” هأنذا أرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي ” (ملا ٣ : ١)
( السلام للكنيسة بيت الملائكة ) ذكصولوجية باكر
” خلال فترة عدم الإيمان يكون الإنسان تحت سيطرة ملائكة الشياطين، أما بعد التجديد (في الجرن) فيعيّن لنا ذاك الذي يخلصنا بدمه ملاكًا مقدسًا ينظر وجه الله بطهارته ، كما يقول: لكل نفس بشرية ملاك يقودها كأخ [1] ”
شواهد القراءات
عشية (مز ١٤٨ : ١ ، ٢) ،(مت ١٣ : ٤٤ – ٥٢) ،
صلاة باكر (مز ١٠٣ : ٣ ، ٤) ،(لو ١٥ :٣ – ١٠) ،
القداس (عب ١ : ١ – ٢ :٤) ،(يه ١ : ١ – ١٣) ،(أع ١٠ : ١ – ٢٠) ،(مز١٠٢ : ١٧) ،(مت ١٣ : ٢٤ – ٤٣)
ملاحظات علي قراءات يوم ١٢ هاتور
+ قراءة البولس اليوم (عب ١: ١ – ٢ : ١ – ٤) جاءت أيضاً في يوم ٢٩ كيهك
وهي القراءة الخاصة بالملائكة وخدمة الخلاص لذلك جاءت في تذكار رئيس الملائكة ميخائيل ( ١٢ هاتور ) وفِي عيد الميلاد المجيد ( ٢٩ كيهك )
القراءة المُحوَّلة على قراءة هذا اليوم
ثاني عشر بؤونه عيد رئيس الملائكة الجليل ميخائيل
شرح القراءات
اليوم هو تذكار رئيس الملائكة ميخائيل ولأنه رئيس السمائيين لذا جعلت الكنيسة هذا اليوم ( ١٢ من كل شهر ) هو تذكار دائم للملائكة وتدور قراءات هذا اليوم علي التعريف بالملائكة وخدمتهم
وتوجد ثلاث قراءات مختلفة للملائكة بصفة عامة
١٢ هاتور تذكار رئيس الملائكة ميخائيل والكلام علي خدمة الملائكة بصفة عامة والتعريف بهم
٢٢ كيهك تذكار رئيس الملائكة غبريال والتركيز علي بشارة الخلاص ومجيء الرب الأوّل وملاك البشارة
٣ نسئ تذكار رئيس الملائكة روفائيل والحديث عن مجيء الرب الثاني ودور الملائكة
لذلك نري في قراءات اليوم الملائكة خدّام التدبير الإلهي علي الأرض فيما يخص خلاص البشر ورجوعهم وتوبتهم وأيضاً في السماء في التسبيح الدائم وفِي نهاية العالم في الدينونة
لذلك تبدأ المزامير بالتعريف بطبيعة الملائكة فهم قوّاته ( مزمور عشية )
وناراً تلتهب ( مزمور باكر )
والعاملين إرادته ( مزمور القداس )
مزمور عشية يشير إلي تسبيح الملائكة الدائم وهي ترنيمة الكنيسة في التسبيحة المقدسة في الهوس الرابع ( سبحوا الرب من السموات سبحوه في الأعالي سبحوه يا جميع ملائكته سبحوه يا جميع قواته )
ومزمور باكر يُشير إلي طبيعة الخدمة الناريّة للملائكة والذين يكونون سحابة سماوية تُظلّل علي البشر (مت ٥:١٧) ( الذي صنع ملائكته أرواحاً وخدّامه ناراً تلتهب الذي جعل مسالكه علي السحاب الماشي علي أجنحة الرياح )
بينما يقدّم لنا مزمور القداس الملائكة مُقْتَدرِين بقوّتهم صانعين قوله وعاملين بإرادته ( باركوا الرب يا جميع ملائكته المقتدرين بقوتهم الصانعين قوله باركوه يا جميع قواته خدّامه العاملين إرادته )
أمّا القراءات فتُشير إلي طبيعتهم ( البولس )
ودينونتهم ( الكاثوليكون )
وخدمتهم ( الإبركسيس )
يأتي البولس من العبرانيين ليوضّح طبيعة الملائكة كأرواح خادمة ( وعن الملائكة يقول الصانع ملائكته أرواحاً وخدّامه لهيب نار … أليس جميعهم أرواحاً خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص … لأنه إن كانت الكلمة التي تكلّم بها ملائكة قد صارت ثابتة وكل تعد ومعصية نال مجازاة بحكم لائق فكيف نخلص نحن إن أهملنا خلاصاً عظيماً )
ويتكلّم الكاثوليكون عن دينونة الملائكة الساقطين ( والملائكة الذين لم يحفظوا رئاستهم بل تَرَكُوا مسكنهم حفظهم إلي دينونة اليوم العظيم بأغلال أزلية تحت الظلمة ) ويكشف أيضاً عن مقاومة رئيس الملائكة ميخائيل لإبليس الساقط من رتبته لأجل حماية الشعب من عبادة البشر (وأما ميخائيل رئيس الملائكة فلما قاوم إبليس وتكلم عن جسد موسي لم يجسر أن يورد حكم افتراء عليه بل قال ليزجرك الرب)
أما الإبركسيس فتظهر فيه خدمة الملائكة لخدمة البشر وخلاصهم ( فرأي ظاهراً في رؤيا نحو الساعة التاسعة من النهار ملاك الله قد دخل إليه وقال له يا كرنيليوس أما هو فلما شخص إليه وصار في خوف قال ماذا يا سيد فقال له صلواتك وصدقاتك صعدت تذكاراً أمام الله والآن أرسل إلي يافا رجالاً واستدعي سمعان الملقّب بطرس أنه نازل عند واحد يُدعي سمعان الدباغ الذي بيته عند البحر هذا إذا جاء يُكلّمك كلاماً تخلص به أنت وكل بيتك )
وتكشف الأناجيل عن ردّ فعل الملائكة تجاه توبة البشر ( إنجيل باكر )
ووقت دينونتهم ( إنجيل عشية والقدّاس )
فهم يفرحون بخاطئ واحد يتوب ” إنجيل باكر ”
( هكذا أقول لكم انه يكون فرح قدّام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب )
وهم يفرزون الأشرار من بين الأبرار ” إنجيل عشية “( فجمعوا الجياد في الأوعية وأما الردي فرموه خارجاً وهكذا سيكون في نهاية هذا الدهر تخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأخيار ويقذفونهم في أتون النار )
وهم الحصادون وقت الدينونة في نهاية العالم ” إنجيل القداس “ ( أما هو فأجاب وقال لهم الزارع الزرع الجيد هو ابن البشر والحقل هو العالم والزرع الجيد هو بنو الملكوت والزوان هم بنو الشرير والعدو الذي زرعه هو إبليس والحصاد هو انقضاء هذا الدهر والحصادون هم الملائكة فكما يُجمع الزوان أولاً ويُحرق بالنار هكذا يكون في انقضاء هذا العالم يُرسل ابن البشر ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم ويطرحونهم في أتون النار حيث هناك يكون البكاء وصرير الأسنان حينئذ يضئ الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم )
ملخّص القراءات
الملائكة هم قوات سمائية ونهاراً تلتهب ومُقتدرين بقوتهم مزمور عشيّة وباكر والقدّاس
ويمكن أن تكون أرواحاً خادمة للخلاص أو أرواحاً تحت الدينونة لسقوطهم البولس والكاثوليكون والإبركسيس
والملائكة الأطهار هم الفرحين بتوبة البشر والذين يفرزونهم عن الأشرار وهم الحصادون في نهاية العالم إنجيل عشيّة وباكر والقدّاس
أفكار مُقترحة للعظات
(١) طبيعة الملائكة
١- قوات سمائية
” سبحوه يا جميع ملائكته سبحوه يا جميع قواته ” مزمور عشيَّة
٢- ناراً تلتهب
” الذي صنع ملائكته أرواحاً وخدّامه ناراً تلتهب ” مزمور باكر – البولس
٣- مُقتدرين
” باركو الرب يا جميع ملائكته المقتدرين بقوتهم ” مزمور القدَّاس
٤- عاملين إرادته
” باركوه يا جميع قواته خدّامه العاملين إرادته ” مزمور القدَّاس
(٢) خدمة الملائكة
١- خدَّام الدينونة
” وهكذا سيكون في نهاية هذا الدهر تخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأخيار ويقذفونهم في أتون النار ”
إنجيل عشيَّة والقدّاس
٢- خدَّام التوبة
” هكذا أقول لكم انه يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب ” إنجيل باكر
٣- خدَّام العتيدين أن يرثوا الخلاص
” أليس جميعهم أرواحاً خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص ” البولس
٤- خدَّام الحماية من قوات الظلمة
” وأما ميخائيل رئيس الملائكة فلما قاوم إبليس وتكلَّم عن جسد موسي لم يجسر أن يُورد حُكم افتراء عليه بل قال ليزجرك الرب الكاثوليكون
٥- خدَّام افتقاد الله للشعوب
” فرأي ظاهراً في رؤيا نحو الساعة التاسعة من النهار ملاك الله ” الإبركسيس
(٣) أمثال الملكوت
١- الكنز
الكنز هو ربنا يسوع المسيح له كل المجد والحقل هو الإناء الخزفي (كياننا الإنساني) (٢كو ٤ : ٧)
٢- اللؤلؤة
الفرق بين الكنز واللؤلؤ هو أن الكنز مُختبئ في كياننا وأعماقنا ونحتاج أن ننبش آبارنا ليخرج الماء الحي (تك ١٨:٢٦) أما اللؤلؤة فهي التي نبيع كل شيء في حياتنا لأجل أن نقتنيها (في ٣: ٩،٨)
٣- الشبكة المطروحة في البحر
هي الكنيسة التي يأتي إليها ويجتمع فيه الأبرار والأشرار لكن وقت الحصاد يفرزونهم الملائكة
٤- الخروف الضال
مثل يُعْلِن قيمة كل نفس في عين الراعي وفِي عين السمائيين
٥- الزوان
أحياناً يأخذ الزوان شكل الحنطة لكنه ينكشف وقت الحصاد
٦- حبة خردل
قيمة تأثير النفوس البسيطة في العالم
٧- خميرة
محبِّة الله من كل القلب هي الخميرة التي تُعْطي قيمة ومعني لكل العجين
عظات آبائية
البابا غريغوريوس الكبير
من هم الذين يُدعون بني الله إلا الملائكة المختارون؟ وكما نعرف عنهم أنهم يتطلعون إلى عيني عظمته. يليق بنا أن نتساءل: من أين جاءوا ليمثلوا أمام الله؟ فقد قيل عنهم بصوت الحق: “إن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات” (مت ١٨: ١٠). ويقول عنهم النبي: “ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف قدامه” (دا ٧ : ١٠).
فإن كانوا دائمًا ينظرون ويقفون بجواره، يلزمنا بحرص وتدقيق أن نراعي من أين جاءوا، فإنهم لا يفارقونه قط، لكن إذ يقول عنهم بولس: “أليس جميعهم أرواحًا خادمة مُرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص؟” (عب ١ : ١٤) ، من هذا نتعلم أنهم مُرسلون ونكتشف من أين جاءوا…
إنهم لا يذهبون بطريقة يُحرمون فيها من رؤية الله، فتُنزع عنهم أفراح التأمل الداخلي، فلو أن بإرسالهم يفقدون رؤية خالقهم لا يقدرون أن يُقيموا الساقطين، ولا أن يعلنوا للذين في الجهالة عن الحق، وما كانوا يستطيعون قط أن يقدموا للعميان ما حُرموا به بتركهم مصدر النور.
تختلف طبيعة الملائكة عن حال طبيعتنا الحاضرة، حيث نحن مقيدون بالمكان ومحدودون بعمى الجهالة، أما أرواح الملائكة فمع كونها محدودة بمكانٍ، لكن معرفتهم ترتفع عنا جدًا، دون وجه للمقارنة، لهم معرفة ممتدة خارجيًا وداخليًا، إذ يتأملون ذات مصدر المعرفة نفسه…
وكما أن أرواحهم ذاتها إن قورنت بأجسادنا فهم أرواح، هكذا إن قورنوا بالروح السامي غير المدرك يُحسبون جسدًا. لذلك فهم مُرسلون منه، وواقفون أمامه أيضًا، إذ في هذا هم مقيدون أن يُرسلوا، وفي نفس الوقت حاضرون بالكامل لن يفارقوه.
هكذا في نفس الوقت يرون وجه الآب دائمًا، ومع هذا يأتون إلينا، حيث يُرسلون خلال سمة التأمل الداخلي. يمكن إذن أن يُقال: “جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب”، إذ يرجعون إلى هناك بعودة الروح، إلى حيث لم يفارقوه قط بعدم انسحاب العقل عنه [2].
مديح لرئيس الملائكة ميخائيل وضعه أنبا مكاريوس أسقف إتكو (ألقاها في كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل يوم ١٢ هاتور)
١)مبارك هو الله، أبو ربنا يسوع المسيح، ومبارك هو الأبن الوحيد الجنس، والروح القدس المجئ، ثالوث في وحدانية ووحدانية في ثالوث ، الآب والأبن والروح القدس ، لأنه جعلنا – أنا المسكين – اليوم أيضاً مستحقين أن نمتلئ من البهجة والمسرة اللتين صارتا اليوم في السماء .
(٢) ليس السمائيون فقط هم الذين يفرحون اليوم ، بل الأرضيون أيضاً . لقد امتلأوا مسرة من أجل رئيس الملائكة ميخائيل فالسمائيون يفرحون في كل وقت لكونهم كائنين في نور ربنا وإلهنا ورائحته العطرة يخدمونه نهاراً وليلاً.
(٣) ولكنهم بالحرى قد ابتهجوا اليوم بالأكثر لأنهم طردوا من وسطهم إبليس المشتكى، والمجترئ ، والمقاوم لهم ، ونصب ميخائيل الرحوم مكانة ، الذى يشفع في كل أحد أمام الله .
(٤) أي لسان بشرى سوف يخبر بمجد وكرامة ميخائيل ، رئيس الملائكة ميخائيل العظيم هذا ؟ من من كل الكائنين في الخدمات الروحانية التي للسماء ، وكل الذين صارو مع الأبرار الذين على الأرض ، له دالة أمام الله مثل ميخائيل ، رئيس الملائكة العظيم ، ورئيس جند أبى ربنا يسوع المسع .
( ٥) لأنه هو الواقف أمام الله ، يتضرع في جنس البشر كافة . لأن ميخائيل لا يختص بمدينة أو قرية بعينها ، ولا يتضرع فقط من أجل مدينة بذاتها مع مقاطعتها ، إنما رحمته قد وسعت الأرض قاطبة . لأنه كما أن الشمس ، وهى خادمة يغطى نورها كل المسكونة بأمر الله ، هكذا أيضاً ميخائيل هو عظيم وشفيع في كل البشرية . لأنه لأجل هذا العمل قد أقامه الله ليتضرع ويترأس على كل الرتب التي في السموات .
( ٦) لأنه إذا ظهر شهيد ، أو معترف ، أو أي قديس من القديسين الذين على الأرض فمجده ومعجزاته ، التي يمنحها الله له جزاء أتعابه ، تشمل بالكاد أهل قريته وحدها وسكان منطقته ، وينال خطوه من أولئك الذين يأتون إلى رفاته وحدهم ، حتى لو كان تذكاره قد ساد وملأ كل الكورة ، فمعجزاته محددة لهذا الغرض فحسب .
(٧) أما رئيس الملائكة العظيم ميخائيل ، فليست دالته هكذا من أجل كورة بعينها ومدن ومناطق وقرى ( محددة)، لكن تحنناته تشمل كل العالم ، متضرعاً لأجلهم . لأن الشهيد يعنى بمكان واحد ، أما رئيس الملائكة ميخائيل فشأنه بكل الناس دفعة واحده.
(٨) لأن ميخائيل من الأزل هو الذى يخدم كل القديسين بأمر الله . مخلصاً إياهم من كل عذاباتهم ، إلى أن يصعد بهم إلى السماوات . ولم يذهب أي من الصديقين جميعاً إلى السماوات بدون خدمة وطلبات رئيس الملائكة ميخائيل .
(٩) لأنه يسير مع البطاركة ويرافق الأنبياء ، ويمد يد العون للملوك الأبرار ، ويوجه القضاة ، وينجى الشهداء . هو الذى خدم أباءنا الرسل حتى أكملوا الكرازة بالرب . هو الذى يتضرع من أجل كل الذين في الحبس . هو الذى يخدم آباءنا القديسين رؤساء الأساقفة ، منجياً إياهم من كل التجارب التي حدثت لهم من أجل الإيمان المستقيم بالمسيح .
وهو أيضاً يرافق المسافرين في البحر وينجيهم من كل خطر ، ويرشد كل المسافرين في الأنهار والبحيرات ، هو أيضاً يرافق الضالين في كل الكور ، ويتضرع من أجل كل الذين في النفي حتى يوصلهم إلى كنائسهم المقدسة .
كذلك السكان في البراري ، وشقوق الأرض ، وفى الصخور يخدمهم جميعهم في جهادهم ، ويجمعهم بين يديه المقدستين ، ويتشفع عن المرضى بكل مرض حتى ينالوا الشفاء وبتضرعاته يقضي حاجات الذين يطلبونه من أجل الثمار وكل الأمور الجسدية . إذ أتاه الذين يتلفظون ( يعترفون ) بالخطايا ، باكين أمامه ، ركع هو أمام الله من أجلهم حتى ينالوا عتقهم وغفرناً لخطاياهم . وبالجملة . إذا طلبه أي شخص في أي مكان ، قبل طلباته ، وتضرع إلى الله من أجله فيغفر له .
( ١٠) ها قد علمتم الأن يا أبنائي المجتمعين اليوم في هذا المكان ، أنها ليست بقليلة هي الفرحة التي عمت اليوم كل العالم باسم رئيس الملائكة ميخائيل ، رئيس جند القوات السمائية . وها بعد أن عرفنا أن لنا هذا الرئيس العظيم الرحوم . الذى يشفع فينا أمام الرب الملك المسيح ، فلناتئ إليه والعطايا في أيدينا ونقدمها له بكرامة ، ونحن لابسون رداءً ناصعاً مقدساً .
( ١١) وماذا تكون تلك العطايا التي نقدمها له ؟ إنها الرحمة على المساكين ، صوماً وزيجة طاهرة ، وخبزاً يقدم للجائع ، وراءً للعريان ، محبة متبادلة بيننا في اشتياق روحي ، وبقية الفضائل الأخرى[3] .
القديس يوحنا ذهبي الفم
خدمة الملائكة في فكر القديس يوحنا ذهبي الفم من خلال شرحه للآية ( عب ١ :١٤)
“اليس جميعهم اروحاً خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين ان يرثوا الخلاص”(عب١٤:١).
ما هو العجيب في إن الملائكة يخدمون الابن في اللحظة التي فيها يخدمون لأجل خلاصنا؟ لاحظ كيف يسمو بأفكارهم ويظهر الكرامة العظيمة التي يمنحها الله لنا ، من حيث انه قد عين الملائكة ، الذين هم اعلي منا، ليخدموا من اجل منفعتنا. كما يمكن للمرء ان يقول إن الله يستخدمهم في هذا (اي في خدمك العتيدين ان يرثوا الخلاص) ، هذه هي خدمة الملائكة ، ان يخدموا الله ، من اجل خلاصنا، إن عمل الملائكة ، يقوم علي فعل كل شيء من اجل خلاص الأخوة ، او من الأفضل القول، بان هذا هو عمل المسيح لان المسيح كسيد يخلص، بينما هؤلاء (الملائكة) ، عبيد . ونحن عبيد، وشركاء في العبودية مع الملائكة. وكما يقول ، لماذا تنظرون بفم مفتوح(أي بدهشة) إلي الملائكة ؟
فهم عبيد لابن الله، وهو كثيراً ما يرسلهم لأجلنا ، ويخدمون من اجل خلاصنا، حتي انهم يعتبرون بمثابة عبيد لنا. فكروا كيف أنه لا يقيم فروقًا كبيرة بين المخلوقات. فبرغم أن المسافة بين الملائكة والبشر كبيرة. إلا انه ينزلهم بالقرب منا، كما لو يقول انهم يتعبون من أجلنا، ويسعوا لأجل فائدتنا، انهم يخدموننا نحن، كما يمكن للمرء ان يقول هذه هي خدمتهم، ان يرسلوا في كل مكان لخدمتنا.
