اليوم الأوّل من بشنس

(تذكار ميلاد والدة الإله)

بنات كثيرات عملن فضلا، أما أنت ففقت عليهن جميعا

(أم ٣١: ٢٩)

” طوباك أنتِ يا مريم ، الحكيمة العفيفة ، القبّة الثانية ، الكنز الروحي

اليمامة النقية التي نادت في أرضنا، وأينعت لنا ، ثمرة الروح ”

ذكصولوجية لوالدة الإله – رفع بخور باكر

” لم تكن الشمس المنظورة هي التي جعلت لنا هذا اليوم مقدَّساً ، ولكن خالق الشمس غير المنظور ، حين أخرجت مريم الأم العذراء ، أخرجت من رحمها المثمر وجسدها البتولي ، أخرجت لنا الخالق فصار منظوراً لنا. هو نفسه غير المنظور، الله، الذي خلق العذراء ، عذراء في حَبَلها وعذراء في ولادتها ، عذراء ولها طفل ، أم وعذراء ، عذراء إلي الأبد

لماذا تتعجبون من ذلك؟ إختار الله أن يولد بهذه الطريقة حين دبَّر أن يصير إنساناً، هكذا فإنه قد ولِد مِن التي خلقها بيديه[1]

شواهد القراءات

(مز ٨٦: ٢ ، ٥ ، ٧) ، (لو ١٠ : ٣٨ – ٤٢) ، (مز ٤٧ : ٦ ، ١)، (مت ١٢ : ٣٥ – ٥٠) ، (عب ٩ : ١ – ١٢) ، (٢يو ١ : ١ – ١٣) ، (أع ١ : ١ – ١٤) ، (مز ٤٤: ١٤ ، ١٥) ، (لو ١ : ٣٩ – ٥٦)

ملاحظات على قراءات يوم ١ بشنس

+ قراءة الكاثوليكون اليوم (٢يو ١: ١ – ١٣) هي نفس قراءة الكاثوليكون للأحد الثاني من شهر أمشير

قراءة اليوم تُشير إلي حقيقة تجسُّد الكلمة (حقيقة الجسد الذي أخذه من والدة الإله)

أمَّا مجيئها في الأحد الثاني من أمشير فهو إشارة إلي الكنيسة (في لقب السيَّدة المُختارة وأيضاً في السلوك في استقامة الحق ونقاوة المحبَّة )

وقد أشار إلي ذلك أحد الآباء القديسين:

[2]” واضح أن السيدة المختارة هي الكنيسة قد بُعثت إليها الرسالة. إنها مختارة في الإيمان ومعلمة لكل الفضائل. ”

+ قراءة الإبركسيس اليوم (أع ١: ١ – ١٤) تكررت يوم ٢٢ بابه ، وأيضاً في قراءات الأحد الأوَّل من شهر كيهك

وهي افتتاحية سفر الأعمال وهي التي يبدأ فيها القديس لوقا كلامه مع ثاوفيلس لذلك جاءت في تذكار لوقا الإنجيلي (٢٢ بابه) كما تُشير القراءة أيضاً في نهايتها باجتماع الآباء الرسل الدائم للصلاة بنفس واحدة مع والدة الإله انتظارا لحلول الروح المُعزِّي لذلك جاءت أيضاً في تذكار ميلاد والدة الإله ( ١ بشنس )

بينما مجيئها في الأحد الأوَّل من شهر كيهك إشارة إلي كنيسة العهد الجديد التي تأسَّست بتجسُّد الكلمة

+ إنجيل قدّاس اليوم (لو ١: ٣٩ – ٥٦) هو نفس إنجيل قدّاس الأحد الثالث من شهر كيهك

 

القراءات المُحوَّلة علي قراءة هذا اليوم

٣ كيهك دخولها إلي الهيكل بأورشليم وهي إبنة ثلاث سنين

٢١ طوبة نياحتها

٢١ بؤونه تذكار بناء أول كنيسة لها في فيلبي

١٦ مسري تذكار صعود جسدها إلي السماء

شرح القراءات

اليوم هو تذكار ميلاد والدة الإله (وإن كان عيد ميلاد العذراء حسب دلال ابو مقار وبعض الصعيدين عاشر توت                         كما جاء بسنكسار ١٠ توت – كنوز النعمة جزء ثاني ص ٢٩ )

وهو المُحوَّل عليه كل أعياد أمّنا العذراء القديسة مريم

قراءات اليوم لا تخص فقط والدة الإله، بل تخص أيضاً تجسّده منها كما يشترط الطقس الكنسي في أيقونات أمنا العذراء القديسة مريم دائما ومعها الرب يسوع طفلا علي يديها لأننا لا نستطيع أن ندرك سر التجسّد دون الحديث عن والدة الإله كما أننا لانعرف ولا ندرك عظم قدرها إِلَّا في قبولها هذا السر العجيب لخلاص البشرية لذلك الدفاع عن مكانة والدة الإله في الكنيسة يخص أيضاً سر التجسد

تبدأ المزامير بالكلام عن العذراء مدينة الله كما يقول القديس غريغوريوس صانع العجائب [3]

والسماء الثانية التي أسّسها الله بتجسده إلي الأبد                              (مزمور عشيّة )

وأعلن فيها عظمته                                                                         ( مزمور باكر )

فظهرت فضائلها الكثيرة التي تزينت بها                                            ( مزمور القداس )

في مزمور عشيّة العذراء مدينة الله التي قدَّمت أعظم عمل مجيد في تاريخ البشرية وهو قبول سر التجسد فصارت سبب فرح لكل البشر

( أعمال مجيدة قد قيلت لأجلك يا مدينة الله وهو العلي الذي أسسها إلي الأبد لأن سكني الفريحين جميعهم فيك )

وفِي مزمور باكر ظهر لنا عظمة تجسّده ومجد تسبيحه لما أخذ جسداً من والدة الإله

( كمثل ما سمعنا كذلك رأينا في مدينة رب القوات في مدينة إلهنا عظيم هو الرب ومسبّح جداً في مدينة إلهنا علي جبله المقدس )

وفِي مزمور القدّاس نري مجدها داخلي وفضائلها التي تزيّنت بها كثيرة

( وله تسجد بنات صور بالهدايا ويتلقون وجهه أغنياء شعب الأرض كلّ مجد إبنة الملك من داخل مشتملة متزينة بأشكال كثيرة )

وتتكلّم القراءات عن سرّ التجسّد وعن والدة الإله

في الكلام عن سرّ تجسّده من أمنا العذراء نري حقيقة التجسّد كرئيس كهنة صنع فداء للبشرية               ( البولس )

وخطورة المُضلِّين الذين يُنكرون تجسّده                                                                               ( الكاثوليكون )

وحقيقة صعوده بالجسد للسماء بعد ظهوره لهم أربعين يوماً                                                     ( الإبركسيس )

في البولس نري حقيقة تجسّده في الفداء الذي صنعه بدمه الطاهر بدخوله إلي الأقداس مرّه واحده

( وأما المسيح فهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد أي الذي ليس من هذه الخليقة وليس بدم تيوس وعجول بل بدمه بنفسه دخل الأقداس مرةً واحدةً فوجد فداء أبدياً )

وفِي الكاثوليكون التحذير ممن يُنكرون سرّ التجسّد وحقيقة جسد الكلمة الذي أخذه من أمنا العذراء القديسة مريم

( لأنه قد جاء إلي العالم مضلون كثيرون الذين لا يعترفون أن يسوع المسيح قد جاء في الجسد هذا هو المُضِلُّ والضد للمسيح )

وفِي الإبركسيس عن حقيقة صعوده بالجسد إلي السماء بحضور الآباء الرسل وإعلان الملاك لهم

( الكلام الأول انشأته يا ثاوفيلس عن جميع ما إبتدأ يسوع يفعله ويعلِّم به إلي اليوم الذي فيه صعد إلي السماء بعد ما أوصي بالروح القدس الرسل الذين اختارهم الذين ظهر لهم حياً بعد ما تألم بآيات كثيرة وهو يظهر لهم أربعين يوما … ولما قال هذا إرتفع وهم ينظرون واخذته سحابة عن أعينهم وفيما هم يشخصون وهو صاعد إلي السماء إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس أبيض )

 

وفِي القراءات أيضاً نري والدة الإله في رموزها في العهد القديم                                    ( البولس )

وبناتها في العهد الجديد                                                                                    ( الكاثوليكون )

ومكانتها في الكنيسة المقدسة                                                                        ( الإبركسيس )

 

في إنجيل عشيّة نري مريم التي جلست عند قدمي السيد واختارت النصيب الصالح وإن كانت امنا العذراء هي التي اختارها النصيب الصالح وأخذ منها جسده المُقدَّس

( وفيما هم سائرون دخل قرية فقبلته إمرأة إسمها مرثا في بيتها وكانت لهذه أخت تدعي مريم وهي التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه … فأجاب يسوع وقال لها مرثا مرثا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلي واحد وأما مريم فإختارت لها النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها إلي الأبد )

وفِي إنجيل باكر هو كنزها الصالح وسرّ تطويبها في حفظها كلمته كما في حلوله في أحشائها ( الرجل الصالح من كنزه الصالح يُخرج الصلاح … فقال له واحد من التلاميذ هوذا أمك واخوتك واقفون خارجاً يطلبون أن يتكلموا معك أما هو فأجاب وقال للقائل له من هي أمي ومن هم اخوتي ثم مدَّ يده نحو تلاميذه وقال ها أُمِّي واخوتي لأن كلَّ من يصنع إرادة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمِّي )

وفِي إنجيل القداس عن شهادة إليصابات بالروح عن من هي العذراء مريم وتسبحة والدة الإله وتمجيدها القدّوس الذي صنع بها عظائم وجعلها موضع تطويب الأجيال

( وحدث لما سمعت اليصابات سلام مريم تحرَّك الجنين في بطنها وامتلأت اليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك فمن أين لي هذا أن تأتي اليَّ أم ُّ ربي … فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس )

ملخّص القراءات

والدةالإله هي مدينة الله التي أظهر فيها عظائمه فظهرت فيها فضائلها الكثيرة                             مزمور عشيّة وباكر والقدّاس

حقيقة تجسّده من والدة الاله نراها في تدبيره الالهي في القديم وفِي صعوده بالجسد من السماء لذلك يجب الحذر من البدع التي تنكر التجسّد                                                                                       البولس والإبركسيس والكاثوليكون

ونري والدة الإله في رموزها في العهد القديم وبناتها في العهد الجديد ومكانتها في الكنيسة المُقدَّسة                                                                                                                                                البولس والكاثوليكون والإبركسيس

وصارت والدة الإله القدوة والمثال لكل نفس تختار النصيب الصالح وتقتني الكنز الصالح لذلك استحقت تطويب الأجيال لها   إنجيل عشيّة وباكر والقدّاس                                                                                المزامير + البولس

أفكار مقترحة للعظات

(١) رموز والدة الإله

١-مدينة الله – مدينة رب القوات- مدينة إلهنا

” أعمال مجيدة قد قيلت لأجلك يا مدينة الله ”                                                   مزمور عشيّة

” كمثل ما سمعنا كذلك رأينا في مدينة ربِّ القوات في مدينة إلهنا ”                          مزمور باكر

تُلقِّب القراءات والدة الإله مدينة إلهنا لأن الملك سكن فيها وجاء إلي الأرض من خلالها لذلك تُسبِّح الكنيسة في ثيئوطوكية الأربعاء في القطعة الثانية والسادسة بالحديث عن والدة الإله مدينة الله (تكلموا بكرامات من أجلك يا مدينة الله … هذه هي أورشليم مدينة إلهنا وفرح جميع القديسين كائن فيها )

٢- قسط الذهب

يرمز قسط الذهب لوالدة الإله لأنه يحوي المن داخله كما كانت والدة الإله تحمل المن الحقيقي وخبز الحياة داخلها

٣- قُدس الأقداس

يرمز قُدس الأقداس لوالدة الإله لأنه كان أكثر مكان يُعْلِن عن حضور الله وأنه مكان سكني الإله

٤- شورية ومجمرة ذهب

لم تحترق المجمرة بوضع النار فيها هكذا إحتوت والدة الإله جمر اللاهوت داخلها دون أن تحترق

٥- المنارة الذهبية

كما كانت المنارة تحمل النور هكذا حملت والدة الإله النور الحقيقي نور العالم وشمس البر

٦- تابوت العهد

هذا التابوت كان مصنوع من خشب لا يسوس ومصفَّح بالذهب من كل ناحية إشارة للاهوت الرب والخشب إلي جسده الذي أخذه من والدة الإله

