أحد أبـوة الآب (الرفـاع)

 

 

“اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ!” (١يو ٣ : ١)

“إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا الآبُ».” (رو ٨: ١٥)

[ياالله الذي يدبّر أعمالنا بحكمة، ما هذه الرأفة كلها، وما هذا الإهتمام العظيم الذي لأبوتك وما هذه اللجّة التي لصلاحك] (صلاة شكر بعد التناول – القـدّاس الكيرلسي)

[يا للإحسان الفائق! يا للطف المنقطع النظير واللائق به وحده، إنه يخلع علينا مجده الخاص، إنه يرفع العبيد إلى كرامة الأحرار، إنه يسمح لنا أن ندعـو الله أبا لنا بصفتنا قـد ارتقينا إلى طقس البنين] (القـديس كيرلس الكبير)[1]

شــواهــد القــراءات

مزمور عشية (مز ٤٦ : ١٠)، إنجيل عشية (مر ١١ : ٢٢-٢٦)، مزمور باكر (مز ١٠٠: ١-٢)، إنجيل باكر (لو ١٧: ٣-١٠)، (٢كو ١١: ١٦-٢٨)، (٢بط ١:١-١١)، (أع ٢١ :١٥-٢٦) مزمور القداس (مز ٢ : ١١) ، إنجيل القـدّاس (مت ٦: ١-١٨)

شــرح القـــراءات

تستهل قــراءات الصـوم المقـدس بأهـم إعلان يعلنه الله عـن نفسه وتبـرزه وتركز عليه الكنيسة المقـدسة وهـو “أبـوة الله الآب”.

فأبوة الله هى الدافع لتدبيره الإلهي لخلاصنا كبشر وهى حجـر زاوية علاقتنا اليومية به وهى شهوة عبادتنا وصومنا وصلواتنا وإعلان خدمتنا وعنوانها.

فأي عبادة تقـدم لله خارج الإحساس بأبوته، وخارج روح البنين تصير بلا قيمة، بل وتجعل الإنسان يحيا في إفتخار كاذب، وعبادة شكلية وتعالٍ على الآخريـن، وبــر ذاتي مميت، فـنحـن لا نعبد الله عن إقـتـدار، بل عن احتياج لمحبته وغفـرانه وبـرّه الإلهي.

لذلك تتركــز قــراءات هـذا الأحــد على الأبـوة الإلهية للبشر.

يبدأ مـزمـور عشية بالكلام عن سموّ الله، عن جهالات البشر وعلوّ فكره عن أفكار الشعوب.

“ثابروا واعلموا إني أنا هـو الله، أرتفع في الأمم وأتعالى على الأرض” فالله هنا لا يتعالى ولا يرتفع عن واقعنا وآلامنا وإحتياجاتنا، بل عن ضعفنا وتفكيرنا، فمحبته أكبر من ضعفاتنا وتدبير محبته فوق إدراكنا المحدود، ويسمو حبّه الإلهي فـوق كل جهالات البشر.

ويعلن إنجيل عشية قيمة إيمان أبناء الله، وقوة وفاعلية صلواتهم التي تنقل الجبال، لكنه يشترط أيضاً من الأبناء الغفـران لأخوتهم، فنحن أبناء حقيقيين بتمتّعنا بأبوته وتمسّكنا بالمحبة الأخـويــة.

“لأني الحق أقـول لكم إن من يقـول لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحـر ولا يشك في قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون فإنه يكون له، ومتى قمتم للصلاة فاغفـروا لمن لكم عليه لكي يغفـر لكم أيضا أبـوكم الـذي في السموات زلاتكــم”.

ويـوضّح مزمور باكـر ما يميّـز عبادة البنين عـن الأجـراء والعبيد، فالعبادة بفـرح وتهليل، لا لأجل هـدف معين أو طمعاً في عطية، أو خوفا من عقـوبة، لكن حباً في الآب ورعايته والإنتساب له. “أعبـدوا الـرب بالفـرح وأدخلـوا أمامه بالتهليـل لأننا نحـن شعبه وغنـم رعيتـه”.

ويؤكد إنجيل باكـر على ما جاء في إنجيل عشية، فالغفـران للإخـوة وإتّساع القلب والإيمان بالمستحيلات يعلـن بنوّتنا الحقيقية للآب.

“وإ ن أخطأ إليك أخوك فوبخه، وإن تاب فاغفـر له، وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم ورجع إليك سبع مرات قائلاً أنا تائب فاغفر له، فقال الـرب لو كان لكم إيمان مثل حبّة الخـردل لكنتم تقـولـون لهذه الجمّيزة انقلعي وانغرسي في البحر فتطيعكم”.

لكنه في ذات الوقـت ينفي أي إحساس بالإستحقاق لأبـوّة الآب، فأعمالنا ما هى إلا رد الفعل الطبيعي لأبوته ومحبته التي لانستحقها.

“وكذلك أنتم أيضا متى فعلتم جميع ما أمرتم به فقـولـوا إنَّا عبيد بطّالون إنما فعلنا ما كان يجب علينا فعله”.

أما البولس فيقـدم إعلان الكنيسة عـن أبـوة الآب ممثّلة في رعاتها بالأبـوة في الكنيسة تختلف تمامـا عـن السيادة في العالـم لذلك يلخّص الرسول سيادة العالم في كلمات قليلة. “لأنكم تحتملون من يستعبدكم ومن يأكلكم ومن يأخـذ منكم ومن يتكبر عليكم ومن يضربكم على وجوهكم”.

أما الأبـوّة في الكنيسة فهى إحتمال الأتعاب والآلام، والسهر والدموع والأنيـن والصلاة الدائمة، والإهتمام بالكل وفـرح لـرجـوع البعيدين.

“أخدّام المسيح هم فأقـول كمختلّ العقـل إني في ذلك أفضل منهم، أنا في الأتعاب أكثر، وفي الضربات أوفر، في التعب والكدّ والأسهار الكثيرة، والجوع والعطش والأصوام الكثيرة والبـرد والعـري، وماعـدا هـذه التي هي من خارج ما يتراكم عليَّ كل يـوم من الإهتمام بجميع الكنائس”.

بينما الكاثوليكـون فيعلـن عطايا الآب للأبناء ومسؤوليات الأبناء تجاه أبيهم، فعطاياه لنا فائقة يعجـز عن إدراكها النطق البشري.

“إذ أن قـدرته الإلهية قـد وهبت لنا كل ما يؤول إلى الحياة والتقـوى بمعرفة الذي دعانا بمجـده وفضيلته اللذان بهما قـد وهب لنا المواعيـد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية”.

لكنّه في ذات الوقـت يطلب إجتهاد الأبناء.

“فأضيفـوا أنتم إلى ذلك عينه كل الاجتهاد لتزيـدوا على إيمانكم الفضيلة، وفي الفضيلة المعرفـة، وفي المعرفة تعففاً، وفي التعفـف صبراً، وفي الصبر تقـوى وفي التقـوى مودّة أخوية، وفي المودّة الأخـويّة محبة”.

ويعلـن الإبركسيس أهـم إعلانات العهـد الجديـد “أبوّة الله للأمم” التي إستعلنت في خلاص المسيح له المجـد وأصبح موضوع كـرازة الكنيسة.

“فبعد ما سلّم عليهم طفـق يقـصّ عليهم شيئاً فشيئاً بكل مافعله الله بين الأمم بواسطة خدمته فلما سمعوا كانوا يمجـدون الله، وأما من جهة الذين آمنوا من الأمم فأرسلنا نحـن إليهم وحكمنا أن يحافظوا على أنفسهم مما ذبح للأصنام ومن الدم والمخنوق والزنا”.

ويـركـز مزمور القـداس على مخافــة الله في حيـاة الأبنـاء وسلطان الآب على الشعـوب، فالعبادة بفــرح في مزمور باكـر تكمل بالخشوع والمهابة في مزمـور القـدّاس.

“أعبدوا الـرب بخشية وهللوا له برعـدة فالآن أيها الملوك افهموا وتأدبوا ياجميع قضاة الأرض”.

ويختـم إنجيـل القـداس بإعلان الكلمة المتجسد عـن أبـوة الآب في هـذا الجـزء من الموعظة على الجبل، فيـذكـر الإنجيل كلمة أبانا وأبوكـم وأبيك عشر مرات في هذا الإنجيل للتأكيد على أبـوته الإلهية لنا التي هى جوهـر العبادة، وسموّ العلاقة وشهوة وفـرحة البنين وإعلان الكنيسة.

“وأما أنت فمتى صلّيت فادخل إلى مخـدعـك واغلق عليك بابك وصلّ إلى أبيك الذي في الخفاء وأبوك الذي يرى في الخفاء هـو يجازيك علانية، فصلّوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السموات…. لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الـذي في الخفاء وأبـوك الـذي يـرى في الخفاء هـو يجازيك علانية”.

فالعطاء في الخفاء، والصلاة بالـروح، والصوم بفـرح، علامات عبادة البنيـن.

 

ملخّص القـــراءات

مزمور عشية أبـوة الآب تسمو وتـرتفع فــوق كل جهالات وقساوة البشر.
إنجيــل عشية وبـــــــــــاكر الآب يعطي للأبناء قـوة الإيمان التي تنقـل الجبال إذا وثقـوا فيه دون شك وإمتلأ قلبهـم بالغفـران.
مزمور بـاكر والقــــــــدّاس عبادة البنيـن هى عبادة الفــرح والتهليـل مع الخشوع والمهابة.
البـــــــــولس أبـوة الآب تعلن في الكنيسة المقدّسة في تعب الــرعـاة وبذلهم وسهرهم ورعايتهم للكل.
الكاثـوليكــون عطايا الآب فائقة تجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية.
الإبـركسيــس أبوته تحتضن الكل يهوداً وأمماً.
إنجيل القدّاس العطاء في الخفاء والصلاة بالـروح والصوم بفـرح علامات عبادة البنيـن.

 

 

الأنجيل في فكر آباء الكنيسة الأوائل[2]

“بما أن كلًّا مِن الأنانية والفضيلة تتعارضان معا ، فلا يمكن أن تتعايشا معاً بإرتياح داخل النفس البشرية.” (أوريجانوس).”كون العطية تعطي في العلن أَو في السر فهذا يتوقف على  النية الداخلية.” (ذهبي الفم).”ينبغي ألّا  نصوّت بالبوق لِمَا نفعله؛ لأن ذلك يعدّ سمة مَنْ  يفِكر بالقيام بأي عمل إلهي انتظارًا للمديح البشري.” (كروماتيُس).”إن السعي وراء المجد البشري لا يؤتي جزاءه إلّا مِن الناس فقط  (هيلاري).”ينبغي لعطائك الصامت أنْ يُخفى عن  اليد التي بها يعطَى.” (كروماتيُس).”مَن يعمل بالبر لا يحتاج لطلب المديح مِن أحد.” (أوغسطينوس).”متى صلّيت، دع كل شيء جانبًا كما لو أنك قد صرت محاطًا بجوقات مِن الملائكة، وصرت مع السارافيم مرنِّما.” ( ذهبي الفم).”إنْ كان أحد جادًّا في تقواه فإنه يوجه نظره نحو مَن له قوة المعونة وحده، مبدّدًا كل المزاعم الأخرى.” (ذهبي الفم).”تأتي مكافأة المراؤون مِن هؤلاء الذين منهم يشتهون الحصول علي المكافأة.” (ذهبي الفم).”هم لا يقدمون صلواتهم بلْ لله الحاضر في كل مكان الذي يسمعهم حتى قبْل أنْ ينطقوا، إذ هو يعلم بما في القلب مِن خفايا.” (ذهبي الفم).”كل مِن حنّة ودانيال وكرنيليوس ويونان يعدّون بمثابة نماذج إنجيلية لكل مَن أتمّ العمل بالوصايا حسب تعاليم هذا الإنجيل، الذين صلّوا في الخفاء وقد سمع الرب صلواتهم.” (كروماتيُس).

“نحن لا نصلّي لمجرَّد أن نعَّرف الله أو نخبره بما نحتاج ، بلْ لنكون مجتهدين في الطلبة، ولتقوى علاقتنا به، ولكي نتضع ونذكر آثامنا أمامه.” (ذهبي الفم).

“إننا مدعوّون ومطالَبون بأنْ نكون قدّام الله أمناء أمانة العشّار الذي إذ اعترف بخطاياه خرج مبرّرًا أكثر مِن الفريسي المتعالي بذاته.” (كروماتيُس).

 

ايضا صلاة ابانا الذي في فكر اباء الكنيسة

أبانا

علم يسوع تلاميذه كيف يصلون (العلامة اوريجانوس). بتعليمه تلاميذه أن يخاطبوا الله كأب، يضعهم يسوع فى نفس العلاقة التى له مع الله، وهذه حظوة ومسؤلية (القديس كيرلس الأسكندرى). فى كل (مواضع) الإنجيل، سيلاحظ التلاميذ علاقة يسوع مع الله الآب وسيدركون انهم أولاد لله من خلال إبن الله وأن كل الصلوات للآب دائما ماتكون من خلال الإبن(العلامة أوريجانوس).

يتضرع يسوع للأب أولا بخصوص من هو الله — إسمه — عمله — سلطانه كملك — يعلم يسوع تلاميذه أن يتعاملوا مع إسم الله كإسم مقدس بمخاطبة الله كأب أن يتقدس إسمه بيننا، واثقين أنه سيستجيب بنعمته من أجل إبنه. القديسون فقط يستطيعون أن يصلوا “ليأتى ملكوتك” لأن الأشرار لايريدون ملك (حكم) الله بينما هم لايزالون فى خطاياهم. أن تصلى أن تسرى مشيئة الله على الأرض كما هى فى السماء هو أن تصلى من أجل الحياة النقية الخالية من الملامة كحياة القديسين فى السماء الذين يسكنون فى القداسة فى حضرة الله (القديس كيرلس الأسكندرى). فى الحقيقة، أن تصلى من أجل ملكوت الله هو أن تصلى من أجل نفسك كواحد من القديسين الذين يقطنون فى الملكوت (القديس أوغسطينوس).

أن تصلى من أجل الخبز هو أن تصلى من أجل فقر القديسين وليس من أجل الغنى (الثراء)، لأن المحتاجين فقط هم الذين يصلون هذا الطلب. إن هذاه الطلبة تحتوى التقوى السرية آلتى تؤدى إلى عدة تفاسير ولكنها تتركز فى الخبز الضروري والكافي (القديس مار إفرايم السرياني). عندما نصلى من أجل الخبز، نحن نصلى من أجل المسيح خبزنا، حيث أن المسيح هو الحياة، والحياة خبز ،ألم يقل المسيح “أنا هو خبز الحياة”. (العلامة ترتليان).

غفران الخطايا، الطلبة التى تلى الصلاة من أجل الخبز فى الصلاة الربانية، تعطى توازنا للصلاة من أجل الخبز. أن نغفر الخطايا هو تمثل بالله (محاكاة الله)الذى يعطينا الحل (الغفران) من كل آثامنا (القديس كيرلس الإسكندرى). أن تغفر الخطية هو ان تخدم الله الذى خدمنا بغفران خطايانا (العلامة أوريجانوس). المجرب هو الشيطان، وليس الرب، كما وضح فى تجارب الشيطان ليسوع فى البرية (العلامة ترتليان). القديس لوقا (فى إنجيله) لم يشمل طلبة نجنا من الشر، لأن أن ننجو من التجربة هو نفسه أن ننجو من الشر (القديس كيرلس الأسكندرى).

قواعد الضيافة فى القرن الأول اقتضت ان يقوم المجتمع بضيافة الضيف القادم فى منتصف الليل. يتكلم يسوع عن ضيافة الله، الذى هو، مهما كانت الظروف، كريم ومعطاء، يوفر مانحتاجه، لأن الله أكثر فضلا مما يستطيع أى إنسان (القديس أوغسطينوس). الخبزات الثلاث تمثل التغذية التى نتلقاها من الله فى الأسرار الإلاهية. (القديس أمبروز)

كمانح للعطايا الجيدة والنعم، يعدنا الله بقسم أنه سيستجيب لصلواتنا إذا سألنا، طلبنا وقرعنا ولكن دائما بحسب توقيته (القديس كيرلس الأسكندرى). السمكة، البيضة، والخبز تمثل العطايا الإنعامية الجيدة وهى الإيمان، الرجاء والمحبة التى يعطيها الآب السمائى إلى أولاده على الأرض (القديس أوغسطينوس). عندما نصلى ينبغى أن نطلب هذه العطايا التى تأتى من الروح (القدس) وليس الأشياء التى تضر جسدنا أو نفسنا، لأن الآب يريد أن يمنحنا العطايا الجيدة التى تجعلنا مقدسين وبلالوم مع القديسين والملائكة المقدسين (القديس كيرلس الأسكندرى).[3]

 

الكنيسـة في قـــراءات اليـوم

  • النعمة والجهاد “إذ أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل مايؤول إلي الحياة والتقـوى فأضيفـوا أنتـم إلى ذلك عينه كل الإجتهاد لتـزيـدوا على إيمانكم الفضيلة” (الكاثوليكون)
  • قبول الأمـم للإيمان وقـرار مجمع أورشليم فيما يخصّهم “وأما من جهة الذيـن آمنوا من الأمم فأرسلنا نحـن إليهم وحكمنا أن يحافظوا على أنفسهم مما ذبح للأصنام ومن الـدم والمخنوق والـزنا” (الإبركسيس)
  • الصدقة والصلاة والصوم “متى صنعت صدقة… متى صمتم… متى صليتم…” (إنجيل القـدّاس)
  • الصلوات المحفوظـة الصلاة الربانيّة (إنجيل القـدّاس)

 

 

أفكـار مقـتــرحـــــة للعـظـات

(١) أنـواع العلاقـة مع الله وعبادات البشر

  • عبادة العبد: هى عبادة الخوف وإنتظار العقوبة بعد كل خطية، ومحاولة فعل أي شئ للنجاة من غضبه، فيصير الصوم والصلاة وكافة أنـواع العبادة يسودها الخوف من إله غاضب قاسي يقف للإنسان بالمرصاد.
  • عبادة الأجير: هى عبادة المصلحة والإستفادة، وعلى قـدر نـوال الإنسان عطايا مادّية، على قـدر صومه وصلواته، وتفتر العبادة وقت التجارب والعـوز والضيقـات.
  • عبادة الابن : هى عبادة الحب التي لا ترضى بشئ إلا بالشركة معه، وأهم طلباتهم اليومية والأساسية كيف ينمون في الحب الإلهي، وكيف يُستَعلن شخصه فيهم، وكيف يشرق نوره في قلـوبهم، وكيف تتنقي حياتهم من أي خطية، وكيف يقبلـون بفـرح ورضى كل تـدبيراته في حياتهــم.

(٢) الغفــران

  • مصدر الغفـران: النعمة الإلهية وفعـل الـروح فينا، فلا يقـدر أحد أن يغفـر بدون قـوة وعمل نعمة الـروح القـدس في قلبه، لا ننشغل بمدي إساءات الآخريـن لنا، لكن ننشغل بمدى إمتلاءنا داخليا من سكيب الـروح وغناه، النعمة تعمل إذا توفـرت الإرادة المخلصة والصلاة الـدائمة.
  • مكان الغفـران: القلب

الغـفــران دليل ملء الـروح في كياننا الداخلي، الغفـران لا يتعارض مع وضع حدود للتعامل مع البعض لكنه يتعارض مع وضع حدود للحب والصلاة لأجلهم، الغفـران مدخل أساسي لإستجابة صلواتنا ويعطي قـوة ونعمة لصلواتنا كأبناء الآب.

  • مجـد الغفـران: إعلان نـور الآب فينا والشهادة لمحبته:
  • مقابلة الخير بالشر فعل شيطاني.
  • مقابلة الشر بالشر فعل حيواني.
  • مقابلة الخير بالخير فعل إنساني.
  • مقابلة الشر بالخير فعل مسيحي.

(٣)  أبوة الآب لنا

  • معني أبوته لنا:

“لا يتعامل حسب خطايانا بل حسب محبته وتدبيره الصالح لخلاصنا، يسمو حبّه الإلهي فوق كل جهالاتنا وقساوتنا” (مزمور عشية).

  • عطايا أبـوته:

“يعطي الجميع بسخاء ولا يعير، قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل مايؤول إلى الحياة والتقوى  لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية” (الكاثوليكون).

  • إتّساع أبـوته:

“طفـق يقـص عليهم شيئاً فشيئاً بكل ما فعله الله بين الأمم بواسطة خدمته.” (الإبركسيس).

  • خالـق الكل مخلّص الجميع (القدّاس الغريغوري)
  • مجـد وإستعلان أبوته فينا: 

الغفـران للآخريـن (إنجيل عشية وباكر والقـدّاس)، الإيمان الذي ينقـل الجبال (إنجيل عشية وباكر)، العبادة التي يمتزج فيها الفـرح بالـوقـار والخشوع (مزمور باكـر والقـدّاس).

(٤) ابني الذي..

  • إبني الذي أترجَّاه ← الخلق

عند تكوين أسرة صغيرة جديدة يترجَّي الزوجين طفلاً من الله (إبن أو إبنة)، وكم يكون حزنهم إذا تأخَّر الإنجاب سنوات، وكم تزداد حيرتهم وألمهم إذا كانوا أغنياء وتعبوا سنين العمر ليُعِدُّوا ميراثاً لأبنائهم الذين يترجونهم من الله،

وإذا سألنا الزوجين (أو الأب والأم بعد إنجابهما الأطفال): ماذا تريدون منهم؟ سيقولون لا شيء، عندنا حب كبير لهم نريد أن نعطيهم إياه، ويتمتَّعوا بما نملكه الذي هو ميراثهم.

وهذا هو ما فعله الله في الخلق، فقد أوجد كل شيء من العدم لأجل الإنسان الذي خلقه بعد كل شيء ليفرح بالخليقة، ويعمل في الجنة ويحفظها (تك٢: ١٥)، ويدعو الكائنات بأسمائها فيكون إسمها.

 

وهذا هو ما عبَّر عنه القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات في القداس الغريغوري:

قدوس قدوس أنت أيها الرب، وقدوس في كل شيء، وبالأكثر مختار هو نور جوهريتك، وغير موصوفة هي قوة حكمتك وليس شيء من النطق يستطيع أن يحُدَّ عمق محبتك للبشر، خلقتني إنسانًا كمحب للبشر، ولم تكن أنت محتاجًا إلى عبوديتي بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك، من أجل تعطفاتك الجزيلة كونتني إذ لم أكُن، أقمت السماء لي سقفًا، وثبتَّ لي الأرض لأمشي عليها، من أجلي ألجمت البحر، من أجلي أظهرت طبيعة الحيوان، أخضعت كل شيء تحت قدمي، لم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك، أنت الذي جبلتني ووضعت يدك عليَّ، ورسمت فيَّ صورة سلطانك ووضعت في موهبة النطق، وفتحت ليَّ الفردوس لأتنعم وأعطيتني علم معرفتك، أظهرت لي شجرة الحياة وعرفتني شوكة الموت”.

وكما قال أحدهم: كل طفل يولد يحمل رسالة أن الله لم ييأس بعد من الإنسان،

ومازال ميلاد أطفال يعلن المحبَّة الأبدية والرحمة الدائمة (ار٣١: ٣) من الله للبشرية.

وكما قال القديس غريغوريوس أن الله لا يحتاج عبادتنا (بمعنى أنها لا تُضيف إليه شيء)، لكننا نحتاج ربوبيته، ولذلك نفهم هدف خلق الإنسان أن يتمتَّع الإنسان بمجد الله ومحبته.

  • إبني الذي أُربِّيه ← الوصية

وجود وصايا وقوانين لكل بيت أمر مهم جدَّا في تربية الأولاد، وهذه الوصايا لا توجد فقط في بيوت المسيحيين أو المؤمنين، لكنها توجد أيضاً بصورة أخرى ولهدف آخر في بيوت غير المؤمنين والملحدين.

فنظام مواعيد الأكل والنوم، وما يليق وما لا يليق، وطريقة الحوار اليومي، وحتى كيف يُعبِّرون عن مشاعرهم وغضبهم، كل هذا يوجد تقريباً في كل بيت يترجي تربية جيدة لأبنائه، بصرف النظر عن الهدف الذي يختلف من أسرة مسيحية إلى أسرة غير مسيحية.

وإذا وُجدِت شخصية مضطربة في حياتها، وترتيب وقتها، وأولوياتها، وعلاقتها بالآخرين، ومواجهة الحياة، تعرف خروجها من بيت إفتقر للنظام والوصية.

كما أنه لا تخلو أسرة (مؤمنة أو غير مؤمنة) من أشكال التأديب لأبنائهم حسب إستحسان الآباء ولأجل مصلحة الأبناء (عب١٢: ١٠).

وهذا هو هدف الوصيَّة الإلهية خلاصنا وبنياننا ونمونا، وأيضاً هدف تأديباته لنا في الحياة أن نصير قديسين (عب١٢: ١٠)، فالذي يأتي بثمر ينقيه ليأتي بثمر أكثر (يو١٥: ٢)، والذي يخضع لكلمته يجد نفعها في تقويمه وتأديبه في البر لكي يكون إنساناً كاملاً (٢تي٣ : ١٦- ١٧).

  • إبني الذي يشهد لي ← الرسالة

ما أعظمه فرح وفخر للآباء عندما يرون نجاح أبنائهم في الحياة في كل شيء (٣يو١: ٢)، وعندما ينتظرون لحظة إستقلالهم عنهم بإرادة حُرَّة فيحملوا إسم العائلة ومجده، كلُّ في عمله ورسالته وموقعه، وعندما يكون إسم العائلة مُرْتبط بالعطاء تجد الأبناء (مُدرسين، وأطباء، ومهندسين، وعُمَّال، وحرفيين  … الخ ) حياتهم مملوءة بالعطاء للجميع.

وهكذا يريد الله لأبنائه أن يُعلِنوا مجد محبته للعالم فيصيروا ملح الأرض ونور العالم (مت٥: ١٣، ١٤)، وسفراء (٢كو٥: ٢٠)، وشهود أمناء (أع١: ٨)، ورائحة ذكية (٢كو٢: ١٥)، وأنوار في العالم (في٢: ١٥).

عظات آبائية لأحد الرفاع

معني الصلاة بهدوء – القديس مقاريوس الكبير[4]

الصلاة بهدوء وسلام:

١- أولئك الذين يقتربون إلى الرب ينبغي أن يقدموا صلواتهم بهدوء وسلام وثبات عظيم، ويثبتوا نظر عقولهم نحو الرب، ليس بصرخات غير ملائمة ومضطربة، بل باجتهاد قلب حار وأفكار يقظة.

كما يحدث في حالة بعض الأمراض، أن علاج المريض يستلزم إجراء كيّ له أو عملية جراحية، فالبعض يحتملون ألم الكيّ أو الجراحة بشجاعة وصبر وضبط نفس بدون صراخ او اضطراب، بينما آخرين عندما تجري لهم نفس عملية الكيّ أو الجراحة فإنهم لا يحتملون نار الكيّ أو مشرط الجراح ويضجون بصرخات عالية مزعجة غير ملائمة.

ومع ذلك فان ألم الإنسان الذي يصرخ عالياً هو نفس ألم ذلك الإنسان الذي لا يصنع اضطراباً.

هكذا أيضاً فهناك بعض الناس يحتملون شدائد وأحزان تأتي على نفوسهم بصبر يتقبلونها بخضوع ولا يصنعون اضطراباً وانزعاجاً بل يضبطون أنفسهم بالتأمل العقلي في الرب (في داخل قلوبهم)، بينما آخرون حينما تحل بهم نفس الشدائد والأحزان، يفقدون قوة احتمالهم ويقدمون صلواتهم بأصوات مضطربة مزعجة تضايق وتعثر أولئك الذين يسمعونهم،

وهناك آخرون أيضاً رغم أنهم في الحقيقة لا يعانون من شدائد أو أحزان ولكنهم لأجل التفاخر والرغبة في التميز يصلون بصراخ وبدون انضباط ظانين أنهم بواسطة هذه الأصوات العالية – يستطيعون أن يرضوا الله.

٢- ولا ينبغي لأي واحد من خدام الله أن يفقد ضبط نفسه، بل ينبغي أن يكون في كل وداعة وحكمة، كما يقول الرب “إلي من أنظر- ألا إلى الوديع والمتواضع الروح والمرتعد من كلامي” (اش ٦٦: ٢) السبعينية.

وفِي حالة كل من موسي وايليا نجد في الظهورات التي منحت لهم، انه رغم وجود خدمة أبواق عظيمة وقوات أمام عظمة الرب، إلا أن حضور الرب كان يتميز بين الكل وعن
الكل، وكان يظهر في هدوء وسلام وراحة لأن الكتاب يقول: “واذا صوت منخفض خفيف” (١مل : ١٩: ١٢) وكان الرب في هذا الصوت.

وهذا يبين أن راحة الرب هي في الهدوء والسلام والسكون. وبحسب الأساس الذي يضعه الإنسان، وبحسب الطريقة التي يبدأ بها فإنه يستمر في نفس الخط إلى النهاية. فإن ابتدأ يصلي بصوت عال وصراخ مزعج، فإنه يستمر في هذه العادة إلى النهاية، ولكن لأن الرب محب البشر، فإنه يهب عونه ورعايته حتى لمثل هؤلاء الأشخاص ولذلك فإنهم بواسطة تشجيع النعمة يستمرون بنفس هذه الطريقة إلى النهاية. ومع ذلك يتضح أن هذا هو حال الذين لم يتهذبوا بعد (بالروح)، لأنهم يسببون عثرة للآخرين وفِي نفس الوقت يكونون هم أنفسهم في اضطراب وتشويش في صلواتهم.

٣- أن أساس الصلاة الحقيقي هو هذا: أن نركز انتباهنا، ونصلي بهدوء عظيم وسلام، حتي لا نسبب عثرة لأولئك الذين في الخارج.

والإنسان الذي يصلي هكذا ، إذا حصل على نعمة الله ورضاه على صلاته، واستمر إلي النهاية في هدوء فإنه سيبني كثيرين غيره “لأن الله ليس إله تشويش بل إله سلام (1كو ١٤: ٣٣).

وأولئك الذين يصلون بضجيج وصراخ فإنهم يشبهون الإنسان الذي يصيح عالياً ليضبط إيقاع المجدفين في السَّفينة، لأنهم لا يستطيعون أن يصلوا في كل مكان لا في الكنائس، ولا في القرى، ربما يستطيعون فقط أن يصلوا في الصحاري كما يريدون.

أما أولئك الذين يصلون بهدوء فإنهم يبنون كل انسان في كل مكان.

وينبغي أن يكون حرص الإنسان وجهده كله موجهاً ومسلطاً على أفكاره، فينبغي أن يقطع الشجرة الكثيفة المتشابكة – شجرة الأفكار الشِرّيّرة التي تقلقه وتهاجمه ويلقي بنفسه على الله، ولا يدع أفكاره تحمله حيث تشاء، بل يجمع أفكاره حينما تجول في كل اتجاه، ويميز بين الأفكار الطبيعية والأفكار الشِرّيّرة.

والنفس لأنها تحت الخطية فإنها تكاد تشبه غابة كبيرة موضوعة على جبل، أو مثل عيدان الغاب في النهر أو مثل غابة أشواك وأدغال. فالذين يريدون أن يعبروا خلال هذا المكان يلزمهم أن يرفعوا ايديهم ويجتهدوا بكل قوة أن يدفعوا جانباً الأدغال والأشواك التي تزعجهم، وبالمثل فإن الأفكار التي تأتي من القوة المعادية تزعج النَّفس مثل الأدغال والأشواك، لذلك يلزمنا سهر وانتباه كثير وعقل يقظ، لكي نميز ونعرف الأفكار التي ليست منا بل هي من ايحاء القوة المعادية لنا.

٤- فهناك يوجد انسان يثق في قدراته الخاصة فيظن أنه يقطع الجبال المحيطة به بقدرته، وانسان آخر يضبط عقله بهدوء وتبصُّر وتمييز فينهي عمله ويتممه أفضل من الشخص الأول وبدون أن يتعب نفسه كثيراً.

وهكذا الأمر فيما يختص بالصلاة، فإن البعض يصيحون في الصلاة صيحات عالية غير ملائمة، كما لو كانوا يعتمدون على قوة عضلاتهم، وهم لا يعرفون كيف تخدعهم أفكارهم وتوهمهم أنهم يستطيعون أن يحققوا نجاحاً كاملاً بقوتهم الخاصة. بينما يوجد آخرون غيرهم ينتبهون لأفكارهم ويتممون كل العمل والجهاد في الداخل. فهؤلاء عن طريق فهمهم وتمييزهم يستطيعون أن يصلوا إلى النجاح وأن يتخلَّصوا من عصيان الأفكار المتمردة، وأن يسيروا بحسب مشيئة الرب.

ونجد في كلام الرسول بولس أنه يقول: أن الذي يبني الآخرين أعظم من الذي لا يبنيهم اذ يقول: “إن الذي يتكلم بلسان يبني نفسه أما الذي يتنبأ فيبني الكنيسة … لأن من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة” (١كو ١٤: ٤، ٥) لذلك فليختار كل واحد أن يبني غيره وهكذا يمنح له ميراث ملكوت السموات.

العروش والأكاليل:

٥-  سؤال: إن بعض الناس يخبروننا أن العروش والأكاليل هي خلائق حقيقية وليست أشياء روحانية، فكيف ينبغي أن نفهم ذلك؟

جواب: إن عرش اللاهوت هو عقلنا وأيضاً إن عرش العقل هو اللاهوت والروح.

وبنفس الطريقة فإن الشيطان وقوات الظُّلمة ورؤسائها – منذ تعدي الوصيَّة – قد جلسوا في قلب وعقل وجسد آدم كأنه كرسي الشيطان وعرش لهم، ولهذا جاء الرب وأخذ جسداً من العذراء.

لأنه لو كان قد شاء أن ينزل الينا بلاهوته المكشوف بدون جسد، فمن كان يستطيع أن يحتمل رؤيته؟

لذلك فقد تكلم إلى الناس بواسطة الجسد كأداة. وبهذه الطريقة فقد قضي على أرواح الشر التي كانت قد اتخذت لها مسكناً ومجلساً في الجسد، أي كراسي العقل والفكر التي سكنت فيها، فجاء الرب وطهر الضمير وجعل العقل والأفكار والجسد كرسياً له.

٦- سؤال: إذا ما هو معني الآية “أنكم تجلسون على اثني عشر كرسياً تدينون أسباط اسرائيل الأثنى عشر” (مت١٩: ٢٨).

الجواب: إننا نجد أن هذا قد حدث فعلاً على الأرض بعد أن أُصعد الرب إلى السماء. لأنه أرسل الروح المعزي على الإثنى عشر رسولاً فجاءت القوة المقدَّسة من الأعالي ونصبت خيمتها وجلست على كراسي عقولهم.

وحين قال الواقفون “أنهم قد امتلأوا سلافة” (أع٢: ١٣) بدأ بطرس في الحال أن يحكم عليهم متكلماً عن يسوع قائلاً: “يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده …” (أع٢: ٢٢- ٤)، (أع ٥: ٣٠) إن هؤلاء ليسوا بسكارى لأنه مكتوب “ويكون في الأيام الأخيرة اني أسكب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم” (أع ٢: ١٧) فجاء كثيرون إلى التوبة بتأثير تعليم بطرس وهكذا بدأ عالم جديد في الوجود، عالم مختار من الله.

٧- ألا ترون كيف ظهرت بداية الدينونة؟ فقد ظهر هناك عالم جديد، وهكذا أعطى لهم سلطان أن يجلسوا ويجروا الدينونة حتى في هذا العالم. ولكنهم سوف يجلسون ثانية ويدينون عند مجيء الرب في قيامة الأموات. ولكن قد بدأت هذه الدينونة هنا على الأرض حينما جلس الروح القدس على كراسي عقولهم.

إن الأكاليل (التيجان) التي سينالها المسيحيون في الدَّهر الآتي هي غير مخلوقة. والذين يقولون أنها مخلوقة هم مخطئون. والروح يستخدم هذه الأوصاف كرموز واشارات للحقيقة. فماذا يقول الرسول عن أورشليم السماوية؟ يقول: “هذه هي أمنا جميعاً” (غل ٤: ٢٦) وهذا هو اعترافنا نحن أيضاً. وأما عن اللباس الذي يلبسه المسيحيون فواضح أن الروح نفسه هو الذي يكسوهم، باسم الآب والأبن والروح القدس إلى الأبد. أمين.

 

 

الصوم – القديس أغسطينوس[5]

وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائما، بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.

يظهر لنا من هذه الوصايا ضرورة توجيه جهادنا نحو الفرح الداخلى، فلا نطلب جزاءاً خارجياً كأهل العالم، فنخسر البر العظيم والقوة والثبات والأمور الداخلية التى اختارها الله لنا لكى نكون مشابهين لصورة ابنه (رو ٨: ٢٩) .

حب الظهور لا يكون فقط فى التعالي والتفخيم فى الأمور الجسدية، بل ويكون أيضاً فى الأمور الوضيعة المحزنة (أى يمكن أن يتبع الصوم كبرياء وحب للظهور) وهذه تكون أكثر خطورة لأنها تخدع الإنسان تحت اسم خدمة الله.

فالشخص المعروف بمغالاته فى اهتمامه بالجسديات وتنعمه بالملابس الفاخرة …الخ. يمكن بسهولة معرفة أنه يطلب الأمور الزمنية في هذا العالم، فلا يُضلل أحداً بمظهر خبيث.

