الأحد الخامس من قراءات الشهور القبطية

 

 

إن كنت لا أفتح لكم كوى السماوات، وأفيض عليكم بركة حتى لا توسع ” (ملا ٣: ١٠) ” الله هو عمانوئيل الطعام الحقيقي شجرة الحياة العديمة الموت … بركات الناموس ليس فيها شيء يُشبهك ” ابصالية الإثنين ( قطعة ٢٢،٧)

” لقد شفَى المرضى، حتى إذ يصيروا أصحّاء يشتركون في خبز البركة، ولكن ما داموا مرضى فلا يقدرون أن ينالوا خبز بركة يسوع[1]

 

 

شواهد القراءات

صلاة باكر (مز ٩٢-٣)  (مت ١٤ : ١٥ – ٢١)   (مز٩٦ : ١١)  (مر ٦: ٣٥ – ٤٤)

القداس  (١كو ١٤ : ١٨ – ٢٥)  (يع ٥ : ١ – ٨)   (أع ٢٤ : ١ – ٩)  (مز ١٤٢ : ٦ -٧)   (لو ٩ : ١٢ – ١٧)

 

 

ملاحظات على قراءات اليوم

+ قراءة مزمور باكر اليوم (مز٩٦: ١١) هي نفس قراءة مزمور باكر يوم ١٥ هاتور ( شهادة مار مينا العجايبي ) وهي نفس قراءة مزمور القدَّاس ليوم ١٣ برمهات (شهادة الأربعين شهيداً بمدينة بوبستة ) ، ومزمور القدَّاس ليوم ٢٣ برمودة ( شهادة مارجرجس ) ومجيئها اليوم لأجل الإشارة إلي البركات الروحية الغنيَّة لأولاد الله ، إشراقة النور الإلهي والفرح القلبي ” نور اشرق للصديقين وفرح للمستقيمين  بقلبهم افرحوا ايها الصديقون بالرب ” بينما مجيئها في تذكارات الشهداء (يوم ١٥ هاتور ، ويوم ١٣ برمهات ، ويوم ٢٣ برمودة ) لأجل الاعتراف بالمسيح له المجد والشهادة له ” واعترفوا لذكر قدسه ”

+ قراءة إنجيل القدَّاس اليوم (لو٩: ١٢ – ١٧) تُشبه قراءة إنجيل القدَّاس للأحد الثالث من شهر أبيب (لو٩ : ١٠ – ١٧) المُلاحَظْ هنا هو اختلاف الآيات المُختارة

قراءة أحد البركة إكتفت بالآيات من ١٢ – ١٧ للتركيز علي معجزة إشباع الجموع ، أمَّا قراءة الأحد الثالث من شهر أبيب فأضافت آية ١٠، ١١ للإشارة إلي ( وكان يُكلِّمهم عن ملكوت الله ) وهي موضوع قراءات شهر أبيب كله ، لذلك أضافت الكنيسة هاتين الآيتين في الأحد الثالث من أبيب عنها في إنجيل أحد البركة.

 

 

شرح القراءات

تاتي قراءات هذا الاحد عندما تكون خمسة احاد في الشهر القبطي فيكون الاحد الخامس هو هذا الاحد وقراءاته تعلن البركة التي يقدمها الرب للكنيسة

تبدأ المزامير بالبركات المادّية                               (مزمور عشيّة )

والبركات الروحية                                            ( مزمور باكر )

وحالة النفس دون البركة                                     ( مزمور القدَّاس )

يبدا مزمور عشية بالكلام عن البركة المادية التي يسكبها الرب علي الأراضي والزراعة متمثلة في كثرة مياه الانهار ( رفعت الأنهار يارب رفعت الانهار صوتها ترفع الانهار صوتها من صوت مياه كثيرة )

ويتكلم مزمور باكر عن البركة الروحية لاولاد الله اشراقة النور الإلهي والفرح القلبي والتسبيح ( نور اشرق للصديقين وفرح للمستقيمين بقلبهم إفرحوا ايها الصديقون بالرب واعترفوا لذكر قدسه )

ويوضح مزمور القداس حالة النفس البشرية بدون البركة الالهية ( بسطت يدي اليك صارت لك نفسي مثل ارض عديمة الماء استجب لييارب عاجلا فقد فنيت روحي )

وتُعْلِن القراءات مجد حضور الله ومخافته في الكنيسة والعبادة               ( البولس)

والغني الكاذب دون البركة                                                         ( الكاثوليكون )

وإحسانات البشر المحدودة                                                         ( الإبركسيس )

ويعلن البولس غني البركة الروحية وهو اعلان الكنيسة مجد حضور الله فيها وشهادة الامم لذلك (ولكن ان كان الجميع يتنباون فدخل احد غير مؤمن او عامي فانه يوبخ من الجميع ويمتحن من الجميع وتصير خفايا قلبه   ظاهرة وهكذا يخر علي وجهه ويسجد لله معترفا ان الله بالحقيقة كائن فيكم )

ويحذر الكاثوليكون من ظلم الاغنياء للعمال والفقراء والذي يشهد عليهم ظلمهم ويأكل ما عندهم مثل النار ( هلم الان ايها الاغنياء ابكوا مولولين علي ابكوا شقاوتكم القادمة عليكم غناكم قد فسد وثيابكم قد أكلها العث ذهبكم وفضتكم قد صدئا وصداهما يكون شهادة عليكم ويأكل لحومكم مثل النار )

اما الابركسيس فيعطي مثالا لمن يعتقدون ان حياتهم وماهم فيه من خير يرجع الي احسانات الولاة والحكام وليس الي الله ( اننا حاصلون بواسطتك علي سلام جزيل وقد صار لهذه الامة قيام بعنايتك في كل زمان وفي كل مكان فنقيل ذلك منك ايها العزيز فيلكس بكل شكر )

وتوضح الأناجيل إمكانيات البشر الضعيفة                                 (إنجيل عشيَّة )

والتكلفة الباهظة لحل البشر                                                      ( إنجيل باكر )

وغني الفيض الإلهي لكل الجموع بأقل الإمكانيات                         (  إنجيل القدَّاس )

بينما يوضح انجيل عشية قبول الرب الامكانيات البشرية الضعيفة ( أعطوهم انتم ليأكلوا اما هم فقالوا له : ليس عندنا هاهنا الا خمسة أرغفة وسمكتان فقال لهم : ائتوني بها الي هنا ) نجد في المقابل في انجيل باكر التكلفة الباهظة للحلول البشرية (اعطوهم انتم ليأكلوا فقالوا له لنمضي ونبتاع خبزا بمائتي دينار ونعطيهم لياكلوا )

ويعلن التلاميذ في انجيل القداس حيرتهم في التصرف وكيفية تسديد احتياجات الناس (اعطوهم انتم ليأكلوا فقالوا ليس عندنا أكثر من خمسة ارغفة وسمكتين الا ان نذهب ونبتاع طعاما لهذا الشعب كله ) ويحسم الرب القضية في الاناجيل الثلاثة باتكاء الجموع بنظام والصلاة والشكر بيده الالهية لتشبع الجموع من غني نعمته ( فقال لتلاميذه : اتكئوهم فرقا خمسين خمسين ففعلوا هكذا واتكأوا الجميع فأخذ الارغفة الخمسة والسمكتين ونظر إلي السماء وباركها ثم كسرها وأعطي التلاميذ ليقدموا للجمع فاكلوا وشبعوا جميعا ورفعوا ما فضل عنهم من الكسر اثنتي عشرة قفة مملؤة)

 

 

مُلخّص القراءات

البركة والغني الإلهي وتسديد الاحتياجات بفيض من أبسط الإمكانيات                      ( إنجيل عشيّة وباكر والقدّاس )

والبركة مادية وروحية لمن يبسط يديه وقلبه لله                                            ( مزمور عشيَّة وباكر والقداس عشيّة )

وغني مخافته يظهر في العبادة بوقار                                                                          ( البولس )

وغياب مخافته يجعلنا ننتظر إحسانات البشر                                                               ( الإبركسيس )

بل ويهبط بنا إلي ظلم الآخرين                                                                              ( الكاثوليكون )

 

 

معجزة إشباع الجموع في فكر آباء الكنيسة

“مثل ملكوت الله ما يصنعه المسيّا للتعليم: يشفي ويطعم شعبه؛ هكذا حسب مواعيد الأنبياء العظمي ”   (القديس أمبروسيوس).

“لإطعام الخمسة آلاف دلالات في العهد القديم. فإن يسوع هو النبي الشبيه بموسى الذي أطعم الشعب في البرّيّة.” (القديس كيرلس السكندري ).

“كذلك فإن لمعجزة الإشباع بعض أوجه الشبه التي تربطها بالعهد القديم :- “فالخمس خبزات مثلاً تشير إلى أسفار موسى الخمسة.” (القديس أوغسطينوس).

“أيضًا، قد تكون الخمس خبزات إشارة إلى الحواسّ الخمس ، والسبع خبزات  التي أشبعت الأربعة آلاف هي خبز تقديس الراحة المبشّربخبزات القيامة الثمان.” (القديس أمبروسيوس).

“هذا الخبز هو كلمة الله التي تنمو في السر الذي قد صيّر الماء خمراً في  عرس قانا. إن الطعام المعجزيّ مِن الخبز والسمك والفائض عن الأربعة آلاف يعِدّ الطريق لطعام المسيح الأبقى: جسده ودمه. ومعجزة الإشباع هذه هي إشارة إلى إشباع الكنيسة بمائدة الرب ;بالوليمة السمائية.” ( القديس أمبروسيوس ).

“هذا الفائض يحفّز الذين لديهم القليل لضيافة الغرباء؛ إذ أن الرب سيوفِّر كل احتياج.” (القديس كيرلُّس السكندري).

“مائدة الشركة مع يسوع هي إشارة لِمَا هو آت… الطعام الأُخروي ( الأبدي ) ،  وهو ما يعِدّه خبز الحياة يسوع للمؤمنين لحياة العالم ”  (القديس كيرلُّس السكندري)[2].

 

 

الكنيسة في قراءات اليوم

حضور الله في الليتورجيا                                                                   البولس

مواهب الروح القدس                                                                         البولس

مجئ الرب                                                                                   الكاثوليكون

أفكار مقترحة لعظات

(١) البركة

١- حضور المسيح وإشتياق النفوس وطاعة الخدّام أهم مداخل البركة                                 إنجيل عشيّة وباكر والقدّاس

٢- غني ومجد الكنيسة بحضور الله فيها وقوّة التأثير في الآخرين

” وتصير خفايا قلبه ظاهرة وهكذا يخرُّ علي وجهه ويسجد لله معترفاً أن الله بالحقيقة كائن فيكم ”             البولس

٣- الشُح والظلم عوائق البركة

” هلم الآن أيها الأغنياء ابكوا مولولين علي شقاوتكم القادمة عليكم غناكم قد فسد وثيابكم قد أكلها العُثُّ ”  الكاثوليكون

٤- زيف

البركة في الاعتماد علي البشر ودعمهم ومساندتهم ” إننا حاصلون بواسطتك علي سلام جزيل وقد صار لهذه الأمة قيام بعنايتك في كل زمان وفِي كل مكان ”                                                       الإبركسيس

٥- صراخ النفس وعطشها لله شرط البركة السمائية المُعْلنة في إشراقة النور الإلهي في القلب والفرح الدائم به

” بسطت يديَّ إليك صارت لك نفسي مثل أرض عديمة الماء ”            مزمور القداس

” نور أشرق للصديقين وفرح للمستقيمين بقلبهم ”                             مزمور باكر

(٢) مداخل البركة

١-الإشتياقات الكبيرة والعميقة

اشتياق الجموع للجلوس مع الرب في البرية ثلاثة أيام ليسمعوا كلمة الله يُعْلِن مدي اشتياقهم وشغفهم بكلمته المُقدَّسة لذلك استحقوا البركة والشفاء والشبع

٢- العطاء من الإعواز

أعطي الغلام الصغير طعامه للتلاميذ الذين أعطوه لرب المجد وأشبع بهم الجموع كلها وهذا يعكس قيمة عطيّة المحبّة من الإعواز ومدي غني البركة الإلهية فيها

٣- الشكر الدائم لله الآب علي كل عطاياه

جاءت البركة من يد ابن الله عندما شكر الله الآب ليقودنا للشكر الدائم في كل شئ وأن نرفع عيوننا للسماء في كل وقت وزمان

٤- الشركة المُقدَّسة

ما أجمل حياة الشركة بين التلاميذ الأطهار إذ تم التوزيع ببساطة وسرعة دون أن يكون نزاع أو صراع في من فيهم سيظهر أكثر أو يتقدم عن الآخرين وهكذا نري الشركة هي مدخل استعلان ابن الله مصدر البركة والغني ” لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة بإسمي فهناك أكون في وسطهم ” (مت ٢٠:١٨)

٥- تدبير الخدمة ونظامها

لذلك قال الرب لهم ” أتكئوهم فرقاً خمسين خمسين ” (لو ٩: ١٤) ليكون التوزيع سهلاً ومحايداً

(٣) يمكن الرجوع أيضا لعظات أناجيل البركة (الأحد الثاني من أمشير والثالث من أبيب )

عظات آبائية

يمكن الرجوع لعظات يوم الأربعاء من الإسبوع الثاني في الصوم الكبير

 

شرح من آباء الكنيسة لإنجيل الأحد الخامس للصوم المقدس 

(يو.٥:١-١٨) 

(٥ :٢): بالمسيح تحرك 

(أوغسطينوس): على ما أظن أن تلك البِركة وهذا الماء هما كناية عن شعب اليهود. ذلك أن رؤيا يوحنا تحمل لنا إشارة واضحة بأن مسمى المياه دلالة على الشعوب؛ فإذ ظهرت أمامه مياه كثيرة وسأل عما تكون تلك، أُجيب بأن تلك هي الشعوب. (انظروا رؤ.١٧:١٥). (مقالات أوغسطينوس عن إنجيل يوحنا- ٦.١١) فذلك الماء -أيْ ذلك الشعب- كان حبيس الأسفار الخمسة التي لموسى وهي الأروقة الخمسة. لكن هذه الخمسة أسفار قد جلبت شعبًا من مرضى لم يكن لهم شفاء؛ لأن الناموس أدان الخطأة ولم يهبهم حِلا... ثم ماذا حدث؟ الذين لم ينالوا الشفاء في الأروقة نالوه عند تحريك الماء. أليس كذلك؟ فالماء كان بغتة يتحرك وهكذا يُرى عيانًا؛ ولكن هذا الذي يحركه فلم يُرى. وكلام أوغسطينوس هنا لا يؤكد أنه يضع هذه الآية للتأمل، بل يلمح بها بشدةولكنها لا تخلو من معنى رمزي. وعند تحريك المياه كان من يقدر أن ينزل إليها هو وحده الذي يبرأ؛ أما إذا نزل بعده أحد فنزوله كان بغير جدوى 

فما المقصود بهذا الأمر سوى أن المسيح جاء إلى شعب اليهود، وبعظيم صنيعه ونفع تعليمه نخس الخطأة، وبحلوله حرك الماء وهيجه فأعده لاستقبال آلامه? إلا أنه حرك الماء خفيةً: “لأن لو عرفوا لمَا صلبوا رب المجد.” (انظروا ١ كو.٢:٨). إذًا فالنزول في الماء يعني الإيمان بتواضع بحقيقة آلام الرب. (مقالات عن إنجيل يوحنا- ١٧.٢.١-٣.٣.)  