٧- عصا هرون

إشارة إلي والدة الإله لأنه لم يكن طبيعياً أن تُفْرِخ العصا وهكذا سر التجسّد لم يكن حسب ما هو طبيعي عند البشر بل هو سر التدبير الإلهي أن يأخذ الله جسداً دون زرع بشر

(٢) أحباء العذراء

١-مرثا ومريم

” مرثا مرثا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلي واحد وأما مريم فاختارت لها النصيب الصالح الذي لن ينزع منها إلي الأبد ”                                                                                  إنجيل عشيّة

مُدِحَتْ مريم لأجل جلوسها عند قدميه واشتياقها لكلامه، ولكن تعب مرثا أعطي الفرصة لمريم لجلوسها عند قدمي السيد

وإن كانت مريم قد إختارت النصيب الصالح أمَّا والدة الإله قد إختارها النصيب الصالح الذي هو الكلمة المُتَجسِّد

٢- من يصنعون إرادة الله

” لأن كل من يصنع إرادة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي ”                       إنجيل باكر

٣- السيدة المختارة

” من الشيخ إلي السيدة المختارة وإلي أولادها الذين أنا أحبهم بالحق ”                          الكاثوليكون

صارت كل خادمة في الكنيسة تُربِّي أولادها علي محبة الحق والالتصاق به صارت ابنة لوالدة الإله

٤- النساء

” هؤلاء كلهم كانوا يواظبون بنفس واحدة علي الصلاة مع نساء ومريم أم يسوع ”                الإبركسيس

من يعيشون حياة الصلاة يصيرون دائماً في صحبة والدة الإله وهي دائماً معهم

٥- النساء الفضليات ( أليصابات )

” وإمتلأت إليصابات من الروح القدس ”                                                                 إنجيل القدَّاس

تقوي أليصابات وحياتها المملوءة من مخافة الله والخالية من اللوم أهَّلتها للامتلاء من الروح القدس وأن تكون أُمَّا للسابق الصابغ الذي يُهيِّئ الطريق أمام الكلمة المُتجسِّد

(٣) والدة الإله شفيعة كل إنسان

١-شفيعة الفقراء

عاشت أمنا العذراء حياة بسيطة سواء في بيت أبيها ، أو في الهيكل كنذيرة الهيكل ، أو في بيت يوسف النجار ، أو في ولادة إبنها الوحيد في مزود للحيوانات ، ولازمها الفقر المادي كل أيامها علي الأرض حتي أن اليهود كانوا يعيرون المسيح ببساطة معيشة أسرته (مر ٦ : ٣)

٢- شفيعة اليتامي

عاشت أمنا العذراء وهي طفلة يتيمة ، لذلك تشاور شيوخ الهيكل لأجل أن تكون في رعاية رجل ، لأنه لا يجوز أن تكون في الهيكل بعد سن إثنتي عشر سنة ، لذلك كان شعارها ” إن أبي وأمي قد تركاني والرب يضمني ” (مز ٢٧ : ١٠)

٣- شفيعة المكرسين

لا يوجد شفيع لمن كرَّسوا حياتهم للرب بكل القلب مثل أمنا العذراء والدة الإله ، ومن يهذون في وصايا الرب بلا توقف رأوا والدة الإله النموذج الذي يتبعونه دائماً (لو ٢ : ١٩) ، لذلك كان مدحها ليست فقط لولادتها المسيح بالجسد بل أيضاً لحفظها إرادة الله في كل وقت (مت ١٢ : ٥٠)

٤- شفيعة المظلومين

عاشت أمنا العذراء إحساس الظلم عندما تفكَّر يوسف النجار في تخليتها سرّاً عندما رآها حامل (مت ١ : ١٩) ، والعجيب أنها لم تدافع عن نفسها ، وكان في إمكانها أن تشرح ليوسف النجار بشارة رئيس الملائكة لها وظهوره لزكريا الكاهن وأيضاً ما حدث لإليصابات عنذ ذهابها إليها ، فكان صمتها رسالة ورجاء لكل مظلوم يتمسَّك بمراحم الله وخلاصه في الوقت المناسب

٥- شفيعة خُدَّام المسنين والمعاقين وذوي الإحتياجات

زيارة والدة الإله لإليصابات لخدمتها (لو ١: ٣٩) ليس أيَّاماً علي سبيل المجاملة بل ثلاثة أشهر حتي جاء وقت ولادتها صارت مصدر بركة وفرح لكل إنسان يخدم المعوزين والمتضايقين والذين ليس لهم أحد يذكرهم

٦- شفيعة اللاجئين

عاشت أمنا العذراء حالة لجوء لبلد أخري (ثلاث سنوات واحدي عشر شهراً ) مع يوسف النجار وإبنها مخلِّص العالم (مت ٢ : ١٤) ، في وقت لم يكن هناك حقوق ولا تسهيلات للاجئين بل تعب ومشقَّة وتنقُّلات مفاجئة بسبب أخطار تلاحقهم ، وكان لجوء العائلة المقدسة لمصر سبب بركة كبيرة لبلدنا وشعبنا إلي الآن

٧- شفيعة الأسرة وتربية الأولاد

قدَّمت والدة الإله في زيارتها لأورشليم عندما كان الرب يسوع في عامه الإثني عشر نموذجاً للأسرة في الحفظ علي العادات المقدسة بالذهاب للهيكل ، وكان حوارها مع إبنها ذا الإثني عشر عاماً إلهاماً لكل أب وأم في تعاملهم مع أبناءهم خاصّة في مرحلة المراهقة ، وأهمية الحوار الهادئ وتَفَهُّم الوالدين لاحتياجات الأولاد

٨- شفيعة الأزمات

وجودها في عُرْس قانا الجليل كان يكفي لأن تنتهي أزمة نفاد الخمر وينتهي الحرج الكبير لأهل العروسين بطلبتها لإبنها الحبيب لإنقاذ الناس من الأزمة المفاجئة (يو ٢: ٣)

٩- شفيعة المُتألِّمين لفراق أحبَّاؤهم

إجتازت أمنا العذراء والدة الإله ألماً يفوق احتمال البشر ، وكيف صبرت علي رؤية ابنها الوحيد في العذاب والألم أمام عينيها ، وأيضاً كانت واقفة عند الصليب (يو ١٩ : ٢٥) ، وما أصدق وما أروع الكلمات التي نُصلِّيها في الأجبية لتُعبِّر عن ألمها الداخلي ( أمَّا العالم فيفرح لقبوله الخلاص وأمَّا أحشائي فتلتهب عند نظري إلي صبوتك الذي أنت صابر عليه من أجل الكل يا إبني وإلهي )

لذلك صارت أمنا العذراء والدة الإله ” معونة لمن يريد ”

(٤ ) تسبحة العذراء

سمات تسبحة والدة الإله                              ( الشماس بشارة بولس – كنز التفسير ص ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ )

١- كمال معرفتها بالأسفار المُقدَّسة                            ( كما كلم آباءنا لإبراهيم ونسله إلى الأبد )

٢- عِظَمْ تواضعها                                                                ( لأنه نظر إلى اتضاع أمته )

٣- شعورها بواجب تقديم الشكر                           ( تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي )

٤- إختبارها قدرة الله العجيبة  ( لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس .. صنع قوة بذراعه. شتت المستكبرين بفكر قلوبهم )

٥- شدة تمسكها بمواعيد الله  ( ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه .. عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة  )

عظات آبائية

القديس اثناسيوس الرسولي

زيارة اليصابات

مريم تسلم على اليصابات :

“أم السيد تسلّم على أم الخادم.

“أم الملك تسلم على أم العبد.

“أم الاله تسلم على أم الانسان.

العذراء تعطى التحية للعجوز المتزوجة.

من الخارج أعطت العذراء التحية لأليصابات ، وحين سلم الاثنان على بعضهما بطريقة منظورة فان الروح القدس ، الذى سكن فى أحشاء مريم حرّك ذاك الذى فى بطن اليصابات ، مثل صديق يشجع صديقه “اسرع ، استيقظ !”.

لذلك سجد الذى فى بطن اليصابات وسمع المسيح يتحدث اليه قائلاً : اذهب أعد الطريق أمامى لكى ما أتمم تدبيرى الذى لى.

حين سلمت العذراء على اليصابات (سلم المسيح أيضاً على يوحنا فى بطن أمه) كما قيل فى الانجيل ” فلما سمعت اليصابات سلام مريم ارتكض الجنين فى بطنها” (لو ١: ٤١).

تعالى الآن أيها الوحش أريوس (وكل من لا يؤمن بألوهية المسيح) ، ألا تسمع أن ذاك الذى فى أحشاء العذراء يسلم على مَن فى أحشاء اليصابات بينما يعلن هو (ابن العاقر) للعالم كله : هاهوذا ابن الله فى أحشاء العذراء كيف ذلك ؟

حين سمع يوحنا صوت سيده حيّاه بفم أمه وامتلأ فرحاً وبهجة ليخرج سريعاً من أحشاء أمه قبل خروج سيده !

لم يستطيع أن يكتم فرحه فصرخ على فم أمه مخاطباً العذراء :

مباركة أنت فى النساء ومباركة هى ثمرة بطنك من أين لى هذا أن تأتى الىّ أم ربى ؟ (لو ١: ٤٢-٤٣) يا أحبائى لا تظنوا أن يوحنا كان هو الوسيلة ولكن اليصابات هى الوسيلة التى تكلم يوحنا بفمها ، وهكذا حيا مخلصنا يوحنا بفم أمه بالتحيّة التى خاطبت بها العذراء اليصابات”.

“أيتها العذراء العالية أنت بالحقيقة أعظم من كل عظمة أخرى”.

من يساويك فى العظمة أنت مسكن الله الكلمة ؟

بمن أقارنك فى كل المخلوقات أيتها العذراء ؟ أنت أعظم من الجميع .

يا تابوت العهد ، مكسوة بالنقاوة بدلاً من الذهب.

أنت هى التابوت الذى وُجِد فيه القسط المحتوى على المن الحقيقى الذى هو الجسد المتحد باللاهوت.

هل أشبهك بالأرض الخصبة المثمرة ؟ انك فقتيها جداً لأنه مكتوب “الأرض موطىء قدمى” (أش ٦٦: ١).

لقد حملت داخلك كل جسد الله بكماله.

اذا قلت ان السماء ممجدة فهى لا تساويك لأنه مكتوب ” السموات هى عرشى ”  (أش ٦٦: ١) بينما أنت مكان راحته !

اذا قلت ان الملائكة ورؤساء الملائكة عظماء ، فأنك أعظم منهم جميعاً لأن الملائكة ورؤساء الملائكة يخدمون الذى سكن فى أحشائك وهم مرتعدون !

لا يجرأون على التكلم فى حضرته وأنت تناجينه بحرية ، اذا قلنا ان الشاروبيم عظماء فأنت أعظم منهم جميعاً ، لأنهم يحملون عرش الله (مز ٨٠: ١) و(مز ٩٩: ١) بينما أنت تضمينه بيديك فى حضنك ، اذا قلنا ان السيرافيم عظماء فأنت أعظم منهم جميعاً ، لأن السيرافيم تغطى وجوهها بأجنحتها (إش٦: ٢) ولا تستطيع أن تنظر الى مجده الكامل ولكنك ليس فقط تتفرسين فيه بل تطعمينه وتعطيه ثدييك فى فمه القدوس.

ان حواء قد صارت أما للأموات ” لأنه فى آدم يموت الجميع” (١كو ١٥: ٢٢)

لقد أخذت حواء من ثمر الشجرة وأعطت رجلها فأكل معها ، أكلوا من الشجرة التى قال الله لهما عنها ” يوم تأكلان منها موتاً تموتا ” (تك٢: ١٧) لقد أخذت حواء من ثمرتها وأكلت منها وأعطت لرجلها ليأكل فأكل ومات .

وفيك أيتها الحكيمة سكن ابن الله ذاك الذى هو شجرة الحياة. لقد أعطانا جسده بالحقيقة فأكلنا منه ووَهَبتِ الحياة للكل جاء الكلُ الى الحياة بنعمة الله، ابنك الحبيب ، لأجل ذلك تتهلّل روحك بالله مخلصك[4] “.