أما محترف المسيحية فيجذب الأنظار نحوه بمظاهر الإتضاع، وبتلك الأمور التي يصنعها عمداً. وإن كان يمكن أن يفتضح من أفعاله الأخرى، لأن رب المجد يحذرنا من الذئاب المتنكرة فى ثياب حملان قائلاً: “من ثمارها تعرفونهم”. (مت ٧: ١٦)

فعند سقوطه فى تجربة تنسحب منهم هذه المظاهر. وبذلك تظهر حقيقتهم هل هم ذئاب فى ثياب حملان، أم حملان حقيقيون؟!.

لا يعني هذا أن المسيحي الحقيقي يُرضي البشر بارتدائه ملابساً فاخرة مُغالى فيها، بسبب لبس المخادعين الثياب المتضعة، لأنه لا ينبغي على الحملان أن تخلع ثيابها لمجرد لبس الذئاب لثيابهم.

إنه من الطبيعي أن تسأل:ماذا يقصد الرب بقوله: “وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك”؟

فنحن نغسل وجوهنا يومياً لكن لا نُجبَر بدهن الرأس عند الصوم. لذلك فلنفهم الوصية على أنها غسل لوجهنا ودهن للإنسان الخاص بالإنسان الداخلي.

فدهن الرأس يشير إلى الفرح وغسل الوجه يشير إلى النقاوة.

فعلى الإنسان أن يبتهج داخلياً فى عقله بدهن رأسه، التى هى فائقة  السمو فى الروح التى تحكم وتدبر كل اجزاء الجسم، وهذا يحدث للإنسان الذي لا يطلب فرحاً خارجياً نابعاً عن مديح الناس .

لأنه لا ينبغى للجسد -الذى يجب قمعه- أن يكون رأساً على طبيعة الإنسان جميعها. حقا إنه “لم يبغض أحد جسده”. (أف ٥: ٢٩)

وكما يقول بولس الرسول عندما يوصي بضرورة محبة الزوجة (جسد الرجل): “أما الرجل فرأس المرأة والمسيح رأس الرجل” (١كو ١١: ٣). لذلك يكون الفرح داخلياً أثناء الصوم بابتعاده عن مسرات العالم وخضوعه للمسيح.

وهكذا أيضا فليغسل وجهه، أي ينقى قلبه الذي يعاين الله، فلا يعود هناك حجاب حاجز بسبب الضعف الناتج عن الضيق (الحزن)، بل يكون ثابتاً وقوياً لنقاوته التي لاغش فيها.

يقول الرب: “اغتسلوا تنقوا أعزلوا شر أفعالهم من أمام عيني” (اش١: ١٦). فنغسل وجوهنا “ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما فى مرآة فنتغير إلى تلك الصورة عينها”. (٢كو ٣: ١٨)

إن الانشغال حتى بالأشياء الضرورية اللازمة لهذه الحياة، غالباً ما يصيب أعيننا الداخلية ويلوثها، ويجعل القلب مزدوجاً.

فحتى فى الأمور التى يبدو لنا فيها أن نتعامل بحق مع زملائنا، فإننا لا نعمل بالقلب الذى يطالبنا به الرب. وذلك ليس بسبب محبتنا للأشياء الزمنية بل لرغبتتا فى الحصول على بعض المنافع  الشخصية منهم.

لذلك ينبغى أن يكون هدفنا  هو خلاص نفوسهم لا نفعنا الزمنى. ليعطنا الرب قلوباً تميل إلى الشهادة له لا إلى الطمع (مز١١٩: ٣٦). لأن غاية الوصية فهى المحبة من قلب طاهر وضمير  صالح وإيمان بلا رياء” (١تى١: ٥).

فمن يعامل أخاه لأجل الحصول على الضروريات الخاصة بهذه الحياة، فبالتأكيد لا يتعامل بحب، لأنه لايهتم بأخيه الذى ينبغى أن يحبه كنفسه، بل بالحق لا يهتم حتى بنفسه لأنه بهذه الطريقة يجعل قلبه مزدوجاً فلا يستطيع رؤية الله.

 

 

الصوم – القديس يوحنا ذهبي الفم[6]

“ومتي صُمتُم ، فلا تكونوا عابسين كالمرائيين، فإنهم يُغَّيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين”.

١- جيد أن نئن هنا بصوتٍ عالٍ وأن نبكي بمرارة، لا لأننا نحاكي المرائين فحسب، بل لأننا تفوَّقنا أيضاً عليهم.

لأنني أعرف جيداً أن كثيرين لا يصومون فقط بل ويتباهون بأصوامهم أمام الناس. يهملون الصوم، ومع ذلك يرتدون أقنعة الصائمين، متَّشحين بعذر أسوأ من خطيئتهم، إذ يقولون إننا نفعل ذلك حتي لا نُعثِر الآخرين!. ما هذا القول؟ إن هناك ناموساً إلهياً يأمرنا بهذه الأمور، وأنتم تتكلمون عن العثرة أو الإساءة؟ ظانين أنكم حين تفعلون هذا وأنتم تسيئون إلى الناس بتعديكم للوصية، تخلصون الناس من عواقب الإساءة؟!

أيّ شيء أسوأ من هذه الحماقة؟ ألا يصير عملكم أردأ من عمل المرائين؟ ألا يكون رياؤكم مضاعفاً؟

وإذا ما تفكرتم في عظم هذا الشر، ألا ترتبكون خجلاً لقوة ما أمامنا من تعبير؟ فالرب لم يقل إنهم يتظاهرون جزئياً، بل يكشف أعماقهم أكثر، فيقول: “إنهم يُغيَّرون وجوههم” أي أنهم يشوَّهونها ويفسدونها.

لكن إن كان الأمر مجرد تغيير “السحنة” ليبدو الإنسان باهتاً لأجل المجد الباطل، فما قولنا في نساء يلطخن وجوههن بالألوان والأصباغ لتدمير شباب دنسين؟ وبينما يؤذي مثل هؤلاء الشبان أنفسهم فقط، فإن أولئك النسوة يؤذين أنفسهن والناظرين إليهن.

لهذا يجب علينا أن نهرب من هذا الفخ، ومن فخاخ أخري بعيداً بُعداً كافياً كي ننقذ أنفسنا.

فالرب لم يوص فقط بألا نُغير وجوهنا، بل نسعي لحفظ نفوسنا أيضاً. وهو الأمر الذي أوصى به قبلاً.

ففي مسألة الصدقة، لم يعرض الأمر هكذا ببساطة بل إذ قال: “احترزوا أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس” وأضاف “لكي ينظرونكم”. فإنه في الصلاة والصوم لا يذكر نفس الشيء، ولا يضع نفس القيد، فلماذا أراد ذلك؟ لأنه من المستحيل أن نخفي الصدقة عن أعين الناس، لكن من الممكن أن يتم الأمر بالنسبة للصلاة والصوم.

ومثلما قال: “لا تعرف شمالك ما تفعل يمينك” لم يكن يتحدث عن الأيدي بحصر المعنى، بل عن واجب إخفاء الأمر عن الناس في حزمٍ.

ومثلما أمرنا أن ندخل إلى مخادعنا، لم يكن يقصد المكان بشكلٍ مطلقٍ، ولكنه يثير فينا مشاعر الرهبة المقدَّسة للمرة الثانية حول مسألة الصلاة.

هكذا هنا أيضاً، حين يأمر أن “ندهن جسدنا” لا يعني حرفياً أن ندهن أجسامنا، وإلا تعدَّينا على الناموس – إن لم نفعل ذلك – والأكثر من ذلك أن أولئك الذين اجتهدوا بمشقة لحفظ أجسادهم في مجتمعات الرهبان، والذين اختاروا سكناهم في الجبال، لن يقدروا على هذا.

إذن لم يكن هذا هو ما يأمرنا به، بل إذ رأى أن للقدماء عادة دهن أنفسهم بإستمرار، ويتلذذون ويتهللون مثلما نري مع داود في (٢صم ١٢: ٢٠)، ومع دانيال (دا ١٠: ٣)، وقال إن علينا أن ندهن أجسامنا – ليس بمعني حرفي- بل أن نسعي بكل السُبُّل وأن نجتهد بكل حزم أن نُخفي عن الناس نُسكَنا.

وحتي يقنعكم بالأمر، فإنه هو نفسه فعل ما أوصي به، إذ صام أربعين يوماً، وصامهم سراً، فلا دهن نفسه ولا حتي غسل جسده، ومع ذلك ورغم أنه لم يفعل هذه الأمور، فقد أكمل الوصايا كلها دون سعي وراء مجدٍ باطلٍ. وهكذا يوصينا نحن بنفس الأسلوب، إذ يكشف لنا عن المرائين، ويكرر اتهامه لهم مرتين لينبه ذهن السامعين.

وفِي موضع آخر يذكر نفس صفة المرائين، أعني ليس فقط بإظهار سخافة الأمر، ولا بتوقيع أقصي عقوبة عليه، بل أيضاً بإظهار أن مثل هذا الخداع لا يدوم طويلاً، فهو يبعدنا عن هذه الرغبة الشِرّيّرة.

فالممثل يبدو رائعاً أمام الجالسين من المشاهدين، لكن معظمهم يعرف حقيقة أمره، ولهذا لا يبدو رائعاً أمام الكل. والذين يعرفون الدور الذي يلعبه، رغم ذلك وحين يتفرق المتفرجون ينكشف أمره للجميع.

وهذا هو حال الباحثين عن المجد الباطل، والمعروفين للكل بأنهم يضعون أقنعة علي وجوههم، وسوف يفتضح أمرهم في اليوم الأخير، حين تصير كل الأشياء “عارية ومكشوفة”، والرب يقدم الفرصة لانتشالهم من بين المرائين، حين يكشف أن وصيته خفيفة، لأنه لم يجعل الصوم أشد صرامة، ولا طالبنا أن نمارسه بكثرة، بل ألا نفقد الإكليل المُعد لنا.

ما قد يبدو صعب الاحتمال، يبدو أمراً مشتركاً بيننا وبين المرائين – لأنهم يصومون أيضاً – ولكن الأخف في الأمر، أيّ ألا نخسر الأجرة بعد أتعابنا، حسب قول الرب الذي أوصي به دون أن يضيف شيئاً إلى أتعابنا، بل يجمع الأمور لنا بكل أمانٍ، دون أن يحرمنا من المكافأة. مثلما يفعل المراءون، كلا، بل أن نحاكي المصارعين في الألعاب الأوليمبية، الذين رغم جلوس حشد عظيم أمامهم، ورغم وجود الكثيرين من الأمراء، يشتاقون أن يدخلوا السرور على واحدٍ فقط، ذاك الذي يحقق الفوز، حتي لو كان أدني من مستواهم بكثير.

لكن أنتم، ورغم أن دافعكم مضاعف بإظهار الفوز أمام الله، أولاً، لأنه هو الذي يقضي بنصركم، وأيضاً، لأنه لا يقارن بأعظم المحتشدين في مسرح اللعب. فإنكم قد تشتركون مع آخرين لا نفع لهم، بل ضررهم أعظم.

ومع ذلك يقول الرب: فإني لا أمنعكم، فإن اشتقتم إلى التباهي أمام الناس، فانظروا وسوف أمنحكم أعظم الفرص والمنافع، لأن ما تفعلونه هنا قد يحرمكم من المجد الذي تنالونه معي، فاحتقروا هذه الأمور، واتحدوا معاً وتقاربوا سوياً، لتنعموا بأمان، لأن ثمار العالم لا تدوم، وإن وطأت أقدامكم كل مجدٍ بشريٍ، وتحررتم من أسر الناس الأليم، تصيرون بالحق عاملين الفضيلة.

بينما الآن، مادمتم تميلون للظهور، حتي وإن كنتم في صحراء تهجرهم كل فضيلة لكم، ولا تبقي فضيلة ما تتطلع إليكم، هذا موقف من يهين الفضيلة ذاتها، إن كنتم تسعون إليها لا لأجلها، بل كمن يحدق إلى صانع الحبال والنحاس والعامة في الأسواق، ليعجب بكم الأردياء البعيدون عن الفضيلة، فتدعونهم إلى المشهد أمامكم. وكأن المرء قد اختار أن يعيش في حال صوم ونسك وتعفف ليس لسمو التقشف بل ليتباهي أمام الساقطات.

ويبدو أنكم لا تختارون الفضيلة لذاتها – بل لأجل أعدائها – بينما يجب عليكم الإعجاب بها علي أساس آخر.

إن للفضيلة أعداءها الذين يعجبون بفاعليها. لهذا لا أريدكم أن تُعجَبوا بالصالحات لأجل الناس، بل لأجلها هي، مثلما يحبنا الآخرون لا لأجل ذواتنا نحن، بل لأجل نفعهم، الأمر الذي نعتبره نحن إهانة لنا.

هكذا أيضاً أريدكم ألا تحبوا الفضيلة لأجل الناس، أو لأجلهم تطيعون الله، بل تطيعون البشر لأجل الله.

لأنكم إن فعلتم العكس، فحتي وإن بدا أنكم تصنعون الفضيلة، تكونون كمن لا يصنعها تماماً، وتبدون بدون طاعة، هكذا أنتم حين تفعلون ما يخالف الناموس.

 

 

أبوة الآب في صلاة أبانا الذي – العلَّامة أوريجانوس[7]

أبانا الذي في السموات

جدير بنا أن نفحص العهد القديم بالتدقيق لعلنا نجد فيه، في أي سفر من أسفاره، صلاة يدعو المصلي فيها الله بكلمة الآب.

لقد بحثت كثيراً وفتشت بعناية وجِدّ على قدر ما أستطيع فلم أجد صلاة واحدة تتضمن هذا النداء، ولكن هذا لا يعني بالطبع أني أدعي أنه ليس هناك مايشير إلى أبوة الله، أو أن المؤمنين باسمه لم يُطلَق عليهم لقب البنين “أولاد الله” ولكن ما أقصده بالتحديد أننا لم نجد في أيه صلاة تلك الدالة والثقة والإيمان التي تتجلي في مناداة الله بكلمة “الآب” كما أعلنها المخلص.

أما اطلاق لقب الآب على الله، ولقب البنين أو الأولاد على الملتجئين إلى كلمة الله، فهذا ما يمكننا أن نجده في أماكن متعددة:

ففي سفر التثنية مثلاً يقول: تركت الله الذي أبداك (ولدك) ونسيت الله الذي رعاك (اطعمك) (تث٣٢: ١٨)، كما يقول: أليس هو (الله) أباك ومقتنيك، هو عمَلَكَ وأنشأك (تث٣٢: ٦) ثم يلومهم بقوله: أولاد لا أمانة فيهم (تث٣٢: ٢٠).

وفي سفر إشعياء النبي يقول: ربيت بنين ونشأتهم أما هم فعصوا عليّ (احتقروني) (اش١: ٢).

وفي سفر ملاخي: الإبن يكرم أباه، والعبد يكرم سيده، فإن كنت أنا أباً فأين كرامتي؟ وإن كنت سيداً فأين هيبتي؟ (ملا ١: ٦).

وعلي الرغم من أن الله يُدعي الآب والمولودين فيه بكلمة الإيمان يلقبون بالبنين، إلا أننا لا نجد بين القدماء ذلك المفهوم العميق لهذه البنوة الإيجابية التي لا تتحول أو تتغير.

ومع ذلك فالنصوص التي أوردنا نماذجها تكشف لنا عن حقيقة هؤلاء الذين دعوا بالبنين، لأنهم في الواقع لم يكونوا سوي عبيداً طبقاً لمًا شرحه لنا الرسول بولس إذ يقول: ما دام الوارث قاصـر؛ لا يفـرق شيـئًا عن العبـد مع كونه صاحب الجميع، بل هو تحت أوصياء ووكلاء إلى الوقت المؤجل من أبيه (غل٤: ١)، ولكن ملء الزمان (غل٤:٤) يتضمن مجئ ربنا يسوع المسيح في وسطنا، وحينئذ يستطيع من يطلب أن يأخذ نعمة التبني لكي يُحسب مع الاولاد. وفي هذا يقول القديس بولس: إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف بل اخذتم روح التَّبنِّي الذي به نصرخ: يا أبا الآب (رو٨: ١٥).

كما نقرأ في انجيل معلمنا يوحنا: وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد أي المؤمنون باسمه (يو١: ١٢). وفي رسالته الجامعة نتعلم أن المولودين من الله – بفضل روح التَّبني هذه: كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولايستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله (١يو٣: ٩).

فاذا ما أدركنا جيداً ما تُفصِح عنه الكلمات: متي صليتم قولوا أيها الآب – كما جاءت في انجيل معلنا لوقا، ربما نتردد في وجل، ونُحجِم عن مناداة الله بهذا اللقب ما لم نكن بالحقيقية أولاداً لله، مخافة أن نضيف إلى خطايانا إثماً جديداً يتمثل في عدم التقوى وفي هذا التهاون وهذا الاستهتار.

وما أعنيه في هذا التنبيه لا يخرج عما قصد إليه الرسول بولس في رسالته الأولي إلى أهل كورنثوس: ليس أحد يستطيع أن يقول: الرب يسوع، إلا بالروح القدس، وليس أحد وهو يتكلم بروح الله يقول: أنا ثيما ليسوع (١كو١٢: ٣)، ولا شك أن الرسول يستعمل تعبير الروح القديس وروح الله بمعني واحد.

وربما انتابنا شئ من الغموض والإبهام حول المقصود بقوله: “أن يقول الرب يسوع بالروح القدس”، لأن هناك عدداً لا يحصي من المرائين وكثيرين من الهراطقة بل أحياناً حتي من الأرواح الشريرة، وهم ساقطون تحت قوة هذا الإسم يستخدمون هذه الكلمات فكيف يتفق هذا مع ماتعلمناه من أن الانسان لايستطيع أن يقول الرب يسوع إلا بالروح القدس؟، إنهم لا يقولون هذا القول إلا لأنهم مرغمين أمام قوته وسلطانه، أو رياء منهم أمام الناس، ولكن حياتهم وأعمالهم خالية تماماً من سلطان هذه الكلمة.

ولكن خدام كلمة الله وحدهم، من كل ما يعملون، لا يدعون أحداً سيداً ورباً إلا هو. إذاً هؤلاء هم الذين يستطيعون أن يقولوا: “الرب يسوع” بتصرفهم ذاته.

وإذا كان هؤلاء هم الذين يقولون: الرب يسوع، فيترتب على هذا – إحتمالاً- أن كل من يخطئ إنما يجحد أو يلعن كلمة الله بنفس أداء الخطية وبأعماله الشريرة يصرخ قائلاً أنا ثيما ليسوع.

اذاً فهناك فريق من الناس يؤمن ويجاهر بالرب يسوع وعلى نقيضهم فريق آخر يقول أنا ثيما ليسوع. يترتب على هذا أيضاً أن كل من ولد من الله ١يو٣: ٩) ولا يخطئ يشترك في زرع الله الذي يحفظه من كل خطية، ويعلن بأعماله: أبانا الذي في السموات. والروح نفسه يعطي شهادة لأرواحهم – أنهم أولاد الله وورثته وورثة مع المسيح (رو٨: ١٦، ١٧). لأنهم وهم يتألمون معه لهم الحق أن ينتظروا بالرجاء أن يتمجدوا معه أيضاً. إلا أن مثل هؤلاء المؤمنين لا يقولون أو ينادون الله “أبانا” بقلوب واجفة مترددة، ولكن فضلاً عن أعمالهم فإن قلوبهم أيضاً وهي مصدر وينبوع هذه الأعمال الصالحة، إنما تؤمن بالبر بينما أفواههم تعترف وترنم بالخلاص (رون١٠: ١٠).

وفضلاً عن هذا كله فإن الإبن الوحيد يشكل كل أفكار هؤلاء البنين وكلماتهم وأفعالهم لكي تكون على صورته (غل ٤: ١٩)، فتتكاثر فيهم صورة الله غير المنظور (كو١:١٥)، وهكذا تتوافق الصورة مع خليقة الله التي صنعها، الذي يجعل شمسه تشرق على

الصالحين والأشرار، ويمطر على الأبرار والظالمين (مت٥: ٤٥)، هكذا تتمثل فيهم صورة السماوي، الذي هو نفسه صورة الله.

وعلى هذا فالقديسون هم صورة الصورة، ولما كان الإبن هو صورة بهاء الله ورسم جوهره، فهم يأخذون انطباع البنوة ليس فقط لأنهم يصبحون على غرار جسد مجد المسيح (في٣: ٢١)، بل يشابهون أيضاً الله الظاهر في الجسد، لأنهم يتآلفون مع المسيح في جسد مجده واستحال في تجديد أذهانهم (رو١٢: ٢)، ولهذا يقولون في كل الأمور “ابانا الذي في السموات”.

أما الذي يخطئ- كما يقول معلمنا يوحنا في رسالته- فهو من الشيطان لأن الشيطان يخطئ منذ البدء (١يو٣: ٨، ٩).

وكما أن زرع الله الذي يثبت فيمن ولد من الله، يجعل من المستحيل عليه أن يخطئ لأنه تَكَّوَن على صورة الإبن الوحيد الكلمة، فعلى نفس القياس كل من يخطئ يوجد فيه زرع الشيطان، وإذا كان هذا الزرع الشرير في نفسه يتعذر على مثل هذه النفس أن تتقدم الي ما هو أفضل.

ولكن من أجل هذا الغرض بالذات ظهر إبن الله لكي يقضي على أعمال الشيطان (1يو3: 8)، لذلك صار من الممكن عن طريق حلول كلمة الله في أروحنا أن يقضي ويسحق أعمال الشيطان، وأن ينزع الزرع الشرير المغروس فينا لنصبح أولاداً لله.

لهذا لاينبغي لنا ان نظن من واجبنا ان نتعلم ترديد كلمات الصلاة في الوقت المعين لها فقط، بل يجب ان نفهم مانقوله (١يو٣: ١٢) في الصلاة بلا انقطاع (١تس٥: ٢٧)، حتي تصبح حياتنا صلاة دائمة لا تنقطع، فيها نردد قولنا: أبانا الذي في السموات.

حذار أن نجعل لنا وطناً على الأرض (في٣: ٢٠) بل يجب أن نسعي جاهدين أن يكون وطننا في السموات عرش الله، لأن مملكة الله قد تأسست على كل من يحمل صورة السماوي، هكذا أصبح هو نفسه سمائيا.

واغفر لنا خطايانا – للقديس كيرلس الأسكندري[8]

 (لو ١١: ٤)

إن إشعياء النبي المبارك عندما كان يتنبأ عن طريق الخلاص بالكرازة بالإنجيل، نطق هكذا قائلاً في موضع ما: “وستكون هناك طريق مستوية يقال لها الطريق المقدسة” (اش ٣٥: ٩)، لأنها تقود أولئك الذين يسلكون فيها إلى القداسة بعبادة روحية وبر أعلى من الناموس .

ويحضر كذلك ما يقوله المسيح لمن يحبونه: “الحق أقول لكم، إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين، فلن تدخلوا ملكوت الله” (مت٥: ١٠). وأقول إنه من واجب من دعوا بالإيمان إلى معرفة مجد المسيح مخلصنا جميعاً، وقد اتخذوه رأساً لهم أن يفرحوا في تمثلهم بأعماله، وأن يكونوا جادين في أن يجعلوا نورهم يضئ بالسيرة المقدسة التي لم تكن لهم قبل أن يأتوا إلى الإيمان: “لأن الأشياء قد صارت جديدة في المسيح” (٢كو٥: ١٧)

فالرب يطلب من تلاميذه أن يكونوا ودعاء بطيئي الغضب، حتى يستطيعوا أن يقولوا بلا لوم في صلواتهم: “واغفر لنا خطايانا لأننا نحن أيضاً نغفر لكل من أساء إلينا”.

يا لعظمة حكمة الله العجيبة وعمق غنى معرفته الفائقة! إنه يطلب منهم، أولاً أن يسألوه الغفران عن خطاياهم التي ارتكبوها، وبعد ذلك أن يعترفوا أنهم يغفرون أيضاً كلية للآخرين، وكأنهم يسألون الله أن يطيل أناته عليهم كما يفعلون هم أيضاً مع الآخرين، وأن يعاملهم بمثل اللطف الذى يمارسونه هم مع العبيد، إنهم يتوسلون أن ينالوا نفس الكيل من الله الذى يعطي بعدل، ويعرف كيف يظهر الرحمة لكل إنسان.

فتعالوا بنا نسعى لندرك بوضوح أكثر معنى هذه الصلاة، بالتعمق في هذا المقطع الذى أمامنا والتدقيق فيه، فكما قلت: إن الرب أوصانا عندما نتقدم إليه أن نقول: “أغفر لنا خطايانا” فالنفحص معاً من فضلكم ما هي المنفعة التي ننالها من هذه الصلاة فالذين يتوسلون إلى الرب هكذا، ليسوا متشامخين، وهم لا يرتأون في أنفسهم أموراً عظيمة، ولا يتعالون على الضعفاء، بل كما يقول الكتاب “هم قضاة لأنفسهم” (أم١٣: ١٠ س). فهم ليسوا مثل ذلك الفريسي الجاهل والمتكبر، الذى تجاسر حتى على أن يجعل الرب نفسه شاهداً له، حسبما يقول ذلك المثل “إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصليا واحد فريسي والآخرعشار، أما الفريسي  فوقف يصلي في نفسه هكذا: اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقى الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار، أصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه، وأما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلاً: اللهم أرحمني أنا الخاطئ، أقول لكم إن هذا نزل إلى بيته مبرراً دون ذاك (لو١٨: ١٠– ١٤).

فانظروا كم هو مهلك للنفس أن يتعالى الإنسان بنفسه على الضعفاء متوهماً أن سلوكه غير معرض للوم من أي ناحية مطلقاً، بل بالحري ينبغي علينا أن نضع في اعتبارنا على الدوام ونفكر: “إننا في أشياء كثيرة نعثر جميعاً” (يع٣: ٢). بل ويمكننا أن نقول إننا دائماً نخطئ، وأحياناً حتى بغير إرادتنا، لأنه مكتوب: “من يستطيع أن يدرك خطاياه؟” (مز١٨: ١٢) وها هو منشد المزامير المغبوط يتوسل إلى الله بحرارة وبصراحة تامة قائلاً: “من الخطايا المستترة طهرني، ومن المتكبرين احفظ عبدك فلا يتسلطوا علي، حينئذ أكون بلا لوم واتنقى من خطية عظيمة” (مز١٨: ٢٣).

وكذلك أيضاً أيوب الذى كان مثالاً عظيماً في الصبر، نراه يقدم ذبائح عن خطايا أبنائه غير المعروفة، أو بالأحرى غير المكتشفة قائلاً: “ربما أخطأ بنيَّ وجدفوا على الله في قلوبهم” (أي١: ٥) ، ونذكر أيضاً بولس ذا الحكمة العالية الذى عندما كتب قائلاً: “فإني لست أشعر بشئ (من الخطأ) في ذاتي”، استدرك قائلاً “لكننى لست بذلك مبرراً ولكن الذى يحكم فيّ هو الرب” (١كو٤: ٤).

إذن من النافع لنا جداً وعلى الدوام أن نخر ساجدين أمام الله الذي يحب كل ما هو صالح ونقول: “أغفر لنا خطايانا”، فهو قد قال بفم أحد أنبيائه القديسين: “أعترف أولاً بتعدياتك لكي تتبرر” (اش٤٣: ٢٦). وإذ لم يكن هذا المبدأ مجهولاً لدى المغبوط داود، فقد أنشد هكذا في مزاميره: “قلت أعترف للرب بذنبي، وأنت غفرت إثم قلبي” (مز٣١: 5). لأن الله سريعاً ما يرضى على الإنسان ويتراءف على من لا يتناسون ذنوبهم، بل يسقطون على وجوههم أمامه ويسألونه الغفران، إلا أنه شديد بحق وعدل على قساة القلوب والمتكبرين، وعلى كل من يسعى بمنتهى الجهل أن يبرئ نفسه من اللوم. فالرب قد قال لمن هو على مثل هذا الحال: “ها أنذا أحاكمك لأنك قلت، إني لم أخطئ” (ار٢: ٣٥)، لأنه من يمكنه أن يفتخر بأن له قلباً نقياً؟ أو من يقدر أن يتجاسر ويقول إنه بريء من الخطايا؟ إذن فالطريق المؤدي إلى الخلاص والذى ينقذ الجادين في السير من غضب الله، هو الإقرار بالذنوب، وأن تقول في صلواتنا لمن يبرر الآثم: “أغفر لنا خطايانا”.

هناك أيضاً طريقة أخرى ننتفع بواسطتها: فأولئك الذين يعترفون بحق أنهم أخطأوا، ويريدون أن ينالوا الصفح من الله فهؤلاء بالضرورة يهابونه باعتباره أنه هو الذى سيكون الديان، فهم لا يمكنهم أن ينسوا أنهم سيقفون أمام كرسي دينونة الله الرهيب، وكما يكتب بولس الحكيم جداً: “لأنه لا بد أننا جميعاً نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً” (٢كو٥: ١٠).

إن أولئك الذين يضعون في اعتبارهم أنهم لأبد أنهم سيقفون أمام كرسى الديان ويعطون حساباً عما فعلوا، وأنهم إذا أخذوا بجريرة ما، فسوف يقاسون عقاباً مريراً، أو سيمدحون إذا ما كانوا قد سلكوا سلوكاً حسناً وعاشوا حياة فاضلة في الجسد على الأرض، مثل هؤلاء، من جهة سيتوقون إلى الصفح عما ارتكبوا من خطايا حتى ينجوا من العذاب الذى لا نهاية له والعقوبة الأبدية، ومن جهة أخرى، فإنهم يهتمون بأن يحيوا باستقامة ويسيروا سيرة لا عيب فيها، حتى يمكنهم أن ينالوا الإكليل اللائق بحياتهم الفاضلة، لأنهم بهذا سيتلطف بهم الديان، ولن يذكر لهم شيئاً مما عملوه من سيئات، فالرب يقول: “شر الشرير لا يؤذيه يوم يتوب عن شره” (خر٣٣: ١٢).

ولكن لا يتوهم أحد، أنه يحق لكل الناس بلا تفرقة أن يقولوا: “أغفر لنا آثامنا”.

فإنه لا يليق بمن يستمرئون البقاء في شرورهم أن يقولوا: “أغفر لنا خطايانا”، بل لمن تخلوا عن رذائلهم السابقة راغبين بكل جدية أن يحيوا كما يليق بقديسين، وإلا فلا شيء يمنع فعلة الشر، ضاربي الآباء وقاتلي الأمهات، والزناة والسحرة وكل من ارتكب مثل هذه الجرائم الأشد شناعة، أن يستمر في فعلها ويعزز وجود دوافعها الشريرة كما هي بدون تغيير، وينجس نفسه بكل الأفعال الدنيئة، ثم يتقدم إلى الله بجسارة ويقول “أغفر لنا خطايانا”، لهذا السبب فإن مخلص العالم ورب الكل لم يختم هذه العبارة عند هذا الحد، بل أمرنا أن نضيف قائلاً: “لأننا نحن أيضاً قد غفرنا لكل من أساء إلينا” فإن هذا لا يتناسب إلا مع الذين أختاروا لأنفسهم الحياة الفاضلة، وساروا بلا تراخٍ في طريق مشيئة الله، تلك التي هي كما يقول الكتاب: “صالحة ومرضية وكاملة” (رو١٢: ٢)، هؤلاء يتحلون بطول الأناة، ولا يلومون الذين أساءوا إليهم. وحتى إذا ما أساء إليهم أحد فإنهم لا يفكرون في هذا الأمر. فبطء الغضب هو فضيلة ممتازة، وهو ثمرة تلك المحبة التي قال عنها الرسول الحكيم إنها: “تكميل الناموس” (رو١٣: ١٠).

ثم تأملوا معي في جمال هذه الفضيلة الفائقة ولو بالمقارنة مع قبح الرذيلة المضادة لها، لأن الغضب في الواقع هو مرض خطير، ومن استسلم له بفكره صار إنساناً حاد الطبع، نكدًا، عنيفاً، وعنيداً، ومرتعاً خصباً للغضب والصياح، وإذا ما استمر المرء على هذا الحال وقتاً طويلاً لكان من الصعب شفاؤه، بل وأكثر من ذلك نجده دائماً ينظر بعين شريرة لكل من أساء إليه فهو يترقبه بحقد شديد، متطلعاً إلى متى وأين يمكنه أن يلحق الضرر به، وهذا في أغلب الأحيان لا يكون كيلاً بكيل، بل مرات كثيرة يكون الأنتقام أشد من الإساءة بكثير.

إن مثل هذا الإنسان لا يكف عن تدبير المكيدة في الخفاء. ألا يكون مثل هذا قد عرض نفسه لكل العيوب، بل ويكون مبغضاً لله ومرفوضًا منه، وبالتالي يكون في غاية البؤس؟ كما هو مكتوب: “أما سبل الغضوب فهى إلى الموت” (أم١٢: ٢٨).

ولكن الإنسان البسيط القلب غير الغضوب يتسم أول ما يتسم بالاحتمال، إلا أن الاحتمال الذى يمارسه البشر ليس بنفس القدر كالذى يأتي من فوق ومن الله، فإنسان الله لا يستسلم قلبه لانفعال الغضب، بل يسود عليه ويتحكم في نفسه أمام كل إثارة مكدرة تنشأ فيه، إنه صفوح وعطوف على كل رفقائه، لطيف وودود ومترفق بضعف قريبه – وهذه كانت سجايا تلاميذ المخلص – وها هو المغبوط بولس يكتب قائلاً: “نشتم فنبارك، نضطهد فنحتمل، يُفترى علينا فنعظ” (١كو٤: ١٢، ١٣). لأنهم تمثلوا بربهم: “الذى إذ شتم لم يكن يشتم عوضاً، وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضى بعدل” (١بط ٢: ٢٣). فنحن إذن ينبغي علينا أن نطلب من الله مغفرة خطايانا التي ارتكبناها عندما نكون نحن أنفسنا قد سبقنا وغفرنا لمن أساء إلينا في أي شيء، بشرط أن تكون خطيتهم ضدنا وليس ضد مجد الله الكائن على الكل، لأنه ليس لنا سلطان على هذه الأخيرة، بل تلك التي تكون قد ارتكبت ضدنا نحن، وهكذا بالصفح لأخوتنا عما عملوه في حقنا فإننا يقينا سنجد المسيح مخلص الكل مترفقاً بنا مستعداً أن يظهر رأفته، الذى به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

 

 

الصلاة الربانية للقديس أغسطينوس

الإيمان يسبق الصلاة

الترتيب الموضوع لكم هو لبنيانكم، أذ يطلب منكم أن تتعلموا أولا ما تؤمنون به (قانون الإيمان)، ثم بعد ذلك تسألون الله وتدعونه (الصلاة الربانية). فيقول الرسول: “لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص ” (رو١٠: ١٢) انظر (يؤ٢: ٣٢). هذا النص اقتبسه الرسول بولس الطوباوي من يوئيل النبي الذي تنبأ عن هذه الأيام التى دعا فيها الله كل البشر. وقد أضاف الرسول: “فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به. وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بلا كارز؟ وكيف يكرزون بالمسيح. إذ سمعهم الناس آمنوا، وبإيمانهم دعوا الله، لهذا تعلًمتم أولا ما تؤمنون به (أى قانون الإيمان) واليوم تتعلمون أن تدعوا ذاك الذي تؤمنون به.

لقد تعلمتم قانون الإيمان الذي يحوي موجزا مختصرا لقواعد إيمانكم السامية، موجزا من جهة الألفاظ، وساميا من جهة محتوياته. وأما الصلاة الربانية التى تتسلمونها الآن فلتتعلموها بقلوبكم، ولتكرروها فى الثمانية أيام، فكما سمعتم فى الإنجيل أن الرب نفسه قد لُقًن هذه الصلاة لتلاميذه، ونحن بدورنا تسلمناها منهم إذ فى كل الأرض خرج منطقهم ” (مز١٩: ٤٠) .

أهمية الصلاة الربانية

لقد علم ابن الله ذاته تلاميذه ومؤمنيه هذه الصلاة، لذلك لنا رجاء عظيم فى الفوز فى القضية مادام لنا مثل هذا الشفيع الذي يلقًنَنا ما نطلبه. إنه الديان الجالس عن يمين الآب كما تعرفون، هو شفيعنا وفى نفس الوقت هو الذي سيديننا، لذلك تعلموا هذه الصلاة.

ملاحظات فى الصلاة

 ١- لنعلم ممن نطلب وماذا نطلب

ينبغى على المصلى أن يحذر أمرين: 

 أ- ن يسأل ممن لا ينبغي أن نطلب منه. فلا يجوز لنا أن نطلب من الشيطان أو الأوثان أو الأرواح الشريرة، بل نطلب كل شىء من الرب إلهنا يسوع المسيح، لنطلب من الله أب الأنبياء والرسل والشهداء.

ب- لنحذر من أن نطلب ما لا يجوز طلبه، فماذا ينفعكم لو طلبتم من الله الآب السماوي موت أعدائكم! ألم تسمعوا عما ورد فى المزمور متنبئا عن نهاية يهوذا الخائن المؤلمة إذ يقول: “وصلاته فلتكن خطيئة ” (مز١٠٩: ٧). فإن طلبتم الإثم لأعدائكم، فصلاتكم تكون خطية عليكم.