والعهد القديم والجديد أيضا مليء بهذه الأمثلة. فكيف لا يخدموننا إذا كانوا قد حملوا البشارة المفرحة للرعاة ولمريم وليوسف، وإذا كانوا قد جلسوا في القبر وارسلوا لكي يقولوا للتلاميذ *أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون الي السماء*، وإذا كانوا أخرجوا بطرس من السجن، وتكلموا مع فيلبس، فكيف لا يخدموننا؟ فكر إذًا في مقدار الكرامة عندما يرسل الله الملائكة كخدام لأجل الاحباء، وعندما يظهر ملاك لكرنيليوس، وعندما يخرج ملاك، كل الرسل من السجن ويقول* اذهبوا قفوا وكلموا الشعب في الهيكل بجميع كلام هذه الحياة .
ولماذا أتكلم عن الأمور الأخرى ؟ فقد ظهر الملاك لبولس نفسه.
أرأيت أنهم يخدموننا من اجل الله، وإنهم يخدموننا في امور عظيمة جداً ؟ ولهذا يقول الرسول بولس * فإن كل شيء لكم . أم الحياة أم الموت أم الأشياء الحاضرة أم المستقبلة*. والابن ايضاً بالطبع أرسل ، لكن ليس كخادم ، بل كابن ووحيد الجنس، وكان يريد كل ما أراده الآب. او من الأفضل أن نقول إن الابن لم يرسل لأنه لم يذهب من مكان لمكان، بل أخذ جسداً. أما الملائكة فهم ينتقلوا من مكان إلي آخر، ويتركون الأماكن الأولي التي يوجدون فيها، وهكذا يأتون إلي أماكن أخري لم يكونوا فيها. كما أنهم كانوا يشجعوا البعض قائلين: *لماذا تخافون*؟ إن الملائكة يخدموننا[4].
الملاك الحارس للعلامة أوريجانوس
يظهر من قول السيد المسيح نفسه أن ملائكة هؤلاء الأصاغر يرون وجه الآب السماوي.
* جاء في سفر الأعمال قول المجتمعين للجارية عن الذي يقرع الباب إنه ملاكه.
* أوصى الرسول بولس المرأة أن يكون لها غطاء للرأس لأجل الملائكة.
* قول المرتل: “ملاك الرب حال حول خائفيه”.
* قول يعقوب بن اسحق أن الملاك كان يقوته، وأنه قاده في حداثته.
يجب أن نؤمن أن الملائكة، وهم خدام الله والحراس المعينين من قِبَله، متواجدون مع الإنسان الذي يصلي، حتى ينضمون إليه فيما يلتمسه. والحقيقة أن الملاك المخصص لكل منا، حتى للصغار في الكنيسة، والذي يعاين دائمًا وجه الآب، ويشاهد ألوهية الخالق، يصلي معنا ويدعمنا على قدر الإمكان فيما نطلب.
* كل واحدٍ من المؤمنين حتى وإن كان الأصغر في الكنيسة، يعاونه ملاك، قال عنه المخلص أنه يعاين وجه الله الآب .
* لا بُد أن نقول إن النفس البشرية هي تحت إشراف ملاك بالنسبة لها بمثابة الوالد.
* إذ يقبل إنسان الإيمان، يعهد به المسيح الذي فداه بدمه من الشرير إلى ملاك مقدس الذي بسبب نقاوته يعاين وجه الله الآب .
* حتى لا يحدث أن تجد الأرواح الشريرة فيما بعد مكانًا فيها (النفس البشرية)، رأت حكمة الله وعنايته أن تُزوّد الأطفال الصغار، وأولئك الذين هم ليسوا إلا أطفالًا رُضّع في المسيح، وغير القادرين على الدفاع عن أنفسهم ضد غواية الشيطان وهجمات الأرواح الشريرة، بملائكة وحراس أبطال، معينين من قِبَله، كمرشدين ومُربّين لصغار السن أو غير القادرين على الدفاع عن أنفسهم (١كو ٣ : ١ ؛ أف ٦ : ١١ ؛ غل ٤ : ٢).
* حيث أن الله عالم بالإرادة الحرة لكل إنسان، إذ سبق فرأى ما يفعله الإنسان لذلك رتب بعنايته لكل واحدٍ ملاكًا يليق به حسب استحقاقه، معطيًا إياه لكي ما يصلي عن أجله…
يقول الله لمن يتصف بهذه الصفات، أو تلك أرسل إليه ملاكًا حارسًا يعمل معه لخلاصه، وذلك ابتداء من الوقت المعين ويبقى معه إلى وقت آخر. ويقول عن آخر: سأبعث بملاك آخر ربما يكون برتبة أعلى بما يتناسب مع أفضليته عمن سبقه. ولآخر ممن كرّسوا أنفسهم للتعليم السامي، ثم أدركه الضعف فعاد به إلى الأمور المادية، سأجرده من معاونة القوي، الذي برحيله عنه – بحسب استحقاقه- سوف تقتنصه قوة شريرة معينة، وتجد لها فرصة للانتفاع بضعفه هذا، فتستدرجه- إذ أظهر استعدادًا للخطية- لاقتراف هذه الرذيلة أو تلك.
* كل الناس يحركهم ملاكان: أحدهما شرير يحرضه على الشر، والآخر صالح يحثّه على الصلاح”… فإن كان يوجد فكر صالح في رأسنا، فما من شك في أن ملاك الرب هو الذي يتحدث معنا. أما إن جاءت أمور شريرة إلى قلوبنا، فالذي يخاطبنا هو ملاك الشر[5].
أيضاً للعلَّامة أوريجانوس الملائكة أطباء
ولولوا عليها، خذوا بلسانًا (بلسمًا – مرهمًا) لجرحها لعلها تُشفي”.
بما أن كل نفس يمكنها أن تحصل على الخلاص، لا توجد نفس واحدة غير قابلة للشفاء بالنسبة للرب، لذلك ينصح الله الذين يستطيعون أن يعبروا إلى أورشليم أن يحصلوا على بلسم العهد الجديد، أن يحاولوا بقدر استطاعتهم أن يستخدموا هذا العلاج مع بابل لكي تُشفي وتستعيد صحتها.
ليتنا نحاول نحن أيضًا أن نفعل ذلك، فنطلب من الله أن يعطينا البلسم الروحي؛ لكي نتعلم كيف نعصب جراحات بابل، مقتدين بالسامري الصالح؛ وبالتالي تُشفي هذه المدينة البائسة، فلا تعود بعد إلى حالتها الأولى.
أين هم الهراطقة الآن؟ أين الذين يؤمنون بتعدد أنواع النفوس، ويؤكدون وجود نوعٍ من النفوس لا رجاء فيه، والأمل في خلاصه مفقود؟ لو كانت هناك نوعية من النفوس لا بد أن تهلك، أفما كانت بابل هي أول تلك النفوس التي يجب أن تهلك؟
ومع ذلك، فإنه حتى بالنسبة لبابل، لم يحتقرها الله، بل يأمر الأطباء أن يضعوا بلسمًا لجرحها لعلها تشفي!
إذًا هؤلاء الذين صدر الأمر إليهم بمعالجة بابل، حينما علموا بإمكانية شفائها واستعادة صحتها، قاموا بالفعل بتنفيذ الأمر، ووضعوا بلسمًا على جرحها، لكن إذ وجدوا أنهم لم يحصلوا على النتيجة التي كانوا ينتظرونها، لأن بابل ظلت في شرورها ولم ترد أن تُشفي، قالوا بعد أنهم أدوا مهمتهم وتمموا مسئوليتهم: “داوينا بابل فلم تُشفَ، دعوها”. أفلا يحدث معك هذا أنت أيضًا أيها الإنسان؟
يحدث أحيانًا أن يرسل لك الله الملائكة ويأمرهم بوضع المراهم عليك لعلاجك من مرض النفس “لعلك تُشفي”، فتكون النتيجة أن هؤلاء الملائكة يجيبون الرب قائلين: “داوينا بابل، التي هي نفسك المضطربة بشهوات هذا العالم، فلم تُشفَ”.
سبب عدم الشفاء لا يرجع إلى قلة معرفتهم وخبرتهم الطبية ولا إلى رداءة نوع البلسم، بل يرجع السبب أولًا وأخيرًا إليك أنت، لأنك لم تشأ أن تُشفي، فلم تتبع تعليماتهم وعلاجهم. “دعوها”؛ إن الملائكة هنا كانوا يمثلون أطباء مهمتهم تنفيذ أوامر الله الطبيب الأعظم؛ لقد أرادوا معالجة ضعفاتنا وتحرير نفوسنا من الرذائل، أما نحن فإننا نُبعدهم عنا بعيدًا برفضنا اتباع نصائحهم.
لذلك فإن هؤلاء الملائكة، إذ يرون أن تعبهم يذهب هباءً، يقولون: “دعوها. ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه”. أو أنهم يقولون بطريقة أخرى: لقد سلمنا الله الدواء لمعالجة النفس البشرية، فجئنا لنجدتها وقدمنا لها الدواء، أما هي فإنها عنيدة جدًا وعاصية لا تريد أن تستمع إلى ما نقوله، وقد أصبح مجهودنا بلا ثمر، وبالتالي “دعوها ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه”.
احذر أيها الإنسان لئلا يتركك الطبيب، سواء كان هذا الطبيب ملاكًا من قبل الرب أو إنسانًا مكلفًا من قبل الله بإعطائك الدواء الذي يقودك إلى الخلاص. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لأنه لو تركك الطبيب وقال: “دعوها ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه، لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب”، فإن تركه إياك إنما يعني إدانتك كإنسانٍ غير قابل للشفاء لأنك رفضت أن تعالج. عندما يتركك الطبيب، ماذا يحدث لك إلا الشيء الطبيعي الذي يحدث لأي مريض فقد الأطباء الأمل في شفائه؟ المريض الذي أحب مرضه يسقط حتمًا في حالة أكثر سوءًا.
يظل الأطباء الصالحون المخلصون بجانب المريض طالما يستطيعون معالجته بحسب مهنتهم، وطالما يمكنهم أن يستخدموا الدواء مع هذا المريض. لكن إذا تفاقم المرض وازداد سوءًا إلى درجة فقدان الأمل في الشفاء، أو إذا خالف المريض تعليمات الأطباء نتيجة لتعبه من الآلام وضجره منها، إذ يفقد الطبيب الأمل في مثل هذا الإنسان يدعه (يتركه) وينسحب لئلا يموت المريض بين يديه، وبالتالي تُلقى المسئولية عليه. نفس الشيء يحدث معنا نحن أيضًا، فلكي تتجنب الملائكة الأطهار أن نموت بين أيديها يتركوننا عندما يفقدون الأمل في شفاء نفوسنا ويقولون: “من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تلين بالزيت” (إش ١ : ٦).
“لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب”.
الإنسان الذي تكون خطيته صغيرة، لا يرتفع قضاؤه إلى السماء، بينما الذي ينمو في الشر ينمو أيضًا قضاؤه ويزداد حجمه، وكلما تزيد شروره يزيد أيضًا عقابه. إذا كان قد أخطأ إلى الدرجة التي وصلت فيها خطاياه إلى السماء وارتفعت إلى السحاب حينما يقاوم الله بعناده ترتقي خطاياه أكثر فأكثر، لذلك فإن الرب يهين الخطية التي أوصلت قضاء الإنسان إلى السماء، كما أنه في الوقت نفسه يكافئ الإنسان البار مكافأة تليق بالحياة التي عاشها في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة والسلطان إلى أبد الآبدين آمين[6]
و أيضاً العلَّامة أوريجانوس المحمولون بواسطة الملائكة :
لكن كل الذين قد قدموا بالرموز المتعددة أعلاه يجب أن يحملوا، ويحملوا على الأكتاف. لذلك فالملائكة ” الذين أرسلوا للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب ١: ١٤) ، هم في رأيي الحاملون لكل الذين قد ذكرناهم. حقا عندما تطوي هذه الخيمة مرة أخرى وعندما نبدأ الدخول هناك في القدس ونرحل نحو بلاد الموعد فالذين هم حقيقة قديسون يعيشون في قدس الأقداس وسيتقدمون موآزرين بواسطة الملائكة، وحتى تنصب خيمة الله مرة أخرى سيكونون محمولين على أكتاف الملائكة ومرفوعين على أيديهم.
وأمام هذه الصورة قال النبي بالروح: ” لأنه يوصى ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك” (مز ۹۱: ۱۱-۱۲).
الشيطان اعتقد بأنها يقصد بها المخلص، ولكن أعمته شراسته، فلم يفهم هذا الكلام السري لأن المخلص لم يكن في حاجة إلى الملائكة لكي لا تصدم بحجر رجله. الشيطان يجدف على الكتاب الإلهي بتطبيق هذه الكلمات على المخلص، أنه ليس لأجله، لكن لأجل جميع القديسين، قيل إن الله قد أعطى أمرًا لملائكته إكراما لشعبه لكي لا تصدم بحجر رجله. كل هذا المزمور ينطبق على الأبرار أكثر من انطباقه على المخلص. فالذي يحفظه الرب من ” الهلاك ومن شيطان الظهيرة” (مز (۹۱: ٦) ، ليس هو المخلص، هذه الفكرة بعيدة عنا، حاشا لله لأن كل إنسان مبرر، والأبرار هم الذين في حاجة إلى عون ملائكة الله، حتى لا تسحقهم الأبالسة، وحتى لا يحرق قلبهم ” السهم الذي يطير في الظلمات”.
يؤكد بولس بنفس السر بأن البعض يجب أن يكونوا محمولين من الملائكة على السحب ” لكن نحن الأحياء، الباقين سنخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء” ( ١ تس ٤ : ١٦). فالذين قد قبلوا تنقية عميقة وقد أصبحوا منخفضين من أثقال الخطية سوف يختطفوا بواسطة الملائكة، أما الذين مازالوا مثقلين ببعض بقايا النجاسة فسوف يحملون ركائز الخيمة والأروقة وكل الأشياء التي قد عددت بواسطة الكتاب المقدس فهل تحمل إذا بواسطة اللاويين وليس بواسطة الإسرائيليين لسبب سبق أن أوضحناه بطريقة عابرة فقط، حتى نترك لأفكار السامعين الذي أوقدت فيهم الرغبة الحارة لكي يغتنوا باشتعال أنفسهم بنور العلم ، وليكتشفوا الحقائق الكبيرة بنظرة خارقة. أما نحن فنطلب من الرب أن يجعلنا محمولين أو مرفوعين بواسطة أمثال هؤلاء الحمال، وأن نكون محفوظين من السهم الذي يطير في الظلمات ومن الهلاك ومن شيطان الظهيرة، حتى لا تصدم رجلنا بحجر “حتى نصل إلى مكان الموعد بنعمة ربنا يسوع المسيح”. الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.
المرجع : عظات علي سفر العدد للعلامة أوريجانوس ( صفحة ٤٣ ) – ترجمة القس برسوم عوض وآخرون – إصدار مؤسسة القديس أنطونيوس للدراسات الآبائية
القديس إيرينيوس
عالم الملائكة
والعالم” محاط بسبعة سموات، هناك تسكن قوات لا تُحصى، وملائكة، ورؤساء ملائكة الذين يتممون واجب العبادة الله كلى القدرة وخالق الجميع. ليس لأن الله في احتياج (لعبادة الملائكة)، لكن حتى لا يظلوا بلا عمل وبلا فائدة وبلا نفع. وروح الله له فعل متعدد الوجوه، وإشعياء النبي يحصى سبعة أشكال لخدمة الروح عندما يتحدث عن الروح الذي سوف يحل على ابن الله أى على الكلمة في زمن تجسده، لذا ” ويحل عليه روح الرب روح الحكمة روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب”، فالسماء الأولى، العليا المحاطة بالسموات الأخرى، هي سماء الحكمة، الثانية هي للفهم، والثالثة للمشورة . والرابعة من فوق إلى أسفل . هي للقدرة، الخامسة للمعرفة، والسادسة للتقوى، والسابعة . التي تمثل قبتنا الزرقاء . هي مملوءة من مخافة الروح الذي ينير السموات.
هذا الإله يمجد بواسطة كلمته الذي هو ابنه الأزلي وبالروح القدس الذي هو حكمة” الآب الذي هو أب الجميع. هذان الأقنومان الإلهيان، الكلمة والحكمة لهما في خدمتهما طغمة من الأرواح الملائكية تدعى الشاروبيم والسيرافيم الذين يمجدون الله بتسابيحهم التي لا تنقطع، وكل ما في السموات المخلوقة يعطى مجدا لله، آب الجميع، الذي بكلمته خلق العالم . بما فيه . الملائكة وأعطى قوانين (نواميس) لكل العالم، حتى أن الجميع يظلون في مكانهم ولا يتجاوزن حدودهم المرسومة لهم بواسطة الله، بل إن كل واحد منهم يتمم العمل المحدد له من قبل الله [7].
القديس باسيليوس الكبير
الملائكة
ويقول القدِّيس باسيليوس الكبير وهو يتحدث عن خلقة الملائكة : ” حتي ولو كان الصمت تهيمن علي الطريقة التي خلقت بها القوات السماوية ، وأن الذي صور لنا تكوين العالم لم يوضح لنا الخالق إلا من حيث علاقته بالمحسوسات ، فأنت الذي لديك قوة إستنتاج لتبلغ بها من المنظورات إلي غير المنظورات ، مجد الصانع الذي خلق به كل شيء ، ما يري وما لا يري .
أصحاب رئاسة كانوا أم قوة أم عرش أم سيادة ، وكل الطبائع العقلانية الأخرى إن وجدت بدون أسماء ، ثم ضع في فكرك أن في خلقها ، السبب الرئيسي لوجودها وهو الآب ، والسبب الصانع وهو الابن ، والسبب المكمل وهو الروح ، حتي أنه بإرادة الآب توجد الأرواح الخادمة ، وبفعل الابن تنتقل إلي الوجود وبحضور الروح تكمل ، فتكميل الملائكة تقديسهم وبقاؤهم فيه ” ( الروح القدس ١٦: ٣٨ – ص٦٢، ٦٣- ترجمة الأرشمندريت أدريانوس) ، ” فالقوات الفائقة العالم النقية والعقلانية هي قديسة وتدعي كذلك لأنها اقتنت التقديس بالنعمة الحالة فيها من لدن الروح القدس ” ( المرجع السابق ص٦٢)
ويقول أيضاً ساويرس إبن المقفع :” ليس أحد في جميع الملائكة بسيطاً علي الأرض كلها ولا أحد يملأ جميع الأرض غير الإله وحده الذي يملأ جميع المواضع ولا يخلو منه موضع . وجميع الملائكة محدودون محصورون متنقلون من مكان إلي مكان ، إذا حضر أحدهم في مكان خلي منه المكان الآخر ” (الدر الثمين ص٢٤٦)
وكما يلاحظ القدِّيس اكليمنضس الإسكندري ، أن الملائكة لا يتكلمون ولا يتصلون بعضهم ببعض بنفس الأسلوب الذي يتصل به البشر فهم ليس لهم أذن ولا لسان ولا جهاز للصوت ولا شفاه ولا حلق (بلعوم) ولا رئة ولا صدر ولا تنفس . ليس للملائكة إحتياج للسان للتكلم ولا للأذن للسمع ، بل هم ينقلون بعضهم لبعض نفس الأفكار والأحكام ، وليس للملائكة جنس فهم لا يتزوجون ولا يزوجون حسب قول السيد المسيح .