 

(٥ :٣): جمهور من ذوي العلل 

 شفاء المعمودية يظلل 

(فم الذهب): أي شفاء هذا؟ وبأي سر يوحي إلينا؟ما هذا الذي لاحت ملامحه؟ إنه سر المعمودية الذي أُعِد للعطية هو الذي له تلك القوة. هو أعظم العطايا: معمودية تغسل كل الخطايا وتجعل البشر أحياء بدلاً مما هم عليه من حال كالأموات. في ذلك الوقت كانت هذه الأمور ظاهرة بواسطة البِركة كأنها الصورة… وهذه المعجزة صُنِعَت لكي يسهل على [المطروحين عند البركة] وقد عَلِموا لمرة بعد أخرى وعلى مر الزمن كيف يحدث الشفاء لأمراض الجسد  بواسطة الماء- أن يؤمنوا بأن الماء يمكن أيضًا أن يبْرئ من أمراض الروح. (عظات على إنجيل يوحنا- ٣٦ .١.)  

 

(٥ :٤): ملاك من عند الرب حرك المياه 

إليهم نزل ملاك؛ إليكم الروح القدس 

(امبروسيوس): لم يكن لأحد أن يبرأ قبل نزول الملاك. . بسبب من لم يؤمنوا كان الماء يضطرب علامة على نزول الملاك. إذًا فلأجلهم كانت العلامة؛ أما أنتم فلكم الإيمان؛ لهم كان الملاك ينزل؛ أما عليكم أنتم، فالروح القدس يحل؛ بسببهم اضطربت الخليقة؛ أما من أجلكم، فإن المسيح نفسه رب الخليقة يعمل. قبلاً إنسان واحد فقط قد شُفي؛ أما الآن، فالكل قد برئوا… فهذه البِركة كانت لكم مثالاً لتؤمنوا أن قوة الله تحل على جرن المعمودية. (عن الأسرار- ٤.٢٢ -٢٣)  

 

(٥:٥): مريض مدة ثمانية وثلاثين عاما 

المفلوج وقوة احتماله.  

(فم الذهب): حقًا كان هذا المفلوج عجيبًا في صبره! بقي لسنين ثمان وثلاثين؛ وفي كل سنة كان ينتظر العتق من دائه. وهكذا ظل طريحًا منتظرًا دونما استسلام. فلو لم يكن صابرًا بمثل ما كان: أمَا كان تصور حياته المقبلة -بغض النظر عن الماضية- كافيًا ليثنيه عن البقاء في ذلك الموضع ؟ انظروا كم كان بقية المرضى هناك متأهبين! فلا أحد كان يعرف تحديدًا متى ستتحرك المياه. كان باستطاعة العُرج والعُسم مراقبتها؛ ولكن، كيف كان لإنسان أعمى أن يفعل هذا؟ (هنا بدا ذهبي الفم كأنه يحصي الأمراض ويجمعها في بوتقة واحدة.) هذا التصور ربما يرجع للجلبة التي كانت هناك. وبعد، فلنخجل نحن أيها الأحباء! لنخجلْ ونئن لشدة تراخينا: لأن ذلك الإنسان بقي لثمانٍ وثلاثين سنة هكذا دون أن يحظى بمرامه؛ بلْ وظل باقيًا لم يرتد إلى الوراء! قد أخفق: لا إهمالاً منه، بلْ قهرًا وانتهاكًا من آخرين له. ولقد ظل باقيًا ولم يتراجع! وأما نحن، فربما نصلي بلجاجة من أجل أمر ما ونمضي في صلواتنا تلك نحو عشرة أيام أو ما قارب؛ وإذا لم نُستَجب نرجع فنتوقف عن المثابرة على تحقيق هذا الهدف [ما لم يفعله ذلك الإنسان]. والأكثر من ذلك هو أننا قد نتكل دومًا على أقراننا من البشر، مجتهدين وصابرين على المحن ومؤدين أعمالاً دنيوية- كلها للاستفادة من فرصة نوال شيء هو في نهاية المطاف غير مُجدٍ بالمرة في إرضاء رغباتنا. وأما متى يتعلق الأمر بمعلمنا الذي نحن منه واثقون بالجزاء الأعظم مما نستحق- لا نجهد أنفسنا من أجل انتظاره والرجاء به... وحتى لو لم نلقَ منه شيئًا: أَلَا يحق له أن نحدثه على الدوام لأجل جزيل بركاته؟ (عظات على إنجيل يوحنا- ٣٦.١-٢.)  

 

(٥ :٦): أتريد أن تبرأ؟ 

سؤال يسوع ينم عن قوة الشفاء.  

(كيرلس السكندري): هوذا دليل بائن على مدى صلاح المسيح: فهو لم ينتظر حتى يترجاه المرضى بالتوسل، بل يسبق فيجيب طلبتهم حسب كثرة رأفته. انظروا كيف يسرع إلى ذلك الطريح وكيف يشفق على مريض ليس له من يريحه! وسؤاله إياه عما إذا كان يريد أن يستريح مما به من علة لم يكن عن جهل بشيء بائن، بل ممن يحرك رغبة متزايدة وطلبة ملحة. إن السؤال عما إذا أراد نوال ما طال اشتياقه إليه لهو عميق في مغزاه: ففيه القوة به يكون استعلان سلطان يسوع على العطاء وإقباله على هذا الصنيع، فور سماع طلبة من سينال نعمته هذه. (تفسير إنجيل يوحنا- ٢.٥)  

 

(٥ :٧): ليس من معين 

المسيح يسمع بأُذن العطف، ويعطي أكثر.  

(فم الذهب): وهل يوجد كلام يدعو للشفقة أكثر من هذا ؟ وهل من حال أتعس من هذا؟ أمَا شعرتم بقلب المنكسر بسبب تمادي المرض؟ أعلمتم بكل ما عاناه الرجل من ألم وظلم؟ ورغم كل هذا لم ينطق لسانه بتجديف البتة! لم يلعن اليوم الذي فيه وُلِد ولم يحتد غضبه حين ألقي عليه السؤال: “أتريد أن تبرأ؟”بل ما كان منه إلا نقيض ذلك: فبلطف وبهدوء شديد أجاب: “نعم يا سيد.” ولم يكن يعرف من هذا الذي سأله -ناهيكم عن أنه هو المزمع أن يبرئه. كان يحكي فقط عن كل ظروفه غير طالب أي شيء، بل كمن يتحدث إلى طبيب بقصد أن يحكي عن حالته وأتعابه. ربما كان منتظرًا بعض المنفعة من المسيح لعله يدفع به إلى الماء، وربما كان يأمل في نوع من تحريك المشاعر بكلامه هذا. يوجد رأي لدى جماعة من الناس يقول إن هذا هو الحدث نفسه الذي يذكره متى عن ذلك الذي كان “مطروحًا على فراش.” (مت.٩:٢): لكنه لم يكن هو... لأن ذلك المفلوج كان لديه كثيرون يرافقونه ويحملونه؛ أما هذا الإنسان فلم يكن له ولا أحد... أيضًا فإن مواضع الأحداث مختلفة: أحدهما شُفي داخل منزل، والآخر شُفي عند البركة. (عظات على إنجيل يوحنا- ٣٧.١-٢)  

(٥ :٩): فحمل سريره ومشى 

سبيل المحبة.  

(أوغسطينوس): دعوني أسألكم: ما الإشارة التي يحملها السرير إذًا؟ ما عسى أن تكون سوى أن ذلك الإنسان كان محمولاً بالسرير وإذ برئ قد أصبح حاملاً السرير؟ ماذا قيل بحسب الرسول؟ “احملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تمموا ناموس المسيح.” (انظروا غل.6:2) أما ناموس المسيح فهو المحبة؛ والمحبة لا تكتمل إلا إذا حملنا بعضنا أثقال بعض: – هكذا أيضًا يقول: “محتملين بعضكم بعضًا في المحبة، مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام.” (انظروا أف.٤:٢-٣) فلما كنتَ مريضًا كان قريبك [جارك] يحملك. وإذ أنت قد شُفيت، فاحمل قريبك. بذلك تتمم ما كان يعوزك يا أيها الإنسان. ف”احمل” إذًا “سريرك.” ولكن متى حملته لا تبقى حيث أنت: بل “امشِ.” في سبيل محبة قريبك والاهتمام بقريبك اتخذ طريقك. فإلى أين تكون رحلتك إلا إلى الرب الإله الذي له ينبغي أن تكون محبتنا بكل قلوبنا وبكل نفوسنا وبكل فكرنا؟ نحن لم نصل بعد إلى الرب؛ ولكن لدينا قريبنا هنا. لذلك فاحمل هذا الذي معه أنت سائر، كي تستطيع أن تصل إلى من لمعيته تطوق إلى البقاء. إذًا، “احمل سريرك وامشِ.” (مقالات عن إنجيل يوحنا- ١٧.٩.٢-٣.)  

(5:10): ناموس حمل الأثقال في السبوت 

شرائع السبوت لا حاجة لها.  

(كيرلس السكندري): لم يرفع يسوع صلاة لإراحة المريض من تعبه لئلا يبدو [يسوع] كأحد الأنبياء القديسين. لكنه إذ هو رب القوات قد أمر بسلطانه بأنه هكذا يكون. يبشره بالذهاب إلى بيته فرِحًا؛ يأمره بحمل سريره على منكبيه، ليكون مثالاً وتذكارًا لكل الذين يطوقون للتلامس مع قوة شافيه. ويفعل هذا الإنسان ما طُلِب منه وبطاعته وإيمانه يربح ثلاثة أضعاف ما طاق إليه نعمة وبركة... المسيح يشفي الإنسان يوم السبت وفي الحال بعد شفائه يجتذبه لأنْ ينقض شريعة الناموس. يطلب منه أن يمشي يوم السبت، بلْ وحاملاً سريره -رغم أن الله ينادي جهرًا بلسان أحد الأنبياء القديسين قائلاً: “ولا تخرجوا حملاً من بيوتكم يوم السبت” (أر.١٨ ٧ :٢٢) وأظن أن ذوي العقل الراجح لا يقولون إن هذا الإنسان وقتها لم يأبه بالوصايا الإلهية أو أنه وقف ضدها؛ وبدلاً من هذا يدركون أنه كمثال اتخذه المسيح لكي به يعرف اليهود أنهم لن ينالوا الشفاء في آخر أزمنة العالم إلا بالطاعة والإيمان: فهذا (في اعتقادي ما يحمله “السبت” من رمز، إذ هو آخر أيام الأسبوع). وإذ هم بالإيمان قد برئوا وتغيروا عن شكلهم ليحيوا حياة جديدة، أصبح لا بد لهم من إبطال العمل بالحرفية القديمة التي للناموس والعدول عن العبادة الشكلية القائمة في الظل وكذلك عادات اليهود تلك الجوفاء. (تفسير إنجيل يوحنا- ٢ .٥. 

القضية هي الحمل؛ لا الشفاء 

(أوغسطينوس): إنهم لم يشتكوا على ربنا بالشفاء يوم السبت لأنه سبق فأفحمهم فسألهم إذا حدث أن وقع لهم ثور أو جحش في حفرة في يوم سبت: أفلا يخرجونه منها؟ لكنهم خاطبوا ذلك الإنسان الذي كان حاملاً سريره- وكأنهم يريدون أن يقولوا: حتى إنْ لم تتمهل على شفائك؛ فلماذا أُمِرْت بالعمل؟… إنه بسلطان مبرئه يقي نفسه: “إن الذي أبرأني هو قال لي ’احمل سريرك وامشِ.’” ما معناه: لماذا لا أقبل الوصية ما دمت قد قبلت الشفاء منه؟ (مقالات عن إنجيل يوحنا- ١٧.١٠ 

 

(٥:١٤): يسوع قد أنذر 

العقوبة الجسدية التعليمية.  

