الإنجيل موت ، لأن الذين يسلكون حسب الجسد فحسب الجسد يموتون .

النوع الثالث : المحبة ( أغابيه )  

لقد رسم الكتاب المقدس صورة الحب في النموذج الذي قدمه الآب السماوى عندما أحبنا فبذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به وأوضحه الابن عندما قدم ذاته على الصليب لأجل خلاص الكنيسة .. فكما أحب المسيح الكنيسة حباً قائماً على البذل الحقيقى على مستوى الموت ، فإن المسيحى لا يكون له حب صادق طاهر إلا على هذا المستوى وبمثل هذه النوعية .. على ذلك فليس هناك حب صادق إلا من خلال المسيح وبعمل الروح القدس وحده .. ” لأن المحبة قد انسكبت فينا بالروح القدس ” . فالمحبة المسيحية الحقيقية ما هي إلا حضور الرب يسوع في قلب المؤمن لأن يسوع وحده هو المحبة .. وإن لم يكن يسوع هو مصدر هذه المحبة وإن لم يكن الروح القدس هو ينبوعها فهى محبة ذاتية بشرية أرضية غير مرضية أمام الآب السماوى مهما كانت صورها الخلقية غاية في الرقى الإنساني

وإذا كان ما يميز الأيروس هو ( التمركز حول الذات ) ، فإن ما يميز الأغابية هو ( التمركز حول الله ) ، وعلى حين أن الأيروس رغبة وشوق واشتهاء، نجد أن الأغابية بذل وعطاء وتضحية بالذات .فالأيروس ينشد متعة الذات، فى حين أن الأغابية تهب نفسها للآخرين .

أهمية الأغابية في الحياة المسيحية

بدون المحبة لا تستطيع النفس الاقتراب إلى الله لأن الله محبة .. وبدون المحبة لا تستطيع الكنيسة أن تكون كنيسة لأن الرأس حب كامل فكيف يكون الجسد جسداً للرب وهو خال من الحب … إننا نستطيع أن ندرك عمق المحبة وأهميتها في حياة الرب يسوع وخاصة في الساعات الأخيرة من حياته على الأرض عندما كان يصلي في البستان لأجل خاصته ولأجل المؤمنين ، وعندما قدم نفسه وحمى تلاميذه

وهكذا كان جسده المكسور ودمه المسفوك هما التقدمة الغالية التي أعطاها لتلاميذه ليلة آلامه كى يكون قوة لكل مؤمن يستطيع من خلال سر الشركة أن يقدم حياته بدلاً لأجل الآخرين وفدية عن العالم الفاسد الشرير . ولكى ندرك مدى أهمية المحبة فى حياة المسيحى نسرد هذه الآيات من رسالة معلمنا يوحنا الأولى :

+ من قال إنه في النور وهو يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة . + من يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة ، وأما من يبغض أخاه فهو في الظلمة ، وفي الظلمة يسلك ولا يعلم أين يمضى لأن الظلمة أعمت عينيه (١يو ۲ : ۱۰ – ۱١) . كل من يحب فقد ولد من الله .. ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة(١يو ٤ : ٧ – ٨) . وهكذا نجد أن المسيحية تعتبر الثبوت في المحبة ثبوتاً في الله وثبوتاً في النور وولادة من الله ومعرفة حقيقية للحق إنها الدلالة القاطعة على حياة التجديد والانتقال من ظلمة الإنسان العتيق إلى حياة البر الأبدية . 

الأغابية والآخرون إن المحبة المسيحية تضع محبة القريب شرطاً أساسياً لضمان سلامة نوعيتها فالرسول يوحنا يقول ” إن قال أحد إنى أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره ، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره ؟ من يحب الله يحب أخاه أيضاً (١يو ٤ : ۲۰ – ۲۱) ، فالمسيحية تطلب منا أن نكون ( أغابية ) عاملة تنحنى على جراح البشرية وتمسح دموعهم وتأخذ بأيديهم … ” كل ما فعلتموه بهؤلاء الأصاغر فبي أنا فعلتم ” .والرسول بولس يضرب مثلاً رئعاً في محبة الأخوة روحياً عندما يقول ” إنني كنت أود أن أكون أنا نفسى محروماً من المسيح من أجل أخوتي أنسبائي في الجسد وفي موضع آخر يقول ” من يعثر وأنا لا أعثر . من يضعف وأنا لا ألتهب ” . 

سمات المحبة المسيحية

+ محبة إلهية من خلال المسيح – غير متحيزة – غير نفسانية – غير نفعية وهي موحدة تجمع ولا تفرق – تربط ولا تقسم …

+ محبة روحية من خلال الحق ( ينبغى أن يُطاع الله أكثر من الناس ) . لا تجامل على حساب الحق ولا تقبح دفاعاً عن الحق …

+ محبة داخلية من خلال الاختبار . يعمقها ويسندها ذخيرة في أعماق الكيان . 

+ محبة محتملة من خلال الانفتاح والاستنارة والبذل العملي فهي لا تعرف الانكماشية أو التقوقع أو التعصب . 

مسئوليات المحبة المسيحية

لقد أوضح الرسول بولس مسئوليات المحبة عندما تحدث في رسالته الأولى لأهل كورنثوس عن أهمية المحبة وتفوقها عن كافة المواهب الروحية بقوله ” إن كنت أتكلم بالسنة الناس والملائكة ، ولكن ليس لى محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن. إن كان لى الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لى محبة فلست شيئاً “.

+ المحبة تتأنى وترفق … هذه مسئولية الصبر والترفق على الضعيف .

+ المحبة لا تحسد هذه مسئولية مباركة وتطويب مواهب وحاجات الآخرين حتى لا يدخل الحسد إلى قلب المؤمن . 

+ المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ ، ذلك لأنها وديعة متضعة فلا يدخل أصبع إبليس المتكبر المنتفخ ليلوثها ، إنها لا تعزل نفسها عن الآخر حتى تتعالى عليه . 

+ المحبة لا تقبح ولا تطلب ما لنفسها . وذلك لأنها طاهرة بفعل الروح القدس روح الحب والقداسة .

+ المحبة لا تحتد ولا تظن السوء وسر عدم الاحتداد هو رقتها وترفقها واتضاعها واحتمالها وطول أناتها وصبرها . وهى لا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق . ذلك لأنها تتجه إلى الحق وتثبت في النور فلا تتجه إلى ظلمة الإثم والشر ” من يفعل الحق يقبل إلى النور ، ومن يحب يثبت في النور ” . وهكذا نرى أن كل من يحب – بروح مسيحية – يثبت في النور والحق … والمسيحى لا يحب ولا يفرح إلا من خلال الحق وحده . وهي تحتمل كل شئ وتصدق كل شئ وترجو كل شئ ونصبر على كل شئ . المحبة لا تسقط أبدأ ” (١كو ١٣) . والرسول يوحنا يؤكد لنا أهمية الفاعلية العملية للمحبة من مودة وخدمة الطاعة وعطف واتفاق مادى و معنوى لأن هذه هى التى تبرهن على صدق المحبة وأصالتها ونقاوتها … … من كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبة الله فيه .. يا اولادى لا نحب بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق (١يو ۳ : ۱۷ – ۱۸) .

مواقف للمحبة العملية

+ قصة الأخين والقمح من منهج مدارس التربية الكنسية

+ قصة إبراهيم الجوهرى وأخيه الذى أهين من أحد العامة . 

+ قصة عنقود العنب الذى أرسل لدير فى غير ميعاده ، ومر على جميع الرهبان ،

وكل راهب يعطيه لأخيه حبا وتفضيلا . 

+ محبة القديسة بربارة لوالدها الوثني وصلاتها لأجله ولأجل الوالي الذي عذبها 

+ محبة استفانوس لأجل راجميه 

+ محبة بولس لأجل مخدوميه ” من يعثر وأنا لا أعثر من يضعف وأنا لا ألتهب ” . 

+ قصص من سير الأنبا بيشوى والأنبا صرابامون والأنبا ابرام ( راجع بستان ) الرهبان والسنكسار وتاريخ الكنيسة ) .

أهمية المحبة

مقتطفات من أقوال الآباء 

+ ” نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الأخوة ” (١يو ٣ : ١٤) . 

+ ” إن كان في القلب محبة للأخوة لنكن في راحة لأننا انتقلنا من الموت إلى الحياة حقا إن الحياة تكمن فينا ، لكن كما في الشتاء الجذور حية ، لكن الفروع كما لو كانت جافة ، في الداخل تكمن الحياة فينا في الداخل أوراق الشجر. وفي الداخل تكمن الثمار ، لكن هذا كله يترقب مجئ الصيف ” ( أوغسطينوس ) .

بلا غرض أو منفعة

+ ” إن أحب أحد الله من أجل المرئيات فحبه جسداني ، وإن كان الإنسان يحب الله بدون غرض فحبه روحانى . وهذا الحب محفوظ لنا في حياة ما بعد القيامة ” ( القديس يوحنا التبابيسي ) .

النمو في المحبة

+ ” كما أن الجنين الذي في الرحم لا يبلغ الرجولية في لحظة ، بل تبدأ فيه الصورة والميلاد رويداً رويداً . وكما أن حبوب القمح والشعير لا تثمر حالما تبذر في الأرض .. كذلك الأمور الروحية فيها حكمة ودقة عظيمة فإن الإنسان ينمو درجة فدرجة ، ويعلو إلى

قامة تامة ” (أف ٤ : ١٣) ( مقاريوس الكبير ) .

المحبة يلزم أن تكون عملية

+ ” إن سيدنا لم يعلمنا أن نحفظ جميع الوصايا بالكلام فقط بل أرانا ذلك بأفعاله أيضاً لأنه مكتوب أنه ابتدأ يعمل ويعلم ويكمل جميع الوصايا واحدة واحدة .. ” .

+ ” وهذه جميعها أكملها بالفعل .. فلا يمكن للإنسان أن يكون محباً إلا بحفظ الوصايا عملياً وإن لم يحفظها فإنه لا يرث الحياة ” ) مار فليكسينوس ) .

المحبة يلزم أن تكون طاهرة

+ ” الذى يحب الرب فهو يحب الكل ، فيا أولادى الأحباء لا تكلوا ولا تملوا من محبة بعضكم لبعض بل اجعلوا هذا الجسد الذى تلبسونه مجمرة ترفعون فيها جميع أفكاركم ومشوراتكم إلى الرب برفع عقولكم إليه وتقديم قلوبكم له واطلبوا منه أن يوقد فيكم نار محبته لتحرق وتطهر كل ما في تلك المجمرة ” ( أنطونيوس الكبير ) .

المرجع : كتاب موسوعة الأنبا بيمن المجلد العاشر ( صفحة ٢٢٨٥- ٢٣٠٢ ) – إصدار مطرانية ملوي وأنصنا والأشمونين

 

 

الأحد الثاني من شهر توت المبارك للمتنيح القمص تادرس البراموسي

أفعل هذا. فتحيا (لو ١٠ – ٢١ – ٢٨)

قدم الرب يسوع له المجد الشكر للأب على أن الحق الروحي معلن لكل إنسان وليس لصفوه معينة من الشعب أو للمختارين فقط أو الذين لهم اليد الطولي في الحصول على كثير من المزايا. ويبدوا أن العديد من منافع هذا العالم ومزاياه تذهب فقط للإنسان الذكي أو الغنى أو بهى الطليعة. والحقيقة أن هذا الأمر متاح للجميع والتكافؤ بغض النظر عن المركز والامكانيات المادية أو القدرات البشرية ونحن إذ نتقدم للرب يسوع.

لا بقوتنا أو بذكائنا ورجاحة عقولنا، بل بثقتنا وايماننا لنرفع الشكر إلى الله. على أن لنا جميعاً فرصة للوصول إلى معتمدين على دم المسيح الفادي.

في كل مجال لم يترك الرب فرصة إلا ويوضح فيها أمور كثيرة لأجل حياتهم ولأجل الخدمة وعن لاهوته. الحقيقة أن التلاميذ تمتعوا بكثير من المزيا في وجودهم مع الرب يسوع وفى هذا الإنجيل نظر إليهم وقال: طوبى للعيون التي تنظر ما تنظرونه. الحقيقة لم يتمتع أحد بمثل هذا الجمال الذي تمتع به التلاميذ ثم قال لهم موضحاً. أن الأنبياء وملوك أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنظرونه وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا.

في كل هذا العمل العظيم والكلام الجميل المعزى من فم الرب يسوع أحد الناموسين لكي يجربه ما أبخسك أيها الإنسان نحن في عمق التعزية وأنت في حضن الشيطان. قام يجرب الرب يسوع قائلاً يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية. الرب يسوع يعلم ما ينويه هذا الرجل إلا أنه أراد أن يعطيه كلمه الخلاص لعله يتوب فقال له. ما هو مكتوب في الناموس وكيف يقرأ. فأجاب الرب وقال تحب الرب إلهك (لو ١٠ – ٢٧) فقال الرب يسوع بالصواب أجبت. افعل هذا فتحيا. ولنا تأمل في قصة هذا الرجل الناموسى الذى أراد أن يجرب الرب يسوع ففي إيجاز نقول: –

العظة الأولى

أ – عطايا الله للبشر

ب – إعلان ما خفى عن الحكماء

ج – مسرة الآب في إيماننا

د – الطوبى لكل مستحقيها

هـ – عمل الروح القدس في العهد الجديد

و – تقديم الشكر في البداية والنهاية

ذ – إعلان ملكوت الله وشروطه

ح – كبرياء الإنسان وتجربة الديان

ط – حفظ القشور والبعد عن الصواب

ى – نصيب المسيحية لم ينله الأنبياء

 

العظة الثانية

أ – سؤال من أهم الأسئلة في الحياة

ب – ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية

ج – عن القلب وطلاقه اللسان

د – مجرب وليس أمين لا يستحق النعمه

هـ – أجابه تحث القلب وتيقظ الضمير

و – كيف نهتم بالداخل ونترك الشكليات

د – ابحث عن الفعل وليس القول أفعل هذا فتحيا

ح – حرمان الحكماء وفرحه الأطفال

ط – كنوز الحكمة. وأبناء النعمة

ى – حواس الإنسان ونعم المنان

 

العظة الثالثة

أ – مسرة الله في خلاص الخطاة

ب – مساوات الأبن بالآب وإعلان ذلك

ج – النعمة المعطاة وحرمان الخطاة

و – الحكمة في الطلب والغش في السؤال

هـ – تهور الشباب ونسيان القيم

و – إعلان الوصية والتزام البشرية

ذ – الناموس المختار ورافض الثمار

ح – أجابت السؤال وسوء الأعمال

ط – لم يعرف القريب ومن الصواب غريب

ى – تكريس الحواس والبعد عن الوسواس[10]

 

عظة عن قراءة اليوم للمتنيح القمص بولس باسيلي

ماذا اعمل لأرث الحياة الأبدية

الوصية العظمى!!

تقسيم على ضوء القراءات الكنسية:

البولس :      (٢ تی۱ : ۱۲ – ۲ : ۱ – ١٠)

كاثوليكون :   (يعقوب۲ : ٥ -١٣)

ابركسيس:    (أع١١: ١٩ – ٢٦)

الانجيل:       (لوقا۱۰: ۲۱ – ۲۸)

تمهيد:

حول كلمة ” المحبة ” اجتمعت جميع القراءات الكنسية لهذا الفصـل، فالبولس يوصى بالتمسك بها (۲ تی ۱: ۱۳) والكاثوليكون يعتبرها تكميل الناموس (يع ۲ : ۸) ، والأبركسيس يحدثنا عن أول مرة دعى فيها التلاميذ مسيحيين ، وجوهر المسيحية المحبة لأن الله محبة (أع ١١ : ٢٦) والانجيل يدور حول محورها ” تحب الرب الهك … وقريبك مثل نفسك ” (لو ۱۰ : ۲۷)

القسم الأول: دوافع المحبة

(١ ) لأن المحبة تكميل الناموس ” إن كنتم تكملون الناموس الملوكى تحب قريبك كنفسك فحسناً تفعلون (يع ٢ : ٨) ( أنظر الكاثوليكون )

(٢ ) لأن المحبة باب الملكوت ” ورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه ” (يع ٢ : ٥) ( أنظر الكاثوليكون )

(٣) ولأن المحبة أساس المسيحية ” تمسك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته منى في الإيمان والمحبة ” (۲تی۱ : ۱۳) ( أنظر البولس ) وعلى أساس المحبة ” دعى التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولا ” (أع ١١ : ٢٦) ( أنظر الأبركسيس )

(٤ ) ولأن المحبة هي الوصية العظمى ” يا معلم أية وصية هي العظمى في الناموس فقال له يسوع تحب الرب إلهك . . . هذه هي الوصية الأولى والعظمى ” (مت۲۲ : ٢٦ – ٢٨)

( ه ) ولأن المحبة هي الذبيحة العظمى “محبة من كل القلب . . . ومحبـة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح ” (مر ۳۳:۱۲) (۱کو ۳:۱۳)

القسم الثاني : قوانين المحبة

(١) أن تكون بحرارة وسخاء ” من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك ومن كل نفسك ” (مت ۲۲: ۷) ” فأحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة ” (۱بط ۱: ۲۲)

(٢) وأن تكون مخلصة وبلا رياء ” المحبة فلتكن بلا رياء ” (رو ۱۹:۱۲) (٢کو ٦: ٦) كمحبة يوناثان لداود (۱صم ۲۰: ۱۷)

(٣) و أن تكون للجميع بلا استثناء ” نحو بيوتنا (أف ه: ٢٥) و ” نحو وطننا (خـر ۳۲: ۲۳) و ” نحو الغرباء (رو ۱۲: ۱۳) و ” نحو الأعداء (مت ه: ٤٤) و ” نحو الجميع (غلا ٦ : ١٠)

القسم الثالث: ثمار المحبة

(١) في الرفق بالانسان ” الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه إذ قد خدمتم القديسين وتخدمونهم ” (عب ٦: ١٠) (مت ٣٥:٢٥)

(٢) في مشاركة الوجدان “فرحاً مع الفرحين و بكاء مع الباكين ” (رو ١٢: ١٥) (ا کو ١٢: ٢٦) كمحبة يوسف لاخوته ، وراعوث لحماتها في الصفح والغفران ” كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين ” (أف ٤: ٣٢) (کو ۳: ۱۳)

 

تأملات روحية نقاط تفسيرية…في عظة الأحد الثاني من توت (لو ۱۰: ۲۱ – ۲۸)

“تهلل يسوع بالروح” لأول مرة نرى يسوع يتهلل بالروح ، لأول مرة يسجل له الكتاب “ضحكة واحدة ” بينما سجل له ” ثلاث دمعات ” دمعة على أورشليم يرثيها ويبكيها ، ودمعة على لعازر حبيبه ، ودمعة في بستان جثسيمانى حتى تصبب عرقه كقطرات الدم !!

  • ليست المسيحية شيئاً مقبضاً مظلماً كئيبا ، إنها فرح مقدس عظيم ، إن المسيحية لا تطلب الذهاب دائما إلى بيت النوح ، ولكنها تطلب الذهاب أيضا إلى بيت الفرح ” افرحوا في الرب كل حين وأقول لكم أيضا افرحوا ” (في٣: ١) وقول النبي ” اعبدوا الرب بفرح ” (مز١٠٠: ٢ )وكقول المرنم ” اسمعنى سروراً وفرحا فتبتهج عظام سحقتها “(مز٥١: ٨) ، و “الصديقون يفرحون ، يبتهجون أمام الله ويطفرون فرحا “(مز ٦٨: ٢)، لقد ذهب المسيح إلى بيت لعازر الميت ، و بيت ابنة يايروس ، وسار في جنازة ابن الأرملة ولكنه أيضا لبي عرس قانا الجليل .
  • وفرق كبير بين فرح وفرح: فرح العالم وفرح الروح ، فرح العالم في الخمر واللهو ، فرح الروح في الرب. فرح العالم كثيراً ما يستحيل حزنا، وفرح الروح ان ينتهى (اي ٢٠: ١٨) .

لخص أحدهم مثل السامرى الصالح في أربعة مواقف:-

موقف اللصوص الذين سلبوا الرجل ماله، وشعارهم “كل مالك فهو لى”

  •  موقف الكاهن واللاوى اللذين رأيا الجروح واجتازا دون عمل شيء. وشعارهما: “كل ما لى فهو لى “. *موقف صاحب الفندق الذي يعالج المجروح بالأجر، وشعاره: ” بعض ما لى نظير بعض مالك “
  • موقف السامري الذي يعتبر المجروح قريبه الذي يجب أن يعتنى به ، وشعاره: “كل ما لى فهو لك “. و •”من هو قريبي؟ ” توجد في العالم ألوان كثيرة، ولكنها كلها أشعة من الشمس الواحدة: الندى، المطر ، الضباب ، البخار ، وكلها ما . في صور مختلفة.
  • المسافة بين أورشليم وأريحا نحو عشرين ميلا أرضها أودية عميقة ، تكثر فيها الكهوف ، وفى صخورها يكمن اللصوص وقطاع الطريق ، حتى أنها دعيت ” الطريق الحمراء ” نسبة لكثرة ما يراق فيها من دماء المسافرين ، و لكن شكرا لله لأن هذه الطريق عينها سار فيها “السامرى الصالح ” دون خوف أو وجل ، واستطاع أن يحيل “الطريق الحمراء ” إلى “طريق بيضاء ” وهكذا ” من الأكل خرج أكل ومن الجافى خرجت حلاوة ، ! !
  • لماذا “تهلل يسوع بالروح ” ؟ وما الدافع إلى هذا الفرح؟ اقرأ السبب في الأعداد السابقة: ” فرجع السبعون بفرح قائلين يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك ” فسبب التهليل والفرح نجاح الكرازة وانتصار الحق ، وقبول الكثيرين لبشارة الخلاص ، حتى رب المجد قال لهم , رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء ، ! !

“اخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للاطفال ” :

ومعنى هذا أن أسرار ملكوت السموات لم تكشف لفلاسفة ذلك العصر، ولا لعلماء اليهود ، بقدر ما كشفت للتلاميذ الصيادين والجهلة ، حتى أن الرسول يقول:

” اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء ، واختار الله ضعفاء العالم ليخزى الأقوياء” واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود “(١كو ١: ٢٧) وطبيعي أن الوحى يقصد “بالحكماء “هنا ، الحكماء في أعين أنفسهم ، أو المدعين الحكمة حتى أنه مكتوب ” سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء ، اين الحكيم اين الكاتب اين مباحث هذا الدهر ، ألم يجهل الله حكمة هذا العالم ؟ “(١كو ١: ١٩)

أما قوله ” أعلنتها للاطفال ” فيشير بها إلى شيئين :

الشيء الأول : التلاميذ الذين هم في عداد الأطفال من حيث القداسة والبراءة والطهارة .

والشيء الثاني:  أنهم في عداد الأطفال من حيث سذاجتهم وجهالتهم بوصف كونهم صيادين فقراء ، وعشارين محتقرين من الناس

عند الربيين أقوال ذات مغزى في المحبة :

+”الذي يعيش كريما مضيافا من تلقاء نفسه له الفردوس ” .

+”إن ضيافة الغريب المسافر أعظم من التمتع بإعلان إلهى “.

+ “كل من زار مريضا ينج من دينونة جهنم”.

“كيف تقرأ ” ؟ قال أحد الفلاسفة ” إنني دائم السفر والتجوال لألقى الفلاسفة والعلماء والأدباء والمفكرين من كل جنس ودين ، غير عابئ بالزمن والحدود أو حالة الجو ” فأنا أصغى بوساطة الكتب ـ إلى الأموات القدامى ، كما أصغى إلى الأحياء الذين تفصلني عنهم المسافات الشاسعة وتختلف أجواء بلادهم عن جو بلادنا تمام الاختلاف …” . إن في أذهاننا جميعا شيئاً من الفراغ تتسع رقعته أو تضيق تبعا لاهتمام المرء.

بالقراءة والدراسة أو إهماله إياهما ، ومن حسن الحظ أن القراءة هي المتعة الوحيدة التي لا يمكن أن يسامها المرء بعد حين ، وأيا ما كانت مشاغل المرء اليومية ، فإن لديه ساعة أو ساعتين قبل النوم أو في الصباح الباكر يستطيع أن يطالع خلالها في كتاب الله ثم في كتب الأدب والاجتماع أو أي كتاب يتعلق وهوايته المفضلة .

“من هو قريبى ” ؟ قال جبران خليل جبران :

” بخبثهم واحتيالهم فرقوا بين العشيرة والعشيرة ، وأبعدوا الطائفة عن الطائفة ، و بغضوا القبيلة بالقبيلة فحتى متى نتبدد كالرماد أمام هذه الزوبعة القاسية ، ونتصارع . كالأشبال الجائعة بقرب هذه الجيفة المنتنة ؟ “. ” لحفظ عروشهم وطمأنينة قلوبهم قد سلموا الدرزي لمقاتلة العربي ، وحمسوا الشيعي لا صارعة السني ” ، ونشطوا الكردي لذبح البدوي ، وشجعوا الأحمدي لمنازعة المسيحى ، فحتى متى يصرع الأخ أخاه على صدر الأم ، وإلى متى يتوعد الجار جاره ، ويتباعد الصليب عن الهلال أمام عين الله؟[11]“.

 

 

أريد أن أري الله للقمص يوحنا باقي

الباب الاول  (أريد أن أري الله)

* أنا أؤمن بوجود الله ولكني أريد أن أراه بعيني ، فمن حقي أن أرى إلهی ، فكيف أعبد إلهًا لا أراه ؟!

+ ثم إن الله غير محدود ويملأ كل مكان وهو أعلى من أن تراه . أنت مخلوق صغير من مخلوقاته ، فلا تستطيع أن تحصره ، فهو ليس مثل المخلوقات التي تراها بعينيك بل هو خالق الكل وإن رأيته مثل باقي المخلوقات فلا يكون هو الله

* أنا أعلم أنی محدود وهو غير محدود ولكني أريد أن أرى ولو شيئًا منه

+ تستطيع إدراكه من خلال مخلوقاته، كما يقول معلمنا بولس الرسول” لان أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولا هوته “(رو١: ٢٠) .

كما يظهر ذلك في:

١- خلق الله لكل هذه المخلوقات من العدم ولا يمكن أن تتطور المخلوقات إلا من مخلوقات أولى ولكن من خلق المادة التي تطورت منها كل هذه المخلوقات إلا الله؟

٢- أبدع الله في مخلوقاته سواء النباتات بأزهارها الجميلة وروائحها العطرية التي لا يستطيع الإنسان أن يصنع مثلها في الجمال، والحيوانات المختلفة بأشكالها المتباينة، وفوق الكل الإنسان الذي مازال العلماء يدرسون عظمة تكوينه ولم يدركوا إلا القليل عنه

٣- نظام الكون الذي لا يمكن أن يوجد إلا بواسطة منظم، الذي هو الله، فالكواكب تدور في مسارات محدودة رغم ضخامتها ولو انحرف أحدها ولو قليلاً لتحطم الكون كله لأنه مترابط، وكل مجموعة شمسية تتحرك كواكبها بنظام خاص ودقيق فلا يتعارض مع باقي المجاميع الشمسية داخل ما يسمى بالمجرات ؛ ويوجد في العالم ملايين المجرات . فمن هو المنظم العظيم لكل هذه إلا الله أنت تثبت لى وجود الله. أشكرك جداً على هذا، ولكن مازالت أشواق قلبي أن أراه لأني أحبه. أنا لا أشك في وجوده، ولكني مشتاق أن ألمسه.

+ إن موسى قبلك طلب أن يرى الله، ولكن الله قال له أنه لا يمكن أن يراه إنسان، فلأجل مجده وبهائه العظيم لا يحتمل أحد أن يراه  ولكن موسی تکلم مع الله كثيرا فإن كنت لا أحتمل عظمته ومجده، ولكن أريد أن أراه بأي طريقة وأشعر بوجوده. لقد تمتع الناس برؤياه عندما تجسد وعاشوا معه ولمسوه، وبالطبع ساعدهم هذا على الحياة الروحية ومعرفته.

+ حقا إنها نعمة كبيرة تمتع بها كل من عاشوا أيام تجسد المسيح. ولكن لا تنسى أن كثيرين لم يؤمنوا، بل قاموا عليه وصلبوه. وهو أيضا لم يحرم كل من عاشوا على الأرض بعد صعوده بأن أعطانا الروح القدس ليسكن فينا ويشعرنا بوجوده.

+ الخلاصة أنا أريد أن أرى الله … أنا شخص عادي لا أريد أبحاثًا عن الله ولكني أريده هو لأني أحبه … أرشدني إلى وسائل تساعدني أن أرى الله .

الباب الثاني وسائل رؤية الله

إن الله يحبك ويريد أن يظهر نفسه لك، ولكن لأنك مازلت في الجسد لا تستطيع أن تنطلق في تمتعك برؤياه، فالجسد كالستارة التي تحجب عنك الكثير من عظمة الله ، ولكن على قدر ما تحيا بالروح وتخضع الجسد لها تنطلق تدريجيًا من سجن الجسد لتعاین الله ، فيبدأ الله بكشف نفسه لك وتزداد تدريجيًا رؤيتك له حتى تستحق أن تنطلق من الجسد لتراه بأكثر وضوح في السماء . وفي الأبدية تنمو في معرفة الله إلى ما لا نهاية وتتمتع برؤياه بما لا يعبر عنه. وإليك بعض الوسائل التي رتبها لك الله لتساعدك على رؤياه.

 

الفصل الأول

١-الأسرار المقدسة

ضرورة الأسرار الله يظهر نفسه لمحبيه المؤمنين به ، لذا يتجلى في كنيسته وسط أولاده الذين يريدون أن يروه . فعلى قدر عظمته التي لا تحد ، لكن من السهل جدًا أن يعاينه من يطلبه . وقد رتب الله في الكنيسة وسائل المعاينته أهمها أسرار الكنيسة التي هي أساس الخلاص وبدونها لا يمكن الوصول إلى الملكوت

۲۔ سرالمعمودية

الأسرار المقدسة هي عمل خفى للروح القدس تؤمن به النفس وتعاينه ملموسًا من خلال مادة السر، ففي سر المعمودية مثلاً يحل الروح القدس على الماء ويعطيه خاصية أن يغير طبيعة كل من ينزل إليه فيلده ميلاداً جديداً وينزع عنه الطبيعة المائلة للفساد ويعطيه طبيعة جديدة مائلة للخير، فالعين ترى الماء ويد الكاهن تلمسه والإيمان يعاين الله الذي يلد أولاده من بطن الكنيسة ، التي هي المعمودية ، ليصيروا أبناء لها وأعضاء في الجسد الذي هو المسيح

٣- سرالإعتراف

أكثر الأسرار التي نعاين فيها الله نتيجة لتكرارها في حياتنا هي سرى الإعتراف والتناول. ففي سر التوبة والاعتراف يدخل المعترف إلى حضرة الله في وجود الكاهن وکیل أسراره ، وبعد الصلاة لاستدعاء الروح القدس يلقي المعترف بكل خطاياه ومتاعبه عند أقدام المسيح الذي يعطي بروحه القدوس إرشادات محددة لعلاج مشاكل المعترف على لسان أب الإعتراف ، فيسمع المعترف صوت الله بشكل يحتمله وهو كلمات الكاهن ، لأنه لا يستطيع أن يحتمل شيئًا من عظمة الله وصوته كما ظهر على الجبل لبني إسرائيل عندما أعطاهم الوصايا والشريعة ، فصوت الرعود كان شديداً مع البروق والضباب والنار والدخان وصوت البوق الذي كان يزداد اشتدادا ، فلم يحتمل بنو إسرائيل سماع الله أو رؤيته وطلبوا من موسي أن يتكلم هو مع الله ثم يخبرهم بما يريده الله منهم (خر ۱۹) . بعد إتمام الإعتراف يضع الكاهن الصليب على رأس المعترف ويسمع بأذنيه حلاً من الله على فم الكاهن بغفران جميع خطاياه . إنها رؤية لله على أعلى مستوى يشعر بها كل من استعد لهذا السر ، وهو فرصة للحوار مع الله وسؤاله عن كل شئ ، فيسمع الإنسان إجابات الله على فم الكاهن الذي هو أداة هذا السر ليعلن الله وجوده به .

٤- سرالتناول :

في سر التناول من جسد الرب ودمه ، لا يرى الإنسان الله فقط بل يأخذه داخله ويتحد به ، فتسري قوة الله فيه لتشدده وتثبته وتنير عينيه، وتغفر خطاياه . إنك تستطيع أن ترى الله في جسده المقسوم ودمه المسفوك المقدم على المذبح كل يوم ، وتراه ليس رؤية العين فقط بل إحساس الكيان كله في التلامس والاتحاد به ليغير حياتك من الضعف إلى القوة ويشبعك بمحبته ويقودك في طريق الأبدية السعيدة .

٥- الإستعداد للأسرار 

إستعد للسر بالتوبة والصلاة واطلب رؤيته وألح عليه ، حينئذ يكشف لك نفسه أكثر من كل من حولك لأنك تريده . وهو مستعد أن يعلن نفسه بطرق ملموسة لبعض الناس أثناء الأسرار تأكيداً لحضرته ، ولكن على أي الأحوال ستشعر به واضحاً عاملاً فيك فيمتلئ قلبك سلاما .كان هذا الكاهن يخدم في كنيسة بإحدى قرى مصر وقد اعتاد عمل القداسات وتقديم ذبيحة جسد الرب ودمه ليتناول منها المؤمنون ، ولكن يبدو أنه من اعتيادهم التناول فترت مشاعرهم من جهة مجد الله العظيم الذي يقدم نفسه لهم على المذبح كل يوم ليروه ويتحدوا به .

في أحد الأيام وبعد أن أنهى الكاهن صلاة القداس وناول الشعب وصرفهم ، سار في طريقه بجوار الترعة واتسخت يداه من الأتربة فنزل إلى الترعة ليغسلهما ، وفيما هو يفعل ذلك سمع صرخات من بعيد : حرام عليكم ما تغرقوش الولد ..فنظر الكاهن حوله ولم يجد أي أطفال ، فتعجب هو وكل من معه ، وحاول ثانية أن يغسل يديه ولكنه سمع صرخات أحد الفلاحين من بعيد تنادی ثانية : حرام عليكم ما تموتوش الولد ..

إزداد تعجب الكاهن ومن معه ولكن الروح القدس أرشده فنظر إلى يديه ولاحظ أن هناك جزءا صغيرا من جسد الرب ودمه مازال عالقا بأحد أصابعه ، ففهم وأسرع يلتقطه بفمه ويعتذر لله عن تهاونه ويشكره لأنه أرشده ونبه قلبه ، وشكر أيضا ملاك الذبيحة الذي نبهه ولعله كان صوت الفلاح هذا الذي نادى عليه ، وشعر هو وكل من معه بخوف شديد من أجل عظمة الله الذي يتنازل ويتجسد ليفدينا ويقدم نفسه لنا على المذبح المقدس في الكنيسة .

في القداس التالي بالكنيسة قص الكاهن كل ما حدث على الشعب، فامتلأت قلوبهم خوفاً وفرحاً وفي نفس الوقت شکروا الله الذي نبه قلوبهم لتخرج من فتورها ، وازداد ارتباطهم بالقداسات والتناول من الأسرار المقدسة ، واهتم كل أهل القرية بعد ذلك بالمواظبة على حضور القداسات ليعاينوا الله ويتمتعوا برؤيته.

 

الفصل الثاني الصلاة

١-الله يدعوك للصلاة

إن كانت مقابلة العظماء في الأرض ليست میسورة للجميع، ولكن مقابلة الله ملك الملوك ورب الأرباب متاحة للجميع في الصلاة. فهو يرحب بهم ويدعوهم للحديث معه في كل وقت، بل يمسك بهم حتى لا ينصرفوا عنه أو يملوا من الوجود بين يديه. “ينبغي أن يصلي كل حين ولا يمل ” (لو ۱:۱۸)، ” صلوا بلا انقطاع ” (۱تس ٥: ١٧).

٢- تحدث بدالة البنوة 

صلاتك هي استجابة لدعوة الله الذي يريد أن يعلن نفسه لك ويلتقي بك، فأنت لست متطفلاً على الله، بل ادخل بدالة البنوة لتجد أحضانه مفتوحة لك وتفرح بك لأنك استجبت لدعوته

عندما تتقابل معه في الصلاة تحدث معه ببساطة في كل ما تريد، لأنه أبوك فلا تخجل منه واعلم أنه يقدر كلامك ويهتم به لأنك ابنه . أشكره على عطاياه واعتذر على خطاياك واطلب منه ما تريد لك ولغيرك ممن تهتم بهم

٣- لقاء مستمر 

إبدأ يومك بالصلاة لتصافح الله وتأخذه معك في مسيرة حياتك اليومية، تحدث معه في الطريق واطلبه قبل أي عمل وانتهز الفرص لتخلو به جانبا وتردد مزاميرك فتتمتع برؤيته مرات كثيرة على مدى اليوم، وإذا ضغطت عليك المشاغل فلك فرصة في نهاية اليوم لتسرع إلى مخدعك تبث أشواقك له وتستريح بين يديه مهما كان تعب اليوم كله .

٤- تحدث والله يجيب

أطلب من الله ما تريد وثق أنه يسمعك وبالطبع يستطيع أن يرد عليك، وذلك بطرق مختلفة منها أن تشعر بميل داخلك إلى شيء يزداد ثباتًا مع صلواتك. ولأن الله يكلمك بوضوح فهو يعرفك ويقدم نفسه لك بلا غموض بشرط أن تسلم مشيئتك له وتخضع الإرادته فيسهل عليك سماعه

٥- الصلاة طريق الكاملين 

عندما تتذوق حلاوة الحديث مع الله في الصلاة، يفرح قلبك وتزداد أشواقك للوجود معه، فتحب التسبيح والشكر وتردد كلمات التسبحة ومزامير الشكر فتشعر بمجده يضئ عليك وتدخل في إحساس فرح لا تريد الخروج منه، وهكذا ترى الله ويزداد وضوحًا لك قدر ما تشتاق إلى الصلاة وتعطيها وقتًا لك أطول طوال اليوم.

كان هذا الجندي الذي يدعى مجدي مجندا أثناء الحرب مع إسرائيل، وبعد الإنتصار عليها استطاعت القوات الإسرائيلية أن تحدث ثغرة في الجيش المصرى ، وبهذا حاصرت مجموعة من الجنود المصريين کان بينهم هذا الجندي وانقطعت أخبارهم تمامًا عن ذويهم . بدأ القلق يساور أسرته المؤمنة بالمسيح، فأسرعوا إلى الصلاة من الصباح إلى الليل لمدة ثلاثة أيام وفي اليوم الثالث طرق الباب ضابط برتبة كبيرة طويل القامة وله شارب كثيف وكان مملوءًا من القوة والحيوية وقال لهم: أنه حضر إليهم من طرف ابنهم مجدى وطمأنهم على سلامته وبشرهم بأن المشكلة ستنتهي خلال أسبوع وسيتم تبادل الأسرى ويعود مجدى إلى بيته، ففرحوا جدًا وشكروا هذا الضابط وبعد انصرافه رفعوا صلاة شكر عميقة لله واستمروا في صلواتهم بعد أسبوع وصل مجدي إليهم، وكم كانت فرحتهم بلقياه بعد غيبة طويلة كان يعد فيها من المفقودين بعد أن اطمأنوا على كل أحواله، شكروه على الضابط الذي أرسله إليهم وطمأنهم، لأن قلوبهم كانت مضطربة وفي قلق شديد عليه ولم يهدئهم إلا وصول هذا الضابط إليهم . تعجب مجدى وقال لهم أنه لم يرسل إليهم أحدًا, علت علامات الحيرة والدهشة على وجوه الكل، يا ترى من هذا الضابط الذي هدأ قلوبهم وحدد لهم ميعاد رجوع مجدى بالضبط؟ ! أرشد الله أحد أفراد الأسرة وقال لهم: أنه لا شك مار جرجس شفيعنا الذي طلبناه كثيرا أثناء الثلاثة أيام فأرسله الله إلينا ليطمئنا. وقف الجميع يقدمون صلاة شكر وتمجيد للشهيد العظيم مار جرجس وقد امتزجت دموعهم بابتساماتهم وازدادت قلوبهم ثباتا في الإيمان بقوة الصلاة التي تحرك السماء وكل قديسيها .

 

الفصل الثالث الكتاب المقدس

١-تجسد الله

الله لا يستطيع أحد أن يراه ولكنه يريدك أن تراه، ولأنك مخلوق صغير وإمكانياتك محدودة فهذا يستدعى من الله أن يتضع ويجسد نفسه في صورة ملموسة يسهل عليك أن تراها ؛ وهذا ما حدث في ملء الزمان بتجسده ” الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبر ” (يو ١: ١٨) . وإمعانا من في تبسيط نفسه ليسهل على الإنسان أن يراه ، جسد نفسه أيضا في كلمات مقروءة وهي كلمات الكتاب المقدس الذي تستطيع أن تلتقى مع الله من خلاله دون أن يشعر بك أحد ، فيحدثك في أمور شخصية أنت وحدك الذي تفهمها ، فالكتاب المقدس رسالة شخصية لك من الله وحديث مفتوح منه لكل طالبيه .

٢ـ اللـه يجيب

إن الله يشعر بك ويسمع صلاتك ويرد عليك بطرق مختلفة من أهمها الكتاب المقدس، سواء عندما تقرأه يوميًا في قراءتك المنظمة المتتالية لأصحاحاته أو بورود آية على ذهنك لم تكن تفكر فيها من قبل ليرد بها على سؤالك .

۳۔ صفات اللـه

في الكتاب المقدس يكشف الله لك عن نفسه لتفهم طباعه وأسلوبه وتكون صداقة معه ، فهو أعظم من كل البشر ومحبته فائقة لا يعبر عنها وتستطيع أن تلمسها من خلال معاملاته مع أولاده في العهدين ، وهكذا تتعرف على الله عن قرب

٤- الله غـنـي

يتحدث الله معك بالكتاب المقدس في كل مواضيع حياتك التي قد تكون حدثت مع غيرك ولكنها تنطبق عليك تماما ، وقد تكون مواقف أو آيات موجهة لأشخاص ولكنها تناسب الموقف الذي تمر به الآن . فكلام الله غنى يشبع ويجيب ويرشد أولاده في كل جيل ، بل وكلما قرأته تكتشف جديدًا فيه لتعرف الله أكثر من ذي قبل وتراه أوضح وتشبع بحبه

٥- إختـر آية

إحرص على اختيار آية كل يوم مما تقرأه وتحاول تطبيقها في حياتك ، وحينئذ ستكتشف أنه لأجل صلاتك وطلبك آية من الله ستجد أن هذه الآية حل لمشاكل كثيرة تقابلك في هذا اليوم وإرشاد واضح لحيرة قلبك .

