“لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْبًا، بَلْ هُـوَ بِـرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَـرَحٌ فِي الـرُّوحِ الْقُـدُسِ” (رو١٤: ١٧)
[لكي يكـون لنا جميعاً نحن الآخذيـن منهما إيماناً بغيـر فحص ومحبّة وصبراً، ورجاء وعافية وتجديد للنفس والجسد والروح، ومشاركة سعادة الحياة الأبدية وغفراناً للخطايا] (القدّاس الكيرلسي – الرشومات).
[هـذا الملكـوت هـو نعمة الـروح القـدس الذي يحيا فينا ويدفئنا وينيرنا ويملأ الهواء بهذه الرائحة العطرة ويبهجنا برائحته الذكية ويفـرح قلـوبنا بفـرح لا ينطق به ولا يعبر عنه] (القديس سيرافيـم ساروفسكي)[1]
شـواهـد القــراءات
(ام١١: ١٣- ٢٦)، (اش٦٥: ٨- ١٦)، (اي٤٢: ١- ٦)، (مز٦٢: ١)، (مت٢٠: ٢٠- ٢٨)، (٢كو ٤: ٥- ١٨)، (١يو٣: ١٣- ٢٤)، (اع٢٥: ٢٣- ٢٧ ) ،(اع٢٦: ١- ٦)، (مز١٢١: ١-٢)، (مر١٢: ١٨- ٢٧).
شـرح القــراءات
تتكلّم قـراءات اليـوم عـن حياة الملكوت التي نعيشها في الأرض وفي السماء.
تبدأ أمثال سليمان بإعلان رسم الحياة وصورة الملكوت الـذي نعيشه.
“امرأة شاكرة، الـرجل الـرحيم، يوجـد من يـوزع فيزداد أيضاً، النفس السخية”.
وفي سفر إشعياء يوضّح الفرق بين من يعيشون الملكوت ومن لا يعيشونه.
“هوذا عبيدي يأكلون وأنتم تجوعـون، هوذا عبيدي يشربون وأنتم تعطشون، هوذا عبيدي يفـرحـون فـرحاً وأنتم تحزنـون، هوذا عبيدي يترنمون من طيبة القلب وأنتم تصرخـون من كآبة القلب”.
وفي سفر أيـوب يُسْتَعلن الله لأيـوب ويكتشف أيـوب الفـرق الشاسع لمعرفته السابقة لله وإعلان الله له الآن.
“فأجاب أيـوب الـرب وقال قـد علمت أنك قادر على كل أمر ولا يتعذر عليك أمر… بسمع الأذن قـد سمعت عنك أولاً والآن قـد رأتك عيني”.
وتعلـن النـفس في مزمـور باكـر عن عطشها الشديد لله ملك حياتها.
“يا الله إلهي اليك ابتكـر لان نفسي عطشت اليك”.
ويكشف الـرب في إنجيل باكـر عن المجـد الذي يعيشه أبناء الملكوت مجـد خدمة الآخريـن.
“قـل أن يجلس ابناي أحدهما عـن يمينك والآخر عن يسارك في ملكوتك… بل من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن خادماً لكم، ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً كما أن ابن الانسان لم يأت ليُخـدَم بل ليَخـدِم ويبذل نفسه فـداء عن كثيريـن”.
لذلك يكشف البـولس عن مجـد الملكوت داخلنا وفي قلوبنا وثِقَل المجـد الأبدي المعدّ لنا.
“لأن الله الذي قال أن يشرق نـور من ظلمة هـو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معـرفة مجـد الله في وجه يسوع المسيح، ولنا هذا الكنز في أواني خزفية ليكون فضل القـوة لله لا منا، ولذلك لسنا نفشل بل وإن كان انساننا الخارج يفني فإنساننا الـداخل يتجـدد يوماً فيوماً لأن خفة ضيقتنا الـوقتيه تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجـد أبدي”.