(فم الذهب): ها قد عرفنا في المقام الأول أن مرضه هذا كان نتيجة لخطاياه؛ وثانيا- عرفنا أنه يوجد جحيم؛ وهو -ثالثًا- موضع العقوبة الدائمة التي لا نهاية لها... ولكن قد يسأل سائل: “هل جميع الأمراض تأتي بسبب خطية؟” ليست جميعها، ولكن بعضها هكذا يكون. فبعض منها ينتج عن حياة المجون: فشهوة البطن والعيش المترف والرخاوة- كلها تسبب أتعابًا مماثلة... ولكننا بشأن هذين المفلوجين (أعني مفلوج إنجيل متى ٩:٢ أيضا): [لأن فم الذهب يتكلم عن الحالتين كلتيهما]: فلماذا يذكر المسيح لهما خطاياهما؟… أعلم أن هناك أناس يدينون هذا المفلوج مؤكدين أنه كان من المحتجين على المسيح، ولذلك قيل له هذا الكلام. ولكن، ماذا عن مفلوج إنجيل متى، ذلك الذي سمع كلامًا أشبه بهذا؟ فله قال المسيح أيضًا: “مغفورة لك خطاياك.” فهكذا يتبين أن هذا الإنسان لم يوجَه له الكلام نفسه بسبب ادعائهم هذا... بل إن يسوع أراد أن يقيه من خطايا مستقبلية. وعلى أية حال فهو عندما يشفي آخرين لا يذكرهم بخطايا البتة. من ذلك يتضح أن مرض هذين الاثنين نتج عن خطاياهما؛ أما بالنسبة لغيرهما ممن كانوا مرضى، فأمراضهم كانت لأسباب طبيعية لا غير. وربما استخدم يسوع هذه لإنذار الكل أيضا… أو ربما يكون قد أنذر هذا الإنسان لأنه يعلم بمدى صبره وثبات فكره؛ فسبق ونبهه حتى يحفظ له سلامته بشفائه وأيضًا بتحذيره من أمراض محتمَلة مقبلة... ثم أن هذا يعد إعلانًا عن لاهوته؛ فإذ قال: “فلا تخطئ أيضا” يكون قد أشار بأنه عالم بما صدر منه من خطايا سابقة. (عظات على إنجيل يوحنا- ٣٨.١-٢. 

برئ للحياة الجديدة مع الله.  

(اغريغوريوس النزيانزي): بالأمس كنت طريح الفراش، متعَبًا ومفلوجًا؛ ولم يكن لك أحد يلقيك في البركة متى تحرك الماء. واليوم صار لك من هو في كيان واحد الإنسان والله… أو بالأحرى الله والإنسان. أنت أُنهِضت من سريرك: بل وقد حملت سريرك وإجهارًا أعلنت ما صار لك. فلا ترجع فتنطرح على فراشك ثانيةً بخطيتك... لكن، بما أنت عليه الآن هكذا سرْ متذكرًا الوصية: فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر ويثبت عليك شر أعمالك بعد كل ما نلت من برَكة ونعمة. (عن المعمودية المقدسة- العظة 40.33 

(٥ :١٧) يسوع والآب يعملان حتى الآن 

بينما يعمل الآب في المسيح، كذلك فالمسيح يعمل.  

(ايلاريون أسقف بوطة): لقد اشتعل غضبهم حتى أنهم أرادوا قتله لأنه صنع أعماله يوم سبت. ولكن، تعالوا لنرى كيف أجابهم الرب: “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل.”هكذا يتكلم حتى نعرف به قوة طبيعة الآب التي فيه، والتي توظف الطبيعة الحاملة لتلك القوة للعمل في السبوت. فالآب يعمل فيه وهو يعمل. إذًا فإن يسوع يعمل مع الآب بلا أدنى شكوعلينا بملاحظة أن يسوع أراد التركيز على حقيقة عمل الآب مع عمله الشخصي في الوقت ذاته لكي بهذا يشير إلى أنه بالتزامن مع كلام الابن يعمل الآبفإذا كان هناك عمل للآب وآخر للابن ، فلا يمكن أن ينشأ بينهما اتحاد به يندمجان في شخص واحد. (عن الثالوث- 9.44 

الآب والابن جوهر واحد.  

(أثناسيوس): إن في عبارة [ما زال] (“أبي ما زال”) الدلالة على أن [الابن] كائن في الآب منذ الأزل وإلى الأبد؛ فهو “الكلمة”. ولائق بالكلمة أن يعمل أعمال الآب وألا يكون بمعزل عنه... فهو إما أن يُرى على أنه هو الصانع كل ما قدمه بنفسه من أعمال، أَمْ على أن لا قوة فيه لفعل أي شيء... لأنه لا شيء مما في الوجود أوجد ذاته بذاته؛ بل كل الموجودات قد أوجدها الكلمة الذي ما كان بإمكانه فعل أي شيء من كل ما فعل لو أنه مخلوق من بين الخلائق… لأن غير الكائن بالكلمة صار كائنا. وبما أن الآب به [أيْ بالابن] يخلق ويصنع، إذًا فلا يمكن أن يكون [الابن] هو نفسه من بين ما خُلِق وصُنِع. فهو كلمة الله الخالق، الظاهر في أعمال الآب التي هو يعملها: لأنه “في الآب والآب [فيه]”لأن جوهر الابن يخص الآب، وهو في كل صفاته مثل أبيه. (أحاديث ضد الآريوسيين- 2.16.20-22)  

 

(٥ :١٨): “معادلاً نفسه بالله.” 

سبب العداء.  

(امبروسيوس): تقول شهادة البشير أن يسوع بقوله عن نفسه أنه ابن الله قد ساوى نفسه بالله. لم يذكر فيها أن اليهود قالوا “لهذا السبب أردنا قتله”، بل أن البشير يقول معبرًا عن نفسه: “فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه.” ثم كشف عن السبب [بقوله] إن اليهود اهتاجوا طالبين أن يقتلوا يسوع لأنه بتصرفه كإله حيث نقض السبت وكذلك ادعى أن الله أباه- ينسب لنفسه جلال سلطة الله في نقض السبت؛ ليس هذا وحسبه، بل واستحقاق دوام المساواة كلما تكلم عن أبيه. (عن الإيمان المسيحي- 2.8.68)  

ما قاله المسيح هو ما علموه 

(فم الذهب): كل الذين لا يريدون أن يقبلوا هذا الكلام بفكر واع يؤكدون أن المسيح لم يجعل نفسه مساويًا لله، بل اليهود فقط قد ظنوا أنه هكذا فعل. فهيا نطَلع على ما قيل من البداية: هل اضطهد من اليهود أم لا؟ واضح للجميع أنهم اضطهدوه. وهل طردوه لهذا السبب (أي نقض السبت)، أم لغيره؟ مرة أخرى أقول: من أجل هذا. وهل هو قد نقض السبت؟ لا أحد يقدر أن يقول غير حقيقة أنه فعل هكذا. ألم يدعُ الله له أبا؟ بلى؛ فهذا أيضًا حدث. وأيضًا: فقوله عن الله أنه أباه ونقضه السبت وطرد اليهود إياه لهذه الأسباب- كل ذلك لم يكن محض خيال، بل حدث بالفعل. هذا يعني أن إعلانه المساواة لله قد كان إظهارًا للحقيقة. (من مؤلفات “التشابه في المعاني”). (عظات عن إنجيل يوحنا- ٣٨.٣)  

عاينوا الجسد، لا الكلمة.  

(أوغسطينوس): بشكل ما يعتبر اليهود على حق ]فيما اغتاظوا لأجله]: فهوذا إنسان تجرأ فجعل نفسه معادلاً لله. لكنهم أيضًا على غير صواب؛ إذ لم يفهموا أن هذا هو الله في الإنسان: فلقد عاينوا الجسد دون أن يعرفوا الله. عاينوا موضع السكنى دون أن يعرفوا الساكن فيه. ذلك الجسد كان هيكلاً بداخله قد سكن الله. من أجل ذلك فإن يسوع لم يساوي جسده بالآب؛ فلم يكن شكل العبد هو ذلك الذي يشبهه بالرب: ليس ما من أجلنا اتخذه، بل الذي به كان حينما جبلنا. (مقالات عن إنجيل يوحنا- ١٨.٢.١.)  

 

المصدر 

Oden, T.C. & Elowsky, J.C., (2006). يوحنا- 1-10 (التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدس/العهد القديم IVa). Illinois (U.S.A): وكالة InterVarsity. الصفحات (178, 179, 180–181, 181–182, 183–184, 185, 186, 187–188 

الربط بين معجزة إشباع الجموع وبين الوليمة السماوية أي الإفخارستيا عند القديس أمبروسيوس

[ما هو السبب الذي جعل البشير يذكر موت يوحنا المعمدان ، إذ يشير هيرودس إلى موته ؟ ربَّما لأن الإنجيل الذي يُشبع الشعوب الجائعة بدأ بانتهاء الناموس.

لقد قدَّم الغذاء بعد شفاء نازفة الدم رمز الكنيسة، وبعد إرساليَّة الرسل المُرسلين للكرازة بملكوت الله.

تأمَّل من هم الذين تمتَّعوا بالوليمة؟ لم يتمتَّع بها الكسالى ولا الساكنون في الكسالى المدينة كمن هم في المجمع ولا طالبو كرامات العالم، إنما يتمتَّع بها الباحثون عن المسيح في البرِّيَّة… هؤلاء يقبلهم المسيح، ويحدِّثهم لا عن العالم، بل عن ملكوت السماوات. وإن كان من بينهم من غطَّت القروح جسده، يعطيهم الرب يسوع دواءه.

لقد دبَّر الله أن يُنقذ الذين شفاهم من جراحاتهم المؤلمة من الجوع ويهبهم الغذاء الروحي، إذ لا يستطيع أحد أن يتمتَّع بالوليمة السماوية إن لم يُشفَ أولًا. المدعوُّون للوليمة تمتَّعوا بالشفاء أولًا. فمن كان أعرج نال القوَّة للمشي ليأتِ عند الرب، ومن كان قد حُرم من نور عينيه لم يدخل بيت الرب إلا بعد عودة البصر إليه. هكذا يسير الرب بتدبير حسن مقدَّس في كل حين، إذ يعطي أولًا غفران الخطايا ودواء للجراحات ثم يهيئ الوليمة السماويَّة… القلوب الجائعة للإيمان الراسخ لا تُشبَع إلا بجسد المسيح ودمه[3]

القديس كيرلس الأسكندري: المفهوم العميق للبركة

أيضاً ونحن نفحص المفهوم العميق للبركة التي نالها الاثنان، نقول كل مايخطر علي عقلنا ، وهذا علي ما أعتقد أنه ينفع أولئك الذين سوف يقرأون كلامنا.حسناً، قال اسحق الطوباوي ليعقوب :”رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب.  فليعطِيك الله من ندي السماء ومن دسم الأرض . وكثرة حنطة وخمر “(تك ٢٧: ٢٧- ٢٨) . الحديث عن الاثنين(يعقوب وعيسو ) اختلط مع بعضه، ومن الحديث عن كليهما يخرج حقٌ من خلال الحوادث التي صارت معها . وعلي أية حال ، فإن هذه الأمور لم تكتمل في يعقوب ، لكن في المسيح ،ولهؤلاء الذين نالوا الحق بالإيمان به ، الذين قد صاروا أولاد إسحق بحسب الموعد.

هكذا يتناسب مفهوم النبوة مع الشعب الجديد ومع المسيح نفسه الذي هو البداية والأصل ، فهو آدم الثاني حقاً وبمثابة جذر ثانٍ للبشرية لأن كل مافي المسيح هو خليقة جديدة . لقد تجددنا ثانية بالمسيح من جهة القداسة والحياة والخلود . أيضاً أعتقد أن حديث البركة يعني الرائحة الروحية الذكية التي في المسيح ، كالرائحة الجميلة والمفرحة التي تأتي من ورود الربيع في الحقول اليانعة والمزهرة . هكذا قدَّم لنا المسيح ذاته في نشيد الأنشاد قائلاً :” أنا نرجس شارون سوسنة الأودية ” (نش٢: ١) .

حقاً كان سوسنةً ونرجساً ، هذا الذي نبت من الأرض كإنسان ، لكن بدون أن يعرف خطية ، إذ يفوح منه عبيق الرائحة الذكية علي كل المسكونة . إذاً، المسيح يشبه حقلاً مباركاً من الله حيث هو بالحق رائحة معرفة الله الآب الذكية لأن بولس الرسول قال:” شكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان “(٢كو٢: ١٤).

فإن ربنا يسوع المسيح هو رائحة معرفة الله الآب الذكية ، لأنه يقول :” ليس أحد يعرف الابن إلا الآب “(مت١١: ٢٧) ، بسبب أنه من نفس طبيعة الآب ،وهو مساوٍ له في كل شيء . هذه الأقوال التي أشرنا إليها تناسب المسيح ،أما ما يتناسب مع شعب الله ، فهو الأقوال الآتية :” فليعطِك الله من ندي السماء. ومن دسم الأرض . وكثرة حنطة وخمر”(تك٢٧: ٢٨) . لأن الندي من السماء ومن دسم الأرض والخمر يشير إلي أن كلمة الله الاب قد أعطانا نعمة اشتراكنا معه بواسطة الروح القدس . وهكذا صرنا شركاء الطبيعة الإلهية ، وكذلك نلنا قمحاً وخمراً كثيراً، أي قوةً وبهجةً حيث إن كلام المرنم صادق حين يقول :” وخمرٌ تفرح قلب الإنسان … وخبز يسند قلب الإنسان” (مز ١٠٤: ١٦) .