٦- قدمه لغيرك

عندما تتمتع بلقاء الله في الكتاب المقدس كل يوم ، فلا تحرم غيرك من التمتع به ، بل شجعهم على قراءته فقد يكونوا حتى الآن غير مختبرين اللقاء بالله خلال آياته ، وبهذا تخدمهم أكبر خدمة إذ تسندهم وتفرح قلوبهم بعشرة الله .

تعرض هذا الشاب منذ طفولته لقسوة في المعاملة من والديه ، فكانت أمه عصبية جدا .. تغضب وتعاقبه بشدة وكانت تفضل أخته عليه لأجل هدوئها وطاعتها ، أما والده فقد انشغل بأعماله وبعلاقاته السيئة مما كان يثير شجار كثير بينه وبين زوجته أدى في النهاية إلى الإنفصال . شعر هذا الشاب باضطراب داخله وأنه فاقد للحنان والحب مما جعله أنانيا يفكر في راحته قبل كل من حوله ، فتباعد عنه زملاء الدراسة بالإضافة إلى ضيق أسرته منه مما زاد اضطرابه وجعله يتعثر في دراسته ويرسب السنة تلو الأخرى . بدأت صداقته مع بعض الأصدقاء الأشرار لعله يجد نفسه بينهم ، وبالفعل بدأ يتميز في العنف والقسوة عندما كانوا يتعرضون لمشاجرات مع مجموعات أخرى من الشباب حتى صار زعيمًا لمجموعته ، فأشبع هذا رغبته في الإعجاب بنفسه وزاد أنانيته أيضا.

إحتاج للمال ، إذ كثرت طلباته ولم تعد والدته قادرة على توفيرها ، ففكر مع زملائه في السرقة التي بدأت بمسروقات قليلة ثم ازدادت تدريجيا مستخدما فيها قوته وتهديداته للآخرين حتى بدأ في تدبير السطو على بعض المنازل بل وأصبح معروفا في منطقته بالعنف والبلطجة . استمر في سطوه على المنازل والمحلات حتى ضج منه الناس وأبلغوا البوليس الذي دبر له كمينًا وتم القبض عليه هو وبعض زملائه وحكم عليه بالسجن .

تميز داخل السجن بالقسوة في معاملته مع زملائه فكانوا يتحاشونه مما أكد شعور العزلة داخله بل وسخطه على العالم والناس وكل شئ حوله . سمع كاهن السجن المسئول عن الإرشاد الديني فيه بخبر هذا السجين فطلب أن يجلس معه ، فذهب أحد نزلاء السجن ليدعوه ، أما هو فرفض وبعد إلحاح قبل وأتى إلى الكاهن الذي سأله :

*لماذا لا تريد أن تحضر … إنى أحبك وأريد أن ألتقى بك . أنت لا تعرفني فكيف تحبنى .. لا يوجد إنسان واحد يحبني .

*لماذا تقول هذا عن نفسك ؟ أنا أعرف أني أناني وعنيف ولا أستطيع أن أكون غير ذلك لأن حياتي علمتني أن أكون هكذا وبالتالي لا يمكن أن يحبنى أحد

* يوجد واحد يحبك ويريد الجلوس معك . تساءل بتهكم قائلا : يا ترى من هو ؟ !

هو المسيح الذي مات من أجلك ومن أجل كل البشر ، الذي أحبك حتى قدم حياته لأجلك ، وهـو يريد أن يكون معك وأنت داخل السجن ليرفع عنك أتعابك ويسندك .

*  أشكرك أنك تقوم بوظيفتك حسنا ، فقد حفظت هذا الكلام وتقوله لكل من تقابله ولكن إبحث عن شخص آخر تقول له هذا الكلام . ثم هم بالإنصراف . إنتظر قليلا فإني أريد أن أعطيك هدية . وأخرج الكاهن من جيبه إنجيلا صغيرًا ليقدمه له ، فرفض الشاب أن يأخذه وقال له : إعطه لأي شخص آخر لأنى لا أريد أن أقرأ فيه .

* خده معك ، إنه لن يضرك ، فقط إحتفظ به .

حتى ينهى الشاب هذا الحديث السخيف وغير المجدي في نظره ، أخذ الإنجيل وانصرف إلى زنزانته ولم يحضر القداس الذي كان الكاهن سيقيمه . ظل هذا الشاب في عنفه وانعزاله عن باقى المسجونين والضيق يزداد داخله ، ولكن كلمات الكاهن كانت تتردد داخله مرات كثيرة .. « إنه يحبك ومات لأجلك ) .

في أحد الأيام ازداد الضيق بهذا الشاب وهو عاجز عن الخروج من هذا السجن القاسي عليه الذي أفقده حريته ومحاولته إثبات ذاته ، ثم نظر حوله فوقعت عيناه على هذا الكتاب الصغير الذي أعطاه له الكاهن ، فقال في نفسه لماذا لا أقرأ فيه ؟ ودعاه حب الإستطلاع أن يفتحه .

شعر الشاب عندما بدأ يقرأ في إنجيل متى بشئ من الهدوء والتعجب لأحداث حياة المسيح مما زاد رغبته في معرفة الكثير عنه ، فأخذ يقرأ فيه كل يوم صفحات ليست بقليلة وازداد إحساسه بحنان المسيح ورفقه بمن حوله وفي نفس الوقت شعر بـقـوة شخصيته ونجاحه في كل خطواته .

بدأ قلبه يتأثر ويقول في نفسه : هل يمكن أن يحبني بعد كل ما فعلت ؟ !

استمر في قراءته بل بدأ يلتهم الكلمات ويقرأ ساعات في كل يوم .

بدأ يسأل زملاءه عن ميعاد الزيارة التالية للكاهن وعندما حضر أسرع إليه يريد الجلوس معه ، وبدأ يحكى له عن حياته ويسأله هل يمكن أن يقبله المسيح بعد كل ما فعل ؟ شجعه الكاهن بكلمات محبة كثيرة وبعد أن اعترف بكل خطاياه في سر الإعتراف ، نال حلاً بالغفران وتقدم للتناول من الأسرار المقدسة بعد انقطاع طويل جدًا عنها إذ لم يتناول منذ طفولته . إستمر في قراءة الكتاب المقدس ولكن بتركيز وفهم . قرأه عدة مرات وظهر التغير واضحا في سلوكه مع من حوله . مرت السنوات وخرج من السجن مختلفًا تمامًا ليحيا حياة جديدة مع المسيح تعجب لها كل من كان يعرفه سابقا في شره .

 

الفصل الرابع الطبيعة

١- الشمس

يقول داود النبي ” السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه ” (مز ۱۹ : ۱) . فهذه المخلوقات العظيمة رتبها الله لمنفعة الإنسان ليرى قوة الله فيها ، فيرى داود النبي الشمس كالعروس الخارج من خدره ( الحجرة الخاصة ) وذلك عند الفجر عندما تشرق الشمس فتطلع على المسكونة بهدوء ، كالعروس المتمايلة في نعومتها ، ولكنها في نفس الوقت قوية وجبارة بقوة الله التي فيها فيقول ” تتهلل مثل الجبار المسرع في طريقه من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيها ولا شئ يختفى من حرها ” (مز١٩ : ٥-٦) ، فهى تتحرك مرسلة أشعتها وحرارتها وضياءها إلى كل الأرض وتؤثر في الجميع.

هكذا المسيح إلهنا المولود في مزود بوداعة هو الله القوى المشرق من العلاء لينير لكل إنسان في العالم ويدفئه بمحبته. وهكذا كل إنسان روحي يسلك بوداعة وقوة الله عاملة فيه، يستطيع أن ينير لكل من حوله .

٢- البحر 

تستطيع أن ترى الله أيضا في البحر العظيم الذي يفتح أحضانه مرحبا بالكل ليسبح فيه، بل يرحب بأكبر السفن ليحملها كما يحمل الأب ابنه ويوصله إلى بر الأمان ، ويلقى بمياهه على الشاطئ في شكل زبد أبيض جميل ليدعو الكل للدخول إليه . إنه مثل إلهنا المحب الذي يدعونا للصلاة والحديث معه كل حين.

٣- التأمـل 

تستطيع أن ترى الله إذا فكرت أكثر من هذا، ليس فقط في الشمس والبحر ولكن في كل المخلوقات مثل القمر والنجوم والهواء والرمال والأشجار والحيوانات والحشرات، وتتعلم أيضا منها دروسًا كثيرة كما تعلم سليمان الحكيم من النملة ويدعو الكسلان ليتأمل في نشاطها ويرى قوة الله العاملة فيها (أم ٦: ٦) . تستطيع أن تكتشف الله إذا جلست في خلوة معه بهدوء كل يوم أو كل أسبوع، خاصة إن جلست في مكان مفتوح لتتمتع برؤية الله في خلائقه

٤- إفحص نفسك 

إذا كشف الله لك عن نفسه في الطبيعة وأضاء عليك ببهائه ، تستطيع أن تفحص نفسك فتشكره على عطاياه وتعرف خطاياك وتتوب عنها بل تبحث في هدوء عن أسبابها لتتحاشاها ، وبهذا تتمتع ليس فقط برؤية الله بل بتنقيته لنفسك وقبول توبتك وأيضًا تصحبه معك في حياتك اليومية فيحتضنك ويعمل فيك وبك . كان خادما بالكنيسة يتمتع بقداستها وصلواتها وأسرارها المقدسة وكان يحب الخلوة والتأمل وخاصة في الطبيعة، فكان ينتهز الفرص ليجلس في شرفة منزله وينظر إلى السماء باحثا عن الله الذي يكشف له معانى روحية ومشاعر مشبعة لنفسه ، وكان يحب زيارة الأديرة وهناك يستمتع بهوايته المفضلة وهي الجلوس في البرية ليبحث عن الله في الطبيعة المحيطة به .

واجهت هذا الخادم مشكلة وهي أنه كان يمتلك قطعة أرض في إحدى القرى قد ورثها عن والده وكان يؤجرها للمزارعين، وفي أحد السنين أجرها لمزارع جديد ولما حل ميعاد دفع الإيجار أرسل إليه ولكنه ماطل في الدفع ، وأرسل له أكثر من مرة وللأسف بدأ يرد على من يرسلهم بطريقة سيئة ، فسافر إليه وحاول التفاهم معه ولكنه رفض بحجة عدم توفر المال معه وادعى أن الزراعة لم تعطه العائد المطلوب وتعرضت لمشاكل كثيرة ، مع أن الخادم كان يعلم أن الزراعة قد نجحت وكان المحصول وفيرًا .

حاول الخادم الإستعانة بشيوخ البلد ولكن الفلاح كلمهم بجفاء وأصر على موقفه في تأجيل الدفع . عاد الخادم إلى بيته وهو في ضيق وحيرة ، هل سيلتجئ إلى القضاء ولكن هناك مشكلة أن أوراق الأرض ليست متكاملة عنده بالإضافة إلى مشاكل القضاء التي تستغرق وقتا طويلاً وما يسببه ذلك من توتر الأعصاب ، أم يصمت ويترك هذا المزارع المزعج يتمادي في شره واستغلاله له ؟؟وضع مشكلته هذه في الصلاة طالبا إرشاد الله ، ومن أجل ضيقه أراد هذا الخادم أن يلقى عنه أتعابه ، فذهب إلى مكانه المفضل وهو الدير ليتمتع بخلوته مع الله تاركا مشكلته بين يديه .

وفي حديقة الدير جلس تحت ظلال بعض الأشجار وأخذ يتأمل في الطبيعة فنظر إلى الأشجار العالية وقال لنفسه ، إن هذه الأشجار لها جذور ممتدة إلى أعماق كبيرة لكيما تحمل هذه السيقان المرتفعة ، وبدأ يحدث نفسه لماذا لا يتعمق في حياته مع الله التي يتممها في مخدعه بعيدا عن العيون ، مثل هذه الجذور التي تبحث عن الطعام لتغذى الشجرة ، فالطعام كثير لكل من يطلبه كما أن الله غنى لكل من يلتجئ إليه .

ثم نظر إلى ساق الشجرة المرتفع وسأل نفسه كم من السنين استغرق تكوين هذه الساق ، إنها خلايا أخذت تنقسم داخل هذا النبات وأوعية تكونت داخله لنقل الطعام ، وعمليات حيوية تمت في الأوراق الخضراء لامتصاص أشعة الشمس وتحويلها إلى مواد مفيدة للنبات ، وتغيرت طبيعة بعض الخلايا ليصير للساق جدار سميك يحميها .

إنها عمليات كثيرة جدا وهي عمليات النمو للوصول إلى شجرة عظيمة مثل هذه . ثم وجه السؤال إلى نفسه قائلا : لماذا تتكاسلين يا نفسى عن جهادك الروحي لترتبطي بالله وتصدى عنك كل خطية ؟ إن الله مستعد أن يساعدك ، فإن كان يهتم بالنباتات والأشجار ألا يهتم بك أنت التي جعلك رأسًا لخليقته ؟ !

ارتفع نظره نحو السماء ليرى أغصان الشجرة التي تعلوها فرآها كأنها الأذرع المفتوحة نحو السماء لتسبح الله الذي أعطاها أن ترتفع نحوه وسندها بالجذور العميقة والساق القوية الطويلة ، وشعر أن هدف حياته هو الصلاة وتسبيح الله وليس الانشغال بهموم العالم ، وأن كل الإمكانيات التي أعطاها الله له هدفها هو توفير احتياجاته ليتفرغ القلب لمحبة الله والصلاة

شعر هذا الخادم بسلام في قلبه بعد تأمله في الطبيعة وأن كل همومه قد زالت عنه ولكنه شعر بالعطش لأن الجو كان حارًا ، وفيما هو جالس في مكانه ولم يمض من الوقت إلا دقيقة واحدة ، . وجد عاملاً من الدير يقترب منه ويسأله حل يريد أن يشرب ، فتعجب جدًا كيف عرف أنه عطشان ، وأجابه بالإيجاب فمد العامل يده بزجاجة من الماء فشرب منها وشكره .

انصرف العامل وشعر الخادم بوجود الله معه الذي وفر له هذا الاحتياج الصغير ، وهو جرعة ماء ليروى عطشه ، إذا هو قادر على أن يحل مشاكله . عاد هذا الخادم إلى بيته في سلام وفرح ظهر على وجهه ، ولم يعد يفكر في مشكلة الأرض بل اكتفى بالصلاة من أجلها .. في اليوم التالي سمع طرقات على الباب ، فقام ليفتح وإذ هو يفاجاً بالمزارع الذي استأجر أرضه يقف أمامه ، فرحب به وبعد أن جلس قدم المزارع اعتذارًا واضحا له عن تأخيره في سداد ما عليه ثم قدم له المبلغ المتفق عليه . فرح الخادم جدًا وشكر الله ولكنه تعجب لهذا التغيير المفاجئ ، فسأل المزارع عن السبب .

قال المزارع : إني بصراحة كنت أطمع في أن لا أعطيك كل ما تستحقه وأعطيك جزء بعد مدة طويلة ، ولكن منذ أيام عندما نمت ليلا حلمت أني في الحقل وأمامى شجرة صغيرة أخذت تنمو وترتفع حتى صارت عظيمة ولها فروع ممتدة نحو السماء ، ثم سمعت صوتا يأتيني من أعلى الشجرة ويناديني :

  • ما تسرأش غيرك عشان غيرك ما يسرأكش . استيقظ المزارع من النوم منزعجا وقال في نفسه :
  • الناس كلها بتسرق بعض إشمعنة أنا اللي هادي الناس حقوقها كلها . وحاول أن يتناسى هذا الحلم ، وفي الصباح الباكر ذهب كعادته إلى حقله ، وعند الغروب رجع إلى بيته ففوجئ بزوجته تستقبله وهي تبكي وتقول لها : إنها خرجت لزيارة إحدى قريباتها وعادت لتجد البيت قد سرق ، فحزن وخاف جدًا إذ وجد الحلم بدأ يتحقق . وإذ رأت زوجته انزعاجه سألته عن السبب فقص لها قصة الحلم ، فألحت عليه أن يسدد كل شئ حتى لا تتكرر معهم هذه السرقات وليبارك الله فيما عندهم ، لذا أسرع يدبر المبلغ المطلوب ليدفعه إلى صاحب الأرض.

 

الفصل الخامس أحداث الحياة

١-الأحداث رسائل إلهية

لأن الإنسان لا يقبل دائمًا صوت الله المباشر له ، إما لأنه يتعارض مع منطقه أو رغباته أو مع آراء الناس ، لذا يستخدم الله أحداث الحياة الطبيعية ليرسل للإنسان صوته لعله يتوب ويرجع إلى الله ويطيع وصاياه ، فالأحداث أكثر تأثيرًا في الناس لأنها واقع معاش يرونه بأعينهم فلا يستطيعون إنكاره أو التنصل منه ، وهو قريب منهم ويلاحقهم مدى الحياة .

٢ـ الأمثال :

استخدم المسيح نفسه الأمثال في تعليمه للجموع لأنها أحداث من حياتهم ، فيكون فهمها سهلاً عليهم ويعرفون منها قصـد الله وتعليمه بطريقه لا يسهل نسيانها ليؤكد بهذا أن الأحداث المحيطة تأثيرها قوى على الإنسان وأنها رسائل شخصية منه لكل واحد

۳ـ غربـة العـالم

يحدثك الله كثيرًا معلنًا لك أنك غريب عن العالم ووطنك الحقيقي هو السماء ، فترى كل شئ حولك متقلب ومعرض للفساد والضياع ، بل حتى الإنسان نفسه يموت ويترك كل شئ . فكل جنازة تحضرها أو تعزية في انتقال أحد هي رسالة من السماء تدعوك للاستعداد للأبدية وتجعلك تزهد في الماديات فلا تتعلق بها بل تستخدمها بمقدار ليظل قلبك منشغلا بالروحيات .

٤- الإتكال على اللـه

إذا حاولت الإعتماد على قوتك وصحتك تجد الأمراض التي تصيبك ومن حولك تنهيك عن هذا ، وإذا اتكلت على علاقتك ببعض الشخصيات التي تفيدك في حياتك تجد بعضهم ينتقلون فجأة من الأرض أو يصابون بالأمراض أو يغضب الرؤساء عليهم فيستبعدونهم . وإذا نظرت للدول القوية والغنية تجد تغيرات غير متوقعة ، مثل انحلال الإتحاد السوڤيتي إلى دول متفرقة وتحولها من دولة عظمة إلى مجموعة عادية من الدول وهكذا لا يبقى إلا الله وحده الثابت منذ الأزل وإلى الأبد أقوى من الكل ، فتستند عليه وتتمتع برعايته .

 ٥- أحداث كل يوم

ليتك من الآن تدقق وتنظر بإمعان نحو الأحداث التي تمر بك سواء في حياتك الشخصية أو المجتمع المحيط بك وتصلى ليكشف الله لك عن نفسه فيها ، وبالتدرب على هذا الأمر ستنمو صلاتك وتتدرب أذناك الداخليتان على سماع صوت الله وتشعر بوجوده الدائم معك فيفرح قلبك وتتذوق الأبدية وأنت على الأرض .

كان تاجرًا كبيرًا يعيش مع زوجته وولديه في سلام ولكن علاقته بالكنيسة كانت ضئيلة جدًا ، على عكس زوجته التي كانت تحب الكنيسة ومرتبطة بأسرارها المقدسة واجتماعاتها وخدمتها ،مما ساعدها أن تكون متفانية في خدمة بيتها والعناية بزوجها وأولادها . ارتبط الولدان بمدارس الأحد وتقدما في دراستهما حتى صارا في التعليم الثانوي ، ولكن الزوج لأجل أعماله الكثيرة كان لا يجلس في بيته إلا قليلا ومعظم وقته يقضيه في العمل . لاحظت الزوجة بعض التغير على زوجها في اهتمامه بمظهره أكثر من المعتاد وتأخره في العمل أكثر من ذي قبل ، وحتى في الوقت القليل الذي كان يقضيه في منزله تأتيه مكالمات تليفونية ينفرد بسببها في حجرته ويتكلم بصوت منخفض . بدأت الزوجة تشك في سلوك زوجها وبحاستها الأنثوية شعرت بوجود امرأة في حياته

انتهزت فرصة دخوله الحمام وبحثت في تليفونه المحمول ، وإذ تكتشف رقما متكررا ، فأخذته عندها وفي اليوم التالي طلبت هذا الرقم من أحد كبائن التليفون العامة لتفاجأ بـصـوت إحدى الموظفات العاملات مع زوجها ، فتأكدت من شكوكها .

حاولت أن تهدئ نفسها بالصلاة وهي تراقب زوجها الذي لاحظت استمراره في تصرفاته غير المعتادة . وفي أحد الأيام لم تستطع أن تمسك أعصابها فانفجرت فيه وأظهرت كل شكوكها التي تدور في داخلها . أنكر الزوج بشدة واتهمها بالشك والتجسس عليه وعدم المحبة وغضب غضبًا شديدًا . حاولت الزوجة أن تصدق ما قاله زوجها ، ولكن قلبها كان يحدثها عن وجود علاقة سيئة . مرت الأيام وصلواتها الدامعة لا تنقطع حتى فوجئت بتليفون يأتيها من مجهول يقول لها أن زوجها الآن مع هذه الموظفة في شقته الخاصة وأعطاها العنوان .