وكما يعلن الكاثوليكـون مدي ماتفعله المحبّة للأخوة في أنّها تنقلنا من الموت للحياة فإنه يحذّر من خطورة البغضة التي تحرمنا من الحياة الأبدية.
“نحن نعلم أننا قد إنتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الأخوة، من لا يحب أخاه يبقى في الموت، فأما من كان له معيشة هذا العالم ويري أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبة الله فيه”.
ويعلن الإبركسيس أن ملكوت العهد الجـديـد هـو تحقيق لـوعـد الله للآباء.
“والآن أنا واقف أحاكم على رجاء الـوعـد الذي صار من الله لآبائنا”.
وفي مزمور القـدّاس تتّجه النفس للكنيسة مكان وأيقونة حياة الملكوت وسبب فرحها.
“فرحت بالقائلين لي إلى بيت الـرب إلهنا نذهب”.
ويختم إنجيل القـدّاس بإعلان طبيعة الملكوت وإختلافه عن الحياة على الأرض.
“لأنهم متى قاموا من الأموات لا يتزوجون ولا يتزّوجن بل يصيرون كملائكة في السموات”.
كما يوضّح أن الذيـن رقـدوا من الأبـرار يتمتّعـون بحياتهـم في السماء.
“أنا إله ابراهيم وإله اسحـق وإله يعقـوب الله ليس إله أموات بل إله أحياء”.
ملخّص القــراءات
سفر الأمثال | الشكر والعطاء صورة الملكوت الذي نعيشه الآن |
سفر إشعياء | الشبع والإرتواء والفرح عطايا الملكوت للمؤمنين |
سفر أيّـوب | الفرق الشاسع بين السماع عن الله وبين رؤيته بعين الإيمان |
مزمور باكر | العطش الشديد للحضور الإلهي |
إنجيل باكـر | خـدمـة الآخرين هى مجـد الملكوت على الأرض |
البـولس | الكنز داخلنا والنور في قلـوبنا والمجـد المعـدّ أبدي |
الكاثوليكـون | المحبّة الأخوية إعلان الملكـوت الـذي نعيشه |
الإبركسيس | الملكوت تحقيق لـوعـد الله للآباء |
مزمور القدّاس | الكنيسة مصدر فـرحنا ومركز ملكوتنا |
إنجيل القدّاس | الذين رقدوا في الإيمان يحيون الحياة الأبدية التي لا تعرف الإحتياجات المادّية. |
الكنيسة في قــراءات اليــوم
إنجيل باكروالبولس | الملكوت والمجـد الأبـدي. |
إنجيل باكـر | ابن الله يبذل نفسه فـداء عـن كثيرين. |
الكاثوليكـون | عطية الـروح. |
مزمور القدّاس | بيت الـرب . |
إنجيل القدّاس | القيامة وطبيعة الحياة في السماء. |
عظات ابائية
شرح القديس كيرلس الأسكندري لإنجيل القدَّاس
اقتربوا من المسيح مخلصنا كلنا، الذي هو الحياة والقيامة، وكانوا يسعون لتحطيم القيامة بكونهم أناسًا متكبرين وغير مؤمنين، إخترعوا قصة مشحونة جهلًا، ونظموا افتراضات جامدة، بها سعوا بطريقة شريرة وعنيفة أن يفسدوا رجاء العالم كله.
نحن نؤكد أن رجاء كل العالم في القيامة من الأموات التي المسيح هو بكرها وأول ثمارها، لذلك إذ يجعل الحكيم بولس قيامتنا تقوم على قيامة السيد يقول: “لأنه إن كان الموتى لا يقومون، فلا يكون المسيح قد قام ” (١كو١٥:١٦)،كما يقدم فكرًا عكسيًا فيقول: “إن كان المسيح يُكرز به أنه قام من الأموات، فكيف يقول قوم بينكم ليس قيامة أموات؟” (١كو ١٥: ١٢). الذين قالوا بهذا هم الصدوقيون الذين نتحدث عنهم الآن.