الاهتمام بالتقوى لا بكثرة الكلام

لقد نهانا ربنا عن كثرة الكلام، حتى لا تقدًم له كلمات كثيرة كما لو كنا نعلمه بكلامنا. لذلك لا تحتاجون في الصلاة إلى الكلام، بل إلى التقوى. “لأن أباكمك يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه ” (مت٦: ٨)، ولئلا يشك أحد فيقول: إن كان الله يعلم ما نحتاج إليه، فما الداعي إلى الصلاة سواء كانت بكلمات كثيرة أو قليلة؟! نعم أنه يعلم كل ما نحتاج إليه، ولكنه يريدكم أن تصلوا حتى يهبكم حسب اشتياقكم فلا تستخفوا بعطاياه، ناظرين إلى أنه قد وضع فينا هذه الصلاة لتكون أساسا ونموذجا لاشتياقنا، فلا نطلب شيئا غير ما ورد فيها.

أولا: أبانا الذي فى السموات (ممن نطلب ؟)

١- لنصلى بدالة البنوة

يقول: “فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي فى السماوات”، ففى قوله هذا نرى أن الله صار أبا لنا. إنه يكون أباكم متى وُلدتم (بالمعمودية) ولادة جديدة. فالآن (وأنتم على أهبة العماد) قبل ميلادكم الجديد، قد حُبل بكم بزرع الله. إنكم على وشك الوجود حيث ُتجلبون إلى جرن المعمودية رحم الكنيسة.

تذكروا أن لكم أبا في السموات، تذكروا أنكم ولدتم من أبيكم آدم للموت، وأنكم تولدون مرة أخرى من الله الآب للحياة –فما تصلون به قولوه بقلوبكم.

٢- المسيح أخونا الأكبر

علمنا ابن الله ربنا يسوع المسيح هذه الصلاة، وبالرغم من كونه الرب نفسه، كما سمعتم ورددتم فى قانون الإيمان قائلين “ابن الله الوحيد”، ومع هذا فقد وهبنا أن نكون إخوة له. فمن هو هذا الذي يريدنا أن ندعوه أباً لنا سوى أبوه هو؟!

عندما ينجب الآباء ابنا أو اثنين أو ثلاثة يخشون من أن ينجبوا بعد ذلك، من العوز. وأما ميراثنا نحن فكبير، لن يتأثر نصيب كل منا مهما ازداد عدد الوارثين. لهذا دعا الرب كل الشعوب ليكونوا إخوة له بلا عدد. هؤلاء يقولون: “أبانا الذي في السموات”. انظروا كم أخ صار للابن الوحيد بواسطة نعمته، يشاركون من مات لأجلهم فى الميراث؟!

٣- لنسلك كأبناء الله

لنا والدان قد ولدانا على الأرض للشقاء ثم نموت. لكننا وجدنا والدين آخرين، فالله أبونا والكنيسة أمنا، ولدانا للحياة الأبدية.

لنتأمل أيها الأحباء أبناء من قد صرنا. لنسلك بما يليق بأب كهذا، انظروا كيف تنازل خالقنا ليكون أبا لنا؟َ

لقد وجدنا لنا أبا فى السموات ، لذلك وجب علينا الاهتمام بسلوكنا ونحن على الأرض ، لأن من ينتسب لأب كهذا ينبغى عليه السلوكبطريقة يستحق بها أن ينال ميراثه.

٤- جميعنا إخوة

لقد بدأتم تنتسبون إلى عائلة عظيمة، وبهذا النسب يصير الكل إخوة: السيد والعبد، القائد والجندي، الغنى والفقير الخ . للمسيحين آباء أرضيون مختلفو الرتب والطبقات، فمنهم من هم نبلاء، ومنهم المُزدرى بهم، ومع هذا فجميعهم يدعون أبا سماويا واحدا، جميعهم يقولون: “أبانا الذي فى السماوات”، فهل فهموا أنهم إخوة؟! فلا يستنكف السيد من أن يعتبر العبد أخا، ناظرا إلى أن الرب يسوع وهبه أن يكون أخا له.

٥-التطلع إلى السماويات

يا من وجدتم لكم أبا في السماوات، امتنعوا عن الالتصاق بالأمور الارضية، إذ اقترب الوقت الذي فيه تقولون:” أبانا الذي في السماوات“.

 إن كان أبونا في السماء، فهناك أيضا يُعد لنا الميراث. إنه يعطينا إمكاني امتلاك ما قد وهبنا. فقد وهبنا ميراثا لا نرثه بعد موته (كما هو الحال في العالم)، فأبونا حي لا يموت، وسيبقى إلى الأبد هناك حيث نذهب عنده.

ثانياً: الطلبات الست (ماذا نطلب ؟)

لقد سمعنا من هو الذي ينبغي أن ندعوه، وأي رجاء صار لنا لنوال ميراث أبدى، إذ صار لنا أب سماوي. لنسمع الآن إلى ما ينبغي علينا سؤاله، ماذا نطلب من أب كهذا؟

1- ليتقدس اسمك

لماذا تسألون من أجل تقديس اسم الله؟! أنه قدوس، فلماذا تسألون القداسة لمن هو قدوس أصلا! إنكم إذا تسألونه ذلك هل تطلبون لأجل الله وليس لأجل صالحكم؟! لا، افهموا هذا جيدا، وهو إنكم تسألون هذا لأجل أنفسكم. إنكم تسألون من هو قدوس فى ذاته دائما أن يكون مقدسا فيكم.

ماذا تعنى كلمة “ليتقدس”؟ إنها تعنى أن يتقدس اسم الله فيكم ولا يحُتقر فيكم. لذلك فإن ما تطلبونه هو لخيركم، لأنكم إن احتقرتم اسم الله تصيرون (وليس الله) أشرارا.

يتقدس اسم الله فيكم بنوالكم سر المعمودية، ولكنكم لماذا تطلبون هذه الطلبة بعد العماد، إلا لكى يبقى فيكم ما استلمتموه بالعماد إلى الأبد.

٢- ليأت ملكوتك

إن مجيئه آت لا محالة، سواء سألناه ذلك أو لم نسأله. حقا إن ملكوته أبدى، لأنه فى أى وقت لم يكن لله ملكوت! متى بدأ يملك؟! إن ملكوته بلا بداية ولا نهاية.

ينبغى علينا أن نعلم أننا نصلى بهذه الطلبة لأجل أنفسنا وليس لأجل الله، لأننا لا نقول “ليأتي ملكوتك”، كما لو كنا نسأل من أجل أن يملك الله، بل لكي نكون نحن من ملكوته، وذلك إن آمنا به وتقدمنا فى إيماننا هذا. كل المؤمنين الذين يخلصون بدم ابنه الوحيد سيكونون ملكوته. وهذا الملكوت آت بعد القيامة، حيث يأتي الابن بنفسه ويقيم الاموات. ويقول للذين عن يمينه: “تعالوا يا مباركي أبى رثوا الملكوت” (مت٢٥: ٣٤). هذا هو الملكوت الذي نرغبه ونطلبه بقولنا “ليأتي ملكوتك”. إننا نطلب أن يأتي بالنسبة لنا، لأنه وإن لم يأت بالنسبة لنا فسيأتي، ولكن للآخرين. أما إذا انتمينا إلى أعضاء ابنه المولود الوحيد، فسيأتي ملكوته بالنسبة لنا ولا يتأخر.

هل لا زالت سنوات كثيرة على مجيئه كتلك التي عبرت! يقول الرسول يوحنا: “أيها الأولاد أنها الساعة الأخيرة. أنها ساعة طويلة بالنسبة لذلك اليوم الطويل. انظروا كم من السنوات دامت هذه الساعة الأخيرة! إذن فلنسهر حتى ننام بالموت لنقوم فى النهاية ونملك إلى الأبد.

ماذا يقصد بـــ “ليأتي ملكوتك”؟ يجدنا صالحين، فنحن نطلب منه ان يجعلنا صالحين حتى يأتى ملكوته بالنسبة لنا.

لتعطنا نصيبا في ملكوتك، ليأتي بالنسبة لنا ذاك الذي سيأتي لقدسييك ولأبرارك.

لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.

لتكن مشيئتك” …. ماذا نقول؟  هل لا ينفذ الله مشيئته ما لم نطلب نحن منه ذلك! تذكروا ما تكررونه في قانون الإيمان قائلين: “نؤمن بإله واحد، الله الآب ضابط الكل (القدير) ” فإن كان الله قديرا، فلماذا نصلى أن تكون مشيئته؟

إذن ماذا يقصد بالطلبة “لتكن مشيئتك “؟  إنه يقصد بها أن تعمل مشيئته في ولا أقاومها. وبذلك تطلبون من أجل أنفسكم لا من أجل الله لأن مشيئة الله عاملة فيكم ولو لم تكن بواسطتكم. فمشيئة الله عامله فيمن سيقول لهم “تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم” (مت٢٥: ٣٤). كما تعمل فيمن سيقول لهم: “اذهبوا عنى … إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته” (مت٢٥: ٤١). تعمل مشيئته فى الأولين بأن يأخذ الأبرار والقديسون ملكوت السموات، كما تعمل في الآخرين بمعاقبة الأشرار بالنار الأبدية. أما كون مشيئته تعمل بواسطتنا فهذا أمر آخر. فأنتم لا تصلون لكي تعمل مشيئة بلا فائدة، بل لصالحكم. لأنه سواء أكانت لصالحكم أو لغير صالحكم فهى نافذة، ولكنها ستعمل فيكم وليس بواسطتكم.

ماذا يقصد بكلمتي “السماء، الأرض”؟

 ا-الملائكة والبشر

تصنع الملائكة مشيئة الله، فهل نصنع نحن مشيئته؟! كما أن ملائكتك لا تعارضك، هكذا ليتنا نحن لا نعارضك أيضا. كما أن ملائكتك تخدمك في السماء، هكذا لنخدمك نحن على الأرض.

ملائكته القديسون يطيعونه، إنهم لا يخطئون إليه، بل ينفذون وصاياه لمحبتهم له. ونحن نصلى لكى ننفذ أيضا وصاياه في حب.

ب‌-الروح (أو العقل) والجسد

العقل هو السماء، والجسد هو الأرض. لنقل مع الرسول: “أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله، ولكن بالجسد ناموس الخطية” (رو٧). ُتصنع مشيئة الله في السماء (في الذهن)، لكنها لم تصنع بعد على الأرض (الجسد). لكن عندما يتفق الجسد مع الذهن  “ويُبتلع الموت إلى غلبة” (أنظر ١كو١٥: ٥٤) ، فلا تبقى بعد شهوات جسدية يصارع معها الذهن فينتهى الكفاح الأرضى ، وتعبر الحرب القلبية ، المكتوب عنها : “لأن الجسد يشتهى ضد الروح ، والروح ضد الجسد ، وهذا يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون” (غل٥: ١٧) ؛ أقول عندما تنتهى هذه الحروب وتتحول كل الشهوات إلى محبة ، ولا يبقى فى الجسد ما يضاد الروح ، لا يبقى فيه شىء يُقمع أو يُلجم أو يُطأ بالأقدام ، بل يصير الكل فى وفاق نحو البر، عندئذ تكون مشيئة الله كما فى السماء كذلك على الأرض ” نطلب الكمال .

 إننا نقبل وصايا الله، وهي مبهجة لنا … مبهجة لعقولنا، فإننا نُسَر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن” (رو٧: ٢٢) وهذه هي مشيئته النافذة في السماء، لأن أرواحنا تشبه السماء، وأما الأرض فهي أجسادنا. إذن ماذا يقصد بالطلبة: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض؟ ” يقصد بذلك كما تبتهج عقولنا بوصاياك، فلتُسر أيضا بها أجسادنا. بهذا ينتهي الصراع الذي وصفه الرسول. فعندما تشتهى الروح ضد الجسد تكون مشيئته عاملة في السماء، وعندما لا يشتهى الجسد ضد الروح حينئذ تنفذ مشيئته على الأرض أيضا. فإذ تتم مشيئة الله، يحدث وفاق تام بينهما ويتحول الصراع الحالى إلى نصرة فيما بعد.

ج. الانسان الروحى والانسان الجسدانى

الانسان الروحاني فى الكنيسة هو السماء، أما الجسداني فهو الأرض. هكذا “لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض” أي كما يخدمك الروحاني، هكذا ليخدمك الجسداني أيضا بإصلاحه.

د. المؤمنون وغير المؤمنين

يوجد معنى روحى آخر … فقد طلب منا أن نصلى لأجل أعدائنا … فالكنيسة هي السماء، وأعداؤها هم الأرض، فماذا يعنى “لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض؟ ” أى من يؤمن بك الأعداء، كما نؤمن نحن بك. إنهم أرض لذلك هم يعادوننا، فليصيروا سماء ً، يكونوا معنا.

السماء هي الكنيسة، لأنها عرش الله والأرض هي غير المؤمنين، الذين قيل عنهم “لأنك تراب Earth ، وإلى التراب تعود” (تك٣: ١٦) فيقصد بــ ” كما فى السماء كذلك على الأرض” ، أى كما فى مؤمنيك كذلك فى الذين يجدفون عليك حتى يصيروا “سماءً

ليتنا عندما نردد هذه الطلبة نفكر فى جميع هذه المعاني سائليتها من الرب.

خبزنا اليومي اعطنا يومياً

عندما تقولون: “ليتقدس اسمك” و” لتكن مشيئتك “، ليأتي ملكوتك، هذه جميعها تحتاج إلى إيضاح حتى لا تحسبوا أنفسكم تطلبون لأجل الله، بل لأجلكم، أما ابتداء من هذه الطلبة حتى نهاية الصلاة، فإنه يظهر بوضوح أننا نصلى إلى الله لأجل صالحنا. فعندما تقولون “خبزنا اليومي أعطنا اليوم”، تعترفون باستعطائكم الله، ولكن لا تخجلوا من هذا، إذ مهما بلغ غنى أى إنسان على الأرض فهو شحاذ من الله.

يقف الشحاذ أمام منزل الغنى، ويقف الغنى أيضا أمام باب ذلك الواحد العظيم فى الغنى. من الغنى يطلب الفقراء، وهو بالتالي يطلب. فلو لم يكن محتاجا ما كان له أن يقرع على آذان الله بالصلاة

وما هو احتياج الغنى؟ أتجاسر فأقول إنه يحتاج إلى خبزه اليومي. لأنه كيف توفرت كل ما لديه من بركات إلا لأن الله وهبه إياها؟! ماذا يكون حاله لو رفع الرب يده عنه؟! ألم ينم كثيرون من الميسورين وقاموا فوجدوا أنفسهم معدمين! فعدم عوز الغنى إنما يرجع إلى مراحم الله وليس إلى قدراته.

ماذا يقصد بالخبز اليومي؟

أ‌. القوت والكساء اليومي

هب لنا يارب أشياء أبدية (الطلبات السابقة). أعطنا أشياء زمنية. لقد وعدت بالملكوت، فلا تمسك عنا الوسيلة التي نعيش بها. ستهبنا مجدا أبديا بإعطائنا ذاتك فيما بعد. أعطنا فى هذه الأرض المئونة الزمنية الى نقتات بها. لذلك فهو خبز يومي، وليعطنا إياه “اليوم” أي في هذه الحياة. لأنكم هل تطلبون خبزا يوميا بعد عبوركم هذه الحياة؟! هناك لا تقل كلمة “يوميا” بل “اليوم”. الآن يقال يوميا، أما هناك فهل سيُدعى “يوميا”حيث يكون يوما واحدا أبديا؟

بلا شك تفهم هذه الطلبة عن الخبز اليومي بمفهومين هما: القوت الضروري للجسد، والقوت اللازم للروح

ينبغى على الإنسان ألا يشتهى أكثر من القوت اليومي، لأنه كما يقول الرسول: “لأننا لم ندخل العالم بشيء؟ وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء، فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما ” (١تى ٦: ٧-٨).

إخوتى الأعزاء … هذا الخبز الذي يشبع أجسادنا وينعش أبداننا كل يوم، لا يعطيه الله للذين يمجدونه فحسب، بل وللذين يجدفون عليه أيضا، “فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين (مت٥: ٤٥). إنكم تمجدون الله وهو يفوتكم، إنكم تجدفون عليه ومع هذا يطعمكم. إنه ينتظر توبتكم، فإن لم تتغيروا فسيدينكم.

ب‌.كلمة الله

ج. سر الافخارستيا

٥- وأغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا

وأغفر لنا ما علينا” ؛ إننا مدينون بالخطايا لا بالمال. ولكنكم قد تقولون: وهل أنتم أيضا مدينون بالخطايا؟ أجيب نعم.

أأنتم أيها الأساقفة مدينون؟ نعم نحن مدينون أيضا

ما هذا ياربى؟! أزيلوا عنكم هذا (أى دينونة الأساقفة) ولا تخطئوا

لقد نلنا سر المعمودية، ومع ذلك فنحن مدينون، لا لأن المعمودية لم تغفر خطية معينة، وإنما لأننا نرتكب فى حياتنا ما يحتاج إلى غفران يومي. إن الذين اعتمدوا، وبعد خروجهم من جرن المعمودية انتقلوا من العالم فى الحال، هؤلاء تركوا العالم وهم بلا خطية، وأما من اعتمد، وبقي فى هذه الحياة، فإنه يرتكب نجاسات بسبب ضعفه الجسدي، وبالرغم من أن ما يرتكبه من نجاسات لا يؤدى إلى غرف سفينة حياته، إلا أنها تحتاج إلى مضخة تنزح هذه النجاسات التى دخلت السفينة لئلا يؤدى دخولها شيئا فشيئا إلى غرق السفينة. وأما المضخة فهي الصلاة، ولكن علينا أن نصنع الإحسان أيضا مع الصلاة. فعندما نستخدم المضخة لنزح ما بالسفينة، نستخدم أصواتنا وأيدينا. ونحن أيضا نستخدم أصواتنا عندما نصلى قائلين: “أغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا” ونعمل بأيدينا عندما ” نكسر للجائع خبزا وندخل المساكين التائهين إلى بيوتنا” (أنظر إش٥٨: ٧). اصنع إحسانا فى قلب الفقير فيشفع فيك أمام الرب.

إننا نقول “أغفر لنا ذنوبنا” … أى إنسان يعيش فى هذه الحياة ولا يحتاج إلى هذه الطلبة؟ قد يتكبر الإنسان، لكنه لا يستطيع أن يتبرر.  من الأفضل له أن يقتدى بالعشار، لا أن ينتفخ كالفريسي الذي صعد إلى الهيكل متباهيا باستحقاقه، خافيا جراحاته، فألذى قال:” اللهم ارحمنى أنا الخاطئ” (مت١٨: ١٢) عرف إلى أين يصعد.

أنظروا أيها الأخوة، كيف علم الرب يسوع تلاميذه الذين هم رسله الأولين العظماء، قادة قطيعنا، علمهم أن يصلوا بهذه الصلاة فإن كان القادة يطلبون من اجل مغفرة خطاياهم، فكم بالأكثر ينبغي علينا نحن الحملان؟؟!

ففى “جرن الولادة الجديدة”، ننال مغفرة جميع خطايانا ومع ذلك فنحن نُساق إلى ضيقات عظيمة ما لم ننل المغفرة اليومية بهذه الطلبة المقدسة. فالصلاة والإحسان يرفعان الخطايا، بشرط ألا ترتكب تلك الخطايا التى بسببها نُحرم من الخبز اليومى (من التناول من الأسرار المقدسة). علينا أن نتجنب كل الآثام التي بسببها نستحق تأديبيات قاسية.

لا تحسبوا أنفسكم أنكم أبراراً عندما لا تستطيعون القوى “أغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا

إنسان يخطىء بالتلذذ بالنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه. فمن يستطيع أنن يسيطر على عينيه بسرعة ليغلقها؟!

من يستطيع أن يضبط أذنيه أو عينيه؟ يمكنكم أن تغلقوا العين حيثما تشاءون، ولكن الآذن تحتاج إلى مجهود لإغلاقها، إنها ستبقى مفتوحة ، ولا يمكن إغلاقها عن سماع هذه الأمور بلذة ، أما تخطئون رغم عدم ارتكابكم للخطية (لأنكم تنصتون بالرغم من إرادتكم) ؟

يا لعظم الخطايا التي يرتكبها اللسان! نعم أن بعضها تحرم الانسان من الاقتراب إلى المذبح كالتجديف، فاللسان ينطق بالتجديف كما قد ينطق بكلمات تافهة غير لائقة.

امنعوا أيديكم عن ارتكاب الخطايا، وأرجلكم عن الجري نحو الشر، وأعينكم عن النظر نحو كل ما هو قبيح، وآذانكم عن الاستماع بلذة إلى الحديث القبيح، وألسنتكم عن النطق بألفاظ معيبة، ومع هذا فأخبروني إن كان يستطيع أحدكم أن يضبط الأفكار؟! إخوتى كم مرة نصلى ونحن مشتتى الفكر، كما لو نسينا أمام من نحن واقفوان أو أمام من نطرح أنفسنا؟!

اغفروا من القلب، أي انزعوا الغضب من قلوبكم. لنقل فى كل يوم “اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا” وليكن هذا القول من القلب، عالمين بما نقوله. أنه عهد وميثاق، إنه ارتباط بيننا وبين الله. فالرب إلهنا يقول لن: “اغفروا يُغفَر لكم”، فإن لم نغفر للآخرين تبقى خطايانا علينا وليس عليهم.

أبنائي الأعزاء المحبوبين، أطلب إليكم أن تستمعوا إلى، فقد عرفت ما هو صالح لكم في الصلاة الربانية. لقد اقترب موعد عمادكم. اغفروا للآخرين عن كل شيء. إن كان فى قلب أحدكم شيئا على آخر، فلتغفروا له. ادخلوا المعمودية هكذا وأنتم متأكدون أن جميع خطاياكم التي ارتكبتموها قد غُفرت لكم سواء الخطية الجدية التي ولدتم بها، والتي بسببها تسرعون للرضاعة من نعمة المخلص، أو تلك الخطايا التي ارتكبتموها فى حياتكم، إن كانت بالكلام أو بالفعل أو بالفكر. فتخرجون من ماء المعمودية كما من أمام حضرة إلهكم، متأكدين من العفو التام عن جميع آثامكم.

لقد وهبنا الله ميثاقا وعهدا وارتباطا راسخا فيه، فمن أراد القول “اغفر لنا ذنوبنا” بطريقة مجدية، عليه أن ينطق بحق قائلا: “كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا”. فإن لم ننطق بهذا القول الأخير، أو قلناه بخداع بكون طلبنا الغفران باطلا.

إننا نقول لكم يا من اقترن موعد عمادكم المقدس أن تغفروا من قلوبكم كل شيء، وأنتم أيضا أيها المؤمنون الذين تنتفعون بإصغائكم إلى هذه الصلاة وشرحها، اغفروا كل ما على الآخرين غفرانا تاما من قلوبكم. اغفروا من قلوبكم التي يراها الله. لأنه أحيانا يغفر الانسان بفمه، ولكنه لا يغفر لأخيه من قلبه. يغفر بالفم لأجل البشر، ولا يغفر من قلبه حيث لا يخاف عين الله. لا أقل من أن تغفروا فى هذه الأيام المقدسة (أيام الصوم الكبير) كل ما أبقيتموه في قلوبكم على الآخرين.

مكتوب ” لا تغرب الشمس على غيظكم” (أف٤: ٢٦) ومع ذلك فهوذا قد غابت الشمس مرارا على غيظكم. انزعوا غيظكم، فإننا نحتفل بأيام الشمس العظيم (المسيح)، هذه الشمس المكتوب عنها “لك تشرق شمس البر، والشفاء في أجنحتها” (مل٤: ٢). فإن كنتم غضبى، فلا تدعوا هذه الشمس(المسيح) تغرب فى قلوبكم على غيظكم، لئلا يغرب شمس البر عنكم وتبقون فى الظلام.

لا تظنوا أن الغضب (أى عدم الغفران للآخرين) أمر يُستهان به، إذ يقول النبي: “تعكرت من الغضب عيناي” (مز٦: ٧). فبالتأكيد لا يستطيع متوعك العينين معاينة الشمس، فإن حاول النظر إليهما أضرته.

وما هو الغضب؟ أنه شهوة الانتقام. يشتهى الانسان الانتقام مع أن المسيح لم ينتقم بعد، ولا الشهداء انتقموا. إن أناة الله لا زالت تنتظر اهتداء أعداء المسيح وأعداء الشهداء. فمن نحن حتى نطلب لأنفسنا الانتقام؟! فلو طلب الله الانتقام منا فهل نستطيع أن نثبت! فإن كان الله الذي لا يضرنا في شيء لا يرغب في الانتقام منا، فهل نطلب نحن الخطاة على الدوام الانتقام لأنفسنا؟! إذن اغفروا من قلوبكم للآخرين.

وإذا غضبتم فلا تخطئوا، “اغضبوا ولا تخطئوا”. فأنتم كبشرتغضبون متى تغلَب الغضب عليكم. ولكن وجب عليكم ألا تخطئوا بإبقائه في قلوبكم. لأنكم إن تركتموه فى قلوبكم صار الغضب ضدكم ويحرمكم من معاينة النور. لذلك اغفروا للأخرين.

ما هو الغضل؟ أنه شهوة الانتقام. وما هي الكراهية؟ إنها غضب مزمن. فإن الغضب متى أزمن صار كراهية. فالغضب هو “قذى” وأما الكراهية فهى “خشبة” فأحيانا ننظر إلى غضب أخينا كخطية يرتكبها، ونحن في نفس الوقت نحتفظ في قلوبنا بالكراهية. لذلك يقول السيد المسيح: “لماذا تنظر القذى فى عين أخيك وأما الخشبة التى فى عينيك فلا تفطن لها؟

كيف تنمو القذى لتصير خشبة؟ بعدم استئصالها سريعا فإذ تتركون الشمس تشرق وتغرب كثيرا على غيظكم تحعلوه يزمن … وإذ ترونه بالشكوك الشريرة تجعلونه ينتعش ويصير (كراهية) خشبة.

فلترتعبوا عند سماعكم “كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس” (١يو٣: ١٥). حقا إنكم لم تقتلوه بالسيف ولا سببتم له جروحا، إنما بالكراهية التي في قلوبكم تعتبرون قاتلين ومجرمين في عيني الله.

إن وجدتم في منازلكم عقارب وأفاعي، أفلا تجتهدوا لطردها حتى تعيشوا في أمان منها فى منازلكم؟! ومع ذلك هوذا الغضب يتأصل في قلوبكم، وتنمو فيكم كراهيات كثيرة وخشب كثير وعقارب وأفاعي، ومع ذلك فلا تنقون قلوبكم التي هي مسكن الله.

هل نستطيع أن نغفر لأعدائنا؟

لكن إذا كان لكم أعداء فماذا تفعلون؟! تيقظوا لأنفسكم وأحبوا أعدائكم. لأن عدوكم لا يستطيع بقوته أن يؤذيكم. قدر ما تؤذون أنفسكم بعدم محبتكم له. فقد يتلف عقاركم، أو قطعانكم، أو منازلكم، أو خدمكم، أو خادماتكم، أو أبناءكم، أو زوجاتكم … أو على الأكثر ُيعطى له سلطان على أجسادكم، ولكن هل فى قدرته أن يؤذى أرواحكم كما تؤذونها أنتم؟!

أعزائى الأحباء، أتوسل إليكم أن تسعوا نحو الكمال، ولكن هل فى استطاعتي أن أهبكم القدرة على محبة الأعداء؟ إن الله وحده هو الذي يستطيع أن يهبكم هذه القوة، ذاك الذي تقولون له “لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض

لا تنظروا إلى محبة الأعداء كأمر مستحيل بالنسبة لكم، فإنني بحسب خبرتي أعرف مسيحيين يحبون أعداءهم. فإن ظهرت محبة الأعداء كامر مستحيل فإنكم لن تحبونهم. فعليكم أولا أن تؤمنوا أنه يمكن لكم أن تحبوا أعداءكم، وصلوا حتى تعمل إرادة الله فيكم لأنكم ماذا تنتفعون بما يصيب أخوكم (عدوكم)؟! فلولا كونه شريرا ما كان قد صار عدوا لكم. إذن فعليكم أن تشتهوا له الخير، فينتهى شره، وبالتالي لا يعود بعد يكون عدوا لكم. إنه عدو لكم لا بسبب طبيعته البشرية، بل بسبب خطيته.

لقد كان شاول عدوا للكنيسة، وكانت الكنيسة تقيم صلوات من أجله ليصير صديقا لها. فلم يكف شاول عن اضطهاد الكنيسة فحسب، بل وصار يجاهد لمساعدتها. لقد أُقيمت صلوات ضده لكنها لم تكن ضد طبيعته، بل ضد افتراءاته. فلتكن صلواتكم ضد افتراءات عدوكم حتى تباد، أما هو فيحيا. لأنه إن مات عدوكم، تفقدونه كعدو، ولكنكم تخسرونه كصديق أيضا. أما إذا ماتت افتراءاته فتفقدون عدوا، وفى نفس الوقت تكسبون صديقا.

هل جميع الذين في الكنيسة، والذين يقتربون إلى المذبح، والذين يتناولون من جسد المسيح ودمه ، يحبون الرب ؟ ومع هذا فجميعهم يقولون: “أغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا”   بماذا يجيبون لو قال الله لهم: “لماذا تسألونني أن أفي بوعدي، ومع ذلك فأنتم لم تنفذوا ما طلبته منكم ؟ ماذا وعدت؟ أن أغفر خطاياكم. وبماذا أمرتم؟ أن تغفروا للمذنبيين إليكم.

كيف تستطيعون بالحري تنفيذ ما أمركم به الرب ما لم تحبوا أعداءكم، نعم بالحري صلوا لكى تحبوهم

كيف نحب أعداءنا؟

١- بالتدريب على مسامحتهم عندما يعتذرون

إن لم تغفروا للآخرين تهلكون. لذلك إن استسمحكم عدوكم اغفروا له للحال. هل كثير عليكم أن تغفروا له عندما يعتذر لكم؟! إن كانت محبة عدوكم أثناء إساءته لكم صعبة عليكم، فهل كثير عليكم أن تحبوه عندما يتوسل إليكم؟! لكنكم قد تقولون لقد كان من قبل قاسيا، ولهذا تكرهونه. ومع هذا فإننى أفضل ألا تكرهونه حتى أثناء إساءته لكم!

٢- تذكر محبة المسيح لأعدائه

عندما تعانون من قسوة عدوكم، استحسن أن تذكروا قول الرب: “يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون ” (لو23: 34). إننى أشتاق بالأكثر أن تتذكروا كلمات إلهكم هذه، حتى أثناء اعتداء عدوكم عليكم، لكنكم قد تقولون إنه قال ذلك كإله، أما أنا الضعيف الخاطئ، كيف أستطيع ذلك؟! إن كان ربكم مثلا عاليا بالنسبة لكم فلتنظروا إلى زميلكم الخادم، فإذ كانوا يرجمون إسطفانوس، كان يصلى بركب منحنية لأجل أعدائه قائلا: “يارب لا تقم لهم هذه الخطية” (أع7: 6). لقد كانوا يقذفونه بالحجارة، دون أن يطلبوا منه العفو، ومع هذا كان يصلى لأجلهم. أريد أن تتمثلوا به. تقدموا إلى الأمام. لماذا تسحبون قلوبكم إلى الأرض إلى الأبد؟ اسمعوا: “ارفعوا قلوبكم”. فإن لم تستطيعوا أن تحبوا أعداءكم أثناء اعتدائهم عليكم، فلا أقل من أن تحبوهم أثناء طلبهم العفو منكم. فإن قال لكم: “أخي أخطأت إليك، اعف عنى، فإن لم تغفروا له ، لا أقول بأن صلاتكم تُمحى من قلوبكم ، بل ستمحى نفوسكم من كتاب الله.

مغفرة الخطايا للآخرين لا تعنى عدم التأديب

إن كان ينبغى عليكم أن تغفروا للآخرين أو تزيلوا من قلوبكم كراهيتكم لهم، فإننى أطلب إليكم ألا تمتنعوا عن تأديبهم بلياقة. ماذا يحدث لو طلب أحدكم الصفح منى، ولكن وجب على أن أؤدبه.

عدم الشك فى نية طالب العفو

لعلكم تقولون: أنه يخدعنا. أنه يتظاهر. يا من تدينوا القلوب، هل تستطيعون أن تخبرونى ما هى أفكار آبائكم أو حتى أفكاركم التي جالت لكم بالأمس؟ إن عدوكم يطلب منكم الصفح. اغفروا له بكل وسيلة. فإن لم تغفروا له لا تضرونه، بل تضرون أنفسكم. لأنه عرف ما ينبغي عليه أن يفعله. فإذ تمتنعون عن قبول اعتذاره، يذهب إلى ربكم ويقول له: “يارب لقد طلبت من زميلى العبد ليغفر لى فلم يشاء. اغفر أنت لي”  . أليس فى سلطان الله أن يغفر له؟! هكذا سينال الغفران من إلهه، ويعود محاليلا من خطيته، بينما تبقون أنتم مربوطين بالخطية، إذ يأتى وقت الصلاة الذى تقولون فيه: “أغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا “، فيجيبكم الرب “أيها العبيد الأشرار، كل هذا الدين تركته لكم لأنكم طلبتم إلى ، أفما كان ينبغى عليكم أنتم أيضا أن ترحموا العبيد رفقاءكم كما رحمتكم أنا ” انظر (مت١٨: ٣٢-٣٣) . هذه ليست كلماتي، لكنها من الإنجيل نفسه.

٦-ولا تدخلنا فى تجربة لكن نجنا من الشرير

لقد تحدثنا كثيرا عن الخطايا التي سبق أن ارتكبناها، ولكن بماذا نصلى لأجل الخطايا المقبلة؟

ولا تدخلنا فى تجربة

 أغفر لنا ذنوبنا التي ارتكبناها، وهبنا أيضا ألا نخطئ بعد بأية خطية. لأن من يُغلب من التجربة يسقط فى الخطية. لهذا يقول الرسول يعقوب: “لا يقل أحد إذ جُرب إنى أجرب من قبل الله، لأن الله غير مجرب بالشرور، وهو لا يجرب أحدا. ولكن كل واحد يجرب إذ انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كملت تنتج موتا “(يع١: ١٣-١٥). فإذ لا تنجذبون إلى الشهوة لا تقبلونها، فإن قبلتموها تكونون كما لو كنتم تحتضنوها بقلوبكم.

إن الشهوة تثور، فأضبطوا أنفسكم ولا تتبعوها. أنها نجسة ومحرمة. أنها تفصلكم عن الله. فعليكم ألا تحتضنوها بقبولكم لها، لئلا تلد، لأنه إن قبلتموها أي احتضنتموها حبلت، و”الشهوة” إذا حبلت تلد خطية. ألا تخافوا من أن تلد خطية؟! والخطية تنتج موتا. فإن لم تخافوا من الخطية، خافوا من عاقبتها، أي خافوا من الموت. الخطية حلوة، ولكن الموت مر. إنكم تخطئون بسبب المال، أو لمركز عالمي، أو بسبب امرأة، أو أي شيء آخر، هذه التي ستتركونها متى أغلقتم أعينكم للموت، وأما الخطية التي ترتكبونها فستحملونها معكم بعد الموت.

الله لا يجرب أحدا بالتجارب التي ننخدع بها ونضل، ولكنه في عمق عدله يسمح بلا شك أن يتخلى عن البعض، فيجد المجرب فرصته، لأنه لا يجد في الانسان الذي تخلى عنه الله أية مقاومة فإذ يتخلى الله عنهم يتقدم المجرب كمالك لهم. لهذا نقول: ” لا تدخلنا في تجربة ” أي لا تتخل عنا.

ماذا يعلمنا الرسول يعقوب؟ أن نحارب شهواتنا. فإنكم مزمعون أن تطرحوا خطاياكم بنوالكم سر العماد المقدس، ولكن مع ذلك تبقى شهوات تحاربون إياها بعد تجديدكم، لأن الصراع معها سيزال قائما.

لا تخافوا من أي عدو خارجي. انتصروا على أنفسكم، فتغلبوا العالم كله. لأنه ما هو سلطان المجرب الخارجي عليكم، سواء أكان الشيطان أخادمه؟! فمن يبث أمامكم محبة الربح لإغرائكم بالخطية لن يجد فى داخلكم الطمع، عندئذ لا يستطيع أن يفعل بكم شيئا، أما إن وُجد فيكم الطمع فستحترقون عندما يغريكم بالربح، وبذلك يصطادكم بطعم فاسد.

وإن قدم العدو أمامكم نساء فائقات الجمال، فإن كانت العفة في داخلكم، فستغلبون العدو المظلم الخارجي. حاربوا شهوتكم الداخلية فلا يستطيع العدو أ، يقتصكم بطعم امرأة غريبة.

إنكم لا تدركون عدوكم، لكنكم تدركون شهواتكم … إذن فلتسيطروا على شهواتكم التى تلمسوها داخلكم.

لكن نجنا من الشرير

لنفهم هذه العبارة على أنها مكملة للعبارة “لا تدخلنا في تجربة”، لذلك عطفت بحرف “لكن”. تُفهم العبارتان على أنهما طلبة واحدة فبنجاتنا من الشرير لا ندخل في تجربة، وبعدم إدخالنا في تجربة ننجو من الشرير.