طار عقلها واندفعت نحو هذه الشقة التي لم تكن تعلم عنها شيئا لتفاجأ بزوجها يفتح لها بملابسه الداخلية ، فاندفعت داخل الشقة لتجد هذه الموظفة داخل حجرة النوم تحاول ارتداء ملابسها وإصلاح هندامها ، فصرخت الزوجة بشدة في هذه الموظفة وفي زوجها وبالكاد استطاع الزوج أن يهدئ من روعها ويصرف هذه الموظفة ويرجع مع زوجته إلى بيته .

صمتت الزوجة منتظرة توبة واضحة من زوجها لإصلاح هذه الخيانة الفظيعة التي لم تكن تتخيل حدوثها ، ولكنه ظل صامتاً ولم يتكلم . بعد يوم وبخها بشدة على ما فعلته وأعلن ببجاحه أنه على علاقة بهذه السيدة منذ فترة طويلة ، فلم تستطع الزوجة أن تتكلم أمام هذا الفجور وأخذت تبكى بشدة .

استغل الزوج عدم عمل زوجته وأن والديها قد انتقلا منذ مدة وليس لها إلا أخت واحدة ضعيفة الشخصية ، فتمادي في شره معتمدا على أمواله ومركزه وقوة شخصيته بل شعر أنه استراح عندما علمت زوجته بكل شيء ، واتهمها أنها لم تعد الزوجة المناسبة له فقد ذهب عنها جمالها ومن حقه أن يعيش حياة سعيدة مع من تعجبه مادام مقتدرا وذا أموال كثيرة .

كان هذا الكلام له وقع الصاعقة على هذه الزوجة التعيسة فالتجأت إلى الصلاة وأب اعترافها الذي أخذ يساندها بالكلمات المشجعة ويطلب منها أن تصلى من أجله ليتوب ، مؤكدا لها أن صلواتها لن تضيع هباء .

استمر الزوج في خيانته ولكن الله لم يصمت بل حاول أن يدعوه إليه ليتوب . فقد زاره في مكتبه على غير ميعاد صديق قديم له وبدأ يحدثه عن علاقته بالله ويدعوه للكنيسة ، ولكنه استهان بالكلام ورفض التجاوب مع هذا الصديق . امتدت يد الله في أحداث متوالية لتوقظه من غفلته ، فبدأت تجارته تتعرض لخسارات متوالية لم يكن يتوقعها حتى بدأ مركزه المالي يهتز في السوق العامة ويتشكك الناس في التعامل معه مما جعل تجارته تتملص وأصبح غير قادر على سد مصاريفه فأخذ يقلل منها .

تضايق جدًا ولكنه للأسف ظل متماديا في شره بالرغم من شعوره بید الله تلطمه لطمات متتالية ، بل ظل معانداً لا يريد الرجوع لله حدثت المفاجأة بانتقال والده الذي كان يحبه جدًا وبعد أقل من شهر توفيت والدته أيضًا مما ترك أثرًا عميقا في حياته ، إذ شعر كأن ظهره أصبح مكشوفا وأنه فقد السند النفسي الذي كان له ، مما جعله مهتزًا نفسيًا ولكنه لم يتب بعد .

في أحد الأيام عندما دخل منزله وجد على غير توقع في أحد أدراج مكتب ابنه مقدارًا من المخدرات وبخبرته عرفه ، فأسرع يسأل زوجته التي لم تعرف أنه مخدر وعندما واجه ابنه ارتبك الابن ولكن بضغط أبيه عليه اعترف أنه قد أدمن هذا المخدر وله مدة سنة في هذا الإدمان ، بل هذا هو السبب الحقيقى لرسوبه في الجامعة .

دخل هذا الرجل حجرته وانهار أخيرًا باكيًا وأخذ يحدث الله ويقول له :

لقد عاندتك طوال عمرى ولكني لا أستطيع أن أستمر في معاندتي بعد أن رأيت ابنى يضيع منى…لقد خسرت كل شئ، زوجتي وتجارتي ووالداى ، ولكني لا أستطيع أن أحتمل أن أخسر ابنى .

استمر في دموعه وصلواته التي كان يلفها اليأس ولم يبق عنده إلا رجاء قليل .

وهنا تدخلت الزوجة الوفية لتساند زوجها وهي تبكى أيضا على ابنها وقالت له :

مازال هناك رجاء ، يمكنك أن تعود إلى الله وإلى بيتك … كلنا محتاجينلك والله لن يتركنا .

تشجع الزوج ووقف أمام الله وزوجته متعهدًا أنه سيقطع علاقته بكل شر ويبدأ حياة جديدة مع الله ويرتبط بالكنيسة أملاً في إنقاذ ابنه . بالفعل قام واتصل بهذه السيدة وأنهى علاقته بها وأنهى عقد الشقة المفروشة وقال لزوجته :

أريد أن أذهب لأب اعترافك لأبدأ حياة جديدة مع الله . شجعه الكاهن وقبل اعترافه وتناول من الأسرار المقدسة وبدأ يصلى ويقرأ في الكتاب المقدس ودفعه كل هذا أن يتقدم نحو ابنه الذليل تحت سلطان المخدرات ليشجعه حتى لا ينزعج مما حدث له ، خاصة وأنه اكتشف تورطه في سرقات كثيرة داخل البيت وخارجه ، واستطاع بلطف أن يقنع ابنه بالعلاج . وبدأ فعلاً ودخل مصحة لهذا الغرض .

استمر علاج الابن أكثر من سنة على مراحل مختلفة ازداد أثناءها إرتباط الزوج بالكنيسة ، وفي كل هذا كان يقبل يدى زوجته التي بصلواتها وثباتها حفظت هذا البيت من الخراب . بدأت تجارته تتحسن ببركة الله وبدأ يستعيد سمعته الطيبة في السوق وعاد ليجلس مع زوجته وابنيه الجامعيين في فرح حول الكتاب المقدس.

 

الفصل السادس الضيقات

١-ضعف الإنسان

تضغط الضيقة عليك وتشعر بعجزك عن مواجهتها والتغلب عليها وتحاول استخدام إمكانياتك دون جدوى فتشعر بضعفك، وحينئذ لا تجد لك مكانًا لتلجئ إليه إلا الله، فتتشبث به وتلح عليه وإذ يرى الله أنك تطلبه بصدق وأمانة، يفرح برجوعك إليه رغم تأثره لآلامك ، لأنه يطلب خلاص نفسك قبل راحتك المادية . وإذ يراك تطلبه، لا يعطيك فقط سؤل قلبك، وهو حل المشكلة ولكن ما هو أكثر من هذا وهو أن يظهر نفسه لك ويشعرك بوجوده معك.

۲ـ الممارسات الروحية

إن كان لك قانون روحى وتعودت الصلاة وقراءة الكتاب المقدس والذهاب إلى الكنيسة، فتلقائياً إن حلت بك ضيقة ستسرع إلى الوسائل التي تعودتها لتطلب الله ، وبالتالي تجده وتتمتع أيضًا بحله لمشاكلك . ولكن إن لم تكن معتاداً على العلاقة مع الله فستبحث عن وسائل مادية لحل مشكلتك وإن فشلت قد تسقط في اليأس أو تلتجئ إلى الله ولكن بضعف إيمان وحينئذ لن يظهر لك الله، فهو يظهر نفسه لمن يؤمنون به ويشعرون أن حل مشاكلهم عنده هو وحده .

٣- التجـرد

إذ يدخل الإنسان في الضيقة ينشغل قلبه بها ويقل طلبه للماديات ، فيخفت بريقها وتأثيرها عليه ويستطيع التخلي عنها بسهولة أكثر ، مما يساعده على رفض الخطايا المتعلقة بها ، فتحرره الضيقة تدريجيًا من الجسدانيات ، وهذا يساعده على النظر إلى الله فيصلي بحرارة ويقبل على كل أمر روحى يساعده على التخلص من ضيقته ، وهكذا تزداد علاقة الإنسان بالله حتى يؤهل لظهور الله له ، فيلمسه في كلمات الكتاب المقدس التي كان يقرأها قبلاً ولا تؤثر فيه ، ويسرع إلى الكنيسة ليسمع كلمة الله ويتأثر بالعظات الروحية ، فيظهر الله له من خلال حياته العادية ليس فقط الروحية بل على أفواه الأفراد المحيطين به ومن خلال تعاملاته معهم ، فيفرح وسط الضيقة بلقائه مع الله حتى تكاد تنسيه مرارتها .

 ٤- الإرادة

بتوالى الضيقات يتعود الإنسان ترك الماديات ويزداد ضبطه لنفسه فيها ، وإذ يحتمل الإهانات يكتسب تدريجيًا فضيلة الإتضاع ، ولأجل تخلصه من الضيقة يلتجئ كثيرًا إلى الله فيزداد سعيه نحوه وجهاده في التوبة لرفض الخطية فيفسح مكانا لله . وهكذا تزداد وتتقوى إرادته ويكتسب صلابة روحية تجعله يتمسك بالله وحينئذ يستحق أن يظهر الله له ، فيراه في أشكال مختلفة لم تكن تخطر على باله مثل ترنيمة أو مزمور أو قراءة عادية في أحد الصحف … فطرق الله لا تنتهى ليعلن نفسه لأولاده وإن احتاج الأمر يمكن أن يصنع معجزات واضحة ، المهم أن يمتع أولاده به فيروه بوضوح أكبر من أي وقت آخر .

عاشت هذه السيدة مع زوجها العامل بإحدى الحرف ومعهما طفلهما الوحيد في حياة متوسطة تميل إلى الفقر أكثر من الغنى ، ولكنها كانت تشكر الله الذي أحبته ، إذ كانت مرتبطة بالكنيسة وأسرارها وتعودت أن تلتجئ إلى الله كل يوم وتكلمه كأب وصديق . مرت الأيام هادئة والطفل يكبر حتى صار فتي ، ولم يفلح في دراسته لذا لم يكملها وحاول والده أن يجد له عملاً ولكنه لم يلتزم به ، فقد كان مدللاً إلى حد ما وغير متحمل للمسئولية وظل هكذا حتى صار شابا . استمر الأب يعمل في عمله وعاش في سلام مع زوجته ولكن كانت مشكلتهما هي هذا الابن الوحيد الذي لا يلتزم بعمله .

حدث ما لم يكن متوقعا وهو موت الأب العائل الوحيد للأسرة ليترك وراءه أرملة عجوز وابن لا يعتمد عليه. حاول الابن أن يعمل بتشجيع أمه ولكن لم يتحسن إلا قليلاً و مما عرض هذه الأسرة لفقر شديد ، فكانوا يحصلون على قوتهـم الضروري بصعوبة ، لأن هذا الابن صار هو المورد الوحيد للأسرة إذ كانت الأرملة العجوز غير قادرة على العمل .

ازدادت الضيقة المالية في إحدى المرات بسبب بقاء هذا الابن فترة طويلة بدون عمل وفرغ البيت من أي طعام حاولت الأم أن تحصل على مال بأى شكل ولم تجد ، وحاولت أيضا البحث عن أي عمل بسيط يقوتها ولم تجد فجلست في بيتها تصلي في دموع وتطلب معونة الله الذي لم يتركها طوال حياتها وقد عبر بها خلال ضيقات كثيرة سابقة . بعد ذلك جلست في جوع لا تعرف ماذا تفعل ومرت الساعات ثقيلة وجسمها الضعيف يتخاذل تدريجيا من الجوع وهي تصلى يارب ارحم … يارب أنقذني لأن ليس لى سواك .

سمعت طرقا على الباب ، فقامت ببطء وهي تترنح لتفتحه فوجدت رجلين واقفين أمامها ويقولان لها أننا أصحاب المحل الذي تحت شقتك ونعرض عليك عرضًا وهو أننا محتاجين لشرفة منزلك التي فوق محلنا لتكون مخزنا لبضائعنا ، وكذلك محتاجين أن نعلق يافطة كبيرة للمحل على شرفتك ونقدم مقابل استغلال هذه الشرفة وحرمانك من الاستفادة منها مبلغ خمسمائة جنيه أول كل شهر .

كانت المفاجأة فوق توقع هذه الأرملة العجوز … إنها استجابة الله التي تعلو فوق كل ما طلبته أو فكرت فيه ، فوافقت في الحال وأعطياها مائة جنيه كعربون لإعداد الشرفة من اليوم التالي .

وقفت الأرملة أمام الله في صلاة انسكبت فيها دموعها قبل كلامها لتشكره على حل مشكلتها ، ليس بأن تجد طعام اليـوم ولكن طوال عمرها ، إنه الله الحنون والأب الذي لا يمكن أن ينسى أولاده ويتجلى عمله بأكثر وضوح في الضيقات الصعبة[12] .

 

 

النفس التي تحب الله ترتقي فوق الصعوبات وتستسهل الضيقات للقديس الارشيدياكون حبيب جرجس

المحبة شيء عظيم تدنو به النفس وهي واثقة ثابتة فرحة مسرورة، وتقرب من موضوع حبها وهي مستبشرة آمنة بتلك الثقة والدالة. مستشيره من تحبه في كل أمر، ولا تفعل شيئاً يخالف ارادته مزدرية بكل ما يعترض طريقها.

من يحب لا يستصعب شيئاً، لان النفس التي تحب الله ترتقي فوق الصعوبات وتستسهل الضيقات، وتصير المسالك الوعرة أمامها ممهدة، والمعوجات طرقاً مستقيمة، كل وطاء يرتفع أمامها ، وكل جبل عال ينخفض تحت أقدامها ، ولا يوجد شيء لا تقدر عليه المحبة .

المحبة دائماً مرتفعة الي فوق ، متقدمة الي الامام ، ولا ترجع الي الوراء ولا تريد أن تقف عند حد حتي تحصل علي ما ترغبه وترجوه وتشتهيه ممن تحبه ، ولا تطيق أن يثبطها أدني عائق أو يرجعها عن غرضها ، المحبة قوية في ذاتها ، لا تشعر بضعف أو عجز ، بل تحسب كل شيء مستطاعاً لها ، هي قادرة علي كل شيء ، ولا تقدر قوة أن تقف دونها بل تهزأ بكل شيء في سبيل تقدمها ، تحب الحرية والتنزه عن الدنايا ، ولا تطمع بخير زمني ، ولا تهلع عند الضيقة ، لانها قوية كالموت ، وعميقة كالهاوية ، مستمرة كلهيب نار ، ان انفق الانسان كل ما في الارض لشرائها لا تقبل ، لا ثمن لها ، تحتقر كل ما هو مادي ، وتزدري بكل كرامة دنيوية ، ولا تقبل رشوة ، ولا تسكن إلا في القلب والروح ولا تعرف إلا الاحساس والشعور .

المحبة تأبي الخفاء وتحب الصراحة والظهور ، ومهما اجتهد صاحبها أن يخفيها تجلت باسمي مظاهرها ، لا تجزع من خوف ولا ترهب وعيداً ولا تخشي تهديداً ، ومهما ضيق عليها فلا تتواري ، بل كشعلة مستمرة وكنار مضطرمة تتصاعد وتنير طريقها .

المحبة ثابتة وغير متزعزعة ، كما تسر في الرخاء لا تستاء في الشدة ، لا يهمها ما يعطي لها من المواهب قدر ما تنظر وتعتبر الواهب نفسه .

متي حلت محبة الله في القلب كانت هي المحرك والمسلط والباعث والملهم والقائد والمرشد والمعلم والمتكلم والمنظم والمذكر والمقوي والمساعد والمنير والمبكت والمعزي والمسلي وبالجملة الفاعل لكل شيء ، اذا انسكبت في القلب ملأته بالفضائل وفاضت منه ينابيع البركات . وظهرت أثمارها في حياة الانسان .

لا شيء في الحياة ولا في الفضائل إلا وهو نتيجة من نتائج المحبة ، أو ثمرة من ثمراتها أو مظهر من مظاهرها ، أو شعاع من أنوارها ، أو حركة من قوتها ، أو فعل من أفعالها ، أو عنصر من عناصرها ، فالايمان محبة متمسكة بمحبوبها ، والرجاء محبة منتظرة ومتوقعة قرب مجيء حبيبها ، والسلام محبة هادئة ، ودرس كلام الله محبة تقرأ رسائل محبوبها ، والصلاة محبة متوسلة تسكب نفسها أمام المحب وتفيض من ملء شغفها ، وتعلن عواطفها نحو من تحبه ، والتواضع محبة جالسة تحت أقدام الحبيب ، والصبر محبة تقبل كل ما يرد اليها ممن تحب ، والحمية والغيرة محبة متوقدة تغار علي مجد المحبوب ، والكرازة بالانجيل محبة تنشر مبادئها وترغب خلاص الجميع لمعرفة الحبيب ، وكره الخطية محبة الابتعاد عن كل ما يفرقها عن محبوبها ، والشفقة محبة مساعدة ، والحكمة محبة تظهر في رزانتها ، والعدل محبة تظهر الحق ، وهكذا لا تجد فضيلة إلا وهي مظهر من مظاهر المحبة .

متي سادت المحبة علي الجميع حولت كل شيء الي صلاح وخير ، تقوي الذاكرة ، وتحيي الارادة ، وتهب اللسان فصاحة ، وتمنح القاضي عدلاً ، والمحامي حقاً ، والطبيب طيبة ، والكاتب صدقاً، والمعلم اخلاصاً، والعالم دقة ، والمهندس ضبطاً ، والتاجر أمانة ، وتحدث تغييراً حتي في ظواهر الانسان ، فتكسب العينين اشراقاً وضياء ، والوجه لمعاناً وصفاء ، والملامح سكوناً، حتي الصوت تكسبه حسن الايقاع وجميل النغم[13] .

 

 

محبة الإنسان لأخيه الإنسان للمتنيح أنبا يؤانس أسقف الغربية

محبة الإنسان للإنسان في تعليم السيد المسيح . 

محبة الإنسان للإنسان في تعليم الرسل . 

المحبة الأخوية في حياة الكنيسة .

مفهوم جديد يقدمه المسيح لمحبة الإنسان للإنسان . 

تعليم المسيح عمن هو القريب . 

محبة الأعداء في تعليم المسيح . 

سمات المحبة المسيحية فى محبة الإنسان للإنسان .

الله هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد ، ليس عنده تغيير ولا ظل دوران ( عب ۱۳ : ٢٨، يع ۱ : ۱۷) . وإذا كان الله محبة كما أعلن فى العهد الجديد، لكنه محبة أيضاً منذ القديم ، بل منذ الأزل ، فالله من صفاته الثبات وعدم التغير … وإن كنا في العهد الجديد نرى محبة الله فى ملئها وعمقها ، فليس معنى ذلك أنه لم يكن محباً منذ القديم . 

قال الله بلسان موسى النبي : « تحب قريبك كنفسك أنا الرب … كالوطني منكم يكون الغريب النازل عندكم، وتحبه كنفسك، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر. أنا الرب إلهكم » (لا۱۹ : ۱۸ ، ٣٤) … « فاحبوا الغريب لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر (لا۱۰ : ۱۹)… ويقول الحكيم : « البغضة تهيج خصومات، والمحبة تستر كل الذنوب … أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة … من يستر معصية يطلب المحبة » (أم ١٠ : ١٢ ،١٥ : ١٧، ١٧: ٩ ) .

كما يقول أيضاً : « لا تفرح بسقوط عدوك ، ولا يبتهج قلبك إذا عثر، لئلا يرى الرب ويسوء ذلك في عينيه » ( أم ٢٤ : ١٧ ، ١٨) … وحين أخطأ بنو إسرائيل وصنعوا لأنفسهم عجلاً من الذهب ليعبدوه ، اظهر موسى محبته لشعبه ووقف يشفع فيه وقال للرب : (آه قد أخطأ هذا الشعب خطية عظيمة، وصنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب . والآن ان غفرت خطيتهم وإلا فامحنى من كتابك الذي كتبت ) (خر ۳۲ : ۳۱ ،۳۲) … و يقول المرتل : « هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الاخوة معاً .

مثل الدهن الطيب على الرأس النازل على اللحية لحية هارون النازل إلى طرف ثيابه. مثل ندى حرمون النازل على جبل صهيون . لأن هناك أمر الرب بالبركة حياة إلى الأبد» (مز ۱۳۳ : ۱ – ۳ ) . 

قلنا إن تعليم محبة الإنسان لأخيه الإنسان موجود في العهد القديم، لكن الفهم الكامل والواضح لهذه الوصية لا نراه إلا في العهد الجديد، حيث أظهر الله محبته في ملئها سواء محبته هو للبشر أو فى تعليمه عن محبة الإنسان للإنسان في شخص ابنه يسوع المسيح ربنا . وليس أدل على ذلك مما قاله الرسول بولس : « أما المحبة الأخوية فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها ، لأنكم أنفسكم متعلمون من الله أن يحب بعضكم بعضاً » (١تس (٤ : ٩)… لنلاحظ التعبير الذي يستخدم الرسول : « لأنكم أنفسكم متعلمون من الله » .