على أي الأحوال كان سؤال الصدوقيون بلا معنى، السؤال برمته لا يتفق مع الكتب المقدسة الموحى بها، وجاءت إجابة مخلصنا تؤكد تمامًا غباوة قصتهم وتجعلنا نستخف بوهمهم والفكرة التي يقوم عليها هذا الوهم…
قال الله عن الذين رقدوا: “من يدّ القبر أفديهم، من الموت أخلصهم، أين دينونتك يا موت؟ أين شوكتك يا قبر؟” (هو١٣: ١٤). الآن ما يقصده بدينونة الموت وشوكته قد أخبرنا به الطوباوي بولس بقوله: “أما شوكة الموت فهو الخطية، وقوة الخطية هي الناموس (١كو ١٥ : ٥٦) ” ، إذ يقارن الموت بالعقرب، شوكتها هي الخطية وبسمها تقتل النفس. يقول أن الناموس هو قوة الخطية، إذ في موضع آخر يعترض: “بل لم أعرف الخطية إلا بالناموس” (رو ٧ : ٧) ، “إذ حيث ليس ناموس ليس أيضًا تعدٍ” (رو ٤ : ١٥). لهذا السبب يستبعد مؤمنيه من وصاية الناموس الذي يدين ويبطل شوكة الموت التي هي الخطية، فإنه إذ ينزع الخطية بالتبعية يرحل الموت معها، إذ الموت صادر عنها وبسببها جاء إلى العالم.
إذ أعطى الله وعدًا: “من يدّ القبر أفديهم، من الموت أخلصهم“، اتفق الأنبياء الطوباويون مع هذا المرسوم العلوي، فتحدثوا معنا لا برؤيا قلبهم ولا بمشيئة إنسان بل عن فم الله كما هو مكتوب (إر ٢٣ ١٦) إذ يعلن الروح القدس المتكلم فيهم حكم الله وإرادته القديرة غيرالمتغيرة في كل أمر. يحدثنا إشعياء النبي: “تحيا أمواتك، يقوم الذين في القبور، سيبتهج الذين في الأرض، لأن طلك يشفيهم” (إش ٢٦ : ١٩). على ما أعتقد أن الطل هو قوة الروح القدس واهب الحياة، أو تلك الفاعلية التي تبطل الموت، الصادرة عن الله والحياة.
يقول أيضًا داود الطوباوي في المزامير عن الذين على الأرض: “تأخذ روحهم فيموتون وإلى ترابهم يعودون. ترسل روحك فتخلقهم وتجدد وجه الأرض “ (مز ١٠٤ : ٢٩). ألم تسمع عن عمل الروح القدس ونعمته واهبة الحياة، هذا الذي سيجدد وجه الأرض؟ فإنه يقصد بوجه الأرض جمالها ، وبجمال طبيعة البشر عدم الفساد، إذ قيل: “يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد، يزرع في هوان ويقام مجد، يزرع في ضعف ويقام في قوة” (١كو ١٥ : ٤٢ – ٤٣). مرة أخرى يؤكد لنا إشعياء النبي أن الموت الذي دخل بسبب الخطية لا يستعيد قوته على سكان الأرض أبدياً ، إنما يبطل خلال قيامة المسيح من الأموات، حيث يجدد المسكنة، ويردها إلى ما كانت عليه، كما هو مكتوب: “خلق الله كل شيء في عدم فساد” (حك ١ : ٤) ، قائلًا: “يُبلع الموت إلى الأبد، ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه، وينزع عار شعبه عن كل الأرض“ (إش ٢٥ : ٨). عار الشعب هو الخطية، إذ تُنزع يبطل الموت ويرحل الفساد من وسط الشعب، وإذ ينتهي الموت تُنزع دموع كل أحد ويتوقف النحيب ، فلا توجد علة بعد للبشر من جهة البكاء والنحيب.