تقسيم الطلبات

الطلبات الثلاث الأولى تخص الحياة الأبدية، لأنه ينبغي أن يتقدس اسم الله فينا على الدوام، وأن يبقى ملكوته دائما، وأن نصنع مشيئته إلى الأبد

أما “خبزنا اليومي” فهو ضروري لنا حاليا، وكل الطلبات التالية تخص الحياة الحاضرة. فالخبز اليومي نحتاج إليه في هذه الحياة، ومغفرة الخطايا ضرورية في هذا العالم، لأننا إذ نصل إلى الحياة الأخرى لا تكون هناك خطايا. وفى هذا العالم توجد تجارب حيث إن الإبحار فيه خطير، لكننا عندما نتساوى مع ملائكة الله، لا نعود بعد نحتاج إلى الصلاة من أجل مغفرة الخطايا.

تاكيد الطلبة الخامسة

فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضا أبوكم السماوى ، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم ، لا يغفر لكم أبوكم السماوى أيضا زلاتكم “

أحبائي الأعزاء، حقا إنها لتجربة خطيرة فى هذه الحياة، أن نجرب بالتجربة الخاصة بغفران خطايانا. إنها لتجربة خطيرة، أن يُؤخذ منا ما نشفى به جراحات التجارب الأخرى. إننى أعلم أنكم لم تفهموني بعد. أنصتوا إلى فتفهمون

(يقصد القديس أوغسطينوس أنه لو كانت تجربتنا هى عدم المغفرة للآخرين ، أى كراهيتنا لهم وحب للانتقام لأنفسنا منهم ، فإننا نكون بذلك قد أغلقنا على أنفسنا باب الغفران للتجارب الأخرى ، لأنه لن تغفر لنا أية خطية ما لم نغفر نحن للآخرين)

افترض ان الطمع حارب إنسانا، فسقط هذا الانسان في الطمع، رغم كونه مجاهدا ممتازا، لقد جُرح هذا الانسان فى صراعاته، ولكن هذا المصارع (رغم جراحاته)، لديه الباعث أن يقول: “أغفر لنا ذنوبنا”. هكذا يجد هذا المصارع فرصته لسؤال الغفران متى سقط في أية تجربة. ولكن ما هى هذه التجربة الخطيرة التى سبق أن أشرت إليها؟ إنها حب الانتقام لأنفسنا. إنها تجربة خطيرة أن يلتهب الإنسان غضبا ويحترق انتقاما. بسببها نخسر نوال المغفرة عن الخطايا الأخرى. إنكم إن ارتكبتم أية خطية أخرى أو شهوات أخرى، فستجدون علاجكم في القول “اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا”، ولكن إن خسرتم قوة هذه الطلبة فستبقون في كل خطاياكم.

عندما علمنا ربنا وسيدنا ومخلصنا ست أو سبع طلبات في هذه الصلاة، لم يعالج أية طلبة ولا أمرنا بإحداها مثل ما فعل بهذه الطلبة، وذلك لعلمه بخطورتها في الحياة، فعندما ختم الصلاة الربانية لم يتوسع في أية طلبة، بل قال:” فإن غفرتم للناس زلاتهم“.

احترزوا يا إخوتي، يا أبنائي، يا أولاد الله، احذروا من الغضب. إننى أرجوكم أن تحاربوا إلى النهاية بكل قلوبكم. فإن وجدتم الغضب ماثلا أمامكم صلوا إلى الله حتى يعطيكم النصرة على أنفسكم. لا أقول إن يعطيكم النصرة على أعدائكم الخارجين، بل على أرواحكم الداخلية.

إنكم ترون يا أحبائى كم من الطلبات علمنا إياها ربنا المسيح، وبالكد تجدون فيها طلبة خاصة بالخبز اليومي. أنه يوجه كل تفكيرنا نحو الحياة المقبلة. لأنه لماذا نخاف لئلا يهبنا شيئا مما نحتاج إليه، وقد وعده قائلا: “اطلبوا أولا ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم” (مت٦: ٣١) قبل أن تطلبوها، فكثيرون جُربوا حتى بالجوع فوجدوا إنهم ذهب، ومع ذلك لم ينسهم الله.[9]

 

الصلاة الربانية للقديس كبريانوس

  ١- أيها الاخوة الأحباء ، ان وصايا الانجيل ما هى الا تعاليم الهيه ، هى الاساس الذى يبنى عليه رجاؤنا ، والجدار الذى يستند اليه ايماننا ، هى الغذاء لابهاج القلب ، والدفات لتوجيه مسيرتنا ، والمعين لنوال الخلاص ، فهى اذ ترشد الأذهان الوديعة للمؤمنين الذين على الأرض ، تقودهم الى ملكوت السموات فالله أراد أن يصل الينا كلامه من خلال عبيده الأنبياء ، ولكن كم تكون أعظم بكثير ، تعاليم ابنه ، تلك التى يشهد لها – بصوته – الله الكلمة الذى كان فى الأنبياء ليس بعد يدعو الى تهيئة الطريق لمجيئه ، لكنه أتى بنفسه لكى يدلّنا على الطريق ويرينا اياه ، حتى نمسك بطريق الحياة ، مع الرب القائد والمرشد لنا ، اذ قد استنرنا بالنعمة ، نحن الذين كنا قبلاً تائهين فى ظلال الموت كعميان ، بدون تدبير

  ٢- فبجانب نصائحه الخلاصية ووصاياه الالهية التي يرشد بها خاصته لأجل خلاصهم ، أعطانا بنفسه أيضاً صورة للصلاة ، وقام بإرشادنا ونصحنا بما يجب أن نصلى لأجله  فالله الذى جبلنا لنحيا ، علمنا بصلاحه أيضاً كيف نصلى ، ذاك الصلاح الذى به تنازل ليعطى ويهب لنا كل شيء ، حتى اذا ما خاطبنا الآب بهذه الصلاة وهذا التضرع الذى علّمنا الأبن اياه ، يسمعنا الآب بسهولة أكثر  لقد أخبر سابقاً : ” ولكن تأتى ساعة ، وهى الآن ، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق ” (يو ٤: ٢٣) ، وهكذا حقق المسيح ما قد وعد به سابقاً ، اذ نحن الذين بتقديسه ايانا نلنا الروح والحق ، نستطيع بتعليمه أن نسجد بالروح والح   فهل هناك صلاة يمكن أن تكون أكثر روحانية من تلك التي علّمنا ايّاها السيد المسيح ، الذى بواسطته أرسل لنا الروح القدس ؟ أيّة صلاة للآب يمكن أن تكون أكثر صدقاً من تلك التي أعطاها ايانا الابن – الذى هو الحق – لذلك فالصلاة بخلاف ما علم به لا تكون جهل فقط، بل تكون خطية أيضاً، اذ هو نفسه قد قرر قائلاً: ” رفضتم وصية الله لتحفظوا تقليدكم ؛ ” (مر ٧: ٩)

  ٣-لذلك أيها الاخوة الأحباء اذا صلينا بهذه الحال، تكون الصلاة التي ترتفع من شفاهنا بمثابة صلاة المخلّص نفسه اننا نصلى كما علمنا الله ربنا، وفى صلاة المسيح نحن نقترب من الله، لعل الله الآب يتبين في توسلاتنا كلمات ابنه ، وليت الله الذى يسكن فى قلوبنا يصير أيضاً على شفاهنا ، حيث انه هو شفيع خطايانا أمام الآب ، فنحن الخطأة عندما تصلى انما ننطق بشفاهنا كلمات شفيعنا، الذى قال : ” كل ما طلبتم من الآب بأسمى يعطيكم ” (يو ١٦: ٢٣) فكم بالأكثر تكون صلاتنا فعالة في اسم الرب اذا ما كنا نطلب بنفس كلامه ؛

 ٤-ولكن ليت صلاتنا وطلباتنا تكون بمهابة وانسحاق ، متذكرين أننا واقفون فى حضرة الله وأنه يجب علينا أن نرضيه سواء بمظهر الجسد أو بطريقة الكلام ، فكما من سمات الانسان الذى بلا حياء أن يعمل ضجة وصخب ، فهكذا على الجانب الآخر ، يليق بالانسان المتواضع أن يصلى بطلبات هادئة بالإضافة الى ذلك ، فقد أمرنا الرب فى تعاليمه أن نصلى فى الخفاء فى الأماكن المنعزلة والبعيدة عن الأنظار ، فى مخادعنا ، لأنه يليق بايماننا ، أن ندرك أن الله حاضر فى كل مكان ، وأنه يسمع ويرى الكل وبعظمة جلاله ينفذ حتى الى المواضع السرية والخفية ، كما هو مكتوب ” ألعلى اله من قريب ، يقول الرب ؟ أما أملأ أنا السماوات والأرض، يقول الرب؟ (ار٢٣: ٢٣و٢٤) وأيضاً : ” فى كل مكان عينا الرب مراقبتان الطالحين والصالحين ” ( أم ١٥: ٣) وعندما نلتقى بالاخوة فى مكان واحد ونحتفل بالذبيحة الالهية مع كاهن الله ، يجب أن نراعى النظام والهدوء ، فلا نتلو صلواتنا بكلمات لا معنى لها ، ولا نضج بالثرثرة والصراخ بل نستودعها لله بخشوع  فالله هو سامع للقلب لا للصوت ، ومن يرى أفكار البشر لا يحتاج الى التنبيه بالصراخ ، كما يُثبت لنا الرب هذا بقوله : ” لماذا تفكرون بالشر فى قلوبكم ؟ ” (مت٩: ٤) وفى موضع آخر يقول: ” فستعرف جميع الكنائس انى أنا هو الفاحص الكلى والقلوب ” ( رؤ٢: ٢٣)

 ٥-هذا هو ما فعلته حنة أم صموئيل ، كما ورد فى سفر صموئيل الأول ، فهى ترسم لنا صورة من صور الكنيسة الملنزمة والمتيقظة ، التى تصلى الى الله لا بصخب ، ولكن بهدوء وتواضع ، فى أعماق قلبها ، انها تكلمت بصلاة خفية لكن بأيمان ظاهر ، تكلمت بقلبها لا بصوتها ، لأنها طلبت بايمان واثقة أن الرب هكذا يسمع ، وأنها ستنال طلبتها  والكتاب المقدس يؤكد ذلك عندما يقول : ” فان حنة كانت تتكلم فى قلبها ، وشفتاها فقط تتحركان ، وصوتها لم يسمع ” (١صم ١: ١٣) وأيضاً فى المزمور : ” تكلموا فى قلوبكم على مضاجعكم ، واسكتوا ” (مز٤:٤ ) كما يشير الروح القدس الى تلك الأمور عينها من خلال ارميا فيقول : ” فقولوا فى قلوبكم لك يارب ينبغى السجود ” (باروخ ٦:٥)

٦-أيها الاخوة الأحباء ، ليت الانسان العابد ألا يجهل هذا الأسلوب الذى صلى به العشار مع الفريسى فى الهيكل ، فالعشار لم يرفع عينيه باجتراء نحو السماء ولا بأيادى مرفوعة بافتخار ، بل لقد طلب معونة المراحم الالهية قارعاً صدره ، مُعترفاً بالخطايا الدفينة بينما كان الفريسى فخوراً بنفسه ، فاستحق العشار أن ينال التقديس أكثر من ذلك الفريسى ، لأنه لم يضع رجاء خلاصه على ثقته فى بره ، اذ لا يوجد من هو بلا خطية ، ولكنه صلى بتواضع معترفاً بخطيته ، فسمع صلاته الذى يغفر للنتضعين ، وهذه الأمور يسجلها الرب فى انجيله قائلا : ” انسانان صعدا الى الهيكل ليصليا ، واحد فريسى والآخر عشار أما الفريسى فوقف يصلى فى نفسه هكذا : اللهم أنا أشكرك أنى لست مثل باقى الناس الخاطفين الظالمين الزناة ، ولا مثل هذا العشار أصوم مرتين فى الأسبوع ، وأعشر كل ما أقتنيه وأما العشار فوقف من بعيد ، لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء ، بل قرع على صدره قائلاً : اللهم ارحمنى ، أنا الخاطىء  أقول لكم : ان هذا نزل الى بيته مبرراً دون ذاك ، لأن كل من يرفع نفسه يتضع ، ومن يضع نفسه يرتفع ” (لو ١٨: ١٠- ١٤)

 ٧-أيها الاخوة الأحباء، بعد أن تعلمنا هذه الأمور من الكتب المقدسة، وعرفنا كيف ينبغي أن نتقدم الى الصلاة، فلنتعلم أيضاً من الرب كمعلم لنا ما يجب أن نصلى به أنه يقول: ” فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذى فى السماوات ، ليتقدس اسمك  ليأت ملكوتك  لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض خبزنا كفافنا أعطنا اليوم واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبيين الينا ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير  لأن لك الملك والقوة ، والمجد ، الى الأبد ، آمين ” (مت ٦: ٩- ١٣)

 ٨-وفوق كل شيء فان رئيس السلام ومعلم الوحدة لم يشأ أن نصلى كل واحد بمعزل عن الآخر ، أو كل واحد عن نفسه فقط ، لأننا لا نقول : ” أبى الذى فى السموات ” أو ” أعطنى ” خبزى اليومى  ولا يسأل أحد أن تُغفر له ذنوبه فقط ولا أن لا يُدخل فى تجربة وينجى من الشرير ، بمفرده فقط بل أن صيغة ” نحن ” هى طابع الصلاة العامة ، فحينما نصلى فلسنا نصلى عن شخص واحد بل لأجل الشعب كله ، لأن الشعب كله شعب واحد  واله السلام ورب الاتحاد الذى دعانا الى ” الاتفاق ” والذى علمنا الوحدة ، أراد أنه كما حملنا جميعنا فى واحد ، هكذا كل واحد لابد أن يصلى عن الجميع  ان قانون الصلاة هذا عمل به الثلاثة فتية عندما طرحوا فى الأتون الملتهب ، اذ اتحدوا معاً فى الصلاة وفى اتفاق الروح  وهذا ما يؤكده لنا الكتاب المقدس ، وفى شرحه لنا عن كيفية صلاة هؤلاء الفتية ، أعطانا مثالاً يجب أن نقتدى به فى صلواتنا نحن أيضاً ، حتى نكون على ما كانوا عليه اذ يقول : ” حينئذ سبح الثلاثة بفم واحد ومجدوا وباركوا الله ” (تتمة دانيال ٣: ٥١) كما من فم واحد ، مع أن المسيح لم يكن قد علّم بعد كيف يصلون  وهكذا كانت صلواتهم نافعة ومقتدرة ، لأن الصلاة البسيطة والروحية المملوءة سلاماً تستحق الاستجابة من الرب

هكذا أيضاً صلّى الرسل مع التلاميذ بعد صعود الرب فيقول عنهم الكتاب: ” كلهم كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة، مع النساء ، ومريم أم يسوع ، ومع اخوته ” (أع ١: ١٤) كانوا مواظبين على الصلاة بنفس واحدة ، معلنين من خلال ملازمتهم ووحدانيتهم فى الصلاة أن الله الذى يقال عنه فى المزمور : ” الله مُسكنُ المتوحدين فى بيت ” (مز ٦٨: ٦) لا يقبل في مسكنه الإلهي الأبدي – أى ملكوت السموات – الا أولئك الذين ارتفعت صلاتهم نحوه بقلب واحد

†   ” أبانا الذى فى السموات

  ٩-بالاضافة الى هذا، أيها الاخوة الأحباء، أننا حقاً نتعجب من كثرة وعظم الأمور العميقة الموجودة فى الصلاة الربانية والمجتمعة فى هذه الكلمات، لكنها تفيض بغنى روحي لا ينضب، حتى انه فى هذا القول الموجز لا يفوتنا شىء من التعليم السماوى مما يجب أن تحويه طلباتنا وتوسلاتنا

ويقول لنا الرب : ” صلوا أنتم هكذا أبانا الذى فى السموات ” فالانسان الجديد المولود ثانية والعائد الى الهة بالنعمة ، يبادر بقوله : ” أبى ، لأنه صار ابناً يقول يوحنا الحبيب : ” الى خاصته جاء وخاصته لم تقبله ، وأما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أبناء الله أى المؤمنون باسمه ” (يو١: ١١و١٢) لذلك ، فألذى آمن باسمه وصار ابناً لله ، يجب عليه من الآن أن يقدم الشكر ويعلن بنوته لله من خلال اعلانه أن الله هو أباه الذى فى السموات  وعليه أيضاً أن يشهد فى الكلمات الأولى ذاتها عن ميلاده الجديد ، وأنه رفض الأب الأرضى والجسدى ، وبدأ أيضاً ألاّ يعرف أبًا الا ذاك الذى فى السماء كما هو مكتوب : ” الذى قال عن أبيه وأمه : لم أرهما ، وباخوته لم يعترف ، وأولاده لم يعرف ، بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك ” (تث ٣٣: ٩) وقد أمرنا الرب أيضاً فى انجيله ” ولا تدعوا لكم أباً على الأرض ، لأن أباكم واحد الذى فى السموات ” (مت ٢٣: ٩) وأجاب على التلميذ الذى طلب أن يدفن أبيه : ” دع الموتى يدفنون موتاهم ” (مت ٨: ٢٢) ، لأنه قال أن أبيه قد مات بينما أبو المؤمنين هو حي

١٠-أيها الاخوة الأحباء ، ينبغى لنا أن ندرك ونعى أننا يجب أن ندعوه كأب سماوى ، ليس هذا فحسب ، ولكن يجب أن ندعوه ” أبانا ” أى أب الذين يؤمنون ، أب الذين بدأوا أن يكونوا أبناء الله بعد أن قدّسهم الله وردّهم الى ما كانوا عليه من قبل الميلاد بالنعمة الروحية هذا الصوت توبيخ وادانة لليهود ، ليس لأنهم بعدم ايمان لم يكتفوا فقط برفض المسيح ، ذاك الذى أعلن لهم عنه من خلال الأنبياء وارسل هو اليهم أولاً ، بل لأنهم بقساوة قضوا عليه بالموت فهؤلاء لا يستطيعون الآن القول بأن الله أبوهم ، لأن الرب يخزيهم بقوله : ” أنتم من أب هم ابليس ، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا  ذاك كان قتالاً للناس من البدء ، ولم يثبت فى الحق لأنه ليس فيه الحق ” (يو٨: ٤٨) ويعلن الله بغضب من خلال اشعياء النبى قائلا : ” ربيت بنين ونشأتهم ، أما هم فعصوا علىّ الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه ، أما اسرائيل فلا يعرف  شعبى لا يفهم  ويل للأمة الخاطئة ، الشعب الثقيل الاثم ، نسل فاعلى الشر ، أولاد مفسدين ؛ تركوا الرب ، استهانوا بقدوس اسرائيل ” (اش١: ٢-٤) وفى رفضنا نحن المسيحيين لعصيان اليهود نقول نحن المسيحيين عندما نصلى ” أبانا ” ، لأن الله قد صار أبًا لنا ولم يعد أبًا لليهود الذين رفضوه فلا يستطيع شعب خاطىء أن يكون ابنًا ولكن لقب ابنًا يُمنح لأولئك الذين نالوا غفران الخطايا ، والوعد بالأبدية كما يقول الرب نفسه : ” ان كان من يعمل الخطية هو عبد للخطية ، والعبد لا يبقى فى البيت الى الأبد ، أمّا الابن فيبقى الى الأبد ” (يو ٨: ٣٤ و ٣٥)

١١- يا لعظمة رأفة الرب بنا ، ويا لجلال نعمته ولطفه من نحونا فى أن يجعلنا نصلى فى حضرة الله ، بل وندعوه ” أبانا “وكما أن المسيح هو ابن الله ، كذلك نحن أيضاً قد دُعينا أبناء وما كان أحد منا يجرؤ أن يستعمل هذه الكلمة فى الصلاة لولا أن الرب نفسه قد اختصنا بهذا

 لذلك ينبغى علينا أيها الاخوة الأحباء ، أن نضع فى الاعتبار أنه اذا كنا ندعو الله أبانا ، فعلينا أن نسلك كبنين لله واذا كنا قد رضينا بأن يكون الله أبانا فيجب أن يكون له السلطان علينا ( كأب ) وأن يرضى علينا (كأبناء) يليق بنا أن نكون هياكل لله ، حيث يستطيع الناس  (بواسطتنا) أن يتقابلوا مع الحضرة الالهية ، فلا ينبغى أن ننكث بسيرتنا ، العهد مع الروح القدس  لقد شرعنا أن نصير سماويين وروحيين ، فعلينا أن نقصد ونتمم كل ما هو سمائى وروحى  الرب نفسه قال : ” فانى أكرم الذين يكرموننى ، والذين يحتقروننى يصغرون ” ( ١صم ٢: ٣٠) ، والرسول المبارك أوضح هذا فى رسالته : ” انكم لستم لأنفسكم ؟ لأنكم قد اشتريتم بثمن0 فمجدوا الله فى أجسادكم وفى أرواحكم التى هى لله ” (١كو ٦: ١٩و٢٠)     

†   ” ليتقدس اسمك

12- بعد ذلك يقول ” ليتقدس اسمك ” ليس أننا نطلب أن يتقدس الله من خلال صلواتنا، ولكننا نطلب منه أن يتقدس اسمه فينا  فضلاً عن ذلك بمن يتقدس الله اذا كان هو ذاته الذى يُقدس ؟   والاجابة على هذا السؤال هي أنه اذا كان الله يقول : ” وتكونون قديسين ، لأنى أنا قدوس ” (لا ١١: ٤٤) ، اذن فعلينا أن نسأل ونتضرّع ، نحن الذين اتقدّسنا فى المعمودية ، أن نُكمل فيما ابتدأناه من حياة القداسة ، ولأجل هذا نحن نصلى يومياً ، لأننا فى حاجة لتقدّيس يومي ، حتى نغتسل من خطايانا بالتقديس المستمر نحن الذين نخطئ يومياً  والرسول يخبرنا بماهية ذلك التقدّيس الذى نناله بلطف الله عندما يقول : ” لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعوا ذكور ، ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله  وهكذا كل أناس منكم  لكن اغتسلتم ، بل تقدستم ، بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح الهنا ” (١كو ٦: ٩- ١١) فهو يقول أننا تقدسنا فى اسم الرب يسوع وبروح الهنا نحن نصلى أن يثبت فينا هذا التقديس ، فاذ حذر الرب الديّان الانسان – الذى شفاه وأقامه – من مرضه ألا يخطئ بعد لئلا يكون له أشر ، فنحن أيضاً نتوسل بهذه الصلوات المستمرة ، ونطلب هذا نهاراً وليلاً أن ذلك التقديس أيضاً الذى نلناه بنعمة الله أن يُحفظ فينا بواسطة حمايته

†  ” ليأت ملكوتك

١٣- يلى ذلك في الصلاة: ” ليأتي ملكوتك ” نحن نطلب أن يكون الملكوت حاضراً عندنا كما سبقنا وطلبنا أن يتقدس اسمه فينا ولكن كيف يكون ذلك ؟ ألا يكون ذلك بأن يملك الله علينا ؟ نحن فى الواقع نصلى طالبين اتيان الملكوت الذى وعدنا به الله ، هذا الذى نلناه بدم الرب يسوع المسيح وبآلامه قبلاً كنا عبيداً أرقاء ، والآن نحن مطالبون بأن نملك تحت سلطان المسيح وفى مملكته هذه التى وعدنا بها هو نفسه عندما يقول : ” تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت العد لكم منذ تأسيس العالم ” (مت ٢٥ : ٣٤) قد يعنى ملكوت الله أيضاً المسيح نفسه شخصياً ، فهو الذى تناديه كل يوم ، ونرغب أن يُسرع فى مجيئه ليحقق رجاءنا حيث أنه قيامتنا – لأننا به وفيه سنقوم من جديد – فهكذا أيضاً نستطيع أن نفهم أن المسيح هو ملكوت الله لأننا فيه وبه سنملك أيضاً  لكننا نفعل حسناً اذ نطلب ملكوت الله ، الذى هو أيضاً ملكوت السموات ، لأنه يوجد أيضاً ملكوت أرضى ولكن الذى زهد فى أمور هذا الدهر فقد ارتفع فوق كرامات هذا العالم وممالكه ، لذلك فان من كرّس ذاته لله وللمسيح لا يعود يطلب ممالك الأرض بل ملكوت السموات نحن فى حاجة أن نصلى بلا انقطاع حتى لا نفقد هذا الملكوت السماوى ( بالرغم من أننا وعُدنا به ) كما سقط اليهود الذين كان لهم هذا الوعد أولاً وينطبق علينا قول الرب : ” ان كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع ابراهيم واسحق ويعقوب فى ملكوت السماوات ، وأما بنو الملكوت فُيطرحون الى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الاسنان ” (مت ٨: ١١و ١٢) ، يرينا الرب أن اليهود كانوا سابقاً بنى الملكوت لما تمسكوا ببنوتهم لله ، ولكن بعد أن زال اسم الآب من وسطهم ، فقد زال الملكوت أيضاً لذلك فنحن المسيحيين الذين فى صلاتنا قد دعونا الله ” أباناً ” نصلى أيضاً أن يأتى ملكوته الينا وفينا

† ” لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض “

١٤- نحن نصلى أن تتم مشيئة الله فينا وعندما نضيف قائلين: لتكن مشيئتك على الأرض كما فى السماء، ليس معنى ذلك أن يفعل الله ما يشاء ، ولكن بالأحرى أن نستطيع نحن أن نفعل مشيئة الله فمن يستطيع أن يمنع الله أن يفعل ما يشاء ؟ أمّا نحن فان عدو الخير يتربص بنا ويعوقنا عن اطاعة مشيئة الله ، ويحاول أن يمنعنا ، فى كل شىء ، بالفكر والفعل ، فى كل الأمور فنحن نصلى ونسأل أن تتم مشيئته فينا ، ولكى ما تكمل نحتاج الى معونته وحمايته  ذلك لأنه لا يوجد انسان يستمد قوته من امكانياته الذاتيه ، ولكنه يكون فى أمان بسب نعمة الله ورحمته الرب نفسه أبان الضعف الذى لبسه ( بارادته ) عندما قال : ” يا أبتاه  ان أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس”(مت ٢٦: ٣٩) ولكيما يعطى تلاميذه مثالاً مُبينًا ضعف الطبيعة البشرية التى حملها فى نفسه ، ويريد أن يقدم مثالاً لتلاميذه حتى لا يفعلوا مشيئتهم ، بل مشيئة الله ، أضاف قائلاً : ” ولكن لتكن لا ارادتى بل ارادتك (لو ٢٢: ٤٢) وفى موضع آخر يحدد بدقة : ” لأنى قد نزلت من السماء ، ليس لأعمل مشيئتى ، بل مشيئة الذى أرسلني ” (يو ٦: ٣٨) فاذا كان ” الابن ” نفسه قد اهتم أن يعمل مشيئة ” الآب ”  فكم بالحرى يجب على العبد أن يبادر بعمل مشيئة سيده ؛ كما يحثنا القديس يوحنا فى رسالته قائلاً : ” لا تحبوا العالم ولا الأشياء التى فى العالم  ان أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب لأن كل ما فى العالم : شهوة الجسد ، وشهوة العيون ، وتعظم المعيشة ، ليس من الآب بل من العالم  والعالم يمضى وشهوته ، وأما الذى يصنع مشيئة الله فيثبت الى الأبد ” (١يو ٢: ١٥- ١٧) فمن أراد أن يثبت الى الأبد فعليه أن يعمل مشيئة الله الأبدي

 ١٥- هذه هي مشيئة الله التي عملها المسيح وعلمها : وتلكهى : تواضع السيرة ، صلابة الايمان ، الوداعة فى الكلام ، والحكمة فى التصرف ، الشفقة فى المعاملات ، الانضباط فى الأخلاق ، عدم الاضرار بأحد ، احتمال الاساءة التى تأتى علينا من الآخرين ، حفظ السلام مع الاخوة ، محبة الله من كل القلب ، نحبه لأنه أب ، ونخافه لكونه الهاً ، لا نفضل شيئاً عن المسيح ، لأنه فضلنا على كل شىء ، أن نكون راسخين فى محبته بعهد لا ينفصم ، ثابتين تحت الصليب بشجاعة وثقة ؛ وعندما تقوم علينا حرب من أجل اسمه أو اكرامه ، فليكن لنا رباطة الخأش مقابل كل المصاعب ، حتى يمكن أن نجاهد حتى النهاية ، والصبر حتى الموت لنفوز بالاكليل المقدم : هذا هو معنى الارادة أن نكون وارثين مع المسيح ، متممين وصايا الله ، عاملين مشيئة الآب

١٦- نحن نطلب أن تتم مشيئة الله فى السماء ، وكذلك على الأرض لأن كليهما يساهمان فى تكميل خلاصنا فالجسد هو من الأرض ، والروح هو من السماء ، فنحن اذاً سماء وأرض  لذلك أن تكون مشيئة الله فى الأثنين ، أى فى جسدنا كما فى روحنا ، وحيث أنه يوجد عراك وتصادم بين الاثنين اللذين يتصارعان ، فنحن لا نفعل ما نريده : فالروح تطلب ما هو سمائى والهى ، أما الجسد فيجرى وراء ما هو أرضى ووقتي لذلك فنحن نطلب بلجاجة أن تتدخل معونة الله وتصالح الاثنين حتى تكمل مشيئة الله فى الروح وفى الجسد معاً ، وتفوز النفس التى جدّدها الله بالخلاص  وهذا ما يعلنه القديس بولس بوضوح : ” لأن الجسد يشتهى ضد الروح ، والروح ضد الجسد ، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون وأعمال الجسد ظاهرة ، التى هى : زنى ، عهارة ، نجاسة ، دعارة ، عبادة الأوثان ، سحر ، عداوة ، خصام ، غيرة ، سخط ، تحزب ، شقاق ، بدعة ، حسد ، قتل ، سُكر ، بطر ، وأمثال هذه التى أسبق فأقول لكم عنها كما سبقت فقلت أيضاً : ان الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله وأما ثمر الروح فهو : محبة ، فرح ، سلام ، طول أناة ، لطف ، صلاح ، ايمان ، وداعة ، تعفف ” (غل ٥: ١٧و ١٩-٢٣) من أجل هذا نحن نطلب فى صلواتنا كل يوم ، بل كل ساعة ، أن تتم مشيئة الله بخصوصنا كما فى السماء كذلك على الأرض ، لأن مشيئة الله ، هى أن تحل الأمور السمائية مكان الأمور الأرضية فى حياتنا ، وأن يكون نصيب الروح والله هو الغالب.

١٧- أيها الاخوة الأحباء، هذه الكلمات تعنى أيضاً شيئاً آخر: أنتم تعلمون أن الرب دائماً يحثنا أن نحب أعداءنا، وأن نصلى من أجل مضطهدينا فيجب علينا أن نصلى من أجل هؤلاء الذين مازالوا بعد أرضيين وليسوا سمائيين، لكي يخضعوا هم أيضاً لمشيئة الله هذه، تلك المشيئة التى خضع لها المسيح خضوعاً كاملاً من أجل خلاص البشرية. المسيح لم يدعو تلاميذه: ” أرضاً “، بل ” ملح الأرض “، والرسول يقول انه بينما الانسان الأول أُخذ من تراب الأرض، فان الثاني أتى من السماء

 (١كو ١٥: ٤٧) ، فعلينا أن نتشبه بأبينا السماوي ، الذى يشرق شمسه على الصالحين والأشرار ، والذى يمنح المطر للأبرار وللظالمين ، لهذا يعلمنا المسيح أن نصلى من أجل خلاص جميع البشر  لكى ما تتم فينا مشيئة الله ، بالأيمان ، نصير نحن سمائيين ، ثم عندما نطلب أن تتم مشيئة الله على الأرض كما هي في السماء : أعنى تكمل كذلك في غير المؤمنين – الذين هم بحسب مولدهم الأول مازالوا بعد أرضيين – حتى يصبحوا سمائيين بميلادهم من الماء والروح   

†    ”  أعطنا خبزنا اليومي “

 ١٨- ثم نتابع الصلاة قائلين : ” أعطنا خبزنا اليومى ” هذه الطلبة يمكن أن تؤخذ بمعنيين : المعنى الأول : روحى ، والمعنى الثانى حرفى ، وكلا التفسيرين ، بحسب تدبير العناية الالهية ، يساهمان حتماً فى خلاصنا فالمسيح هو خبز الحياة ، وهذا الخبز لا يخص كل العالم ، وانما يخصنا نحن  وكما نقول : ” أبانا ” لأنه أب لكل من يؤمن ، كذلك بالمثل نحن ندعو المسيح ” خبزنا ” ، لأن المسيح هو الخبز للذين هم متحدين بجسده  ولكى نحصل على هذا الخبز ، نحن نصلى كل يوم ( على الدوام ) ، فنحن الذين نحيا فى المسيح ، ونتناول دائماً سر الافخارستيا كطعام لخلاصنا ، لا نود أبداً أن نمتنع من الشركة المقدسة بسبب خطية قبيحة قد تحرمنا من خبز السماء ، وتفصلنا عن جسد المسيح ، حسبما نادى هو نفسه وحذرنا قائلاً : ” أنا هو الخبز الحى النازل من السماء  ان أكل أحد من هذا الخبز يحيا الى الأبد  والخبز الذى أنا أعطى هو جسدى الذى أبذله من أجل حياة العالم ” (يو ٦: ٥١) وبالتالي عندما يقول الرب : من يأكل من هذا الخبز يحيا الى الأبد ، ليؤكد أن الذين يحيون هم الذين يمدون اليد الى جسده ( قديماً فى القرون الأولى كان التناول يُسلم فى اليد اليمنى للمتناول حيث يضع يده اليسرى تحت اليمنى ثم يتناول ولكن ألغى ذلك الى ما هو يتم حالياً )، ويتناولون الافخارستيا فى الشركة المقدسة ، وبناء على ذلك ينبغى علينا من جانب آخر أن نحترس ونصلى حتى لا يبقى أحد بعيداً عن الخلاص ، اذا انفصل عن جسد المسيح بسبب منعه من التناول ان الرب سبق فأنذرنا : ” ان لم تأكلوا جسد ابن الانسان وتشربوا دمه ، فليس لكم حياة فيكم ” (يو ٦: ٥٣) فنحن اذاً نطلب على الدوام أن نتناول خبزنا – الذى هو المسيح —  حتى نبقى أحياء فى المسيح ، ولا نبعد قط عن نعمته أو عن جسده.