ويقول القدِّيس أغناطيوس في رسالته إلي سميرنا (ازمير) :
” إذا لم تؤمن الكائنات السماوية ومجد الملائكة والرئاسات المنظورة وغير المنظورة بدم يسوع المسيح فإنها ستدان أيضاً ” ( ترجمة المطران الياس معوض ص١٣٥) .
وجاء في هيرماس الراعي ( الوصية السادسة ٢: ١) ” مع الإنسان ملاكان . ملاك العدل وملاك الشر . ملاك العدل لطيف وحبي ووديع وهادئ . عندما يدخل إلي قلبك يتكلم معك فوراً عن العدل والعفة والشرف والقناعة وعن كل عمل صالح وعن كل فضيلة مجيدة . عندما تشعر أن هذه الأمور قد ملأت قلبك فاعلم أن ملاك العدل يقطن فيك لأن ملاك العدل لا يفعل غير ذلك فآمن به وثق في أعماله . أما ملاك الشر فهو قبل كل شيء غضوب ومر وجاهل وأعماله شريرة تدمر عبيد الله . عندما يدخل إلي قلبك تستطيع أن تميزه فوراً من أعماله .
عندما تشعر بالتذمر والمرارة فاعلم أن الشيطان يقطن فيك وعندما تشعر برغبات مضطربة ويستولي عليك جنون التبذير والانفاق علي الملبس والمأكل والمشرب وتندفع وراء الملذات العابرة والفجور وعندما تشعر بأنانيتك وكبريائك وطمعك تتحرك بعنف في داخلك ، عندما تشعر بكل ما هو مماثل لهذه الامور فاعلم أن شيطان الظلم يعيش فيك (ترجمة المطران الياس معوض ص ٢٠١ )
ويقول العلامة اوريجينوس ” إذا كانت ملائكة الله قد اتت ليسوع وأخذت تخدمه ، وإذا كان من غير المعقول أن تقتصر خدمة الملائكة للمسيح علي زمان اقامته بالجسد بين البشر . وهو في وشك المؤمنين ليس كمن يتكئ بل كمن يخدم ، فتصور معي خدمة الملائكة للمسيح الذي يريد أن يجمع معه ابناء إسرائيل واحدا واحدا ، وعندما يضم الذين في الشتات ، وينقذ الذين يئنون من الخوف ويدعونه . أما يساهم الملائكة أكثر من الرسل في نمو الكنيسة وازديادها … ” (كتاب الصلاة تعريب القس موسي وهبة ص ٣٠)[8].
عظات آباء وخدام معاصرين
المتنيح الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف والبهنسا
مثل الزوان : (مت ۱۳ : ٢٤ – ۳۰ ، ٣٦ – ٤٣)
يقول ذهبي الفم : ( مقالة ٤٦ ) :
( أ ) علينا ألا ندهش حين نجد العدو يزرع زوانا وسط الحنطة وهو كثيرا ما يزرعها بواسطة رسله الذين يلبسون ملابس الرعاة •
( ب ) فلنكن متحفظين يقظين دائما ضده حتى لا نعطيه فرصة لزرع زوانه
( ج ) ولا نكن مثيري حرب وقلاقل ضد الزوان ، لئلا نقتلع بعض الحنطة معهم أي بعض الصالحين مع الأشرار .
وحري بنا ألا نجزع لأن ثلاثة أنواع من الزرع فسدت في المثل السابق ، والنوع الرابع هنا ظهر به زوان . فلنكن مثابرين في الفضيلة مهما اختلف العالم معنا ومهما كانت الصعوبات .
ثم بعد ذلك يمدح التلاميذ الذين بعد أن عرفوا بكل الصعوبات قاموا بالخدمة بكل اجتهاد .
( أ ) ولم يطلبوا آيات وعجائب ليؤمنوا ، بل كان ايمانهم من الحاجة لآيات .
( ب ) وكانت الآيات تأتي عنهم بسبب قوة حياتهم . فلا نقل بأننا ضعفنا لعدم الآيات ، بل أن الآيات امتنعت لأننا ضعفنا .
( ج ) وقوة حياتهم الروحية كانت هي أساس الخدمة فيوحنا المعمدان جابه ملوکا، وايوب جابه قوة الشر مجتمعة بأسلحة شديدة ، وحين قال الرب عن داود الفتي : “فتشت قلب عبدی داود بن يسی فوجدته حسب قلبی ” لم يكن هؤلاء مدعمين بالآيات •
( د ) وليست الفضائل في كثرة الزهد ، والصوم لأيام ، بل الزهد هو في اعطاء خبزك للجائع ، وتمالك نفسك عن الغضب والزهو ، والحسد.
فلنسع للفضائل الروحية ولا نستعض عنها بوسائلها وهكذا نكون قديسى الله .
حبة الخردل :(مت ۱۳: ۳۱: ۳۲)
وهذا المثل يصور نمو الملكوت، فانه يبدأ صغيرا ثم يكبر حتى يعم المكان ، وهكذا كانت بداية المسيحية في أي قطر من الأقطار ایمان فرد واحد ، أو أسرة ، ثم انتشر فشمل القطر كله .
في الخميرة :(مت ۱۳: ۳۳)
والخميرة كائن حي ربما لا يختلف شكلها من الخارج عن أي عجينة أخرى، ولكنها حية في الداخل . وهكذا المؤمن أو هكذا الكنيسة، وقد يكون الشكل الخارجي أردأ من شكل الغير ” لاتنظرن الى لكوني سوداء لأن الشمس قد لوحتنی ” (نش ١: ٦).
على أن الخميرة اذا اندمجت في العجين، خمرته كله والكنيسة في العالم كالخميرة والملح ، مندمجة فيه ولكنها سر رضا الرب عليه[9]
المتنيح الانبا يؤانس اسقف الغربية
الملائكة عمل
أعمال الملائكة متنوعة ومتعددة ومتباينة تبعا لرتبة الملائكة أنفسهم . فهناك ملائكة قائمون أمام العرش الإلهي ، عملهم تقديم العبادة والسجود والتسبيح الدائم لله . وهناك ملائكة يعملون كحلقة اتصال بين السماء والأرض أو بين الله والبشر وفريق ثالث مهمتهم خدمة البشر . ويمكننا أن نقسم عمل الملائكة إلى قسمين : ما يختص بالله ، وما يختص بالبشر . ونستطيع تلخيص ذلك كله فيما يلى :
أولا – ما يختص بالله ، ويشمل أعمالا أهمها :
١- العبادة : وتأتي في مقدمة عمل الملائكة فيما يختص بالله . وعبادة الله تشمل التسبيح والسجود . وقد أعلنت رؤيا لإشعياء النبي رأى فيها السيرافيم ينشدون قائلين في تسبيح دائم : « قدوس قدوس قدوس رب الجنود ، مجده ملء كل الأرض » (إش ٦ : ١ ۔ ۳) … وفي وقت میلاد المخلص ينقل إلينا القديس لوقا منظر بديعة : « وظهر بغتة مع الملاك ( الذي بشر الرعاة بميلاد المسيح ) جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين المجد لله في الأعالى ، وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة » (لو ۲ : ١٣ ، ١٤) . لذا صرخ داود وقال : « سبحوه يا جميع ملائكته . سبحوه یا کل جنوده » (مز ١٤٨ : ٢).
هذا عن التسبيح أما عن السجود ، فيدون لنا القديس يوحنا ما رآه في رؤياه : « وجميع الملائكة كانوا واقفين حول العرش والشيوخ والحيوانات الأربعة وخروا أمام العرش على وجوههم وسجدوا لله ، قائلين آمين البركة والمجد والحكمة والشكر والكرامة والقدرة والقوة لإلهنا إلى أبد الآبدين آمين » (رؤ ٧ : ١١ ، ۱۲) .
۲ – تنفيذ أحكام الله : ومن أمثلة ذلك ما جاء في سفر أعمال الرسل عن هيرودس الملك الذي أرتدي الحلة الملوكية وانتفخ حتى أنه حين تكلم قال عنه الناس إنه صوت إله لا صوت إنسان ، فأرسل الله ملاكا ضربه في الحال . لأنه لم يعط المجد لله فصار يأكله الدود حتی مات (أع ۱۲ : ۲۳) . كما يسجل لنا القديس يوحنا في رؤياه : « وسمعت صوتاً عظيماً من الهيكل قائلا للسبعة الملائكة امضوا واسكبوا جامات غضب الله على الأرض » (رؤ ١٦: ١) . فالملائكة دائماً ينفذون أحكام الله .
٣- إعلان رسائل من الله للبشر : وهذه الرسائل على أنواع : فإما أن تكون رسائل تشجيع وتقوية لأداء واجب كما حدث جدعون (قض ٦ : ١١-١٦) . أو رسائل توبيخ لفرد أو لشعب بأسره . كما نقرأ عن رسالة التوبيخ التي حملها ملاك الله لشعب إسرائيل (قض ۲ : ۱ ۔ ٥) . وقد يرسل الملاك حاملا بشارة مفرحة ، كما حدث في ميلاد يوحنا المعمدان ، وكما حدث في بشارة جبرائيل رئيس الملائكة إلى أم النور مریم بشرها بولادة الرب يسوع مخلص العالم .
٤- في الدينونة الأخيرة : و يقدم لنا السيد المسيح هذا التعليم في مثل الزوان والحنطة حيث يقول : « الحصاد هو إنقضاء العالم والحصادون هم الملائكة … في انقضاء هذا العالم ، يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلى الإثم و يطرحونهم في أتون النار … » (مت ۱۳ : ۳۹- ٤٢) .
ثانيا . ما يختص بالبشر :
ينبغي أن نعلم أن الملائكة . وهم في سبيل إتمام مقاصد الله من جهة البشر . يدخلون أحيانا في حروب مع الشيطان وقواته . وهذا واضح مما جاء في سفر دانیال ( ص ۱۰ ) كما أسلفنا ، ومما جاء في سفر الرؤيا حيث يقول : « وحدثت حرب في السماء ميخائيل وملائكته حاربوا التنين ، وحارب التنين وملائكته » (رؤ ۱۲ : ٧)…
ونلخص ما يقوم به الملائكة من خدمات نحو البشر فيما يلى :
١-العناية بالمؤمنين وحراستهم : وهنا نتذكر قول المرتل داود : « ملاك الرب حال تحول خائفيه و ينجيهم » (مز ٣٤: ٧) . وقول المرنم في المزمور الخالد : « لأنه يوصی ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك . على أيديهم يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك » (مز ٩١ : ۱۱) . فالملائكة يعنون بنا نحن المؤمنين ويحرسوننا…
۲- إنقاذ المؤمنين من الشدائد : والكتاب المقدس زاخر بأمثلة عديدة عن تدخل الملائكة في إنقاذ كثيرين من البشر : منهم يعقوب من وجه عيسو أخيه في محنایم (تك ۱:۳۲ ، ۲) . كما أنقذ الملائكة شعب الله في الخروج من مصر وحتى الاستقرار في أرض كنعان . ( راجع سفر الخروج ١٤ : ۱۹ ؛ ۲۳ : ۲۰) . والملائكة هم الذين حرسوا اليشع النبي وتلميذه جيحزی من جیش ملك آرام (٢مل ٦ : ١٦ ، ۱۷) . وملاك الله هو الذي سد أفواه الأسود عن دانيال في الجب « إلهي أرسل ملاکه وسد أفواه الأسود فلم تضرنی »
(دا ٦ : ۲۲) . كما أن الملاك هو الذي أنقذ بطرس من السجن الأمر الذي يفرد له القديس لوقا فصلاً بأكمله في سفر أعمال الرسل هو الاصحاح الثاني عشر …
٣- الاشتراك في خدمة الخلاص بالنسبة للمؤمنين :
ولعل هذا هو الذي دفع الملائكة وقت میلاد المخلص إلى أن ينشدوا أنشودة الفرح الخالدة : « المجد لله في الأعالى وعلى الأرض السلام و بالناس المسرة » . والسيد المسيح له المجد نفسه يوضح لنا ذلك عندما قال : « لأنه يكون فرح في السماء بخاطيء واحد يتوب » (لو ١٥ : ۱۰) .
٤ – تشجيع المؤمنين : فلقد شجع ملاك القديس بولس الرسول إبان محنته في السفينة في البحر وهو في طريقه أسيراً إلى روما . ونقل بولس تلك المشاعر لكل من كان معه في السفينة : « لأنه وقف بی هذه الليلة ملاك الإله الذي أنا له والذي أعبده قائلا لا تخف يا بولس ينبغي لك أن تقف أمام قیصر وهوذا قد وهبك الله جميع المسافرين معك » (أع ٢٧: ٢٣).
٥ -إغاثة المؤمنين : وفي ذلك نقول إن الملائكة تستطيع بحکم طبيعتها أن تعمل وتتحرك من دون أن تتلقى أمراً من الله بذلك لأن هذه هي مهمتها . و يقول الرسول بولس : « أليسوا جميعا أرواحاً خادمة ، مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص » (عب ١ : ١٤) . فالملائكة كائنات حرة ، ولهم المقدرة والإمكانية ولهم أن يتصرفوا في حدود اختصاصاتهم . مثال ذلك الشرطي الذي يقف في الطريق .
إذا استغاث به أحد المواطنين أغاثه في الحال ، وتقدم وأنقذه ، أو أسرع بالقبض على لص أو قاتل دون أن يرجع إلى رئيس الدولة أو حتى إلى رئيسة المباشر لأن هذا عمله ، وهذه الأمور تدخل في دائرة اختصاصه . وعلى العكس فإنه إن لم يستجب لنداء أي مواطن بحجة انه لم يتلق أمراً من رئيس الدولة أو حتى من رئيسه المباشر ، يعتبر في تلك الحالة مقصراً .
وعلى ذلك نقول : لنا إذن أن نستغيث بالملائكة مباشرة دون أن يكن في ذلك إهانة لله . یعنی أن من يصرخ : ” الحقني يا ملاك الله ، فإنه لا يخطىء … ونقول هذا کرد على تفاهة تفكير بعض الناس الذين ينددون بمن يستغيث بالملاك ميخائيل مثلا وينعتون مثل هذه الاستغاثة بأنها عبادة وثنية، مع أن الملائكة هم جنود الشرطة الروحية التي تحرس المؤمنين وتغيثهم . لا حرج إذا ، إن لجأت إلى جنود الشرطة السمائيين ليحموني من جنود الشر ، ولذلك نادت كنيستنا القبطية الأرثوذكسية في تعاليمها بأن التشفع والاستغاثة بالملائكة أو برئيس الملائكة هو أمر صحیح وسليم . ونحن في ذلك لا نخطىء إلى الله هذا هو عمل الملائكة المكلفين به .
٦- رفع صلوات المؤمنين إلى الله : فالملائكة هم الذين يقدمون صلواتنا أمام العرش الإلهي . وهذا ما أعلنه لنا يوحنا في سفر الرؤيا : « وجاء ملاك آخر عند المذبح ومعه مبخرة من ذهب وأعطی بخوراً كثيراً لكي يقدمه مع صلوات القديسين جميعهم على مذبح الذهب الذي أمام العرش » (رؤ ۸ : ٣) .
والملائكة يحلون بالكنائس ويحضرون اجتماعات الصلاة . ونستدل على ذلك مما قاله بولس الرسول وهو يطلب من المرأة أن تغطي رأسها وهي تصلي : « لهذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها من أجل الملائكة » (١كو ۱۱ : ۱۰) . ومعنى هذا أن الملائكة يحضرون معنا في الصلوات .
۷- الشفاعة في المؤمنين : إن السلم الذي رآه يعقوب قديماً في حلمه والملائكة تصعد وتنزل عليه ، و يصل الأرض بالسماء ، إنما يشير إجمالا إلى عمل الملائكة فهم يحملون المعونة من السماء إلى البشر ويصعدون باحتياجاتهم في صورة طلبات وصلوات ويقدمونها إلى الجالس على العرش (تك ۲۸ : ۱۲) .
ولقد تشفع الملاك مرة في أورشلیم قائلا : « يارب الجنود إلى متى أنت لا ترحم أورشليم ومدن یهوذا التي غضبت عليها هذه السبعين سنة . فأجاب الرب الملاك الذي كلمني بكلام طيب وكلام تعزية . فقال لي الملاك الذي كلمني ناد قائلا : هكذا قال رب الجنود … قد رجعت إلى أورشليم بالمراحم فبیتی یبنی فيها » (زك ۱ : ۱۲- ١٦).
۸- حمل أرواح الأبرار إلى الفردوس : وهذا العمل واضح في قصة الغنى ولعازر من فم السيد المسيح له المجد : ” مات الغني ودفن . ومات لعازر وحملته الملائكة إلي حضن إبراهيم “(لوقا ۲۲:۱۱)[10].
المتنيح القمص لوقا سيداروس
أمكانيات الشياطين
أ) بضدها تعرف الأشياء :
نعلم من الأسفار أن الشيطان ملاك ساقط ، فمن ناحية طبيعته وإمكانياته فله كل ما للملائكة وإن كانت كل قدراته أصبحت ضد الله بعد ما طرح من حضرة القدير وصار روح ظلمة ونجاسة ومقاومة لكل ما يمت إلي الله بصلة . وقد وقف الشيطان – المشتكي علي جنسنا – يشتكي علي أيوب البار حتي قال الرب له ” هيجتني عليه لابتلعه بلا سبب “(راجع أيوب ٢: ٣) وفي شكواه أستطاع أن ينال من أيوب فضرب كل ماله وممتلكاته وأولاده ولم يزل يشتكي عليه حتي ضربه في جسمه بقرح رديء من هامة رأسه إلي أخمص القدمين .
وقد حفظ الرب عقل أيوب ونفسه لكي لا يمسها الشيطان وحوط حوله بسياج النعمة لئلا يجن .
ب) أيضاً من حيث أنه روح غواية :
حيث أغوي داود أن يعد الشعب ويقع في معصية أمام الله إذ أن الشعب محسوب أنه شعب الله وليس لانسان ، وقد رأي ميخا النبي بن يمله في أيام آخاب ملك اسرائيل – رأي الشيطان يقول لله أنه يستطيع أن يغوي آخاب بان يصعد إلي راموت جلعاد حيث ينكسر أمام الاراميين ” فقال الروح ” النجس ” أدخل في أنبيائه وأكون فيهم روح كذب ” فقال الرب للشيطان أنك تستطيع وتقتدر.
ج) من حيث أنه روح محارب :
فهو أعطي سلطان في آخر الأيام أن يحارب القديسين ويغلبهم وهو صانع الخصومات والحروب والأهوال .
د) من حيث أنه مجرب
فلم ينج من تجربته ولا واحد من القديسين حتي أنه تجرأ وجرب وبالمجد بتجربة الخبز وجناح الهيكل ومجد العالم بل وقيل أيضاً ” ولما أكمل أبليس كل تجربة “(لو ٤: ١٣) .
بل أنه طلب أن يغربل التلاميذ كالحنطة ” قبل الصليب ” لولا طلب رب المجد يسوع من أجل سمعان لكي لا يفني إيمانه (راجع لو ٢٢: ٣٢) .
هـ) من حيث أنه روح كذب :
وجميع مشوراته كاذبة بل أنه كذاب وأبو الكذاب كما قال الرب (يو ٨: ٤٤) .