هكذا لدينا الكثير من الأسانيد في تفنيد جحود اليهود، لكننا لننظر إلى ما قاله لهم المسيح: حقًا إن أبناء هذا العالم الذين يعيشون الحياةالجسدانية العالمية مليئة بالشهوات من أجل الإنجاب، لذا يزوَّجون ويزوَّجون، أما الذين يبلغون الحياة المختارة المكرمة والحاملة كل سمو والمتأهلة للقيامة المجيدة العجيبة فبالضرورة تفوق حياة البشر في هذا العالم. إنهم يعيشون في حضرة الله كقديسين، يصيرون مساوين للملائكة، أبناء الله. إذ تُنزع عنهم كل شهوة جسدية ولا يكون للذة الجسد موضع فيهم بل يتشبهون بالملائكة القديسين يمارسون الخدمة الروحية لا المادية كأرواح مقدسة، وفي نفس الوقت يتأهلون لمجدٍ كذاك الذي يتمتع به الملائكة.
برهن المخلص على جهل الصدوقيين المطّبق، مقدمًا لهم موسى معلمهم الديني كمعلم بالقيامة من الأموات بطريقة واضحة تمامًا، إذ يقدم لنا الله القائل في العليقة: “أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب“. إله من هو أن كان هؤلاء – كما يظنون – لا يعيشون بعد؟ إنه إله أحياء،لذلك سيقومون عندما تجلبهم يمين الله القدير، ليس وحدهم بل وكل الذين هم على الأرض. عدم الإيمان بهذا يليق بجهل الصدوقيين، لا بمحبي المسيح. أما نحن فنؤمن بالقائل: “أنا هو القيامة والحياة” (يو ١١ : ٢٥) ، هذا الذي يقيم الأموات: “في لحظة، في طرفة عين عندالبوق الأخير، فإنه سيبوق، فيُقام الأموات عديمي الفساد ونحن نتغير” (١كو ١٥ : ٥٢). سيغيرنا مخلصنا كلنا إلى عدم الفساد، إلى المجد والحياة غير الفاسدة، هذا الذي به وله المجد والحمد والسلطان مع الله الآب والروح القدس إلى أبد الأبد، آمين.[2]
عظات اباء وخدام معاصرون :
لماذا تضل أيها الإنسان ؟ لقداسة البابا تواضروس
يوم الخميس من الأسبوع السابع لقداسة البابا تواضروس مر (١٢: ١٨ – ٢٧)
هذا الفصل من الكتاب المقدس هو إنجيل قداس يوم الخميس من الأسبوع السابع من الصوم المقدس ، وفترة الصوم هي جهاد روحي ، لذا يجب على الإنسان أن يكشف نفسه ويعرف حقيقته ، لذلك نجد أن أكثر وسيلة تساعد الإنسان على ذلك هو السؤال ، وسؤال اليوم مبني على قصة افتراضية وليست حقيقية ، وتقول القصة أن مجموعة من الصدوقيين وهم طائفة يهودية ولكنها لا تؤمن بالقيامة ، أرادوا أن يضعوا فخاً للسيد المسيح فقالوا له : “كتـب لنا موسى : إن مات لأحد أخ وترك امـرأة ولـم يخلف أولاداً أن يأخذ أخـوه امرأته ويقيم نسلاً لأخيه . فكان سبعة إخوة . أخذ الأول امرأة ومات ولم يترك نسلاً . فأخذها الثاني ومات ولم يترك هو أيضاً نسلاً . وهكذا الثالث. فأخذها السبعة ولم يتركوا نسلاً . وآخر الكل ماتت المرأة أيضاً . ففي القيامة متى قاموا لمـن منهم تكون زوجـة ؟ لأنهـا كانـت زوجـة للسبعة ” (مر ۱۲ : ۱۹ ـ ٢۳)؛ وهنـا كـان الـفـخ فـهـم لا يؤمنـون بالقيامة وسؤالهم للمسيح لمن من السبعة تكون زوجة ؟ أجاب السيد المسيح وقال لهم : “أليس لهـذا تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله ؟” (مر١٢ : ٢٤). وابتدأ يشرح لهم أنه في الحياة الأبدية لا توجد روابط جسدية على الإطلاق.