إذن ، الخُبز هو علامة القوة الذهنية والروحية ، بينما الخمر يشير إلي البهجة والفرح . وقد أعطاها المسيح بنفسه للمتحدين به . لكن كيف وبأيةِ طريقةٍ صرنا ثابتين في التقوي وغير متزعزعين ونعترف ونؤمن ونحن أقوياء وبلا أي تردد ؟ لقد صرنا هكذا لأننا نلنا سلطاناً :” أن ندوس الحيات والعقارب وكل قوة العدو”(لو١٠: ١٩) . هذا ما يشير إليه دسم الأرض (القمح الكثير ).

أيضاً نلنا خمراً لأنه مكتوب:” وليملاكم إله الرجاء كل سرور وسلام في الإيمان لتزدادوا في الرجاء بقوة الروح القدس “(رو١٥: ١٣). لأننا نحن ننتظر المسكن السَّماويّ ، أي الحياة الخالدة ، الحياة الأبدية ،حيث نملك مع المسيح . هذه الأقوال ينبغي أن تُقال لنا ، إذ دعتنا الكلمة لهذا الأمر . بعد ذلك ، فإن بقية البركة سوف ترجع ثانيةً إلي عمانوئيل ، لأنه يقول :” ليُستعبد لك شعوب. وتسجد لك قبائل . كُن سيداً لإخوتك ” (تك٢٧: ٢٩) . بمعني أن عمانوئيل وُصِفَ بالبكر عندما صار إنساناً مثلنا وبكراً بين إخوة كثيرين “(انظر رو٨: ٢٩) ، ولم يكن ممكناً أن يتوقف عن أن يكون إلهاً وربَّاً للكل ،إذ أننا نسجد له كربَّ وإله ، ورب الكل لنا نحن الذين دُعينا بالنعمة وصرنا إخوة ، كما هو مكتوب :” لأنه مَنْ في السماء يعادل الرب “(مز٨٩: ٦) .

هكذا صار عمانوئيل الذي هو إله ورب الجميع للذين دُعُوا ليصيروا إخوته ” لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن علي الأرض ومن تحت الأرض “(في٢: ١٠) . أيضاً يقول :” ليكن لاعنيكم ملعونين. ومباركوك مُباركين “(تك٢٧: ٢٩). والقول واضح ، لأن الذين يلعنونه هم ملعونون وممقوتون من الله ، وعلي النقيض الذين يباركونه ، أي أن هؤلاء الذين يكرزون بمجده الإلهي هم مملؤون من المواهب الإلهية . هذه هي بركة يعقوب والتي تشير إلي المعني العميق لكلمة عمانوئيل ولهؤلاء الذين تبرروا بالإيمان[4].

الربط بين العطاء والبركة عند القديس كبريانوس

أما تلك المخاوف التي تنتاب البعض من أن يفتقر لو أعطى صدقة بسخاء، فكونوا مطمئنين ولا تنزعجوا من جهة هذا الأمر ، فإن ما ينفق لأجل المسيح، ولأجل تتميم عمل السماء لا يمكن أن يفرغ أبدا، إن هذا الوعد  ليس من عندي، بل هو من الله (الأسفار المقدسة). فالروح القدس تكلم على فم سليمان قائلاً: « من يعطي الفقير  لا يحتاج، ولمن يحجب عنه عينيه لعنات كثيرة» (أم ٢٨ : ٢٧). موضحا أن الرحماء وفاعلي الخير لن  يمكن أبدا أن يكونوا في عوز، لكن على العكس، البخلاء والخائفون على ما لديهم ، سوف يجدون أنفسهم فيما بعد في فقر واحتياج.

هكذا يقول الطوباوي بولس الممتلئ نعمة: «والذي يقدم بذارا للزارع وخبزا للأكل سيقدم ويكثر بذاركم وينمي غلات بركم. مستغنين في كل شيء» (۲کو ٩:١٠- ١١). وأيضا: «لأن افتعال هذه الخدمة ليس يسد إعواز القديسين فقط، بل يزيد بشكر كثير الله» (۲کو ۱۲:۹)، وذلك لأن الفقير يشكر الله كثيرا لأجل عطايانا وأعمالنا الصالحة، فيزداد الغنى لفاعلي الخير كمكافأة لهم من عند الرب، والإنجيل إذ ينظر إلى قلوب هؤلاء الناس يشجب قليلي الإيمان وغير المؤمنين ويقول: «فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل؟  أو ماذا  نشرب؟ أو ماذا نلبس فإن هذه كلها تطلبها الأمم. لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم» (مت٦: ٣١-٣٣).

فكل شئ سوف يعطى ويزاد لمن يطلبون ملكوت الله وبره، فعند مجيء يوم الدينونة، سيتقدم هؤلاء الذين تعبوا في كنيسته وصنعوا أعمالاً صالحة لنوال الملكوت. ليتك لا تخشى أن تخسر ميراثك الأرضي لو بدأت تتصدق منه بسخاء، ألا تعلم أيها الإنسان البائس أنك  بينما تخشى أن تفقد ثروتك، تخرب حياتك ذاتها وخلاصك. وبينما أنت قلق من أن تتقلص ممتلكاتك، لاتنتبه إلى أنك أنت ذاتك الذي تحب المال أكثر من نفسك، وأنك ضحيت بنفسك لأجل المال، لذلك حسنا يعلن الرسول ويقول: «لأننا لم ندخل العالم بشيء، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء: فإن كان لنا قوت وكسوة ، فلنكتف بهما. وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء، فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة، تغرق الناس في العطب والهلاك. لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ إبتغاه قوم ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة» (١تى ٦: ٧-١٠).

هل تخشى أن تفرغ ثروتك متى بدأت تتصدق بسخاء؟ متى حدث أن احتاج إنسان بار لمعيشته ؟ أليس مكتوب : «الرب لا يُجيع نفس الصديق» (أم ١٠: ٣)؟ فإيليا كانت الغربان تطعمه في البرية ، ودانيال عندما ألقي في جب الأسود بأمر الملك أعدت له وجبة من السماء (انظر تتمة دا ١٣:١٤-۳۸). وبينما أنت تفعل الصلاح ، وتستحق الخير من الرب، تخشى لئلا يعوزك الطعام! إن الرب يشهد في الإنجيل ويوبخ أصحاب الأذهان المتشككة وقليلي الإيمان ويقول: «انظروا إلى طيور السماء: إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلي مخازن ، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟» (مت ٦ :٢٦).

إن الله يطعم الطيور والعصافير التي لا تدرك تلك الأمور الإلهية، بل وحتى الخليقة التي لا مشاعر لها، فالمأكل أو الشراب لا ينقصها أبدا، هل تعتقد أنك- وأنت مسيحى وخادم لله ومكرس في عمل الخير وعزيز جداً عند الله – أنك سوف تكون في عوز؟

هل يمكن أن يفكر الإنسان هكذا، أن يظن من يعطي طعاماً للمسيح ،أن المسيح لن يطعمه؟ وإن أولئك الذين أعطوا أمورا سمائية وإلهية أنهم سوف يعتازون إلى الأشياء الأرضية!! من أين يأتي هذا الفكر الخالي من الإيمان؟ من أين يأتي هذا الفكر الدنس؟ ما الذي يفعله مثل هذا القلب الجاحد، في بيت الإيمان ؟   وكيف يدعى مسيحيا من لا يؤمن بالمسيح على الإطلاق؟ إن لقب «فريسي» يليق به بالأكثر !

فالرب حينما تحدث في الإنجيل عن الصدقة سبق وعلمنا لأجل خلاصنا بأنه يجب علينا أن نصنع لأنفسنا أصدقاء بمال الظلم حتى نُقبل في المظال الإبدية، أضاف الكتاب بعد ذلك: «وكان الفريسيون أيضاً يسمعون هذا كله وهم محبون للمال فاستهزأوا به» (لو١٤:١٦). فنحن نرى الآن مثل هؤلاء في الكنيسة. هؤلاء الذين أغلقوا آذانهم وأعموا قلوبهم، فلم يصغوا إلي التحذيرات الروحية المخلصة، لذا يجب علينا ألا نتعجب إن كانوا يزدروا بالخادم حينما يتكلم عن هذه الأمور،فأمثال هؤلاء قد استهزأوا بالرب ذاته.

لماذا لهذه الأفكار الحمقاء والفارغة أن تأخذ تسمح مكانها فيك؟ وتجعل تخوفك وقلقك من المستقبل يمنعك من فعل الخير؟ لماذا تتصور هذه الخيالات والأوهام حتى تجد لنفسك عذرًا واهياً؟ فلتعترف بالحقيقة واكشف خفايا قلبك، لأنك لا تستطيع أن تخدع العارفين. لقد أطبقت الظلمة على ذهنك، وتسرب النور إلي خارجك ، فظلمة الطمع العميقة  قد أعمت قلبك الجسداني: فأصبحت عبد وأسير لمالك ولمقتنياتك، أنت مربوط بسلاسل وقيود الطمع، أنت الذي حررك المسيح، عدت ثانية إلي أسرك وسجنك، عدت تدخر المال على الرغم من أن ادخارك له لن يخلصك.

أنت تكدس الثروة التي تثقل كاهلك بحملها الثقيل، ألا تذكر ما قاله الله للرجل الغني الذي كان يتباهى بحصاده الوفير: «يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون؟» (لو ۲۰:۱۲). لماذا تطيل التفكير في غناك، إنك كلما صرت غنيا في نظر العالم، كلما ازددت فقرا في عيني الله؟ اقتسم أرباحك مع الرب إلهك، اجعل المسيح شريكاً في كل مكاسبك، اجعل المسيح شريك لك في ممتلكاتك الأرضية لكيما يجعلك هو أيضا وريث معه في ملكوته السماوي[5].

 

عظات آباء وخدام معاصرين

يمكن الرجوع لعظات يوم الأربعاء من الإسبوع الثاني في الصوم الكبير وعظة قداسة البابا تواضروس في يوم الإثنين من الإسبوع الخامس من الصوم الكبير

المتنيح الدكتور ثروت باسيلي: العشور وبركاتها في حياتنا

العشور هي نوع من أنواع التقـدمات أو القرابين التي يقدمها الإنسان لله مثـل الباكورات (البكور) والنذور وهي ذبـائح شكر يقدمها الإنسان بفرح ويقبلهـا الله بالبركة. وسوف نتحدث عن العشور من منطلق اختبار شخصي واختبارات أخرى لأناس تتمسك بالوصية وتعيش بها لأنها تعتبرها دستورا للمسيحية، فالوصية تعني أنهـا ضرورية التنفيذ وليست اختيارا يحتمـل التطبيق أو عدمه. وعندما عاش هؤلاء الناس الوصية اختبروا نتائجها وثمارها عندما تطبـق بالروح والحق والتسليم.

كما يأتي الحـديث عـن العشـور أو الصدقة من منطلق كتابي من خلال تتبـع روح الوصية كما جاءت في العهـدين القديم والجديد.  وصية العشور (التقدمـة) في العهـد القديم:

عرف قايين وهابيل ضرورة تقـديم قربان الله من عمل يدين كل منهما فقـدم هابيل من أبكار غنمه وقبل الرب قربانه، وقدم قايين من أثمار الأرض قربانـاً للرب ولكن لم ينظر الرب لقربانه حيث كانت هناك خطية رابضـة فـي قلبـه (تك ٤ : ٣ – ٥). ويأتي لقاء إبراهيم مع ملكـي صـادق ملك ساليم الذي أخرج خبزاً وخمراً وكان كاهنا لله العلى وبارك إبراهيم وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيهـا تقـديم الخبز والخمر من كاهن في العهد القـديم حيث كانت تقدمات الكهنة من الذبائح الحيوانية. وبعد ذلك أعطى إبراهيم لملكي صادق عشرا من كل شئ (تـك ١٨:١٤-۲۰).

وقد فسر بولس الرسول في رسالة العبرانيين معنى هذه التقدمة: “لأن ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلـي الذي استقبل إبراهيم راجعا مـن كـسـرة الملوك وباركه الذي قسم له إبراهيم عشرا من كل شئ …هو مشبه بـابن الله …” (عب ٧: ١-٣). أي أن كهنوت ملكي صادق هو رمـز لكهنوت السيد المسيح الذي جـاء ليحـل محل كهنوت بني لاوي (أولاد إبـراهيم) الذين لهم وصية أن يعشروا من الشعب والذين كانوا في صلب إبـراهيم عنـدما خضع لملكي صادق وباركـه وقـدم لـه إبراهيم العشر من كل شئ. واستمر يعقوب في تقديم العشور عندما نذرها له إذا رجع إلى بيت أبيه بسلام وهذا الحجر الذي أسسته عمودا يكون بيت الله وكل ما تعطيني اني اعشره لك (تك ٢٢:٢٨).

وعند خروج بني إسرائيل مـن أرض مصر طلب الرب من عند دخولهم أرض الكنعانيين أن يقدموا للرب كـل فـاتـح رحم وكل بكر من نتائج البهائم وكل بكر إنسان يقدم فدية عنه (خر ۱۳-۱۲:۱۳). ويعود الـرب ليـذكر شعبه بوصاياه في( تث ١٤:۲۲- ٢٣) “تعشـيرا تعشر كل محصول زرعك الذي يخـرج مـن الحـقـل سـنة بسنة… لكي تتعلم أن تنتقي الرب إلهك كل الأيام” .