ر) من حيث أنه روح ضلال :
فقد كتب عنه يوحنا الحبيب “وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون “(١يو ٢: ١٨) بل أن كل روح لا يعترف بيسوع المسيح آتياً في الجسد فهو روح البدع والهرطقات .
ز) وهو روح الفساد والهلاك :
كما فعل بالذين تسلط عليهم ، فكانوا يربطون بسلاسل وقيود فيكسرونها ويسكنون في القبور ويلقيهم في النار وآخرون مثل المجنون الأعمي الأخرس والمرأة التي ربطها الشيطان ١٨ سنة ومجنون كورة الجدريين وأبنة المرأة الكنعانية …
خ) وهو غير الرحيم :
كما تسميه الكنيسة بل أنه يجول كأسد زائر ملتمس من يبتلعه وقد سمي في الكتاب بالحية القديمة ، مملوء سماً وممتليء كل غش .
هذه بعض الأمكانيات التي للشيطان وبعض المواقف التي يتخذها الشيطان تجاه الإنسان ، حقاً لقد كان من البدء قتالاً للناس .
قدرة الملائكة وعملهم
فان كان هذا للروح النجس المقاوم ، فعلي الصعيد الآخر تكون بالأولي قدرة الملائكة وعملهم كارواح مقدسة منيرة تعمل لحساب الله .
باركوا الرب يا جميع ملائكته المقتدرين في قوتهم الصانعين ارادته عند سماع صوت كلامه .
أليس جميعهم أرواحاً خادمة مرسلة للخدمة للعتيدين ان يرثوا الخلاص انهم يخدمون خلاصنا من كل جهة ، يساعدوننا ويحوطوننا ” ملاك الرب يحوط بكل خائفيه وينجيهم “(مز : ) يشفعون فينا ويطلبون عنا ويصعدون صلواتنا تذكاراً أمام الله يرفعون صلوات القديسين من مجمرة البخور بيد الملاك .
وقد يكون من المفيد لتعزيتنا أن لا نهون من عمل الشيطان وقدرته وحروبه وشكواه وفساده ولكن أن ندرك ما رآه تلميذ اليشع النبي وصرخ به حين انفتحت عيناه فرأي جيش الملائكة فقال ” ان اللذين معنا اكثر من اللذين علينا “(٢مل ٦: ١٦) اليست هي الحقيقة .
بل ان هناك عديد من الحقائق نذكر منها :-
١- فان اشتكي الشيطان علي ايوب أمام الله ، فبالأولي يكون العكس لربوات الملائكة القائمين أمام عرش الله نهاراً وليلاً يشفعون في أيوب ويزكونه انه رجل بار ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر ، ويقفون ضداً لشكوي الشيطان علي هذا البار . فبرغم ان الشيطان مد يده فأساء الي أيوب واملاكه …الخ بسماح من الله فان الرب عاد وبارك آخرة ايوب اكثر من اولاده ورد له ماله مضاعفاً ولسنا نستبعد ان شفاء ايوب من قرحة الردي كان بيد ملاك بلمسة واحدة مثلما كان يحرك الملاك الماء في بركة بيت حسدا وكان من ينزل اولا بعد تحريك الماء يبرأ من أي مرض اعتراه .
٢- وإن كان الشيطان يعمل عمله في الغواية وزرع الزوان في الفكر والقلب فكم بالأولي -علي العكس- يكون الملاك في قدرته علي الشهادة للحق فقد وقف ملاك الرب امام بلعام لكي يمنعه من محبة اجرة الاثم (راجع عدد ٢٢: ٣١) .
٣- لقد عاق الشيطان جبرائيل الملاك من ان يصل الي دانيال ٢١ يوماً الي ان جاءه رئيس الملائكة ميخائيل للمعونة . (راجع دا ١٠: ١٣) .
٤- ان ما نطق به الروح نعم يهوذا الرسول يلقي ضوءاً كافياً علي عمل الشيطان في الضلالة وعنفه وقسوته ومن جهة أخري جبروت رئيس الملائكة الجليل ميخائيل ” واما ميخائيل رئيس الملائكة فلما خاصم ابليس محاجاً عن جسد موسي لم يجسر ان يورد حكم افتراء بل قال لينتهرك الرب ” (يهوذا ١: ٩)
فابليس وهو ابو الضلالات أراد أن يظهر جسد موسي الذي أخفاه الله عن بني اسرائيل لكي يتعبد له بنو اسرائيل يقودهم الشيطان الي الضلال .
فارسل الله رئيس الملائكة ميخائيل الذي تفسير اسمه قوة الله العظيم ولم يتكلم من ذاته بل خزي الشيطان امام عبارة رئيس الملائكة ” لينتهرك الرب ” .
٥- بل ان الملائكة تقدم معونات متنوعة في الصلاة ، وملاك يصعد الصدقات والأصوام ، وملاك يرفع الصلوات وملاك يرافق المذبح وملاك ذبيحة معونة وملاك حارس …
رؤيا عجيبة
رأي إشعياء النبي السيد الرب جالس علي كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل والساروفيم بأجنحتهم الستة يسبحون تسبحة الثلاث تقديسات وقد أمتلأ الهيكل (السماء) والأرض من مجد الرب وتزعزعت أساسات العتب .
وارتاع أشعياء النبي أمام المنظر الآلهي وشعر بالتضاؤل في روحه أمام هيبة الرب ومجده العظيم وخدمة الملائكة الذين يسبحونه بأصوات لا تسكت وأفواه لا تفتر يباركون بهاء عظمة مجده غير المنظور ولا المنطوق به .
ورأي بهاء مجد الله ، وفي نور مجده رأي كثرة خطاياه وحقارة طبيعته ، اكتشف ذاته في النور فصرخ بتلقائية روحية من عمق كيانه وقال :” ويل لي اني هلكت لأني انسان نجس الشفتين “(اش ٦: ٥) إذ اعتراه خوف ورهبة ووجد نفسه لا يستحق حتي أن ينطق بشفتين نجستين أمام عرض الله .
ويذكر إشعياء النبي أنه حالما نطق باعترافه وهو واقف أمام كرسي القدير أن طار واحداً من الساروفيم أخذاً جمرة بالملقط من علي المذبح ومس بها فم إشعياء وقال :” إن هذه مست شفتيك فانتزع اثمك وكفر عن خطيتك “(اش ٦: ٧)
والمعروف أن السيرافيم ” المتقدون بالنار ” خدام العرش الآلهي ليس لهم عمل سوي التسبيح الدائم ولكن علي غير المألوف طار واحد منهم ليقدم هذه المعونة الآلهية لاشعياء النبي ، انهم يرثون لحالنا ليس بالمشاعر والكلمات كما يفعل البشر ولكن يقدمون علي خدمتنا بقوة ومعونة مباشرة حقيقية والأمر جد خطير اذ يختص بغفران الخطايا وانتزاع الاثم ” فانتزع اثمك وكفر عن خطيتك “(اش ٦: ٧) وغافر الخطايا هو الله وحده بجمرة النار من علي المذبح التي هي الجسد المقدس كما يقول القداس فهل يحتاج الي ملاك كوسيط ؟
إن الملاك هو خادم للخلاص ، صانع ارادة محب البشر فما من مرة نقف أمام كرسي الله لنقدم سؤال الصلاة ونطرح نفوسنا لدي عرش نعمته مظهرين ضعفنا وحقارة طبيعتنا إلا ويطير الملاك لمعونتنا يشجع ويسند ويقدم معونة .
خدمة الملائكة
سند دانيال :
كان الملاك يخاطب دانيال النبي قائلاً ” ايها الرجل المحبوب “(دا ١٠: ١١) وهذا يكشف عن مدي فرح الملائكة ومشاركتهم للذين صاروا احباء الله ومرضيين عنده ، وكان الملاك يلمس دانيال وهو ساجد الي الارض في صلاته المنسحقة بالروح ، حتي لم يكن يضبط قوة وكان حينما لمسه الملاك أن شعر بقوة تسري في جسمه ووقف علي قدميه ، وقد سمع دانيال صوت ابن الانسان يقول ” يا جبرائيل فهم هذا الرجل الرؤيا “(راجع دا ٨: ١٦)
ترفع صلواتنا وصدقاتنا :
وهذا معروف ان الملائكة هي التي تصعد تذكار صلواتنا وتذللنا أمام الله فقد قال الملاك لكرنيليوس ” صلواتك وصدقاتك صعدت تذكار أمام الله (اع ١٠: ٤) .
وقد أرشد الملاك كرنيليوس الي طريق الخلاص قائلاً له ان يستدعي سمعان بطرس ليسمع منه كلمة الحياة (راجع اع ٠: ٥) .
ترشدنا للكرازة :
وهذا يتضح حينما كلام ” ملاك الرب فيلبس قائلاً قم واذهب نحو الجنوب علي الطريق المنحدرة من اورشليم الي غزة التي هي برية “(اع ٨: ٢٦)
تفرح بتوبتنا ويشفعون فينا :
ان الرب يسوع قد اوضح هذا الفرح حينما قال ” هكذا اقول لكم يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب “(لو ١٥: ١٠) فان كانت توبتنا تفرح الملائكة فانهم بالأولي يكونون شفعاء للخطاة أمام عرش النعمة ، ومشجعون لعمل التوبة ومحرضون عليه كل من تتحرك نياتهم للسعي في الطريق الضيق .
يسندوننا في جهادنا :
ان طريق الصوم والنسك محفوف بالملائكة تسند وتشجع فإيليا قبل صومه أربعين يوماً ايقظه الملاك واطعمه ثم عاد فايقظه مرة أخري في شفقة بالغة قائلاً ان المسافة بعيدة عليك اذا كان إيليا مزمعاً ان يصوم اربعين يوماً (راجع ايل ١٩: ٨) .
وفي برية الصوم حيث صام ربنا اربعين يوماً كانت الملائكة تخدمه (مت ٤: ١١) .
وفي بستان الصلاة الرهيب ، جثيماني حيث كان الرب راكعاً علي الأرض وعرقه يتصبب كقطرات الدم وهو يخدم خلاصنا ويقدم ذاته ذبيحة بخضوع وتسليم مطلق ظهر له ملاك ليقويه (انظر لوقا ٢٢: ٤٣)
وزكريا الكاهن وهو يرفع بخور الصلاة علي مذبح البخور رأي جبرائيل المبشر واقفاً في مكانه التقليدي ” عن يمين مذبح البخور “(لو ١: ١١)
ماذا بعد ؟ تري بوضوح أن خلاصنا الذي أكمله الرب بصليبه مخدوم من الملائكة ومعلوم ان كل مولود من المعمودية تصحب حياته ملائكة النور (صلاة المعمودية) لتخلصه من كل مصادفة رديئة ومن كل سهم شيطاني ومن امر يسلك في الظلمة تحقيقاً لما هو مكتوب انه يوصي ملائكته بك ليحفظونك (مز ٩١: ١١) . وان ملاك الرب يحوط بكل خائفيه ينقذهم وينجيهم (مز ٣٤: ٧) . وقد كان هذا التقليد معروفاً من أيام الكنيسة الأولي كما حدث عند خروج بطرس من السجن قالوا انه ملاكه .
خدمة الملائكة في الضيقات
يرسل الرب ملائكته ليخلص مختاريه من التجارب والضيقات من أجل هذا نطلب معونتهم وشفاعتهم المقبولة لدي الله ، ونطلب مؤازرتهم في وقت الشدة ، والكتاب المقدس مليء بعديد من معونات الملائكة .
فلقد شهد دانيال للملك داريوس قائلاً ” إليه ارسل ملاكه وسد أفواه الأسود فلم تضرني “(دا ٦: ٢١)
وقد ارسل الرب ملاكه وخلص حزقيا الملك وأروشاليم المحاصرة من جيش سنحاريب عندما صلي عنهم إشعياء النبي ، فأهلك الملاك ١٨٥ الف من جيش سنحاريب في ليلة واحدة (أش ٣٧: ٣٦)
وقد قال يعقوب أبو الأسباط وهو يبارك ابني يوسف الملاك الذي انقذني من كل شر يبارك الغلامين ” (تك ٤٨: ١٦) .
يحملون أرواح الصديقين
الملائكة مكلفة أيضاً بحمل أرواح الصديقين إلي المساكن العلوية ” مات لعازر وحملته الملائكة إلي حضن إبراهيم “(لو ١٦: ٢٢) .
ويستحيل أن نضع تحت حصر امكانيات الأرواح المقدسة التي للملائكة الأطهار ومدي العلاقة التي صارت لنا بهم في المسيح يسوع الذي صالح السمائيين مع الأرضيين وجعل الاثنين واحداً .
وقد قالها الرب بوضوح شديد ” من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله صاعدة ونازلة علي ابن الإنسان (يو ١: ٥١) فكيف بعد كل هذا ننكر عليهم قربهم ومؤازرتهم الروحية بالصلاة والأقتدار والعمل الذي يعملونه مع المؤمنين والنعمة التي تنحدر الينا من العلاء بيد الملائكة الأطهار . انها خسارة عظيمة للذين ينعزلون بنفوسهم بعيداً عن الملائكة والقديسين ، ليس في تعاليمهم فقط بل وفي واقع حياتهم صاروا بلا شركة مع الملائكة وبلا قرب من القديسين .
وعلتهم في هذه إنهم يكتفون بالرب وحده ويرددون القول ” لنا شفيع واحد ووسيط واحد بين الله والناس الأنسان يسوع المسيح ” . وواقع الأمر أن المسيح له المجد – كإله ورب الكل – محاط بملائكته وربوات قديسيه فالملائكة تخدمه بلا فتور ويسبحونه بلا انقطاع وهو ممجد ومسبح في جميع قديسيه .
وفي مجيئه الثاني يقول ” ومتي جاء ابن الانسان في مجده وجميع الملائكة معه “(مت ٢٥: ٢١) . فهل يعقل ان نعرف المسيح له المجد وليس لك شركة مع القديسين والملائكة الذين معه ؟!
ما أجمل تعبير الرسول بولس عن كنيسة العهد الجديد حين قال ” لأنكم لم تأتوا إلي جبل ملموس مضطرم بالنار والي ضباب وظلام وزوبعة وهتاف بوق وصوت كلمات استعفي الذين سمعوه ان تزاد لهم كلمة … بل قد أتيتم إلي جبل صهيون وإلي مدينة الله الحي أورشليم السماوية وإلي ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات وإلي الله ديان الجميع وإلي أرواح أبرار مكملين في المجد وإلي وسيط العهد الجديد يسوع (عب ١٢) .
كمال الكنيسة
هذه هي الكنيسة في كمالها وجلالها بيسوع المسيح فاديها وربوات الملائكة وأرواح القديسين الأبرار المكملين والأبكار المختارين من العالم .
ليكن لنا نور وفرح بهذه الشركة المقدسة ولتكن حياتنا مؤازرة بسحابة الشهود المحيطة بنا وليكن خلاصنا مخدوماً من الملائكة الأطهار كل حين حتي نصل إلي ميناء السلام[11].
المتنيح القمص تادرس البراموسي
أما الحنطة فأجمعوها في مخازني( مت ١٣ : ٢٤- ٤٣ )
أراد الرب يسوع أن يدخل الكلمـة في أذهاننـا بشـتى الطـرق بالمعجزات والعظات وبالأمثلة ولم يترك باب إلا وطرقه وقال هكذا أنا على الباب أقرع إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخـل إليـه أتعشى معه وهو معی (رؤ ۳-۲۰) . ما أعجبك يا رب وما أجمـل صوتك حينما يرن في أذني كل يوم وبل كل لحظة يخبرني بأخبار جميلة ييقظني من غفلتي . ويقول كن دائماً حذراً على نفسـك لـئلا تسقط . الأعداء من حولك لكني أنا معك عيني عليك .
يا سـلام يـا إلهي أنا لا أستاهل هذا العطف وهذا الحب . أنا إنسـان غضـود غير محب وغير محتمل أعطى نعمة يا رب لنعيش حسب قصـدك ونعمل حسب ما يرضيك لا تتركني يا رب ولا تتخلـى عنـى تخف أنا الرب حارسك لا أتركك ولا أهملك اليوم يقدم لنـا الرب يسوع مثل حبه الخردل .
الكرازة باسم الرب يسوع والحقل بالخليقة وطيور السماء بالشعوب الأممية فمن هذا المثل يتضح أن مفعـول البشارة بالإنجيل في بدايتها كان قليلاً وضعيفاً جداً لأنه في الكتـاب المقدس ذكر عن الصلب والآلام .
الموت فكل هذا يبعد الضعفاء عن الإيمان بالمسيح خوفاً من الآلام والموت لكنها بالرغم من ذلك نمت وازدهرت وعظم شأنها وانتشرت في كل العالم وكل الممالك حبـه الخردل التي تنمو أكثر من كل الحبوب الأخرى بالرغم من صـغر حجمها .
وخواص الخردل كثيرة منها :
أولاً : أنها صغيرة وإذا نمـت صارت شجرة يستظل تحتها وهكذا البشارة بالإنجيل ،
ثانياً : إن حبـه الخردل لا تنقسم إلى قسمين مدورة وملساء هكـذا البشـارة فهـى صحيحة وغير منشقة مثل باقي الحبوب هكذا الكـرازة بالثـالوث القدوس فإنها تعلمنا أن لها طبيعة واحدة غير منقسمة وكما أن حبه الخردل غير متجزئة هكذا يجب علينا أن لا نتجزأ أو نبعد عن محبة الله ومحبة بعضنا بعضاً ،
ثالثاً : إن حبه الخردل أحـر وأشـد حرارة من النباتات الأخرى هكذا أن المؤمنين يجـب أن يكونوا حارين في الروح ،
رابعا : الذي يسحق الخردل تدمع عيناه هكذا مـن يقاوم البشارة أو يضطهد الخدام سوف يبكى فـى يـوم الدينونـة،
خامسا : إن حبه الخردل تحفظ الجسد مـن النتانـة هكـذا الكرازة بالإنجيل فإنها تبعد عن النفس نتن الخطية .
سادسا : حيـث يـزرع الخردل تباد المزروعات الأخرى وهكذا الكرازة بالإنجيل فإنها تبيد زراعات الهراطقة ،
سابعاً : إن حبه الخردل حمراء فإحمرارها يشير إلى أن المسيحية من يؤمن بها لا يهمه الموت ولا الإستشـهاد ولا سفك الدماء ولا الضيقات ولا الشدائد ،
ثامنـا: إذا أخـتلط الخردل ببعض المأكولات تصل إلى المفاصل وهكذا الكلام عـن الإيمـان يجب أن يدخل إلى أعماق القلوب ، تاسعاً : إن الخردل يهضم الأكـل وينقى الجوف هكذا يجب علينا أن نتنقى من الخطية بواسطة التعب والجهاد وقمع الجسد كما قال بولس الرسول أقمع جسدي وأستعبده كل يوم (١كو ٩ : ٢٧) وبذلك نقدر وننتصر ونقول للرب يسـوع . امسك يدي وقدني كما تشاء وحينما تسير خدنا معك [12].
الملكوت للمتنيح أنبا يؤانس أسقف الغربية ملكوت الله وملكوت السموات .
فكرة الملكوت في العهد القديم .
ملكوت المسيح روحي لا مادى .
ما المقصود بملكوت الله ؟
أمثال المسيح عن الملكوت ودلالتها :
مثل الزارع .
مثل الزوان والحنطة والشبكة المطروحة في البحر .
مثلا حبة الخردل والخميرة .
مثل الفعلة في الكرم .
مثل العرس والمدعوين .
مثلا الكنز المخفى في الحقل واللؤلؤة الكثيرة الثمن .
مثل العذاري .