القديس كيرلس الأسكندري

لماذا ندعوها والدة الإله في فكر القديس كيرلس الكبير:

بدون الإتحاد يصبح لدينا إثنين أحدهما هو الكلمة، والثاني هو يسوع+

+ الا نقول نحن أن أي إنسان منا هو واحد وله طبيعة إنسانية واحدة، رغم أن طبيعته ليست بسيطة ،

وإنما مركبة من إثنين أي النفس والجسد، وهل يمكننا أن نفصل الجسد عن النفس المتحدة به ، ونقسم الشخص الواحد إلي إثنين ، ألا يلغي ذلك وحدة الإنسان

+ الذين يبدلون الحق الواحد لا يعلمون أنه بالحقيقة طبيعة واحدة متجسده للكلمة ، ان الكائن الأزلي الحق المولود من الآب قبل كل الدهور هو الابن الوحيد ، وعندما إتخذ جسداً بنفس عاقلة وولد إنساناً من إمرأة ، ظل الواحد بعينه الذي لا يمكن تقسيمه إلي أقنومين وأبنيين ، بل هو بعينه إتخذ جسداً له وإتحد به بدون إفتراق بالمرة ، وكل من يعترف بهذا بكل يقين ، لا يتضمن إعترافه أي إشارة إلي الإمتزاج أو الإختلاط

+ نحن لا نقول أن طبيعة الكلمة قد تغيرت حينما صار جسداً . وأيضاً نحن لا نقول أن الكلمة قد تغير إلي إنسان كامل من نفس وجسد . بل بالأحري نقول أن الكلمة قد وُحد مع نفسه أقنومياً ، جسداً محيياً بنفس عاقلة ، وصار إنساناً بطريقة لا يمكن التعبير عنها أو إدراكها

+ تقديس الإنسان في المسيح هو أساساً إشتراك في الطبيعة الإلهية . هذا التحول والتقديس يحدث في الإنسان بقوة الروح القدس نفسه الذي يصور المسيح فينا ويجددنا لله

+ لكي لا يعود إلي العدم ما جاء من العدم ، أي إلي أصله الذي أخذ منه ، بل أن يظل باقياً دائماً ، جعله الله شريكاً في طبيعته

+ عندما يُقال أنه وُلِدَ من إمرأة ، فبالضرورة أيضاً يُشار إلي أنه وُلِدَ حسب الجسد ، لكي لا يُعتبر كأنه إتخذ من العذراء بداية لوجوده ، ورغم أنه كائن قبل الدهور ، وهو الله الكلمة المساوي في الأزلية لأبيه الذاتي والقائم فيه ، إلّا أنه حينما أراد أن يأخذ “صورة عبد ” (في ٢ : ٧) بمسرة أبيه الصالح ، عندئذ يُقال أنه خضع للولادة من امرأة بحسب الجسد مثلنا

+ لأن كلمة الله هو بالطبيعة حياة ، فقد جعل ما هو بالطبيعة فاسد ، جسداً له لكي يحوله إلي عدم فساد بإبطال قوة الموت فيه . وكما أن الحديد إذا وضع في نار متأججة يفقد برودته ويأخذ شكل النار وحرارتها ، بل يُصبح بدوره حاراً وحارقاً ويشعل النار في أي شئ يمسه ، هكذا الجسد أخذ في طبيعته عدم الفساد والحياة العجيبة لكلمة الله ولم يعد كما كان من قبل . وإنما صار أسمي من الفساد

+ بدون مجئ المسيح يكون من غير الممكن أن يخلص الإنسان وأن يتحرر من الخطية والموت

+ إن إسم والدة الإله وحده يحوي كل سر التدبير الإلهي للخلاص

+ إن كتب الآباء القديسين يمكن أن نجد فيها ، ليس مرَّة واحدة بل كثيراً جداً ، التعبير المألوف الذي كانوا يعترفون به وهو أن القديسة العذراء مريم هي والدة الإله

+ ندعوها والدة المسيح ووالدة الإله معاً . لأنها لم تلد مجرَّد إنسان بسيط مثلنا ، بل بالحري الكلمة الذي من الله الآب ، الذي تجسَّد وتأنس لأننا نحن أيضاً ندعي آلهة بحسب النعمة ، أما الابن فليس إلهاً علي هذا النحو ، بل بالحري هو إله بالطبيعة والحق ، حتي وإن كان قد صار جسداً . [5]

مار أفرآم السرياني

والدة الإله في فكر القديس مار أفرآم السرياني

” انت وحدك يا يسوع مع أمك أجمل من أي شيء آخر

لأنك فيك لا توجد خطية ولا أي دنس في أمك “.

” العين تصير نقية حين تتحد بنور الشمس وتأخذ قوة من قوة ضيائها ، ووضوحاً من بهائها تصير مشرقة من لهيب نورها وتتزين بجمالها ، مريم فيها مثل ما في العين لقد سكن فيها الروح وقدس روحها، نقي أفكارها وقدس عقلها وحول بتوليتها وجلاَّها ” .

“مباركة أنت يا بيت لحم

التي تحسدها القرى والمدن المحصنة أن مريم تشبهك ، تحسدها النساء والعذاري بنات الأقوياء.

مباركة الإبنةالتى وجدها مستحقة أن يحل فيها والمدينة التى وجدها جديرة أن يسكن فيها ” .

” لقد انفجر رحم الجحيم حين دخل اليه

كيف احتمله رحم مريم ؟!

بصوته شق الصخور التى على القبور كيف احتمله حضن مريم ؟!

لقد صرت في اوضاع لكي تخلص الكل ، المجد لك من كل مَنْ خلصتهم من يستطيع أن يتكلم عن الإبن الخفي الذي نزل ولبس جسداً من الرحم ؟ ”

” الرحم والجحيم يصرخان بالفرح ويصوتان بقيامتك ، الرحم الذي كان مختوماً حبل بك ، والجحيم الذي كان محروساً أخرجك ، على خلاف الطبيعة حبل الرحم وخضع الجحيم

كان القبر مختوماً بثقة ليحفظ الإنسان الميت وكان الرحم عذراوياً لم يعرفه إنسان ، الرحم البتولى والقبر المختوم مثل أبواق عالية تصرخ في آذان الناس الذين لم يسمعوا “.

” لأن الأشياء الصعبة ليست صعبة عندك ولكن سهلة ، لذلك فإن البطن قد حبل بك بلا زواج ، وبلا زرع بشر ولدك الرحم .

هكذا فإنه يصير سهلاً علي الفم أن يكون مثمراً ويزيد من تمجدك ومجدك العظيم ” .

➕ حواء ومريم :

” ها هو العالم ! أعطي له عينان

حواء هي العين اليسرى ، والعين الضريرة ، ولكن العين اليمني ، العين المنيرة هي مريم .

بسبب العين التي أظلمت ، صار كل العالم مظلماً وسقط الناس في الظلام وظن الناس أن كل حجر عثروا به أنه إله ودعوا الكذب حقيقة، ولكن حين بدأ العالم يشع مرة أخري بالعين الأخري وسكن نور السماء في هذه العين ، اكتشف الناس الوحدانية وأدركوا أن ما وجدوه قبلاً هو هلاك حياتهم ” .

” مريم ولدت بدون زرع بشر مثل البدء هكذا حدث مع يوسف ومريم زوجته .

حواء أحضرت للعالم قايين القاتل ، ومريم أحضرت معطي الحياة .

الواحدة أحضرت للعالم من سفك دم أخيه (تك ١: ١- ١٦)، والأخري أحضرت من سفك دمه لأجل أخوته .

الواحدة أحضرت للعالم من هرب وارتعد من أجل لعنة الأرض والأخرى أحضرت الذي أخذ اللعنة في نفسه وسمرها علي الصليب .

مريم تخاطب يسوع قائلة :

” لأنني أنا أختك من بيت داوود الأب الثاني وأنا أيضاً أم بسبب حبلك

أنا عروس بسبب طهارتك ، وخادمة وابنة بالدم والماء أنا الذي فديتني وعمدتني” .

➕الأم العجيبة ..:

” يا ربنا ، ليس أحد يعرف ، كيف يخاطب أمك

إذا ما دعاها أحد عذراء ، يجد ابنها أمامه . وإذا دعاها متزوجة ، (يجد أنها ) لم يعرفها أحد

إذا كانت أمك غير مفهومة ، فمن يستطيع أن يدركك أنت ؟ مبارك أنت، رب الكل ، الذي كل شيء سهل عندك،

لأنها هي أمك وهي وحدها أختك مع الكل كانت لك أماً، وكانت لك أختاً ، وأيضاً هي عروسك مع البنات العفيفات ، ها قد زينتها في كل شيء.     يا لجمال أمك [6]..

القديس كيرلس الأورشليمى

والدة الإله عند القديس القديس كيرلس الأورشليمى

أخذ جسدا من العذراء :

“آمنوا أن ابن الله الوحيد نزل من السماء إلى الأرض لأجل خطايانا ، آخذا نفس بشريتنا ، خاضعة للتجارب مثلنا ، لقد ولد من العذراء القديسة ومن الروح القدس “.

“لقد صار إنساناً ليس فقط في الشكل أو بطريقة خيالية وإنما بطريقة حقيقية ، إنه لم يمر من العذراء كأنه من قناة ، ولكنه أخذ جسدا حقيقيًا منها ، ورضع من لبنها ، أكل حقا وشرب حقا مثلنا تماما . لأنه لو كان التجسد مجرد ظهور ، لكان فداؤنا هكذا أيضا ( أي مجرد تخيل أو ظهور ) .

في المسيح يوجد جانبان : إنسان مرئيا فيه ، وهو الله الذي بقى غير منظور.

لقد أكل فعلا مثلما نفعل نحن ، لأنه كانت له إحتياجات جسدية مثلنا ، ولكنه كإله أطعم الخمسة آلاف بخمسة أرغفة ، مات حقا كإنسان ، ولكنه كإله أقام الميت من الموت بعد أربعة أيام ، كإنسان نام في السفينة ، ولكنه كإله مشي على الماء”.

هكذا كان سر تجسد الكلمة ، هو المحتوى الذي يقدم فيه القديس كيرلس تعليمه عن العذراء :

“نحن نقبل أن كلمة الله صار بالحقيقة إنسانا ليس بمشيئة رجل وامرأة ، ولكن حسب ما يقول الإنجيل إنه صار إنسانا من العذراء والروح القدس ، وإن ذلك لم يحدث بمجرد المظهر الخارجي ولكن بالحق والحقيقة . لقد صار إنساناً من العذراء بالروح القدس “.

*مريم وحواء :

“لقد صار الموت بعذراء ، هي حواء ، وكان من الضروری أن الحياة تصير أيضا بعذراء ، لذلك مثلما خدعت الحية العذراء الأولى جاء غبريال بالبشارة المفرحة للعذراء الأخيرة”.

*والدة الإله :

“يا أصدقائي الأعزاء ، عندنا شهادات كثيرة حقيقية عن المسيح . الآب السماوي يشهد للإبن ، الروح القدس يشهد ناز لاً مثل حمامة ، رئيس الملائكة غبريال يشهد ، حاملا البشارة المفرحة إلى مريم العذراء والدة الإله تشهد له ، المكان المقدس الذي للمذود يشهد له ”

*حياة نقية مثل العذراء :

“ليتنا جميعا بنعمة الله ، نتسابق على العفة ، الشباب والشابات ، الشيوخ والأطفال ، دون أن تترك أنفسنا للشهوة ، ولكن نمجد اسم المسيح.

ليتنا لا نهمل مجد العفة ، التي هي تاج الملائكة ، وحياة فائقة للبشرية .

دعونا نكرم أجسادنا ونحترمها والتي ينبغي أن تشع مثل الشمس .

ليتنا لا نلوث الجسد ، الذي هو عظيم وجميل جداً ، باللذات الوقتية والسريعة .

الخطية سريعة وتنتهي سريعاً ، ولكن عار الخطية يبقى وقت طويل ، إلى الأبد .

أولئك الذين يعيشون في العفة هم ملائكة ساكنين على الأرض.

البتوليون لهم نصيبهم مع العذراء مريم .

دعونا نتخلص من كل فكر الزينة ، كل نظرة خاطئة ، كل حركة شهوانية ، كل رائحة تقود إلى اللذة الشهوانية .

لكن بدلا من ذلك لتكن لكل إنسان رائحة الصلاة الجميلة العطرة ، رائحة الأعمال الصالحة ، رائحة الطهارة الجسدية حتى ما يقول لنا ابن البتول ، للرجال والنساء الذين في العفة “واجعل مسكني في وسطكم ولا ترذلكم نفسی و اسیر بینکم واكون لكم إلهاً وأنتم تكونون لي شعبا ” ( لا ٢٦: ١٢،١١) [7].