١٩- ويمكننا أيضاً أن نفهم هذه الطلبة على الوجه التالي : نحن قد جحدنا العالم ، وبنعمة الايمان قد رفضنا تنعماته وغواياته فنحن نطلب مجرد قوتنا ( اليومي ) ، لأن الرب يقول : ” كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله ، لا يقدر أن يكون لي تلميذاً ” (لو ١٤: ٣٣) فمن يبدأ أن يكون تلميذاً للمسيح ويترك كل شىء ، حسب كلمة الرب ، فله أن يطلب غذاء يومه فقط ولا تمتد طلبته الى أبعد من هذا  والرب أيضاً قال : ” فلا تهتموا للغد ، لأن الغد يهتم بما لنفسه  يكفى اليوم شرَه ” (مت ٦: ٣٤) اذاً فالتلميذ له الحق أن يُطالب بغذاء يومه ، بينما غير مسموح له أن ينشغل بالغد  بل انه لا يتوافق أن الذين يطلبون ملكوت الله ليأتي سريعاً ، أنهم هم أنفسهم يهتمون بأن يطول بقاؤهم فى هذه الحياة الدنيا والرسول ينبهنا لهذا لك يُهذب ، ويشدد ، ويقوى ايماننا ورجاءنا بقوله : ” لأننا لم ندخل العالم بشىء ، وواضح أننا لا نخرج منه بشيء  فان كان لنا قوت وكسوة ، فلنكتف بهما ، وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء ، فيسقطون فى تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة  تُغرق الناس فى العطب والهلاك لأن محبة المال أصل لكل الشرور ، الذى اذ ابتغاه قوم ضلوا عن الايمان ، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة ” (١تى ٦: ٧- ١٠)

   ٢٠- المسيح يعلمنا أن محبة المال ليست فقط رديئة: بل انها أيضاً خطيرة، انها تحوى داخلها الجذر الذى تتفرع منه جميع الشرور المغرية الخداعة التي تضلل النفس البشرية ان الرب قد رد على حماقة الغنى الذى كان يُمنى نفسه بتنعمه بغنى هذا الدهر بقوله : ” يا غبى ؛ هذه الليلة تُطلب نفسك منك ، فهذه التى أعددتها لمن تكون ؟ ” (لو١٢: ٢٠) فالغبي الذى كان يفكر في وفرة محصوله، ذاك الذى كانت حياته على وشك الانتهاء كان يفكر في وفرة أرزاقه ومقابل هذا يؤكد الرب أن الكامل هو من يبيع كل ما يملك ويوزعه على المساكين، وبهذا يكنز لنفسه كنزاً فى السماء بل ويزيد الرب على هذا أنه يمكننا أن نقتفى آثاره وننهج سبيل آلامه المجيدة، اذا ما أمكننا أن نتحرّر من عوائق كل الهموم المادية، واذ نتخلى عن أموالنا نقدمها لله كدليل على تقديم حياتنا نفسها له قرباناً، ولكى يعدنا الرب لهذا يأخذ في تعليمنا المبادئ التي تقوم عليها الصلاة

٢١- الخبز اليومي لا يمكن أن يعوز الصديق، فقد كُتب: ” الرب لا يجيع نفس الصديق ” (أم ١٠: ٣)، وأيضاً: ” كنت فتى وقد شخت، ولم أر صديقاً تُخلىَ عنه، ولا ذرية له تلتمس خبزاً ” (مز ٣٧: ٢٥) ثم ان الرب وعد قائلاً: ” فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل ؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس  فان هذه كلها تطلبها الأمم لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون الى هذه كلها  لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره ، وهذه كلها تُزاد لكم ” (مت ٦: ٣١—٣٣) فهؤلاء الذين يطلبون ملكوت الله وبره ، قد وعد بأن كل الأشياء ستزداد الى ما يسألونه وأكثر مما يحتاجونه ، فكل شيء في الحقيقة هو ملك لله ، وكل من يقتنى الله فلن يعوزه شىء ان كان لا يعوزهم الله نفسه  وهكذا كان دانيال وهو في الحبس ، حسب أمر الملك ، فى جب الأسود ، كان يتقبل طعامه من الله وكان يقتات به وسط الوحوش المفترسة الجائعة التي لم تمسه بأذى كذلك ايليا بالمثل كان يُعال خلال هروبه كما كان يُعال خلال وحدته عندما كان مُطارداً ، حيث كانت الغربان والطيور تأتى له بما يقتات به ويا للأسف ويا لشناعة قسوة شرّ الانسان : الوحوش المفترسة ترحم ، والطيور تأتيه بالغذاء ، أما البشر فينصبون المكايد ويتصفون بالقسوة                                                                      

 †  ” اغفر لنا ذنوبنا

 ٢٢- بعد ذلك نتضرع أيضاً لأجل خطايانا قائلين : ” واغفر لنا ذنوبنا ، كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين الينا ” بعد طلب قوتنا اليومى ، نحن نطلب الصفح عن الخطية  لأن الذى يقتات من يد الله ينبغى أن تكون حياته ممتدة فى الله ، فلا يكون رجاؤه بالحياة الحاضرة الزمنية فقط ، بل أيضاً بالأبدية ، تلك التى لا يمكنه أن ينالها الا اذا غُفرت له خطاياه ، وتلك الخطايا يسميها الرب ” ديوناً ” ، وحسب قول الانجيل : ” كل ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت الىّ ” (مت ١٨: ٣٢) انه من الضرورة والحكمة ، بل ونافع لنفوسنا أن يذكرّنا الرب بأننا خطاة ، وذلك فى دعوته لنا أن نطلب من أجل مغفرة خطايانا  وهكذا تستعيد النفس وعيها بمرارة الخطية ؛ فحتى لا يمدح أحد أفكاره ويظن فى نفسه أنه بار ، ويضل بهذا الافتخار المعيب ، لذلك يجب أن نعرف ونعلم أننا معرّضون للخطية كل يوم ، وذلك عندما نُطالب بأن نلتمس كل يوم الصفح عن خطايانا والرسول يوحنا هو أيضاً ينبهنا فى رسالته : ” ان قلنا : انه ليس لنا خطية نضلَ أنفسنا وليس الحق فينا ، ان اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل ، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل اثم ” (١يو ١: ٨و ٩) انه يجمع فى رسالته بين أمرين ( شرط وجواب شرط ) : انه فى صلواتنا ينبغى علينا أن نطلب الصفح عن خطايانا ، أما من جهة الرب ، فيؤكد الرسول انه أمين فى وعده بأن يصفح عنها لأن الذى علّمنا أن نطلب المغفرة عمّا علينا من ذنوب وخطايا ، وعدنا فى نفس الوقت أنه برحمته الأبوية سيصفح لنا عنها

٢٣- الرب يحدد بدقة شروط صفحه : انه يُلزمنا أن نترك نحن أيضاً الديون للمديونين لنا ، ما دمنا نطلب نحن بالمثل أن تُترك لنا ديوننا اننا لا نستطيع أن نطلب غفران ذنوبنا الا اذا صنعنا نحن بالمثل من نحو من أذنب الينا انه يقول في موضع آخر : ” بالكيل الذى به تكيلون يُكال لكم ” (مت ٧: ٢) العبد الذى سامحه سيده بكل ديونه ، عندما رفض أن يفعل بالمثل هو أيضاً من نحو رفقائه طُرح في السجن  لأنه لم يشأ أن يعفو عن رفيقه ولذا فَقَدَ العفو الذى سبق وحصل عليه من سيده والرب في حكمه هذا أراد أن يشدّد على هذه الحقيقة بقوة : ” متى وقفتم تصلون ، فاغفروا ان كان لكم على أحد شيء لكى يغفر لكم أيضاً أبوكم الذى فى السموات زلاتكم وان لم تغفروا أنتم لا يغفر أبوكم الذى في السموات أيضاً زلاتكم  ” (مر ١١: ٢٥و ٢٦)  اذاً ، لن يكون لك عذر يوم الدينونة ، عندما تحاكم طبقاً لسلوكك تجاه الآخرين وكما فعلت سيُفعل أيضاً بك فالرب أوصانا أن نكون صانعي سلام وفى اتفاق وبفكر واحد  وكما ولدنا الله بالميلاد الثاني هكذا يريدنا أن نكمّل بحسب هذا الميلاد القدثانى ، لكيما نثبت في سلام الله نحن الذين صرنا أبناء الله ، وأن يكون لنا قلب واحد وفكر واحد اذ لنا روح واحد  لذلك لا ُيقبل قربان من يحرضون على الانشقاق ، بل انه يأمرهم أن يرجعوا عن المذبح ليتصالحوا أولاً مع اخوتهم  الله لا يرضى ألا بالصلوات المرفوعة فى سلام  ان أبهج تقدمة يمكننا أن نُهديها لله هي سلام واتفاق الاخوة ، ووحدة كل المؤمنين في الآب والابن والروح القدس

 ٢٤- فحتى في الذبائح التي قدمها هابيل وقايين لم ينظر الله الى التقدمات فى حد ذاتها بل الى قلبيهما : فالعطية كانت مقبولة حيث كان القلب مقبولاً أمام الله واذ كان هابيل مسالماً وباراً ، الذى قدم ذبيحته بنفس نقية الى الله ، يعلمنا أن نتمثل به عندما نقدم قرباننا ، فينبغى أن يكون ذلك بمخافة الرب ، وبساطة قلب ، ونيّة صادقة بالوفاق والسلام مع الجميع  فهابيل بتقديم قربانه لله متحليّا بهذه السجايا استحق هو نفسه أن يصير قربان استشهاد  لقد أشار بدمه الى ألام الرب ، لأنه كان يمتلك فى ذاته بر وسلام الرب  ومن هم مثله بمثل هذه الصفات سيكللهم الرب ، وسينتقم لهم فى يوم الدينونة ولكن محبو الخصام والانشقاق الذين لا يريدون أن يحيوا فى سلام مع اخوتهم ، فعلى النقيض ، فهم مدانون بحسب شهادة الرسول المبارك والانجيل ، حتى ولو قدّموا أنفسهم للذبح ، فلن يكونوا أقل اجراماً بسبب الشقاق الذى زرعوه بين الاخوة ، لأنه مكتوب : ” كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس ” (١يو ٣: ١٥) كل قاتل نفس لا ينال ملكوت السموات ولا يحيا مع الله ، فمن يفضّل أن يتمثل بيهوذا وليس بالمسيح ، فلن يمكنه أن يحيا فى المسيح  فيالجسامة هذا الجرم ، الذى لا يمكن حتى لمعمودية الدم نفسها أن تمحوه ؛ فيا لشدة ثقل هذه الجريمة التى لا يقدر حتى الاستشهاد أن يكّفر عنها

† ” ولا تدخلنا في تجربة “

 ٢٥- الرب يحثنا أن نقول فى الصلاة : ” ولا تدخلنا فى تجربة ” ومن هذا القول يتبين أن خصمنا لا يمكنه أن يفعل أمراً ما ضدنا دون سماح سابق من الله ، وعليه فهو وحده الذى ينبغى علينا أن نخافه ونتّقيه ونراعيه فى كل شىء ، لأن سلطان العدو فى التجارب التى يحيكها ضدنا هو خاضع لسلطان الله هذا ما يؤكده الكتاب المقدس عندما يقول : ” وجاء نبوخذ نصر الى أورشليم وحاصرها وأسلمها الرب الى يديه ” (٢مل ٢٤: ١١) العدو يُعطى سلطاناً علينا من جراء خطايانا ، حسبما هو مكتوب : ” من دفع يعقوب الى السلب واسرائيل الى الناهبين ؟ أليس الرب الذي أخطأنا اليه ولم يشاءوا أن يسلكوا فى طرقه ولم يسمعوا لشريعته؟ فسكب عليه حمو غضبه ” (اش ٤٢: ٢٤و ٢٥) ومرة أخرى عندما أخطأ سليمان وحاد عن طريق الرب قيل: ” وأقام الرب خصماً لسليمان ” (١مل ١١: ١٤)

 26- الله قد يعطى ابليس السلطان علينا لغايتين: اما لأجل تأديبنا اذا أخطأنا، أو من أجل تمجيدنا اذا جُزنا الامتحان وهذا ما نراه في حالة أيوب: ” هوذا كل ماله في يدك؟ وانما اليه لا تمد يدك ” (أي ١: ١٢) وفى الانجيل يقول الرب ابان آلامه : ” لم يكن لك علىّ سلطان البته ، لو لم تكن قد أعطيت من فوق ” (يو ١٩: ١١)  فاذاً عندما نصلى أن لا ندخل فى تجربة ، نحن نتذكر ضعفنا وعجزنا فيما نطلب لأجله ، حتى لا يفتخر أحد بنفسه ، أو يترفع أحد بجسارة ، ناسباً لنفسه المجد فى ايمانه أو فى آلامه ، بينما الرب يعلمنا بنفسه الاتضاع ، عندما يقول : ” اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا فى تجربة  أما الروح فنشيط ، وأما الجسد فضعيف ” (مر ١٤: ٣٨) فاذا اعترفنا بضعفنا أولاً ، واذا ما سلمنا أمرنا فى كل ما نطلبه بمخافة ووقار ، فاننا نستطيع أن نكون على يقين من أن كل ما يُطلب بتضرع فى مخافة واكرام لله فهو يمنحه بحسب صلاحه

†   ” لكن نجنا من الشرير “

 ٢٧- بعد كل هذا كختام للصلاة تأتى عبارة قصيرة تجمع باختصار كل الطلبات فى النهاية نقول : ولن نجنا من الشر ( أو الشرير ) ونحن نفهم بهذا ما يحيكه العدو ضدنا من مكائد فى هذا العالم ، ولكننا على يقين أن لنا سنداً قوياً ، وذلك عندما يأتى الرب الى نجاتنا ويمنح معونته لمن يترجونه فعندما نقول : ” نجنا من الشر أو الشرير ” لا يبقى لنا شىء بعد نلح فى طلبه : فقد طلبنا أخيراً حماية الله لنا ضد الشر هذه الصلاة تجعلنا محصنين ضد مكايد الشيطان أو العالم فما هو الذى يخشاه الانسان فى هذه الحياة ، اذا كان الله هو نفسه الذى يحميه ؟

 ٢٨- انى لمتعجب يا اخوتى الأحباء لروعة هذه الصلاة الربانية التى علّمها لنا الله ، التى مع ايجازها تشمل كل مطالبنا بالحقيقة ان ربنا يسوع المسيح كلمة الله جاء لأجل كل البشر ، للحكماء كما للجهلاء ، دون تفريق بين الأجناس أو الأعمار ، مُرجعاً مبادىء الايمان الى أصولها الأولية حتى يمكن لأبسط الناس أن يمسك بها وهكذا عندما علّمنا السيد المسيح ما هى الحياة الأبدية تضمن بايجاز سر الحياة بقوله عبارة الهية عظيمة : ” وهذه هى الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت الاله الحقيقى وحدك ويسوع المسيح الذى أرسلته ” (يو ١٧: ٣) وأيضاً عندما جمع من الناموس والأنبياء الوصية الأولى والعظمى بين الوصايا قال : ” اسمع يا اسرائيل  الرب الهنا رب واحد  وتحب الرب الهك من كل قلبك ، ومن كل نفسك ، ومن كل قدرتك  هذه هى الوصية الأولى وثانية مثلها هى : تحب قريبك كنفسك ” (مر ١٢: ٢٩- ٣١) وأيضاً : ” فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم 0 افعلوا هكذا أنتم أيضا بهم ، لأن هذا هو الناموس والأنبياء ” (مت ٧: ١٢)

٢٩- ولم يعلّمنا الرب الصلاة بالكلام فقط بل بالفعل أيضاً، اذ كان دائما يصلّى ويتضرّع شاهداً لنا عما يجب أن نفعله على مثاله الشخصي كما هو مكتوب:” وأما هو فكان يعتزل في البراري ويصلى “(لو٥: ١٦) وأيضاً: ” خرج الى الجبل ليصلّى وقضى الليل كله فى الصلاة لله ” (لو ٦: ١٢) فاذا كان الذى بلا خطية يصلّى ، فكم بالأكثر يجب علينا نحن الخطاة أن نصلّى ؛ واذا كان هو يصلّى دائماً ويسهر طوال الليل بطلبات لا تنقطع ، فكم بالأولى يجب أن نسهر نحن في الليل في صلاة دائمة مستمرة

٣٠- ولكن الرب صلّى وطلب لا لأجل نفسه فلماذا يصلّى من أجل نفسه من كان بلا خطية؟ لكنه صلّى لأجل خطايانا ، كما أعلن هو نفسه عندما قال لبطرس : ” هوذا الشيطان طلبكم لكى يغربلكم كالحنطة ؛ ولكنى طلبت من أجلك لكى لا يفنى ايمانك ” (لو ٢٢: ٣١و٣٢) وبعد ذلك يطلب من الآب لأجل الجميع قائلاً : ” ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط ، بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم ، ليكون الجميع واحداً ” (يو ١٧: ٢٠و٢١) فكم هي عظيمة غنى محبة الله ورحمته من أجل خلاصنا ، فانه لم يكتف فقط بأن يفدينا بدمه بل أيضاً صلّى من أجلنا لننظر الأن ما هي طلبته في الصلاة ، هي أنه كما أن الآب والأبن واحد ، كذلك نثبت نحن أيضاً فى وحدانية كاملة  ومن هذا يمكننا أن نفهم كم هي عظيمة خطية من يصنع انقسام في الوحدة والسلام لأنه لأجل هذه الوحدة قد طلب الرب ، راغباً بالتأكيد أن يحيا شعبه في سلام اذ علم أن الانشقاق لا يؤدى بنا الى ملكوت الله

٣١- فعندما نقف للصلاة ، أيها الاخوة الأحباء ، يجب أن نكون منتبهين وجادين بكل القلب ، ومنكبين على صلواتنا لتذهب عنا كل الأفكار الجسدية والعالمية ، ولا ندع نفوسنا فى هذا الوقت تفكّر فى أى شىء الا فيما نصلّى لأجله فقط لذلك فالكاهن أيضاً قبل أن يصلّى يهيىء أذهان الأخوة بمقدمة ، قائلاً ” ارفعوا قلوبكم ” ، حتى عندما يرد الشعب ب ” هى عند الرب ” يتذكر هو أنه لا ينبغى أن يفكر فى أى شىء الا فى الرب وحده  ليت القلب يكون مُغلقاً أمام العدو ، ومفتوحاً لله وحده ولا ندع عدو الله يقترب منه فى وقت الصلاة لأن كثيراً ما يدخل الينا خلسة ويتسلّل الى الداخل وبمكر شديد يُشتت صلواتنا عن الله ، حتى يكون فى قلبنا شىء وفى كلامنا شىء أخر ، بينما يجب ألاّ تكون الصلاة الى الرب باللسان فقط بل بالروح والذهن أيضاً ، بنية صادقة وخالصة  ولكن كم يكون توانيك ، أن يشتت انباهك وتنسلق بفكرك بعيداً بسبب أفكار حمقاء ودنسة ، بينما أنت تصلًى الى الرب كما لو كان يوجد شىء آخر يجب أن تفكر فيه أكثر أهمية عما تتكلّم به مع الله ؛ كيف تتطلب أن يسمعك الله بينما لا تسمع أنت نفسك ؟ هل تريد أن ينتبه اليك الله عندما تصلّى بينما أنت غير منتبه لنفسك؟ فهذا بالتأكيد معناه أنك غافل تماماً عن العدو، أي أنك تسئ الى عظمة الله عندما تصلّى باستهتار، هذا معناه أنك يقظ بعينيك ولكنك نائماً بقلبك، بينما يجب أن يكون المسيحى مستيقظاً بقلبه مع كونه نائماً بعينيه، كما هو مكتوب بلسان الكنيسة فى نشيد الأناشيد : ” أنا نائمة وقلبى مستيقظ ” (نش٥: ٢) لذلك يحذر الرسول باهتمام وبحرص قائلاً : ” واظبوا على الصلاة ساهرين فيها بالشكر ” (كو ٤: ٢) مُعلمًا ومُظهراً أن الذين يستطيعون نوال طلبتهم من الله هم الذين يراهم الله يقظين في صلاتهم

 ٣٢- بالإضافة الى ذلك ، فهؤلاء الذين يصلّون يجب ألا يتقدموا الى الله بصلوات غير مثمرة  فعندما تقدم صلاة غير مثمرة الى الله ، تكون الطلبة بلا أثر ، فكما أن كل شجرة لا تأتى بثمر تُقطع وتُلقى فى النار ، فكذلك الكلمات التى بلا ثمر لا يمكن أن تستحق أى شىء من الله لأنها خالية من ثمر العمل الصالح لذلك يرشدنا الكتاب المقدس قائلا : ” صالحة الصلاة مع الصوم والصدقة ” (طو١٢: ٨) لأن الله الذى سيجازى فى يوم الدينونة لأجل أعمالنا وعطائنا ، فهو أيضاً الذى فى حياتنا على الأرض يقبل صلاتنا المقترنة بالأعمال الصالحة بحسب مراحمه لذلك فعلى سبيل المثال عندما صلّى كرنيليوس قائد المئة سُمعت طلبته لأنه اعتاد تقديم الصدقات للناس ، مع تقديم الصلاة الدائمة الدائمة لله ، فظهر له ملاك عندما كان يصلّى نحو الساعة التاسعة حاملاً شهادة لأجل أعماله قائلاً : ” يا كرنيليوس ؛ صلواتك وصدقاتك صعدت تذكاراً أمام الله ” ( أع ١٠ : ٣و ٤)

 ٣٣- الصلوات التي تصعد الى الله سريعاً هي التي – بتزكية أعمالنا —  تتقدم بإلحاح الى الله  هكذا أيضاً كان رافائيل شاهداً لصلاة طوبيا الدائمة وأعماله الصالحة المستمرة اذ قال : ” أما أعمال الله فأذاعتها والاعتراف بها كرامة انك حين كنت تصلى بدموع وتدفن الموتى ، وتترك طعامك وتخبأ الموتى في بيتك نهاراً وتدفنهم ليلاً ، كنت أنا أرفع صلاتك الى الرب  واذ كنت مقبولاً أمام الله كان لابد أن تُمتحن بتجربة والآن فان الرب قد أرسلني لأشفيك وأخلص سارة كنتك من الشيطان فأنى أنا رفائيل الملاك أحد السبعة الواقفين أمام الرب ” (طو ١٢: ٧ و١٢—١٥)  والرب يذكرنا أيضا من خلال اشعياء ويعلمنا أمور مشابهة قائلا : ” حلّ قيود الشرفكَ عُقد النير واطلاق المسحوقين أحراراً ، وتطع كل نير أليس أن تَكسر للجائع خبزك ، وأن تُدخل المساكين التائهين الى بيتك ؟ اذا رأيت عرياناً أن تكسوه ، وأن لا تتغاضى عن لحمك  حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك ، وتنبت صحتك سريعاً ، ويسير برك أمامك ، ومجد الرب يجمع سَاقَتكَ حينئذ تدعو فيُجيب الرب تستغيث فيقول : هانذا ” (اش ٥٨ : ٦—٩) لقد وعد الله بأنه سيكون قريب وسيسمع ويحفظ أولئك الذين بحلّهم قيود الشر من قلوبهم ، وتقدماتهم لأهل بيت الله كوصاياه ، وتنفيذهم لما يأمر الله به ، يُزكون أنفسهم في أن يسمعهم الله  عندما قدم الاخوة لبولس الرسول احتياجاته في عوز ضيقته قال أن الأعمال الصالحة التي تُقدم هي بمثابة ذبائح لله : ” قد امتلأت اذ قبلت من أبفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة مرضية عند الله ” (في ٤: ١٨) فعندما يشفق أحد على الفقراء فهو يُقرض الرب ، وعندما يعطى أحد الأصاغر يعطى الله  وبذلك يقدم ذبيحة ، رائحة طيبة لله

٣٤- وفى تأدية الصلاة ، نرى أن الثلاث فتية مع دانيال ، لكونهم أقوياء فى ايمانهم ومنصرين رغم سبيهم ، كانوا يلتزمون بصلوات الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة ، كمثال لسر الثالوث الذى أظهر فى الأيام الأخيرة  فاذ تتوالى الساعات من الأولى الى الثالثة ، يكتمل رقم الثالوث ، وأيضاً اذ تتوالى الساعات من الرابعة الى السادسة يكتمل ثالوثاً ثانياً ، وعندما يكتمل توالى الساعات من السابعة الى التاسعة ، يكتمل عدد الثالوث الكامل كل ثلاث ساعات ( أى الثالوث ثلاث مرات ) وهكذا استخدم المتعبدون لله منذ زمن بعيد هذه الفترات الزمنية بأسلوب روحى لأجل الصلاة فى أوقات مقننة ومحددة وظهر لاحقاً أن تلك الأسرار كانت هكذا قديماً اذ كان الأبرار قديماً يصلون هكذا فالروح القدس حلّ على التلاميذ فى الساعة الثالثة متمماً نعمة وعد الرب  وفى الساعة السادسة صعد بطرس على السطح حيث جاءه أمر بالرؤيا وبكلام الله يحثه على قبول الجميع الى نعمة الخلاص اذ كان سابقاً فى شك من قبول الأمم فى المعمودية ومن الساعة السادسة الى الساعة التاسعة غسل الرب خطايانا بدمه اذ صُلب ، ثم أكمل انتصاره بآلامه حتى يفدينا ويحيينا

٣٥- ولكن بالنسبة لنا – فى العهد الجديد – أيها الاخوة الأحباء ، فبجانب صلوات السواعى هذه ، فان الأوقات والصلوات المقدسة قد زادت عدداً الآن  فصار لابد من أن نصلى أيضاً فى الصباح لنصنع تذكار قيامة الرب بصلاة باكر  وقد أشار الروح القدس الى هذا مسبقا فى المزامير قائلاً : ” يا ملكى والهى لأنى اليك أصلى يارب بالغداة تسمع صوتى  وبالغداة أوجه صلاتى نحوك وأنتظر ” (مز٥: ٢) ومرة أخرى يتكلم الرب على فم هوشع النبى : ” يبكرون الىّ هلم نرجع الى الرب ” (هو ٥: ١٥و ٦: ١) وبالضرورة يجب أن نصلّى أيضاً فى الغروب ونهاية النهار ، فحيث أن المسيح هو الشمس الحقيقية والنهار الحقيقى ، وحيث أن شمس العالم ونهاره يغيبان ، فعندما نصلّى ونطلب أن يأتينا النور ثانية0 فنحن نصلّى لأجل مجىء المسيح الذى سيعطينا نعمة النور الأبدى  وبالاضافة الى ذلك ، فالروح القدس فى المزامير يُظهر أن المسيح يُدعى ” النهار ” أو ” اليوم ” فيقول : ” الحجر الذى رفضه البناؤون صار رأس الزاوية  من قبل الرب كان هذا وهو عجيب فى أعيننا هذا هو اليوم الذى صنعه الرب  نبتهج ونفرح فيه ” (مز ١١٨: ٢٢—٢٤) وأيضاً يشهد ملاخي النبي بأنه يُدعى ” الشمس ” عندما يقول : ” ولكم أيها المتقون اسمى تُشرق شمس البر والشفاء فى أجنحتها ” (ملا ٤: ٢) ولكن اذا كان فى الكتاب المقدس أن المسيح هو الشمس الحقيقية  واليوم الحقيقى فلا توجد اذن ساعة لا يجب أن يعبد فيها المسيحيون الله دائماً وباستمرار فنحن الذين في المسيح – الذى هو الشمس الحقيقية واليوم الحقيقى – يجب أن نداوم على الطلبات خلال اليوم كله ويجب أن نصلى وعندما – بحسب قانون هذا العالم – تأتى الليالى المتعاقبة التى تتكرر بدورتها المتناوبة ، فان الذين يصلّون لا يغشاهم الظلام ، لأن بنى النور لهم النهار حتى في الليل متى يكون اذن بلا نور ، من كان فى قلبه النور الالهى ؟ أو متى يفتقد الى النهار أو الى الشمس من كان المسيح نهاره وشمسه؟

٣٦- فلا نتوقف اذن عن الصلاة نحن الذين فى المسيح ، أى الذين دائماً فى النور ، حتى فى أثناء الليل  فهكذا حنّة النبية الأرملة التى كانت تصلّى وتسهر دون انقطاع ، وكانت تثابر على ما يليق بالله ، كما هو مكتوب فى الانجيل : ” لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً ” (لو ٢: ٣٧) لينظر الى هذا كل من الأمم الذين لم يستنيروا بعد ، واليهود الذين بقوا فى الظلمة برفضهم للنور ، ليتنا أيها الاخوة الأحباء ، نحن الذين دائماً فى نور الرب ، نحن الذين نتذكر ونتمسك بما ابتدأنا أن نكونه بعد نوال النعمة ليكن لنا الليل كالنهار  لنؤمن أننا دائماً نسير فى النور (١يو ١: ٧) ولا ندع الظلمة التي هربنا أن تعوقنا دعونا ألا نتوقف عن الصلاة فى أى من ساعات الليل ، ولا نضيع أوقات الصلاة فى تكاسل واستهتار بل نحن الذين خُلقنا ووُلدنا من جديد بالروح وبرحمة الله ، لنتمثل بما سنكون عليه في يوم ما حيث أننا في الملكوت سيكون لنا النهار وحده بدون توسط الليل ، لنكن يقظين في الليل كما في النهار وحيث أننا سنصلى ونعطى شكراً لله الى الأبد فلا نتوقف فى هذه الحياة أيضاً عن الصلاة والشكر

المرجع : كتاب مقالات القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد ( صفحة ٦٧ – ٩٦ ) – ترجمة وإعداد الراهب القمص مرقوريوس الأنبا بيشوي

 

 

عظات آباء وخدام معاصرون :

 

أحد الرفاع وتداريب للصوم الكبير –  للبابا شنودة الثالث[10]

الصوم الكبير من أقدم وأقدس أصوام السنة، نتذكر فيه الصوم الأربعيني الذي صامه الرب، يضاف إليه أسبوع الآلام الذي هو ذخيرة السنة الواحدة.

ومهمًا أن يمر علينا كفترة روحية، ولذلك علينا أن نتأمل معًا روحيات الصوم لنتدرب عليها.

ليس الصوم مجرد امتناع عن الطعام، فهذا الامتناع هو مجرد وسيلة للسيطرة على الجسد لإعلاء الروح.

فهل أنت في الصوم تسيطر على جسدك تماما؟ وهل تهتم بالايجابيات التي تنميك روحيا؟

وكما تمنع جسدك عن الطعام، هل تعطى روحك طعامها..؟

ومن هنا كان الصوم يقترن دوما بالصلاة، وبالتأمل وبباقي تفاصيل العمل الروحي، من قراءة وترتيل واجتماعات روحية، وتداريب روحية ومحاسبة للنفس.

وكما يقترن الصوم بالصلاة، يقترن أيضًا بالتوبة.

ومثال ذلك نينوى، بكل ما فيها من تذلل.

ومثاله أيضًا الصوم الذي شرحه سفر يوئيل النبي (يؤ 2: 12-17) والله يسر في الصوم بترك الخطية أكثر مما يسر بإذلال الجسد.

وهكذا نقرأ عن صوم أهل نينوى أنه “لما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه” (يون3:10).

والصوم أيضًا مقرون بعمل الرحمة.

نرحم الناس لكي يرحمنا الله.  ونشعر بألم الناس حينما نجوع فنشفق على الجائعين ونطعمهم..

وما أجمل ما قيل في أقوال الآباء [إن لم يكن لك ما تعطيه لهؤلاء القديسين فصم وقدم لهم طعامك].  وقد شرح هذا الأمر في سفر إشعياء (58).

والصوم فترة للزهد في المادة وكل ما يتعلق بها.

والزهد معناه عدم الاهتمام بالطعام وأصنافه وطهيه وتنسيقه، مما يخرج الصوم عن روحه، ويتحول إلى شكليات..  ما أجمل قول دانيال النبي في صومه “لم آكل طعاما شهيا” (دا ١٠: ٣).

وهذا الزهد في الطعام من جهة الانقطاع عنه والامتناع عن مشتهياته، ما هو إلا دالة على الزهد عموما والتدريب عليه لانشغال القلب بكل ما هو روحاني ونافع للحياة الأبدية..

تدريبات في الصوم الكبير

لكي يكون هذا الصوم المقدس ذا أثر فعال في حياتك الروحية، نضع أمامك بعض التداريب لممارستها، حتى ما إذا حولتها إلى حياة تكون قد انتفعت في صومك:

1- تدريب لترك خطية معينة من الخطايا التي تسيطر عليك، والتي تتكرر في كثير من اعترافاتك.

2- التدريب على حفظ بعض المزامير من صلوات الأجبية، ويمكن اختيار مزمور واثنين من كل صلاة من الصلوات السبع، وبخاصة من المزامير التي تترك في نفسك أثرًا.

3- التدريب على حفظ أناجيل الساعات، وقطعها، وتحاليلها. علما بأنه لكل صلاة 3 و6 قطع.

4- التدريب على الصلاة السرية بكل ما تحفظه، سواء الصلاة أثناء العمل وفي الطريق وأثناء الوجود مع الناس وفى أي وقت.

5- اتخاذ هذه الصلوات والمزامير والأناجيل مجالًا للتأمل حتى يمكنك أن تصليها بفهم وعمق.

6- تداريب القراءات الروحية: سواء قراءة الكتاب المقدس بطريقة منتظمة، بكميات أوفر وبفهم وتأمل..  وقراءة سير القديسين وبعض الكتب الروحية، بحيث تخرج من الصوم بحصيلة نافعة من القراءة العميقة.

7- يمكن في فترة الصوم الكبير، أن تدرب نفسك على استلام الألحان الخاصة بالصوم وبأسبوع الآلام، مع حفظها وتكرارها والتشبع بروحها..

8- يمكن أن تدرب نفسك على درجة معينة من الصوم على أن يكون ذلك تحت إشراف أبيك الروحي.

9- هناك تدريبات روحية كثيرة في مجال المعاملات مثل: اللطف وطول الأناة واحتمال ضعفات الآخرين وعدم الغضب واستخدام كلمات المديح والتشجيع وخدمة الآخرين ومساعدتهم والطيبة والوداعة في معاملة الناس.

10) تدريبات أخرى في (نقاوة القلب) مثل: التواضع، والسلام الداخلي، والرضى وعدم التذمر، والهدوء وعدم القلق، والفرح الداخلي بالروح، والإيمان، والرجاء..

 

 

أحد الرفاع – لقداسة البابا تواضروس الثاني[11]

  • رحلة فرح وجهاد روحي

الصوم رحلة فرح وجهاد متلازمين. إنه محاولة لاكتشاف الصورة الإلهية فينا.

إنه فرح بالرجاء في أن الله يعمل ويُغيِّر ويُجدِّد “فرحين في الرجاء” (رو ١٢:١٢).

كما أنه جهاد بتعب لمعرفة ما هو سيء فينا، فنحاول أن ننقي أنفسنا فيه.

وللحياة الروحية ثلاثة أبعاد رئيسية هي:

  • الصدقة أي أشعـــــر بأخي← (عطاء بإحساس).
  • الصلاة أي أرتبط بمسيحي← (إرتباط الحيــــاة).
  • الصوم أي أضبط جســدي← (انطلاق الــروح).

لذلك حدِّد في الصوم أهدافك مع أب اعترافك:

  • الخطية التي تريد أن تجاهد ضدها وتطردها من حياتك.
  • الفضيلة التي تريد أن تقتنيها في حياتك وتمارسها دائماً.
  • السفر الكتابي الذي تريد أن تعيش من خلاله الوصية، ويُفضَّل أن يكون من أسفار الأنبياء الصغار أو الكبار.

تدريب عام: اقرأ واحفظ أصحاح الصوم (إشعياء 58) وطبّق وصاياه كل يوم.

  • اعبدوا الرب بخشية

مزمور أحد الرفاع يُحدِّد لنا معالم طريق الصوم:

  • اعبدوا الرب بخشية“: أي العبادة بمخافة: اعتكاف + انقطاع + اشباع + اتضاع.
  • هلِّلوا له برعدة“: أي التهليل بوقار: من القلب ــ باللسان ــ بالفرح ــ بدوام.
  • تعقّلوا أيها الملوك“: أي المعرفة بفهم: اقرا + اسمع + احفظ + استعد (رؤ٣:١)
  • تأدبوا يا جميع قضاة الأرض“: أي التوبة بوعي: التوبة القلبية ــ الندم ــ العودة ــ العهد ــ الفرح.

في (مت ٦:٦) “أدخل إلى مخدعك -أي إلى قلبك- وأغلق بابك -أي فمك”.

المخدع = القلب الداخلي (أي أعماق الانسان) – فتِّش قلبك: حيث المشاعر والإحساسات والأفكار.

الباب هو الفم ومنه يدخل الطعام، وفي بطن امتلأ بالأطعمة لا يوجد مكان لمعرفة الله، كما يقول الآباء، ومنه يخرج الكلام “وبكلامك تتبرّر وبكلامك تُدان” (مت ١٢: ٣٧).

هذه هي أعماق الصوم:

  • التفت إلى “قلبك” وتساءل: هل فيه قدر من التسامح والغفران نحو الآخرين؟ المسيح سامَح البشرية كلها. فهل أنت مثل سيدك؟
  • والتفت إلى فمك واضبط كلامك وحديثك، لأن هذا هو الصوم في معناه الروحي.

إن فترة الصوم هي: “استنارة القلب، استزادة العقل، استعادة الحياة الروحية”. إنها ربيع الحياة الروحية.

 

صوما روحانيا للمتنيح أنبا بيمن

عندما نتأمل في موضوع الصوم المقدس وبالأخص الصوم الأربعيني نجد أن هناك أبعادا ثلاث يحسن أن نعالجها فياختصار.

أولا : البعد التاريخي

تبدأ قصة الصوم ببداية خلقة الإنسان فمنذ أن جعل الرب الإله آدم في الجنة وقد أعطاه وصية الصوم .

إذ أوصى الرب أدم قائلا : من جميع شجر الجنة تاكل اكلا وأماشجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تاكلمنها موتا تموت .

وإذ أراد الله أن يجعل وصايا الطاعة والتعفف والاتضاع مرتبطة صمیمیا بالصوم ، كان من المتوقع إذن أن يكون كسروصية الصوم دلالة أكيدة على العصيان والشهوة الجامحة والذاتية المستقلة المتباعدة عن مصدر وجودها الحقيقي .

وكان من نتائج کسر وصية الصوم أن أضحت شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة هي حروب العدو للإنسانوالتي سماها الكتاب فيما بعد محبة العالم .

وبعد أن كان الأكل في الجنة متعة ووسيطا لتدعيم حياة الشركة بين الإنسان والله أضحى الأكل مصدرا لمتاعب كثيرةللإنسان منها شهوة البطن وشهوة الحنجرة والزنا والدنس والنجاسة .

بل وأكثر من ذلك ارتبط الأكل بالتعب ، إذ يقول الكتاب.” بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك وشوكا وحسكا تنبت لك وتاكلعشب الحقل ، وبعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها ” (تك ١٧:٣- ۱۹) .

وهكذا انصبت اللعنة على الأرض بسبب سقوط أدم تاج الخليقة الأرضية .

+ فبدلا من التنعم في الجنة وجد الشقاء والتعب .

+ وبدلا من المتعة والفرح المرتبط بالأكل والطعام المعطى من يد الله في الجنة وجد الملل والسأم والضجر من الحياة كلهاوبالأخص من قضية القمة العيش.

+ وبدلا من الشكر الذي هو الصدي الحقيق لنعم الله وعطاياه السخية في الجنة ظهر التذمر ووجدت الحروب والمنازعاتبسبب الطعام والمال على كافة المستويات الفردية والعائلية والقومية والعالمية .

كرهت أنفسنا الطعام السخيف

ويحمل العهد القديم بين طياته تكرار ولو بشكل مبسط لمأساة الإنسان الأول في الجنة تجاه قضية الأكل والطعام فقد أرادالله أن يخرج شعب إسرائيل من أرض العبودية ليقودهم بنفسه إلى كنعان كإشارة ورمز سرى للخلاص الحقيقي الذيسيحمل مهمته ابن الله الكلمة ليعبر بنا من عبودية الخطيئة إلى حرية مجد أولاد الله .

وقام الرب بمهمته مع الشعب واخرجهم بيد قوية وذراع رفيعة وضرب ضرباته العشر وصنع المعجزات المذهلة لينتزعشعبه من براثن استعمار فرعون ، وعندما ارتعد إسرائيل من مركبات فرعون التي لاحقته قال موسى للشعب : ” لا تخافوا، قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم فإنه كما رأيتم المصريين اليوم لا تعودون ترونهم أيضا إلى الأبد ،الرب يقاتل عنك تصمتون ” ( خر١٤: ١٢-١٤ ) .