سعادة الملكوت والحياة الأبدية .
إن التفكير في السماء والشوق إليها كان وما يزال الفكر المحرك لكل القديسين ورجال الله في كل زمان ومكان …. ومجرد تذكار أمجادها ، وما ينتظر القديسين فيها، يعطى دفعة روحية قوية للمجاهدين ، تنسيهم كل أتعابهم … وقد عبر القديس بولس الرسول عن هذا الحنين حينما كتب من سجنه في روما إلى أهل فيلبي يقول : « لى إشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ( في السماء ) ، ذاك أفضل جداً » ( فى ١: ٢٣ ) …
هذا ما دفع القديسين إلى احتمال كل ما صادفهم من ضيقات ومصاعب تجل عن الوصف – ليس فى صبر فقط ، بل بتلذذ … (خفة ضيقتنا الوقتية تنشىء لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً . ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي ترى بل إلى التي لا ترى . لأن التي ترى وقتية ، وأما التى لا تُرى فأبدية ) (۲کو ٤ : ١٧ ، ۱٨ ) … وقبل بولس بأجيال كثيرة قال المرتل : (من لى فى السماء، ومعك لا أريد شيئاً في الأرض) (مز ۷۳ :٢٥).
إن كل من عاش على هذه الأرض كغريب وسائح جاعلاً وجهته الأبدية العنيدة، تذوق مقدماً تلك السعادة الخالدة التي لا توصف …. « ما لم ترعين ، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه » (۱کو ۲ : ٩).
إن التفكير في السماء يقود النفوس فى جهادها لبلوغ حكمة التطويبات إلى ذرى البطولة والكمال …. والشوق إلى السماء يحرر القلب، لا من التعلق بالأرضيات فحسب، بل ومن كل الميول الأرضية والجسدانية .
لقد صلى الرب يسوع قبيل آلامه …. « أيها الآب ، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معى حيث أكون أنا ، لينظروا مجدى الذى أعطيتني لأنك احببتني قبل إنشاء العالم» (يو ١٧ : ٢٤ ) … كانت هذه هى شهوة قلب الرب يسوع من جهة أولاده القديسين … ومازال أولاد الله فى كل آن ومكان يعيشون في غربة حقيقية إلى أن يصلوا وطنهم السماوى …(فإذاً نحن واثقون كل حين وعالمون أننا ونحن مستوطنون في الجسد، فنحن متغربون عن الرب… فنثق ونسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب) (٢ كو ٥ : ٦ – ٨ ) .
ملكوت الله وملكوت السموات :
يفتتح مرقس الإنجيلى بشارته بقوله : ( وبعد ما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله . ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل ) ( مر ۱ : ١٤ ، ١٥ – انظر مت ٤ : ١٧ ) .
و يتكلم متى الإنجيلى عن كرازة يوحنا المعمدان في برية اليهودية ومناداته قائلاً : (توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات ) (مت ٣ : ٢، ٩ : ٣٥).
والرب يسوع المسيح منذ بداية خدمته الجهارية إلى أن رفع على الصليب، استمر يبشر بملكوت الله والتحدث عنه بأمثاله وتعاليمه … ولا نكون مبالغين إن قلنا إن حياة السيد المسيح ورسالته التعليمية قد تركزت حول موضوع «الملكوت » .
وفي العهد الجديد يقابلنا تعبيران عن الملكوت : ملكوت الله (وباليونانية باسيليا توثيئو Basilea Tou Theo ) ، وملكوت السموات ( وباليونانية باسيليا تون أورانون Basilea Toun Oranoun )…
يقول السيد المسيح له المجد لتلاميذه : « قد اعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات » (مت ۱۳ : ۱۱ ) . وفى موضع آخر قال لهم : « لكم قد اعطى أن تعرفوا أسرار ملكوت الله » ( لو ٨: ۱۰) . ومرة ثالثة قال للاثني عشر: «قد اعطى لكم أن تعرفوا سر ملكوت الله » ( مر ٤ : ١١) … وفى ورود هذه الصيغة في الأناجيل الثلاثة يتبين لنا أن «ملكوت الله » و « ملكوت السموات » هما تعبيران لشيء واحد أو مسمى واحد . فهو « ملكوت السموات » بالنسبة لعرش الله في هذا الملكوت ، « فالسماء كرسى الله والأرض موطىء قدميه » ( مت ٥ : ٣٤ ، ٣٥) وهو ملكوت الله على الأرض وحكم السماء فيها . ولعل هذا ما قصد إليه السيد المسيح فى الطلبات الثلاث الأولى فى الصلاة الربية « ليتقدس اسمك . ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض » ( مت ٦ : ٩ ، ١٠).
في الإنجيل بحسب القديس متى يرد تعبیر « ملكوت السموات » حوالى ٣٢ مرة، بينما يرد تعبير «ملكوت الله » ست مرات فقط. وترد كلمة «ملكوت» وحدها خمس مرات … وفي الإنجيلين بحسب القديس مرقس والقديس لوقا لا يرد إلا تعبير «ملكوت الله » . أما يوحنا في إنجيله فلا يذكر سوى «ملكوت الله » في حديث المسيح مع نيقوديموس ( يو ٣: ٣ ، ٥) . وفي سفر أعمال الرسل يرد تعبير ( ملكوت الله » ست مرات ، ولفظ «ملكوت » مرتين .
وفي رسائل القديس بولس يرد تعبير ( ملكوت الله) حوالى ثمان مرات …وفي (١كو ١٥ : ٢٤ ) يذكر بولس أن المسيح يسلم الملك الله الآب … وفي ( أف ٥ : ٥) يذكر تعبير «ملكوت المسيح والله » ، بينما في ( كو ۱ : ۱۳ ) يذكر تعبير «ملكوت ابن محبته ….. ويذكر لفظ ملكوت مرتبطة بالمسيح مرتين في (٢ تی ٤: ۱ ، ۱۸ ) . وفى (عب ۱ :۸) يذكر الرسول الملكوت مرتبطاً بالابن، ويذكر «الملكوت » وحده في عب (۱۲ : ۲۸).
و يذكر يعقوب الرسول( ملكوت الله ) مرة واحدة في ( يع ٢ : ٥ ) . ويذكر القديس بطرس الرسول : «ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدى » ( ۲ بط ١ : ١١) … أما في سفر الرؤيا فيرد تعبير «ملكوت يسوع المسيح » (رؤ ١ : ٩ ) . وفي (رؤ ۱۱ : ١٥ ) يقول : «قد صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه فسيملك إلى أبد الأبدين » . أخيراً في (رؤ ۱۲ : ۱۰ ) يقول : «الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحيه » .
ومما سبق يبرز سؤال : لماذا استخدم القديس متى في إنجيله تعبير «ملكوت السموات » – لا أقول أكثر مما أورده بقية الإنجيليين – بل أكثر مما جاء في كل أسفار العهد الجديد ؟
معلوم ان متى كتب إنجيله لليهود . ويقول علماء الكتاب المقدس إن اليهود اعتادوا في عصورهم المتأخرة قبل مجيء المسيح، ألا يستخدموا اسم الجلالة حفظاً وتقديساً له ، وتطرفاً في فهم الوصية الثالثة من الوصايا العشر « لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً » (خر ۲۰ : ۷) . وبلغ بهم الأمر أنهم ابعدوا الله بتاتاً عن العالم، ونزهوه عن الاتصال بكل ما هو مادى ووضعوا أسماء أخرى لتحل محل اسمه ، ينطقون بها عندما يريدون أن يشيروا إليه … والسيد المسيح في اعترافه أمام رئيس كهنة اليهود ، صادق على استخدام لفظ « المبارك » بدلاً من الله ، وذلك حينما سأله : « أأنت المسيح ابن المبارك» (مر ١٤ : ٦١ ، ٦٢) … وربما يكون السيد المسيح قد اتبع نفس المنهج في مثل الابن الضال حينما يقول لأبيه : « أخطأت إلى السماء وقدامك » ( لو ۱٥ : ۲۱ ) ، إذ أن كلمة « السماء » استخدمت بديلاً عن اسم الجلالة وهو الله .
نعود إلى كلمة « ملكوت » ونقول إن علماء اللغات يقررون أن الكلمة العبرية والآرامية التي تترجم «ملكوت» تعنى حكم الله وسلطانه … بهذا المعنى وردت في العهد القديم في بعض مواضعه . أما في مواضع أخرى فتشير إلى سلطان الله وحكمه في جماعة خاصة به دون بقية الشعوب ، دخل معها في عهد مقدس .
لكن متى بدأ ملكوت الله على الأرض ؟
بدأ هذا الملكوت بصورة ظاهرة فى دعوة الله لإبراهيم بأن يخرج من أور الكلدانيين، ليكون أباً لجمهور من الأمم … وأخذ صورته الرسمية في الأمة الإسرائيلية يوم أخذ بيدهم وأصعدهم من أرض مصر ليكونوا له مملكة كهنة وأمة مقدسة ( خر ١٩ : ٦) . ولذلك فحينما كان السيد المسيح يتكلم عن الملكوت أو ملكوت الله أو ملكوت السموات ، كان سامعوه من اليهود يفهمونه … لكن اليهود كانوا يفهمون الملكوت بصورة مادية . أما الرب يسوع فكان يقصد إلى ناحية روحية خالصة .
وليس هذا فحسب ، بل إن اليهود قصروا الملكوت والتمتع بامتيازاته على نسل إبراهيم حسب الجسد، أما الأمم فقد اقفلوا الباب أمامهم … ولذا فقد كانت صدمتهم شديدة حينما امتدح السيد المسيح إيمان قائد المائة الأممى الذي شفى غلامه بقوله : « الحق أقول لكم ، لم أجد ولا فى إسرائيل إيماناً بمقدار هذا . وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية » (مت ٨: ١٠ -١٢).
فكرة الملكوت في العهد القديم :
كلمة « ملكوت » هى نفس الكلمة بنطقها فى اللغة العبرية Malekuth ، وتعنى مملكة أو حكم …. وترد كلمة ملكوت واحد وتسعين مرة في العهد القديم، وأول ما وردت في ( عدد ٢٤ : ٧) … على أن كلمة «مملكة أو ملكوت » لها أكثر من معنى في العهد القديم. لكن ما يهمنا هنا هو انها تعنى إسرائيل كمملكة الله أو ملكوت الله « وأنتم تكونون لى مملكة كهنة وأمة مقدسة » (خر ١٩: ٦) … ومن خلال داود حكم الله شعبه المختار « ويأمن بيتك ومملكتك إلى الأبد أمامك . كرسيك يكون ثابتاً إلى الأبد» (۲صم ٧: ١٦). وقال داود : « لك يارب العظمة والجبروت والجلال والبهاء والمجد، لأنه لك كل ما فى السماء والأرض . لك يارب الملك وقد ارتفعت رأساً على الجميع» (۱أى ۲۹ : ۱۱ ) .
كان مفهوم اليهود أن « يهوه » هو الذى يملك على إسرائيل … « قال لهم جدعون لا اتسلط أنا عليكم ، ولا يتسلّط ابنى عليكم الرب يتسلط عليكم » (قض٨ :۲۳) … وقال الرب لصموئيل النبى : « اسمع صوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياى رفضوا ، حتى لا أملك عليهم » (اصم ٨: ٧).
كان العقل اليهودي مملوء لدرجة التشبع بعقيدة مجيء المسيا ، حتى أن صلاة اليهود يومياً إلى الله كانت تتضمن فقرة يقولها : ( ليملك ملكوته، ليزدهر فداؤه ، وليأت مسيا ويخلص شعبه )… وكانت غالبية اليهود العظمى تعتقد أن عصر المسيا هو عصر الشيع والبركات المادية …
اعتقد اليهود بحسب تعبير العالم الفريد ادرشيم Alfred Edersheim ( وهو يهودي متنصر) في كتابه القيم عن حياة المسيا : [ ان الأرض ستخرج من ذاتها أجمل الملابس وأفخرها ، وأطيب المأكولات وأشهاها . ينمو القمح حتى يصل إلى ارتفاع النخيل … لا بل إلى قمم الجبال . وعندئذ تحيله الرياح إلى دقيق ، ثم يلقى في الوديان خبزاً ناضجاً شهياً. في ذلك العصر لن تخيب شجرة، بل لابد أن تحمل ثمرها ، وتلقى به كل يوم لتحمل ثمراً جديداً].
كانوا ينتظرون مسياً أو ملكاً مخلصاً يحررهم سياسياً من عبودية الرومان ، ويملك ملكاً أرضياً، ويعيد مملكة داود، ويجعل شعب إسرائيل أعظم شعوب الأرض …. لكن آمالهم خابت لما رأوا المسيح وديعاً متواضعاً، لا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته . يعلم تعليماً ينم عن الضعف – في تصورهم – حينما يقول من لطمك على خدك الأيمن حوّل له الآخر أيضاً !!
لقد امتلأ العهد القديم بالنبوات عن المسيح الملك . وكمثال لها ما جاء في المزمور الثانى « أما أنا فقد مسحت ملكى على صهيون جبل قدسي . اني اخبر من جهة قضاء الرب . قال لى أنت ابنى . أنا اليوم ولدتك . اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك ، وأقاصى الأرض ملكاً لك » ( مز ٢ : ٦ – ٨ ) .
ملكوت المسيح روحي لا مادى :
سبق أن ذكرنا أن اليهود كانوا ينتظرون المسيا ( المسيح ) ملكاً أرضياً يؤسس ملكاً أرضياً … ولعل هذا الفهم هو السبب فى خوف هيرودس الملك اليهودي حالما علم من المجوس عن ولادة ملك اليهود « أين هو المولود ملك اليهود . فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له » ( مت ۲ : ۲ ) .
ويذكر الإنجيل المقدس حادثتين بخصوص نظرة اليهود للمسيح كملك أرضى واهتمامهم بأن يقيموه ملكاً عليهم : الحادثة الأولى بعد معجزة إشباع الألوف من خمسة أرغفة وسمكتين . يقول يوحنا : « فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبى الآتى إلى العالم . وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً ، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده » ( يو ٦ : ١٤ ، ١٥) . والحادثة الثانية يوم أحد الشعانين حين دخل الرب يسوع أورشليم دخول ملك ظافر منتصر. وكان الشعب يهتف وقد فرشوا ثيابهم في الطريق « مبارك الملك الآتى باسم الرب … مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب » ( مر ١١ : ١٠ ؛ لو ۱۹ : ۳۸) …
لكن السيد المسيح رفض هذا الملك الأرضى ، لذا فحينما اقترب من مدينة أورشليم نظر إليها وبكى عليها قائلاً : « انك لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن الآن قد اخفى عن عينيك . فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك ، ولا يتركون فيك حجراً على حجر، لأنك لم تعرفى زمان افتقادي » (لو ١٩: ٤١ -٤٤ ).
ولأن السيد المسيح رفض ملك العالم ، وصدم اليهود فيه لأنه لم يحقق لهم آمالهم الأرضية العالمية على المستوى المادى صرخوا أمام بيلاطس الوالى الروماني الوثني:(ليس لنا ملك إلا قيصر) … وهزأوا بالمسيح والبسوه رداء ارجوانياً – وهو ثوب الملوك ، ثم وضعوا إكليل شوك على رأسه وكأنه تاج الملك، وكانوا يسخرون منه (مت (۲۷؛ یو ۱۹).
ولازال الكثير من المسيحيين يحاربون ويريدون انتصار الكنيسة بالمشاجرة مع أن المسيح يقول لبيلاطس وهو يحكم بصلبه : «لو كانت مملكتى من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكى لا أسلم إلى اليهود. لكن الآن ليست مملكتى من هنا » (يو ١٨ : ٣٦).
لقد جاء السيد المسيح إلى العالم ليؤسس مملكة فيه ، لكنها مملكة روحية دعاها «ملكوت الله » أو «ملكوت السموات»، وهو ملك هذه المملكة الروحية … سأل بيلاطس المسيح : «أفأنت إذا ملك ؟ » أجاب : « أنت تقول إنى ملك . لهذا قد ولدت أنا ، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق » (يو ۱۸ : ۳۷)…
إن مملكة المسيح هى مملكة الحق فى القلب. فقد جاء ليملك على قلوب البشر…والمسيح يملك بالحب وليس بالعنف، لا يرفع سيفاً ولا يعلن حرباً … كان ملكاً بغير سلاح إلا سلاح الروح ، وملكاً بغير قوة سوى قوة الحب !!
قال أحدهم : [ صرخ اليهود قائلين : إن كان هو ( المسيح ) ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به أما نحن فنقول : إننا نؤمن به ونسجد له لأنه رفض أن ينزل عن الصليب حباً لنا ومن أجل فدائنا ] !!
ما المقصود بملكوت الله ؟
ماذا كان المسيح يقصد بتعبير « ملكوت الله » ؟ … لقد غنى المسيح بملكوت الله حالة القداسة والبرارة التي تؤهل البشر للتمتع بنعيم الله الأبدى كنتيجة لملكه على حياتهم …. إن الإنسان ينال عربون الملكوت وهو مازال بالجسد في هذا العالم … وهذا عين ما أوضحه السيد المسيح للفريسيين عندما سألوه : « متى يأتي ملكوت الله » فكان جوابه : « لا يأتى ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك. لأن ها ملكوت الله داخلكم » (لو ۱۷ : ۲۰ ، ۲۱).
كان جواب السيد المسيح عن سؤال الفريسيين من نوع جوابه على نيقوديموس : « إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله … الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله . المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح » (يو ٣ ) …
هذه الإجابات تتلخص في أن ملكوت الله روحى ولا يأتي بمراقبة ، بمعنى أنه ليس شيئاً مادياً يخضع للحدود الجغرافية، ولا يقع تحت حصر البصر، لأنه أوسع من أن يحده مكان « لا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك »…
سبق أن قلنا إن « ملكوت الله » أو « ملكوت السموات » ، هو ملك الله على الأرض أو ملك السماء على الأرض …. والحق إن السماء لم تملك بعد على الأرض حتى الآن …. إنما الذي يملك على الأرض الآن ببطشه وجبروته وطغيانه هو الشيطان «رئيس هذا العالم » ( یو ۱۲ : ٣١؛١٤: ٣٠؛ ١٦ : ١١)… نحن في عالم غريب امتلأ بالأوضاع المقلوبة . فالأشرار فيه يُثابون ، والأبرار يعاقبون، وعباد الله يهانون ، وعباد البعل يكرمون … كم من أبرار في أغلال السجون يرسفون ، وكم من اناس يعيشون في الأرض فساداً في بحبوحة يرتعون … ليس هذا هو حكم السماء على الأرض، إنما هو حكم الشيطان على الأرض. وان يكن هذا يحدث بسماح من الله الذي يسمح بالشر لحكمة يراها … لكن هذا كله إلى حين …. إن السماء تحكم الأرض من خلال الأبرار والقديسين والأتقياء الذين اسلموا حياتهم لله .