وتستمر أسفار العهد القديم فـي ذكـر وصية التقدمة والصدقة والعطـف علـى الفقير والمسكين والمريض حتى الأصحاح الثالث من سفر ملاخي آخر أسفار العهد القديم حيث يقول الله على لسان النبـي : فإنكم سلبتمونى .. فقلتم بم سلبناك .. فـي العشور والتقدمة. قد لعنتم لعنا واياي انتم ساليون هذه الأمة كلهـا .

هـاتوا جميع العشور إلى الخزنة ليكون في بيتي طعام وجربوني بهذا قال رب الجنود ان كنت لا افتح لكم كوي السموات وأفيض علـيكم بركة حتى لا توسع…” (ملا٣: ٨-١٠) هذه التقدمة هي حق الله إذا امتنع عن تقديمه الإنسان فإنـه يسلب الله حقـه وتكون اللعنة هي نصيبه. هنا وفي هذا الموقف وحـده وهذه الوصية فقط يسمح الله للإنسان بأن يجربه عندما يعطي عشـوره ويختبـر صـدق مواعيد الله له بمباركة ما لديـه وغمره لعطايا السموات التي لا حصر لها.

الوصية في العهد الجديد :

وقد يعترض البعض قائلا إنه قد انتهى عهد الوصايا والشريعة والناموس وجـاء العهد الجديد بلا فرائض لأنه عهد النعمة والبر بالإيمان. وهو كذلك فعـلا ولكـن تجاوز السيد المسيح حرف الوصية وارتفـع بالروح بالتقدمة ليتجاوز العشــور كحد أدنى للعطاء إلى عطـاء النفس والـذات والعطاء من احتياجـات الـنفس الخاصة كما امتدح السيد المسيح عطـاء فلسي الأرملة التي أعطت من احتياجاتهـا في الهيكل.

جاء العهد الجديد ليكمل عمل الناموس في السمو بروح العطاء عنـد الإنسان فيصبح شعور من يعطي الصدقة كمـن يأخذ من يد الله. وفيما يخص العشور لـم ينقض السيد المسيح هذه الوصية بل قال: ” ان لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات” (مت ٢٠:٥) وتقدمت وصية الصدقة في الموعظة على الجبل على وصية الصلاة والصـوم ومن المؤكد أن السيد المسيح يقصد بهذا الترتيب التأكيد على أهمية الصدقة التـي وضعها القديس متى الرسول في بدايـة الأصحاح السادس وعاد إليهـا ليؤكد أن الصدقة هي كنز في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدا، ” لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا” (مت ٦: ٢١).

والصدقة ليست مجرد كنز في السماء بل السبب وراء إرث الملكوت المعـد لنا منذ تأسيس العالم كقول السيد المسيح نفسه: “تعالوا يا مبـاركـي أبـي رثـوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم لأني جعت فأطعمتموني عطشت فسقيتموني كنت غريباً فأويتموني عريانا فكسوتموني مريضا فزرتموني محبوسا فأتيتم إلـي… الحق أقول لكم بما أنكـم فعلتمـوه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فـعلـتم.” (مت ٣٤:٢٥-٤٠) .

لقد تجاوز العطاء العشور إلى بيع كـل المال وإعطائه للفقراء كما أجاب يسوع الشاب الذي سأله” ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؛ فنظر إليه يسوع وأحبه وقال لـه يعوزك شيء واحد اذهب بع كل مالـك واعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعـالى اتبعنـي حـاملا الصليب (مر ۲۱:۱۰) .

وهكذا كانت إجابة يوحنا المعمدان على أسئلة الكثيرين ماذا نفعـل لكـي نـتـوب وترجع إلى الله ونصل إلى الملكوت؟ فيقول لهم : من له ثوبان فليعطى من ليس لـه ومـن لـه طـعـام فليفعـل هكـذا (لو ۱۱،۱۰:۳)، كما كانت وصية السـيد المسيح للجموع: وكل من سألك فأعطـه ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه” (لو ٦: ٣٠).. لقد أحب الأنبا ابرام هذه الوصية جـداً وعمل بها طوال حياته فكان يقدم ماله لكل من يسأله ولا يرفض سؤال أحد.

كانت الصدقة سبباً فـي خـلاص كرنيليوس الذي لم يكن يهوديا ولكن ملاك الله خاطبه قائلا : “صلواتك وصدقاتك صعدت تذكاراً أمام الله (أع٤:١٠) وأخبره كيف يصل إلى بطرس ليعتمـد ويأخذ الروح القدس. وتمضي روح الوصـية فـي رسـائل بولس الرسول وبطرس ويعقوب ويوحنـا لتضع الاهتمام بالفقراء أولاً وثانياً وثالثاً حتى ثامناً ثم تأتي الاهتمامـات الأخـرى للكنيسة من نشاطات اجتماعية وغيرها من إقامة مبان ومنشآت.. هذا العطاء يقدم في الخفاء “فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك” (مت٦: ٣).

هذا العطاء يقدم بروح السـرور والبركة: ” هذا وإن مـن يـزرع بالشـح فبالشح أيضاً يحصد ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضا يحصد كل واحـد كـمـا ينوي بقلبه ليس عن حزن أو اضطرار لأن المعطي المسـرور يحبه الله (۲کو٩: ٦، ٧).

هذا العطاء يقـدم بـروح الانسحاق والخشوع ولسان حاله يقـول ” لأن منـك الجميع و مـن يـدك أعطيناك ” (١ أي ١٤:٢٩)هذا العطاء يقدم بدون حساب ودون حدود حينئذ تصير كـل الوصـايا سهلة وهينة الحمل.

قد يسأل البعض : الله غني لا يحتـاج مني شيئاً فكيف يطلب منا وهو الذي يملك الكل؟؟

لقد عرفت الإجابة حينما كان يجلـس أحد أحفادي على قدمي وكنت أطعمـه شيئاً يحبه فإذ به يضع إحداها في فمـي ففرحت بما أعطاني ووهبته كل ما لدي مما يحبه. هكـذا الله الآب يطلـب منـا التعبير عن حبنا له كما عبر هذا الطفـل ذو العامين من عمره.

بركات الصدقة :

-اختبار الطاعة للوصية والاعتراف بفضل الله علينا الذي يمتد من العطايا المادية الي العطايا البشرية متمثلة في اولادنا الذين ليسوا ملكاً لنا بل ملكاً لله كذلك المواهب الروحية هي عطية من الله وإذا شعر الإنسان انها موهبة شخصية انسحبت منه. الإيمان ببركة الله وصدق مواعيـده في مباركة ما في أيدينا بعد تقديم العشور، الإيمان بأن التسعة ببركـة الـرب أكبـر وأكثر من العشرة بدون بركة الرب.

قال المتنيح أبونا صليب سـوريال: إن الذي لا يستطيع في صغره تقـديم ۱۰ قروش من الجنيه لا يستطيع تقديم الجنيه من العشرة ولا العشرة مـن المـائـة ولا المائة من الألف…. التراحم والتعاطف بين أبنـاء الله والشعور بالمحبة لا بالكلام واللسان بـل بالعمل والحق. لقد عدد الله البركات لمـن يتعطف على المسكين حيث ينجيه الـرب في يوم الشر ويحفظه ويحييه ويفرح فـي الأرض ولا يسلمه إلى أعدائه ويعضـده على سرير مرضه (مز ٤١: ١-٣). قد يعمل بعض الأشخاص بجهد كبيـر ورغم ذلك يكاد الناتج لا يكفي ولا يفـي باحتياجاتهم، وقد يعمل الآخرون بجهد أقل ويفيض ما يحصلون عليه عن احتياجاتهم والسبب وراء هذا وذاك انعدام بركة الرب أو وجودها… أخيراً يا إخوتي أقـول إن العشـور لا تغفر الخطايا ولا تخلص ولا توصل إلـى الملكوت بدون الوصايا الأخـرى ودون إعطاء كل القلب وتقديم الذات للرب إلهنا.

تعليق المجلة :

هذه العظة و إن كانت غير حديثة لكنها تعتبر عظة كل يوم فالمجلة تنشرها لمـا تتميز به من شمولية واختبـار شخصـي ومعايشة للواقع. فالشمولية تظهر في تناول الموضـوع من خلال العهد القديم والجديد ومن حيث تناول الهدف من العشور ومعناه وبركاته وكيفية القيام به وكذلك شمولية الرؤيـة للحياة الروحية التي لا تقوم على عنصـر واحد.

أما الاختبار الشخصي فيظهر من خلال الحياة العملية بالوصية وظهور البركـات والثمار الفعلية في الواقع من حيث النجاح عملياً وروحيا. كذلك معايشة الواقع والرد عليه حيث يرفض المجتمع الرأسمالي السـائد علـى العالم اليـوم إعطـاء مكانـة للأضعف والأفقر، ومـن هـذا المنطلـق تختلـف الاتجاهات حول السبيل إلى تنفيذ وصـية الصدقة والرحمة بـالفقراء حيـث يرى البعض فيها أنها تسبب تواكـل هـؤلاء الفقراء واعتمادهم المستمر على الآخرين وعدم محاولتهم الارتقاء بأنفسهم.

وقد يستمر الجدل بعرض الحجج مـن كلا الجانبين المؤيد والمعارض ولكن تبقى وصية السيد المسيح أوضح وأقوى حجـة لتعريف السبيل إلى ملكوت السموات بإطعام الفقير وإيـواء الغريـب وكسـوة العريان… ويبقى الاختبار الشخصي دليل دامغ على صدق مواعيد الله[6].

 

المتنيح القمص لوقا سيداروس إنجيل البركة  الأحد الخامس من شهر بؤونه 

فصل من إنجيل مار متي البشير (مت ۱٤ ۱۵ – ۲۱) بركاته علينا آمين

 في الوجود مع الله نتخطى حدود الطبيعة جَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَاباً وَاحِداً رُوحِياً – لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ (اکو ٤:١٠) 

غداً يوافق الأحد الخامس من شهر بؤونه. رتب آباء الكنيسة أن يكون إنجيل الأحد الخامس هو إنجيل البركة ، لأنه شهر مبروك خمس آحاد لذلك تُقرأ معجزة إشباع الجموع في العشية والقداس. والذي يجذب الانتباه في الإنجيل أن الجموع المحتشدين حول المسيح مكثوا معه ثلاثة أيام دون طعام أو شراب. طبعاً هذا ليس في مقدور الإنسان الطبيعي. فعندما يصوم الإنسان بضع ساعات، يجوع. لكن في الوجود مع المسيح، يتخطى الإنسان حدود الطبيعة. كيف لا يجوع الإنسان ولا يعطش لمدة ثلاثة أيام؟ المسيح نفسه هو من عالَ شعب إسرائيل في القديم أربعين عاماً. وحين تذمروا وقالوا لموسى أتيت بنا في البرية لنموت من العطش وكان أحرى بنا أن نموت في مصر، أنبع لهم الماء من الصخرة التي هي المسيح. يقول القديس بولس الرسول في كورنثوس الأولى الإصحاح العاشر : جَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَاباً وَاحِداً رُوحِيّاً – لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ “. المسيح كان أمامهم ولم يُدركوه، لأنه عهد قديم. أما في وجود المسيح له المجد في الوسط، تشبع النفس. في وجوده، يتخلى الإنسان عن ضروريات الحياة الجسدية. كان الناس يُنصتون للمسيح، يتطلعون إليه، ويسمعون له بانفتاح قلب، فنسوا الطعام والشراب ثلاثة أيام. هذه النعمة موجودة في حياتنا بلا شك، وكل منا تذوقها واختبر كيف يتخلى بالفعل عن أكثر الضروريات. على مدى عشرين قرن من الزمن، تجد في تاريخ الكنيسة من زهدوا في العالم بكل ما فيه ورموه وداسوا عليه، على خلاف الطبيعة البشرية المُحِبَة للأخذ والشحيحة في العطاء. وهي طبيعة الإنسان الساقط. الإنسان الطبيعي أناني بالفطرة منذ الطفولة وهو ما يظهر واضحاً في تصرفات الأطفال الذين لا تتعدى أعمارهم بضعة شهور. ضع لعبة أمام أحدهم ، يأخذها أو يخطفها ويقول إنها لعبته. يعتقد الناس أن مثل هذا التصرف يرجع لكونه طفلاً، لكنها الطبيعة البشرية المحبة للأخذ فالطفل لا يدرك ولا يعرف المواربة والتمثيل. الطفل هو صورة للطبيعة البشرية المكشوفة دون رتوش. أستطيع أن أرى طبيعتي البشرية في الطفل. هذا الكلام قاله القديس أغسطينوس في اعترافاته عندما رأى طفلاً يرضع من أمه. ثم أخذت الأم طفلاً آخر لتُرضعه. فقام ابنها وهاج وبكي صارخاً. لذلك قال القديس أغسطينوس وهو يعترف أن خطية حب الذات والأنا كانت داخله منذ أن كان رضيعاً في طفولته المبكرة.