من خلال هذه القصة يطرح علينا سؤال اليوم : ” لماذا تضل أيها الإنسان ؟”. هناك سببان لضلال الإنسان :
+ السبب الأول : الجـهل :
يقـول السيد المسيح : “أليس لهـذا تضلون إذ لا تعرفون الكتـب ولا قوة اللـه ؟” (مر۱۲: ٢٤)، هذا الجهل هو نتيجة لعدم القراءة أو عدم الفهم ، أو تكون معرفة الشخص ملوثة ومنحطة ، يقـول الكتاب المقدس : “هلـك شـعبـي مـن عـدم المعرفة” (هـو٤ : ٦) ويقـول القديس أوغسطينوس : “الكتاب المقدس هـو فـم المسيح “، أمـا القـديس جيروم فيقول : “إن جهلنا بالكتاب المقدس هو جهلنا بالمسيح” . إذا أول سبب يقـود الإنسان إلى الضلال هو الجهل ، وأحياناً يكون الجهل بتشجيع من عدو الخير (الشيطان)، حتى أن الكتاب المقدس يسميه عدة مسميات منها “المخادع”، فهو مخادع من الدرجة الأولى .
+ السبب الثاني : الشـك :
الشـك هـو أحـد الأسلحة القويـة فـي يـد عـدو الخير، فالشيطان هـو صـاحب التشكيك ومصدره الأول ، ويكفي أن نعرف أن العالم رغم تقدمه إلا أن حركة الإلحاد في نمو ، والإلحاد هو الشك في وجود الله وعمله وحضوره ، وقد نجح الشيطان فـي أن يوقع بالكثيرين إلى أن وصلوا إلى ما يعرف “بعبادة الشيطان”. احذرأيهـا الحبيـب مـن حـروب التشكيك ، وكيف يستخدمها الشيطان ببراعة ، ومن وسائل التشكيك التي يستخدمها الشيطان هو أنه يطرح أسئلة سخيفة ، وأحياناً يفترض افتراضات شبه مستحيلة مثل ما هو مطروح في قصة إنجيل اليوم ، وقد يختلق الشيطان أوضـاع شـاذة ، وأحياناً يوقـع بالإنسـان فـي أسـئلة مثـل المتاهـات كمـا فـعـل الصدوقيون في قصة اليوم ، كل غرض الشيطان أنه يضيع الإنسان ويجعله يشك في كل شيء .
قد نتذكر توما أحد تلاميذ السيد المسيح ، والذي نسميه “توما الشكاك” فهـو فـي وقت من الأوقات بعد قيامة المسيح شك في القيامة ؛ لأنه لم يكن موجوداً مع التلاميذ وقت ظهور المسيح لهم بعد القيامة ، بالرغم من أنهم وصفوا له كل آثار التعذيب التي تعرض لها المسيح وواضحة على جسده ، ولكنه لم يصدقهم بل أصر على وضـع يـده فـي مكان المسامير والحربة كي يصدق ، ولذلك نسمع عن تومـا أنـه كـان آخـر مـن آمـن بقيامة المسيح ، ولكنـه أول مـن صـرخ صرخته اللاهوتيـة عـنـدمـا قـال : “ربـي وإلهـي ” (یو ۲۰ : ۲۸)، فقال له السيد المسيح : “طوبى للذين آمنوا ولم يروا” (يو۲۰ : ۲۹). أريدك أن تعرف أيها الحبيب أن السماء روحيـة ، فالله روح بسيط ، والروحيات لا تُوصف بالجسديات ، فعندما اختطف بولس الرسول إلى السماء وسألوه مـاذا رأيـت ؟ صمت قليلا ثم قال : “ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان : ما أعده الله للذين يحبونه ” (۱کو ۲ : ۹).
ولم يستطع القديس بولس الرسول أن يصف السماء بكـل مـا بـه مـن علـم وبلاغة وفلسفة ؛ لأن السماء روحيـة والحياة فيها روحية ، ولا يوجد فيها أي نـوع مـن الـروابط الأرضية والجسدية ، ولا يوجد فيها ممارسات الأرض ، ولا الممارسات الزمنية .