من خلال الآيات الكتابية التي وردت في العهد الجديد عن « ملكوت الله » و «ملكوت السموات »، ونلاحظ أنها تؤلف ثلاث حلقات متصلة ببعضها : الحلقة الأولى تصف ملكوت السموات كبذرة في قلب المؤمن، وهو ما يعبر عنه بقول رب المجد : «ها ملكوت الله داخلكم »…والحلقة الثانية تصف الملكوت كشجرة – بعد أن كانت حبة خردل . إنها شجرة وارفة الظلال تأوى تحت ظلها أمم وشعوب الأرض…. والحلقة الثالثة تصف « ملكوت السموات » في طور الكمال كثمرة ناضجة ، اعدت ليتمتع بها المؤمنون في المجد الأبدى ، على نحو ما نراه مدوناً في الاصحاحات الختامية من سفر الرؤيا عن أورشليم الجديدة …. الحلقة الأولى – ملكوت الله أو ملكوت السموات – كبذرة ، هو حالة روحية قلبية. لا شيء فيها يرى أو يلمس …. هو ليس شيئاً مادياً . فملكوت الله ليس أكلاً وشرباً، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس ( رو ١٤ : ١٧).. وملكوت السموات كشجرة يحتاج إلى الصبر على المكاره « إن كنا نصبر فسنملك أيضاً معه » (۲تي ۲ :۱۲) .. أما الحلقة الثالثة وهى ملكوت السموات كثمرة، فإن الله سوف يدخلنا إليه متى نقلنا إلى المجد، فندخل إلى قلب الفرح في السماء، بعد أن دخل فرح السماء إلى قلوبنا …
إن تعبير السيد المسيح « ها ملكوت الله داخلكم » يصف تماماً وبدقة صورة ملكوته الروحي …. لقد بدأ هذا الملكوت في مزود بيت لحم، دون أن يحس به العظماء والأغنياء وحكماء هذا الدهر … وظهر فجأة في الهيكل بأورشليم، ولم يتعرف عليه أحد سوى سمعان الشيخ وحنة بنت فنوئيل النبية (لو ٢ : ٢٥ ، ٣٦) … وبعد ثلاثين سنة من ذلك التاريخ تعرف عليه قلة من صيادي السمك والعشارين في الجليل … لم يكن للحكام وكهنة اليهود ورؤسائهم والكتبة والفريسيين عيون ليبصروه … لقد جاء الملك إلى خاصته، وخاصته لم تقبله … حدث ذلك بينما أعلن اليهود أنهم في انتظار الملكوت … وخطأهم الذي وقعوا فيه أنهم كانوا ينظرون في الإتجاه المضاد … كانوا في انتظار علامات. وكان ملكوت الله في وسطهم، لكنهم لجهلهم وغباوتهم لم يتعرفوا عليه .
وثمة نقطة أخرى نشير إليها … لقد ذكر القديس بولس في ( أف ٥ : ٥ ) « ملكوت المسيح والله » ، ويذكر في (كو ۱ : ۱۳ «ملكوت ابن محبته »،، فماذا كان بولس يعنى بملكوت المسيح ؟
ملكوت المسيح هو ملك المسيح الروحى على قلوب المؤمنين …. لقد تمت هذه الملكية للبشر عندما دفع الرب ثمن نفوسنا على الصليب … لكي يملك إنسان شيئاً عليه أن يدفع الثمن «قد اشتريتم بثمن . فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله » (١كو ٦ : ۲۰) … « قد اشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيداً للناس » (۱کو ۷ :۲۳) … « عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء ، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس ، دم المسيح معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم ، لكن قد اظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم » ( ۱ بط ۱ : ۱۸ – ۲۰ ) .
أمثال المسيح عن الملكوت ودلالتها :
ضرب السيد المسيح عدة أمثال لتوضيح بعض صفات ملكوت الله … ففى الاصحاح الثالث عشر من الإنجيل بحسب القديس متى ، أورد سبعة أمثلة قدمها السيد المسيح عن الملكوت هى مثل الزارع ، والزوان والحنطة، وحبة الخردل، والخميرة التي خمرت العجين كله ، والكنز المخفى فى حقل، واللؤلؤة الكثيرة الثمن، والشبكة المطروحة فى البحر. وفى الأصحاح العشرين يقدم متى مثل الفعلة والكرم. وفى الاصحاح الحادى والعشرين يقدم مثل الكرم والكرامين ثم مثل العرس والمدعوين في الاصحاح الثاني والعشرين وأخيراً مثل العذاري في الاصحاح الخامس والعشرين …
ولا شك أن كل مثل من هذه الأمثلة يوضح لنا بعض ملامح الملكوت أو جوانبه ، أو بعض النواحي الروحية التي يريد ربنا يسوع أن نتحلى بها في حياتنا الشخصية . يضاف إلى ذلك أن بعض أمثلة الملكوت قصد بها المسيح كنيسته المقدسة التي هي مملكته أيضاً وتضم أعضاء جسده السرى غير المنظور… والآن نستعرض بعض هذه الأمثلة ….
( ۱ ) مثل الزارع :
نجد هذا المثل فى ( مت ۱۳ : ۱ – ٩، ۱۸ – ۲۳ ؛ لو ٨ : ٤ – ١٥ ؛مر ٤ : ١ – ٩، ١٣-٢٠).
يوضح هذا المثل مسئولية الإنسان فى أن يملك الله على قلبه … ونلاحظ في هذا أربعة أشياء : الزارع – البذار – التربة – النتيجة …
من جهة الزارع الزرع الجيد هو يسوع المسيح ابن الإنسان ( مت ۱۳ : ۳۷ ) – من جهة البذار هي كلمة الله ، وكلمة الله جيدة وحية وامضى من كل سيف ذى حدين (عب ٤ : ١٢) … تتبقى التربة التي تشير إلى قلب الإنسان … وهذه ترتبط بالنتيجة .
في هذا المثل يوضح رب المجد حرية إرادة الإنسان في قبول كلمة الله . و يشير إلى أربعة أنواع من التربة : ما يشبه الطريق، وما يشبه الأماكن المحجرة، وما يشبه الأرض المليئة بالشوك ، ثم ما يشبه الأرض الجيدة … والقلب الذي يرمز إليه بالتربة هو مسئولية الإنسان … مفروض أن الله خلق الإنسان صالحاً (تك ٩ : ٦ ) . فكيف تحولت التربة الجيدة إلى طريق مداس بالأقدام حتى تبلط. وكيف اهملت التربة الجيدة حتى نبت فيها الشوك. وكيف صارت التربة الجيدة محجرة ؟… لا شك هذا كله هو مسئولية الإنسان …
وفي هذا المجال نلاحظ امكانية تحويل كل نوع من الأنواع الثلاثة الأولى للتربة، إلى تربة جيدة. وهنا نحن نرى فى عصرنا تحويل كثير من الأراضي الرملية الصحراوية والأراضى البور إلى أراضى صالحة للزراعة، وهو ما يسمى باستصلاح الأراضي ….. لكن الأمر في هذا الاستصلاح يحتاج إلى جهد وصبر. وهذا ما عبر عنه رب المجد عن أمثال هؤلاء أنهم « يثمرون بالصبر » ( لو ۸ : ١٥ ) … لا يأس إذن لأي إنسان ، مهما وصلت حالة قلبه من القساوة ، ومهما امتلأ بأحجار العثرات ، وأشواك الشهوات …. في الإمكان أن يتحول بالتوبة وممارساتها إلى أرض جيدة تثمر ثمراً جيداً .
( ۲ ، ۳ ) مثل الزوان والحنطة ، ومثل الشبكة المطروحة في البحر :
(مت١٣: ٢٤-٣٠؛ ٢٦-٤٣) ؛ ( مت ١٣ : ٤٧ – ٥٠ ) .
في مثل الزوان والحنطة ، يقال إن بذرة الزوان شديدة الشبه بحبة الحنطة ، كما أن نبات الزوان وهو بعد صغير يكون شديد الشبه بالحنطة … لذا يصعب في الأطوار الأولى من النمو التمييز بين الحنطة والزوان. ولا يظهر الفارق بينهما جلياً إلا بعد ظهور رؤوس النبات. ولكن في هذه المرحلة المتقدمة من النمو تكون جذور الحنطة والزوان قد تشابكت معاً في باطن التربة، بحيث يتعذر اقتلاع نبات الزوان دون اقتلاع بعض الحنطة معه …
إلى أى شيء يشير كل من الحنطة والزوان في هذا المثل ؟
لا خلاف في أن المقصود بالحنطة هو الأبرار والأتقياء . لكن إلى أي شيء يشير الزوان ؟
الزوان يشير إلى أشرار الناس . وإن كان بعض آباء الكنيسة الكبار كيوحنا ذهبي الفم وأغسطينوس يرون أن الزوان أيضاً رمز للتعليم الفاسد من جهة الإيمان والهراطقة .
ومهما يكن من أمر فإن الحقل فى هذا المثل يشير إلى العالم وليس إلى الكنيسة كما فهم البعض. فالسيد المسيح له المجد يقول صراحة : « الحقل هو العالم . والزرع الجيد هو بنو الملكوت . والزوان هو بنو الشرير » ( مت ۱۳ : ۳۸ ) …
والمقصود بالمثل هو وجود الشر فى العالم كأمر واقع ، واستمرار وجوده بسماح من الله … يجب أن نفهم هذا جيداً ، أننا على هذا الأساس نحيا في العالم ونتعامل مع الناس … الزوان هو بنو الشرير أى الشيطان . قال السيد المسيح لليهود : « أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا » ( يو ٨ : ٤٤ ) .
من الذي زرع الزوان ؟ زرعه عدو ( إبليس ) … كيف ومتى فعل ذلك ؟ فعله « فيما الناس نيام». أى فى حالة غفلة وتهاون وعدم يقظة روحية … إن الملكوت داخل الإنسان يحتاج إلى يقظة … احذر الشيطان ، فلقد زرع ولا يكف عن الزرع فهذا عمله !!
ما هو موقفنا من الزوان ؟ … ليس عملنا أن نقتلع الزوان ، بل النمو، والنمو الدائم. فقد قال رب المجد : « دعوهما ( الحنطة والزوان ) ينميان كلاهما معاً إلى الحصاد » . وفي قوله : «معاً » يعنى الخير إلى جانب الشر… الله يعلمنا أننا فيما نقتلع الزوان يخشى أن نقتلع معه الحنطة …
كثيرون على مر العصور انشغلوا بنزع الزوان . وفيما هم يحاولون ذلك انشغلوا عن الإيجابيات فى حياتهم الخاصة ، فأساءوا إلى أنفسهم وإلى الكنيسة !! الله لا يوافق على استئصال الشر والأشرار رغم بغضه له ولهم ، خوفاً على الخير ومحبيه … لنحذر عند تقليم الأغصان الجافة فى الشجرة أن نقتلها أو نأتي عليها … ورغم فساد كهنة اليهود ومعلميهم من أمثال الكتبة والفريسيين، كان السيد المسيح حريصاً على مهاجمة فسادهم دون الدور الديني الذي كانوا يؤدونه …!!
ونلاحظ في هذا المثل أن العدو بعد أن زرع الزوان « مضى » (مت ۱۳ : ٢٥) ، وذلك حتى لا يُرى … إن أسلوب إبليس في العمل هو التخفى . انه يغير شكله إلى شبه ملاك نور (۲كو ۱۱ : ۱۳ ، ١٤ ) … ثم ان إبليس مضى لأن الزوان لا يحتاج إلى عناية كالزرع الجيد . وكما يقولون : « نبات شيطاني » … إن السقوط لا يحتاج إلى جهد. يكفى أن الإنسان يترك ذاته فيسقط . وأما النهوض والقيام فيحتاج إلى جهد …
سيظل الزوان والحنطة متجاورين فى هذا العالم … سيظل الخير والشر معاً حتى نهاية العالم « إلى الحصاد » . والحصاد هو إنقضاء الدهر … « وخرج ملاك آخر من الهيكل يصرخ بصوت عظيم إلى الجالس على السحابة . ارسل منجلك واحصد ، لأنه قد جاءت الساعة للحصاد، إذ قد يبس حصيد الأرض » ( رؤ ١٤ : ١٥ ) .
هذا عن مثل الزوان والحنطة ، فإذا أتينا إلى مثل الشبكة المطروحة في البحر، نجده يقدم نفس المعنى … « يشبه ملكوت السموات شبكة مطروحة في البحر وجامعة من كل نوع . فلما امتلأت اصعدوها على الشاطىء . وجلسوا وجمعوا الجياد إلى أوعية . وأما الأردياء فطرحوها خارجاً . هكذا يكون في إنقضاء العالم. يخرج الملائكة و يفرزون الأشرار من بين الأبرار. ويطرحونهم في أتون النار…» (مت ١٣ : ٤٧ -٥٠)…
والمعنى كما يوضح المثل ، هو تلازم الخير والشر في العالم حتى إنتهاء هذا الدهر (فالاثنان موجودان في شبكة واحدة). وان الشر لن يستأصل من الأرض قبل اليوم الأخير. سيخالط الأشرار الأبرار في ملكوت الله على الأرض إلى يوم الدينونة …
( ٤ ٥٠ ) مثل حبة الخردل ومثل الخميرة :
( مت ۱۳ : ۳۱ ، ٣٢ ؛ مر ٤ : ۳۰-۳۲؛ لو ۱۳ : ۱۸ ، ۱۹) (مت ۱۳ : ۳۳ ، لو ۱۳ : ۲۰ ، ۲۱) .
في مثل حبة الخردل يقول رب المجد إن إنساناً أخذها « وزرعها في حقله، وهي أصغر جميع البذور. ولكن متى نمت فهى أكبر البقول، وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتى وتتآوى فى أغصانها » (مت ۱۳ : ۳۱ ، ۳۲) .
يقول القديس جيروم إن ملكوت السموات في هذا المثل هو الكرازة بالإنجيل. إن هذا المثل يشير إلى نمو الملكوت وامتداده، فالمسيحية بدأت متواضعة في أعداد قليلة ولكن سرعان ما أن « الذين لم تسمع أصواتهم في كل الأرض خرج منطقهم، وإلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم »… وقد تنبأ عن ذلك دانيال النبي بقوله : « كنت أرى فإذا بشجرة فى وسط الأرض وطولها عظيم. فكبرت الشجرة وقويت فبلغ علوها إلى السماء، ومنظرها إلى أقصى كل الأرض، أوراقها جميلة وثمرها كثير، وفيها طعام للجميع، وتحتها استظل حيوان البر. وفى أغصانها سكنت طيور السماء وطعم منها كل البشر» (دا ٤ : ۱۰-۱۲).
وطيور السماء في هذا المثل ترمز إلى الشعوب الوثنية. وكان هذا التشبيه مألوفاً وشائعاً في كتب الأدب اليهودي في ذلك العصر.
وهكذا فإن مثل حبة الخردل يشير إلى إنتشار المسيحية الخارجي.. ومازالت حبة الخردل التي صارت شجرة كبيرة تمتد بأغصانها رغم تيارات المادية والإلحاد التي تناهضها في بقاع كثيرة من العالم…. لعل المسيح بهذا المثل أراد أن يشجع القطيع الصغير الذى سر الأب أن يعطيهم الملكوت ( لو ۱۲ : ۳۲).
وإذا كان مثل حبة الخردل بشير إلى نمو المسيحية الخارجي وانتشارها، فإن مثل الخميرة يشير إلى عمل المسيحية وفعاليتها بالنعمة في داخل الإنسان….. فالملكوت في هذا المثل يشبه : (خميرة اخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع )(مت۱۳ :۳۳)… والخميرة الموضوعة فى عجين الدقيق تتفاعل من الداخل دون أن ترى ماذا يحدث. كل ما نلاحظه أن العجين يرتفع و يزداد حجمه بفعل الخميرة .
وعلى الرغم من أن الخميرة رمز للشر في الكتاب المقدس (١كو٥ : ١٧ ؛ لو ١٢: ١؛ غل ٥ :٩) ، وحرمت الشريعة الموسوية استخدامها في التقدمات ، باستثناء حالة واحدة وردت في (لا۲۳) : ۱۷) ، وفى عيد الفصح كان اليهود يعزلون الخمير من بيوتهم مدة سبعة أيام، لكن من الممكن استخدام نفس التشبيه للتعبير عن الشر والخير، كل من زاوية خاصة.
فالمسيح له المجد شبه في الكتاب بأسد « هوذا قد غلب الأسد الذى من سبط يهوذا أصل داود» (رؤ ٥ : ٥ ) … والشيطان شبه بأسد زائر يجول ملتمساً ابتلاع المؤمنين (۱بط ٥: ٨) … والمسيح رمز إليه بحية من نحاس رفعها موسى فى البرية (يو ٣ : ١٤) ، بينما الحية هي التي أغوت حواء في البداية. كما أن المسيح طالب اتباعه أن يكونوا حكماء كالحيات …. وهكذا ..
أما عن الثلاثة أكيال دقيق التي خبأت المرأة فيها الخميرة ، فيقول عنها القديس أغسطينوس إنها ترمز لأولاد نوح الذين عمروا الأرض بعد الطوفان . وقال آباء آخرون انها تشير إلى قارات العالم الثلاث المعروفة في العالم القديم وقتئذ . وهكذا يكون المعنى أن الثلاثة أكيال دقيق تشير إلى العالم كله على نحو ما قال السيد المسيح لرسله وتلاميذه: « اذهبوا إلى العالم أجمع. اكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها » (مر١٦ : ١٥).. والعالم أجمع هو الثلاث قارات القديمة (آسيا وأوربا وأفريقيا ) ، والخليقة كلها هم نسل أبناء نوح الثلاثة …
وهناك رأى آخر للقديس جيروم بخصوص الثلاثة أكيال دقيق انها تشير إلى العناصر التي يتكون منها الإنسان وهى الروح والجسد والنفس. وحينما تعمل النعمة فيها يكونون في توافق .. ويقول جيروم أيضاً إن المرأة في هذا المثل تشير إلى الكنيسة والثلاثة أكيال تشير إلى الآب والابن والروح القدس …. هذا ويرى أغسطينوس أيضاً في الثلاثة أكيال الإنسان بكل قلبه وكل نفسه وكل فكره (مت٢٢ : ٣٧ )…
ومهما اختلفت التفسيرات فالمقصود ان رسالة الإنجيل وعمل النعمة أشبه بقوة جديدة مجددة انسابت إلى العالم، وهي كافية لتجديده …..
( ٦ ) مثل الفعلة في الكرم : ( مت ۲۰ : ١ – ١٦ ) .
ويتلخص هذا المثل في أن صاحب كرم خرج صباحاً ليستأجر فعلة لكرمه ، فاتفق معهم على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه . ثم خرج نحو الساعة الثالثة إلى السوق ورأى فعلة آخرين بلا عمل، فاستأجرهم وأرسلهم إلى الكرم. ثم خرج نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل مثل ذلك.
ثم خرج نحو الساعة الحادية عشرة واستأجر آخرين وجدهم بلا عمل. وفى المساء طلب صاحب الكرم إلى وكيله أن يستدعى جميع الفعلة الذين عملوا في الكرم . وابتدأ بالذين أستأجرهم في الساعة الحادية عشرة، وأعطى كلاً منهم ديناراً . فظن الذين عملوا من أول النهار أنهم يأخذون أكثر، لكن صاحب الكرم ساواهم بمن عملوا في الساعة الحادية عشرة، فتذمروا على صاحب الكرم. فقال لواحد منهم : « يا صاحب ما ظلمتك .
أما اتفقت معى على دينار فخذ الذي لك واذهب ، فإنى اريد أن أعطى هذا الأخير مثلك . أو ما يحل لى أن أفعل ما أريد بمالى». وختم الرب يسوع المثل بقوله : « هكذا يكون الآخرون أولين، والأولون آخرين . لأن كثيرين يدعون ، وقليلين ينتخبون » .
يقول العلامة أوريجينوس في تفسيره لهذا المثل إن العالم يشبه بيوم طويل .
أول النهار يمثل الفترة من آدم إلى نوح .
والساعة الثالثة تمثل الفترة من نوح إلى إبراهيم.
والساعة السادسة تمثل الفترة من إبراهيم إلى موسى. والساعة التاسعة تمثل الفترة من موسى المجيء الرب يسوع. ونلاحظ أن السيد المسيح قد ادمج الساعة السادسة مع التاسعة وخرج أيضاً نحو الساعة السادسة والتاسعة » ، لأن في هاتين الساعتين كان يدعو اليهود ويفتقد البشر ليؤسس عهوده، لأن الوقت كان يقترب لخلاص العالم.