محبة الإنسان للإنسان في تعليم السيد المسيح : 

وما أكثر ما علم السيد المسيح عن المحبة الأخوية :  (تحب قريبك كنفسك ) ( مت ۱۹ : ۱۹ ؛ غل ٥ : ١٤ ) … وفى عظته على الجبل يقول : « من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه أثنين . من سألك فاعطه . ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده … وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضاً بهم هكذا » (مت ٥ : ٤١ ٤ ؛ لو ٦ : ٣١) … (هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم … أنتم أحبائى إن فعلتم ما أوصيتكم به … بهذا أوصيكم حتى تحبوا بعضكم بعضاً ) (يو ١٥ : ١٢ ، ١٤ ، ١٧ ) . 

والإنسان الذي لا يحب يفصل نفسه عن الكنيسة ، ومعلوم أنه لا خلاص خارج الكنيسة … يقول رب المجد يسوع : « إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربحت أخاك . وإن لم يسمع فخذ معك أيضاً واحداً أو اثنين …. وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة.

وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار» (مت ۱۸ : ١٥ – ۱۷) … بعد هذا القول يسأل بطرس الرسول السيد المسيح قائلاً : ( كم مرة يخطىء إلى أخي وأنا أغفر له . هل إلى سبع مرات . فكان جواب الرب عليه : لا أقول لك إلى سبع مرات بل إلى سبعين مرة سبع مرات ) (مت ۱۸ : ۲۱ ، ۲۲ ) … 

بعدها مباشرة يقدم لنا مثلاً يوضح به عاقبة من لا يحب أخاه … يقول :  (يشبه ملكوت السموات إنساناً ملكاً أراد أن يحاسب عبيده . فلما ابتدأ في المحاسبة قدم إليه واحد مديون بعشرة آلاف وزنة . وإذ لم يكن له ما يوفى ، أمر سيده أن يباع هو وامرأته وأولاده وكل ما له و يوفى الدين . فخر العبد وسجد له قائلاً : يا سيد تمهل على فأوفيك الجميع. فتحنن سيد ذلك العبد وأطلقه وترك له الدين . ولما خرج ذلك العبد وجد واحداً من العبيد رفقائه كان مديوناً له بمائة دينار. فأمسكه وأخذ بعنقه قائلاً أوفنى ما لى عليك .

فخر العبد رفيقه على قدميه وطلب إليه قائلاً تمهل على فأوفيك الجميع . فلم يرد ، بل مضى والقاه في سجن حتى يوفى الدين . فلما رأى العبيد رفقاؤه ما كان حزنوا جداً واتوا وقصوا على سيدهم كل ما جرى . فدعاه حينئذ سيده وقال له : (أيها العبد الشرير كل ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت إلى . أفما كان ينبغى أنك أنت أيضاً ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا . وغضب سيده وسلّمه إلى المعذبين حتى يوفى كل ما كان له عليه . فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته) (مت ۱۸ : ۲۳ – ٣٥).

 بل أكثر من هذا فإن السيد المسيح يجعل المحبة العملية هي المؤهل للملكوت السماوي : 

(ومتى جاء ابن الإنسان فى مجده وجميع الملائكة القديسين معه ، فحينئذ يجلس على كرسى مجده . ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميّز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء . فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم ، لأني جعت فأطعمتموني ، عطشت فسقيتموني كنت غريباً فآويتموني ، عریاناً فكسوتمونی ، مريضاً فزرتموني ، محبوساً فأتيتم إلى . فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين : يارب متى رأيناك جائعاً فأطعمناك أو عطشاناً فسقيناك، ومتى رأيناك غريباً فآويناك، أو عرياناً فكسوناك ، ومتى رأيناك مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك .

فيجيب الملك و يقول لهم : الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتى هؤلاء الأصاغر في فعلتم . ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار اذهبوا عنى يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته، لأني جعت فلم تطعمونی عطشت فلم تسقوني ، كنت غريباً فلم تأووني ، عرياناً فلم تكسوني ، مريضاً ومحبوساً فلم تزوروني . حينئذ يجيبونه هم أيضاً قائلين : يارب متى رأيناك جائعاً أو عطشاناً أو غريباً أو عرياناً أو مريضاً أو محبوساً ولم نخدمك . فيجيبهم قائلاً : الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوا بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا . فيمضى هؤلاء إلى عذاب أبدى ، والأبرار إلى حياة أبدية ) (مت ٢٥ : ٣١ – ٤٦ ) . 

و يقول السيد المسيح : ( من سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ فالحق أقول لكم انه لا يُضيع أجره ( مت ١٠ : ٤٢ ) … ربما كان كأس الماء البارد تافهاً في نظر الناس، لكنه متى قدم بمحبة فقد صار شيئاً له أجر عند الله ، لأنه تنفيذ لوصيته .

محبة الإنسان للإنسان في تعليم الرسل : 

يقول معلمنا القديس بولس الرسول : ( لا تكونوا مديونين لأحد بشيء، إلا بأن يحب بعضكم بعضاً، لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس ، لأن لا تزنى لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشتهى، وإن كانت وصية أخرى هي مجموعة في هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك)( رو ۱۳ : ۸، ۹).

ويضيف على ذلك قوله : «المحبة لا تصنع شراً للقريب. فالمحبة هي تكميل الناموس » ( رو ۱۳ : ١٠). ويكتب إلى أهل كورنثوس …. (اتبعوا المحبة … لتصر كل أموركم في محبة ) (۱کو ۱٤ : ١٠؛ ١٦ : ١٤). ويقول لأهل غلاطية : « بالمحبة اخدموا بعضكم بعضاً. لأن كل الناموس فى كلمة واحدة يكمل تحب قريبك كنفسك » (غل ٥: ١٣ ، ١٤) … ويربط بين محبتنا بعضاً لبعض ومحبة المسيح لنا فيقول : (اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة » (أف ٥ : ١، ٢) … ويتكلم هذا الرسول عن الفضائل المسيحية ويتوجها بالمحبة حينما يقول لأهل كولوسي : « فالبسوا كمختارى الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً ووداعة وطول أناة محتملين بعضكم بعضاً ومسامحين بعضكم بعضاً إن كان لأحد على أحد شكوى، كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضاً . وعلى جميع هذه البسوا المحبة التي هي رباط الكمال » ( کو ۳ : ۱۲ – ١٤ ) . ويجعلها الغاية من جميع وصايا الله « وأما غاية الوصية فهى المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا ريا » (۱تی ٥:١).  

ويعقوب الرسول يدعو المحبة الأخوية الناموس الملوكي … « فإن كنتم تكملون الناموس الملوكى حسب الكتاب تحب قريبك كنفسك فحسناً تفعلون » (يع ٢: ٨).

أما يوحنا الرسول – التلميذ الذى كان الرب يسوع يحبه – فيسهب في الكلام عن المحبة الأخوية :  (لأن هذا هو الخبر الذى سمعتموه من البدء أن يحب بعضنا بعضاً … نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الاخوة . من لا يحب أخاه يبق في الموت . كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس . وأنتم تعلمون أن كل قاتل نفس ليس له حياة أبدية ثابتة فيه . بهذا قد عرفنا المحبة أن ذاك وضع نفسه لأجلنا. فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الاخوة . وأما من كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبة الله فيه . يا أولادى لا نحب بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق ) ( ١ يو ۳ : ۱۱ – ۱۸ ) … كما يقول : «أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضاً . لأن المحبة هي من الله . وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله . ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة » ( ١ يو ٤ : ٧، ٨).  ومما يذكر عن يوحنا الرسول إنه ظل حياته كلها رسول المحبة في كرازته ووعظه ورسائله وإنجيله … روى عنه انه لما شاخ ولم يعد قادراً على الوعظ ، كان يحمل إلى الكنيسة ويقف بين المؤمنين مردداً العبارة : «يا أولادى حبوا بعضكم بعضاً » . فلما سأم السامعون تكرار نفس هذه العبارة ، تساءلوا لماذا يعيد هذه الكلمات و يكررها . فكان جوابه لأنها هي وصية الرب، وهي وحدها كافية لخلاصنا لو اتممناها …

 ويقول بطرس الرسول : « طهروا نفوسكم فى طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء . فاحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة … والنهاية كونوا جميعاً متحدى الرأى بحس واحد ذوى محبة أخوية مشفقين لطفاء، غير مجازين عن شر بشر أو عن شتيمة بشتيمة بل بالعكس مباركين عالمين أنكم لهذا دعيتم لكى ترثوا بركة … ولكن قبل كل شيء لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا » (۱بط ۱ : ٢٢؛ ٣ : ٨،٩؛ ٤: ٨) . 

و بولس الرسول فيلسوف المسيحية يقارن بين العلم والمحبة فيقول : «العلم ينفخ ولكن المحبة تبنى » (۱كو ۸ : ۱) …ويجعلها أول ثمار الروح القدس في النفس المؤمنة « أما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة . لطف صلاح . إيمان وداعة تعفف » (غل ٥ : ۲۲). وفى مجال التعامل بين الأفراد ينصح أهل رومية قائلاً : (يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء ولا نرضى أنفسنا .فليرضى كل واحد منا قريبه للخير لأجل البنيان . لأن المسيح أيضاً لم يرض نفسه ، بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت على) ( رو ١٥ : ۱ ، ۲ ، ۳) . 

المحبة الأخوية في حياة الكنيسة : 

لا قيمة للوصية الإلهية دون تنفيذها عملياً . فالغرض من الوصية هو أنه بتنفيذها تصبح جزءاً معاشاً فى حياة الإنسان …. و يعبر الرسول بولس عن ذلك بقوله : «إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ، ولكن ليس لى محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرنّ» (۱كو ۱۳ : ۱) ، أى أن مثل هذا الإنسان يصبح كالطبل الأجوف … لا قيمة للمعرفة النظرية ، فإنها لا تقدم الإنسان في حياته الروحية أو العملية قيد شعرة !! وحسناً قال رسول المحبة يوحنا : (يا أولادى لا نحب بالكلام ولا باللسان ، بل بالعمل والحق) ( ١ يو ۳ : ۱۸ ) … لا غرابة إذن إن رأينا الكنيسة في حياة رسل المسيح – الذين تسلّموا منه تعليم المحبة الأخوية – أن ينفذوه عملياً في حياة الكنيسة الأولى …

كان المجتمع المسيحى الأول ، معظم أعضائه من العناصر الفقيرة الكادحة وكانت الكنيسة ترعى أعضاءها الفقراء من الأرامل وأمثالهن، بتوزيع وجبة من الطعام عليهم يومياً .

لذا فقد سميت هذه الخدمة ، خدمة الموائد ( أع ٦ : ٢ ) … بعد ذلك – حينما ازداد عدد المنضمين إلى الكنيسة الأولى – أقامت الكنيسة سبعة شمامسة كهيئة مسئولة عن خدمة الفقراء . 

ويقدم لنا سفر أعمال الرسل برهاناً عملياً على إيمان أعضاء الكنيسة الأولى بالمحبة الأخوية. فيذكر لنا من باعوا حقولاً وبيوتاً، وقدموا أثمانها للكنيسة لتوزيعها على المحتاجين …. ومنهم برنابا الرسول وحنانيا وسفيرة ( أع ٤ : ٣٤ ٤ ٥ : ٢ ) … كما يذكر اسم طابيثا التي اهتمت بالفقراء وعلى الأخص الأرامل (أع : ٣٦ – ٣٩ ) … ولما اتسعت دائرة المؤمنين بدأ يظهر تنظيم مالي في الكنيسة الأولى عناية بالفقراء وتنفيذاً لوصية المحبة الأخوية.

ويعبر عن ذلك سفر أعمال الرسل بقوله : (لم يكن فيهم أحد محتاجاً) (أع ٤ : ٣٤) … كان المؤمنون يعيشون في حياة وصية المحبة الأخوية، فوجدت الحياة المشتركة أو الحياة الاشتراكية كما تسمى : « لم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له ، بل كان عندهم كل شيء مشتركاً» (أع ٤ : ٣٢) … ونلاحظ على الاشتراكية المسيحية الأولى، انها مفهوم روحي بالدرجة الأولى نتيجة عمل النعمة في القلب .. لقد أصبح جميع المسيحيين أعضاء فى جسد واحد رأسه المسيح، وكان لهم قلب واحد ونفس واحدة (أع ٤ : ٣٢ ؛ رو ۱۲ : ٥ ؛ کو ۱ : ۱۸ ) … فلا عجب إن كان لهم الاحساس الواحد بآلام البعض واحتياجاتهم ….

ولم تطلب الكنيسة من أعضائها أن يقدموا ، بل قدموا هم من تلقاء أنفسهم ، بل أكثر من هذا ، كانوا يلتمسون من الكنيسة أن تقبل عطاياهم. هذا ما كشفه الرسول بولس بالنسبة للمكدونيين …. (لأنهم أعطوا حسب الطاقة ، أنا أشهد وفوق الطاقة من تلقاء أنفسهم . ملتمسين منا بطلبة كثيرة أن نقبل النعمة ، وشركة الخدمة التي للقديسين ) . أما السر في ذلك ، فيكشفه الرسول فى الآية التالية بعد الكلام السابق فيقول انه سبق وأعطوا أنفسهم أولاً للرب (۲ کو ۸ : ١ – ٥ ) …

وبالاضافة إلى عناية الكنيسة بالمحتاجين من أعضائها ، فقد ظهرت المحبة الأخوية في ميادين أخرى كإعالة المعلمين والخدام وقد أوصى بها الآباء الرسل في تعاليمهم وقوانينهم، ورعاية المرضى والعجزة والمقعدين وغير القادرين وذلك من خلال صلوات الكنيسة وزيارات الخدام. وهذا واضح مما جاء في رسالة كليمنضس إلى أهل كورنثوس وكتاب الراعى لهرماس . كما ظهرت في العناية بالمحبوسين .

كان هناك محبوسون لأجل إيمانهم ، وآخرون محبوسون وفاء لديون عليهم . وكان يجب افتقاد النوعين بالصدقة والمحبة. وكان هذا يتم عن طريق شمامسة الكنيسة والمؤمنين العلمانيين …. ولعل هذا واضح فيما قاله الرسول بولس : « اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم ، والمذلين كأنكم أنتم أيضاً في الجسد» (عب ١٣ : ٣) … وبداءة فقد كان هذا تعليم السيد المسيح « كنت محبوساً فأتيتم إلى » … 

وقد كانت المحبة الأخوية تظهر كذلك فى العناية بمن تحل بهم الكوارث . وقد مُدحت الكنيسة منذ وقت مبكر لأنها وقفت بنبل إزاء الاضطهاد والكوارث التي حلت بها ( انظر عب ۱٠ : ۳۲ – ٣٤) … كما ظهرت في ضيافة الغرباء. وقد اظهرت الكنيسة الأولى اهتمامها بهم ( رو ۱۲ : ۱۳ ،١٦ : ١ ، ٢ ؛ عب ٦ : ١٠ ؛ ١٣: ٢؛ بط ٤ : ٩؛ ٣ يو ٥ – ٨) … فى رسائل ووثائق الكنيسة الأولى نجد صلوات وطلبات مقدمة من الكنيسة لأجل الغرباء والمعتنين بهم … ولعل هذا واضحاً في القداس الباسيلى (بارك إكليل السنة بصلاحك من أجل فقراء شعبك. من أجل الأرملة واليتيم والغريب والضيف)…

 كما ظهرت المحبة الأخوية منذ الفترة المبكرة من تاريخ الكنيسة في العناية بالكنائس الفقيرة أو التي يحيق بها خطر. وهذا واضح في سفر أعمال الرسل ورسائل بولس الرسول . فقد كانت تجمع تقدمات لأجل فقراء أورشليم . وقد اهتم بولس نفسه بهذا الأمر، وجمع من كنائس انطاكية وغلاطية ومقدونية واخائية لهذا الغرض ( أع ۱۱ : ۲۷ – ۳۰ ؛۲ کو ۸ : ١ – ٥ ؛ رو ١٥ : ٢٦ ؛ غل ٢ : ١٠ ) . 

وثمة نقطة أخيرة في موضوع المحبة الأخوية في الفترة المبكرة من تاريخ الكنيسة فقد دعا المسيحيون بعضهم بعضاً اخوة واخوات تأكيداً لهذه الحقيقة . 

كان لهم قلب واحد ونفس واحدة (أف ١:٤ : ٦) ، ويسلمون على بعضهم بعضاً بقبلة مقدسة ( رو ١٦ : ١٦ ؛١ کو ۱٦ : ۲۰ ؛ ۲ کو ۱۳ : ۱۲ ؛ ۱ تس ه : ٢٦؛ ١ بط ٥: ١٤) … لقد كانت محبة المسيحيين بعضهم لبعض تثير دهشة اليهود فيقولون : « انظروا كيف يحبون بعضهم بعضاً » !!… وحينما كان أى مسيحى غريب يصل إلى أية مدينة كان يُقبل فيها كأخ ويقدمون له المسكن. وكانت الأرامل التقيات يغسلن قدميه . وكان يعامل بكل ما يدل على المحبة الأخوية …

والموضوع عميق – لكن المجال لا يتسع للتوسع فيه … يكفى أن نقول ان روح الأخوة حملت معها معنى المساواة ، فلا تفرقه عنصرية بسبب لون أو جنس أو وطن . الجميع يتجهون إلى إله واحد، ويجلسون جنباً إلى جنب على موائد الأغابي ، ويقفون للصلاة في الكنيسة متجاورين سواء كانوا أحراراً أم عبيداً … ليس يهودي ولا یونانی . ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وانثى ، لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع » ( غل ۳ : ۲۸ ) . 

وإذا انتقلنا من الفترة المبكرة من تاريخ الكنيسة إلى ما تلاها ، نجد نفس الروح الأخوية تسرى في حياة آباء الكنيسة وتعاليمهم، بل نراها واضحة كل الوضوح في المؤمنين العلمانيين، وذلك من القصتين التاليتين …

يذكر كتاب بستان الرهبان عن القديس مقاريوس الكبير أب رهبان الاسقيط ( وادى النطرون ) ، أنه في إحدى الفترات حورب بأفكار العظمة انه صار أفضل أهل زمانه . واراد الله محب البشر أن يُلقنه درساً . فأعلمه أنه لم يصل بعد إلى فضيلة امرأة في الاسكندرية تسكن مع نساء بنيها .

كما أعلمه أنه يستطيع أن يشاهد ذلك عياناً . ولما سمع القديس ذلك اتقد بنار الغيرة المقدسة ، إذ كيف وهو الرجل الناسك الذي هجر العالم وعاش فى البرية ، لم يصل بعد إلى فضيلة امرأة متزوجة ومقيمة في العالم !!… قام لوقته قاصداً الإسكندرية فوصلها صباح يوم الأحد. قصد الكنيسة ، وفى نهاية الصلاة تقدم كواحد من الشعب لنوال البركة من الأب البطريرك . فشاهد امرأة تخلفت عن بقية النساء، وكانت تصلى بحرقة ودموع . فظن القديس أنها في شدة ، فأخذته الشفقة وأسرع نحوها لعله يستطيع مساعدتها .

وفيما هو يسألها عن سبب حزنها ، أعلن له الروح أن هذه هى المرأة التي قصدها الله … ولما سألها عن طريقة معيشتها ذكرت له ان لها ابنين متزوجين من غريبتين. وتعاهد الجميع أن يعيشوا بمحبة. وكانت هى لا تفضل واحدة من زوجتى ابنيها على الأخرى. وتعاهدن الاً تخرج من فم احداهن كلمة تثير خاطر الآخرى . وان لهن زماناً طويلاً عائشات بهذه الطريقة . وأن لولديها صندوقاً واحداً لرزقهما ، لا يعلمان قيمة الموجود فيه ، موضوع تحت عناية وتصرف هذه المرأة …

أما سبب صلاتها بدموع فلظنها أن الله غير راض عن بنيها لأن لهما فترة طويلة بلا تجربة !!… فانتفع القديس من كلامها وعلم قيمة المحبة الأخوية لدى الله …. والقصة الثانية هي قصة إيمان الأنبا باخوميوس أب الشركة الرهبانية، ذلك العملاق الذي بنى أول دير فى العالم بصورة الأديرة الحالية ، والذي تتلمذ له آلاف من الرهبان، ووضع قوانين للرهبنة سار على منوالها رهبان العالم الغربي … ولد الأنبا باخوميوس من أبوين وثنيين ونشأ وثنياً . وانخرط في سلك الجندية وهو في سن العشرين تنفيذاً لأوامر الامبراطور قسطنطين الكبير في الحرب التي أثارها عليه خصمه مكسيميانوس سنة ۳۱۰م.

لكن هذه الحملة لم تستمر طويلاً لاندحار قوات مکسیميانوس وقتله . وعاد باخوميوس إلى الحياة المدنية … وما يهمنا من قصة الحملة العسكرية انه تعرف خلالها على المسيحيين ودينهم. كانت الكتبية التي كان هو ضمن أفرادها قد عسكرت عند مدينة اسنا . ورغم ان الجنود في ذلك الوقت كانوا مكروهين من سكان المدن والبلاد من أجل تصرفاتهم واعتداءاتهم على ما يملكه سكان تلك البلاد، فقد خرج سكان مدينة اسنا إلى الجند يحملون إليهم الطعام ويقضون حوائجهم فى دعة ودماثة ، استرعت انتباه باخوميوس .