الشبع في المسيح وُجِدَ كَلامُكَ فَأَكَلْتُهُ فَكَانَ كَلامُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي. (أرميا ١٦:١٥)

لكن في المسيح انقلبت الدوائر أصبح أولاد الله محبين للعطاء. يقول التاريخ أن الشهداء داسوا على العالم بكل مباهجه. فهل كانوا بشراً طبيعيين؟ هل من الطبيعي أن يحتقر الإنسان العالم بهذا القدر، ولا يحسب حساباً لجسده، ولا نفسه ثمينة عنده ! هذه الأمور تفوق الطبيعة. هل طبيعي أن يتخلى الإنسان عن ضروريات الزواج الإنسان مخلوق له احتياجات وغرائز جسدية، فهل يمكن أن يتخطى هذه الحدود؟ يستطيع جداً إن وجد مشبع النفوس، وشبع بالمسيح. لما مكث الناس مع المسيح ثلاثة أيام أشبعهم في نهاية المعجزة يقول الكتاب “أكلوا جميعهم وشبعوا”. وفي الحقيقة أن الناس كانوا شبعى من ينبوع الحياة فنسوا حاجتهم للطعام. تستطيع أن تختبر هذا الأمر في حياتك الخاصة عندما يُفْتَح الإنجيل أمامك. تتذوقه وتشبع به وتشعر بكلمة الله تُغني حياتك وتلهب مشاعر نفسك وقلبك. بمجرد أن تصل كلمة الله إلى مسامعك تنشغل بها جداً فتنسى أن تتناول الطعام. ويمكن أن تختبرها في حياة الصلاة والإنجيل. عندما تتلذذ بالمسيح، تنسى الدنيا بما فيها. منذ ما يقرب من خمس وعشرين عاماً، تعلقت فتاة بشاب غير مسيحي. فبذلت قصارى جهدي في محاولة إبعادها عنه، حتى لين الله قلبها كنا في بداية الصوم الكبير فأخذتها لأحد الأديرة في مصر، وقلت لعل أحد الآباء الكبار يتحدث معها ذهبنا إلى الدير وكان الصوم، فحضرنا قداس انتهى قرب الغروب، ثم التقينا مع أبونا وأخبرته بالموضوع فرحب بأن يتحدث معها جلسنا معاً وفتح فاه وابتدأ يتكلم كلاماً روحياً عميقاً ، وتطرق الحديث إلى موضوعات وانفتحت مجالات حتى قضينا على هذا الحال نحو ثلاث ساعات وحتى الساعة الثامنة. فجاء راهب من الآباء واستأذن بلطف وقال: “يا أبونا مش تأكلوا لقمة؟” فرد عليه أبونا وقال له: “إسأل .. احنا شبعانين”. بالحق لم نشعر بالزمن ولا بجوع الجسد، لأن كلمة الله مشبعة فعلاً.  حين تقرأ الإنجيل وينفعل قلبك بوصية الله وكلامه الحلو، يُشبع ويروي نفسك جداً، فلا تشعر أنك في حاجة إلى شئ آخر . اذا صمت الأيام طي أو جلست إلى الإنجيل كمائدة شهية، تأكل وتشبع. يقول الكتاب: وُجِدَ كَلَامُكَ حلو فَأَكَلْتُهُ فَكَانَ كَلامُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي”. كلام الله يُؤكل ويُعطي شبعاً، لكن ليس للعقل. كلام الفلاسفة قد يشبع العقل، لكن كلام الروح يُشبع داخل القلب. الفرق كبير جداً. يتلذذ الفلاسفة بالأفكار والمقارنات والمناقشات والكلام المنمق الجميل والأفكار العالية هذه كلها مشبعة للعقل. أما الإنجيل فهو يلمس القلب ويُشبع النفس ويعطي ما لا يمكن أن يأخذه الإنسان من العالم.

عدم التذمر ثمر الشبع الروحي الَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ الَّذِي سَمِعْنَاهُ الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. (١ يو۱ : ۱)

في معجزة اشباع الجموع كان هناك خمسة آلاف رجل ماعدا النساء والأطفال. جمهور كثير جداً من الشعب. والعجيب أنهم لم يتذمروا بسبب الجوع، بل جلسوا يسمعون تعليم المسيح ثلاثة أيام، ولم يذكر الإنجيل أنهم طلبوا طعاماً أو تذمروا التذمر كان في العهد القديم، لأن الناس كانوا جسدانيين بينما الكلام روحي، والمن روحي والماء النابع من الصخرة روحي. لكن كيف يتذمر الإنسان في العهد الجديد في وجود المسيح، وهو يتلامس النعمة عياناً بياناً والنعمة ليست شيئاً منفصلاً عن الإنسان، النعمة أصبحت قريبة جداً في متناول يد الإنسان النعمة أصبحت ملموسة، لذلك قال يوحنا الرسول عن المسيح: الَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ”. مع الناس لم يطلبوا طعاماً أو شراباً ولم يتذمروا ، وكانوا على وشك الانصراف دون طعام أو شراب. لكن المسيح هو الذي أشفق عليهم، فقال لتلاميذه: إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ لأنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أنْ أصْرِ فَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلَّا يُخَوِّرُوا فِي الطَّرِيق”. المسيح أشبع أرواحهم، لكنه كان يعرف أن أجسادهم ضعيفة لأنه خالقهم، فلم يُرد أن يصرفهم جائعين.

عناية المسيح بأولاده وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ (مت ۳۰:۱۰)

المسيح لذيذ جداً. فهل ذقته؟ هل تعرفه ؟ هل تلامست معه؟ طبعاً، فالمسيح هو مصدر الحنان أتعامل مع المسيح بروحي ، وأخذ ، وأشبع، وأصلي كثيراً، وأقرأ الإنجيل، إلى آخره. المسيح أيضاً يعرف ضعف جسدك، وضعف طبيعتك، وقاسها جيداً جداً. هذا التدبير مفرح جداً. فالمسيح المعتني بروحك لخلاص نفسك، معتني بجسدك أيضاً، ولا تحتاج أن تعتني به. لذلك اسمع وصايا المسيح عندما قال: لا تهتموا للجسد بما تأكلون لأني مهتم به أيضاً، اطلبوا أولاً ملكوت وبره. هل سيتركنا المسيح جوعي ؟ هل سيترك جسدي ،ضعيف مريض محتاج، معتاز، مائل إلى التراب؟ كلا، هذا الجسد هو هيكل له. “أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌّ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ الَّذِي لَكُمْ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟” الله الذي يهتم بأرواحنا يهتم بأجسادنا جداً على نفس المستوى. فعلى الإنسان أن يطمئن جداً، ويوازن الطريق الروحي. والطريق الروحي ليس خيالاً. فالمسيح نقل الإنسان إلى ما هو أبعد من الطبيعة في الروح، ولكنه عاد يهتم بأجسادنا جداً هو الذي أشفق على الجمع لئلا يسقطوا أو يضعفوا في الطريق. وهو يعرف حدود الجسد. فاطمئن جداً أن المسيح مهتم بأجسادنا. فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُها مُحْصَاةٌ واحدة منها لا تسقط دون إذن أبيكم. أليست الْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلُ مِنَ اللَّبَاسِ؟ المسيح معتني بأجسادنا. ضع في بالك دائماً أن حياتك كلها في يده. تدبير الحياة كلها في يده وملكاً له يدبر حياة النفس والجسد والروح معاً. المهتم بروحك جداً لغفران الخطايا وتطهير النفس وتطهير الضمير ووراثة ،الملكوت، هو نفسه الذي يعول الكل ويربيهم. وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ المسيح مهتم بجسدك. قد أمرض وقد أضعف، المسيح يعرف، لأن أمراضنا حملها وأوجاعنا تحملها شهوات الجسد تئن عليّ. رغم أني قد تعمدت لكن الإنسان العتيق إنسان الشهوات يلقي على حياتنا بظلاله. لكننا أصبحنا مقدسين، نفساً وجسداً وروحاً. 

هل الجسد موضوع اهتمام المسيح؟ نعم.

هل جوع الجسد موضوع اهتمام المسيح؟ جداً.

هل ضعف الجسد موضوع اهتمام المسيح؟ فعلاً.

الإنسان المسيحي سواء عمل بالقول أو بالفكر، سواء تحرك بالجسد أو بالروح، أصبح ملكاً للمسيح. كل ما فيك يهم المسيح جداً، وكل ما لك ملكاً له. 

المرجع كتاب الينبوع للمتنيح القمص لوقا سيداروس صفحة ١٤٧- ١٥٠ 

 

 التلاميذ خبز مكسور للعالم كله فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيَّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. (۲کو ۱۲: ۹)

من ناحية الجسد التلاميذ الأطهار عاشوا في العالم كفقراء والقديس بولس الرسول قال: “إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ نَجُوعُ وَنَعْطَشُ وَنَعْرَى وَنُلْكُمُ وَلَيْسَ لَنَا إِقَامَةٌ”. بالنسبة لجوع الجسد فهو معلوم، وهو أمر بسيط داخل بمقياس في حسابات الله الرسل الأطهار ومن تبعوا المسيح اختاروا حياة الفقر والعوز. لكن كان هذا من خارج فقط، أما من داخل فقد صاروا مثل الخمس خبزات التي حين كسرت أطعمت خمسة آلاف. كذلك التلاميذ كسرهم المسيح فصاروا خبزاً للعالم. معروف أن الخبزة الصحيحة تكون كاملة الاستدارة ومحدودة بدائرة مغلقة. المحيط الخارجي للخبزة يشير إلى الذات. متى كُسِرَت الدائرة، تُكسر الخبزة وتوزع وتكون بركة وتُشبع كثيرين. وكما بارك المسيح الخبز، أخذ التلاميذ في يده كخبزات وباركهم وكسرهم فذهبوا واشبعوا العالم. يقول القديس بولس الرسول: “وَلَكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ الْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ ، فِي شَدَائِدَ، فِي ضَرُورَاتٍ، فِي ضِيقَاتٍ، فِي ضَرَبَاتٍ فِي سُجُونٍ، فِي اضْطِرَابَاتٍ فِي أَتْعَابِ، فِي أَسْهَارٍ فِي أَصْوَامٍ”. بشروا وهم في أمراض. وكانوا يشفون المرضى ويقيمون الموتى. هكذا أراد لهم المسيح أن يكونوا مكسورين. فرطوا في ذواتهم ووزعوا أنفسهم على العالم أجمع. القديس بولس الرسول كانت له موهبة شفاء الأمراض وإقامة الموتي. غير أنه يقول: “أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ”. ويقول عنها: “مِنْ جِهَةِ هَذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقْنِي. فَقَالَ لِي: “تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ”. فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِي فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ”.

تسليم الحياة للمسيح لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يعيش لِذَاتِهِ وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. (رو١٤: ٧)

متى يأتي الوقت الذي فيه أسلم حياتي في يد المسيح بلا مقاومة؟ متى أضع نفسي في يد المسيح وأقول: “ها أنذا تحت أمرك، إفعل بي ما تريد. أنا خبزة في يدك، اكسرها للتوزيع إن أردت”؟ تجوز النفس في الكسر بيد المسيح عندما يكون الإنسان مطيعاً خاضعاً كافراً بذاته مزدرياً بالأنا. يُكسر الإنسان عندما يضع نفسه في كف المسيح ويقول له: “يا رب” ليست لي حياة ولا طلبات ولا كيان ولا وجود إلا في يدك”. كان يمكن للتلاميذ أن يعيشوا حياتهم كبقية الناس، لكنهم اختاروا أن يطوفوا العالم معتازين مكروبين مُذلين وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم. في سر البركة، التلاميذ الإثني عشر مع السبعين رسولاً ، اشبعوا العالم كله وأغرقوا العالم خيراً وغنى، حتى أتموا رسالتهم وأوصلوا المسيح لكل نفس. واليوم مع أن أعداد المسيحيين في العالم أصبحت بالمليارات، إلا أنهم ليسوا فعالين لأن كل منهم يهتم فيما لنفسه لا توجد العينة التي توضع في يد المسيح ليكسرها ويوزعها كل واحد يعيش لنفسه ويبحث عن راحته ومصلحته هل يوجد من يريد أن يكون خبزة مكسورة تُشبع الآخرين ! إعلم أن منبع الكسر هو المسيح ذاته، لأنه في يوم الخميس الكبير، أخذ خبزاً على يديه وكسر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور عن حياة العالم فالسر كله في أن المسيح بذل نفسه لأجلنا. ومفهوم الكسر يعني بذل الذات، فلا يعيش الإنسان لنفسه فيما بعد. كسر الخبز منهج، من يتبعه يخرج خارج حدود ذاته ويعيش من أجل رسالة وهدف لمنفعة آخرين. يقول الرسول: “لأنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نعيش وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ. لما بعث القديس بولس الرسول برسالته إلى أهل كورنثوس قال لهم: “أَنْتُمْ مُكَرَّمُونَ وَأَمَّا نَحْنُ فَبِلا كَرَامَةٍ!” كان فيما مضى يهتم فيما لنفسه وذاته ولذاته ورغباته ومسراته وراحته ومصلحته وملكيته لكنه تحول ليعيش بمنهج المسيح الذي كسر الخبزات وأشبع بها، وقرر ألا يعيش لذاته ومصلحته فيما بعد في هذا التصرف الإيماني يخرج الإنسان فوق المكان وفوق الزمان.