- قصة
ذات يوم كان هناك رجل يحيا فـي قبيلـة مـن قبائل أكلي لحوم البشر ، وقد عرف المسيح وآمن به وبدأ يقرأ في الكتاب المقدس ليلاً ونهاراً ، حتى أن الإنجيـل بـدأ يهذب من طباعه ، وصار إنساناً هادئاً وديعاً متواضعاً ، مر عليه أحد أفراد القبيلة وابتدأ يسخر منه ويشككه ، فإذ بالرجل المؤمن وهـو يـقـرأ الإنجيـل يـقـول له : ” لولا تعليم هذا الكتاب لأكلتك الآن ، ولكن تعاليم المسيحية تجعلني أحبك “.
أسلوب الشك هو الأسلوب الحاضر اليوم في العالم كله ، ليس فقط في المسائل الروحية ، ولكنه موجود في حياة الشعوب وحياة الدول ، والإلحاد الذي يزداد في العالم هو أكبر دليل على بذرة الشك التي يطرحها عدو الخير فـي قلـوب البشر ، ولذلك إنجيل اليوم يوجه لنا سؤالا هو : “لماذا تضل أيها الإنسان ؟”.
+ أسباب ضلال الإنسان :
١- إرادة ضعيفة :
هناك من تكون إرادته ضعيفة أمام بعض الأمور التي قد تكون خاطئة ، ولا توجد تقوية للإرادة الضعيفة أمام الخطية سوى الصوم ، دائماً تصلي فـي قسمة الصوم الكبير ونقول : “الصوم والصلاة هما اللذان يخرجان الشياطين”. فى الأصوام تكون هناك فترة انقطاعية وهي التي تقوي إرادة الإنسان ، يلحقها فترة نباتية (الطعام النباتي) على اعتبار ضـرورة تغذية الجسم بطاقة محدودة هادئـة مـن خلالها يستطيع الإنسان أن يمارس حياته ومسئولياته اليومية ، والطعام النباتي هـو الذي يذكرنا بالفردوس ، فكأن فترة كل يوم الخاصة بالصوم هي التي تقوي إرادتـي التي تقف أمام الطعام ومـا هـو متاح ، وهذا الكلام ينطبق على كل الأصوام وخاصة الأصوام الأسبوعية (الأربعاء والجمعة) التي تساعد الإنسان على أن يقوي إرادته . إذا إن كانت إرادتك ضعيفة فعلاجك هو الصوم ، وإن كانت معرفتك ضعيفة أوضئيلة فالعلاج يبـدأ مـن الكتاب المقدس والقراءة المستمرة والمنتظمـة فـي إنجيلك يومياً ، حيث يقول الكتاب : “إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله ؟” (مر١٢ : ٢٤). مجرد القراءة فيهـا قـوة الله ، فالقراءة اليومية والتي تكون بـوعي وبتركيز ، هـذه القراءة تمنحك قوة ، فالكتاب المقدس موحى بـه مـن الله ، وكلمة “وحي” أحد معانيها ” أنفاس الله”، فكأنك في كل مرة تفتح إنجيلك تشتم أنفاس الله ، وبالتالي تنال قوة خاصة .
۲ـ رؤيـة عاجـزة :
صدر مقرا إذا كان لديك رؤية عاجزة فهذا يعني أن عينيك لا ترى سوى التراب والأرضيات ، ولا تـرى السموات ؛ لأن عدو الخير يلعـب فـي ذهـن الإنسـان مـن خـلال الشك ، ويكـون العـلاج لهذه الرؤيـة العـاجزة هـي صـلواتك ، ولذلك الكنيسـة مـن خـلال الصلوات والتسابيح والألحان وكتب : الخولاجي والإبصلمودية والأجبية ، وجميع الكتـب عـلـى تنوعها ، تهدف إلى الهدف الواحد وهو أن تفتح رؤية الإنسان .