فتساءل ما الذي حدا بهؤلاء الناس إلى إبداء العطف عليهم . فقيل له انهم مسيحيون ينفذون وصايا دينهم . فما كاد يسرح من الجندية حتى عكف على دراسة هذا الدين الجديد . وانتهى به الأمر إلى اعتناقه المسيحية سنة ٣١٤ . وبانضمام باخوميوس للمسيحية كسبت واحداً من أكبر زعمائها . ولم يقف الأمر عند حد إيمانه بالمسيح ، بل لقد قرر تكريس نفسه وترك العالم. وكانت هذه بداية الطريق الذي صار هو رائداً من أكبر رواده … 

مفهوم جديد يقدمه المسيح لمحبة الإنسان لأخيه الإنسان : 

قال السيد المسيح لتلاميذه في تعليمه عن المحبة : « وصية جديدة أنا أعطيكم ، أن تحبوا بعضكم بعضاً، كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً » (يو ١ : ٣٤) … ما معنى كلام المسيح هنا عن المحبة كوصية جديدة ؟ وهل المحبة وصية جديدة ، وقد سبق أن ذكرنا وجود هذه الوصية في العهد القديم … فماذا يقصد المسيح ؟ يجيب عن ذلك القديس أغسطينوس فيقول : 

[يعلن الرب يسوع انه يعطى تلاميذه وصية جديدة ان يحب الواحد الآخر …. لكن ألم تعط هذه الوصية فى ناموس الله القديم حيث هو مكتوب ( تحب قريبك كنفسك ) (لا ۱۹ : ۱۸ ) … فلماذا إذن يدعوها الرب وصية جديدة إذا كانت هكذا قديمة ؟! لأنه نقلنا من القديم والبسنا الإنسان الجديد . فليس حقاً أن كل نوع من الحب يجدد من يستمع إليه أو يسلّم لطاعته . بل ذاك الحب الذي أشار إليه الرب ، لكي يميزه من الحب الجسداني . لذا فقد أضاف قائلاً : ( كما أحببتكم أنا)…. فالأزواج والزوجات يحبون بعضهم بعضاً ، والوالدون أطفالهم ، وكل العلاقات الإنسانية الأخرى التي تربط الناس ببعضهم . فما بالكم بحب الزناة والزانيات ؟!… من أجل هذا أعطانا المسيح وصية جديدة أن يحب الواحد الآخر كما أحبنا هو. هذا هو الحب الذى يجددنا، جاعلاً منا أشخاصاً جدداً، ورثة العهد الجديد، مرنمى الترنيمة الجديدة … هذا هو الحب الذي يُجدّد الآن الشعوب . ومن بين الجنس البشرى الذي ينتشر في العالم كله يعمل ويجمع شعباً جديداً، هو جسد العريس الحديث الزيجة الذي للابن الوحيد ابن الله . من أجل هذا، فإن أعضاء هذا الجسد لهم اهتمام مشترك كل بالآخر . وإذا تألم عضو تألمت معه سائر الأعضاء ، وإذا كرم عضو، فإن كل الأعضاء تفرح معه (۱کو ۱۲ : ٢٥ ، ٢٦ ) … ليس كما يحب الفاسدون بعضهم بعضاً ، وليس كما يحب البشر بعضهم بعضاً بطريقة بشرية . لكنهم يحبون بعضهم بعضاً كأناس الله ، وجميعهم بنو العلى ، واخوة لابنه الوحيد … والإنسان الذي يحب قريبه بطريقة مقدسة روحية إنما يحب الله فيه . هذا هو الحب المميز عن الحب العالمي الذي ميزه الرب حينما أردف « كما أحببتكم أنا » . لأنه ماذا أحب فينا غير الله ؟! ] . 

وخلاصة هذا الكلام أن الحب الأخوى فى المسيحية ليس على غرار حب أهل العالم الجسدى . فالحب المسيحى بالدرجة الأولى في كل صوره وأشكاله هو حب انسكب في قلوب المؤمنين المسيحيين بالروح القدس المنسكب من فوق (روه : ه ) … إنه من نوعية الحب الذى أحبنا به المسيح … ذلك الحب الذي لا يبغى شيئاً إلا الحب ذاته ، ولا يقف عند حد . بل كما أحبنا المسيح إلى المنتهى هكذا الحب المسيحي. انه ليس حب نفعى . بل هو حب خالص فريد متميز (تحب قريبك كنفسك) !!

 تعليم المسيح عمن هو القريب : 

قال الرب قديماً لشعبه بلسان موسى النبى : ( لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك . بل تحب قريبك كنفسك )(لا ۱۹ :۱۸)… وهكذا استقر في أذهان بنى إسرائيل أن القرابة تقتصر على صلات الارتباط بحسب الجسد ، سواء في الأسرة الواحدة أو في جماعة بني إسرائيل كشعب انحدر عن أب واحد هو إبراهيم … كانت محبة القريب هي تلخيص للوصايا التي جاءت فى اللوح الثاني للوصايا العشر….. وهذا واضح من كلام الرسول بولس : ( لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضاً . لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس . لأن لا تزن ، لا تقتل ، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تشته. إن كانت وصية أخرى في مجموعة في هذه الكلمة أن تحب قريبك كفك المحبة لا تصنع شراً القريب، فالحية في تكميل الناموس » (رو ۱۳ : ٨-۱۰).

 ولكن السيد المسيح قدم مفهوماً جديداً للقريب … فلم يعد القريب هو أخ الإنسان في الأسرة الواحدة أو الشعب الواحد، لكنه يتعداه إلى المفهوم الإنساني… أي أن قريب الإنسان هو أى إنسان، باعتبار أن البشر جميعاً انحدروا من أب واحد هو آدم … يقول بولس الرسول إن الله «صنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض» (أع ١٧: ٢٦)…

 قدم السيد المسيح هذا المفهوم الجديد عن القريب في مثل السامري الصالح …

تقدم ناموسى إلى السيد المسيح ، وسأله سؤالاً ليس بقصد الاستفادة بل يقصد تجربته. والسؤال كان : (يا معلم ماذا أعمل الأرث الحياة الأبدية . أجابه : وما هو مكتوب في الناموس. كيف تقرأ . فأجاب وقال تحب الرب إلهك من كل قلبك. ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك. فقال له بالصواب أجبت ، أفعل هذا فتحيا ). لكنه لم يكتف بهذه الإجابة بل أراد أن يبرر نفسه، فعاد وسأل الرب يسوع: (ومن هو قريبي). أجاب يسوع وقدم مثلاً هو ما يعرف باسم السامري الصالح ، قال : «إنسان كان نازلاً من أورشليم إلى أربعا فوقع بين لصوص فمروه وجرحوه ومضوا وتركوه بين حي وميت. فعرض أن كاهناً نزل في تلك الطريق فرآه وجاز مقابله، وكذلك لاوى أيضاً، إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابله . ولكن سامرياً مسافراً جاء إليه ولما رآه تحنن، فتقدم وضمد جراحاته ، وصب عليه زيتاً وخمراً وأركبه على دابته، وأتى به إلى فندق واعتنى به . وفي الغد لما مضى أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق ، وقال له : اعتن به ومهما انفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك. فأى هؤلاء الثلاثة ترى صار قريباً للذي وقع بين اللصوص . فقال الذي صنع معه الرحمة. فقال له يسوع اذهب أنت أيضاً واصنع هكذا » ( لو ۱۰ : ۲۰ – ۳۷). 

مثل السامري الصالح ملىء بالتأملات العميقة النافعة ، ولكن ما يهمنا هنا هو تعريف السيد المسيح للقريب …كان المفروض أن يحس اليهود أنهم جميعاً أخوة باعتبارهم من نسل إبراهيم، وكلهم يؤلفون شعب الله فى ذلك الوقت … فماذا حدث بالنسبة لذلك الإنسان اليهودى الذى كان مسافراً من أورشليم إلى أريحا ووقع بين اللصوص واعتدوا عليه اعتداء مبرحاً . مر به کاهن یهودی فنظر إليه وعاين حالته التي تدعو إلى الشفقة والمساعدة ، لكنه اكتفى بالنظرة ومضى في حال سبيله . ومر به أيضاً لاوى وهو من طغمة خدام الدين. وما فعله الكاهن فعله اللاوى . وبعدهما مر به سامرى …كان هناك عداء تقليدى بين اليهود والسامريين، حتى أن اقسى شتيمة كان اليهود يوجهونها إلى أحد كانت هى القول انه سامري ، وهذه الشتيمة وجهها اليهود للسيد المسيح فى إحدى المرات ، حينما قالوا له أليس حسناً أننا قلنا انك سامري وبك شيطان ( يو ٨ : ٤٨ ) … ومع كل ذلك فإن هذا السامري ما أن رأى اليهودي المجروح والعريان حتى تحنن عليه وضمد جراحاته ، وأركبه على دابته وحمله إلى فندق ليستريح . وأعطى أجراً لصاحب الفندق ، وطلب إليه أن يعتنى به ، وسيدفع إليه كل ما ينفقه عليه مهما بلغ … كان المثل بليغاً وواضحاً . وحينئذ سأل السيد المسيح ذلك الناموسى : « أى هؤلاء الثلاثة ترى صار قريباً للذي وقع بين اللصوص » فأجاب بدون تردد : « الذي صنع معه الرحمة » …

 المسيحية تعلم وتنادى بالمحبة . وإن كان أساس المحبة في الفرد والأسرة ، لكنها لا تقف عند هذه الحدود . انها تشمل كل البشر وتضمهم بين ذراعي حنوها … فبينما أقامت الروح القومية قديماً حواجز ضخمة بين الشعوب المختلفة يهود وأمم، رومان ويونان وبرابرة … إلخ ) حتى كانوا كالغرباء بالنسبة لبعضهم البعض، إذ بالمسيحية تزيل هذه الحواجز جميعاً، وتعلم أن الله «صنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض » ( أع١٧: ٢٦) )…

و بتمجيد فكرة الإنسانية ووضعها فوق القومية ، غيرت المسيحية بالتدريج وجه العالم القديم، وطعمت فكرة الوطنية الجامدة بمشاعر أنبل وأفكار أرحب … لقد تغلغلت المسيحية في حياة الناس المدنية والاجتماعية بفضيلتها وادبياتها ، وقادتهم في الطريق نحو التمدين الحقيقي … إن روح المسيحية روح مسكونية جامعة ، تهدم فواصل البغضة والكراهية بين مختلف الأجناس والأمم .

محبة الأعداء في تعليم المسيح : 

استحدثت المسيحية تعليماً جديداً لم يرد في تعليم أي من الفلاسفة أو حكماء العالم … قال السيد المسيح فى عظته على الجبل التي تتضمن تعاليم المسيحية الأدبية … «سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك . وأما أنا فأقول لكم : احبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم ، لكى تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات . فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأى أجر لكم . أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك. وإن سلمتم على اخوتكم فقط فأى فضل تصنعون . أليس العشارون أيضاً يفعلون هكذا . فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل » (مت ه : . ٤٣ – ٤٨ ).

لكن ما معنى قول المسيح : « سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك » ؟ …

هل هذا هو ما علمت به شريعة العهد القديم ؟ 

كان تعليم العهد القديم لأبنائه اليهود ألا يعادوا من يعاديهم معاداة شخصية ، لأن الناموس أمرهم أن يحسنوا معاملة مثل هذا … يقول الرب : « إذا صادفت ثور عدوك أو حماره شارداً ترده إليه . إذا رأيت حمار مبغضك واقعاً تحت حمله وعدلت عن حله فلا بد أن تحل معه » ( خر ٢٣ : ٤ ، ٥ – أنظر تث ۲۳ : ۷ ) … و يقول الحكيم : لا تفرح بسقوط عدوك . ولا يبتهج قلبك إذا عثر » ( أم ٢٤ : ١٧ ) … كما يقول : إن جاع عدوك فاطعمه خبزاً ، وان عطش فاشقه ماء. فإنك تجمع جمراً على رأسه ، والرب يجازيك » (أم ٢٥ : ۲۱ ، ۲۲) نفس هذا المعنى أورده القديس بولس الرسول في ( رو ۱۲ : ۲۰ ) … 

لكن كان عدو اليهود الحقيقى هو من يعادي الله ويتحداه ، ومن ثم يعاديه الله ، ويأمر شعبه كحكومته على الأرض أن يقضوا عليه بلا شفقة ( تث ٢٣ : ٣ – ٦؛ يش ٦ : ۲ ، ۲۰ ، ۲۱) … لكن معلمى اليهود بعد انتهاء عهد الحكومات الإلهية، حولوا هذا الأمر إلى قانون للانتقامات الشخصية … وهذا ما أراده المسيح بتعليمه، وما كان ينقضه .

ولا شك أن محبة الأعداء هي درجة من درجات السمو والكمال المسيحى الذي يجب أن نجاهد للوصول إليه …. وقد دعانا السيد المسيح في نهاية تعليمه عن محبة الأعداء أن نكون أبناء حقيقيين الله ، متشبهين بأبينا السماوي الذي يشرق على الأبرار والأشرار. وختم تعليمه بقوله : ( فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل ) .

 والحق ان الإنسان يحتاج إلى عمل نعمة الله فيه لإتمام هذه الوصية. هي ليست وصية مستحيلة، بل وصية ممكنة عاشها القديسون وأظهروها فى حياتهم . ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك …

فاستفانوس أول شهداء المسيحية – فيما كان أعداؤه يرجمونه حتى الموت – كان يدعو و يقول : « يارب لا تقم لهم هذه الخطية » ( أع ٧ : ٦٠ ) … وما أكثر ما أظهر الشهداء والمعترفون من حب حقيقى نحو معذبيهم ومضطهديهم ، ورفعوا صلوات من أجلهم جذبت بعضهم فيما بعد للإيمان . وفي نفس الوقت كانت محبة هؤلاء الشهداء والمعترفين لأعدائهم برهاناً صادقاً على سمو الديانة المسيحية وصاق تعاليمها ، وانها ليست تعاليم نظرية … هذا الأمر دفع كثيرين من غير المؤمنين لإعلا ، إيمانهم وما يتبعه من تحمل الآلام كثمن للإيمان الجديد …

 لكننا لا ننكر أن تنفيذ وصية محبة الأعداء ليست سهلة ، لكن تنفيذها يحتاج إلى عدة أمور : 

أ – معونة من الله معطى هذه الوصية ، تنفيذاً لقوله : « بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً » والمعونة الإلهية توافينا بالصلوات والتضرع …. ولا شك أن الله في هذه الحالة سيعيننا لأنه يعلم ضعف طبيعتنا من ناحية ، ومن ناحية أخرى يعلم أننا نجاهد ضد طبيعتنا الجسدية التي تميل إلى الانتقام ، وإلى الاحساس بالذات …

ب – الامتلاء من المحبة نحو الله فننفذ وصيته ( إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ) ، ثم الامتلاء من المحبة الأخوية نحو من يُضمر أو يظهر لنا العداوة ، والنظر إليه على انه إنسان مسكين خاطىء استحوذ الشيطان على أفكاره وسلبه محبته لله ولاخوته …

ج – الاتضاع الحقيقي … ويعيننا في ذلك محاولة التشبه بسيدنا المسيح وتذكر قوله : « ليس التلميذ أفضل من المعلم، ولا العبد أفضل من سيده، يكفى التلميذ أن يكون كمعلمه والعبد كسيده» (مت ۱۰ : ٢٤ ، ٢٥) … وماذا فعل أعداء المسيح به ؟! لقد افتروا عليه وشتموه واهانوه وهو الإله ، وظلت عداوتهم تزداد حتى بلغت الذروة حينما صلبوا رب المجد … وإلى جانب ذلك نتذكر ماذا كان موقف المسيح منهم في أحلك الأوقات، وهو معلق على الصليب اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون ( لو ۲۳ : ٢٤) … ربما قيل إن تسليم المسيح نفسه لأعدائه كان لوناً من الضعف، لكن ماذا يمكن أن يقال فى طلب المسيح المغفرة لصالبيه بعد أن صلب وانتهى الأمر. 

د – التفكر في أن مقابلة عداوة إنسان بعداوة مثلها ، أي مقابلة الشر بشر مثله ، من شأنه أن يزيد نار العداوة اشتعالاً ، الأمر الذي يكون له أسوأ العواقب على الإنسان روحياً وصحياً. ومن هذا نفهم حكمة الرسول في قوله : «لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير» (رو ۱۲ : ۲۱ ) . ومن الناحية المقابلة نقول إن مقابلة عداوة إنسان بمحبة أو بإحسان من شأنه أن يزيل هذه العداوة ويستأصلها … ذكر عن المعلم جرجس الجوهرى أن إنساناً تعرض له وأهانه ، فذهب يشكو إلى أخيه المعلم إبراهيم الجوهرى – وكان أكبر موظفي الدولة في عهد المماليك إبراهم ومراد بك في أواخر القرن الثامن عشر. فقال المعلم إبراهيم لأخيه بعد أن استمع إليه ، سأقطع لسان هذا الإنسان الذي اهانك ، ثم استدعى خادمه وأمره أن يأخذ قمحاً وسمناً وجبناً وأشياء أخرى ويوصلها إلى منزل ذلك الشخص المعتدى . وفى اليوم التالى من المعلم جرجس كعادته ، وما أكثر دهشته حينما وجد نفس الإنسان الذي أهانه بالأمس يرحب به ويبجله . فتعجب جداً وذهب يروى لأخيه المعلم إبراهيم عما فعله مع ذلك الرجل ، فروى له ما فعله وقال له لقد قطعت منه لسان الشر !! 

سمات المحبة المسيحية في محبة الإنسان لأخيه الإنسان : 

كانت كنيسة كورنثوس ببلاد اليونان فى زمن الرسول بولس غنية بمواهبها الروحية. ولكن سرعان ما بدأ بعض أعضاء هذه الكنيسة الناشئة يتفاخرون بهذه المواهب ، أو يسعون من أجل اقتنائها كشيء هام … كان هذا التفاخر ومحبة أقتناء المواهب لذاتها من جانب هؤلاء الكورنثيين أمراً خاطئاً اهتم الرسول بولس أن يبينه فضمن رسالته الأولى التي كتبها إلى هذه الكنيسة ثلاثة اصحاحات تكلم فيها عن المواهب الروحية أو مواهب النعمة كما تُسمى . وهذه الاصحاحات هي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من هذه الرسالة . وفى نهاية الاصحاح الثاني عشر كتب إليهم الرسول يقول : « لكن جدوا للمواهب الحسنى وأيضاً أريكم طريقاً أفضل » (۱کو ۱۲ : ۳۱ ) … أما هذا الطريق الأفضل من المواهب فهو اقتناء المحبة، الذي تكلم عنه الرسول بالتفصيل في الاصحاح التالي الثالث عشر من رسالته هذه . 

في هذا الأصحاح بعد أن عرض القديس بولس لأهمية المحبة كفضيلة المسيحية الأولى ، وأبان أنها أهم من موهبة التكلم بألسنة ، ومن النبوة التي تكشف الأسرار وتعلم الإنسان ما لا يعلمه، ومن الإيمان الذي ينقل الجبال ، ومن الصدقة والنسك الشديد، بدأ يتكلم عن سمات المحبة المسيحية … والمحبة كما أوضحها بولس في هذا الاصحاح لها وجهان، أحدهما يهدم كل ركن من أركان الإثم والخطية وهو ما نسميه بالوجه السلبي، والآخر يبنى كل فضيلة في الإنسان المسيحى على اعتبار أن المحبة هي فضيلة كل فضيلة وهو ما نسميه بالوجه الإيجابي … ونعرض فيما يلى لكل من الوجهين …

أولاً – الوجه السلبي : 

ونعني به أثر المحبة فى ملاشاة واختفاء كل ملامح الخطية في حياة الإنسان المؤمن ….

المحبة لا تحسد : 

الحسد احساس بالنقص ، والمحبة احساس بالملء . الحسد عين ناظرة إلى أسفل أما المحبة فعين ناظرة إلى فوق، إلى السماء، وهذا سر فيضها وشبعها . يكفى لمعرفة كم أن الحسد شر، أن اليهود أسلموا المسيح حسداً ( مت ۲۷ : ۱۸؛ مر ١٥ : ١٠ ) . وان اخوة يوسف الصديق باعوه كعبد للإسماعيليين حسداً …

استطاع الراهب بفنوتيوس أو ببنوده تلميذ القديس مقاريوس الكبير أب رهبان الاسقيط ، أن يصعد مسرعاً في السلم الروحاني وهو بعد شاب الأمر الذي أهله فيما بعد إلى أن يخلف القديس مقاريوس في أن يكون أباً لرهبان الاسقيط … دخل شيطان الحسد قلب أحد الرهبان الشيوخ ، ودفعه الحسد الذي تملك عليه أن يسيء إليه … ففى أحد أيام الآحاد بينما ترك جميع الرهبان قلاليهم ليذهبوا إلى الكنيسة ، تسلل ذلك الشيخ الحاسد إلى قلاية بفنوتيوس وخبأ إنجيله وهو بين سعف النخيل الذي بالقلاية ، وأسرع بعدها إلى الكنيسة . وفى الكنيسة أعلن أمام الجميع أن انجيله قد سرق وهذا ما لا يصح في أماكن القديسين …. حزن الأنبا ايسيذوروس قس القلالي على حدوث مثل هذا الأمر المحزن ، وأمر بتفتيش جميع القلالي … جلس الشيخ الحاسد شامتاً عالماً بما سيحدث …. ويحدث ما لا يتوقعه الاخوة يوجد الإنجيل في قلاية بفنوتيوس … وكان تصرفه الوحيد هو سكب الدموع وضرب المطانيات لكل الاخوة يسألهم الصلاة عنه … تقبل الاتهام وهو برىء بالتسليم وضاعف صلاته وصومه وانسحاقه . لم تكن هذه هي خاتمة القصة فقد صرع الراهب الحاسد روح شرير وبقى زماناً متألماً. وحمله الاخوة للأنبا ايسيذوروس – وكان قد اعطى موهبة اخراج الشياطين – لكنه عجز عن اخراج هذا الشيطان . ولما سأل الأنبا ايسيذوروس ذلك الراهب الحاسد اعترف بخطيئته . وأراد الله أن يكرم بفنوتيوس، فلم يخرج الروح النجس إلا بصلاته …

المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ : 

الانتفاخ هو الكبرياء ، والتفاخر هو مظهر الانتفاخ وثمره … المفتخر بنفسه وبمقدرته ومواهبه أو بشيء له هو إنسان فاته أن الله مصدر خيره وكل ما هو حسن فيه … أما المحبة فلأن مصدرها الله فهى تفتخر بالله المعطى كما يقول الرسول : «من افتخر فليفتخر بالرب (۲کو ۱۰ : ١٧) . أما المنتفخ فهو إنسان ذاته كبيرة في نظره، وهو بار فى عينى نفسه، وأحب مجد ذاته أكثر من مجد الله …. والحقيقة أنه إنسان لم يعرف حقيقة ذاته ، وانه حفنة من تراب الأرض . وان كل ما فيه من حسن هو من الله لأن كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار» (يع ۱ : ۱۷ ) . 