 مع المسيح لا يوجد يأس مطلقاً أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ مَنْ آمَنَ بي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا (يو١١: ٢٥)

في يأس قال التلاميذ للمسيح: “الْمَوْضِعُ قَفْر وَالْوَقْتُ قَدْ مَضَى اصْرِفِ الْجُمُوعَ”. كيف يكون الموضع الذي يوجد به المسيح قفراً! المسيح يقول: “مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ”. مع المسيح لا يوجد يأس مطلقاً مرثا أخت لعازر ظنت أن الوقت مضى وفات أوان المعجزة، لأن لعازر مات. فقالت: “يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي”، قَالَ لَهَا يَسُوعُ: سَيَقُومُ أَخُوكِ”لم تدرك مرثا أن المسيح موجود، لذلك قالت له “لَوْ كُنْتَ هَهُنَا”. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: “أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بى وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا”.مع المسيح لا يوجد يأس أبداً ولا يوجد قفر على الإطلاق. لا تقل الوقت مضي أبداً، بل قل المسيح في حياتي. وقل مع بطرس الرسول “جيد رب أن نكون ههنا”. الآباء القديسون لما عاشوا مع المسيح في الجبال والقفار ، حولوها إلى سماء بالصلوات الدائمة والتسبيح بلا انقطاع. وكانت الأديرة في تلك الآونة قفراً بكل معنى الكلمة، لا تشبه الأديرة الحالية التي أصبحت تتمتع ببعض عوامل الرفاهية. وكانت قوافل التجارة تسافر في صحراء مصر ليلاً، يسلكون درب الأربعين في الجبال والرمال. وهو طريق للقوافل تقطعه في أربعين يوماً. فكان الليل بالنسبة لهذه القوافل ونساً في الصحراء القاسية، إذ كانت تُسمع أصوات التسبيح على طول الطريق حتى مطلع النهار. سكن المتوحدون في الجبال بلا خوف، فمع المسيح لا يوجد موضع قفر. والوقت مع المسيح لن يمضي أبداً لأنه لا وجود للزمن الزمن بالنسبة للإنسان يحمل المخاوف، لأن اليوم إن بدا على ما يرام، فالغد قد لا يكون كذلك. اليوم في صحة غداً في مرض اليوم شاب قوي غداً شيخ متهالك. اليوم في عز الغني، غداً فقر مدقع. الزمن مخيف جداً لكن مع المسيح لا يوجد زمن. يقول سفر الأمثال عن الكنيسة وعن النفس التي ارتبطت بالمسيح أنها تضحك على الزمن الآتي. أكثر ما يخيف الإنسان هو المستقبل وما تُخبئه الأيام. لكن أولاد الله الذين ارتبطوا بالمسيح لا يخشون المستقبل وتقلبات الزمن، لأن الثقة الداخلية بالمسيح في القلب تغلب الزمن الزمن بالنسبة لي كابن الله في يد المسيح. والمسيح قال: “لا تهتموا للغد”. أبي السماوي يهتم ويعلم ما أحتاج إليه وما يأتي به الغد ويدبره لي. ما الذي يخفيه لي أبي في المستقبل؟ قولوا للصديق خير. “فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلَادَكُمْ عَطَايَا جَيْدَةً فَكَمْ بِالْحَرِي أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ”.

الاعتزال عن العالم وتقديس النفس لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةٌ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ (٢كو٦ : ١٤)

في حياة الناس مخاوف كثيرة بسبب وبغير سبب، لكن أولاد الله في منتهى الثبات. لأنه في الأيام الأخيرة كما وصفها سفر الرؤيا، تأتي الضربات شديدة على الفجار وعالم الخطايا. أما أولاد الله فهم محفوظين لأن الله منذ البدء قال لهم تقدسوا . اخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا ، يَقُولُ الرَّبُّ. وَلا تَمَسُّوا نَجِساً فَأَقْبَلَكُمْ”. فما معنى التقديس؟ كيف نعتزل ونخرج من وسطهم؟ هل نذهب إلى بلد آخر ؟ الخروج ليس خروجاً من مكان. والاعتزال لا يعني خصام الناس فالاعتزال ليس اعتزالاً مكانياً، لكنه كياني وقلبي. لا للخلطة مع روح العالم، روح الشر، روح الخبث روح الزنا، روح الكذب، روح النجاسة. هذه الأرواح لا خلطة لي بها. أنا معتزل عنها تماماً. أعيش في العالم لكني معتزل بنفسي فكرياً وقلبياً عن كل ما هو نجس. هو الاعتزال والتقديس. لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ  ِللْبِرّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتَّفَاقِ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟ نعيش وسط العالم نأكل ونشرب ونعمل، لكن قلبياً وإيمانياً لا نمس كل ما هو نجس فالضربات والويلات شديدة الوطأة جداً، تأتي على عالم الفجار. أما أولاد الله فلا تقترب إليهم. حتى لو أصيب الإنسان جسدياً، فهو لا يُمس داخلياً. هذا المسيح رفعنا خارج حدود المكان وحررنا من قيود ووطأة ومخاوف الزمان التصقنا بالمسيح وصار علينا علامة الدم التي قيل عنها في القديم: “وَيَكُونُ لَكُمُ الدَّمُ عَلامَةً. فَأرَى الدَّمَ وَاعْبُرُ عَنْكُمْ فَلَا يَكُونُ عَلَيْكُمْ ضَرْبَةٌ لِلْهَلَاكِ”. عندما جاء الهلاك على أرض مصر ونزلت الضربات، كان هناك أناساً متقدسين محسوبين الله، لم يمسسهم سوء لأن الملاك المهلك كان يعبر عندما يرى الدم، علامة الخلاص الأبدي على المختومين بختم الله الحي وحزقيال النبي لما تكاثرت الخطايا في أورشليم، دعاه الرب وأراه ستة رجال ومعهم  ملاكاً وَقَالَ لَهُ: “اعْبُرْ فِي وَسَطِ الْمَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ، وَسِمْ سِمَةً عَلَى جِبَاهِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَئِنُّونَ وَيَتَنَهَّدُونَ عَلَى كُلِ الرَّجَاسَاتِ الْمَصْنُوعَةِ فِي وَسَطِهَا”. وَقَالَ لأُولَئِكَ الستة فِي سَمْعِهِ: “اعْبُرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَرَاءَهُ وَاضْرِبُوا لَا تُشْفِقْ أَعْيُنُكُمْ وَلَا تَعْفُوا الشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطَّفْلَ وَالنِّسَاءَ اقْتُلُوا لِلْهَلَاكِ. وَلَا تَقْرُبُوا مِنْ إِنْسَانِ عَلَيْهِ السِّمَةُ”. لذلك فإن ارتباطي بالمسيح رفعني فوق الزمن، ورفع مكاني ومقداري فوق التراب والأرض والمحدودية. ولربنا المجد دائماً أبدياً آمين.

المرجع : كتاب الينبوع للمتنيح القمص لوقا سيداروس ( صفحة ٢٢٦، ٢٢٧، ٢٢٨، ٢٢٩ )

 

 

المتنيح القمص لوقا سيداروس

البركة من إنجيل معلمنا مارمرقس الرسول (مر٦: ٣٠ – ٤٠) بركاته علينا آمين

سر البركة أن توضع المادة في يد إنسان متقدس الْقَلِيلُ في يَدْ الصِّدِّيقِ خَيْرٌ مِنْ ثَرْوَةِ أَشْرَارٍ كَثِيرِينَ (مز ١٦:٣٧)

البركة هي أن يصير القليل كثيراً بعمل إلهي، ولا يجوز معها كثرة الأسئلة، لأن البركة سر. والمزمور يقول: “البركات يعطيها واضع الناموس”. وأيضاً يقول: “الْقَلِيلُ في يَدْ الصَّدِّيقِ خَيْرٌ مِنْ ثَرْوَةِ أَشْرَارٍ كَثِيرِينَ”. فالإنسان المقدس الذي لا يملك سوى القليل أفضل ممن يعيش في الشر ويملك ثروة كبيرة. الأموال والمقتنيات والطعام والشراب مواد جامدة لا تتحرك ولا تفعل خيراً أو شراً، لكنها تخضع لليد التي تمسك بها وتتصرف فيها. أرغفة الشعير الخمسة مثلاً لم تكن تكفي لإطعام الجموع. هذه الخبزات الضعيفة الصغيرة، لم يكن لها قيمة في ذاتها. لكن حين وُضِعَتْ في يد المسيح، حازت على نعمة فائقة. أصبح للخبزات قيمة عظيمة وتوزعت وأشبعت وصار لها دوراً كبيراً جداً. فالمادة في حد ذاتها لا قيمة لها، لكنها تستمد قيمتها من صاحبها وتتقدس عندما يمتلكها قديس. كانت الأموال تدفق على الأنبا أبرام أسقف الفيوم من كل مكان ، حتى أنهم فتحوا له مكتباً خاصاً للبريد في الفيوم لتلقي الرسائل والحوالات البريدية والأموال التي ترد إليه النقود التي كانت تصل إلى يده كانت نقوداً عادية. لكنها عندما وضعت في يده، نالت نعمة وبركة وعملت عملاً كبيراً جداً. نفس الأموال إذا وضعت في يد إنسان آخر، قد تصبح سبيلاً للشر. فكل ما يُعمل من شرور في العالم اليوم من نجاسات وقمار ومخدرات وتجارة سلاح، تُعمل من أجل المال. فالأموال إذا وصلت إلى أيدي جماعة غير متقدسين، تصبح سبباً للفساد والخراب والهلاك. إذاً النقطة الأولى تتلخص في أن المادة إذا وقعت في يد إنسان شرير تصير مُهْلِكَة، وإذا دخلت في يد إنسان مُتقدس تتقدس.

العبرة ليست بالكثرة بَرَكَةُ الرَّبِّ هِيَ تُغْنِي وَلا يَزِيدُ الرَّبُّ مَعَهَا تَعَباً. (أم ۲۲:۱۰)

النقطة الثانية هي أن العبرة ليست بالكثرة. قد يظن الإنسان أنه إذا جمع أموالاً وفيرة وحاز ممتلكات كثيرة، يصبح من الأثرياء ومتى أصبح ثرياً، تنتفخ ذاته ويصبح له مكانة كبيرة في المجتمع. لكن العبرة ليست بالكثرة، وإنما العبرة في البركة. فإذا وضع الإنسان في ذهنه أن يجمع المال، يدخل الشيطان ويضع إصبعه، فيجمع الإنسان إلى كيس مثقوب. وقد تنحرف الإرادة، فيبحث عن المال بشتى الطرق، بحق أو بغير حق. ضع في ذهنك أن العبرة ليست بالكثرة، لأن الخمس خبزات الصغيرة، أصبحت بركة كبيرة في المسيح. وكل شيء يتقدس بكلمة الله والصلاة. نحن مقدسون للمسيح، ومدعوين للتقديس. فنحن أعضاء في جسد المسيح، نتناول جسده ودمه الأقدسين واتحادنا بالمسيح يجعلنا نبارك كل شيء. لذلك كل شيء يقع بين يديك، يتقدس ويتبارك كل ما في بيتك مقدس ومبروك، لأن وسيلة الحصول عليه مقدسة. أنت في حياتك متقدس، وكل ما يصل إلى يدك يتقدس. كل شيء يتقدس في حياة أولاد الله الملابس تُباع وتشترى من المتاجر، لكن متى ارتداها أحد القديسين، تتقدس. أتظن أن ثياب المسيح كانت مصنوعة من قماش نازل من السماء، لذلك كان الجموع يتزاحمون ليلمسوا ولو طرف هدب ثوبه آباؤنا القديسون كانوا يرتدون ثياباً عادية، لكنها تقدست عندما ارتدوها . لذلك فإن قطعة صغيرة من ثوب الأنبا أبرام ثمينة جداً، لأنها انتسبت لأحد القديسين ولامست جسده المقدس. الحياة هي التي تُقدس المادة. إذا كنت مقدساً ، تُقدس ما بين يديك وتقدس المادة التي تستعملها. وإذا انحرف الإنسان، يصبح عبداً للمادة والأموال والمقتنيات والشهوات القديسون استخدموا المادة وهم ملتصقين بالله، فصارت المادة في حالة من التجلي. لذلك لما وقف المسيح على جبل التجلي، صارت ثيابه بيضاء كالنور. وعندما أمسك الخمس أرغفة بيديه الطاهرتين، وبارك وشكر وكسر، لم تعد الأرغفة عادية، بل أصبح فيها سر عجیب و صارت تزيد وتنمو وتطعم وتشبع. هناك آمن بالبركة وليس الكثرة أمن أن الله قادر أن يضع يده في الحياة، ويلمس الحياة نفسها فيبارك لن يكون بركة دون لمسة الله في الحياة. لذلك يقول الكتاب: بَرَكَةُ الرَّبِّ هِيَ تُغْنِي وَلَا يَزِيدُ الرَّبُّ مَعَهَا تَعَباً”. لأن مع الغني، يوجد تعب. ومع كثرة المال، كثرة الهموم والمخاوف بركة الرب هي تغني. لا تهتم إن كنت تملك القليل أو الكثير ، الأهم هو أن تشعر بيد المسيح معك لذلك

مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخُ. (١ تي ٦: ٩)

النقطة الثالثة مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ” هل تستمد الحياة من الممتلكات؟ هل تستمد حياتك من أموالك؟ لابد أن يفصل ذهن الإنسان بين ما يمتلكه وما يحياه. فحتى لو امتلكت الدنيا بأسرها، فإن ممتلكاتك لا تمنحك الحياة. المادة لا تعطي الحياة. مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ. نحن نستمد الحياة من المسيح وليس مما نمتلكه آباؤنا القديسون عاشوا فقراء جداً، ولكن كانوا مملوئين حياة. حين ينصرف ذهن الإنسان ناحية الملكية، يدخل في متاهات كثيرة جداً. لذلك يقول بولس الرسول في رسالته الأولى إلى تيموثاوس: “وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَحْ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلَاكِ. حين يريد الإنسان أن يستحوذ ويمتلك، يقع في تجربة وفخ. قد يقع في الطمع أو الخصام أو السرقة أو أي من الذنوب والعادات الرديئة التي تُغرق النفس في الهلاك الذين يريدون أن يكونوا أغنياء في هذا الدهر ، تنكسر بهم السفينة. لذلك لا تقل: “أنا أريد أن أكون غنياً ، بل قل: “أريد فقط أن أشعر بيد المسيح في حياتي”. هذا هو الغنى الحقيقي.