عظات آباء وخدام معاصرين

قداسة البابا زكا الأول عيواص

العذراء مريم تزور نسيبتها اليصابات :

سمعت مريم الملاك يقول لها :” هوذا اليصابات نسيبتك هي الأخري حبلي في شيخوختها ، وهذا هو الشهر السادس للمدعوة عاقراً …” (لو ١: ٣٦) فتبتهج مريم لهذا النبأ العجيب ، وتفرح لنجاح القريب ، وهذا فعل محبة فائقة ، وتغادر مريم الناصرة متجهة نحو جبل اليهودية لتزور اليصابات زوجة زكريا ، فحيتها اليصابات بانشودة نبوية جاء فيها :” مَنْ أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ ” هوذا عندما وقع صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين في بطني … طوبي للتي آمنت أن يكون لها هذا من قبل الرب “… فأجابتها مريم بأنشودة أكثر روعة من انشودتها وبكلمات نبوية خالدة تتلوها الكنيسة صباح كل يوم في صلواتها ، قالت فيها :” تعظم نفسي الرب تبتهج روحي بالله مخلصي ، لأنه نظر الي تواضع أمته فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبي جميع الأجيال لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته الي جيل الأجيال للذين يتقونه …(لو ١: ٤٢-٥٥) ومكثت مريم مع اليصابات مدة تقرب من ثلاثة أشهر ويقول بعضهم انها انتظرت الي أن وضعت اليصابات ابنها ، ويقول آخرون انها غادرت بيت زكريا قبل أن تضع اليصابات ابنها يوحنا لئلا تقوم السيدة العذراء أم الرب بخدمة نسيبتها أم يوحنا الذي قال بعدئذ أنه لا يستحق أن يحل سير حذاء الرب يسوع .

وما أجمل الكلمات التي كتبها الآباء في وصف لقاء العذراء باليصابات ففي صلاة صبح الأربعاء نقرأ ما ترجمته:” ان اليصابات أم يوحنا (المعمدان) ومريم أم يسوع حصنان اختارهما الملك ، العقر والبتولية ، لقد ارتكض الجنين للجنين ، الجديد للقديم ، وسلم علي سيده قائلا :”هلم بسلام فان سلامك يؤمن المسكونة” وجاء في صلاة مساء الجمعة ما تعريبه ” ان مريم واليصابات سفينتان عجيبتان اتجهتا نحو الميناء ، فاليصابات ولدت الكارز ومريم ولدت مخلص العالم هاليلويا صلاتهما تعضدنا ” . وفي صلاة صبح السبت نقرأ ما ترجمته :” من تري شاهد جفنتين مغروستين في كرم الرب والمسكونة كلها تتلذذ بخمر عناقيدهما فالجفنتان هما مريم واليصابات والعنقودان هما المسيح ويوحنا ، الاشبين والعريس خطيب البيعة المقدسة ” …

شكوك يوسف واطمئنانه :

لما عادت مريم الي الناصرة ظهرت أمارات الحبل عليها ، فلم يشك فيها أحد سوي يوسف خطيبها ، ذلك أن العذراء كان قد عقد لها علي يوسف عقد زواج بحسب عادة اليهود ، وكان خلال السنة التي تخطب فيها الفتاة للرجل ، يحق فيها للرجل أن يعرفها معرفة زواج ولئن كانت لا تزال في دار أهلها ، وقبل ان تزف اليه في الحفلة الكبري فتنتقل علي أثرها الي داره ولذلك لم يشك أحد بمريم سوي يوسف الذي أراد تخليتها سراً ، أما الآخرون فقد ظنوا بأنها حبلي من يوسف ، اذن مريم اعتبرت خطيبة يوسف لأنها لم تكن قد زفت اليه بعد ، واعتبرت امرأته لأنه كان قد عقد له عليها عقد زواج ، ولما طمأنه الملاك بطهرها سماها امرأته قائلاً :” يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس “(مت ١: ٢٠)[8] .

 

المتنيح الأنبا ميخائيل مطران أسيوط

مريم الملكة والدة الاله

المخدع الطاهر الذى شرفه الاله بحلوله ، والهيكل المقدس الذى زاده طهراً بنزوله اليه ودخوله ، والمنزل المبارك الذى تخطى المسيح ابوابه ولم يمدد يده إلى قفوله . تلك هي الصبيه التي لنقائها قد صنع الله بها القوات والعظائم ، اذا جعلها مهبطاً لكلمته عندما أراداها تجسداً وتانساً والتي لواضعها كتبلها لها التطويب الدائم ، حينما أراد لكنيسته بناءاً وتأسساً . بين احشائها . وفى منزلها وخبائها ، نشأ المسيح وعاش طيلة هاتيك الأعوام . وفى حجرها ، وبين ذراعيها وعلى صدرها ، جلس وطالما كان ينام . تلك هي مريم العذراء بل مريم الملكة والدة الاله ، والتي بقبولها البشارة بميلاد السيد المسيح ، طوى بساط الإسرائيلية الذى ظل منشوراً كل هذه الأجيال والأعوام ، ونكس علمها الذى طالما خفق مرفرفاً فوق هامة الليالي والأيام ، بل وازيحت صحيفتها لتفسح المجال للحقيقة بعد الخيال ، بل قل للمسيحية التي قبلت العذراء مسيحها ثم حملته ، وأخيراً وضعته في مزود من مزاود البقر ، بين تهليل الملائكة وتسبيح البشر.

ها هي هذه الملكة في جلالها وروعتها ، تحمل المسيح طفلاً على ذراعيها إلى الهيكل ، لتؤدى له وفيه ما يتطلبه الناموسى الموسوى من كل طفل اسرائيلى ، في اليوم الثامن من مولده الطاهر . ثم ها هي تصحبه معها وهو لم يزل حدثاً يافعاً إلى ذات الهيكل ليشترك معها أو قل لتشترك معه في التسبيح والتهليل … لاله إسرائيل . ولقد امكننا ان نتبين ملازمتها له في مفتتح عهده بالخدمة المباركة ، لترى بعينيها المعجز الرائع من الآيات والعجائب ، وفى المآتم كما وفى المآدب .

واستطعنا أن نراها وقد حضرت له حفلاً رائعاً ، وحشداً جامعاً للوعظ والتعليم كان المسيح فيه الواعظ الناصح ، والمعلم الصالح . وها نحن نوشك أن نراها وهى تستعرض المشهد الأخير من حياة ابنها وحبيبها ، وها هي – ومعها صويحباتها – يشاهدن المسيح يُرفع على الصليب في حالة تثير الدموع الدفينة ، وتستمطر العبرات السخينة بل تذيب الأحشاء القاسية ، وتضطرب لها الأبدان الراسية .

والسيد المسيح وقد أدرك مقدار الاحزان العميقة التي اصطدمت بها نفس والدته الحزينة وهى تشاهده يعانى من الآلام اشدها واقساها . رأى أخيراً ان يضع حداً لهذه الاحزان ، ونهاية لتلك الآلام ، فضمها اليه نفساً وجسداً ، محمولة على أيدى ملائكته القديسين لتستانف معه وبجوارها الحياة المجيدة في سماء الخلود ، ولتتمتع بالنعيم الموعود .

لهذا كانت عذراؤنا الطاهرة كما ولازالت ولن تزال موضوعاً لكل اكرام وتطويب . وها هي كنيستنا المقدسة وقد عرفت لها قدرها واحتفظت لها بكرامتها ، ولا سيما وان للعذراء مريم ذكريات تاريخية رائعة ، تتصل ببلادنا المصريه . فقد نزلت ومعها مولودها السعيد وخطيبها الشيخ الوقور ، ضيوفاً كراماً ، ولاجئين عظاماً .

هبطوا في بلادنا ونزلوا فيما بيننا . وجاسوا خلالنا . وحطوا رحالهم هنا وهناك . وها هي الأماكن تذكرها الكنيسة مغتبطة فخورة ، وقد عمدت اليها فشادت عليها الاديرة والمعابد ، يحج اليها المؤمنون يلتمسون منها البركات الوافرة والنعم الغزيرة . ويستوحونها تدعيماً لايمانهم ، وتعزية لاحزانهم ، وثباتاً لبنيانهم ، وقوة لشيوخهم وشجاعة لشبانهم .

وان جولة واحدة في ربوع بلادنا المصريه ، واستعراضاً عابراً لكنائسنا القبطية ، يرينا كيف ان لهذه الأم الشفيعة ، هذه المنزلة السامية وتلك الكرامة الرفيعة . تشهد بذلك وتشير اليه وتعبر عنه هذه الكنائس التي عمرت بها هاتيك البلدان والاديرة ، وقد حفلت بها الصحارى والوديان . تلك التي حملت للعذراء مريم اسماءها الكريمة والقابها العظيمة.

وحتى الكنائس الأخرى التي لم يشيدها أصحابها على أسماء العذراء القديسة مريم ، رأيناها وقد احتلت في كل منها المكانة التي تتناسب مع ما لها من قدسية وكرامة . وها هي صورها الجميلة في كل كنيسة بل في كل هيكل ، وهى معلقة فوق هذا الحجاب ، وعلى هذا الجدار تشتعل أمامها المصابيح وتتلألأ الأنوار .

وهى صور لها هيبتها ووقارها ، ولها قداستها واعتبارها ، تجلت في كل واحدة منها – وما أكثرها – عبقرية أبطال التصوير ورجال الفنون ، في كل العصور والقرون .

أولئك الذين راحوا يرسمون العذراء وابنها في كثير من الأوضاع الجميلة والرائعة ايضاً ، مما يلذ الوقوف امامها والتأمل فيها . اذ لجلالها توشك الحياة ان تنبجس منها ، ونكاد نحس بالحركةً تدب في ذلك الوجه الوقور ، والرأس التي تحيط بها هالة من الجلال وشعاة من النور .

ولما كانت هذه الصور مصدراً للبركات ، تنفجر منها في كثرة وغزارة ، ومعيناً لا ينضب للنعم تنبعث منها وافرة جرارة ، لذلك راح أبناء الكنيسة ينزلونها المنزلة اللائقة بكرامتها وبقداستها ، واخذت تحتل في بيوتهم ومنازلهم مكان الصدارة ، كما راحوا يغمرونها بفيض من اكرامهم لها وتمجيدهم إياها .

وفى اعجاب وتقدير نذكر الأعياد المتنوعة ، التي تحييها الكنيسة وتحى فيها ذكرى العذراء الطاهرة ، وهى حفلات مقدسة لها مكانتها وجلالها وخصوصاً تلك التي تقام معالمها ، وتشاد دعائمها ، بل وتضرب لها الخيام ، وترفع لها الاعلام في كنائسها المشهورة ومعابدها الخاصة حيث يهرع اليها المؤمنون من كل فج وصوب ، يؤدون ما عليهم من متنوع الحقوق ومختلف الواجبات ، ويقضون من الزمن فترة حافلة باروع المواقف واطيب الذكريات . ثم ينصرفون وهم يتحدثون عما صادفهم من عجائب وحدث لهم من معجزات .

وحقاً ان للعذراء مريم حياتها التي تشبه الزهرة اليانعة والزنبقة المتضوعة ، التي كلما امتدت اليها الايدى اثارت فيها شذاها العبق ، وانبعثت منها اريجها العطر ، وكلما هبت عليها الرياح نقلت عنها روائحها الطيبة . وعبيرها الذكي

ولقد كان لنا ان نستنشق كثيراً من الروائح الطيبة والمتنوعة بتنوع الكتب والمؤلفات التي وضعها أصحابها عن العذراء مريم والدة الاله . والان نشعر اننا نشتم رائحة للعذراء جديدة فى بابها ، فضفاضة في ثيابها ، فريدة في اسلوبها ، اذ نقرأ كتاباً جامعاً ، وسفراً خالداً رائعاً ، يحدثنا عنها الحديث الذى يغذى القلوب ويقيت الأرواح ، ويسمو بالنفوس محلقًا بها على اجنحة الرياح  .

وإذ تمثل أمامنا شخصيتها المباركة ، وتخطر في أذهاننا ذكرياتها الطيبة. طالما كنا نقرأ هذا الكتاب ، ونستعرض ما فيه من فصول وابواب ، فاننا نذكرها مطوبيين إياها ، عالمين ان هذه ديون يجب أن نسددها ونوفيها ، لأننا انما نكرم في ذاتها الجليلة ، الاله الذى تجسد منها وفيها[9] .

المتنيح الأنبا فيلبس مطران الدقهلية

أمنا العذراء والدة الاله

يتضمن العهد القديم كثيراً من النبوات والرموز التي تناولت الكثير من أحداث العهد الجديد أيضاً والتي تنبأت عن ميلاد السيد المسيح لأن الكتاب المقدس وحدة واحدة يسوق الوحي فيه نبواته عن المسيح الآتي بنبوات وإرشادات وإشارات ” كل الكتاب موحي به من الله “(٢تي ٣: ١٦) . وهذا الوحي كان يسلط كل الأضواء في العهد القديم علي ميلاد المسيح المخلص الآتي من نسل داود وإرتبط العهد القديم بالعهد الجديد بزمام الأمور الروحية بفعل الروح القدس إذ يقول بطرس الرسول ” كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص ، لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس “(٢بط ١: ٢٠- ٢١) .