وخلص الرب في ذلك اليوم إسرائيل من يد المصريين ونظر اسرائيل المصريين أمواتا على شاطئ البحر وراوا العملالعظيم الذي صنع الرب بالمصريين فخاف الشعب الرب و آمنوا بالرب وبعبده موسی •

ولكن الإنسان الطبيعي الذي اشتهي ثمرة شجرة المعصية هو هو بعينه الإنسان الذي رأي كل هذه المعجزات وفي الحالبدا حياة التذمر ولم يمض علی المعجزة الكبرى أيام ثلاث ، تذمر الشعب على موسی قائلين : ماذا نشرب ، ثم تذمرواقائلين ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع.

وتحنن الرب الإله وطمان الشعب أنهم سيأكلون لحماً في العشية واعطاهم السلوی ، ، وفي الصباح أعطاهم المن وعبر عنهموسی قائلاً “هذا هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتاكلوا” (خر ١٦ : ١٥) .

وكان الله يقصد من إعطاء المن كل صباح أن يوجه أنظار شعبه إلى أنه هو مصدر حياتهم وليس الخبز واللحم .

الأجل هذا كان يعطيهم كل صباح المن جديدا ليكون الاتكال التام علي شخصه وقيادته المباركة . وأوصى الرب أن يملأ هرونقسطا من المن ليبقي شهادة أن الله أعال بني إسرائيل أربعين سنة في البرية .

والإنسان الطبيعي الساقط لا يريد أن يأكل من يد الله مهما كان الطعام لذيذا وممتعا وإنما هو يريد ان ياكل وفق شهوتهتماما كما عمل إسرائيل في البرية عندما بكوا أمام موسی مشتهين قدور اللحم في أرض العبودية قائلين : ” لقد تذكرناالسمك الذي كنا نأكله مجانا والقثاء والبطيخ والكرات والبصل والثوم ، والآن قد يبست أنفسنا ” (عد ۱۱ : ٥ – ٦) .

لقد سئمت نفوسنا هذا الطعام السخيف ، طعام العبودية وصف بأنه لذيذ ومجاني والطعام الذي من يد الله وصف بأنهسخيف وممل .

وكانت النتيجة أنه كما حرم آدم من الجنة هكذا أيضا حرم الشعب كله من دخول أرض الموعد فيما عدا كالب بن يفنةويشوع بن نون .

أليست هذه هي قضية الطعام !!

كل شجر الجنة لا يصبح لذيذا ولكن شجرة معرفة الخير والشر هي وحدها التي تصبح شهية للنظر وممتعة للأكلوالمعصية .

أليست هذه هي مأساة إسرائيل في البرية ؟ المن والسلوى طعام سخيف والسمك والقثاء والبصل الممتزج بالذل والعبوديةوسياط السخرة يصبح طعاماً مشتهي وموضوعا للتذمر على الله .

أليست هذه هي أيضا مشكلة الإنسان من جيل وإلى جيل ، يرفض أن يضع طعامه في يد الله ليتناوله بشكر وابتهاج قلبويفضل أن يكرر معصية حواء ومأساة إسرائيل في البرية . سمات الصوم في العهد القديم

كان الصوم ف القديم يتسم بصفات معينة يلحظها كل دارس لأسفار هذا الكتاب بشئ من التدقيق والصفة الأولى هي :

الحزن والبكاء والنوح

يقول يوئيل النبي ” ارجعوا إلى بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح ، مزقوا قلوبكم لا ثيابكم ” (يؤ ٢ : ١٢ – ١٥) .

وفي صوم أهل نينوى نلحظ هذه السمة عندما تابوا وعادوا إلى الله فآمن أهل نينوى بالله ونادوا بصوم ولبسوا مسوحامن كبيرهم إلی صغیرهم (يون ۳ : ۳) .

وداود النبي في مواضع كثيرة يربط بين الصوم والحزن بقوله : ” وأبكيت بصوم نفسي فصار ذلك عارا على جعلتلباسی مسحا وصرت لهم مثلاً”(مز ٦٩ : ۱۰) ، ” ركبتای ارتعشتا من الصوم ولحمی هزل عن سمن وأناه صرت عاراعندهم ” (مز ۱۰۹ : ٢٤) ، ” أذللت بالصوم نفسي ، صلاتي إلى حضنی ترجع كمن ينوح على أمه انحنيت حزينا ” (مز٣٥ : ۱۳) .

يمكن تفسير هذه السمة إلى إحساس الإنسان في العهد القديم بثقل الخطية وفظاعة دينونتها ، وأن الصوم عاجز عنالتكفير عنها ، وكل نفس لم تتبرر بدم المسيح تحمل وزر الخطية وكل ما تعلمه يتسم بالحزن الردئ ووجع القلب .

التذلل والتوبة

ولكن لم يكن كل صوم مقرونا بالحزن المرير ، وإنما كان صوم يعبر عن حياة التوبة ورغبة النفس في العودة إلى الله ،وكلما كان الشعب يخطئ ويبتعد عن الله ولا يوجد من الكهنة والكتبة والفريسيين من ينذر ويوبخ وينادي بالتوبةالصادقة ، كان الله يرسل أنبياءه حاملين رسالة التوبة صارخين في ضمائر مثلما كان يعمل يوحنا المعمدان آخر أنبياءالعهد القديم والذي اختارته السماء ليكون إعدادا لطريق الخلاص ومناداة المسيح بملكوته في قلوب الناس ، اسمعأشعياء النبي يقول : ” ناد بصوت عال ولا تمسك ، ارفع صوتك كبوق واخبر شعبی بتعديهم وبيت يعقوب بخطاياهم ،ها أنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمة الشر ” ( اش ٥٨ : ۳ ) .

إنه صراخ نبوى لتنقية الصوم من أهداف خبيثة ونوايا شريرة ، وبنفس الصراخ نادي نحميا الشعب عندما بدأ بناءسور أورشليم الذى انهدم وأكلت أبوابه النيران.

وبنفس الاتجاه أيضا قام عزرا يدعو الشعب للتوبة فيقول الكتاب : ” وناديت هناك بصوم على نهر أهوا لكي نتذلل أمامإلهنا لنطلب منه طريقا مستقيما لنا ولأولادنا ولكل ما لنا ” (عز ۸ : ۲۱) .

الطلبة والعبادة

وإذا كان الطابع الغالب على أصوام العهد القديم الحزن والتذلل والتوبة بوجع القلب ، فإن هناك قلة كانوا يصومونلأجل العبادة في حد ذاتها من أجل التقوى والنسك كما كان يعمل يوحنا المعمدان الواقف على عتبة العهد الجديد ،ومثلما كانت النبية حنة الأرملة نحو أربع وثمانين سنة لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلا ونهارا ” (لو ۲ : ۳۷) .

وفي حياة عزرا الكاتب نلحظ هذه البادرة في قوله ” فصمنا وطلبنا ذلك من إلهنا فاستجاب لنا ” (عز ۸ : ۲۳) .

وما نقوله على عزرا نقوله على أستير وغيرهما من شخصيات قليلة في الكتاب المقدس في العهد القديم.

الصوم في العهد الجديد

إذا كان الرب يسوع قد اعلن عن نفسه أنه ما جاء لكي ينقض بل ليكمل فلابد أن تحولا وتجاوزا وتقدما قد حدث في قضيةالصوم ، شأنه شأن كافة أركان العبادة والحياة الروحية عامة .

التحول الأول

لعل أول ما نلحظه من تغيير هو رفع الحزن المرير ووجع القلب عن الصوم وانتزاع المرارة عن هذا الركن الهام من أركانالعبادة الحقيقية .

وفي الموعظة على الجبل أعطى الرب توجيها أن يكون الصوم من غير عبوس ولا تبرم ولا شكلية وإنما كتعبير عن حياةالبذل والحب التي تتميز بها المسيحية ،” ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين فإنهم يغيروا وجوههم لكي يظهرواللناس صائمين ، الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم ” (مت ٦ : ١٦ ، ۱۷) .

ومعنى هذا أن السيد أعطى الاهتمام للجوهر دون المظهر وللفعل الباطني أكثر من الشكل الخارجي .

ولعل في إجابة السيد المسيح لتلاميذ يوحنا في (مت ٩ : ١٤) ، ما يبين أنه طالما العريس موجودا فبنو العرس لايستطيعون أن ينوحوا لأن العريس معهم ، ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم حينئذ يصومون .

لعل في هذه الإجابة لمحة أنه عندما يرفع العريس سيصومون ولكن لم يقل ينوحون ، ثم أن العريس وأن ارتفع عنهم إلىالمجد عن يمين الآب فهو لا يزال كائن معنا بروحه القدوس وشخصه المبارك ،ومن ثم فالحزن المرير بلا مبرر طالما النفس قدتبررت بالإيمان ونالت نعمة الخلاص وفرح الرجاء ، وحتی دموع التوبة في العهد الجديد فهي بلا ندامة كما يقولالكتاب : ” لأن الحزن الذي بحسب مشيئة الله ينشئ توبة لخلاص بلا ندامة ، وأما حزن العالم فينشیء موتاً”.(۲ کو ٢:٧- ۱۱) ، لأن الروح الذي يبكت على توبة هو بعينه الذي يعطي عزاء ورجاء وثقة للنفس العائدة إلى الله من كل قلبها .

التحول الثاني

التحول الثاني الذي أحدثته المسيحية في الصوم هو أنه قد أخذ طابعا إيجابيا وتجاوز للسلبيات بمعنى أن الصائم لايصوم كفرض ولا يمارس الصوم من خلال النجس والطاهر والحرام والحلال ولكن الصوم أصبح في المسيحية مجالاإيجابيا لانتعاش الروح (اكو ۷ : ٥ ) ، لأنه على حد تعبير الكتاب ، ” إن أكلنا لا نزيد وإن لم نأكل لا ننقص ” (1كو ۸ : ۸) . ” والذي يأكل فللرب يأكل لأنه يشكر الله والذي لا يأكل فللرب لا يأكل ويشكر الله ” (رو ١٤ : ٦) ، ” ولا يحكم عليكم أحد فيأكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت ” (كو ٢ : ١٦) ، فالصوم لم يصبح فيما بعد فرضا أو ناموسا أو تكفيراوإنما حباً وبذلاً ومجالاً مباركا لنمو العشرة وممارسة سر النصرة و القيامة ..

التحول الثالث

هو أن الرب يسوع اعطى للطعام والجوع مفهوما أكثر عمقا من الصورة التي اعتادها الإنسان الطبيعي ، إنه حمل الطعامسرا إلهيا Mystrey ، فالإنسان العادي يأكل من عرق وجهه كما قال الكتاب في سفر التكوين ولكن الرب يسوع الذي أراد أنيردنا إلى رتبتنا الأولى جعل الطعام ليس مجرد أكل مادي وإنما أعطاه مسحة روحية إذ جعله يوضع في يده ، ومن خلالشخصه ياكل المؤمن طعام الأرض ، فيشبع ويشكر ويفرح كعربون لفرح الفردوس الأتی .

من أجل هذا أعلن الرب يسوع في التجربة على الجبل ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله ،وقد طبق الرب يسوع هذا المبدا في معجزة إشباع الجموع التي تكررت مرتين في حياته المباركة على الأرض ، الإنسانيجوع ولكن الرب يأخذ طعاما قليلا ويضعه على يديه الطاهرتين ويباركه فيحمل الطعام سر البركة هذا الذي غاب عنالأرض بسبب لعنتها و عصیان تاج خليقتها في الجنة .

فسر الشبع ليس في الطعام في حد ذاته وإنما من يد الله ، وسر البركة مصدره أن الطعام ليس عملا بشريا بحثا ولكنهوضع في يدي الله ، من أجل هذا تجد الراهب الحقيقي يأكل خبزا جافاً ولقمة بسيطة ولكنها تسري في جسده لتعطيه قوةوبهجة وفرحاً بسر لا ينطق به .

كما أنه في ليلة آلام المخلص أخذ الرب خبزا علي يديه الطاهرتين اللتين بلا عيب ولا دنس الطوباويتين المحييتين وشكروبارك وقدس ثم قسم وهكذا أمسك الكأس ومزج عصير الكرمة بالماء وشكر وبارك وقدس ثم أعطي لتلاميذه بعد أن حولالخبز إلى جسده الحقيقي والخمر إلى دمه الطاهر الزكي الكريم وأعلن لهم أن هذا هو المن الحقيقي ليس كما أعطاهموسی ولكن المن الذي يعطيه الرب كل من يأكل منه ينال حياة أبدية ، ومن هنا جاء ارتباط الصوم والجوع بالتناول منسر الأفخارستيا لأنه إن كان الجوع شبه موت فان التناول من الجسد والدم الأقدسين هو حياة حقيقية تحمي وتقيمموتنا وضعفنا وسقوطنا .

+ فإن كان آدم الأول اشتهي ، فآدم الثاني انتصر وغلب

+ وإن كان آدم الأول خالف وعصى ، فيسوع على الجبل أطاع مشيئة الآب .

+ وإن كان آدم الأول سعي وراء التأله الكاذب من أكل ثمرة معرفة الخير والشر ، فإن المسيح أعطى للإنسان مفهوم العظمةالحقيقية من خلال الاتضاع والتجرد ورفض السيادة والسجود لأصنام العصر .

التحول الرابع

هو أن المسيحية جعلت الصوم مجالا للجهاد والتوبة الجماعية ، لأن الذي يميز حياة الشركة في الكنيسة أن كل مايمارس ليس لفرد أو شخص معين وإنما جميع الأسرار ووسائط النعمة تمارس من خلال حياة الشركة لإنهاض الكنيسةكجماعة ، كجسد للمسيح الحي كألوية في جيش تحارب ضد قوات الظلمة والجنس الشرير الذي لا يخرج “إلا بالصلاةوالصوم “(مت ۲۱:۱۷) .

لأجل هذا نجد أن كنيسة الرسل كما وصفها معلمنا لوقا البشير في سفر الأعمال كانت مواظبة كجماعة على أصواممشتركة محددة معلنة في الجماعة والحياة الكنسية (اع ۹:۲۷) ، يقول السفر “وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قالالروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه فصاموا حينئذ وصلوا ثم وضعوا عليهما الأياديوأطلقوهما ” (أع ١٣: ٢-٣).

من هذا المنطلق نستطيع أن نقول أن الكنيسة تستلهم من رأسها ورئيس احبارها حياة الصوم والجوع ، فكما غلب علىجبل التجربة شهوة العيون وشهوة الجسد وتعظم المعيشة هكذا الكنيسة تستمد من هذه القوة المذخرة والطاقة الكامنةفي ضميرها وروحانیتها وأسرارها تستمد روح النصرة والغلبة ، ويشعر بها كل العابدين الذين يصومون الصوم الكبيرغير منتظرين من صومهم معجزات كتحویل الحجارة إلى خبز أو الدخول في تجارب ليست من الله وإنما باقتحام ذاتي ،فالهدف الأول والأخير هو ممارسة حياة الطاعة الفرحة التي يتسلمها المؤمنون في المناخ الكنسي .

إن الرب صام عنا أربعين يوما وأربعين ليلة بسر لا ينطق به ، وآباؤنا الرسل أوصونا أن يكون هذا الصوم مگرما عندنانؤديه بروح الخشوع والجهاد لنقطف من ثمار النصرة والغلبة التي اقتناها رأس الكنيسة فى ظفره على جبل التجربة .

وإذا كان بولس الرسول قد قدم لنا حياته نموذجا لممارسة الأصوام الكنسية والأصوام الخاصة (٢كو ۱۱ : ۲۷) ،( اع ۹:۲۷) . فإن الذين يرفضون مبدأ تحديد مواعيد تضعها الكنيسة للصوم الجماعي إنما يعزلون أنفسهم عن حياة الشركةويعطون ذواتهم فرصا لأن تكون حريتهم لصالح الجسد وليس لحساب الروح، والواقع الملموس أمامنا في العالم الغربيأكبر دليل عندما فرطت الكنائس الكاثوليكية والهيئات البروتستانتية واختصرت الأصوام إرضاء للناس فإن الحياةالنسكية فقدت ، وروح العبادة ضاع ، وفقد الغرب طاقة روحية كبيرة لا تزال الكنيسة الشرقية تحافظ عليها في أصوامهاونسكها وروحانياتها وصلابة أولادها في الصمود ضد تيارات العالم وشهواته وحروبه المتنوعة .

ثانيا : البعد الروحي

الصوم عامة والصوم الكبير بصفة خاصة مجال للفضائل الروحية التي تنبع من حياة المحبة لله ، فالحب هو المنطلقالأساسي لجميع الفضائل المسيحية ومن ثم فليست هناك في المسيحية فضيلة سلبية فالعفة ليست امتناعا عنممارسات جنسية منحرفة بل تقديم الجسد ذبيحة حب وتكريس الهيكل الجسدى للروح القدس والصوم ليس انقطاعا عنالطعام بل نبيحة حب لانطلاق أوسع للنشاط الروحي .

+ فالذي يصوم بخشوع يتعلم ويتدرب على السجود والاتضاع ومسكنة القلب وعدم الانتفاخ .

+ والذي يصوم بنسك يتعلم ويتدرب على العفة وضبط شهوة الجسد وشهوة العين وحب الاقتناء.

+ والذي يصوم بتوبة صادقة يتدرب على النمو في فحص النفس وتمحيصها والتدقيق في معرفة أخطائها وأخذ مواقفواضحة ضدها والاعتراف الصريح أمام الكاهن مع صلب الأهواء والشهوات .

+ والذي يصوم بتعب وجهاد يعطي انطلاقا لروحه فتطول صلواته وتمتد فترات عبادته واعتكافه وتتعمق ابعاد حياتهالباطنية الروحية.

+ والذي يصوم بشکر وفرح داخلي تمتلئ نفسه استنارة وضياء ويعمل الإنجيل في أعماق أعماق حياته حتى تلتصقالوصية بحياته وينحصر في مخافة الله علي حد تعبير داود النبي في طلبته ” سمر خوفك في لحمي “.

وكلما ازدادت النفس عفة واستنارة وجهادا كلما امتلات النفس بروح التحرر وأضحت لا تشتهي شيئا ولا تخاف شيئاكما قال المغبوط أوغسطينوس .

ويهمنا أن نركز في دراستنا لهذا البعد من خلال قراءات أسابيع الصوم وبالأخص أناجيل الأحاد لكي نتعرف علىالمقاصد الروحية التي تبتغيها الكنيسة من خلال هذه الرحلة الروحية الطويلة التي تستغرق سبعة أسابيع .

ا- قم استعد للجهاد

في أحد الرفاع تضع الكنيسة ما يسمى بالأرضية Background ، أو الخلفية العامة التي من منطلقها تفهم معانيالعبادة ، فتختار حديث الرب في الموعظة على الجبل عن أصول الصدقة والصلاة والصوم وكيف أن المسيحية تتجاوزالشكل إلی المضمون وترفض المظهرية والفريسية في العبادة وتتطلب نمطا معينا من العبادة قوامه الصدق وإخلاصالقلب ومحبة الله وليس السعي وراء الشهرة والمنصب ومديح الناس ، ثم تبدأ رحلة الصوم المقدس بالأسبوع الأول الذييسمى بالأسبوع الاستعدادی وجميع قراءاته الكنسية تهدف إلى هذا الغرض وهو الاستعداد للجهاد والعزم على تركالشر والالتصاق بالخير . اغتسلوا ، تنقوا ، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني ، كفوا عن فعل الشر ” (اش ١ : ١٦) وتقولالقراءات أيضا : ” أتظن أيها الإنسان الذي تفعل الشرور أنك تنجو من دينونة الله ، أم تستهين بغنى لطف وإمهاله ،ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب ” (رو ٢ : ٣-٥ ) البولس من يوم الاثنين .

“إن الحكم هو بلا رحمة لمن لا يفعل الرحمة ”  الكاثيليكيون (يع ٢ : ١٣) .

وهكذا طيلة الأسبوع الأول تتناغم القراءات حول هذا الاستعداد بصورة أو أخرى ، وفي إنجيل قداس الأحد تتكثفالمبادئ وتتبلور بمنهج وأسلوب روحی عجيب إذ تضع الكنيسة من خلاله التداريب الروحية الأساسية للجهاد القانوني.

١- عدم اكتناز المال وسيطرته على قلب الإنسان وجعله إلها وصنما في الحياة

٢- العين البسيطة النيرة.

۳- عدم الإنزعاج والانشغال بلقمة العيش .

فعلى المؤمن أن يجاهد ويؤدي دوره في الحياة بكل اخلاص قلب ولكن ليثق أن الله هو الذي يعوله فطيور السماء لاتزرعولا تجمع الی مخازن وأبوكم السماوي يقوتها ، ألستم أنتم بالحري افضل منها ، وهكذا عشب الحقل يلبسه الله ، فلاننزعج قائلين ماذا نأكل وماذا نشرب لأن هذه كلها متطلبات الأمم “اطلبوا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم “(مت٦ : ۳۳) .

فمفهوم الاستعداد عند الكنيسة الأرثونكسية هو هذا التحول الهام ألا يتعلق القلب بالانشغالات والاهتمامات الأرضيةوإنما يرتبط القلب في عمقه الأصيل بملكوت الله وبره.. فملكوت الله ليس أکلاً ولا شرباً وإنما هو حضور المسيح في العقلوتمتع النفس البشرية بتعزيات الروح القدس وشكر الإنسان الآب السماوي على اختياره ودعوته ليس لأعمال صالحةولكن بالتعطف الأبوي ونعمته المجانية..

ويمكننا أن نلخص تدريب الكنيسة في الأسبوع الأول هكذا :

+ أطرد من قلبك محبة المال وهموم الحياة والارتباكات الأرضية واستعد ليتفرغ قلبك للجهاد الروحي الذي إليه دعيت .

٢- تعرف على تجارب العدو وطبيعة حروبه

تخطو بنا الكنيسة خطوة أخرى إلى الأمام إنها تريد بعد أن هيأت تربة القلب ان تبرز ما يلاقيه المؤمن من معاناة وجهادوحروب ، بعضها من الشيطان وبعضها من العالم والبعض الآخر من الذات ، وهذه كلها ليست من الآب.

فالأسبوع الثاني هو ايضاح وافصاح عن طبيعة الجهاد القانون تعرض الكنيسة لعناصره وتطلب من أبنائها أنيتسلحوا بأسلحة الجهاد المقبول من صلاة وصدقة وأمانة وإخلاص قلب.

فإذا كان الصوم يمثل بالجمر الموضوع في الشورية عند المذبح فالصلاة هي البخور الذي يوضع على هذا الجمرلتتصاعد رائحة ذكية مرضية مقبولة أمام الله .

وهكذا منذ البداية تلح الكنيسة على المؤمنين أن يقرنوا أصوامهم بالصلوات في المخدع ومع الأسرة وفي الكنيسة لممارسة الليتورجيات .

ولعله من أقوى الصلوات التي تربط الصوم بالصلاة ارتباطا صمیما صلاة القسمة للصوم الأربعيني كله فيها يقول الكاهن :

+ الصوم والصلاة هما اللذان يخرجان الشياطين .

+ الصوم والصلاة هما اللذان رفعا إيليا إلى السماء وخلصا دانيال من جب الأسود .

+ الصوم والصلاة هما اللذان عمل بهما موسی حتی اخذ الناموس والوصايا المكتوبة باصبع الله .

+ الصوم والصلاة هما اللذان عمل بهما أهل نينوى فرحمهم الله وغفر لهم خطاياهم ورفع غضبه عنهم .

+ الصوم والصلاة هما اللذان عمل بهما الأنبياء وتنبئوا عن مجئ المسيح قبل مجيئه باجيال كثيرة .

+ الصوم والصلاة هما اللذان عمل بهما الرسل وبشروا ، وهما اللذان عمل بهما الشهداء حتى سفكوا دمائهم ، وهمااللذان عمل بها الأبرار والصديقون ولباس الصليب وسكنوا في الجبال والبراري وشقوق الأرض من أجل عظم محبتهم فيالملك المسيح .

ومن قراءات هذا الأسبوع تبرز الكنيسة استجابة الله لصلوات خائفيه (خر ۳ : ٦-١٤) ، ورفضه صلاة الأشرار (اش٤ : ۲-٥ : ۷) ، وغضب الله المعلن على تاركي الصلاة (روا : ۸-٢٥) .

وأما إنجيل القداس ليوم الاثنين فيشدد على أن تكون الصلاة بلجاجة وإلحاح وتغصب وثقة وإيمان فيورد مثل المرأة  وقاضى الظلم (لو ۱۸ : ۱-۸) ، في هذا يقول الرب ” أفلا يتصف الله مختاريه الصارخين إليه نهارا وليلا وهو متمهل عليهمأقول لكم إنه ينصفهم سريعا ”

وهكذا طيلة الأسبوع تدور القراءات عن جهاد ضد العدو والأسلحة التي يجب على المؤمن أن يتسلح بها في نضالهالروحي كتلك التي أوردها معلمنا بولس في الإصحاح السادس من رسالة افسس .

وعندما نأتي إلى قراءات يوم الأحد ( أحد التجربة ) نشعر أن الكنيسة تبشر جماعة العابدين الذين أعدوا قلوبهم بتركالشر والالتصاق بالخير والذين تسلحوا بالصلاة وكافة اسلحة الجهاد بان الرب يسوع قد غلب وأنتصر وسحق قوةالعدو وأنه كقائد مظفر يسوقنا جميعا في موكب نصرته كل حين ، فنصرة المسيح علي جبل التجربة وفشل العدو فيحروبه الثلاث ، ( شهوة الجسد ، شهوة العين ، تعظم المعيشة ) ، إنما يرجع هذا إلى أن الابن الذي في وحدته مع الأبوالروح القدس قد وهب البشرية المؤمنة به وإنسانيتنا التي تتحد بجسده ودمه الأقدسين سر النصرة وسر الغلبة علىجميع حيل العدو ، وقد يتساءل البعض لماذا لم يحول المسيح له المجد الحجارة خبزا مع أنه حول الماء خمرا في عرس قاناالجليل ، والإجابة هي أنه يعلمنا أنه لا يتقبل مشيئة الا مشيئة الآب وتحويل الحجارة خبزا كانت مشيئة الشيطانخارجا عن دائرة مقاصد الأب ومشيئته الصالحة .

الرب يسوع جاع لأنه إنسان مثلنا في كل شيء فيما عدا الخطية وحدها ولكنه لم يصنع ما صنعه أدم وحواء في الجنة ،أنه رفض رغم جوعه أن ياكل من خلال ، مشيئة العدو وإنما أعلن أنه لا ياكل الإ من خلال الآب إذ هو القائل : ” طعامي أنأصنع مشيئة الذي أرسلني “.. وهذا هو الغذاء الحقيقي طاعة الكلمة طاعة الوصية والتلذذ بها والتغذي روحيابممارستها ” ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله ” (مت٤ : ٤) .

والرب يسوع لم يرد أن يطرح نفسه من فوق جناح الهيكل رغم صدق الآية القائلة أنه يوصی ملائكته وعلى أياديهميحملونك بل أنه يوما مشی علي الماء حتی وصل إلى سفينة التلاميذ ، ومرة أخرى أخرس الرياح بكلمة .. ولكنه لم يرد أنيستجيب لرغبة الشيطان لأنه لا يريد أن يصنع مشيئة إلا مشيئة الآب فقد كان من خطة الخلاص التي دبرها الثالوثالقدوس المشي على الماء ، وانتهار الرياح والقيامة من الموت في اليوم الثالث ولكن ذلك العمل ( البهلواني ) الذي أرادهالشيطان لإرضاء الذات لم يكن واردا في خطة الآب ومقاصده الأزلية لأجل هذا رفضه الرب يسوع ، وهذا الاتجاه هو الذييمارسه رجال الله القديسون الذين وهبوا أن يخرجوا شياطين ويشفوا مرضی لم يقبل واحد منهم أن يصنع معجزة واحدةاستعراضا لذاته وإظهارا لمواهبه وإنما كان كل شيء عندهم لحساب مجد الله وحده . والرب رفض أيضا أن يأخذ جميعممالك العالم ومجدها في التجربة الثالثة لأن الطريق والمنهج الموضوع کی يملك الرب على الأرض كلها لم يكن هو منخلال السجود لإبليس وإنما بالاتضاع والإخلاء والتجسد والتجرد والصلب ثم القيامة ولهذا قال داود بروح النبوة ” ملكعلى خشبة ” ، هكذا تريد الكنيسة في هذا الأسبوع أن تعطينا تدريبا روحيا أن نكون ملتصقين بالرب في حياة الشركةالمقدسة بالصوم والصلاة ، حتى إذا ما حاربنا العدو في مجالات شهوة العين أو شهوة الجسد أو تعظم المعيشة فإنملائكة الله تحمينا وتحرسنا والذي خرج غالبا لا يزال يعمل في كنيسته بروحه القدوس ليغلب في قلوب جميع أولاد الله .

٣-لنقدم توبة صادقة

ثم تخطو الكنيسة معنا في مسيرة هذه الرحلة المقدسة لتقدم لنا في الأسبوع الثالث من الصوم ركنا هاما من أركانالحياة التقوية التعبدية وهو حياة التوبة الصادقة ، تقول مديحة الصوم الشهيرة:

الصوم الصوم للنفس ثیات طوبى لمن صام عن الزلات

ودأب على عمل الصالحات فإنه يرث ملكوت السموات

الصوم الصوم ياشعب يسوع صوموا صوماطاهرا بخشوع

ليس الصوم معناه الجوع بدون التوبة عن الزلات

ولنقتطف من قراءات هذا الأسبوع ما يوضح لنا المقاصد الروحية لهذا الأسبوع ، ففي نبؤات الاثنين تحث الكنيسةالجميع على التوبة وتنذر المتهاونين بالقول : “إلى متى أيها الجهال تحبون الجهل والمستهزئون يسرون بالاستهزاءوالحمقى يبغضون العلم ارجعوا عند توبیخی ( ام ١ : ۲۰-۲۲) .

ومن نبوات يوم الخميس من هذا الأسبوع تنذر الكنيسة كل جماعة لا تتوب أن مصيرها سيكون گسدوم وعمورة ، لكنالأبرار التائبين وحدهم هم الذين ينقذهم الرب من القصاص كما حدث مع ابراهيم الذي أخرج لوط من هلاك هاتين المدينتين (تك ۱۸-۱۹) ، وفی نبؤات يوم الجمعة تحذر الكنيسة من الكبرياء گمعطل رئيسي للتوبة و “أعاقب المسكونة على شرها والمنافقين على إثمهم وأبطل تعظم المستكبرين وأضع تجبر العتاة (أش ۱۳ : ۲-۱۳) .

وتقدم في إنجيل قداس يوم الجمعة المجنون الأعمى الأخرس الذي شفاه الرب وكأنها بأسلوب سري تشير إلى أن غيرالتائب هو المجنون البعيد عن حكمة الله والأعمى الذي لم تكحل عيناه بكحل النعمة ولم تستتر بنور الحياة الأبديةوالأخرس هو الذي سد فمه عن أن ينطق بتسبيح الله .

وأما إنجيل يوم الأحد فهو عن قبول رب المجد المخلص للتائبين ومزموره فيه استرحام وتناغم مع قصة الابن الضال إذ يقول ” لا تذكر آثامنا الأولى ، فلتدركنا مراحمك سريعا لأننا قد افتقرنا جدا ، أعنا يا الله مخلصنا من أجل مجد اسمك (مز٧٨ : ٧، ٨) .

وأما قصة الابن الضال فهي إحدى المحاور الرئيسية لقراءات الصوم الكبير وأهدافه فليس الابن الضال سوى أنا وأنتوكل من ترك الأحضان الأبوية وبرکات التنعم بالحياة المباركة لكي يذهب إلى الكورة البعيدة حيث الجوع لأن لذات الحياةومتع الدنيا مهما تنوعت فهي موجودات تزيد النفس عزلة وفراغا ، من أجل هذا يحتاج الإنسان إلى المن السماوي وغذاءالحياة الحقيقية ، وستظل حقول الخنازير التي تشير إلى النجاسة والقذارة وفشلها في إعطاء الانسان طعاما مشبعاستظل هی هي بعينها حقول الشهوات واللذات الجسدية التي يرتع فيها أهل العالم مملؤين فجرا ودعارة ونجاسةوتمرغاً في حمأة الدنس .

ولكن الأب الحنون لا يزال فاتحا ذراعيه ولا يزال منتظرا عودة الابن إلى أبيه ، وهذا لن يحدث إلا إذا أيقن الضال أنه لميجن من الكورة البعيدة الا الموت ” فأي ثمر كان لكم حينئذ من الأمور التي تستحون بها الآن . لأن نهاية تلك الأمور هيالموت ” (رو٦ : ۲۱) . والآن نحن في زمان التوبة ، وكل منا قد ضل طريقه وكلنا كغنم ضللنا والجميع زاغو وفسدواوأعوزهم مجد الله ، هلم نرجع إلی أنفسنا كما فعل الابن الشاطر ، هلم نلقي بأنفسنا عند أقدام المصلوب في تسليم كاملوتوبة كاملة ، ولنقم سريعاً ونأخذ الموقف الصريح المحدد الا يكون لنا مع العالم نصيب فيما بعد .

وطالما القلب توجع والنفس اهتاجت والحياة كلها سلمت ولم يبق ظلف للعالم فلنسع إلى أب الاعتراف في الكنيسة نعلنله توبتنا وندمنا و عودتنا ، ولنقل مع الابن الشاطر ” أيها الآب السماوي أخطأنا إلى السماء وقدامك ولسنا مستحقين أنندعی لك أبناء “والرب قد وعد أنه إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتی يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم (١يو١ : ٩) .

وأما الأب الذي أخرج الحلة الأولى وألبسها لابنه ووضع الخاتم في يده وحذاء في رجليه وذبح له العجل المسمن وابتدأيفرح لأن ابنه كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد هو الآب الذي لا يزال يعمل فى الكنيسة عندما تتوب النفس وتعترفبخطاياها وتأخذ الحل من الكاهن وتتناول من الأسرار المقدسة ، إنها تهتف مع أشعياء ” فرحا أفرح بالرب تبتهج نفسيبإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص کساني رداء البر مثل عريس يتزين بعمامة ومثل عروس تتزين بحليها ” (أش ٦١: ١٠) ، والحلة هي ثوب البر ، والخاتم هو خاتم البنوة وعربون الحياة الأبدية ، والحذاء هو التدبير الروحي والسعينحو إنجيل السلام ، والعجل المسمن يشير إلى جسد الرب ودمه الأقدسين ، وباختصار كل شئ قد صار جديدا حسبوعده : “ها أنا أصنع كل شئ جديدا ” (رؤ ٢١ : ٥) ، مبارك أيها الرب يسوع یا مخلص الخطاة وقابل التائبين يا منأحببتنا وغسلتنا من خطايانا بدمك وبعد أن كنا فی كورة الخنازير في عری وخزي جعلتنا ملوكا وكهنة لله أبيك لك المجدوالسلطان إلى أبد الآبدين آمين (رؤ ١ : ٦) .

٤-لنستجب للإنجيل وننادي به

وفي منتصف الصوم تعرض لنا الكنيسة مائدة روحية دسمة كل أطعمتها عن سلام الإنجيل وقوته والإيمان بفاعليتهوالتطبيق العملي له والاعتزاز به .

وخلال قراءات هذا الأسبوع يمكننا أن نشير إلى أهم شروط الاستجابة للانجيل والمناداة به .

+ ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله ( إنجيل قداس الثلاثاء ) .

+ أتريد أن تبصر الاستنارة بالإنجيل فقال له يسوع أبصر إيمانك قد خلصك ( إنجيل قداس الخميس ) .

+ وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه في فهذا افعلوا واله السلام يكون معكم ( البولس يوم السبت ).

+ من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء إلى حياة أبدية إنجيل الأحد (يو ٤ : ١- ٤٢) .

+ ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول إنها قد ابيضت للحصاد .

+ فآمن كثيرون من السامريين بسبب كلام المرأة التي كانت تشهد أنه قال لي كل ما فعلت ، ومكث كثير من السامريين معالرب يومين فآمنوا به أكثر جدا بسبب كلامه.

٥ – لنتشدد بالإيمان

وما أن يأتي الأسبوع الخامس ويكون المؤمنون قد مارسوا تداريب روحية کالاستعداد للجهاد والتعرف على تجارب العدووحمل الأسلحة الروحية التي تحدث عنها بولس الرسول في الإصحاح السادس من رسالة أفسس وعاشوا في اختبارالتوبة الحقيقية وأخذوا مواقف حاسمة في حياتهم كتلك التي أخذها الابن الضال عندما ترك كورة الخنازير وعاد إلىأحضان الأبوة الحانية .

بعد هذا كله تقدم الكنيسة تدريبا روحيا عن تدعيم الإيمان والتشدد به والاتكال الإيماني الكامل على الله وضرورة التألممن أجل الإيمان ، ونقتطف بعض القراءات التي تدور حول هذا المحور الهام من حياة أولاد الله ، ” وأما أنت يا إسرائيلعبدی ، يا يعقوب الذي اخترته لا تخف لأني معك ، لا تخف ، أنا أعينك – اش ٤١: ٤ – ١٤) ( نبوات الأربعاء ) .

وإذ يحمل الإيمان الرجاء الذي لا يخزي يطالعنا إنجيل الأربعاء من هذا الأسبوع : ” فقال للكرام هوذا ثلاث سنين آتياطلب ثمرا في هذه التينة ولم أجد أقطعها . لماذا تبطل الأرض أيضا فاجاب وقال له ياسيد اتركها هذه السنة أيضا حتىأنقب حولها وأضع زبلا فإن صنعت ثمرا وإلا ففيما بعد تقطعها ” (لو ۱۳: ٦ -٩) ، وفي قوة الإيمان وفاعليته تأتي نبؤة (أشعياء ٤٢: ٥ – ١٦).

وأجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة” ( نبوات الخميس ) .

وأما الذين لا يؤمنون فإنجيل قداس الجمعة ينذر بهلاكهم ” إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم ” (يو ۸ : ۲۱- ۲۷) .

وفي إنجيل أحد المخلع يتضح بجلاء كل هدف تدريب هذا الأسبوع عندما تقدم الكنيسة نموذجا للإيمان الإعجازیفالمخلع عند بركة بيت صيدا ثمان وثلاثين عاما والرب يقيمه في الحال بل ويعطيه قدرة أن يحمل سريره ويمشي (مت ۹ : ٦) ، (يو ٥ : ١- ۱۸) ولكن الإيمان كقوة ونعمة لها التزام وهو ضرورة الحفاظ عليها وتنميتها وكما أن النكسة في المرضالجسدی ذات خطورة جسيمة هكذا أيضا في الحياة الروحية ، تحذرنا الكنيسة من أنه ” إن أخطأنا باختيارنا بعد ماأخذنا معرفة الحق لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا بل قبول دينونة مخيف (عب ١٠ : ٢٦) .

وإن الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهرالآتي وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضا للتوبة إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه (عب٦: ٤ – ۷) .

ياللخطورة إذا بعد أن نكون قد أخذنا المواهب وذقنا حلاوة العشرة واستنارت أذهاننا ثم نضرب بهذا كله عرض الحائطونلتفت إلى سدوم وعمورة مع امرأة لوط المسكينة ، ليحمنا الرب مقاومة الإيمان ورفض التوبة لتستنير عيون أذهاننابعمل المعمودية .

ولا يكاد الصوم يطوي أسابيعه والأيام تجری سراعا حتى قبل أن تعطي الكنيسة إنذارها النهائي يوم جمعة ختامالصوم بقولها الرهيب . ” يا أورشلیم یا قاتلة راجمة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها ،وهوذا بيتكم يترك لكم خراباً”(يو١٣ :٣٠- ۳١) ، قبل الإنذار النهائي الذي يختم رحلة الصوم توضح لنا الكنيسة قوة فاعلية المعمودية في حياتنا وتذكرنابجحد الش يطان ومحو الخطية وقوة الميلاد الثاني : أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي و خطاياك لا اذكرها (من نبواتالاثنين من الأسبوع السادس (أش ٤٣: ٢٥) .

وأن جحد الشيطان وممارسة المعمودية ليست طقساً فقط وانما هي ميلاد جديدوحياة كلها توبة ومسيرة ملحة نحوملكوت السموات وفي هذا يقول الرب : ” أتظنون أن هؤلاء الجليليين كانوا خطاة أكثر من كل الجليليين لانهم كابدوا مثلهذا ، كلا اقول لكم ان لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” انجيل الاثنين (لو١٣: ١-٥) .

وفي إنجيل قداس الخميس يتحدث الرب عن غذاء أبناء المعمودية الذين اعطوا ظهورهم للعالم وصار الرب يسوع حياتهم و فرحهم وقوتهم ، “الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية ، أنا هو خبز الحياة ، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد ” (يو ٦ ) ، ولا يستطيع أحد أن يدرك قيمة هذه الأسرار الإلهية إلا إذا كانت له البصيرة التي تجعله يعرفالحق ويحب الحق ويؤمن بالحق ،مهما كان الكلام صعباً ومعثرا عند أهل العالم والرب غير مستعد أن يقبل مفاوضاتوجهالة وحلول وسط ، فكثيرين من تلاميذه لم يعودوا يمشون معه بسبب صعوبة تقبل سر الإفخارستيا ، أما هو فقالللاثني عشر “العلكم أنتم أيضا تريدون أن تمضوا فأجابه سمعان بطرس يارب إلي من الذهب , كلام الحياة الأبدية عندكونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي ” (يو ٦: ٦٦-٦٩) ، وهذه هي سمات الاستنارة ، الإيمان الحىوالعامل والفعال بكلمة الرب وبالحياة الابدية التي في شخصه . وتؤكد الكنيسة في هذا الأسبوع تدريب الإستنارة ،فانجيل قداس السبت عن بارتيماوس الأعمى الذي قال للسيد أنه يريد أن يبصر فقال له يسوع اذهب ايمانك قد خلصكللوقت أبصر وتبع يسوع في الطريق .

وفي إنجيل قداس الأحد يتكلم الكتاب عن إنارة المخلص لبصائر المعتمدين “لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتي يبصرالذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون (پو ٩ : ٣٩) .

يالعظمة أختبار هذا الأعمى الذي عندما حاوره الفريسيون المراءون عميان القلوب رغم انفتاح عيون أجسادهم ، “إنما أعلم شيئا واحدا أني كنت أعمى الآن أبصر” ، وكانت نتيجة انفتاح البصيرة السجود عند اللقيا ، “قال له يسوع الذييتكلم معك هو هو فقال أؤمن يا سيد وسجد له “.

وأما الأسبوع السابع والأخير ، من الصوم فهو سيمفونية الخلاص ، تدربنا الكنيسة فيه عن المخلص الذي ظفر ودخلأورشليم كملك راكبا على جحش وأتان .

ولكنها عند ختام الصوم وقبل الدخول في أسبوع البصخة المقدسة تلقی بإنذارها النهائي ودينونة الذين لم يستجيبوالنداء الكنيسة طيلة هذه الأسابيع كلها ، فتقول في مزمور القداس “الجبال تبتهج أمام وجه الرب لأنه أتى ليدين الأرض ،يدين المسكونة بالعدل والشعوب بالاستقامة “، وفي البولس يتحدث الرسول عن يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياءوالأموات عند ظهوره وملكوته .

وأما هيرودس الثعلب فليبقى في مدينة الهلاك يراوغ مع جماعة الفريسيين ودينونة الرفض لكل من يشترك معهم ، ومعأورشليم قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها ، أن الدينونة صارمة ، والعقاب ابدي ، والبيت يترك خرابا ، ومن له أذنانللسمع فليسمع .

ثالثا : البعد الكنسي

يعتبر الصوم الكبير بحق ربيع الكنيسة ، فهو موسم ازدهارها وتجليها البهي ، فيه تبدو أمنا البيعة الأرثوذكسية متزينةباحلى ما عندها من طقوس وألحان وقراءات وممارسات روحية ، وما كتاب القطمارس و بالصوم الكبير الذي يحويقراءات من الكتاب المقدس بترتيب خاص مذهل ” كما سبق شرحه ” أو كتاب الإبصاليات والطروحات الخاصة بتسبحةنصف الليل أو كتاب المدائح الذي يحوي القطع التي ترتل في تسبحة عشية ، أو الحان القداس العديدة وصلوات القسمةالخاصة بالصوم ماهي إلا أطعمة روحية تعدها الأم لأولادها الأمناء العابدين الذين حرموا نفوسهم بإرادتهم من طعامالأرض البائد وأغلقوا أفواههم وحواسهم عن كل لذة ترابية وعكفوا ملازمین البيعة نهارا وليلا بنسك وتقوی ملتمسين خبز الروح الباقي والمن السماوي شبع النفوس الحقيقي .

وكان الكنيسة تريد تقدم لنا مبدأ روحيا هاماً أنه لا معنى لأي عمل نسکی أو حرمان جسدي أن لم يصحبه عبادة بالقلب ولذة في الروح ودخول في عشرة مع المسيح .

فكما أن عمل الكنيسة دائما تحويل المبادئ الروحية إلى ممارسة عملية ومجال سلوكي في متناول كل مؤمن ليحيا فيهوبه ، هكذا فعلت أيضا في الصوم الكبير وهذا ما نريد ان نوضحه في هذا البعد حتى ما يتبين كيف مزجت الكنيسةمبادئ الصوم الروحية لتقدمها لمؤمنيها بالألحان والتسابيح والطقوس والممارسات العملية ، وسنحاول تقديم نماذج من نصوص التسابيح الكنسية لنبين مدى حرص الكنيسة أن تقدم لأولادها المجال والمناخ الملائم لصيام روحی مقبول أمام الله ولا سيما أن كثيرا من هذه التسابيح تبدو ككنوز مدفونة لا يتمتع بجمال ترتيلها إلا القلة القليلة .

القداسات المتأخرة

فعلی رأس ما يقدمه النظام الكنسي في الصوم الكبير هو سر التناول الأقدس، فالقداسات التي تمتد حتى الساعةالتاسعة التي توازي الثالثة بعد الظهر و أحيانا كثيرة حتى الخامسة مساء تسود الكنيسة فيها مسحة من الهدوءالروحي مع بخور صلوات ذات رائحة ذكية خارجة من نفوس قد تروحنت أجسادها بعد أن خف ثقل المادة عنها.

هذه الصورة هي أحلى تعبير عن الصوم بل إن الأفواه المفتوحة التي تتقدم للمذبح لتأخذ غذاءها من يد الكاهن بعد أنرفضت أن تمد يدها لتاخذ خبزها بنفسها هذه تمثل بالحقيقة الصوم في معناه اللاهوتی و الكنسي العميق .

“ونحن أيضا فلنصم عن كل شر بطهارة وبر ونتقدم إلى هذه الذبيحة المقدسة ونتناول منها بشكر” .

“وكان مع الوحوش لما صام في البرية ، لكي نصنع مثله في زمن وحدتنا ، الجسد والدم اللذان لك هما لمغفرة الخطايا مع العهد الجديد الذي أعطيته لتلاميذك ، الآن تناولنا من جسدك ودمك الحقيقيين تجديدا لقلوبنا وغفرانا لخطايانا ” ( منقطعة تقال في توزيع سبوت و آحاد الصوم المقدس ) .

فالبناء الكنسي في مفهومه اللاهوئی هو جسد واحد يجمع كل المؤمنین علی امتداد الزمن ويأخذ فيه المسيح دور الرأس، وبدون الرأس لا يوجد معنی بالمرة لدور الأعضاء مهما كانوا ، ولذلك فإن أي عبادة لا تقدم من خلال المسيح غير مقبولةبتاتا ، والكنيسة حريصة أن تشهد لرأسها بان تذكر أولادها بان صومهم مهما بلغ من القوة أو الضعف فما هو إلا اشتراكالأعضاء بنصيبهم فيما قام به الرأس من أجلهم ، ” أكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده الذي هوالكنيسة ” ( کو ١ : ٢٤ ) .

ولذلك فإننا لا نجد جملة تتكرر في صلوات وتسابيح الصوم الكبير مثل هذه الجملة التي هي غاية في البساطة وغايةفي العمق ” يسوع المسيح صام عنا أربعين يوما وأربعين ليلة “.

ما أعمق كلمة ( عنا ) أنها تعزى كل من يشعر بضعفه وعدم کمال صومه ، كما هي أيضا تكسر حدة كبرياء كل فريسييفتخر ببره الذاتي ، ولهذا فإن هذه الجملة تبدو كالإيقاع الثابت للحن کله او خيط العقد الذي يمر من خلال حباتجهادنا كلها ليربطها معا ويعطيها المكانة اللائقة والمعنى العميق.

فنحن بصومنا إنما نشترك كأعضاء في جسد ذاك الذی قضي في البرية أربعين يوما وأربعين ليلة كفدية وكفارة عنجميعنا ، إننا نقدم نسكاً وجهادنا فی الصوم الكبير الذي هو بمثابة ذبيحة أجسادنا التي تجد قبولها مرتبطة بالذبيحةالكاملة التي للمسيح .

بل أن الكنيسة تقودنا إلى خطوة لاهوتية أعمق عندما تقدم لنا المسيح كگاهن يرفع هذه الذبيحة إلى الأقداس السماوية ،فهو الذبيحة وهو الكاهن معا ، فهو رأس الجسد عندما تقدم امامنا ليقدم ذاته ذبيحة نسك وطاعة للأب السماوي هناك فيبرية الأردن ، وهو أيضا في نفس الوقت رأس الجسد عندما دخل كرئيس كهنة إلى داخل الحجال السماوي ليقدم ذبيحةالجسد كله أمام الله الأب ، أليس هذا ما تقصده عندما تقدم لحن ( ميغالو )هذا اللحن العميق الذي يبدا بهزات رصينة ثم يعلو بجمال فائق ، إنه يعني باللغة العربية ” رئيس الكهنة الأعظم إلى الآباد الطاهر قدوس الله “، وكأن الكنيسة تحملعلى هزات اللحن ثقل جهادها كله ليجتاز به کاهنها القدوس وحده الحجاب السماوی .

وفي نفس الخط اللاهوتي يدخل أيضا لحن مرد الإبركسيس في أيام الصوم ” يرفع الله هناك خطايا الشعب من قبل المحرقات ورائحة البخور “.

وهنا يأتي دور العذراء مريم المكرمة من الكنيسة والتي يعطيها النظام الكنسي مكانتها في كل مجال ، إنها هي المجمرةالتي فاح منها بخور الذبيحة في أرضنا ليصل عطره إلى الأقداس السماوية .

+ أنت هي المجمرة الذهب النقي الحاملة جمر النار المبارك ” ( لحن يقال أثناء رفع بخور البولس أيام الصوم المقدس ) .

والكنيسة حريصة أيضا أن تضم في جسمها جهاد كل أولادها منذ آدم حتی نهاية الدهور ولذلك فهي تتكلم كثيرا في الأربعين المقدسة عن صوم كل رجالها من ادم إلى اسحق إلى موسى إلى إيليا إلى دانيال إلى أهل نينوى ، ( فالكنيسة تضم التائبين من الأمم ايضا ) ، إلى الرسل إلي النساك ولباس الصليب والذين سكنوا البراري في كل عصر من أجل عظم محبتهم في الملك المسيح ، وهكذا يندمج جهادنا مع جهاد آبائنا كلهم في مجمرة واحدة هي الكنيسة ليتصاعد بخورا واحدا مغطى تماما برائحة الصليب ومرفوعا بيد رئيس کهنتنا الأعظم أمام الآب السماوي .

وهكذا تصنع الكنيسة عجبا لكل مؤمن أنها تستلم جسده الصائم مهما بلغ من نقص وقصور لتقدسه في سرالإفخارستيا المقدم على مذبحها كل يوم الذي هو جسد ابن الله ذاته فيسرى الدم الحي في العروق الميتة فينتشي المؤمن حياة وحبا ويكتشف كيانه الجديد كعضو بين الأعضاء ، لقد اتحد جسده الصائم بجسد المسيح الغالب ، وهذا هو البعداللاهوتي و الكنسي العميق الذي تهبه الكنيسة لصوم أولادها في الأربعين المقدسة .

قراءات دسمة ونبوات من العهد القديم

ثم تقدم لنا الكنيسة في الصوم برنامجا روحيا من القراءات في الكتاب المقدس مرتبة بخط روحی خاص كما سبق وبينا ،ومن الملاحظات الهامة أن الصوم الكبير أحد المواسم القليلة للغاية التي تقدم فيها الكنيسة أجزاء من العهد القديم تقرأ كنبؤات في صلاة رفع بخور باكر من كل قداس ، وكأن الكنيسة كأم ماهرة تعلمت بحنق كيف تعد غذاء أبنائها بنفسها تمد يدها لتقطف من هنا وهناك من كلمة الله عبر الدهور لتعد وجبة شهية لأولادها الجائعين والجالسين بإنصات أمامالمنجلية يغتذون بفرح من طعام الروح.

التسبيح

ومن أهم عناصر العبادة الكنسية عنصر التسبيح وهكذا تعلمنا الكنيسة أن النسك المسيحي يقترن بالبهجة والفرح الروحي .

فهناك كثير من قطع التسابيح تضاف إلى التسبحة السنوية في أيام الصوم ، فيوجد تسعة قطع باللغة العربية ترتل معتذاكية السبت في عشية الأحد ، وهذه القطع يغلب عليها الطابع التفسيري و التعليمي ، ( كما تعود الطقس الكنسى كثيرا أن يقدم التعليم منغما ليضمن وصوله إلى وجدان الشخص ) ، وهي تربط الصوم بأفعال الفضيلة المختلفة كما تحث الصائمين على العبادة الطاهرة الروحية وذلك كله بكلمات بسيطة ومباشرة وذات طابع کتابی ، وفيها أيضا تفسيرات لبعض من فصول أناجيل الأحاد .

وهذه القطع تشبه إلى حد كبير مدائح أخرى مرتبة لكي ترتل في رفع بخور عشية وفي التوزيع أثناء القداسات .

اقصدوا الكنائس واكثروا الصلاة واضرعوا بابتهال في القدسات

وتحابوا فمن لا يحب أخاه فهو كائن وسط الظلمات

ثم هناك أيضا إضافات رائعة في تسبحة نصف الليل ، اذ تبدأ في الصوم الكبير بهوس خاص وهو عبارة عن تجميع منالمزامير يناسب التوبة وطلب مراحم الله ، ثم تتلو ذلك إبصاليات خاصة تسبق قطع التسبحة السنوية ، وهذه الإبصاليات تعد من أجمل و أعمق صلوات التوبة في الترتيب الكنسي كله ، وهكذا يقضي المؤمن الصائم جزءا كبيرا من ساعات يومهفي لذة روحية ومشاعر ترتفع بسهولة أمام عرش المسيح .

تعالوا فلنسبح مع الملائكة ونمجد ربنا يسوع المسيح ، فلنصم صوما نقيا ونصلي بقلب منسحق ، وأيضا تعروا من الإنسانالعتيق وطقسه الشرير وأعماله الرديئة ، والبسوا الإنسان الجديد وصلوا الآن بعظم قوة ، الصلاة والصوم يطهران نفوسنا بالوقوف في الصلاة ، فلنشكر ربنا يسوع لكي ينقل قلوبنا إلى السماء . ( ابصالية آدام على ثيوطوكية الأحد للصوم الكبير ) .

الصلاة بالليل تنير العقول ، ” اسهروا في الطلبات بلا ملل ، وأحبوا النشاط والزهد ، لنكون مستيقظين بالصلاة والصوم”. ( أبصاليا واطس على القطعة السابعة من ثيئوطوكية الأحد).

وأخيرا فان الكنيسة ايضاً تقدم من جعبتها ومن اروع الحانها في قداسات الصوم الكبير الشئ الوفير ، فهناك الحان خاصة بالسيدالمسيح وبالعذراء مريم ،وهناك لحن كيرياليسون ” يارب ارحم ” في صلاة بخور باكر ، ولحن الليلويا في توزيع القداس الالهي ، وهي كلها الحان غاية في العمق تسودها مسحة من الرصانة والخشوع وتخرج هزاتها محملة بمشاعر الانسحاق و استمطار مراحم الرب .

المطانيات بانسحاق و سجود

فالصوم الكبير ( كما بينا سابقا ) هو موسم التوبة والرجوع لله بانسحاق شديد وتوبة حارة ، والكنيسة تعلمنا ذلك عملياعندما تحرص علي طقس المطانيات ( مطانية كلمة يونانية تعني تغيير الاتجاه أي التوبة )، وهي إحناء الركب عليالأرض علامة طلب الرحمة وذلك في صلاة رفع بخور باكر .

فيقول الكاهن “نقف و نحني ركبنا ” ، ويرد الشعب “ارحمنا يا الله الآب ضابط الكل” ثم يقول ” نقف ونحني ركبنا” ،فيقول الشعب ” ارحمنا يا الله مخلصنا” ، ثم تتكرر الطلبة مرة ثالثة ” ثم نقف ونحني ركبنا ” فيقول الشعب ” ارحمنا ياالله ثم أرحمنا ‘ ، وأخيرا ” يارب ارحم “.

وكثيرا ما يمارس المؤمنون المطانيات بالمنزل بكثرة في هذا الصوم خشوعا وسجودا و إشاعة لروح النسك والمسكنة أمامالله طيلة هذه الصوم المقدس .

التقشف والعطاء للمساكين

فليس الصوم مجرد تغيير اطعمة أو انقطاع فترة من الزمن عن تناول الطعام ، وإنما الصوم هو حياة فيها التوبةالجماعية من الكنيسة كلها المتذللة للرب المصلوبة عن الأهواه والشهوات المتضرعة إلى الله تطلب الرحمة والغفران .

ففيها التقشف والنسك وعدم إقامة المآدب وخاصة الفاخرة المليئة بأنواع الأطعمة ، لأن هذه الاتجاهات تفسد مناخالصوم التقشفي ، والمسيحيون الأوائل كانوا يأكلون طعاما بسيطا لكي يتوفر لهم مالا يطوله للفقير و المسكين وهناارتباط الصوم بالرحمة كما تقول المديحة :

طوبى للرحماء علي المساکین فإن الرحمة تحل عليهم و المسيح يرحمهم الدين. ويحل بروح قدسه فيهم.

والكنيسة الحية تعرف اصالة الصوم كما ترفض الموائد والأحتفالات والمسرات والأفراح أيام الصوم الكبير ترفض أيضا الثرثرة وضياع الوقت في الكلام الذي لا يبني ، لهذا يؤثر المؤمنون الاعتكاف والصمت حتی يتيسر وقت لفحص الذات والتوبة والاعتراف وضبط اللسان والحواس ، والكنيسة تعلمنا ذلك في تسابيحها عندما تقول لأولادها ” تمسكوا بالصوم والصلاة معا وقوموهما بالطهارة التي للقديسين ، أحبوا النشاط والبتولية ” ( إبصاليه أدام على ثيئوطوكيةالأحد ) .

ما هو فرح هذا العالم ، وما هي الأموال والكنوز التي لا نفع فيها ولا فائدة منها ، هذه التي تصيد العقول وتخطف الأفهام وتظلم العيون من أجل أعمال هذا العالم . فإن كنوز الغني تزول وتفسد ، وأما السالكون في ناموس الرب فيكون لهم الحياة والنجاة ، اسمعوا أيها الأحباء قول السيد المسيح وتعاليمه المحيية، لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض ، وأنتصيروا واحدا مع المسيح في ملكوته ، أبغضوا العيون المتعظمة ، واتركوا القلوب البهيمية ، واطلبوا الطعام السماوي واللباس البهي ، واحفظوا أجسادكم من النميمة لتكون مباركة لأنها هيكلا للرب ، واحرسوا نفوسكم من الاختلاط الهيولىفإنه هو الشرك الأول الذي يصيد الإنسان ( من طرح واطس للأحد الأول من الصوم الكبير ) .

 

 

طلبة ختامية

ياربي يسوع المسيح مخلصي الصالح يا من صمت عنا أربعين يوما واربعين ليلة بسر لا ينطق به ، اقبل صومنا ودموعناوتوبتنا وانسحاق قلوبنا ومسكنتنا وسجودنا أمامك ، وأسمح لروحك القدوس أن يلف الكنيسة گلها بروح الجهاد القانوني والتوبة الصادقة وأعمال الرحمة الطاهرة الخالية من گل غش ورياء .

حبيبنا ومخلصنا عندما يتقدم أولادك للمائدة المقدسة على المذبح اسكب فيهم بروحك القدوس سر النصرة و الغلبة علىكل ما ليس من الأب لتكون ذبيحة حياتنا كلنا مقبولة ومرضية أمامك ، لك المجد والعز والسلطان في كنيستك آمين .

إذا كانت وصية الصوم من أقدم الوصايا التي أعطيت للإنسان في العهد القديم ، فان الصوم الكبير بالذات يعتبر موسم التوبة وانتعاش الحياة الروحية في الكنيسة كلها . وهذا الكتاب عالج موضوع الصوم في ثلاثة أبعاد في تركيز وبساطةما :

+ البعد التاريخي

+ البعد الروحي.

+ البعد الكنسي[١٣]

 

تعال الي اعماقنا .. احد الرفاع للمتنيح الانبا كيرلس مطران ميلانو

على عتبة ديار الرب رأيت ثلاثة واقفين … ملامحهم تحكي عنهم … مقرهم في الأعماق … أقوياء يعملون من أجل الأعماق …

يعملون من أجل سمو النفس ونموها … يكشفون عن جوهرهم للمخلصين لهم …

كثيرون يعرفون عنهم أسمائهم … ويوجد من يتمشى معهم لكن لحين …

يوجد من يعاشرهم ويلاصقهم ويعيش معهم كل أيام غربته على الأرض …

نفسي اشتاقت أن تقترب منهم … وأن تجلس معهم وتتحدث … وتسمع من أفواههم الكثير … وقفت متردداً … قلت : … كيف أتقدم ؟ … كيف أبدأ ؟ …

هم سبقوا ومدوا أياديهم إلي … وأجلسوني وتحدثوا معي …

كشفوا لي عن أسرارهم … هم الصوم والصلاة والصدقة … قالوا لي : …

نحن نجلس هنا على عتبة ديار الرب … لكي ندخل أولا إلى أعماق من يرغب من العابرين ونعبر به إلى بر الأمان …

قلت في نفسي … هؤلاء تكلم عنهم السيد المسيح المعلم الصالح … لكن لماذا يريدون أن يعملوا في أعماق العابرين أولا ؟ …

أخبروني قائلين : … نحن لا نريد أن تكون أصوامكم وصلواتكم ” وصدقاتكم سطحية في حياتكم … لأن مظاهر الصوم والصلاة والصدقة هي قشور على السطح ليس لها عمق وليس لها تأثير في النفس …

وقالوا لي : … إن كنتم أنتم أولاد الله فلا تكونوا سطحيين في أعماقنا ومتعمقين في السطحيات … دعونا ندخل بكم إلى الأعماق …

هنا تذكرت ما قاله السيد المسيح عنهم وما أوصانا به لكي نتعامل معهم في الأعماق وفي الخفاء …

قال لي الصوم : … اسمع ما تكلم به المعلم الصالح … “متى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء فأبوك الذي يري في الخفاء يجازيك علانية ” (مت ٦ : ۱۷ ، ۱۸) …

أليس هذا معناه أن علي أن أبدأ في الأعماق ومن أجل الأعماق ؟ … ولأجل هذا أنا واقف على عتبة ديار الرب …

أمسكتني الصلاة بيديها وقالت لي : … تعال نسمع ما أوصاك به السيد المسيح عني … ” متى صليت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك وصل إلى أبيك الذي في الخفاء فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية ” (مت ٦ : ٦) …

ومثلهم كلمتني الصدقة وقالت لي : … أنا مثل أخواي الصوم والصلاة … قال لكم السيد المسيح … ” متي صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية ” (مت ٦ : ٣ ، ٤) …

أدركت أهمية وقوفهم على عتبة الديار المؤدية إلى المداخل الروحية وعرفت أن الصوم هو غذاء والصلاة هي سلاح والصدقة هي ساتر لكل عابر …

عرفت منهم أن مكانهم في الأعماق … ويجب أن يمارسوا أمام فاحص الأعماق الذي يري في الخفاء لئلا يستوفى أجرهم على الأرض …

سألتهم : … وما هو الأجر الذي يمنحه الله للذين يصلون ويصومون من الالم ويعطون صدقة ؟ …

قالت لي الصلاة : … الأجر الذي يمنحه لك الله ذاك الذي يري في الخفاء يبدأ معك من هنا على الأرض … فهو يجعلك تتعمق في الصلاة … فتعرف أنت ؟ وأمام من تقف ؟ وكيف تقف ؟ وكيف ترسل إليه التمجيد اللائق ؟ … طلباتك تتغير وتصبح اشتياقات … اشتياقاتك تزداد … وحنينك يكون نحو الله وحده … ويتسع قلبك أمامه حاملاً محبيك ومبغضيك …

وكلمني الصوم عن الأجر الذي يمنحه الله للسالكين معه وقال : هو يعطيك وأنت على الأرض كيف تتحكم في جسدك … في مأكله ومشربه … في كلماته ونظراته … في أفكاره ومشاعره … في شهواته واشتيقاته … بالصوم أنت تمسكه وتعرف كيف تقوته ؟ وكيف تقوده ؟ …

أما الصدقة فقالت لي : … أكبر أجر أنت تقتنيه وأنت على الأرض من الله الذي يراك في الخفاء هو أن يطبع الله رحمته على قلبك فتشاركه في المراحم ولا تفارقك نعمة الإحساس بالآخر …

الصوم والصلاة والصدقة أنا أحببتهم وهم أحبوني … فتحوا أبوابهم الداخلية أمام عيني … ورأيت النعمة العظيمة التي ينالها كل من يحملهم في قلبه …

بهم لا يكنز الإنسان له كنزاً حيث يفسده سوس أو صدأ أو يسرقه سارق … وبهم يمسك الإنسان بيد الله ويتمسك بها فينتصر على تجارب الشيطان …

قلت لهم : … قلبي أحبكم … فمعاشرتكم كم هي شهية لكل نفس جائعة وعطشانة إلى البر … إلى المسيح فردوسها ….

غذني أيها الصوم لكي أشبع من حلاوة الله …

ارفعيني أيتها الصلاة واجذبيني بجملتي إلى خالقي ورازقي …

مدي يدك أيتها الصدقة واعطي لقلبي نعمة الإحساس بالغير …

اجعليني اسمع صوت الأخرس … واستجيب لدموع الأعمى.[١٤]

 

أحد الرفاع -المتنيح القمص بيشوي كامل

تسميته أحد الرفاع أو أحد الاستعداد:

القراءات التي قرئت علينا النهاردة تحت عنوان أحد الرفاع وهو أصبح اصطلاحاً.

إن أحد الرفاع يعني الناس بترفّع فيه فيسموه أحد الرفاع، وأعتقد أنه ماكانش في ذهن آبائنا القديسين أن يكون الموضوع موضوع رفاع قبل الصيام، أي أنهم يأكلوا أكلة جامدة قبل الصيام علشان ها يصوموا الصيام الكبير.

لكن هو أصلاً اسمه أسبوع الإستعداد، فالأسبوع ده اللي إحنا بنصومه قبل الصيام، يعني بنصوم أسبوع قبل الصيام اللي هو المفروض يكون أربعين يوماً، بنصوم أسبوع اسمه أسبوع الإستعداد، فلو تحضر الكنيسة في الأسبوع ده ها تجده كله بيتكلم عن الإستعداد للصوم، كل يوم ها تجد فيه موضوع واحد بيتكرر: التسامح، الغفران، المحبة. معني كل قراءات الأسبوع ده كلها بتدور كلها حوالين الناحية دي، أبانا الذي أغفر لنا كما نغفر للمذنبين إلينا ..

وده في ذهن الكنيسة الاستعداد للصيام يعني إن إحنا ما نقدرش نؤلف حاجة علي مزاجنا لكن إحنا بناخد من القراءات بتاعة الكنيسة ونشوف الآباء دول كانوا عايزين إيه؟.

أسبوع الاستعداد :

إن الأسبوع اللي حطوه لنا قبل الصيام .. كل الناس بتصوم أربعين يوماً، تيجي الكنيسة بتاعتنا بتزود أسبوعاً قبل الصيام الكبير. طيب هو الصيام بيستعدوا له بصيام؟ هو مش مسألة صيام، هو الصيام لابد إن الواحد يصومه صوم كويس مقبول وإن ما صاموش صوم مقبول، مالوش قيمة، ما يجبش نتيجة بتاعة صيام واحد ما مرَّنش قلبه، ما اتعلمش الغفران أو التسامح، فالصيام ده مش ها يجيب حاجة.

والكنيسة ابتدأت من الأول قالت مش بس إنجيل عشية، إنجيل باكر كمان احترزوا، وكلمة احترزوا لما يقولها المسيح دايماً فيها نوع من الإنذار، إن أخطأ إليك أخوك وتاب فاغفر له، كلمة احترزوا يعني خلوا بالكم، إن أخطأ إليك سبع مرات ورجع إليك سبع مرات فأغفر له، وبكرة الإنجيل ها يكون عن أبانا الذي مشهور فيها الحتة بتاعة اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا، فواضح يا إخوتي إن الاستعداد للصيام هو الغفران أو التسامح.

وما اعرفش كنت بأفكر الأسبوع ده مع واحد كده .. بأفكر إيه أكبر حاجة في المسيحية؟ إيه أكبر عمل يعمله الإنسان؟ فالحقيقة كده ربنا هدانا إن أكبر عمل يعمله الإنسان إنه يتسامح .. ووضعنا أمام أعيننا شخص ربنا يسوع المسيح، إنه سامح البشرية كلها، لأن البشرية كلها كانت مخطئة في حقه، قام ربناً لما سامح.. فالتسامح ده مش ببلاش، علشان الواحد يسامح يجي على نفسه قوي وبعدين إذا كانت الإهانة كبيرة يجي على نفسه كتير قوي قوي، جه علي نفسه لدرجة الموت، يعني تصور علشان الواحد يسامح الناس قدّم نفسه للموت، آه وده التسامح.

ثمن التسامح:

ما هو ها يسامح ببلاش ؟! التسامح له ثمن، لأن برضه واحد اتهان واتمست كرامته، فكونه يتسامح إزاي؟ ها يذبح نفسه .. بقي ها يدوس على نفسه .. يقول كدة معلمنا بولس الرسول في رسالته لكولوسي أنه هو دفع على الصليب الصك الذي كان علينا في الفرائض يعني اللي كان عليه الحساب اللي علينا في حق المسيح وسمّره على الصليب مسامحاً إيانا به فسامحنا بإيه؟ إحنا علينا صك (وصل أمانة) صك كل واحد فينا عليه صك مكتوب .. فجه المسيح قال ها سامح، ها تسامحه إزاي ها توديه فين الصك ده؟ ده صك مكتوب ما تقعش قيمته أبداً، قال أنا ها أطلع على الصليب وها سمرّه ولما ها سمرّه على الصليب يعني ما تفتكرش إنه اتلغى، لازم يتلغي بالدم، فأنا باسمرّه يعني باسمر إيديّ، ورجليّ، يعني بانزف دم علشان أمحي الصك اللي علينا.

التسامح يا أحبائي كلّف المسيح الدَّم، وعاوز كده في ذهننا بإستمرار لما نحط كلمة تسامح أو غفران نحط قصادها دم المسيح على طول.

دي مفاهيم لازم تكون في حياتنا كأولاد لله، كمسيحين، التسامح مش يعني كلمة بلدي كده في السوق فلان سامح فلان، وانتهينا، وقال له خلاص مافيش حاجة .. لا .. التسامح في مفهومنا يساوي دم المسيح، مافيش حد مننا يعرف يسامح، واللي يعرف يسامح بس هو المسيح، وإذا قال بإستمرار إن المسيح سامحك في الكثير، زي المَثَل اللي ضربه واحد عليه خمسين، وواحد عليه خمسمائة، لما سامح الراجل اللي عليه الخمسمائة يقوم يروح يمسك أخوه اللي عليه الخمسين ويقول له هات الخمسين، يقول له ما معاييش يروح يوديه السجن. لما عرف الراجل اللي سامحه بالخمسمائة، قال له تعال يا راجل يا شرير أنا سامحتك بخمسمائة وإنت مش عارف تسامحه بالخمسين؟ قال له معلهش ها سامحه قال له فات الأوان، قال له ادفع الخمسمائة، قال له أجيب منين؟، قال له تتسجن زي ما أنت عملت في أخوك، أنا سامحتك بخمسمائة.

فالتسامح في الواقع في المسيحية له معني تاني خالص غير مفهوم اتنين بيصطلحوا مع بعض في مشكلة، ولا بينهم حساب فلوس ولا بتاع وخلصوا .. لا ..

التسامح في المسيحية إن أنا أحس إنني اتسامحت يعني أنا أصلاً اتسامحت من المسيح، فعلشان اتسامحت من المسيح علشان كده باسامح، لكن إن ما كانش عندي استعداد إني أسامح إلا لأن أنا سايب في (المسيح) خمسماية فواحد عليه خمسين .. عليه عشرين .. عليه عشرة .. عليه خمسة .. حاجات زي دي طبعاً أقول لك: لا لاحسن صاحب الخمسمائة ياخدهم مني تاني ..

علشان كده التسامح في المسيحية مشروط: وأغفر لنا ذنوبنا .. كما إيه: إننا نغفر.

وكلنا نذكر القصة المشهورة بتاعة الأنبا أبرآم أسقف الفيوم، لما جاله اتنين متخانقين مع بعض .. وهم قاعدين قعد يوعظهم ويصالحهم يكلمهم من هنا ما يفهموش، ما صدقوش كلامه!.. قال لهم: طب ياللا نصلي، فوقفوا يصلوا قالوا نقول أبانا الذي وهو بيقول أبانا الذي قال: ولا تغفر لنا ذنوبنا كما لا نغفر نحن أيضاً !!.. قالوا له ما تقولش كدة .. لا لا ما تقولش كده .. قال لهم: يعني ما نقولش كده ها نضحك عليه؟ ما هو عارف إن إحنا ما غفرناش، فرجعوا وسامحوا بعض.

فالحتة اللي عاوز أسيبها في أعماق نفوسنا إن مش إحنا اللي سامحنا أولاً، لكن إحنا اتسامح في حقنا كتير جداً جداً جداً فوق الوصف علشان كده الواحد مش قادر يبص قدام ربِنَا ولا يقف قدّامه في الصلاة، إلا بما يسامح لأن هو ساب لنا كتير.

إنجيل العشية بيتكلم وبيعمل ربط عجيب جداً، وباكر بيتكلم عن الصلاة، وعن الغفران، وعن الإيمان، وبعدين تفكر إيه علاقة ده بعلاقة ده، الحقيقة علاقة الصلاة بالغفران واضحة لأن الصلاة أنا هاتكلم مع المسيح هاتكلم معاه إزاي؟ ما هو لازم أكون سامحت وسبت، إذا أنا ما سبتش ها أقول له اغفر لي إزاي؟ أو ها أطلب منه إزاي؟ يقول له مش ها أكلمك مش ها سيب لك، ولا مليم ها سيبوه لك، ولا ها سامحك في حاجة.