ذات مرة جاء إلى المسيح شخص مجنون وأعمى وأخرس ، يقول لنا الكتاب : “حينئذ أحضر إليـه مجنـون أعمى وأخـرس فشفاه ” (مت۱۲ : ۲۲)، ومجنون بمعنى أنه إنسان لا يستطيع أن يفكـر فـي الله ، وأعمى أي أنه لا يقدر أن يرى الله ، أمـا أخـرس فمعناه أنه لا يمكنه أن يتكلم مـع الله ، وهـذه هـي أفعـال الخطيـة والشيطان ، فالشيطان هدفه الأساسـي أنـه يحـرم الإنسـان مـن السماء سواء بالجهل أو بالشك أو بالأفكار المتعبة أو بالانشغالات أكثر من اللازم …
ليس أمامك سوى الصلاة إذا كان لديك رؤية عاجزة ، صلواتك التي ترفعها متعـددة فـي التقليد المسيحي ، فهناك الصلاة السهمية وهـي عبـارة قصيرة نكررهـا باستمرار في كل الأوقات “يا ربي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ”، وسميت السهمية
لأنها مثل السهم في محاربة عدو الخير .
٣- صحبـة باهتة :
ويقصـد بهـا الأصحاب المتعبين لك أو أصحاب السـوء ، وقـد يتولد عنهـا معرفة خاطئة وعلاقات رديئة وأفكار شريرة ، فإذا كان هذا هو ضعفك والسبب في ضلالك فأنصحك بصحبة مقدسة من خلال سير القديسين ، فالكنيسة من عظمتها تقرأ علينا السنكسار يومياً ، وفي تقليد الكنائس الغربية كل يوم له اسم قديس . استبدل هذه الصحبة الشريرة أو الباهتة بصحبة مقدسة ، فمـا أروع ومـا أشـهى قراءة سير القديسين ؛ لأنهـا تجعـل قلبـك دائمـا حـاضـراً ، وتجعلـك مـشـبـع بحيـاة القداسة ، وتتمتع بحراسة هؤلاء القديسين الذين تقرأ سيرهم ، فلا يستطيع عدو الخير أن يقوى عليك .
٤ـ رغبـة محـدودة :
إن كانـت رغبتـك محـدودة فعلاجهـا هـي الخدمة ، خدمـة الآخـريـن بـأي شـكل ، فالخدمات تتعدد أشكالها وصـورها ، فوجـودك وانتمائـك لخدمـة الآخـرين يساعدك باستمرار على أن تكون دائماً منتبـه ولا يستطيع عدو الخير أن يقـوى عليـك ، فأنـت مشغول دائما بالخدمة وباحتياجاتها ، هناك أناس كثيرون يتعرضون لضيقات وليس لهم أحد أن يذكرهم مثل : ” دور المسنين ، بيوت ذوي الاحتياجات الخاصة ، بيوت ضيافة الأطفال المعوزين ، ….”
من فضلك إذا كانت رغبتك الروحية قليلة ، وليس لديك شهية في الروحيات ، أنصحك بـأن تتجه لخدمـة الآخـريـن وابحـث عـنهم بنفسـك وسـوف تجـد شهيتك جيدة .
نـحـن تصـلـي فـي أوشية القرابين ونقـول : “أعطهم الباقيات عوضـاً عـن الفانيـات السمائيات عوض الأرضيات ، الأبديات عوض الزمنيات”، وهذه هي شهوة قلوبنا .
أيهـا الحبيـب احترس مـن الشـك والجهل والضعف بصفة عامـة ، إن كـان فـي إرادتك أو معرفتك أو فـي صحبتك أو فـي شهيتك ، والكتاب المقدس يقـول : “أليس لهذا تضلون ، إذ تعرفون الكتب ولا قوة الله ؟ ” (مر١٢ : ٢٤) .