وبذلك تضمنت النبوات عن ميلاد السيد المسيح وأمه الطهور العذراء مريم ومن المؤكد أن العذراء عندما هلت أحداث البشارة والميلاد العجيب بدأت تتذكر تلك النبوات التي سمعت عنها في التوراة وتُليت علي مسامعها في رواق النذرين بالهيكل كما كان يتكلم ويتحدث عنها الآباء المنتظرين للخلاص الآتي ، ولكنها كانت تعي كل ذلك في صمت وكما عبر عن ذلك القديس لوقا عندما قال ” أما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها “(لو ٢: ١٩) .

فأستحقت أن تكون مستودع لكنوز المعرفة عن النبوات والرموز والاشارات والعلامات التي تدل علي طريق الخلاص والتي كانت بمثابة إشارات المرور إلي الطريق الذي يؤدي إلي طريق النور طريق الخلاص وبمثابة المخارج إلي الطريق الأساسي الذي ليس له بديل لأن فيه ” الرحمة والحق التقيا ، البر والسلام تلاثما “(مز ٨٥: ١٠- ١١) ، كما أنه ” الطريق والحق والحياة “.

فتعال معنا أيها القاريء المبارك لنتذكر سوياً هذه النبوات والأشارات والرموز وكيف تمت بتفاسيرها عن حياة العذراء حتي حيرت العالم كله في دراسة هذه الأحقاب والأزمنة المباركة التي جاءت في موعدها ، وذلك علي سبيل المثال لا الحصر حيث أنها نبوات السماء إلي طريق الرب والذي يزيد عليه أو يحذف منه عليه غضب الله ” إن كان أحد يحذف مَنْ أقوال كتاب هذه النبوة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة “(رؤ ٢٢: ١٩) .

مريم في ميزان النبوات والرموز

أ- النبوات

١- نسل المرأة يسحق رأس الحية :-

قال الرب للحية بعد السقوط ” نسل المرأة هو يسحق رأسك وأنتِ تسحقين عقبه “(تك ٣: ١٥) .

نبؤة عن ستكون الغلبة لنسل المرأة … ويا تري من تكون تلك المرأة (نسل المرأة ) هي العذراء المطوبة

٢- الملكة المختارة :-

قال الوحي في سفر المزامير ” الملكة عن يمين الملك بذهب أوفير … أشتهي حسنها وهي تسجد له … كلها مجد إبنة الملك في خدرها…”(مز ٤٥: ٩، ١١، ١٣) .

نبؤة عن السيدة العذراء الملكة عن يمين الملك المسيح وتشير كل المزامير الآتية (مز ٤٩: ٢) ، (مز ٧٥: ١) ،(مز ١٣٢: ١٣) ، ( مز ٨٧: ٥) ، عن إبنة صهيون وهي إشارات إلي الطاهرة مريم العذراء .

٣- ينبوع مختوم :-

يقول الوحي في سفر نشيد الأناشيد ” أختي العروس جنة مغلقة ، عين مقفلة ، ينبوع مختوم “(نش ٤: ١٢) .

نبؤة عن العذراء والكنيسة في بتوليتها فهي عروس أي عروس المسيح وهي جنة مغلقة وعين مقفلة وينبوع مختوم لأنها بتول في كل حين وبعد ولادة إبنها وإلي نهاية حياتها .

٤- عذراء تحبل وتلد إبناً :-

يقول الوحي في سفر إشعياء ” يعطيكم السيد الرب نفسه آية ها العذراء تحبل وتلد إبناً وتدعو اسمه عمانوئيل “(إش ٧: ١٤) .

نبؤة عن شخصية العذراء التي إحتار فيها سمعان الشيخ عندما أراد ترجمتها وهي تكشف عن شخصية العذراء في :

في عذراويتها وبتوليتها الدائمة .

في حبلها وولادتها العجيبة المعجزية .

في ثمرة بطنها ، عمانوئيل (الله معنا) .

في أمومتها لله .

٥- ولادة إبن الله :-

يقول الوحي في سفر إشعياء ” لأنه يولد لنا ولد ، ونعطي إبناً وتكون الرئاسة علي كتفه ويدعي إسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام “(إش ٩: ٦) .

نبؤة عن إشارة ضمنية لأم هذا المولود العجيب الإله القدير القديسة مريم العذراء .

٦- باب المشرق أو الباب الخارجي :-

يقول الوحي في سفر حزقيال ” ثم إرجعي إلي طريق باب المقدس الخارجي المتجه للمشرق وهو مغلق ، فقال الرب هذا الباب يكون مغلقاً ، لا يفتح ولا يدخل منه إنسان لأن الرب إله إسرائيل دخل منه فيكون مغلقاً “(حز ٤٤: ١، ٢) .

نبؤة تشير

إلي دوام بتولية العذراء وطهارتها المستمرة والباب المغلق هو كناية عن ختم بتوليتها ودخول وخروج الرب وبكوريتها مختومة .

٧-مركبة الله :-

يفسر الأباء المركبة أو العرش الذي رآه حزقيال النبي والذي يصفه بأنه محمول علي أربعة حيوانات لها أشكال تمثل الخليقة الناطقة وغير الناطقة ، فوجه الإنسان يمثل البشر ، ووجه الأسد يمثل الوحوش ، ووجه النسر يمثل الطيور ، والعجل يمثل الحيوانات …إلخ.

نبؤة عن القديسة مريم التي صارت عرشاً ومركبة للمسيح الإله حيث أنه حل في بطنها حلولاً فعلياً أخذ جسداً من جسدها الطاهر وكانت الملائكة ورؤساء الملائكة تحيط بالعذراء تسجد وتعبد خالقها وربها الساكن في أحشاء القديسة الطاهرة مريم .

٨- حجر مقطوع بغير يدين أو حلم دانيال :-

كشف الله لدانيال في رؤيا الليل السر عن حلم نبوخذ نصر ملك بابل الذي عجز الحكماء والفهماء عن كشفه وتفسيره وكيف أن حجراً قُطع بغير يدين ضرب التمثال المصنوع من الحديد والخزف والفضة والذهب وسحقه سحقاً وصار جبلاً عظيماً ، وتقول الكنيسة ” أنت هو الجبل الذي رآه دانيال وقد قطع منه حجر ملأ كل الأرض الذي هو المسيح دون أن يلمسه يد إنسان البتة .

نبؤة عن :-

العذراء حيث أن الحجر هنا يشير إلي السيد المسيح إذ قيل عن الحجر الذي رذله البناؤون قد صار رأس للزاوية وقطع الحجر بدون يدين يشير إلي حبل العذراء بالسيد المسيح بغير زرع بشر وإنما بحلول الروح القدس عليها .

٩- الخلق الحديث :-

يقول الوحي في سفر إرميا لأن ” الرب قد خلق شيئاً حديثاً في الأرض أنثي تحيط برجل “(إر ٣١: ٢٢) .

نبؤة عن :- القديسة العذراء تصفها وهي تحمل الطفل يسوع بين ذراعيها الطاهرتين .

١٠- عزاء إبنة صهيون :-

يقول الوحي في سفر مراثي إرميا “… بماذا أُقايسك فأعزيك أيتها العذراء بنت صهيون …”(مراثي إرميا ٢: ١٣) .

نبؤة عن :- وصف أحاسيس العذراء لحظة الصلب الرهيبة لإبنها المصلوب من أجل خطايانا والمسحوق لأجل آثامنا وهي واقفة تحت الصليب وهو السيف الذي جاز في نفسها والذي تنبأ لها عنه سمعان الشيخ عندما حمل الطفل علي يديه .

ب- الرموز والإشارات

١- الحمامة الحسنة (حمامة نوح) :-

يقول الوحي في سفر التكوين ” فأتت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها …”(تك ٨: ١١) .

إشارة إلي الحمامة الحسنة التي ولدت رئيس السلام القديسة مريم العذراء التي بشرت العالم بأن طوفان الخطية والشر إنتهيا لأن إبنها الذي كان في أحشائها هو الذي يخلص العالم من طوفان الخطية وكانت العلامة هي قولها للملاك الذي بشرها ” هأنذا أمة الرب ليكن لي كقولك ” .

٢- سلم يعقوب:-

يقول الوحي في سفر التكوين “… إذا سلم منصوبة علي الأرض ورأسها يمس السماء وهوذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها …”(تك ٢٨: ١٢- ١٣) .

إشارة إلي مريم العذراء التي حملت يسوع في بطنها ، وعلي عود الصليب إرتفع الرب ففتح السماء وجعل السمائيين والأرضيين واحداً (تقول الكنيسة في تسبيحتها أنت هي السلم الذي رآه يعقوب ثابتاً علي الأرض ومرتفعاً إلي السماء والملائكة نازلون عليه)

٣- العليقة :-

يقول الوحي في سفر الخروج ” وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق “(خر ٣: ٢) .

إشارة إلي حمل مريم العذراء لنار اللاهوت دون أن تحترق وتظل بتوليتها مصونة ، كما تشير إلي إتحاد اللاهوت بالناسوت بغير إختلاط ولا إمتزاج ولا تغيير .

٤- عصا هارون :

يقول الوحي في سفر العدد “… وأفرحت فروخاً وأزهرت زهراً وأنضجت لوزاً …”(عدد ١٧: ٨) .

إشارة إلي العذراء مريم التي ولدت الرب يسوع علي مستوي معجزي .

٥- مجمرة هارون :-

يقول الوحي في سفر العدد” ثم قال موسي لهرون خذ المجمرة وإجعل فيها ناراً من علي المذبح وضع بخوراً…”(عدد ١٦: ٤٦) .

إشارة إلي أن المجمرة الذهب النقي هي العذراء ، والمجمرة تشير إلي العليقة ” التي رآها موسي النبي في البرية والنيران تشعل جواها مثال أم النور طوباها ،حملت جمر اللاهوتية ، تسعة أشهر في أحشاها ولم تمسسها بأذية …” واللاهوت والبخور هو رئيس الكهنة الأعظم الذي أصعد ذاته ذبيحة وقرباناً مقبولاً علي الصليب . اشتمه الآب السماوي علي الجلجثة وقت المساء والرائحة العطرة التي فاحت هي ولادة المسيح وكرازته للعالم .

٦- تابوت العهد :-

يقول الوحي في سفر الخروج “… من خشب السنط وتغشيه بذهب نقي من داخل وخارج ، خشبه لا يسوس …”(خر ٢٥: ١٠- ١١) .

إشارة إلي بتولية العذراء الدائمة ، أمًا كسوته بالذهب من الداخل والخارج تشير إلي طهارة مريم وإتحاد اللاهوت بالناسوت أما إحتواء التابوت علي المن إشارة إلي حمل العذراء بالمسيح المن الحقيقي السماوي .

٧- قسط المن :-

يقول الوحي في سفر الخروج قال أيضاً موسي لهرون ” خذ قسطاً واحداً واجعل فيه ملء العُمر مناً وضعه أمام الرب للحفظ في أجيالكم “(خر ١٦: ٣٣) .

إشارة إلي أن مريم قسط المن الذهب الحاملة المن العقلي خبز الحياة .

٨- صخرة حوريب :-

يقول الوحي في سفر الخروج ” ها أنا أقف أمامك هناك علي الصخرة في حوريب فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب الشعب “(خر ١٧: ٦) .

إشارة إلي العذراء التي خرج منها المسيح بمعجزة ، وهو الماء الحي الذي كل من يشرب منه لا يعطش .(١كو ١٠: ٤) .

٩- المنارة الذهبية :-

يقول الوحي في سفر الخروج ” تصنع المنارة من ذهب نقي …” (خر ٢٥: ٣١) .

إشارة إلي المنارة ذات السرج الموقدة كل حين وهي العذراء مريم حاملة النور الحقيقي الذي هو شمس البر الذي يُنير لكل إنسان آتٍ إلي العالم .

١٠- قدس الأقداس :-

هو قسم من أقسام خيمة الاجتماع ليدخله رئيس الكهنة مرة واحدة فقط في السنة .

إشارة إلي السيدة العذراء التي حل فيها الله الكلمة لأنها وُصفت تارة بالقبة وأخري بالمسكن وثالثة بالهيكل وكلها جميعاً مكان حلول الله ومادام الله قد حل في بطن العذراء فتنطبق هذه الأوصاف والرموز عليها .” ثم غطت السحابة خيمة الإجتماع وملأ بهاء الرب المسكن “(خر ٤٠: ٣٤) .

١١- السحابة :-

يقول الوحي في سفر إشعياء ” هوذا الرب راكباً علي سحابة سريعة وقادم إلي مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها “(أش ١٩: ١) .

إشارة إلي مريم العذراء السحابة الجميلة النقية الطاهرة التي حملت الرب الإله في قدومه إلي مصر لكي يباركها ويحطم أوثانها ويؤسس مذبحه المقدس فيها .