ذكر عن القديس العظيم الأنبا أرسانيوس المعروف باسم معلم أولاد الملوك لأنه كان يعلم اركاديوس وهونوريوس ابنى الملك ثيودوسيوس الصغير، ذكر عنه أنه شوهد مرة يجلس إلى شيخ راهب مصرى بسيط ، يسمع إليه ويستفيد من نصائحه …. رآه راهب وهو جالس يستمع إلى هذا الراهب البسيط فأبدى دهشته أن معلم أولاد الملوك يحاول أن يستفيد من مثل هذا الراهب . فقال الأنبا أرسانيوس لذلك الراهب انه اتقن العلوم اليونانية والرومانية، أما الفا ڤيطا في الروحيات التي اتقنها الراهب المصرى فهو يجهلها !! 

المحبة لا تقبح : 

تقبح أي تستهجن ، وتدين ، ويخرج ذلك الاستهجان إلى حيز التقبيح … أما المحبة فلها العين البسيطة التي لا ترى إلا ما هو حسن . انها ترى الخالق في خلقته، ولأنها طاهرة فترى كل ما يحيط بها طاهراً … ذكر عن راهب قديس انه إذا دخل قلاية راهب ويجدها نظيفة ومرتبه يقول لا بد وأن أخي الراهب حياته مرتبة كقلايته . وإذا دخل قلاية راهب آخر ووجدها غير مرتبة يقول في نفسه لا بد وانه مشغول بالعبادة عن أن يصرف وقتاً في ترتيب قلايته . 

المحبة لا تطلب ما لنفسها : 

من يطلب ما لنفسه أناني يعيش في دنيا ذاته …وأما المحبة فهي العطاء والبذل . انها لا تطلب ما لنفسها لأنها تعيش من أجل الآخرين …

حدث فى زمان القديس مقاريوس الكبير أن الراهب المكلف بالزراعة شاهد عنقود عنب يظهر في غير أوانه . حمله إلى أبيه القديس مقاريوس … لكن مقاريوس فكر في راهب مُسن ومريض فحمله إليه لأنه أحس أنه بحاجة إليه . أخذه الشيخ لكنه فكر في راهب بسيط حديث الرهبنة فحمله إليه قائلاً فى نفسه انه لم يألف حياة التقشف . أخذه الراهب الصغير، لكنه لم يقربه وفكر فى آخر أحس أنه أكثر احتياجاً . وظل عنقود العنب ينتقل من شخص إلى آخر حتى وصل إلى القديس مقاريوس ثانية . شكر القديس الله لأنه أوجد محبة في قلوب الاخوة ، ودق الناقوس واجتمع الاخوة يسمعون إلى رحلة عنقود العنب التي برهن فيها جميع الاخوة أن المحبة لا تطلب ما لنفسها …

 يذكر عن القديس الأنبا سرابيون انه أثناء سيره فى الطريق أبصر فقيراً عارياً من الثياب ويتلوى من البرد الشديد. فخلع القديس ثوبه وأعطاه لذلك المسكين . قابله أحد الأغنياء وسأله بدهشة : [ من الذى عراك ] . أجابه : [ الإنجيل يا ولدى ] . فما كان من ذلك الغنى إلا أن خلع ثوبه وأعطاه للقديس . ثم يعود سرابيون و يلتقى بآخر عليه دين، والدائن ممسك به يعذبه ، يتألم القديس ، ماذا يمكن أن يفدى به هذا الرجل . لم يكن معه سوى الإنجيل الغالى الثمن في ذلك الوقت … ولم يتردد في أن يبيع الإنجيل ويعطى ثمنه للدائن. واصل مسيرته بلا إنجيل وقابله مسكين آخر فخلع ثوبه واعطاه له . وعاد إلى قلايته بلا ثوب ولا إنجيل . فلما رآه تلميذه بلا ثوب سأله عنه فقال : [ لقد قدمته يا ولدى أمامنا حيث نحتاجه ] وأشار إلى السماء . ثم عاد وسأله عن الإنجيل الذي يتعزى بكلامه فقال له : [ لقد كان كل يوم يقول لي بع كل ما لك وأعطه للفقراء وتعال اتبعني ] …

 المحبة لا تحتد : 

من يحتد يسلم نفسه للغضب وضيق النفس ، أما المحبة فتوسع القلب . 

المحبة لا تظن السوء : 

من يظن السوء قلبه غير نقى ، وعينه غير بسيطة . أول ما ينطبع في ذهنه هو الشر. أما المحبة فلأنها من الله ، فهى نظيره تجعل كل الأمور تعمل معاً للخير ولا تقبل إلا الحياة في سلام … وما أكثر الأبرياء الذين يظلمهم الناس بسبب سوء ظنهم . قصد الأنبا دانيال – وهو أحد آباء الرهبنة الكبار – ديراً للعذارى كان يأخذ اعترافاتهن. وكان بهذا الدير عذراء دعوها الهبيلة لأن تصرفاتها كانت تحكم عليها بذلك . وما أن دخل الأنبا دانيال للدير حتى اسرعت الأم الرئيسة وبقية العذارى لنوال بركته ما عدا هذه الهبيلة. فاعتذرت الأم الرئيسة له واظهرت ضجرها منها وقالت له : [ مراراً كثيرة أردت أن اطرحها خارج باب الدير، لكني خشيت من الخطية ]…

 تنهد الأنبا دانيال لأنه علم بالروح سر هذه الهبيلة فقال لتلميذه اسهر معى الليلة لترى عجائب الله في قديسيه … وفى الليل نهضت تلك الهبيلة لتصلى وتسكب الدموع، وكان وجهها يضيء. كانت تصلى في الخفاء، فاذا احست بقدوم أحد تظاهرت بالنوم . أرسل الأنبا دانيال واستدعى الأم الرئيسة وعاينت ذلك بنفسها فبكتت نفسها قائلة : [ الويل لى أنا الخاطئة فكم صنعت بها من الشتم والإهانة والتعيير ] …

انتشر الخبر بين عذارى الدير ، وما أن أحست الهبيلة بأن أمرها انكشف حتى هربت من الدير وتركت ورقة كتبت فيها : [ أهانتكن لى كانت ثمرة نفسي . بُعدكن عنى واستقلالكن ( احتقاركن ) لى كان ربحي . فمباركة تلك الساعة التي قيل لى فيها يا هبيلة . وانتن بريئات من الخطية من جهتى وانى قدامكن أمام المنبر سوف أجاوب عنكن لأجلى . ليس فيكن مستهزئة ، بل كلكن نقيات ] … وعندما قرأن الرسالة مع الأنبا دانيال قال لهن : [ ما كان مبيتى أمس هنا إلا لهذا السبب ] . 

المحبة لا تفرح بالإثم : 

من يفرح بالإثم هو أثيم ويشتهى أن يسقط كل الناس كما سقط هو …. أما المحبة فتقيم الساقطين وتحل المربوطين وتستر على الأثمة …

ذهب القديس بولس البسيط إلى الكنيسة يتأمل الاخوة الداخلين، وكان قد اعطى نعمة نظر الخفيات … كان يرى الملاك الحارس لكل أخ يتبعه مسروراً ، ما عدا أخ نظر ملاكه الحارس عابساً وشياطين كثيرة تحيط به . وفهم أن هذا الأخ معذب من الخطية . بكى القديس بولس البسيط على هذا الأخ الذي دخل إلى الكنيسة . وفيها تحرك قلبه بالتوبة عند سماعه القراءات الكنسية وبالفعل قرر عدم العودة إلى الخطية . وحال خروجه من الكنيسة رأى بولس البسيط الملاك الحارس لهذا الأخ متهللاً … لقد استجاب الله لدموع القديس بولس الذى احتر قلبه من أجل هذا الأخ . 

+ المحبة لا تسقط أبداً : 

الإنسان يسقط حينما يكون وحده ، وليس معه من يسنده أو يقيمه حينما يسقط . أما المحبة فالله يسندها ، لذا فهى لا تسقط أبداً … المحبة الحقيقية التي تستند إلى محبة الله لا تسقط أبداً مهما قابلها ومهما احتملت من شدائد وضيقات …

 أما العاطفة الوقتية فسرعان ما تزول … ولدينا مثل فى الإنجيل المقدس ، ذلك الشاب الغني الذي اظهر لهفة نحو الحياة الأبدية فركض نحو المخلص وسأله ( أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية )…. ولما قال له السيد : « يعوزك شيء واحد . اذهب بع كل مالك واعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني حاملاً الصليب » … لما سمع هذه الكلمات : (اغتم على القول ومضى حزيناً لأنه كان ذا أموال كثيرة) ( مر ۱۰ : ۱۷ – ۲۲) … مسكين ذلك الشاب الذي أظهر عاطفة في الأول، لكن سرعان ما سقطت محبته لأن شهوة محبته للمال كانت أقوى من محبته لله …

 ثانياً – الوجه الإيجابي : 

ونقصد بها الصفات الإيجابية التي تتصف بها المحبة …

 المحبة تتأنى وتترفق : 

لا عجب أن يضع القديس بولس هاتين الصفتين المتكاملتين على رأس قائمة صفات المحبة الإيجابية مشيراً إلى جوهرها الإلهى . فالله بطبيعته طويل الأناة جداً . وهكذا ينبغى أن يكون أولاده. إن التأنى هو الصفة المتعلقة بمعاملة الضعفاء والخطاة، وإذا توفرت للإنسان توفرت له عوامل النجاح في خدمته. والترفق صفة مكملة للتأني … يقول الآباء : [ طول الروح هو فخر القديسين ] . إن المحبة بطول أناتها وترفقها تكسب النفوس . 

ذكر عن القديس تادرس تلميذ الأنبا باخوميوس أب الشركة الرهبانية ، انه علم يوماً أن راهباً من رهبان الدير ينوى أن يترك الرهبنة لتضايقه من الأب الكبير أنبا باخوميوس . فذهب إلى أنبا باخوميوس واتفق معه سراً بأنه سيحضر مع هذا الراهب ويتظاهر أمامه بشدة تضايقه منه ومن معاملته ويظهر بذلك متضامناً الراهب … ذهب تادرس والراهب إلى أنبا باخوميوس، وأمامه أخذ تادرس يكيل الاتهامات لأبيه باخوميوس . أما باخوميوس ففى وداعة أخذ يستمع في صمت ، حتى ان الراهب الآخر خجل من موقف تادرس وكان يمنعه عن الاسترسال في الكلام . وأخيراً صنع ذلك الراهب مطانية لأنبا باخوميوس وعاد إلى حياته الأولى كما كان .  المحبة تفرح بالحق : إذا كانت المحبة لا تفرح بالإثم فبالتالى هى تفرح بالحق … والحق هو الله نفسه (أنا هو الطريق والحق والحياة ). إن الحق لا ينفصل عن الله لأنه من صفاته ، بل هو الحق ذاته … وحينما يظهر الحق في قضية ما يكون الله قد ظهر أو أظهر ذاته. وحينما يسود الحق بين جماعة ، يكون الله وسط هذه الجماعة … وإذا كنت إنسان الله – حتى لو كان الحق ضدی – لفرحت به …

 المحبة تحتمل كل شيء : 

هذه الصفة تؤمن للمحبة وصولها إلى غايتها ، وهى تفيد احتمال الاساءة إلى اقصى حدودها بدون أى رد فعل حتى لا تفقد النفس سلامها .  كان الأب جلاسيوس وهو أب لجماعة من الرهبان يقتني انجيلاً ثميناً ووضعه في كنيسة الدير لمنفعة بقية الرهبان …. حرك الشيطان أحد زوار الدير لسرقة الإنجيل . وخرج مسرعاً من الدير ليبيعه . عرضه على أحد المهتمين بالكتب فعرض عليه أن يشتريه منه بثمانية عشر ديناراً . لكنه أجل دفع الثمن حتى ما يستشير إنساناً له دراية بالكتب المقدسة … عرض الإنجيل على الأب جلاسيوس الذى تعرف على انجيله في الحال . .. ورغم ذلك لم يظهر بل شجعه على شرائه بهذا الثمن ….. عاد الرجل إلى السارق وقال له انه عرض الإنجيل على الأب جلاسيوس وقد نصحه بشرائه . صدم السارق حينما سمع اسم الأب جلاسيوس، واستعلم منه إن كان قد قال له شيئاً آخر… فلما نفى الرجل ذلك، مضى للتو إلى الأب جلاسيوس ومعه الإنجيل دون أن يبيعه . وخر عند قدمى ذلك القديس معترفاً وتائباً … ولم يكتف بذلك بل مكث بجوار الأب جلاسيوس ونذر حياته للرهبنة .

 المحبة تصدق كل شيء : 

حدث أن ضبعة قطعت الطريق إلى أحد الأديرة . فاستدعى رئيس الدير راهباً بسيطاً وأمره أن يذهب ويحضر هذه الضبعة . أطاع الراهب . ولما وصل إلى حيث كانت الضبعة خضعت تحت قدميه ، فقال لها إن معلمى أمرني أن أحضرك . وبالفعل حملها إلى رئيس الدير … لكن رئيس الدير خاف على الراهب من المجد الباطل فأمره أن يطلق الضبعة قائلاً له : [ لقد طلبت منك أن تحضر لى ضبعة فتمضى وتأتيني بكلب ] . وللوقت اطلقها . 

المحبة ترجو كل شيء : 

المعلم فانوس هو أحد أراخنة الأقباط في عهد حكم المملوكين إبراهيم ومراد بك فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر. وفى ليلة عيد من الأعياد الكبيرة كان أحد جيران المعلم فانوس من الأقباط مقبوضاً عليه ظلماً . فذهبت زوجة ذلك الرجل وشكت إلى زوجة المعلم فانوس . فما كان منها مشاركة لها إلا أنها لم تظهر أى مظهر من مظاهر ليلة العيد. ولما عد زوجها المعلم فانوس وجد بيته مظلماً فأخذته الدهشة . لكن زوجته قالت له كيف نحتفل بالعيد وأخونا فلان محبوس !! خرج لوقته المعلم فانوس وأخذ يتصل ببعض كبار الحكم حتى تمكن من الأفراج عن جاره … كل ذلك استغرق جزء كبيراً من الليل فنام متأخراً . كانت العادة أن يذهب الأراخنة إلى الأب البطريرك لتهنئته بالعيد . وكان مرتب أن يمر المعلم فانوس على المعلم إبراهيم الجوهرى ليذهبا سوياً للبطريرك . لكن بسبب ظروف الليلة السابقة تأخر المعلم فانوس عن موعده، واعتذر للمعلم إبراهيم الجوهري ذاكراً له الأسباب . فلامه المعلم إبراهيم لأنه لم يشركه في نوال هذه البركة … ذهبا إلى البطريرك وعرضا عليه الخلاف . فقال البطريرك للمعلم إبراهيم الجوهري : [ هو أطلقه من حبسه وأنت أوجد له عملاً ] .

 المحبة تصبر على كل شيء : 

لا مفر من أن تصبر المحبة على كل ما يصادفها من ضيقات وشدائد وعقبات ….. فالصبر هو الذي يوصل إلى المجد الأبدى الذى يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص . بصبركم تقتنون أنفسكم ….. والمحبة بطول اناتها قادرة على الصبر….. سكن أخوان البرية وعاشا معاً فى محبة . فلما ضجر الشيطان من محبتهما – وهو عدو كل خير عوّل على التفريق بينهما . ففى ذات مساء أوقد الأخ الأصغر السراج ووضعه في المكان المعتاد فأوقعه الشيطان فانطفأ … احتد الأخ الأكبر على أخيه الأصغر وعنفه وضربه . أما الأصغر فكان مملوءاً محبة . صنع مطانية لأخيه معتذراً وقال له : [ لا تضجر يا أخي . طول روحك على وأنا أوقد السراج ثانية ] . ومن أجل صبر الأخ الصغير ومحبته عذب الرب الشيطان إلى الصباح . ذهب الشيطان إلى رئيسه فى هيكل للأوثان ليقص عليه ما حدث له. وكان هناك كاهن ذلك الهيكل الوثنى يستمع إلى حديث الشيطان الذي عُذب من أجل صبر

ومحبة الأخ الصغير… اخذت الكاهن الدهشة من عظم هذه المحبة التي تغلب الشر وتهزم الشيطان. فقرر أن يصير مسيحياً ويصبح راهباً، وبالفعل سلك هذا الطريق …[14] .

معرفة السيد المسيح للمتنيح القمص لوقا سيداروس 

محبة المسيح تُصلح لك الحياة 

تُحِبُّ الرَّبِّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ (لو ۱۰ : ۲۷) 

لذلك فإن إنجيل اليوم يشير إلى نقطة في منتهى الخطورة تخص الحياة بالمسيح والوصايا. يمكنك أن تصل إلى السماء بآية واحدة إذا عشتها ونفذتها. “تُحِبُّ الرَّبِّ إلهَكَ مِنْ كُلّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كل قدرتك ومن كل فكرك”. هل هذه الآية هينة؟ كلنا نحفظها ولكن لا أحد يعيشها.

تحب الرب محبة كاملة من عمق القلب.. وإذا أحب الإنسان الله هل يمكن أن يكره الناس؟ يستحيل، لأن محبة الله تكون قوية كالنار، تفتح الطريق قدام محبة الآخرين. لكن الإنسان يفشل لأنه يعرف وصية محبة الله ويحفظ الآية في عقله، بينما محبة الله مكانها القلب.

 لماذا تصلى؟ ما هو دافعك للصلاة؟ هل هي تأدية واجب أم تعود؟ أنا أصلي محبة في المسيح الذي أحبني ولماذا تتضع؟ لأن من أعبده وأحبه متضع. أنا أتبع خطا المسيح الذي أحبني إلى المنتهى وقال: “تَعَلَّمُوا مِنِّي لأبي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ القلب”، ولماذا تقدم العطايا؟ هل لأن الله أوصانا وقال ” هَاتُوا الْعُشور وجربونى”، وبالتالي تأخذ بركة أكثر عندما تعطي؟ أنا أعطي لأني أحبه. ولماذا تكره الخطية؟ لأني احبه صارت الخطية مكروهة جداً. قلبي يحب القداسة، لأن المسيح قدوس.الروح القدس هو روح الله، روح القداسة. هل تحب القداسة وتحب النجاسة؟ مستحيل. هل تحب النور وتحب الظلمة؟ لا يمكن. أتحب الحق وتحب الكذب؟ يستحيل على الإنسان أن يحب الحق ويحب الباطل.

 لذلك فإن الوصية الأولى والعظمى، “تُحِبُّ الرَّبِّ إلهَكَ مِنْ كُلّ قلبك”، تصلح لك كل الطريق وكل الحياة. نحن فشلنا فشلاً ذريعاً في حياتنا. كل المتاعب التي نجوز فيها سببها أن نفسية الإنسان مُتعبة، لذلك تجده يتشاجر، يشتم يغضب يحقد، يمسك سيرة الناس. الإنسان لا يشعر بالراحة، وراحته في معرفة الوصية الأولى، “تُحِبُّ الرَّبِّ إِلَهَكَ مِنْ كُلّ قلبك”. تجد راحة كثيرة جداً وسلام الحقيقي.

 المسيح أعطانا نعمة البنوة

أحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكْمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا للأطفال (مت ١١: ٢٥) 

“تحب الرَّبِّ إِلَهَكَ مِنْ كُلَّ قلبك”، هو كلام نظري كيف أحب الله وبأي قلب؟ تحبه بالقلب الذي تحب به أولادك. تحبه بالقلب الذي يحب به الإنسان والديه في الصغر. ومن نعم الله علينا أن أعلن لنا ذاته، فأصبح لنا أن نعرف الله ليس معرفة المعلومات التي لا تنفع ولا تشفع، وإنما معرفة العشرة.

أصبحنا نعرف الله “ليس أحدٌ يَعْرِف الابْنَ إلا الأب ولا أحدٌ يَعْرِفُ الآبَ إلا الإبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أنْ يُعْلِنَ لَهُ”. لا يستطيع الإنسان بذاته أن يعرف الله. لكن أعطانا الله هذه النعمة أن نعرفه، فعرفناه معرفة حقيقية. عرفناه كأب. نحن نعبد الله وعندما نصلي نقول “أبانا الذي في السماوات”.