قدم نفسك خبزاً مكسوراً أَخَذَ يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ وَوَزَّعَ عَلَى التَّلَامِيذِ وَالتَّلَامِيذُ أَعْطَوُا الْمُتَّكِئِينَ. (يو ٦: ١١)

النقطة الرابعة أن الخبزات التي أمسك بها المسيح كسرها. وإلا كيف كان يمكن توزيعها! المسيح له المجد أمسك الخبزات وشكر وبارك وكسر ووزع هذه النقطة ضد الأنانية. لأن الثروة والملكية تجعلان الإنسان يتحوصل حول ذاته فقط، فيجمع لنفسه ويدور حول نفسه ويريد ما لنفسه ومصلحته فقط وأولاً مهما كان الأمر. المسيح كسر ووزع. هذا العمل ضد الذات. أترضى أن تُكْسَر وتُوَزَع؟ أترضي أن تبذل نفسك وتعطي ذاتك لآخر ؟ هذه هي البركة. فإن كان الإنسان يعيش لِذَاته ومسراته ولَذَّاتِه وراحة نفسه فقط، يكون خُبزة صحيحة. لكن لما يبدأ يتذوق المسيح ويضع حياته في يد المسيح، يُكْسَر ويصير بَرَكَة. أن يُكْسَر الإنسان ويُوزَع، عملية صعبة بكل تأكيد لكنها لذيذة. فجيد ومرضي أمام الله أن يحيا الإنسان لآخرين. ماذا يجني الإنسان إن كان يحيا لذاته؟ سر الفرح في الكسر والتوزيع وإسعاد وإشباع الكثيرين. حين يعيش الإنسان لآخرين ويبذل نفسه ويَكْسِر الأنا الخاصة به، يوزع وينتشر ويكون سبب فرح للآخرين. سر الفرح في الحياة المسيحية هو الصليب علي الصليب بذل المسيح ذاته وكسر نفسه لأجل آخرين. لذلك نحن نتناول المسيح خبزاً مكسوراً. صدقني، كلما يُشفق الإنسان على نفسه من الكسر، كلما يكون بعيداً عن حياة الفرح وفي اليوم الذي فيه يكسر الإنسان ذاته ويفرط فيها، يختبر ويتذوق طعم الفرح.

 المسيح له المجد في يمينه شبع سرور

تُعَرِّفُنِي سَبِيلَ الْحَيَاةِ. أَمَامَكَ شِبَعُ سُرُورٍ فِي يَمِينِكَ نِعَمٌ إِلَى الأَبَدِ. (مز ١١:١٦) النقطة الخامسة أن المسيح له المجد في يمينه شبع سرور. لما سأل يسوع فيلبس “مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزَاً لِيَأْكُلَ هَؤُلَاءِ؟”، أَجَابَهُ فِيلُبُسُ: “لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزَ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً.” أي قليل من الطعام أو تصبيرة”. لكن حاشا أن يكون عند المسيح تصبيرة. عند البشر، كل شيء يكون بقدر وحساب. أما المسيح فعنده غنى وافر ، وهو لا يعطي بحساب. لذلك أكلوا جميعهم وشبعوا. أتعتقد أنك تدخل عند المسيح في الكنيسة، وتتناول شيئاً يسيراً ! لا يصح ! أنا أدخل إلي الكنيسة، وأشبع حتى الامتلاء. عند المسيح، أشبع حتى يفضل عني الخبز. الإبن الضال وهو في الكورة ،البعيدة، كان يشتهي أن يأكل الخرنوب أكل الخنازير الذي يمثل طعام العالم. وعندما عاد لنفسه ، قال “كم” من أجير عند أبي يفضل عنه الخبز”. إفهم تماماً أن المسيح يعطي للشبع. وجودك وسط الخمسة آلاف هو وجودك في الكنيسة والمسيح قائم في وسطها يُشبع ويعطي بيده إياك أن تخرج من الكنيسة جائعاً. ما دمت ضيفاً على المسيح وهو يكسر ويوزع بيده، يعطيك لتأكل فتخرج من الكنيسة شبعان جداً من ناحية الفرح ومن ناحية التعزية ومن ناحية السلام ومن ناحية هدوء النفس هل يكون هذا حالك عندما تخرج من الكنيسة؟ أتعجب صدقوني لإنسان يخرج من الكنيسة غضبان، مُتعب، مُثقل النفس يتشاجر بمجرد خروجه. مثل هذا المسكين لم يأخذ ولم يأكل ولم يشبع إذا كان الإنسان وسط الخمسة آلاف والمسيح بيده يكسر الخبزات ويعطي، سيشبع من كل جهة. أكلوا جميعهم وشبعوا ” . يخرج الإنسان من الكنيسة شبعان جداً، فرحان جداً، مكتفي جداً، لا يُعوزه شيء لأنه أخذ طبعاً الشبع ليس تمثيلية يقنع بها الإنسان نفسه، بل هو طعام حقيقي. نحن نتناول المسيح الذي قال: جسدي” مأكل “حق”. أنت تأكل الحق وليس خيالاً، تأكل وتشبع وتخرج نفسك شبعانة تستطيع أن تدوس العسل ولربنا المجد الدائم إلى الأبد آمين.

المرجع كتاب الينبوع للمتنيح القمص لوقا سيداروس صفحة ٥٠- ٥٣

 

 الخروج وراء المسيح

إنجيل القداس من بشارة معلمنا مار مرقس البشير (مر٨ : ١- ٩) بركاته علينا آمين.

اترك كل شيء واتبع المسيح إذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أبيكَ إلَى الأَرْضِ الَّتِي أريك (تك۱۲ : ۱)

جمع غفير من الرجال والنساء والأطفال خرجوا وراء المسيح وظلوا كما يقول الإنجيل ثلاثة أيام صائمين بلا طعام أو شراب. فقد كان الموضع الذي يتسع لخمسة آلاف رجل ومثلهم من النساء والأطفال قفراً يبعد عن المدينة والضوضاء والأشغال تركوا كل شئ وخرجوا وراءه ونسوا أمر الطعام، إذ كانت قلوبهم متجهة نحو المسيح بإخلاص. وهذه علامة يمكن للإنسان أن يميزها في نفسه. إن كان يتبع المسيح ولا يزال متمسك بتوافه أو عظائم الأمور التي تخص الأرض، فهذه لا تُعد تبعية. التبعية التلقائية التي رأيناها في نواة الكنيسة، الجموع الأولى الذين خرجوا وراء المسيح بإخلاص دون أن ا حساب شيء فتركوا البيوت والأشغال والاهتمامات. المضبوطة هي يحسبو راجع الإنجيل من بداية سفر التكوين، تجد أن بداية الحركة الروحية هي أن يترك الإنسان من قلبه كل شيء ويتبع المسيح دون أن يحسب حساب شيء أو يعول الهم أو يخاف على شيء مما في العالم كله. بهذا المفهوم العميق خرج وراء المسيح أناس بسطاء جداً من الفلاحين والصيادين الفقراء. كان هذا الخروج يضاهي خروج أبونا إبراهيم أبو الآباء حين قال له الرب: إذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أريكَ”. فترك كل شئ. كذلك حينما دعا يسوع متى الرسول وقَالَ لَهُ: “اتْبَعْنِي، تَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ. إذا كان قلب الإنسان متعلقاً بأمر من أمور العالم لن يتبع المسيح. تبعية المسيح في الواقع هي اختيار الحرية من رباطات العالم بمجرد أن يجد الإنسان المسيح ويحبه ويتعلق به ويتبعه من قلبه، تنقطع وتنفك القيود والرباطات. ويترك الإنسان كل ما في العالم ليس عن اضطرار، ولكن عن اختيار المسيح قال عن التاجر الذي كان يطلب اللآلئ الحسنة أنه لَمَّا وَجَدَ لُؤْلُؤًةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ الثَّمَنِ، مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَاشْتَرَاهَا. تبعية المسيح على هذا الوجه تكون حركة قلبية داخلية، فيها يترك الإنسان الأب والأم والأخ والصديق ليلتصق بالواحد لذلك لا تتعجب أبداً أن المسيح يقول: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلَا يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلَادَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً فَلا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً”.

كلام المسيح يؤكل مأكلاً حقيقياً للحياة ليس بالخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَل بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِ الرَّبِّ يَحْيَا الإِنْسَانُ. (تث ۳:۸)

لا عجب أن الجموع مكثوا ثلاثة أيام دون تعب أو ملل ولم يصيبهم جوع أو عطش. لأن هذه هي طبيعة كلمة المسيح. كلام المسيح محيي، يستطيع أن يغني الإنسان عن حاجات الجسد والغرائز الطبيعية، مثل غريزة الجوع والرغبة في تناول الطعام الذي بدونه لا تقوم الحياة. والطبيعي أن الناس في أيام المسيح كانوا يتناولون طعاماً في الصباح قبل الذهاب لأعمالهم ووقت الظهيرة وفي المساء. لكنهم نسوا أمر الطعام تماماً، لولا أن المسيح أشفق على الجمع إذ كان لهم ثلاثة أيام يمكثون معه وهم صائمين. وفي سفر التثنية توجد آية يحفظها الجميع عن ظهر قلب تقول: “ليْسَ بِالخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الْإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِ الرَّبِّ يَحْيَا الإِنْسَانُ.” أي أن كلام المسيح وهم أكلوا الكلام الذي سمعوه بآذانهم مأكلاً حقيقياً. نحن نختبر هذا الشبع عندما نعيش بالروح. إذا اندمج الإنسان بالروح في الصلاة، يكف عما للجسد. قد يقف الإنسان ساعة أو ساعتين يصلي، وقد سمعنا عن آباء، منهم من كان يقضي الليل كله واقفاً في الصلاة. بالطبع كانوا بشراً لهم أجساد مثل أجسادنا ، لكنهم كانوا يستمدون نعمة الحياة والوجود والعقل والقوة من معطي الحياة وليس من مصدر مادي. وعرفوا طعم مذاقة سماوية تشدد الجسد. مكث الجموع مع المسيح ثلاثة أيام صائمين دون طعام. لأنه هو نفسه الذي عال بني إسرائيل أربعين عاماً في البرية وأنزل لهم المن النازل من السماء فأكلوه وعاشوا به وهو من قال: “أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ”. لذلك لي شهوة أن أتذوق الإنجيل، أخذ منه وأشبع ولا تعود حاجات الجسد تشغلني.

الإنجيل للحياة، تأخذ منه وتأكل وتشبع. وكلما قُرِئَ الإنجيل في الكنيسة، إعلم أن المتكلم هو المسيح. هذه قاعدة متى دخلت إلى الكنيسة وسمعت الشماس يقول “قفوا” بخوف من الله وانصتوا لسماع الإنجيل المقدس”، إعلم أن المسيح يتكلم بذاته، فيجب أن تكون في كامل انتباهك. لذلك تُحرم قوانين الكنيسة على من يدخل أثناء قراءة الإنجيل أن يتحرك في الكنيسة نحو المقعد ، بل عليه أن يثبت في مطرحه لأن المسيح بذاته يتكلم. والشمعتان المضاءتان على جانبي المنجلية كملاكين يعلنان حضور المسيح المتكلم. فأنت لا تسمع الإنجيل على فم شماس أو كاهن، بل من فم المسيح ذاته. 

المرجع كتاب الينبوع للمتنيح القمص لوقا سيداروس صفحة ٢٢٢، ٢٢٣ 

من وحي قراءات اليوم

جاءت البركة بعد ما مكثت الجموع ثلاثة أيام مع المسيح

جلوسهم ثلاثة أيام لسماع الكلمة يُبكِّت ويسحق أعذارنا وإعتذاراتنا

كلَّمهم ” أولا ” عن ملكوت الله لا تعني وجود ثانيا بل أساساً لما يأتي بعدها

طلبت الجموع غني كلمته فاكتشفوا تسديد كل احتياجاتهم بغني

ما أجمل ما فعله القديس إندراوس إذ لم يستحي من قلة الموجود وأعلنه للرب

وكان في المكان عشب كثير يوضح اهتمام الرب براحة الناس في جلستهم

شكر وبارك وكسر وأعطي هي ما يجب أن نفعله بما نملكه

البركة الإلهية تخطت وفاقت كل عجز مفردات البشر من ( موضع قفر ) ، ( وليس عندنا ) ، ( وما هذا لكل هؤلاء )

تمجيد الناس للرب في عمله يرجع لظهوره وحده في المشهد واختفاء التلاميذ عن أي ظهور

المعجزة تعلن مباركة الرب لإشتياقات شعب ، وإنكار ذات خدام ، ونظام وترتيب

 

 

المراجع

١- العلَّامة أوريجانوس – تفسير إنجيل متي (الإصحاح الرابع عشر ) – القمص تادرس يعقوب ملطي

٢-ترجمة الأخت إيفيت منير – كنيسة مار مرقس ببني سويف

Jr,A.J.& Oden,T.C. (2002). Luke (The Ancient Christian Commentary on Scripture, New Testament III ) Illinois (U.S.A): InterVarsity Press. Pages 150

٣- المرجع : تفسير إنجيل لوقا (الإصحاح التاسع ) – القمص تادرس يعقوب ملطي

٤- المرجع : كتاب تعليقات لامعة علي سفر التكوين للقديس كيرلس عمود الدين صفحة ٢٧٤ – ترجمة دكتور جورج عوض إبراهيم ومراجعة دكتور نصحي عبد الشهيد

٥- المرجع : كتاب مقالات القديس كبريانوس ( صفحة ١١٩ ) – ترجمة الراهب القمص مرقوريوس الأنبا بيشوي

٦- المرجع: مجلة مدرسة الاحد فبراير ٢٠٠٧