١٢- زهرة البخور :-

قال الرب لموسي النبي في سفر الخروج ” خذ لك أعطاراً . ميعة وأظفاراً …ليشمه يُقطع من شعبه “(خر ٣٠ : ٣٤- ٣٨) .

إشارة إلي أن الأصناف المذكورة السابقة في سفر الخروج التي تمت منها تركيبة البخور خارجة من زهور نبتت في الأرض وأثمرت هذه الزهور الطبيعية الرائحة التي لا يليق أن تقدم برائحتها الجميلة الطيبة إلا لله القدوس وحده .

أما الزهرة الجميلة الطيبة الرائحة والمقدسة نفساً وجسماً وروحاً القديسة مريم العذراء لم تُخرج للعالم والكنيسة زهراً يُصنع منه البخور بل أخرجت من أحشائها الطاهرة رب السماء والأرض الذي يُقدم له البخور في السماء والأرض ، ربنا يسوع المسيح له المجد الذي هو الرائحة الذكية التي أنعشت وطيبت كل الخلائق في السماء وعلي الأرض أيضاً ” لأنك أنت هي الزهرة النيرة غير المتغيرة ” من الأجبية .

١٣- سفينة نوح :-

يقول الوحي في سفر التكوين “… أدخل أنت وجميع بنيك إلي الفلك لأني أياك رأيت باراً لدي في هذا الجيل”(تك ٧: ١) .

إشارة إلي أن الفلك هو مريم العذراء التي منها خرج منقذ الشعوب والأمم وهو يسوع المسيح ربنا الذي جاء ليخلص الخطاة كما كان فلك نوح وسيلة لإنقاذ بيته من الطوفان للفساد والخطية السائدة والدنس المسيطر علي هذا الجيل ، فكان أيضاً الفلك وسيلة للإنقاذ من عذاب الجحيم والنار الأبدية التي لا تطفأ والدود الذي لا يموت .

١٤- النخلة :-

يقول سليمان الحكيم في سفر نشيد الأناشيد ” قامتك هذه شبيهة بالنخلة وثدياك بالعناقيد “(نش ٧:٧) .

إشارة إلي السيدة العذراء لأن النخلة عالية جداً وعلي قدر علوها تمد جذورها في الأرض ومريم العذراء علي قدر علوها ومجدها السامي فوق الملائكة والبشر علي قدر إتضاعها ووداعتها التي لم يماثلها فيها أحد من الناس حتي أنها قالت بالروح القدس ” هأنذا أمة الرب ” وقالت ” لأنه نظر إلي إتضاع أمته …” .

١٥- أبواب إبنة صهيون :-

يقول المزمور ” أحب الرب أبواب صهيون أفضل من جميع مساكن يعقوب وأعمال كريمة قيلت عنك يا مدينة الله “. (مز ٨٧: ٢)

إشارة إلي أن الله أحب العذراء مريم وإختارها أكثر من جميع عذاري إسرائيل ، أما الأعمال الكريمة التي قيلت عنها كمدينة الله ، لأن صهيون كما جاء عنها في قاموس الكتاب المقدس أنها الجبل المشمس الجاف أي شمسه مشرقة عليه دائماً ويطلق هذا الإسم علي أورشليم كلها كما أن صهيون محاطة بسور منيع وهي أشرف قسم في أورشليم حيث يوجد بها بيوت العظماء والأكابر ويُذكر أن السيد المسيح له المجد صنع في غرفة من مبانيها العشاء الرباني ويقول المفسرون أن صهيون معناها صخرة قوية ، وكلها إشارات للسيدة العذراء وإبنها يسوع الذي أحبها أكثر من عذاري إسرائيل ، وكل ما قيل عن صهيون يوجد في (مز ٤٥ : ١٠ ) ، (مز ٧٥: ١) ، (مز ١٣٢: ١٣) ، (مز ٨٧: ٥) .

بهذا العرض السابق نستطيع القول بأن العهد القديم أشبه بأسوار عالية منيعة تحتضن العهد الجديد وتحيطه لتعلن ما بداخله من مجد كما لو كانت مصابيح فوق هذه الأسوار لتعلن للعيون البشرية مجد العهد الجديد وعلو البنيان الروحي .

لذلك نري أن الرب يسوع أكد أهمية العهد القديم بقوله عن يونان النبي ” جيل فاسق وشرير يُطلب آية ولا تعطي له إلا آية يونان النبي “(مت ١٢: ٣٩) .

كما أن البشير متي إستعان بنبوات العهد القديم لتحقيق البر الخلاص الذي للعهد الجديد في عبارات كثيرة بقوله (لكي يتم ما قيل بالنبي … لكي يتم المكتوب … كما جاء بالأنبياء…) وهكذا في حوالي ٤٨ مرة يستشهد بالأنبياء من العهد القديم ليربطه بالعهد الجديد في دائرة الحب .

لهذا لا نستطيع أن نحصي النبوات أو الرموز أو الإشارات التي وردت في العهد القديم عن مجيء الرب في الجسد من العذراء مريم ورحلة الخلاص لأجل الإنسان .

وقد زاد عدد النبوات عن ٣٠٠ نبوة مبتدئة من البشارة به إلي قيامته من بين الأموات ونزوله الجحيم وإطلاق المأسورين …وصعوده إلي السماء .

فمباركة أنت يا مريم من خلال النبوات قبل ميلادك ، ومباركة أنت يا مريم أفضل من المولودين معك بل تباركن كل العذاري بميلادك معهن ، فمباركة أنت أفضل من السماء ومكرمة أفضل من الأرض ، فقت كل فكر فمن يقدر أن يصف كرامتك يا مريم .

نساء كثيرات نلن كرامات تعاليت أنت أكثر من جميعهن فكنت الجوهرة المعهود لها بالخلاص والتي يبحث عنها الأنبياء في النبوات حتي أصبحت فخر العهد الجديد ونعمته[10].

المتنيح الأنبا كيرلس مطران ميلانو

العذراء كل حين

يا إلهي .. وأنت متطلع من سماؤك .. وأنت ناظر يا قدوس من علوك الأقدس…

ماذا نظرت ؟! وماذا رأيت في العذراء بنت يواقيم البار ؟!

العذراء قدمها يواقيم وقفاً مؤبدأ ملكاً لك …

يا قدوس .. ماذا رأيت ؟! هل رأيتها أرضاً حاملة للفضائل ؟؟

أنت يا قدوس .. المستريح في قدسيك .. هل لأجل ذلك أقمت عليها المدينة المقدسة .. مسكنك أيها العلى ؟!

ماذا رأيت فيها ؟! وأي قلب كان قلبها ؟! هل فاق قلب حبيبك داود ؟!

ماذا أقول لك يا كاشف الأعماق ؟!

أقول أسمح الآن .. وأعطني من هذا القلب الذي جعلك تأتي وتتجسد . أم أقول لا أطلقك إن لم تعطني من هذا القلب ، لكي تأتي وتسكن وتتجسم في أعمالنا …

فرصة ثمينة ليتني أغتنمها :

سبقني فكري .. وطار مني متقدماً أمامي ، ليدخل ويتأمل فيك يا أمي البتول ..

فوجدت نفسي أقف أمام أورشليم مدينة إلهنا .. مسكن جميع الفرحين ..

رأيت أمي الحنون .. المدينة المقدسة .. متزينة بقلائد من الفضائل .. وقلت أميل بنظري .. وأقف أمام قلادة واحدة .. لأنظر وأتأمل وأتفرس فيها …

فرجعت إلى نفسي .. وقلت التأمل وحده في الفضيلة .. والكلام عنها لا ينفعني ..

وتفهمت قول الرب ” طوبي للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه ” (لو ۱۱ : ۲۸) .

وقلت لنفسي ما قاله مار اسحق ” الماء المرسوم على الحائط لا يطفئ لهيب النار .. ولا يروى ظمأ العطشان ” وقلت هذا حال كل من يعلم ولا يعمل . أو يتكلم ولا يعمل .. أو يتأمل ولا يعمل ..

فعدلت عن تأملي .. وقلت ها هي فرصة ثمينة ليتني اغتنمها .. أن أدخل وأطلب من مدينة إلهنا ، لكي تشفع لنا عند ابنها الحبيب ، لكي يعطينا القلب الذي يشتاق أن يراه فينا ..

قالت لي نفسي . اغتنم الفرصة .. وانظر وتعلم من القلوب التي اعتصرت باكية أمام العذراء ” مدينة إلهنا ” لأجل أمراضها .. وضعفاتها ، وضيقتها .. وأحزانها وأشتياقاتها ..

وقالت .. انظر كيف خرجت ترقص مهللة .. لأن الرب استجاب .. وتمجد اسمه القدوس في البتول المدينة المقدسة .

حول أسوار المدينة المقدسة :

رأيت شيوخاً تجري .. لأن بشفاعتها جدد الرب كالنسر شبابهم …

رأيت شباباً يصعدون من فوق الدخان .. لأن بطلبات البتول حرق الرب كل الأشواك الخانقة لنفوسهم …

رأيت مظلومين انطلقوا من الفخاخ .. لأن صلوات العذراء ثقبت كل شباك المقاومين لہم …

رأيت أيادي مرفوعة من قلوب ضارعة .. تطلب من العذراء .. وتتوسل اليها بدموع .. وشموع .. وتسجد أمام مدينة الله العلى بأصوام وركوع …

رأيت هذه الأيادي .. لم تخز .. بل عادت فرحة .. تدق بالصنوح والدفوف ، وتعطي تمجيداً لمن استجاب لطلبات البتول العذراء كل حين .

رأيت قلوباً تشكر الله وتمجد العذراء .. لأن بصلواتها نقل الرب عن أكتافهم جبل المقطم .

من فوق حجر المدينة المقدسة .. ركض المشلول جارياً . وانطلق الأعمى مبصراً ورفع الأخرس صوته عالياً وانصرع الشيطان مخزياً .. والضيقات انحلت . والعاقر صارت أماً لأولاد .. والحديد انحل وانفك المحبوس .

مع هذا الجمع .. من كل الأمم … ومن كل القبائل ومن كل الشعوب ..مع الركب الداخل نحو المدينة عند العذراء .. والخارج فرحاً حاملاً المدينة في داخله ..دخلت وطلبت .. وأكرر طلبي من الرب ..

غلبني التأمل :

لم أحتمل الصمت .. وقلت يا أمي الحنونة .. أنت فخر جنسنا..أنت أم آبائى وأجدادي .. أنت أم أخوتي وأبنائي وأحفادي.. تعالي نحوي .. خذي فكر قلبي عندك..

دعيني أسألك ؟ ! أخبريني عنك لأتعلم منك . أخرجي عن صمتك وأميلي سمعك وأسمعني.. افتحي لي فمك .. واجيبي لي عن تساؤلات قلبي الذي يحبو متشوقاً للمس قلبك الطاهر ..

يا أمي .. أقضي معي لحظات .. بها ينتقل قلبي إلى السماء الثانية …

خيمة الاجتماع ثبت أوتادها الرب .. وهيكل سليمان دشن الرب أساساته .. وأنت أيتها العذراء .. يا مدينة إلهنا .. كيف حل الروح القدس عليك ؟! وكيف ظللتك قوة العلي ؟

ما أكثر الآباء الذين مسحهم الرب للخيمة والهيكل المقدس .. وأنت يا مدينة العلى جعلك الرب الأم الباقية عذراء .. والملكة الحقيقية ..

احتملت لأنهم ظلموك في بتوليتك .. وقاوموا طهارتك .. وعقدوا المجامع وانشقوا وإلى هذا اليوم يوجد من لا يكرمك أيتها المملوءة نعمة ..

أنت يا طاهرة في كل شيء .. فقت الشاروبيم والسيرافيم .. ارتفعت فوق الاباء والأنبياء . نسوا أنك المدينة المقدسة .. بيت العلى .. ونسوا قول الرب عن أحبائه “لم يترك إنساناً يظلمهم .. وبكت ملوكاً من أجلهم .. قائلاً لا تمسوا مسحائى ..ولا تسيئوا إلى أنبيائي ” (مز ١٠٤ : ٨) .

هيكلاً جديداً .. داخل هيكل سليمان :

كانت خيمة واحدة للاجتماع .. وتحولت إلى هيكل واحد هو هيكل سليمان…

ترى ماذا فعل اللاويين .. عندما رأوا هيكلاً جديداً ( العذراء ) داخل هیکل سیمان ؟!

ماذا فعلوا عندما وجدوا منارة جديدة تضاء بدون آياد بشرية ؟!

هل سأل اللاويون .. ما هذه المنارة التي تشتعل وتضى بدون زيت الزيتون النقي؟!