نحن ندعو الله أبانا، المعرفة فريدة. أعطاها المسيح لنا بغنى وسخاء وحكمة وفطنة أعطانا أن نعرف الآب، فعرفنا أن الله هو مصدر الحنان، لأن الأبوة هي مصدر الحنان والعناية والحب. هذه المعرفة أفاضها الله على الإنسان كنعمة، وأصبح لنا دالة وجرأة وقدوم عند الله أنت ابن الله لك الحق أن ترتمي في حضنه وتتمتع به كأي طفل في الدنيا. هذه المعرفة خصوصية جداً. 

اصحاب الديانات الأخرى يعرفون الله الخالق العظيم القوي الأبدي الأزلي اللا محدود. لكن لا يعرفونه كأب. أنت عرفت الله كأب، وتتذوق طعم حنان الأبوة كلما تلجأ إليه. هذا فضل عظيم جداً. هذه هي معرفة الإنسان الذي أخذ نعمة البنوة واصبح مولوداً من الله نحن مولودون منه فالمعرفة.

فالمعرفة ليست معرفة عقل، وإنما معرفة ولادة. أنا مولود منه وهو أبي. لذلك حين أصلي لا أؤدي واجباً ألجا لله في الضيقة، في الوسع في المرض، في الصحة، وأنا ناجح، وأنا فاشل وأنا خاطئ، لأن الله هو أبي من لي سواه! ولمن أذهب بعد أن وجدت الحضن الذي يحتوي ضعفي بالكلية وتعرفت عليه! 

حين يكون الإنسان غريب عن هذه المعرفة، لا يعرف الله معرفة حقيقية، معرفة أن يكون طفل. هذه المعرفة لا يدركها الفلاسفة. لذلك المسيح له المجد قال : “أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكْمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَها للأطفال”. نعمة عظيمة أن يتعامل الإنسان مع صغير في حضن أبيه.

علاقته بالله ليست علاقة رسمية الخليقة تعطي الخالق حقوق العبادة. فمثلاً الملائكة يسبحون الله بلا انقطاع. وهذا حقه لأن الله هو المُنْعِم عليهم وهو الخالق. لكن ما يربطك به هو أنه أبوك. هذا النوع الفريد من العلاقة نعمة البنوة، أنعم به المسيح علينا مع أننا مخلوقات، ضعفاء من تراب،عبيد،،وخطاة.

أنت تعرف الله وتعرف الحضن الذي فيه تجد راحتك 

لا تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلَا الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فليست فيه محبة الآب(١يو٢: ١٥) 

أريدك أن تصلي “أبانا الذي” بدالة، تصليها بمعرفة وحب.الشيطان خدعنا فأصبحنا نصلي الصلاة الربانية بشكل روتيني. بمجرد أن يبدأ الإنسان ويقول “أبانا الذي في السماوات”، يتشتت عقله في مكان آخر ويكر الكلام، فلا يعرف إن كان قد أنهي الصلاة أم لا . ارجع صلي أبانا” الذي” بدالة البنين. أبونا ميخائيل إبراهيم كان يصلي “أبانا الذي” بتؤدة وبطء، حتى أن من يسمعه يشعر أنه يكلم الله بكل الصدق والاستمتاع وهو ينادي الله “أبويا الذي في السماء”. 

يوحنا الرسول يقول: “أكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الآبَاءُ لأنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي مِنَ الْبَدْءِ. أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْأَوْلَادُ لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الآبَ.” اقول لك هذا الكلام، لأن لديك معرفة بالله. هذه المعرفة ليست عقلية كأن تقوم ببحث عن الله. أنت تعرفه وتعرف الحضن الذي فيه تجد راحتك. المسيح له المجد يقول: “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُثْعَبِينَ وَالتَّقِيلِي الأحْمَالِ وَأنَا أُرِيحُكُمْ ” أنا أعرف المكان الذي فيه تستريح نفسي، ويهدأ عقلي وقلبي وعواطفي بعد أن جربت طرق كثيرة وكانت كلها متعبة. وعرفت أنه لا يوجد طريق آخر للقلب مريح والنفس سواه. 

“تحب الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ”. آه يا رب أعطني أن أقتني هذا الحب. اطلب بإلحاح. إذا أحببت الخير الأعظم والحب الأعظم والقداسة اللانهائية، يتغير برنامج الحياة بأكمله، ويكون أساسه محبة الله محبة الله تكون هي المصدر والدافع وراء كل ما تقوم به من أعمال وتكون هي سبب امتناعك عن القيام بأعمال أخرى لأنك لا تستطيع أن تفعل ما لا يرضيه. السرقة حرام لأني لا أستطيع أن أحزنه لا يمكن أن أزني، لأني مولود منه وجسدي ملكا له عقلي وفكري وعاطفتي ملك المسيح. أحبه ولا يمكن أن أحبه وأحب العالم في ذات الوقت. “لا تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلَا الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآب”. كلمة العالم في هذه الآية تعني تيار الشر المنتشر في الدنيا.

تحب قريبك كنفسك هي التطبيق العملي لمحبة الله

 نُشتم فنبارك، نُضطهد فنحتمل يُفترى عَلَيْنَا فَنعِظ لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا (١كو ٤: ١٢) الوصية الثانية مثل الأولى “تحب قريبك كنفسك”. وهي التطبيق العملي لوصية لحب الرب إلهك من كل قلبك ومِنْ كُلِّ نفسك ومن كل قدرتك”. أنت تحب الله، لكن لأنك لا تراه، فإن النقلة العملية للحياة هي أن تحب قريبك كنفسك. تحب قريبك نفس المحبة. نحن مخلوقون على صورة الله.

هل يمكن أن يأتي اليوم الذي أرى فيه المسيح في كل إنسان؟ إن حدث ذلك تكون البغضة والإساءة موجهة لشخص المسيح ذاته. هذه هي الحياة المسيحية أتصور المسيح أمامي في القريب والبعيد، أتعامل مع المسيح في كل إنسان حتى الأشرار والمسجونين الذين ارتكبوا جرائم. يقول المسيح: لأنى جعت فأطعمتمونى. عطشت فسقيتمونى. كنت غريباً فأويتمونى. عرياناً فكسوتمونى. مريضا فزرتمونى. محبوساً فأتيتم إلي.

فيجيبه الأبراز حينئذ: يارب متى رأيناك جائعاً فأطعمناك أو عطشاناً فسقيناك؟ ومتى رأيناك قريباً فأويناك أو عريانً فكسوناك ؟ ومتى رأيناك مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك؟ فيجيب الملك: الحق اقول لكم بما أَنَّكُمْ فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فَعَلْتُمْ. 

صدقوني يا أحبائي لقد تهنا وتخبطنا كثيراً بسبب غياب هذه الرؤية عن أعيننا أصبحت الحياة كلها ضنك وتعب لا تسر ولا تفرح. عندما تصبح رؤية المسيح أمامك وتعرفه، عندما تراه وتتعامل معه وترتمي في حضنه كابن، تراه في كل إنسان حينها يكون كل إنسان حلو في عينيك لأنك ترى فيه المسيح مهما كان حاله أو صفاته.

ولو كان مغموساً في الشرور، لا أرى الشر الذي فيه، بل أرى المسيح. أرى المسيح في كل إنسان.. أتغاضي عن أخطاء الناس لأني خاطئ والخاطئ يعذر أخاه. القديس بولس الرسول قال: “أني لم أعزم أن أعرف شيئًا بَيْنَكُمْ إلا يسوع المسيح وإيَّاهُ مصلوباً”. لا أريد أن أعرف شيئاً إلا المسيح. أرى المسيح في كل إنسان وارتبط مع جميع الناس بهذا الرباط الأبدي. 

إن لم نعرف كيف نحب بعضنا بعضاً هنا على الأرض، هل سيكون لنا نصيب في السماء! السماء ليس فيها إلا الحب. السماء فيها أعضاء جسد المسيح الواحد، وجسد المسيح كله حب . فإذا لم نعرف أن نمارس المحبة هنا، لا يكون لنا مكان هناك. إذا لم نعرف كيف نمارس الحياة مع الله هنا، لن نستطيع أن نصل إلى السماء، لأن السماء هي وجود مع الله وحياة في حضرة الله. عليك أن تميز بين معرفة العقل والمعرفة الحقيقية.

تفرز بين معرفة المعلومات، ومعرفة الحياة في المسيح معرفة الله الحقيقية تظهر في التصرفات والحياة، ويشهد الناس أن الإنسان حقا إنسان الله، لأن سلوكه وتصرفاته ومعاملاته مع الناس تقول أنه فعلاً إنسان الله ” “نُشتم فنبارك”. من يشتم عوضاً لا يتبع الله “نُضطهد فنحتمل. يُفْتَرَى عَلَيْنَا فنعظ. لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بِالرُّوح الْقُدُسِ الْمُعْطى لنا”. أصبحت المحبة تغطي الحياة بأكملها. أقل رائحة للبغضة تبعدك عن الله. أقل رائحة للنجاسة تبعدك عن الطريق. احفظ نفسك. احفظ نفسك في المحبة التي هي نار. المسيح قالها “جلث لألقي ناراً على الأرض ولست أريد إلا أن تضطرم”. والمجد لله دائما أبديا أمين.[15]

 

الأب أنتوني م. كونيارس المحبة بلا قيود 

“لتصر كل أموركم في محبة” (اکو١٦: ١٤). 

أخذت الفتاة ذات السبع سنوات أخاها الصغير ذا السنوات الأربع لحفلة عيد ميلاد، وبعد فترة من الوقت قالت ربة المنـزل للطفلة: “أخوك بالتأكيد طفل هادئ جدا، فهو لم يتحرك من مكانه طوال النصف الساعة الماضية”، فأجابت الطفلة: “هذا لأنه يرتدي كرافتة لأول مرة ، لذلك هو يظن أنه مربوط بشيء ما”. 

يؤسس القديس بولس هنا قاعدة هامة لحياة كل إنسان مسيحي: “لتصر كل أموركم في محبة” (١كو ١٦ :١٤). 

وحيث إن بعض إساءات الاستخدام لمفهوم المحبة هي أنها تصير عاطفة متملكة، ومتحكمة، ومتلاعبة، ومقيدة لمن تحب، لذلك سنتحدث عن المحبة الأصيلة، مثل محبة السيد المسيح، التي هي عليه بلا قيود. 

بلا قيود 

 حاول راع في إحدى الكنائس القيام بتجربة مع أطفال كنيسته، محاولا أن يعلم الأطفال أن محبة الرب بلا قيود، فقام بتسليم شنطة من المصاصات لأطفال الحضانة، لكن الأطفال لاحظوا الخيط المربوط به هذه الشنطة، وهنا قال الراعي مفسرا: “أنتم في الغالب لاحظتم هذا الخيط، لقد ربطته في الشنطة، لكي في حالة إن تشافيثم وسببتم ضوضاء، سأضطر إلى أخذ هذه المصاصات منكم إن لم تحسنوا السلوك في الكنيسة. 

للوهلة الأولى، قد يبدو أن ما فعله الراعي ليس بالعمل اللطيف كما بدا في أول الأمر، لكنه كان بحاجة لأن يعلم الأطفال درسا هامًا. أن يعلمهم ما هو ليس بمحبة حقيقية؛ فالمحبة الحقيقية ليست فيها روح التملك، كما يقول بولس الرسول. المحبة لا تربط قيودا حول الشخص الذي تحبه. 

السيد المسيح لم يربط قيودا حول محبته لنا. هو لم يقل: “أنا سأحبك لو كان سلوكك حسنا، لو كنت إنسانا صالحا، لو… ، لو… “. هذا النوع من المحبة المشروطة هو عادة ما نلمح به لأطفالنا، فنحن نقول: “سنحبهم فقط لو كانوا أطفالاً صالحين ومهذبين، سنحبهم فقط لو حصلوا على درجات عالية في المدرسة، أو لو التزموا بمواعيدهم، أو لو أدوا المهام التي نوكلها إليهم”؛ هذا كما لو كنا نقول لهم: “إننا سوف لا نحبكم إن كنتم غير صالحين، أو عندما تسيئون السلوك، أو عندما لا تستحقون محبتنا”. هذه محبة محكومة بقيود.

كتب المطران أنتوني بلوم يقول: “أليس هذا ما يحدث في الغالب الأعم، لو أن ضحايا محبتنا تجرأوا على التحدث بصراحة لتضرعوا لنا قائلين: “آه لو أحببتني أقل لكن تركت لي حريتي، فأنا مسجون في سجن محبتك. أنت تريد أن تشكل ما يسعدني وفقا لرؤيتك. إن كنت فقط لا تحبني أو تحبني أقل، لاستطعت أن أكون نفسي!” أليس هذا ما يحدث في الغالب الأعم بين الآباء والأبناء، والأصدقاء، والزوجات والأزواج؟”

 هذا يحدث عندما يمطرنا شخص ما بالهدايا، نبدأ عندها في البحث عن القيود الخفية. نحن نرى هذا في الأشخاص الذين يتسللون لحياتنا مخططين على المدى الطويل لإعادة تشكيلنا تحت مسمى محبتنا، متلاعبين بنا لنستجيب عاطفيا لهم، بل قد يستشهدون بالكتاب المقدس ليؤثروا فينا لنعمل ما يريدون منًا. هذا يجعلنا نشعر بأننا مقيدون، وربما، وبدون وعي منًا، أغلبنا يربط من يحبهم بقيود. “سأحبك… إن أحببتني، إن كان سلوكك طيبا، إن كنت عند حسن ظني وعلى مستوى توقعاتي”. 

قال يوما أحد الأشخاص: “لقد أذاني والداي حقا، اللذان قطعاني لأشلاء، بحيث لم أعد قادرًا على حب أحد أو تقبل حب الآخرين لقد اعتادوا أن يقولوا لي إنهم سيحبونني لو حصلت على أعلى الدرجات في المدرسة، قد يصفعوني ويقولون لي: “لكن نحن نحبك”. إن الحب المبني على “لو” و “لكن” ليس هو بحب على الإطلاق. إنه لشيء بهي ورائع أن أدرك أن إله الكون كله يحبني، وأن حبه هذا ليس مبنيا على أي من أفعالي، هو حب موهوب لي مجانا وليس علي أن أكتسبه”. 

ماذا يجب أن نربط الآخرين بالقيود؟

لماذا يجب أن تكون لدينا هذه الرغبة القوية وهذا التلهف لتقييد الآخرين؟ إن هذه ليست محبة المسيح! هذه ليست عنايته الحنون، فينبغي علينا أن لا نهتم أو نتضايق عندما لا يقبل من نحبهم أفكارنا وخططنا من أجلهم، أو عندما لا يلوحون لنا مودعين عندما نلوح لهم. فيجب علينا أن نحب الآخرين بدون أن نربطهم بقيود بنا، لأن هكذا أحبهم السيد المسيح، وهذه هي الطريقة التي يدعونا السيد المسيح أن نحب الآخرين بها. 

هذا ما سنقدر عليه إن سمحنا للسيد المسيح بأن يملأ حياتنا. سوف يساعدنا على أن يعمل مقصاته لتقطيع قيودنا الكثيرة جدا، فكل إنسان يحب أن يشعر أنه محبوب لذاته، وليس لنوعية تصرفاته، أو مظهره، أو لأي . سبب آخر. فهناك شيء بداخلنا يخبرنا بأن المحبة الحقيقية شيء لا يكتسبه الإنسان، بل يمنح له مجانا، وأن المحبة الحقيقية الفعالة المحبة التي بلا قيود: “أنا أحبك لذاتك… كيفما أنت” هي عبارة إعجازية، فهي تحرر الإنسان ليكون ذاته، ليحقق إمكانياته القصوى وطاقاته في يسوع المسيح. 

جوهر المحبة يكمن في سر صغير: أن المحب عليه أن يحرر محبوبه، “فالمحبة ليست تملكية، ولا تسعى لتغيير الطرف الآخر، بل إنها توفر الحرية له ليكون منفردا متميزا”. 

القديس بولس الرسول يقول: “المحبة تتأنى وترفق .المحبة لا تحسد المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء” (اکو١٣: ٤-٥).

 “هذا الذي أحبه… أتمنى له أن يتحرر…حتى منّى أنا”، هذا ما قالته آنا مورو ليندبرج Anne Morrow Linderbergh، فالمحبة الحقيقية تتمنى لمن تحبه، أن ينمو؛ فقط المحبة المزيفة هي التي تقيد الآخرين. المحبة الحقيقية تعرف متى تترك من تحبه بمفرده، إنها لا تفرض قالبا معينا على الآخرين، المحبة الحقيقية تحررنا، تمكننا من أن نكون ما خلقنا الرب لكي نكونه (ما عليه).

يقول بولس الرسول: «لتصير كل أموركم في محبة» (اکو١٦: ١٤)، علينا أن نجعل محبتنا مثل محبة الرب لنا في المسيح يسوع ـ محبة بلا قيود.

صلاة  

نشكرك على غنى محبتك وفيض حنانك. 

نمجدك لأجل اتساع صدرك وقبولك لنا نحن الخطاة، دون شروط مسبقة، ودون استحقاق فينا. 

لقد قيدت نفسك على عود الصليب لكي تحررنا، أنعمت علينا بإرادة حرة، ولم تربطنا بك بقيود، 

لم تجعلنا آليين، لكن أبناء.

بإرادة حرة نحبك ،وبإرادة حرة نخدمك.

فساعدنا أن نعطى محبتك الحرة للآخرين، لا تحب بالكلام واللسان، بل نحب بالعمل والحق.

لك كل المجد، يا رب يسوع المسيح، مع أبيك الصالح والروح القدس، من الآن و إلى الأبد. آمین[16]

من وحي قراءات اليوم

ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ” (لو ١٠: ٢٥)

+ الناموسي يسأل (ونحن أيضا) ماذا أعمل؟ والمسيح له المجد يقول اتبعني

+ دائما ببنشغل بالأعمال لكنه يريدني أن أنشغل بتبعيته

+ عندما نتبعه ونتحد به لا تكون لنا أعمال خاصة، بل أعمال المسيح

+ الحياة الأبدية هي حياتنا في المسيح وللمسيح

+ التركيز في أعمالنا يضخم ذواتنا اما التركيز فيه يطهر اعمالنا وينمينا في النعمة

+ الله يفرح بكل ما نقدمة عن محبة حقيقية له وعن محبة نقية للآخرين

+ الحياة الأبدية هي الكنز المخفي في الحقل فطوبي لمن يسعي كل يوم لاكتشاف بهاءه

+ عندما نتبعه ونحفظ كلمته تتغير حياتنا دون ان ندري ودون ان ننشغل بما نقدمه لان نعمته تقود كل تصرف

+ نور العالم وملح الأرض والرائحة الذكية هي توابع ومرافقات حضوره الإلهي دون إعلان

+ الله لا يدعونا لأعمال عظيمة، بل لتبعيه دائمة له وأبسط ما نفعله سيكون له اثر عظيم في نفوس الآخرين

 

 

المراجع:

[1] تفسير سفر حزقيال الإصحاح الأول – القمص تادرس يعقوب ملطي

[2 ] JR, A. J. & Oden, T.C. ( 2003 ). Luke (The Ancient Christian Commentary on Scripture,      New testament part III ). Illinois ( USA ) : InterVarsity press. Page 174 , 177

ترجمة الأخت إيفيت منير – كنيسة مار مرقس ببني سويف

[3] المرجع : تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الأسكندري صفحة ٣١٤ – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد

[4] عظات القديس مقاريوس الكبير – العظات الخمسون للقديس أنبا مقار الكبير – ترجمة الراهب يونان المقاري

[5] من مقالات الأنبا أنطونيوس صفحة ١٠٠ – القمص بيشوي كامل – كنيسة مار جرجس سبورتنج

[6] تفسير سفر ملوك الأول إصحاح ١٩ – القمص تادرس يعقوب ملطي

[7] كتاب الحب الالهي صفحة ٢٢ ، ٢٣ – القمص تادرس يعقوب ملطي

[8] كتاب من مجد الي مجد  للقديس غريغوريوس النيسي – ترجمة القمص اشعياء ميخائيل – كنيسة الملاك ميخائيل بالظاهر

[9] كتاب المنجلية القبطية الأرثوذكسية صفحة ١٨٩

[10] كتاب تاملات وعناصر روحية في احاد وايام السنة التوتية اعداد القمص تادرس البراموسي

[11] كتاب المواعظ النموذجية الجزء الأول صفحة ١٢٣ – ١٢٨ -المتنيح القمص بولس باسيلي

[12]  كتاب أريد أن أري الله للقمص يوحنا باقي – كنيسة مارمرقس – مصر الجديدة

[13] كتاب تاريخ الوعظ وأهميته في الكنيسة المسيحية عموما والقبطية خصوصاً صفحة ٦٢ -10 الأرشيدياكون حبيب جرجس

[14]  كتاب بستان الروح  الجزء الثالث لنيافة الانبا يؤانس (ص ٥٧-٨٤)

[15] كتاب الينبوع القمص لوقا سيداروس (ص١٩٧-٢٠٠)

[16] كتاب من كنوز رسائل بولس الرسول ( الجزء الأول صفحة ٣٩ ) – الأب أنتوني م. كونيارس – إصدار مطرانية بني مزار والبهنسا