لا تنس أن معرفتك بالإنجيـل تجعلك دائماً واعياً ، وعدو الخير يبتعـد عنـك ، حتى أن السيد المسيح كان يجيب على الشيطان في التجربة على الجبـل فـي كـل موقـف كـان يـقـول : “مكتوب لـيس بـالخبز وحـده … ، مكتـوب لـلـرب إلهك تسجد …. مكتوب لا تُجرب الرب إلهك “، وهذا مكتوب بالكلمة المقدسة والوصية المقدسة .
فليعطنا مسيحنا يا أحبائي أن تكون حياتنا منتبهة واعية لمحاربات عدو الخير، وحروب التشكيك التي يقع فيها الكثيرون اليوم .
لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد. آمين.[3]
شرح إنجيل القداس للموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد
عدد ١٨ “الصدوقيين”: هم جماعة يهودية ينتسبون إلى صادوق رئيس الكهنة أيام سليمان، وجاءوا إلى المسيح ليجربوه أيضا، وكانوا لا يؤمنون بقيامة الأموات. وقد حرص القديس مرقس أن يشير إلى عقيدتهم، حتى نفهم سبب سؤالهم التالي، والذي لا يخلو من سخرية من القيامة، ويكشف فهمهم المادي المحدود للحياة الأبدية.
عدد ١٩ “كتب.. موسى”: أي في شريعة الناموس (تث ٢٥: ٥-٦)، أنه إذا مات المتزوج قبل أن ينجب، فعلى أخيه أن يتزوج بأرملة المتوفى، ويسجل أول ابن باسم المتوفى، حتى لا يزول اسمه من سبطه ولا يضيع ميراثه.
(عدد٢٠ – ٢٣) عرض الصّدّوقيّون سؤالهم الجدلى بغرض فحص المسيح، وإغاظة الفرّيسيّين، والتهكم على فكرة القيامة، في أنه لمن من الأزواج السبعة تكون زوجةً؟! راجع شرح (مت٢٢: ٢٣ -٣٣).
(عدد ٢٤ ، ٢٥) جاءت إجابة المسيح لهم موبخة، إذ واجههم بانحراف إيمانهم، وأرجع السبب في ذلك لانصرافهم عن شريعة الله بالجدل العقلى، والاستهانة بقوة وقدرة الله على قيامة الأموات، ووضح لهم في (ع٢٥) أنه لا زواج جسدي في القيامة، بل تكون الأجساد روحانية نورانية كأجساد الملائكة، فلا حاجة هناك هناك للتكاثر أو التناسل.
(عدد ٢٦ ، ٢٧) يعود السيد المسيح للتأكيد على عقيدة قيامة الأموات، ويقدم دليلا من الكتاب المقدس، فيذكر للصدوقيين الحديث الذي دار بين الله وبين موسى في سيناء، عند العليقة (خر٦:٣ ،١٦)، وكيف قدم الله نفسه لموسى، إذ قال إنه إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وليس من المعقول أن ينسب الله نفسه لأموات، بل لأحياء. وختم المسيح حديثه كما بدأه معهم بأنهم انحرفوا عن الإيمان برفضهم لحقيقة القيامة من بين الأموات.
† إلهي الحبيب… إن القيامة والأبدية حقيقة نؤمن بها، ولكنها كثيرًا ما تغيب عن قلوبنا، فننشغل بالعالم الفانى، وننسى ما هو باقٍ لنا… أعطنا يا رب أن نهتم “بالباقيات عوض الفانيات، والأبديات عوض الزمنيات” كما تعلّمنا الكنيسة أن نصلي في أوشية الراقدين [4]
المراجع
[1]– الكتاب الشهري عدد سبتمبر 1997 – بيت التكريس.
[2] – تفسير إنجيل مرقس ( الإصحاح الثاني عشر ) – القمص تادرس يعقوب ملطي
[3] – كتاب إختبرني يا الله صفحة ٣٧٤ – قداسة البابا تواضروس الثاني
[4] – الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد ( إنجيل مرقس الإصحاح الثاني عشر ) – كنيسة مار مرقص بمصر الجديدة