ماذا فعلوا عندما رأوا العذراء التابوت المصفح بالذهب من كل ناحية ، وعليه الغطاء الكاروبيمي ؟!

هل أسرعوا إلى الكهنة وأخبروهم ؟! وهل جلس الكهنة مع رئيس الكهنة تساءلوا؟!

هل حضر هارون كبير الكهنة .. وعرفوا منه عن العصا التي أفرخت ( العذراء ) ؟!

أم طلبوا تفسير من موسى كليم الله ؟! أم استدعوا بصلائيل الموهوب الذي الذي أفرغ فنه في الخيمة ؟!

ماذا قالوا في الاجتماع ؟!

هل قالوا نحن سمعنا عن رجال أبرار مثل أخنوخ ونوح .. وسجل تاريخ البطاركة عن أبينا إبراهيم كيف كان صخرة قوية في الإيمان .. وكتب التاريخ عن طاعة اسحق صورة لحياة البذل وتقديم الذبيحة ؟!

هل تكلموا عن يعقوب أبي الأسباط .. وقالوا كيف رسم طقس التدشين المقدس .. لبيت الله .. ومن الحلم والسلم أوضح بيت الله . هو بيت الملائكة (تك ٢٨) .

هل قالوا : من الآباء نوح وإبراهيم عرفنا المذابح التي فوق الجبال ؟! ومن يونان عرفنا المذبح العائم في عمق المياه ؟!

هل قالوا .. عرفنا ما هي خيمة الاجتماع وعرفنا ما هو الهيكل!

وعن العذراء ماذا قالوا ؟!

هل قالوا . عرفنا أول هيكل ناطق سمائي في البشر ؟ ! أول هيكل بشري سمائي على الأرض ؟!

هل نظروا إلى التابوت المقدس ( العذراء ) المصفح بالذهب كما نظره حزقيال ..؟ !

هل فسروا أن الله دخل وخرج وبقي الباب على حاله . بقي مغلقاً (حز ٤٤ : ٢).

هل عرفوا أنه لم يسبق ميلادها للمسيح زواج .. ولم يحل الميلاد بتوليتها..وختموا الاجتماع !!

يا أمـي ..

أنت دخلت الهيكل .. وصرت هيكلاً للواحد في الثالوث !!

صرت إجابة لمن يسأل قائلاً .. لماذا ندخل بيت الرب ؟

بك عرفنا .. لا يكفي أن ندخل بيت الله .. ولا يكتفي أن نخدم الله .. إنما هيكلا لروح الله يعطي تمجيداً ..

هيكلا لله .. هو يخدم فينا .. ونحن نخدم به[11]

أيضاً للمتنيح الأنبا كيرلس

نصيبي هو الرب قالت نفسي

رأيت آثار أقدام محفورة على الصخر .. فدققت فيها .. فوجدتها آثار أقدام من البشر ؟!

البصمات تقول إنه رجل ومعه ابن صغير يتبعه .. ؟ !

فسألت ترى أين كان ذاهباً ؟! وإلى أين كان سالكاً في الطريق ؟! وهل الإنسان يقدر أن يعرف طريقه ؟! كيف يعرف طريقه والرب يقول على فم أرمياء ” عرفت يا رب أنه ليس للإنسان طريقه .. ليس لإنسان يمشي أن يهدي خطواته ” (أر ١٠ : ٣) .

أشتقت أن أخرج على آثار هذه البصمات .. وأنظر وأتفهم وأتعلم ؟!

تتبعت الآثار التي على الصخر .. وصعدت معها .. ووصلت إلى بيت مبني من الصخر .. وعلى الصخر ؟! وقفت أنظر .. فأدركت أن هذا هو بيت الرب .. الحصن الذي لا يتزعزع ؟!

فسألت الجالسين على عتبة ديار الرب فقالوا .. أدخل لكي تسمع وترى توضيحاً لكل الآثار والبصمات التي على الأرض ؟!

ففعلت كما قالوا .. ودخلت .. ووجدت نفسي واقفاً أمام سفر يسجل أمجاداً .. ويذكر تاريخاً .. ونهاية سير أبرار ساكنين على الأرض ؟!

من هذا السفر تعرفت على أصحاب هذه البصمات .. عرفت أنهم كانوا من بين الأحياء الذين كانوا على الأرض من عشرين قرناً .. ؟ !

عرفت .. إنه كان رجلاً باراً .. وأسمه يواقيم .. وكل ما كان يشغل قلبه .. وفكره .. كيف يضع كل ميراثه في يد الرب ؟!

وكان شعاره ” نصيبي هو الرب قالت نفسي ” (أر ٣ : ٢٤) .

شد انتباهي سجل التاريخ عندما سمعته يحكي لكل زمان .. عن هذا البار .. وعن ابنته الطاهرة العذراء كل حين ؟!

صورة فريدة من نوعها .. يحكيها التاريخ .. عن أب واع .. يحمل طفلته كما نذر للرب .. وكما خرج من فيه .. يحملها ويستودعها في بيت الرب .. إلى أن صارت مستودعاً ليسكنه الرب ..

من كلمات التاريخ .. لم يكن بين الأب يواقيم .. وابنته العذراء لحظات وداع بأنين من أجل البعد والفراق ؟! لأنه كان يعرف ماذا يعمل بأبنته ؟! وماذا يفعل لها ؟! كان يعلم ماذا يقدم للرب ؟! ولماذا يقدم ؟!

فرحت عندما سمعت التاريخ يحكي للزمن عن ألقاب هذه العذراء .. وعن فضائلها .. ورموزها .. يحكي عنها أبواباً .. وفصولاً متنوعة لمن يشتهي أن يتعلم ؟!

وسمعت ما قد سجله التاريخ من تسجيلات فيها كل التطويب .. من جيل إلى جميع الأجيال .. سمعت تسجيلاً بالموسيقي والألحان والترانيم .. والمدائح .. ؟ !

في التاريخ .. تواريخ لبشارة ميلادها .. ميلادها .. ودخولها الهيكل .. ونياحتها .. وصعود جسدها .. وبناء أول كنيسة على اسمها .. وظهوراتها المقدسة ؟!

أنت من جنسنا .. والعجب أنك صرت السماء الثانية ؟! أنت ابنة يواقيم ..

والعجب أنك صرت هيكلاً للواحد في الثالوث ؟! أنت واحدة من البشر .. والذي يخافه الملائكة .. العجب أنك حملتيه بين ذراعيك ؟!

أنت عذراء نقية .. والعجيب أنك صرت أما للكلمة المتجسد ؟!

أنت دخلت هيكل الرب .. لأن هذا هو نذر أبيك .. وهو سر فرحك .. وما يتفق مع قلبك .. والعجب خطبتك ليوسف لم تغير اتجاه قلبك عن السيد الرب ؟

أنت كنت مخطوبة ليوسف .. وبدون زواج .. ومن الملاك سمعت البشارة عن حبلك من الروح القدس .. وكل العجب تسليم قلبك لطاعة خالقك ؟

الذي بين يديك هو ملك الملوك .. وإله القوات .. والعجب أنك هربت بالصبي من الشر الساكن في قلب ملك مضطرب ؟!

أنت سمعت أنشودة الملائكة..سمعت السلام علي الارض ..والعجب أنك صمت ..وأحتملت صراخ راحيل التي كانت تبكي علي اولادها ..اطفال بيت لحم الأبرياء ولا تريد أن تتعزى ؟!

التاريخ لم يكتف بالحديث معها .. وعنها ؟! وبين الأبواب المكتوبة .. سمعت حواراً يحكي عنها ؟! هل تطلع الآب من السماء .. ولم يجد من يشبهك فيما كنت تسمعين إليه بقلبك ؟! وتطلبين منه بلجاجة أن يدخل إلى هيكل جسدك كما أنت تقيمين في جسد هيكله ؟!

يا أم النور .. الرب تطلع ورأى أنك أنت الأرض المختبئة في هيكل قدسه .. وأشرق عليك بشمس بره ؟!

هل أنت الأرض غير الظاهرة التي سلمها يواقيم .. وأشرقت عليها الشمس التي لا تغرب ؟! وأضاء عليها الرب بنور لاهوته ؟!

شمس البر حل في أحشائك .. طوباك لأنك ذقت الملكوت داخلك ؟! ورأيتيه يتحرك قدامك للأمم الجالسين في الظلمة وظلال الموت ؟! طوباك أيضاً لأنك تحيين في الملكوت ؟! ( الشمس ) حل في أحشائك ، وأشرق على أرض قلبك .. فأعطيته عملاً جديداً .. لراحة المعوزين .. وشفاء المرضى والمتألمين .. وجذب الضالين .. ؟ !

( الشمس ) أشرق على بيت لحم اليهودية .. وخبأ هيرودس عينيه .. وطارده .. لكي لا يبصر نوراً فيرى عجباً .. ( الشمس ) الذي دار وهو في حضنك يا بتول وأنت في أحضانه .. دار من بيت لحم إلى أرض مصر .. لينير على شعبه .. ويباركه .. وتتحقق النبوة القائلة ” مبارك شعبي مصر ” (أش ١٩) .

يا أم النور .. أنت أتيت إلينا .. في أرضنا .. كما طلب الملاك من يوسف البار .. هروباً من شر هيرودس؟! نود أن نرد لك زيارتك المقدسة .. فأقبلينا عندما نحتمي فيك .. وفي شفاعتك في زمن الشر .. وحروب الأفكار الردية[12]..

المتنيح القمص لوقا سيداروس

العذراء القديسة مريم

أما العذراء القديسة فهي في مقامها الفريد كما رآها القديس يوحنا في سفر الرؤيا ” ظهرت آية في السماء ” (رؤيا ١٢: ١) فالتي ولدت ابن الله وصارت أعلي من السموات وتشرفت بحلول الروح القدس عليها وظللتها قوة العلي وولدت القدوس ابن الله الكلمة رآها آية في السماء .

فأن الحبل بالمسيح بدون زرع بشر ، وآية اتحاد ابن الله الكلمة بجسم بشريتنا في بطنها ، وآية حلول الروح لتهيئة هيكلها وتدشينه لسكني ابن الله فيها …

وآية العليقة المشتعلة بالنار ولم تحترق (راجع خر ٣: ٢) .

وآية مجمرة هارون الحاملة جمر النار (عب ٩: ٤) .

وآية عصا هارون التي افرخت بدون زرع (عدد ١٧: ٨) .

وآية قسط المن الحامل المن الحقيقي خبز الحياة النازل من السماء (خر ١٦: ٣٣) .

وآية التابوت العقلي الذي يظلله الشاربيم ، حيث موضع الأستغفار (راجع ١٩: ٥٤) (خر ٢٥: ١٧- ٢٠) .

وآية العذراء المكملة بكل الفضائل ، باب المشرق الذي رآه حزقيال دخل فيه الملك وخرج والباب مغلق إلي الأبد (راجع ٤٤: ٢) .

وآية العذراء كل حين دائمة البتولية .

آية الملكة ام الملك التي رآها داود النبي ” جلست الملكة عن يمينك أيها الملك مشتملة باطراف موشاة بالذهب ومتزينة باشكال كثيرة “(مز ٤٥: ٩) . ولكن في سر خفي روحاني ” كل مجد ابنة الملك من داخل ” (مز ٤٥: ١٣) . وقد ذكرها هكذا داود النبي حينما فاض قلبه بكلام صالح وتكلم عن من هو ابرع جمالاً من بني البشر (راجع مز ٤٥: ١) .

آية العذراء المطوبة من جميع الأجيال ، ومن جميع البشر ، التي ركض وسجد أمامها يوحنا المعمدان بابتهاج وهو في بطن أمه كما ركض داود النبي قديماً قدام التابوت وامتلأت اليصابات أمه من الروح القدس لدي سماع صوت العذراء القديسة حاملة ابن الله الكلمة .

ليست العذراء آية لسكان الأرض ، ولكنها آية في السماء أيضاً الي ابد الآبدين كما يقول الكتاب ” امرأة مشتملة بالشمس والقمر تحت رجليها واثني عشر كوكباً حول رأسها “(رؤ ١٢: ١) .

المسيح هو شمس البر الذي أشرق جسدياً من العذراء بدون زرع بشر .

من يستطيع أن يثبت نظره في الشمس ؟ ان كان الملائكة يسترون وجوههم من بهاء عظمة مجده غير المنظور ولا منطوق به ، لان عيناه كلهب نار … الهنا نار آكلة ولكن العذراء متسربلة بالشمس ، يا للعجب من هذا المنظر الرهيب والقمر هو القديس يوحنا المعمدان ” اعظم مواليد النساء ” بشهادة الرب نفسه الذي استحق أن يعمد ابن الله في الأردن وشهد أنه سمع صوت الآب من السماء ورأي الروح نازلاً مثل حمامة ومستقراً عليه .