والساعة الحادية عشرة تمثل الفترة من مجيء الرب إلى نهاية العالم .
ويقول اوريجينوس أيضاً ، من باكر النهار حتى الساعة التاسعة تمثل الشعب اليهودي . أما الساعة الحادية عشرة فدعى فيها الأمم (لأن المسيح مات على الصليب في الساعة التاسعة ) … إن أصحاب الساعة الحادية عشرة قالوا لصاحب الكرم : « لم يستأجرنا أحد » . أى لم يأتنا أحد الآباء البطاركة (مثل إبراهيم واسحق ويعقوب ) ، أو الأنبياء . إن أحداً لم يكرز لنا طريق الحياة …
إن الكرم هو الكنيسة الجامعة من عصر هابيل الصديق إلى آخر المختارين الذين يولدون في العالم. والله خلال هذه الفترة الطويلة لم يتوقف عن إرسال عمالاً لكرمه ليعلموا شعبه البر. وقد تم ذلك أولاً بالآباء البطاركة ثم بمعلمى الناموس والأنبياء، وأخيراً بواسطة الرسل .
فلما كان المساء بدأ يعطيهم أجرهم … المساء يشير إلى نهاية العالم . ولم يقل صباح اليوم التالي ، لأنه الراحة الأبدية …. أصحاب الساعة الحادية عشرة أخذوا أولاً إشارة إلى الأمم الذين مجدوا الله من أجل الرحمة ( رو ١٥ : ۹) … والرحمة لا ترتبط بالترتيب « أرحم من أرحم وأتراف على من أتراف » ( رو ۹ : ١٥ ) .
ويقول القديس أغسطينوس إن كل واحد أخذ ديناراً بالتساوى . الجميع أخذوا بالتساوى، لأن الملكوت هو نصيب الجميع … لكن كل واحد كان عمله مختلفاً، لأن في بيت أبى منازل كثيرة . ونجم يختلف عن نجم في المجد …
إن الإنسان الذي يخدم المسيح على أساس المعادلات الحسابية وتقدير الوقت والأتعاب والأجور، أو طمعاً فى مجازاة فى هذه الحياة أو الحياة الأخرى … مثل هذا الإنسان لم يفهم روح المسيح . ذلك لأن الخدمة يجب أن تفهم على أنها تؤدى لله وفاء لدين … ثم ان الخدمة المسيحية تؤدى من أجل المحبة .
( ۷ ) مثل العرس والمدعوين : ( مت ٢٢ : ١ – ١٤ ؛ لو ١٤ : ١٦ – ٢٤ ).
يورد القديس متى في إنجيله هذا المثل عن ملك صنع عرساً لابنه . أما القديس لوقا في إنجيله فيورد هذا المثل عن إنسان صنع عشاء عظيماً . وفي كلا الروايتين اعتذر المدعوون عن الحضور …
أما هدف السيد المسيح من هذا المثل فهو وجوب تلبية دعوة الله دون الاحتجاج بأى هموم أو مشغوليات، لأن الدعوة لا تحتمل التسويف ….
في المثل بحسب القديس متى فإن العرس يشير إلى الكنيسة الآن في العالم … أما في لوقا فالعشاء يشير إلى الوليمة الأبدية …. كثيرون في هذا الزمان يحضرون العرس أي يدخلون إلى الكنيسة التى سيتركونها . لكن الذين يدخلون إلى الوليمة الأخيرة فلن يخرجوا منها .
الملك أرسل عبيده أى الأنبياء … لقد أرسل عبيده مرتين . والعبيد في المرة الأولى هم الأنبياء، وفى المرة الثانية هم الرسل … ويرى العلامة أوريجينوس ان العبيد في المرة الثانية هم مجموعة ثانية من الأنبياء ….
أما الملك في هذا المثال فيرمز للآب السماوى . والابن الذى اقيم له العرس هو المسيح . أما العروس فهي الكنيسة . وفي المثل بحسب رواية القديس لوقا ان صاحب الوليمة رأى إنساناً وسط المدعوين ليس عليه ثياب العرس …. فماذا يكون ثياب العرس …؟
لقد فسروا ثياب العرس بالمحبة – وهذا هو رأى أوريجينوس الذي يستند لكلام بولس الرسول : «البسوا كمختارى الله القديسين المحبوبين احشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً ووداعة وطول أناة … وعلى جميع هذه البسوا المحبة التي هي رباط الكمال » (کو ۳ : ۱۲ ، ١٤ ) … وفسروه أيضاً بالإنسان الخاطىء الذي لم يلبس الرب يسوع ( رو ۱۳ : ١٤ ) . أى الخاطىء الذى لم يغير طريقة حياته ويحيا الحياة الجديدة …
هذا الإنسان الذي لم يكن لابساً ثياب العرس ، لما سئل كيف دخل وليس عليه ثياب العرس «سكت » (مت (۲۲ : ۱۲) … والمعنى انه ليس للإنسان عذر أو إجابة يجيب بها عن حياة الخطيئة التي يحياها .
(۸، ۹ )مثل الكنز المُخْفى في حقل ، واللؤلؤة الكثيرة الثمن :
(مت ۱۳ : ٤٤ ) ؛ ( مت ١٣ : ٤٥ ، ٤٦ ) .
ويقصد رب المجد يسوع بهذين المثلين أن الأرض بكل كنوزها والعالم بكل ما فيه لا يوازى الملكوت .
في مثل الكنز المخفى فى حقل يقول ربنا يسوع : « يشبه ملكوت السموات كنزاً مخفى فى حقل ، وجده إنسان فأخفاه، ومن فرحه مضى وباع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل » .
يبتدى الرب يسوع هذا المثل بكلمة « يشبه » ، لأن الملكوت لا شبيه له في عالم المادة. يقول داود مناجياً الله : «ليس لك شبيه في الآلهة يارب ، ولا من يصنع كأعمالك » ( مز ٨٦ : ٨ ) …
الكنز مخفى في حقل – ماذا يكون هذا الحقل ؟
ربما كان هذا الكنز هو الإنجيل على نحو ما يوجد اللبن في الصدر، والنخاع في العظام، والمنّ فى الطل، والماء فى البئر، والشهد فى خلية النحل !! ليس هو في حديقة ذات سور، بل فى حقل مكشوف يمر عليه الناس جيئة وذهاباً كل يوم … فمن يريد الفوز بالكنز فما عليه إلا أن يأتى ويفلح الحقل حتى يجده … من أجل هذا يقول رب المجد يسوع : « فتشوا الكتب ( المقدسة ) لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية ، وهى التي تشهد لى » (يوه : ۳۹) .
ورب قائل يقول لقد قرأت الكتاب المقدس لكنى لم أعثر على هذا الكنز… ولمثل هذا الإنسان نقول إن أغنى المناجم توجد عادة فى الأراضي المجدبة وعلى أعماق سحيقة . فلا تتوقع أن يوجد الكنز على مقربة من سطح الأرض أو بعد عمق يسير. الأمر يحتاج إلى عمق أكثر. وهنا نتذكر كلمات الرب يسوع لسمعان بطرس : « ابعد إلى العمق » (لو ٥ : ٤). كثيرون نظروا إلى السطح، واستخفوا بالإنجيل، لأنهم بطبيعة الحال لم يجدوا شيئاً على السطح. ومن ثم اصدروا حكمهم على هذا الأساس، ان أقوال المسيح لا تفوق تعاليم بوذا وكنفوشيوس !!
وربما كان الحقل الذى يحتوى على الكنز هو العالم الذي نحيا فيه ، فالمسيح قال صراحة فى مثل الزارع : «الحقل هو العالم » (مت ۱۳ : ۳۸) … و يؤيد هذا الرأى قول بولس الرسول عن الله : « لأن أموره غير المنظورة ، ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته حتى انهم بلا عذر »( رو ۱ : ۲۰ ) … فقدرة الله وعظمته وسموه وكثير من صفاته، يمكن التحقق منها بالتأمل في مخلوقاته …. «السموات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه » ( مز ۱۹ : ۱ ) …. حتى أن الطيور والحيوانات والطبيعة الجامدة كلها تسبح الله ( مز ٦٥ ، ٩٦ ، (٩٧ ) …
يمكنك أن تجد الكنز المخفى – وهو الرب يسوع – في شخص رجل فقير يستحق احساناً. ويمكن أن تجده فى إنسان مريض، أو آخر يحتاج إلى كلمة تعزية وهكذا … ألم يقل الرب يسوع : « الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم » (مت ٢٥ : ٤٠ ) ؟!
وذلك الشاب الغنى الذى سأل الرب يسوع عما يفعله ليرث الحياة الأبدية، فكان جوابه عليه أن يذهب و يبيع كل ماله ويعطى الفقراء فيكون له «كنز في السماء » و يتبعه حاملاً الصليب ( مر ۱۰ : ۱۷ – ۲۱) … وعلى هذا الأساس ظهرت الرهبنة في المسيحية .
لكن كيف يكون الكنز والحال هذه مُخفى ؟
نعم مخفى … إذ من يظن أن ذلك الفقير المعدم هو الرب يسوع ؟! ومن يظن ان المسجون هو الرب يسوع ؟! ومن يظن أن المريض والمقعد هو الرب يسوع ؟!… لو سار المجوس بحسب منطق أهل العالم لما اهتدوا إلى الطفل يسوع . وحتى لو اهتدوا إليه لما اهتدوا إلى كنهه وحقيقته … لكنهم وجدوا الملك الإلهي .. أين ؟ وجدوه مضجعاً في مزود تحوطه البهائم في اثمال بالية … لكنهم والحال هذه – ما كذبوا ما رأته عيونهم . ولوقتهم سجدوا له، وقدموا له هداياهم …. من يظن أن ملك الملوك يولد فى مزود للبهائم … أليس هذا كنز مخفی ؟!
هذا الكنز وجده إنسان فأخفاه …
وجدة إنسان – أى إنسان … فالمسيح أتى لأجل الجميع …. لليهودي واليوناني ، والبربرى والسكيثي، والعبد والحر، والجاهل والحكيم …
هذا الإنسان الذي وجد الكنز أخفاه . ولماذا أخفاه ؟!
أمر فرعون مصر القابلات العبرانيات بقتل كل أطفال اليهود الذكور. لكن موسى اخفته أمه ثلاثة شهور، وبذا عاش الطفل …. والفضيلة هي مولود النفس، نحتاج أن نخبئها من فرعون الروحى أى إبليس …. إن الفحم بعد أن يشتعل تعلوه طبقة من الرماد بحيث يخاله الناظر أنه منطفىء. لكن ما أن يقترب منه حتى يحس بالدفء والحرارة … هكذا الإنسان المسيحى يجب أن يحرص على اخفاء كنزه … وهكذا عاش القديسون حياتهم … إن كل مجد ابنة الملك من داخل (مز ٤٥ : ١٣ ) .
« ومن فرحه مضى وباع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل » .
« من فرحه » … هذا يشير إلى الدافع والاشتياق …. كان فرح هذا الإنسان بالكنز أكثر من جميع ممتلكاته … إن القديس بولس بعد أن عدد اتعابه في خدمة الكرازة يقول : « كمائتين وها نحن نحيا ، كمؤدبين ونحن غير مقتولین، گحزاني ونحن دائماً فرحون كفقراء ونحن نغنى كثيرين. كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شیء» (۲کو ٦ : ٤ – ١٠) … وعلى الرغم من أن الإنسان لا شيء له، ولكنه في نفس الوقت يملك كل شيء، لأنه يمتلك الكنز الحقيقي … هذا ما فعله الآباء النساك الذين عاشوا في البرارى والقفار فى حياة تجرد كامل، لكنهم ومع ذلك كانوا يحملون بداخلهم الكنز الحقيقى ربنا يسوع المسيح …
« وباع كل ما كان له » .
ما هذا الذي يبيعه الإنسان لكى يشترى الكنز ؟ … ليس من الضروري أن تكون ممتلكات يبيعها الإنسان، ويوزع ثمنها على المحتاجين لكي يقتني الكنز…. قد لا يكون لدى مالاً ، لكنى أقتنى دموعاً وخشوعاً ومسكنة روحية … هذه كلها وغيرها استطيع أن أشترى بها الكنز… قد ابيع شهواتي الجسدية وكل ما يعوقني عن الحياة مع الله ، بمعنى اتركها … وبهذا اشترى الحقل الذي به الكنز…
هذا الإنسان الذي اكتشف وجود الكنز « مضى وباع كل ما كان له » … إن هذا يشير إلى الخطوات الايجابية فى سبيل اقتناء الكنز… التخلى عن الشهوات . التحلل من كل رباطات الخطية … « ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك » (مت …( مت١٩: ٢٧)…
وماذا بعد هذا لقد اشترى ذلك الإنسان الحقل الذي اكتشف فيه الكنز.. ألم يقل الرسول : «إننا ورثة الله ووارثون مع المسيح » ( رو ۸ : ۱۷ ) ؟!
وعن مثل اللؤلؤة الكثيرة الثمن يقول رب المجد يسوع : « يشبه ملكوت السموات إنساناً تاجراً يطلب لآلىء حسنة فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى وباع كل ما كان له واشترها » .
التاجر في هذا المثل هو نموذج للإنسان الذى يبحث عن المسيح حتى يجده …. ونلاحظ على هذا الإنسان أربعة أمور : أولاً يطلب لآلىء حسنة أي يبحث عنها . ثانياً إنه يجدها – ثالثاً انه يمضى ويبيع ما لديه – رابعاً انه يشتريها …
ربما اختلف هذا الإنسان التاجر الذى يطلب ويبحث عن اللآلىء الحسنة، عن الإنسان الذي وجد الكنز في حقل دون أن يبحث عنه … قد يكون يبحث عن شيء آخر ووجد الكنز. وهو في هذه الحالة مثال للإنسان الذى أعلن له المسيح ذاته دون أن يبحث عنه « وجدت من الذين لم يطلبونى . وصرت ظاهراً للذين لم يسألوا عنى » ( إش ٦٥ : ١ ؛رو ۱۰ : ۲۰) … لكن هذا الإنسان التاجر من طراز أكثر نبلاً ، وله عقلية أسمى …. انه يبحث عن لآلىء حسنة … ونتيجة جده وبحثه ورغبته السامية، وجد اللؤلؤة الكثيرة الثمن …. كان منشغلاً في التفكير والبحث . وكانت طاقاته منصرفة إلى ذلك …
كان لهذا التاجر هدف محدّد : السعى والبحث عن اللآلىء الحسنة والحصول عليها . يجب تحديد الهدف ولا نعرج بين الفرقتين …. إن كان العالم بمغرياته يستحق خدمتك وتعبك فاذهب إليه وكن فى خدمته. وإن كان السيد الرب الذي خلصك يستحق خدمتك فسِر في هذا الطريق …
نحن لا نعرف قيمة هذه اللؤلؤة . كل ما نعرفه انها كانت تساوى كل ما يمتلك ذلك التاجر. ولذا فقد مضى وباع كل ما كان له حتى ما يشتريها …. هذا هو عين ما يحدث حينما يجد إنسان المسيح … لأنه يجد فيه كل احتياجاته …هل هذه مغامرة أن يبيع الإنسان كل ما له ليقتني اللؤلؤة التي ترمز للمسيح … إن الأمر لا يحتاج إلى تردد …
وحين باع ذلك التاجر كل ما كان له ، صار فقيراً في نظر الناس ، والفقر يجلب معه البؤس . لكن الحقيقة انه صار أغنى وأسعد إنسان في الوجود …
( ۱۰ ) مثل العذارى : ( مت ٢٥ : ١ – ١٣ ) .
هذا المثل فى غاية الوضوح ، وهو يختص بمجيء المسيح الثاني …
يقول القديس أغسطينوس إن هذا المثل يختص بالكنيسة كلها – ليس بالاكليروس وحدهم ولا العلمانيين وحدهم، بل الجميع «خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح » (۲کو ۱۱ : ۲ ) . إن العذارى من النفوس التي لها الإيمان السليم، ولها أعمال صالحة فى الكنيسة … ومع ذلك فمنهم خمس حكيمات وخمس جاهلات. فلماذا خمسة، ولماذا عذارى ؟… النفس البشرية يرمز لها بالعدد خمسة، لأنها تستخدم خمس حواس. ولأننا لا ندرك شيئاً إلا بإحدى حواس الجسد الخمسة .
كلا الفريقين عذارى نلن عضوية الكنيسة بالعماد وما إلى ذلك . فلماذا قبلت خمسة منهن، ورفضت الخمسة الأخريات ؟!… ليس كافياً انهن عذاري ، وان لهن مصابيح . هن عذارى بسبب ضبط حواس الجسد من الأشياء غير المشروعة ( الرديئة ) ، ولهن مصابيح بسبب الأعمال الحسنة. هذه الأعمال الصالحة التي يقول عنها الرب : « ليضيء نوركم قدام الناس. ليروا أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السموات » (مت ٥ : ١٦) . « لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسرجكم موقدة . وأنتم مثل اناس ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس، حتى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت » ( لو ۱۲ : ٣٥ ، ٣٦) … فى « الاحقاء الممنطقة » العذراوية ، وفي «المصابيح المضيئة » الأعمال الصالحة قليلون هم عذارى بالجسد، لكن عذراوية القلب يجب أن تكون في الجميع …
يقول أيضاً أغسطينوس : لم يختلف الحكيمات عن الجاهلات إلا في الزيت … إن الزيت يشير إلى المحبة . لماذا يُشار للمحبة بالزيت ؟ قال الرسول عن المحبة انها الطريق الأفضل (۱کو ۱۲ : ۳۱). إن المحبة تشبه بالزيت ، لأن الزيت يطفو على جميع السوائل. إذا صببت زيتاً على ماء فإنه يطفو. وإذا صببت ماء على زيت فالزيت يطفو أى يعلو « المحبة لا تسقط أبداً » (۱کو ۱۳ : ۸) … ويُشَارُ بالزيت أيضاً إلى الروح القدس الذى يعطى استنارة للإنسان في كل حياته ….
« خرجن للقاء العريس » .
المسيح له المجد هو عريس النفس المملوء حلاوة .. تقول عروس النشيد : « اسمك دهن مهراق ، لذلك احبتك العذارى » (نش (٣:١) … ماذا ينتظر العريس من عروسه ؟ … ينتظر أن تكون بكل عواطفها له « اسمعی یا ابنتي و انظری و امیلی سمعك وانس شعبك وكل بيت أبيك ، فإن الملك قد اشتهى حسنك لأنه هو ربك » (مز ٤٥ : ۱۰ ، ۱۱ ) …
« في منتصف الليل صار صراخ » .
لماذا في منتصف الليل ؟ … حين لا يتوقع أحد ، وحين لا يكون على حذر… كثيراً ما نصحنا ربنا يسوع أن نسهر … « ليس لكم أن تعرفوا الأوقات والأزمنة التي جعلها الآب في سلطانه » (أع (۱ :۷) . ويقول معلمنا بولس : «يوم الرب سيأتي كلص في الليل » (۱تس ٢:٥) . واللص لا ينبىء بمقدمه. ولكن في نصف الليل يكون الإنسان قد استغرق في النوم … وإذا كان عمر الإنسان في العالم يشبه بالليل فمنتصف الليل يشير إلى الإنسان في عز شبابه …. فى هذه السن التي لا يتوقع فيها الإنسان أن يخلع الجسد ، ربما أتى المسيح .
« اعطيننا من زيتكن فإن مصابيحنا تنطفىء » .