ففيه علاقة خطيرة جداً وعميقة وأساسية للغاية بين الصلاة وبين الغفران في المسيحية، كده ارتبطت الصلاة بالغفران، ولا تقبل الصلاة بدون غفران، يعني مشطوب عليها، وطبعاً أهم حاجة وآخر حاجة إيه، أنا عايز أقف قدام ربنا وأصلي يعني عايز يكون بيني وبين ربنا فيه عمار، وفيه صلاة، فما فيش غفران فما فيش صلاة فما فيش حاجة خالص، يعني مافيش شركة مع ربنا، مافيش علاقة، مافيش حاجة أبداً، فربط خطير وعجيب جداً، متي قمتم للصلاة فاغفروا لمن لكم عليه لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السموات، وبعدين ابتدأ يحطها في أسلوب إنذار مرة تانية، وإن لم تغفروا أنتم فأبوكم الذي في السموات لا يغفر لكم زلاتكم.

النقطة التانية: دي خلاص مش ها تروح من قلبنا إن المسيحية هي الغفران. وإن إحنا مغفور لنا كتير، ودي هاتشجع كل واحد فينا إنه يسيب بسهولة من غير محايلة، لأنه حاسس إنه انساب له كتير، مابقتش عملية صعبة، والمسيحي بيبقي قوي في حاجات كتيرة لأن فيه أسرار عنده، فيه حاجات في السر بتدفعه لتنفيذ الوصايا مايفهمهاش اللي برة، لأن اللي برة يقول له تسيب كذا، يقول طيب أسيب إزاي وأنا صاحب حق وأنا تعبت أكتر، إنما المسيحي يقول لك أيوة أسيب قوي لأنه عارف الحكاية دي، أصل أنا انساب لي قد إيه؟.

الصلاة:

وبعدين الصلاة هي كل شيء في المسيحية لدرجة إنه هو يقول صلوا كل حين صلوا ولا تملوا. وقعد يضرب أمثلة عن الصلاة، فيعني إحنا علي قد الحال وصلواتنا تعبانة وضعيفة، مش أقل من إن إحنا نكون واقفين قدام ربنا بإيدين نظيفة، أو بقلب نظيف يكون فيه غفران، أو فيه تسامح علشان علي الأقل الصلاة الضعيفة دي تنفع قدام ربنا، مادام مالناش الجهد الكبير، فمش أقل من أن تكون وقفتنا وقفة مقبولة على الأقل قدام الله.

الإيمان والغفران:

الموضوع الغريب جداً في الموضوع بتاع العشية النهاردة أو إنجيل باكر هو الربط بين الإيمان وبين الغفران، إيه علاقة الاتنين ببعض، قال أيوة الإيمان المسيحي مش إيمان كلام لأنه قال الشياطين يؤمنون ويقشعرون فده اسمه إيمان شياطين، الإيمان النهاردة اللي في العالم سماه يعقوب الرسول: إيمان شياطين، النهاردة فعلاً اللي في العالم أسمه إيمان شياطين، والشياطين كمان عندهم إيمان أحلي مننا لأنهم بيقشعرون، وتكلم واحد عن الإيمان يقول لك طبعاً مؤمن بربنا، بوجود ربنا، ومؤمن بالعقيدة بتاعتي، ومؤمن بكذا، ومؤمن بكذا .. لا .. فالمسيحي النهاردة بيحط قاعدة خطيرة جداً في المسيحية، إن المسيحية ليست إيمان شياطين، ولكن الإيمان في المسيحية إيمان عملي يعقوب الرسول يقول كده: “أرني بإيمانك بدون أعمالك وأنا أريك بأعمالي إيماني” من غير ما أقول لك أنا مؤمن، الأعمال تبين، طيب هو الإيمان المسيحي إيه ربط الإيمان بالغفران؟ طيب هو الإيمان المسيحي مبني على النقطة دي، إن المسيح مات على الصليب وغفر لينا خطايانا، آه صحيح، طيب ما إحنا ما عندناش إيمان غير كده، إحنا بنؤمن إن المسيح مات علي الصليب علشان يغفر الخطية بتاعتنا، يبقي الإيمان بتاعنا إيمان بالغفران. إذا كنت أنا ما أنفذش الغفران، فيبقي الإيمان بتاعي مشكوك فيه، عجيب جداً النهاردة لما يتكلم عن الإيمان اجعلوا لكم ايمان لله في قلوبكم لأنكم إن قلتم لهذا الجبل انطرح فينطرح في البحر ومايكونش عندك شك فينطرح، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا، ففيه ربط بين الإيمان والغفران واضح دلوقت.

معنى الإيمان:

نؤمن يعني أيه؟.. نؤمن بموت المسيح على الصليب ليه؟.. قال علشان يغفر .. يبقي إذاً مؤمن بالغفران يبقى الإيمان المسيحي علشان يتحط في القالب العملي بتاعه يبقى هو الغفران. إيمان بالدم، إن مهما كانت الخطية غير محدودة ماليهاش نهاية، تتغفر، إيمان في دم المسيح، إيمان إن دم يسوع يطهر من كل خطية، إيمان إن ربنا يسامحنا علي خطايانا، إيمان برجوع الابن الضال لأبيه، وأبوه يحتضنه، إيمان كله مبني على الغفران، فالممارسة العملية لإختبار دم المسيح في حياة المؤمن المسيحي هو اختباره في غفرانه للأخرين أيضاً.

إذا هو أحس بالغفران تبقي حياته هو أنه حاسس دايماً إن المسيح بيغفر .. يبقي هو ده الإيمان، يبقي إذا كان موضوع العشية النهاردة عن الإيمان، يبقي تقصد بالإيمان بدم المسيح اللي يطهر من الخطية.

نقطة أساسية: يبقى إحنا دلوقت عرفنا نقطة أساسية جداً جداً علشان نسمي الأسبوع بتاعنا ده أسبوع الإستعداد، المسألة مش مسألة إن أنا ابتديت صيام استعداد بالأسبوع ده.

الأبوة:

من النقط المهمة خالص خالص كمان تبقى واضحة أكثر بكرة هو يقول كده النهاردة: إن لم تغفروا أنتم فأبوكم الذي في السموات أيضاً لا يغفر لكم زلاتكم، وابتدأ يعطي معنى جديد خالص عن الله إن هو أب “أبوكم”.

فالإستعداد للصيام هو في الواقع دخول في مفهوم البنوّة إن أنا مش بتعامل مع إله مجهول، إنما مع أب سماوي، والأب ده بيحمل كل مشاعر الأبوة الكاملة، فها تسمع بكرة وهو بيقول أبانا الذي، وهاتسمع بكرة وهو بيقول: “أدخل إلى مخدعك” ويقول لك: “صلِ لأبيك الذي في الخفاء”، ودي اصطلاحات ماكانتش في المفهوم اليهودي أبداً، كلمة أبوة دي، دي جديدة خالص، ولغاية النهاردة الناس مش عايزين يقبلوها، حتي أن الله أب، وأن التعامل معاه على مستوى الأبوة، يعني أنا مش باتعامل مع إله قاسي ولا ظالم، ولا بتعامل معاملة انسان أجير، باشتغل عند واحد علشان يجي في آخرالوقت يعمل له ميزان ويحاكمه، ويدخله الجنة، ويقول أنت عملت حاجات كويسة خد كل بقى واشرب وانبسط أجرتك آخر النهار، ده شغل أجراء .. لا إحنا بنتعامل على مستوى بنوة ولنا أب كبير، فتبص تلاقي ملامح الأبوة دي عمال الصيام يتكّ عليها.

إن جيت مثلاً في الأحد الثالث باتكلم لك عن الابن الضال والأب اللي يفتح احضانه علشان يقبل ابنه، ونبص نلاقي المَثَل كله على الأبوة، والحنان بتاعه، والحضن بتاعه، والقبلات بتاعة الأب، وبعدين كل المفاهيم .. صوم، وصلاة، وصدقة، للتعامل مع الأب، “أبوكم الذي في السموات”. ماتعملش حاجة علشان خاطر الناس لكن تعمل كل حاجة علشان خاطر أبوك اللي في السماء. ويبتدي المسيحي كده اللي تمتع بالغفران والإيمان اللذيذ كده يدخل في حضن ربنا كده، ويحس إن له أب حنين فاتح اذرعته له بيقبلّه وبيتكلم معاه شبعان من الحنان. مش انسان كده عايش في الدنيا مش عارف يشبع من ايه؟ ما هو مافيش حاجة تشبع الانسان، لا مال، ولا متعة، ولا لذة، ولا أكل، ولا شرب، وكله يأخذ الواحد ويعطش ويتعب لكن دَخَّلُه لحضن الآب السَّماويّ، ودَخَّلُه في المخدع تبص تلاقي الإنسان يشبع شبعة كبيرة من ربنا.

الحقيقة دي الأسبوع ده عايز الواحد يأخذ باله فيه قوي، لأن في الواقع إذا كان الواحد يعمل رحلة، هايسافر مشوار بعيد، شوف قد ايه يقعد يوضب، ويوضب شنطة، يوضب حاله، ويوضب أوراقه، يقول لك ده أنا مسافر رحلة كبيرة، ولازم أجهز كل حاجة أحتاج لها في الرحلة، وإلا يبقي نوع يعني من الاستهتار، أروح في وسط الطريق وأنسي الأوراق المهمة بتاعتي أرجع علشان آخذها، ولا أروح في السكة والفلوس اللي معايا ما تكونش تكفي لبقية الرحلة، المسيح قال كده يبقى انسان غبي بنى الأساس وماعرفش يكمل بقية البرج، أو بقية العمارة، فابتدأ الناس يضحكون عليه، وقالوا هذا الإنسان ابتدأ يبني ولم يقدر أن يكمل.

أهمية أسبوع الاستعداد:

أسبوع الاستعداد أهميته إن الواحد بيحضّر فيه الزاد بتاعه اللي يكفيه في الرحلة. فرحلة الصيام الطويل ده إذا كان الصيام مش مصحوب بإيمان ها يتعب الواحد لأنه جوع، وحرمان وتعب، ولكن إذا كان انسان مؤمن بالصوم وبالصلاة يخزي الشيطان وينجينا من التجارب ويرفع مستوانا الروحي في حضن الآب ويمتع الكنيسة ككل بالسلام ويبعد ويسحق الشيطان تحت رجلينا، زي ما ها نشوف في التجربة على الجبل، إذا كان الانسان عنده ايمان بالمفاهيم دي وأسابيع الصيام الكبير كده قدام ذهنه من أول التجربة ورجوع الابن الضال والسامرية، والمخلع اللي بقي له ٣٨ سنة، والراجل اللي فتح له المسيح عينيه “الأعمى” وبعدين دخول المسيح كملك علشان يملك على القلوب، ويعرف أن دي رحلة بتبتدي بالاستعداد ده وبتنتهي وإحنا عمالين نقول أوصانا لملك اسرائيل، مالناش ملك على قلوبنا غير المسيح.

دي نهاية المشوار بتاعنا، مشوارنا ها ينتهي بالصليب، لما نسمع كده الرب قد ملك فين؟ ملك على خشبة، وهم بيهتفوا له وهو راكب على حمار، لكن حقيقة هو كان داخل يملك على خشبة “الرب قد ملك على خشبة فلتتهلل الشعوب”.

ففرحتنا يا أحبائي أننا نوصل لنهاية المشوار، فأسبوعنا ده أسبوع مهم ومهم جداً لأن بنحضّر فيه الزاد بتاعنا وبنعمل فيه حساب النفقة. إذا مشيت المشوار ده بدون إيمان ها تتعب في السكة، إذا مشيت بدون غفران ها تتعب، إذا مشيت بدون إحساس أن أنت ابن الله وعايش في أبوته ها تتعب في الطريق.

الهنا الصَّالح يبارك الأسبوع ده ويدينا استحقاق نعمة وبركة هذا الصوم المقدس.

ولإلهنا المجد دائماً أبدياً آمين.

 

 

 

عظة للمتنيح القمص بولس باسيلي

شركة .. وبركة ..!!

عظة على ضوء القراءات الكنسية

البولس :(۲کو ۱١: ١٦ – ٢٨)

الكاثوليكون : (۲بط۱:۱- ۱۱)

الابركسيس : (أع ٢١: ١٥-٢٦)

الانجيل :(مت ٦: ۱- ۱۸)

القسم الأول – شركة !!

(۱) شركة عميقة بعيداً عن العالم : « متى صليت فادخل إلى مخدعك»، «ابعدوا إلى العمق وألقوا شباككم للصيد ».

(۲) شركة سرية : « اغلق بابك وصل إلى أبيك الذي يرى في الخفاء ».

(3) شركة تحتمل كل شيء : ( أنظر البولس ) « في الأتعاب اكثر ، في الضربات أوفر ، في السجون اكثر ، في الميتات مراراً كثيرة ، من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة ، ثلاث مرات ضربت بالعصی ، مرة رجمت ثلاث مرات انكسرت بي السفينة ليلا ونهاراً قضيت في العمق ، بأسفار مراراً كثيرة، بأخطار سيول ، بأخطار لصوص ، بأخطار من جنسی ، باخطار من الأمم …إلخ»  (۲كو ۱۱: ٢٤) .

(٤) شركة غير متزعزعة : « اجتهدوا ان تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين بالأعمال الصالحة » (۲ بط۱:۱- ۱۱) ( أنظر الکاثولیکون ) .

القسم الثاني – بركة !!

(1) بركة مدعمة بالصراحة والوضوح : « لأنهم يغيرون وجوههم» .

(۲) بركة مدعمة بالفرح والسرور : « لا تكونوا عابسين » ، « افرحوا في الرب كل حين ».

(3) بركة مطهرة : « أن يحافظو على أنفسهم » ( انظر الابركسيس ) .

في عظة أحد الرفاع للصوم الكبير

(متی ٦ : ١ -۱۸)

+ ابانا الذي في السموات :

لم يقل « أبي الذي في السموات » ليعلم كل مؤمن أن الله أب له

ولإخوته من البشر ، فيحب إخوته ، ويخاطب الله أبانا ليذکر

مسئوليته نحو « ابناء الله » الآخرين ! وفي هذا يعبر يوحنا

عن إعجابه وتعجبه من علاقة الله الآب بنا فيقول « انظروا أية محبة

أعطانا الآب حتى ندعی اولاد الله » هل تذكر يا أخي إخوتك

الفقراء والبؤساء .. وهل تعلم انهم – معك – أبناء الله ؟!

+ ومضمون الصلاة الربانية قسمان : قسم يختص بأمجاد الله وهو

ثلاث طلبات : « ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك ،

وقسم آخر يختص بحاجات البشر وهو أربع طلبات : « خبزنا

کفافنا اعطنا اليوم ، اغفر لنا ذنوبنا ، لا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا

من الشرير » .

+ خبزنا کفافنا :

وهي طلبة – إن فسرت على أنها تختص بالطعام الجسدى – فهي

تضع هذه المطالب في حدود الكفاف فتقول « خبزنا كفافنا »، وهذا

فضيلة على حد تعبير بولس الرسول « إن كان لنا قوت وكسوة

فلنكتف بهما » ، ولكنها على الأرجح تختص بالطعام الباقى الذى

للحياة الأبدية ، فالترجمة الحرفية لها « خبزنا الذي للدهر

الآتي » أي خبز الحياة الأبدية .. وهذا ما قال به كثير من آباء

الكنيسة ، وإن كان التفسير الأول ليس خطأ على حد تعبير بعض

الآباء أيضاً .

  • متى صليتم :

+ قال القديس أوغسطينوس « الصلاة هي حديثنا لله ، لما نقرأ الكتاب المقدس يكلمنا الله ، ولما نصلى نكلم نحن الله ».

+ وقال القديس أمبروسيوس « الصلاة هي الجناح الذي تطير به النفس إلى السماء ، والتأمل هو العين التي ننظر بها الله » .

+ وقال کريستماس ايفانس « الصلاة حبل جرس في قبة الكنيسة تجذبه فيدق الجرس في السماء ».

+ وقالت مريم ملكة اسكتلندا «إني أخاف صلوات جون فوكس أكثر مما أخاف من جيش فيه عشرة آلاف مقاتل ».

+ وقال أحد القديسين « الركب الساجدة أقوى من الجيوش الزاحفة » .

+ وقالت السيدة ولز « الصلاة هي العجز يطرح نفسه على القدرة ، والضعف يستند على ذراع القوة ، والنجاسة تحتضن النقاوة ،

والكراهية ترغب في المحبة والفناء يشتاق إلا الخلود ، و الترابي يطلب أن يكون سماوياً ، الصلاة هی هروب النفس إلى أحضان الله ، هي الحمامة التي إذ لا تجد مقراً لرجلها تعود إلى راحتها ، هي النسر يطير في الأعالى حتى يختفي في الأثير اللانهائي عن عيون المطاردين ، هي السائح يرقب من بعد وطنه حيث أهله وكنوزه .

هي الأسير يطلب الحرية ، هي البحّار في البحر المضطرب ينشد السكون والنجاة ، هي النفس تدوس عليها الآلام فتهرب إلى جو أرحب وأنقی ».

+ وقال المرحوم حبیب جرجس « الصلاة في الصباح هي مفتاح القلب لكي يقوم بالخدمة الإلهية ، والصلاة في المساء هي قفل حديدي يحفظ القلب من التلاقي بالخطية »

تعبد  .. وتوحد

قلبيّ الخناق أضحی مضجعك        في حنايا الصدر أخفي موضعك

قد تركت الكون في ضوضائه        واعتزلت الكلی کی أحيا معك

ليس لي فكر ولا رای ولا             شهوة أخرى سوى أن أتبعك

وأبي يعقوب أدرى سره               قد عرفت الآن كيف صارعك

قد تركت الكل ربي ما عداك         ليس لي في غربة العمر سواك

و منعت الفكر عن تجواله             حيثما أنت فافکاری هناك

قد نسيت الكل في حبك يا              متعة القلب فلا تنس فتاك

ما بعيد انت عن روحى التي        في سكون الصمت تستوحی نداك

عرشك الأقدس قلب قد خلا         من هوى الكل فلا يحوي سواك

هي ذي العين وقد أغمضتها       عن رؤى الأشياء على أن أراك

المراؤون :

من أعجب ما سجلت كتب اليهود عن عقائد الفريسين والصدوقيين المرائين تلك الأمثلة الصارخة التي تحايل بها هؤلاء على شريعتهم ليبرروا مواقفهم المذرية ، ومن هذه الأمثلة على سبيل المثال لا الحصر ما يأتی :

إن أشرف ثور على الموت فلليهودى أن يذبحه في يوم مقدس (السبت مثلا الذي تحرم فيه أية أعمال ) على شرط أن يأكل قطعة

من لحمه بقدر حجم الزيتونة ليبرر انه ذبحه لأكلة ضرورية !!

وإن أراد يهودى أن يشترى ما يباع بالوزن أو الكيل في يوم مقدس فله أن يفعل ذلك على شرط أن يدفع الثمن في اليوم التالي و على أن لا ينطق باسم ما يشتري أو وزنه او کيله !!

وإن أراد يهودى أن يشتري في يوم مقدس ماشية أو طيوراً أو ما شابه ذلك فله أن يفعل على شرط ألا ينطق بثمن أو عدد المطلوب وأن يدفع الثمن في اليوم الثاني !!

  • واكثر من ذلك ما نقرأه في التلود ومضمونه « أن خطية الزنا مباحة ما دامت تجترم في الخفاء التام » !!

ومثل ذلك قاعدة حاخامية أخرى ظاهرة الشناعة ، فضلا عن أنها قناع لا يستر ما خفي وهي « لا يجب أن يتزوج رجل امرأة وله نية طلاقها ، ولكن إن أخبرها قبل الزواج أنه إنما يتزوجها لفترة محدودة فعمله شرعی قانونی ».

كل هذا وأكثر منه تسجله كتبهم وتلمودهم وهي أقدس كتبهم بعد التوراة !!.[١٥]

 

 

المدلولات الروحية واللاهوتية لما جاء في انجيل القداس للمتنيح الدكتور موريس تواضروس

عدد1: ليس لكم أجر عند  (Para)أبيكم :

يلاحظ هنا ان الحرف  Para(عند)          في وضعه اللغوي (حيث يجئ بعده الاسم – أبيكم – في حالة القابل) لا يشير إلي الله كمصدر أو أصل للمفاجاة, أي لا يقصد هنا أن يتحدث عن الله كمصدر للمكافأة بل يعني الحرف   Para(مع) فالمعني الصحيح للنص هو لن يحفظ لكم الأجر ولن ينتظركم إلي جانب أبيكم أو مع أبيكم.

عدد2: تصوت قدامك بالبوق (Salpisys) :

لا يبدو أن هذا كان يحدث بصورة علنية فيصوت المتصدق بالبوق أمامه حتي يمجده الناس, لكن يبدو أن هذه الصورة مستوحاة من صورة الأبواق التي كانت عند خزينة المعبد, حيث كان يوجد ثلاثة عشر صندوقاً في لجمع المال, علي شكل أبواق أنظر (لو21: 2) – (مر١٢: ٤١) .

استوفوا (Apechousin) أجرهم :

يلاحظ هنا أن الحرف apo في بداية الكلام يعني: في صورة كاملة أي أنهم أخذوا (بالكامل) أجرهم, ولم يعد لهم بعد شئ من الأجر لكي ينتظروه. لقد أخذوا كل ما يستحقون.

عدد٧: يكررون الكلام باطلاً ((Battalogysyte :

يعني الفعل: يتمتم. يفأفئ – ثم صار يعني: يثرثر. يتكلم باسراف. يعيد نفس الكلام مرات كثيرة, كما كان الحال بالنسبة لعبدة البعل (١مل ١٨: ٢٦) وأرطاميس الأفسسيين (أع١٩ : ٣٤).

عدد١١: كفافنا (eplousion) خبزنا كفافنا :

هذه الكلمة تترجم بصور مختلفة في الصلاة الربانية فالبعض يصلي: خبزنا كفافنا, والبعض الآخر يُصلي: خبزنا الجوهري, وهناك من يصلي: خبزنا الآتي. فما سر هذا التنوع؟

إن كلمة (eplousion)صفة لكلمة (الخبز) arton وهذه الصفة وردت في العهد الجديد مرتين فقط في (مت٦: ١١) – (لو١١: ٣) ويمكن أن ترد هذه الصفة إلي الأصول التالية:

1- epiousia (epi + ousia) = الجوهري.

وإذا أخذنا بهذا الأعتبار, كان علينا أن نصلي: خبزنا الجوهري.

2-مشتقة من الفعل ep-ienai بمعني: التالي – القادم – الآتي.

وإذا أخذنا بهذا الأعتبار, كان علينا أن نصلي خبزنا الآتي .

3-مشتقة من الفعل ep-einai = الكافي لليوم الحاضر, أي يكفي من يوم لآخر. والصلاة تتجه هنا إلي الخبز الذي يكفي ليوم ويوصل إلي اليوم الذي يليه.

وإذا أخذنا بهذا الأعتبار, فإننا نصلي: خبزنا كفافنا.

وهذا المفهوم الأخير, يعني أن السيد المسيح, يدعو أن نصلي كل يوم من أجل ما يكفي حاجتنا اليومية. وهذا يتفق مع ما يوصي به السيد المسيح في الأعداد التالية من حديثه, حيث يقول: [فلا تهتموا للغد] (مت6 : 34).

وعند القديس متي, يلاحظ أن كلمة (eplousion) مرتبطة بكلمة (اليوم) في عبارة واحدة, أي أن الصلاة تتجه هنا إلي خبز اليوم, أو الخبز الذي يكفي ليوم.

ويتضح هذا بالأكثر من النص الذي أورده القديس لوقا, حيث يقول: [خبزنا كفافنا, أعطنا كل يوم] (لو١١ : ٣).

ويتفق هذا المعني مع ما ورد في سفر الخروج, عن الخبز الذي أعطاه الله من السماء [فيخرج الشعب ويلتقطون حاجة اليوم بيومها] (خر١٦ : ٤).

عدد12: ذنوبنا (Ophellymata)            وأغفر لنا ذنوبنا :

تعني الكلمة: ديوننا. فالخطية تصور هنا كدين, والخاطئ (Opheilw) كمدين, كما يبدو من أستعمال الفعل في (مت١٨: ٢٨-٣٠) .

وعلي ذلك فالكلمة تمثل الخطيئة من ناحية كعمل خاطئ, ومن ناحية أخري كأمر يتطلب إيفاء ما علينا.

نغفر (aphykamen) [كما نغفر نحن أيضاً] :

حرفياً تعني: نُبعد. نصرف النظر عن. نعفو. ويلاحظ أن الفعل هنا ورد في الزمن الماضي, أي أن الترجمة الدقيقة هي: كما غفرنا نحن.

في الصلاة الربانية إذن يفترض, أنه قبل أن نطلب من الله أن يغفر لنا ذنوبنا, يجب أن نكون نحن قد غفرنا لمن أساء إلينا, أي أن المصلي قبل أن يطلب من الله أن يترك ما عليه من دين, يجب أن يكون هو قد ترك للآخرين ما عليهم من دين. وهذا ما أراد السيد المسيح أن يوضحه في مثل الملك وعبيده فقد سامح الملك عبده الذي كان مديوناً له بعشرة ألاف وزنة, غير أن ذلك العبد كان له واحد من العبيد رفقائه مديوناً له بمائة دينار ولكنه لم يسامحه, بل ألقاه في السجن حتي يوفي الدين [ فلما رأي العبيد رفقاؤه ما كان حزنوا جداً, وأتوا وقصوا علي سيدهم كل ما جري. فدعاه حينئذ سيده وقال له: أيها العبد الشرير, كل ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت لي, أفما كان ينبغي أنك أيضاً ترحم العبد رفيقك كما رحمتك, وغضب سيده وسلمه إلي المعذبين حتي يوفي كل ما كان عليه. فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته] (مت١٨: ٢٣ -٣٥)..

عدد13: تجربة ((Peirasmon

لا تدخلنا في تجربة :

من الخطأ أن نحدد هذه الكلمة علي أنها تعني فقط الاغواء للشر. انها تعني التجربة من أي نوع, دون الاشارة إلي كيفيتها الأخلاقية. وهكذا نقرأفي (تك٢٢ : ١), أن الله أمتحن ابراهيم. وفي (يو٦ : ٦) [قال يسوع لفيلبس من أين نبتاع خبزاً ليأكل كل هؤلاء, وإنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل]. وفي (أع١٦: ٧), فإن بولس وتيموثيوس جربا أن يذهبا إلي بيثينية فلم يدعهما الروح. وفي (٢كو ١٣: ٥), يقول الرسول بولس [جربوا أنفسكم هل أنتم في الايمان]. وهنا علي العموم, فإن هذه المناسبات والمواقف المختلفة يمكن أن تهئ فرصة للخطيئة.

عندما نصلي إلي الله فإننا لا نستطيع أن ندعوه أن لا يجربنا بالشر [لأن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحداً, ولكن كل واحد يجرب إذا انجذب وأنخدع من شهوته] (يع١: ١٣ – ١٤)..

عدد14: الزلات (Paraptwmata)

[إن غفرتم للناس زلاتهم] .

يستعمل السيد المسيح هنا كلمة أخري عن الخطية. وهناك كلمات أخري أيضاً تدل علي الخطية, فهناك مثلاً كلمة ((amartia التي يستعملها القديس لوقا في الصلاة الربية, وفي نفس الوقت يتحدث عن الخطية كدين (لو١٣: ٤) علي نحو ما فعل القديس متي. وليس هناك من صعوبة في افتراض أن السيد المسيح وهو يتكلم عن الخطايا بوجه عام, فإنه يستعمل اصطلاحات مختلفة تعبر عن الصور المختلفة للعمل الخاطئ أنظر (مت١: ٢١) حيث قيل [يخلص شعبه من خطاياهم].

وأما الكلمة التي نحن بصددها (Paraptwmata) فهي تشتق من الفعل ((Parapiptw وتعني: يسقط- يرتد عن- يزل (أخلاقياً), يلقي بنفسه جانباً. وعلي ذلك, فهي تحمل معني مرتبطاً بالخطيئة من حيث أنها تدل علي الخروج عن الهدف أو عدم اصابة المرضي. وفي الاستعمال الكلاسيكي, يستعمل الفعل غالباً ليشير إلي السقوط المتعمد, كما هو في حالة أن يلقي الانسان بنفسه علي الأعداء, وهذا هو المعني السائد في لغة الكتاب, حيث يشار إلي الخطيئة كعمل عنيد متصلب ومتعمد, وطائش متهور.

وإليك بعض الأمثلة الكتابية عن هذا المفهوم للخطيئة:

[وخانوا إله ابراهيم وزنوا وراء آلهة شعوب الأرض الذين طردهم الرب من أمامهم]         (١أي ٥: ٢٥).

[فمات شاول بخيانته التي بها خان الرب من أجل كلام الرب الذي لم يحفظه, وأيضاً لأجل طلبه إلي الجان للسؤال. ولم يسأل من الرب, فأماته وحول المملكة إلي داود بن يسي] (١أي ١٠: ١٣ -١٤).

[و لما تشدد ارتفع قلبه إلى الهلاك و خان الرب الهه و دخل هيكل الرب ليوقد على مذبح البخور. و دخل وراءه عزريا الكاهن و معه ثمانون من كهنة الرب بني البأس. و قاوموا عزيا الملك و قالوا له ليس لك يا عزيا ان توقد للرب بل للكهنة بني هرون المقدسين للايقاد اخرج من المقدس لانك خنت و ليس لك من كرامة من عند الرب الاله. فحنق عزيا و كان في يده مجمرة للايقاد و عند حنقه على الكهنة خرج برص في جبهته أمام الكهنة في بيت الرب بجانب مذبح البخور. فالتفت نحوه عزرياهو الكاهن الراس و كل الكهنة و إذا هو ابرص في جبهته فطردوه من هناك حتى انه هو نفسه بادر إلى الخروج لان الرب ضربه] {2 أي26: 16-20}.

أنظر أيضاً: (أخبار الأيام الثاني ٢٩: ٦) – (حزقيال١٤ :١٣, ١٨:  ٢٦).

وعلي ذلك, فالخطية لا تتضمن عذراً أو مبرراً. انها انتهاك أو تدنيس أو أعتداء واعٍ متعمد علي الحق. انها تتضمن اذن الاثم أو الشعور بالاثم, ولذلك فإنها تذكر في العهد الجديد مرتبطة بالحاجة إلي الغفران والعفو, كما يبدو من الآيات التالية :

[الذي أُسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا] (رو٤: ٢٥).

[وليس كما بواحد قد أخطأ هكذا العطية لأن الحكم من واحد للدينونة وأما الهبة فمن جري خطايا كثيرة للتبرير] (رو٥: ١٦) .

[ونحن أموات بالخطايا أحياناً مع المسيح. بالنعمة أنتم مخلصون] (أف٢:  ٥).

[وإذا كنتم أمواتاً في الخطايا… أحياكم معه مسامحاً لكم بجميع الخطايا] (كو٢ : ١٣) وتختلف كلمة ((Paraptwma التي نحن بصدد شرحها عن كلمة ((Parabasis التي تعني المخالفة الموضوعية والتجاوز والانتهاك للناموس, بينما أن كلمة ((Paraptwma تتضمن معني الخطيئة من حيث تأثيرها علي الفاعل, ولذلك فهي تذكر مرتبطة بالعبارات التي تشير إلي نتائج الخطية وإلي العلاج منها, كما يبدو من الآيات التالية :

[ولكن لَيس كَالخطِية هكَذا أَيضًا الهبةُ. لأَنه إن كَان بخطية وَاحدٍ مات الكَثيرون، فبالأَولَى كَثيرًا نعمة الله، والعطِية بالنعمة الَتي بالإنسان الواحد يسوعَ المسيح، قد ازدادت للكَثيرين] (رو٥: ١٥) أنظر أيضاً (رو٥: ١٧).

عدد16: ومتي صمتم (Nysteuyte) :

يُستعمل هذا الفعل في زمن المضارع, أي أن السيد المسيح يتحدث عن الصوم كعمل يمارس في الوقت الحاضر ويتقدم ويتصاعد مع الزمن, فكأنه يقول: عندما تصومون الآن أو فيما بعد.

عابسين (Skuthrwpei)                              [ ومتي صمتم فلا تكونوا عابسين ]

أي ذات ملامح حزينة كئيبة تعبر عن الألم أو الأستياء أو عدم السرور. ولم تستعمل هذه الكلمة في العهد الجديد إلا مرتين: في هذا الموضع: وكذلك في الانجيل للقديس لوقا حيث صار حديث عن تلميذي عمواس, وقد كانا يسيران ويتطارحان الكلام وهما عابسين بسبب الأحداث التي تمت مع يسوع الناصري [كيف أسلمه رؤساء الكهنة لقضاء الموت وصلبوه…] (لو٢٤ : ١٣-٢١). وفي الاستعمال الكلاسيكي كانت تعني: متجهم الوجه- نكد..

يغيرون ((Aphanizousin وجوههم :

إن الفكرة الأساسية هنا, يحجب أو يخفي الوجه أكثر من أن يغيره. ويبدو هذا من المقابلة في نفس الآية بين هذه الكلمة, والكلمة المضادة لها وهي: يظهروا (Phanwsin) أي أن المعني في هذه الآية أنهم يخفون وجههم الحقيقي لكي يظهروا بوجه مقنع مزيف بقصد خداع الناس. لقد قصد السيد المسيح بكلامه أن يشير إلي المظاهر التي ترتبط عادة بالصوم مثل عدم غسل الوجه وعدم دهن الرأس. ولذلك كانت وصية السيد المسيح للصائمين [أدهن رأسك وأغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء, وأبوك الذي يري في الخفاء يجازيك علانية] (مت٦: ١٧-١٨).[١٦]

 

من وحي قــراءات اليــوم

الأبـــوة

  • عندما يشرق نـورنا (فـرحنا وقبـولنا للآخريـن) على الأشـرار والصالحين نعلـن نـور شمس أبـوته الإلهيـة.
  • الأبـوة تسعي وتصلي لأجل الكل وتتمنى خلاص الجميع.
  • الأبـوة ليست كما هـو الحال في ملاطفـة الأطفال بل سهر ودموع وبذل وأنيـن لأجل خلاص البعيديـن والقريبين.
  • سلطان الأبــوة هــو الحب.
  • السيادة لا تأمن إلّا لطاعة العبيد والأبــوة لا تخشى أن تجازف بولادة قـادة.
  • أبونا ما أجملها كلمة تسعدني وما أرهبها رسالة تحذرني.
  • الأب لا يكون قفصا مقفـولاً لطيوره بل نافــذة إنطلاقهم.
  • القبول غير المشروط للآخريـن زينة أبـوتنـا.
  • التعلق النفسي ليس فقط مشكلة من يتبع بل أحيانا تكون مشكلة من يقـود.
  • الخفاء يعني أن أجمل ما فينا لا يعـرفه الناس.

 

 

 

المراجع

 

[١]– مجـلـة مـرقـــس –  ينـايـر 1994

[٢] Simonetti, M. & Oden, T.C. ( 2001 ). Matthew 1- 13 ( The Ancient Christian Commentary on Scripture, New testament part Ia ). Illinois ( U.S.A ) : InterVarsity press. Pages 123,126,131 ترجمة الأخت : إيفيت منير – كنيسة مار مرقص ببني سويف.

[٣] – ترجمة الأستاذ إدوارد ميخائيل – كنيسة العذراء مريم – رونوك – فيرجينيا – أمريكا

[٤]– كتاب عظات القديس مقاريوس الكبير – العظة السادسة صفحة ٤٥ طبعة 1991-  ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[٥]كتاب: أغسطينوس في شرح الموعظة علي الجبل صفحة ٢٠٣ – تقديم المتنيح القمص بيشوي كامل – إصدار كنيسة مار جرجس إسبورتنج.

[٦]– كتاب: من كتابات القديس يوحنا الذهبي الفم صفحة ٣٦٥ – ترجمة القمص تادرس يعقوب ملطي.

[٧] كتاب الصلاة للعلامة أوريجانوس صفحة ٥٧ –  تعريب القس موسي وهبة – كنيسة مار مرقس بشبرا.

[٨] كتاب تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الأسكندري – صفحة ٣٦٤ – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[٩] كتاب الصلاة الربانية للقديس أغسطينوس ( صفحة ٧ – ٣٩ ) – القمص تادرس يعقوب ملطي

[١٠]كتاب كلمة منفعة – البابا شنودة الثالث.

[١١]– كتاب المنجلية القبطية الارثوذكسية – البابا تواضروس الثاني.

[1٢]– كتاب عظات مضيئة معاشة صفحة ٥٢ – إصدار مطرانية ملوي وأنصنا وأشمونين.

[١٣] – كتاب الأصوام والأعياد صفحة ٩٩ – إصدار إيبارشية أنصنا وملوي والأشمونين

[١٤] كتاب شفتاك يا عروس تقطران شهدا الجزء الخامس ، صفحة ٧٣ – ٧٥ – دير الانبا شنودة رئيس المتوحدين العامر بميلانو.

[١٥] كتاب المواعظ النموذجية ( المجلد الخامس صفحة ٥٩ ) – القمص بولس باسيلي

[١٦] كتاب المدلولات اللاهوتية والروحية في الكتاب المقدس بحسب إنجيل متي ( صفحة ٥١ ) – الدكتور موريس تواضروس