هذه كلمات الجاهلات. وهذا الطلب مستحيل بعد الموت … وحين تجاوبهن الحكيمات « اذهبن إلى الباعة وابتعن لكن » ، فليس المقصود أن هذا ممكن …
وفى غيبة الجاهلات ، جاء العريس والمستعدات دخلن معه إلى العرس وأغلق الباب. وعبثاً قرعن العذارى الجاهلات الباب بعد اغلاقه … حقيقة أن السيد المسيح قال: «اقرعوا يفتح لكم». لكن هذا الكلام يصلح لزمن الرحمة، في مدة حياة الإنسان بالجسد. لكن في السماء سيكون زمن العدل . ورحمة الله لا تبطل عدله …
ويُسدل الستار على المشهد والعذارى الجاهلات واقفات خارجاً . لقد فقدن كل شيء وانتهى الأمر انه أمر مرعب ومخيف، لأنه يتعلق بالأبدية التي لا نهاية لها . لذا فإن المسيح يختم هذا المثل بنصيحة أخيرة : «اسهروا إذن لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان » …
والسيد المسيح لا يقصد بالسهر هنا سهر الجسد ، وإن كان هذا نافعاً في الممارسات الروحية. لكنه على وجه الخصوص يطالبنا بسهر القلب، وسهر الإيمان، وسهر الرجاء، وسهر المحبة، وسهر الأعمال الحسنة … قالت عروس النشيد : «أنا نائمة وقلبي مستيقظ » (نش ٥: ٢) … نحن الآن في فترة الخطبة، لأننا مخطوبون للمسيح « خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح» (۲كو ۱۱ : ٢) … وفترة الخطبة هي فترة التعرف وتنمية العواطف تهيئة ليوم العرس الذي سيكون في السماء ( لو ١٤ : ١٦ – ٢١ ) .
و يقول القديس يوحنا فى رؤياه : « وسمعت كصوت جمع كثير وكصوت مياه كثيرة وكصوت رعود شديدة قائلة هللويا ، فإنه قد ملك الرب الإله القادر على كل شيء.
لنفرح ونتهلل ونعطه المجد، لأن عرس الخروف قد جاء، وامرأته هيأت نفسها. وأعطيت أن تلبس بزاً نقياً بهياً . لأن البر هو تبررات القديسين. وقال لى اكتب طوبي للمدعوين إلى عشاء عرس الخروف » ( رؤ ۱۹ : ٦ – ٩ ) .
سعادة الملكوت والحياة الأبدية :
وأخيراً ، لا نجد كلاماً نختم به موضوعنا عن الملكوت أروع وأفضل مما قاله القديس أغسطينوس . يقول :
[الحياة الأبدية مشاهدة . هذا ما قاله المسيح ذاته : « وهذه هي الحياة الأبدية ، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته » ( يو ١٧ : ٣) . فالحياة الأبدية هى أن يعرفوا ويشاهدوا ويدركوا ما آمنوا به ، و ينالوا ما لم يكن بوسعهم أن يدركوه . حينئذ يرى العقل ما لم تره العين، ولم تسمعه الأذن، وما لم يخطر على قلب بشر. ثم يسمعون الكلام القائل :
«تعالوا یا مبارکی أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم » ( مت ٢٥ : ٢٤ ) .
سوف نرى الله ، وذاك شيء عظيم يصبح كل ما عداه تافهاً ولا قيمة له البتة. نحن نعتبر أنفسنا ههنا سعداء إذا كنا نعيش بسلام، برغم أن الحصول عليه في هذه الحياة أمر صعب . أما إذا قارنا بين سعادتنا هذه وتلك السعادة العتيدة، كانت هذه بالنسبة إلى الآتية بؤساً وشقاء … ماذا يكون عمل الإنسان هناك ؟ أيسر على قول ما لا يعمل مما يُعمل. وأقول إن استطعت وبقدر ما استطيع .
الفرح في بيت الله أبدى . وفيه عيد لنا لا ينقضى ، بل إلى الأبد مع طغمة الملائكة في رؤية الله وسرور لا يزول … وعيد الإنسان هذا هو من الأعياد التي لا بداية لها ولا نهاية. إذا ابتعد الإنسان عن ضوضاء العالم، تناهى إليه من ذاك العيد الأبدى نغم عذب وشجي .
هناك لا لزوم للفطنة ، إذ لا شر يتحاشاه الإنسان . ولا عدل حيث لا بؤس يجب تخفيفه، ولا اعتدال حيث لا شهوة يكبح لها جماح ، ولا قدرة حيث لا ألم يحتمل .
جميلة هي أعمال الرحمة وجديرة بكل تقدير، ولكن لا فائدة منها حيث لا يفرضها شقاء ملّح . من الذى تطعمه وليس من يجوع . ومن الذي تسقيه وليس من بعطش. وأنى لك أن تكسو العريان وكل الناس يلبسون عدم الموت . وأنى لك أن تأوى غريباً وكل الناس في وطنهم. وأنى لك أن تعود (تزور) المرضى والكل يتمتعون بقوة الطهارة عينها. وأنى لك أن تدفن الموتى وكل الناس أحياء. وأني لك أن تصالح المتخاصمين وكل الناس مسالمون، وأني لك أن تواسي الحزاني وكل الناس في فرح إلى الأبد … وطالما أن جميع أنواع البؤس تنتهى، فإن أعمال الرحمة تنتهى معها . هناك تكون سعيداً لا تحتاج شيئاً ولا تطلب شيئاً. وغناك الوافر سيكون هو الله ذاته …
ستكون سعيداً لأنك لن تحتاج إلى شيء . ستكون مليئاً ولكن من إلهك. وسيكون لك هناك كل ما تتوق إليه ههنا .
ههنا تطلب قوتاً ، وهناك يكون الله قوتاً لك .
ههنا تتوق إلى عناق الجسد ، وهناك « أما أنا فالالتصاق بالله خير لى » (مز ۷۳ : ۲۸) …ههنا تطلب الثروات، أما هناك فهل ينقصك شيء، وقد صار لك صانع كل شيء .
ولكنك تقول : ماذا أعمل ؟ يبدو انه لا عمل لي : لا النظر ولا الحب ولا التسبيح .
إن الأيام المقدسة التى تتلو قيامة الرب ( الخماسين المقدسة ) تعنى حياتنا بعد القيامة .
وكما أن الأربعين يوماً السابقة لعيد الفصح ( القيامة ) تعنى حياة الجهاد في اختبار الموت، هكذا فإن الأيام التالية للفصح (الخماسين) تعنى حياتنا الأخرى في الملك مع الرب.
حياتنا الحاضرة هى كالأربعين يوماً السابقة للفصح ، أما الحياة الممثلة بالخمسين يوماً التي تعقب الفصح فلا وجود لها الآن. ولكننا نرجوها، وبالرجاء نحبها – ونسبح الله بهذا الحب عينه، وقد وعدنا بها ].
السنكسار
مساندة الملائكة للشهداء
شهر توت
وفيه استشهد القديس ديميدس من أهل درشابة من كرسي دنطر ( طنطا ) ، ومان محبا للبيعة عطوفا على المساكين مفتقدا للمرضى ، فظهر له انسان نوراني وأنهضه ، وأمره أن يمضى وينال اكليل الشهادة ، ووعده بجوائز سمائية ففرح جدا وترك أبويه ، وعذب عذابا شديدا وظهر له السيد المسيح ، وعزاه وقواه ووعده بالراحة الأبدية فابتهجت نفسه ونال اكليل الشهادة
وفيه شهادة القديس واسيليدس الذى كان وزيرا ومطهرا لمملكة الروم ، ولكنه ترك منصبه ، بعد أن استولى دقلديانوس على الحكم ، وحينما تقدم واسيليدس الى الملك ، يعرفه بأنه اختار طريق المسيح فنفاه الى أرض مصر ومنها الى الخمس مدن الغربية حيث تعجب واليها ماسورس من تركه مملكته ومجده
وقد أرسل السيد المسيح ملاكه وأصعده بالروح الى السماء وأراه المنازل الروحانية فتعزت نفسه جدا وعذبه ماسورس لقبول المسيحية ولكنه لم يتزعزع عن رأيه وأمر أن يقطع رأسه المقدس ونال اكليل الشهادة
شهر هاتور
وفيه استشهد القديس نهروه من بلاد الفيوم ، الذى لما سمع بأخبار الشهداء ، ذهب الى الأسكندرية ، ليموت على اسم السيد المسيح ، فقيل له في رؤيا لابد لك أن تمضى الى أنطاكية ، وفيما هو يفكر كيف يذهب ، منتظرا سفينة ذاهبة ، أرسل له الرب الملاك ميخائيل فحمله على أجنحته من الأسكندرية الى أنطاكية ، وأوقفه أمام دقلديانوس الملك الوثنى واعترف قدامه بالسيد المسيح ، فسأله عن اسمه وبلده ، ولما عرف طريقة حضوره ، عرض عليه جوائز كثيرة ليرجع عن ايمانه ، فرفض ، فعذبه كثيرا ، وأخيرا قطعوا رأسه بحد السيف ونال اكليل الشهادة
اليوم السادس والعشرون من شهر هاتور
وفى هذا اليوم استشهد القديس بالاريانوس وأخوه من أهل رومية ، وكانا ابنين لوالدين وثنيين ، وقد تزوج بالاريانوس من ابنة رجل من الأكابر اسمها كليكية بارعة الجمال ، وكانت مسيحية فى السر ، وجعلته يؤمن بالسيد المسيح ، واعتمد وعلم أخاه ، فآمن هو أيضا ، وسارا فى الفضيلة سيرا أهله لأن تناجيه الملائكة بما يريد وتخبره بما سيكون من الأسرار
وقد وشى بهما أحد الأشرار لدى حاجب الملك دقلديانوس ، الذى أحضرهما ووعدهما بمواعيد جزيلة ، ان كفروا بالمسيح ، وذبحوا للأوثان فلم ينخدعا ، فهددهما فلم يروعهما ذلك ، وأمر بقطع رأسهما فرأى الحاجب ملائكة يحملون نفسيهما الى السماء فآمن فى الحال بالسيد المسيح ، فحبسوه ثلاثة أيام ، وفى اليوم الرابع أخرجوه ، وقطعوا رأسه مع رأس كيليكية زوجة بالاريانوس
اليوم الثامن والعشرون من شهر هاتور
فى هذا اليوم استشهد سرابامون أسقف نقيوس ، وقد ولد بأورشليم ولما توفى والده ، اشتهى أن يصير مسيحيا ، فظهر له ملاك الرب وأمره أن يمضى الى الأنبا يوحنا أسقف أورشليم ، الذى خاف أن يعمده بسبب اليهود ، فظهرت له العذراء ، وعرفته أن يمضى الى مدينة الأسكندرية ، ويذهب الى القديس ثاؤنا بابا الأسكندرية السادس عشر ، فمضى وصحبه فى طريقه ملاك الرب فى زى انسان ،حتى وصل الى الأسكندرية وقصد البطريرك الذى وعظه وعمده ثم ترهب فى دير الزجاج ثم رسم أسقفا على نقيوس
كيهك
وفى هذا اليوم استشهد القديس بقطر وولد باحدى بلاد أسيوط ، وعين جنديا ببلدة ” شو ” وفى هذه الأثناء صدر مرسوم دقلديانوس بالسجود للأصنام والتبخير لها ، وقد امتنع القديس عن ذلك الأمر وحاول معه والى ” شو ” ولما عجز عن رده عن الايمان المسيحى ، غضب عليه وأرسله الى أمير أسيوط ، الذى حاول معه الا أن القديس صرخ بأعلى صوته : ” العالم يزول والذهب يتغير ، ولذا يجب على أن لا أترك سيدى يسوع المسيح خالق السموات والأرض ” فغضب الوالى وأمر أن يربط خلف الخيل ، وتسرع به فى الصعود الى تربة تسمى ” أبيسيديا ” وهناك عرض عليه ثانية أن يسجد للأصنام فلم يطعه ، فأمر بقتله فى مستوقد حمام قرية موشا فلما ذهبوا به ، طلب من الجند ، أن يدعوه ( يتركوه ) يصلى أولا ، فبسط يديه وصلى الى الرب ، فظهر له ملاك الله ووعده بمواعيد كثيرة وبالخيرات الوفيرة الدائمة فى ملكوت السموات ثم التفت القديس الى الجند ، وقال لهم ، كملوا ما قد أمرتم به فأوثقوه فى مستوقد الحمام ، فنال اكليل الشهادة
في هذا اليوم استشهد القديس ايسى ، وتكلا أخته ، وكان ذا مال كثير ، وزراعة وأغنام ، وكان يتصدق على المساكين بثمن ما يجزه من غنمه وقد اتفق مع صديق له يدعى بولس ، على أن يقوما بإعانة القديسين المسجونين بسبب الاضطهاد ، وقد تنبأ عنهما بعض القديسين بأنهما سينالان اكليل الشهادة
وتقدم ايسى الى الوالى واعترف بالسيد المسيح ، فأمر بتعذيبه بأشد أنواع العذابات ، التى منها أن يعرى ويكتف ويعصر ، ثم تجعل مشاعل نار فى جنبيه وأن يطرح على الأرض ويضرب بالسياط ، وتقطع أعضاؤه ، وكان صابرا على هذا جميعه وكان ملاك الرب يحوط به ويشفى جراحاته ، وكان بولس صديقه يبكى من أجله وظهر ملاك الرب لأخته تكلا وأمرها أن تمضى الى أخيها ، فركبت احدى المراكب فظهرت لها فيها العذراء والدة الاله وأليصابات نسيبتها وجعلتا تعزيانها فى أخيها ، فكانت أليصابات تقول لها أن لى ولدا قد أخذوا رأسه ظلما ، وقالت لها البتول أن لى ولد صلبوه حسدا ، وكانت تكلا لا تعرف من هما
ولما التقت بأخيها واعترفت بالسيد المسيح عذبها الوالى أشد عذاب ثم أسلمها الى ولده ليذهب بهما الى الصعيد ، فلما سارت بهم المركب قليلا سكنت الريح ، فوقفت المركب فأمر أن تؤخذ رأسا أيسى وتكلا أخته ، ويطرحا في الشوك والحلفا ، فكان كذلك ونالا اكليل الشهادة
أما القديس أمونيوس فقد ظهر له ملاك الرب وهو فى البرية وقال له : السلام لك يا أمونيوس ، الرب قبل صلواتك عن شعبك ، وهيأ لك ولشعبك الأكاليل ، فقم وانزل وعظهم أن يثبتوا على الاعتراف بالسيد المسيح وأعطاه السلام وانصرف عنه ، ولما أعلم الشعب بذلك صاح الجميع نحن يا أبانا على استعداد أن نتحمل على اسم السيد المسيح كل عذاب حتى الموت ، فصعد بشعبه كله الى جبل كاتون الذى تأويله جبل الخيرات واحتفلوا هناك بعيد القديس اسحق
أما أريانوس فواصل مسيرته في قتل كل من يجده من المسيحيين ، حتى وصل الى الجبل ، وهناك قابله الشعب بصوت واحد قائلين ، نحن مسيحيون ، فهددهم واذا لم يسمعوا لتهديده أمر جنده أن يستلوا سيوفهم ولا يبقوا على أحد منهم ، وكان الجميع يتقدمون الى السياف قائلين نحن ماضون الى الفرح الدائم في ملكوت السموات
أما الأسقف فانهم قبضوا عليه ، وأحضروه أمام أريانوس فأمر بغضب أن يربط خلف الخيل ثم أخذه معه الى أسوان ووضعوه فى مؤخرة المركب وكان أريانوس يخرجه من حين لآخر يطلب منه أن يبخر للآلهه ، فرفض وأخيرا أمر بحرقه فنال اكليل الشهادة [13]
من وحي قراءات اليوم
” يشبه ملكوت السماوات انسانا زرع زرعا جيدا في حقله… يشبه ملكوت السماوات حبة خردل …يشبه ملكوت السماوات خميرة اخذتها امرأة ” إنجيل القدَّاس
( الملكوت في واقعنا اليومي )
+ أعطي الله أمثال الملكوت من واقع الناس اليومي وأعمالهم وأشغالهم
+ لكي يوضِّح لهم أن الملكوت يمكن أن يعيشوه في حياتهم البسيطة وفِي أي نوع عمل وفِي بيوتهم وفِي كل نواحي وأشكال الحياة
+ لذلك شبّه الملكوت بالفلَّاح ( مثل الزارع والحنطة والزوان ) والتاجر ( مثل اللؤلؤة كثيرة الثمن ) والصياد ( الشبكة المطروحة في البحر ) وراعي الخراف ( الخروف الضال )
+ والمرأة في بيتها ( الخميرة ) والعذارى المُتبتِّلات ( مثل العذارى الحكيمات والجاهلات )
+ أي أن الملكوت لا يخصُّ فئة مُعينة من الناس ولا أماكن معينة ( أديرة أو بيوت الناس )
+ ولا توجد وظائف معينة تتعارض مع حياة الملكوت ( مثل أعذار البعض في البيع والشراء والتجارة )
+ وإذا تكلَّم رب المجد اليوم عن الملكوت كان يُمْكِن أن يُشبِّهه بطبيب ومدرس وعامل في مصنع وممرضة وأستاذ جامعي وعامل نظافة
+ وكان يمكن أن يُشبِّهه بإنترنت وقنوات تليفزيونية وفيس بوك
+ أي أن الملكوت يمكن أن يعلنه أي مكان وأي وظيفة وأي إختراع جديد
+ وكل شئ يتوقف علي الإنسان الذي يُمكنه أن يُعْلِن الملكوت أو أن لا يعلنه
المراجع
٢٢- العلامة أوريجانوس – تفسير عبرانيين ١ – القمص تادرس يعقوب ملطي
٢٣- المرجع : تفسير سفر أيوب ( الإصحاح الأول ) – القمص تادرس يعقوب ملطي
٢٤- كتاب إطلالات علي تراث الأدب القبطي صفحة ١٩٨ – ترجمها عن القبطية الدكتور صموئيل القس قزمان معوض
٢٥- القديس يوحنا ذهبي الفم – تفسير الرسالة إلي العبرانيين ( صفحة ٦٣ ) – ترجمة دكتور سعيد حكيم يعقوب
٢٦- تفسير سفر أعمال الرسل ( الإصحاح الثاني عشر ) – القمص تادرس يعقوب ملطي
٢٧- المرجع : تفسير سفر إرميا ( إصحاح ٥١ ) – القمص تادرس يعقوب ملطي
٢٨- كتاب الكرازة الرسولية للقديس إيرينيوس ( صفحة ١٦٧ ) – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد ودكتور جورج عوض إبراهيم
٢٩- كتاب الملائكة (صفحة ٢٥) – دكتور موريس تاوضروس
٣٠- كتاب دراسات في الكتاب المقدس – إنجيل متي صفحة ١٨١ – الأنبا أثناسيوس – مطران كرسي بني سويف والبهنسا
٣١- المرجع : كتاب السماء ( صفحة ١١٢ ) – الأنبا يؤانس أسقف الغربية
٣٢- كتاب محفل الملائكة وسحابة الشهود ( صفحة ٤٣ ) – القمص لوقا سيداروس
٣٣- المرجع : كتاب تأملات وعناصر روحية في آحاد وأيام السنة التوتية ( الجزء الثالث – صفحة ٤٥ ) – إعداد القمص تادرس البراموسي
٣٤-: كتاب السنكسار ( الجزء الأول صفحات ٢٤ ، ٢٧ ، ٢٨ ، ١١٤ – ١١٨ ، ١٥٥- ١٥٦ ، ١٥٨ – ١٥٩ ، ١٧٢ ، ١٨٠ – ١٨١ ، ٢٠٢ – ٢٠٣ ) – إصدار مكتبة المحبة
٣٥- كتاب بستان الروح الجزء الثالث لنيافة الانبا يؤانس (ص ٢٠٤-٢٣٣)