والأثني عشر كوكباً هم رسل المسيح الأطهار مثل تاج حول رأس العذراء .

هكذا يقوم سر التجسد في السماء كآية عجيبة… حقاً ” عجيب هو سر التقوي ” مثلما يقوم الصليب أيضاً كأعجوبة ” خرج غالباً ولكي يغلب “(رؤ ٦: ٢) .

وهكذا تظل العذراء مريم كأمرأة مشتملة بالشمس ، ملتحقة بالمسيح ، الذي اتحد بها وظل في بطنها تسعة أشهر كاملة وحملته طفلاً وارضعته من لبن ثدييها ، وحفظت في قلبها كل ما هو مكتوب عنه وكمل فيه ولأجله ، واخيراً جاز في نفسها سيف وهي واقفة صامتة كعادتها عند صلب ابنها الحبيب .

وعلي هذا رأينا السماء وتمايز الأبرار والقديسين في ملكوت المسيح اما القديس بولس الرسول فيؤكد أن نجماً يفضل عن نجم في المجد ومكتوب أيضاً في سفر دانيال ” أن الذين ردوا كثيرين سيضيئون كالكواكب ، الي ابد الدهور “(دا ١٢: ٣)[13] .

الراهب ماكس توريان

( من كتاب العذراء مثال الكنيسة ترجمة الراهب ويصا السرياني ” المتنيح الأنبا إيساك الأسقف العام ” )

(لو ١ : ٣٩ – ٤٥)

زيارة العذراء لأليصابات :

العذراء مريم وهى مغمورة في عمق الشركة مع الثالوث الأقدس .. والروح القدس حال عليها وقوة العلى تظللها ، وابن الله القدوس في أحشائها … تقوم برحلة إلى اليهودية لتزور زكريا وأليصابات لمدة ثلاثة أشهر . ويقول المفسرون إن الدافع لهذه الرحلة :

+ الفرحة مع أليصابات التي أعلنها الملاك بحبها .

+ خدمة أليصابات في شهور حملها الأخيرة وولادتها .

ولكن بلا شك ، كان الدافع الأعظم هو الكرازة بالمسيا التي بدأت تحمله في أحشائها . كانت العذراء مدفوعة للمضى بالأخبار المفرحة التي تحملها . ربما جال في ذهنها وهى ذاهبة إلى أقربائها الذين كانوا بدورهم ” فقراء يهوه ” لتبشرهم صاعدة إلى جبال اليهودية بنبوة إشعياء النبى : ” ما أجمل على الجبال قدمى المبشر بالسلام ، المبشر بالخير المخبر بالخلاص ، القائل لصهيون قد ملك إلهك ” (إش ٥٢ : ٧) . أليست القديسة مريم بهذا ، هي أول كارزة بإنجيل التجسد والفداء ؟ إنها تحمل الأخبار السارة بسرعة إلى زكريا وأليصابات ، أخبار مجيء المسيا الذى سيعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ، والذى سيملك على بيت يعقوب إلى الأبد (لو ١ : ٣٢ ، ٣٣) .

هذه السرعة ، وهذا الفرح الذى للقديسة مريم ، يرسم أمامنا صورة نابضة حية لكرازة الرسل ، وإرسالية الكنيسة ، فرغبة الكنيسة الوحيدة ، وقمة فرحها هي في أن تنقل إلى كل البشر خلاص الله المعلن وتقول لهم : الرب قد ملك . إنها تؤدى هذا الدور بقوة الروح القدس الحال عليها ، وبقوة كلمة الله التي تنطقها ، وبقوة جسد المسيح ودمه اللذين تحملهما في أعماقها . إن منظر دخول السيدة العذراء بيت زكريا الكاهن ، كان نوعاً من ” الإبيفانيا ” أو الظهور الإلهى .

وصوت العذراء في آذان أليصابات كان كصوت آت من عند الله ، صوت يملأها من روح الله القدوس !! أصابها بالدهشة والذهول ، وحرك الجنيين بالابتهاج في بطنها . لقد تحققت نبوة ملاخى النبى : “ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها . فتخرجون وتنشأون كعجول الصيرة ” (ملا ٤ : ٣) .

يوحنا المعمدان ، ابتهج بقدوم السيدة العذراء الحاملة للرب يسوع شمس البر ، فأرتكض في بطن أمه . تماماً كمثل داود الذى رقص بكل قوته بابتهاج أمام تابوت العهد حين دخوله أورشليم (٢ صم ٦ : ١٦) . كذلك قدوم مريم أحدث عند أليصابات نوعاً من الفرح الطافح بتحقيق الوعد بمجئ المسيا . وامتلأت أليصابات من الروح القدس .

إنها حقيقة التجسد التي تأكدت في مجمع أفسس سنة ٤٣١م حين أعلن المجمع برئاسة البابا كيرلس الأسكندرى استحقاق العذراء مريم للقب ” ثيئوطوكوس ” أي والدة الإله .

الكنيسة أيضاً التي تحمل كلمة الله في داخلها ، تبث الروح القدس في كل من يسمعها ويقبل إليها .. إنه تحمل للعالم رسالة السلام والفرح . والتحية التي تقولها الكنيسة لكل من تقابله : الرب معك !! هذه هي كل كرازتها ، أنها تأخذ من ينابيع كلمة الحياة المتفجرة في أعماقها وتروى بغنى القريبين والبعيدين . إنها تنشر البشارة المفرحة المعلنة في الإنجيل ، وتتعمق في غنى أسرارها وتقاليدها كى يتصور المسيح في بنيها .. صوت الكنيسة هو صوت الله : الذى يسمع منكم يسمع منى (لو ١٠ : ١٦) .

خلق الله الإنسان الطبيعى ، واعطاه من كيانه نسمة حياة … وتظل نسمة الحياة الإلهية كامنة في الإنسان حتى يسمع صوت الكنيسة الذى هو صوت الله . فتستيقظ في قلبه حركات الإيمان ، ويهتز ويرتعش في الداخل بابتهاج مثل يوحنا السابق في بطن أليصابات ، واضعاً أمله كله في ذلك الصوت الذى سيقدسه . وكما امتلأت أليصابات من الروح القدس في نفوس البشر بالأسرار والكلمة ، وهى واثقة مع النبى أن كلمة الله لابد أن لها تأثير في النفوس : لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان إلى هناك بل يرويان الأرض ويجعلانها تلد وتنبت وتعطى زرعاً للزارع ، وخبزاً للآكل ، هكذا تكون كلمتى التي تخرج من فمى ، لا ترجع إلى فارغة بل تعمل ما سررت به وتنجح فيما أرسلتها له (إش ٥٥ : ١٠ ، ١١) . ففرحةًالنفس بقبولها المسيح ( المخلص ) ، وامتلاءها من الروح القدس يجعلها تتهلل مع أليصابات بخلاصها من العقم والذبول الذى كانت تعانى منه فتلبس رداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة : ترنمى أيتها العاقر التي لم تلد ، أشيدى بالترنم أيتها التي لم تتمخض لأن بنى المستوحشة أكثر من بنى ذات البعل قال الرب (إش ٥٤ : ١) .

القديسة مريم تمثل الكنيسة الكارزة … وأليصابات ويوحنا المعمدان يمثلان النفوس التي تلاقت مع الله في الكنيسة … ففرحت وتهللت ، ونطقت بالتسابيح . لأن الروح القدس الذى ملأ أليصابات جعلها تنطق وتقول : مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك !!!

البركة ، بحسب المفهوم الإنجيلى ، هي عمل النعمة الإلهية في الإنسان : فالقديسة مريم مباركة ” ايفلوغيمين ” لأنها تدخل في التدابير الخلاصية لله نحو البشر ، وربنا يسوع المسيح هو المبارك ” ايفلوعيمينوس ” . في يوم أحد الزعف ، استقبلت الجماهير ربنا يسوع المسيح ، وحيته ، وهتفت له بأنه الملك المسيا الآتي باسم الرب :

+ مبارك ( ايفلوغيمينوس ) الآتى باسم الرب (مت ٢١ : ٩) .

+ مبارك الملك الآتى باسم الرب (مر ١١ : ١٠) .

+ مبارك الملكوت الآتى من داود أبينا (لو ١٩ : ٣٨) .

+ مبارك الآتى باسم ملك إسرائيل (يو ١٢ : ١٣) .

هذه التحية المملوءة مجداً ، قد أوضح الرب يسوع أنها ستستخدم في مجيئه الثانى في نهاية الأزمنة : لأنى أقول لكم أنكم لا تروننى حتى تقولوا مبارك الآتى باسم الرب (متى ٢٣ : ٣٩) . من الضرورى هنا أن نذكر أن لقب ” المبارك ” كان يستعمل عند اليهود للتعبير عن الله الذى لا يجرؤون أن يلفظوا باسمه : يهوه . لهذا يبدأ زكريا تسبحته باستخدام هذا اللقب الذى يعبر عن اسم الله مباشرة ، والذى هو بداية ونهاية وموضوع التسبيح : مبارك هو الرب إله إسرائيل .. (لو ١ : ٦٨) .

أثنا محاكمة يسوعر، يسأله رئيس الكهنة: هل أنت المسيح ابن المبارك ؟ (مر ١٤ : ١٦) ويشير القديس بولس مرات عديدة في أجزاء كثيرة من رسالة أفسس عن الله : الخالق الذى هو مبارك إلى الأبد أمين (رو ١ : ٢٥ ، ٩ : ٥ ، ٢ كو ١ : ٣ ، ١١ : ٣١ ، أف ١ : ٣ أنظر أيضاً ١ بط ١ : ٣) .

في مباركة ملكى صادق لإبراهيم : مبارك أبرآم ومبارك الله العلى … (تك ١٤ : ١٩ – الخ ) .

تكوين ١٤ : ١٩ – ٢٠               يهوديت ١٣ : ١٨                            لوقا ١ : ٤٢

مبارك ابرآم                             مباركة أنت يا ابنة                    مباركة أنت يامريم

( ايفلوغيمينوس )                ( ايفلوجيتيه )                             ( ايفلوغيمينى )

من الله العلى مللك السموات      من الرب الإله العلى                     في النساء

والأرض                           فوق جميع نساء الأرض

ومبارك ( ايفلوغيمينوس )

ومبارك ( افلوجيتية ) الله         الرب الذى خلق السماء

العلى الذى أسلم اعداءك           والأرض الذى جعلك                  ومباركة ( ايفلوغيمينوس )

في يدك                             تقطعين رأس قائد اعدائك                   هي ثمرة بطنك .

وأيضاً في سفر يهوديت نجد بركة متأثرة إلى حد ما ببركة ملكي صادق لإبراهيم ، ولنترك التوازى بين هذه البركات الثلاثة يتكلم عن نفسه . فبركة القديس مريم ، كبركة يهوديت ، وكبركة إبراهيم … كما أن ثمرة بطن السيدة العذراء تبارك الرب الإله ، وكالعلى خالق السموات والأرض .

لقد اشتهرت القديسة مريم بكونها مباركة أنها تفوق الجميع بركة . لا يوجد قبلها من نال ما نالته ، ولا أحد في أي وقت يقدر أن يختبر عمل النعمة الغامر بمثل هذه الصورة المفرحة المذهلة. إنها العذراء مريم أم المسيا ، هي التي نالت أكمل نعمة وأبهجها من الله .

القديسة مريم والدة الإله :

إن نص قرار مجمع أفسس وروحه ، بتلقيب العذراء مريم ” ثيئوطوكوس ” أي والدة الإله ، بين أنها لم تكن مجرد أداة ملغية الشخصية ، ومسلوبه الإرادة . إنها مباركة في النساء كما هتفت أليصابات . لقد حملت الناسوت واللاهوت أيضاً . حملة الله الكلمة ذا الطبيعة الواحدة .

لذلك فلقبها ” والدة الإله ” يعطى كل مفهوم الوحدانية بين اللاهوت والناسوت بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير … بهذا شهدت أليصابات أيضاً بالروح القدس إذ قالت للقديسة مريم : فمن أين لى هذا أن تأتى أم ربى إلى ؟ ونفس كلمة رب ” كيريوس ” هي التي استعملتها بعد ذلك بقليل : طوبى للتى آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب . لذلك فلا مجال للمجادلة بأنها لم تكن تقصد حين قالت أم ربى أنها لم تكن تعنى أم الله .. لقد شهد الروح القدس بفم أليصابات من قبل أن يعقد مجمع أفسس بأكثر من ٤٠٠ سنة بأن القديسة مريم هي والدة الإله .

أيضاً من قول داود النبى في مزموره الذى استخدمه ربنا بسوع المسيح على نفسه وهو : قال الرب ( يهوه ) لربى ( أدوناى ) أجلس عن يمينى حتى أجعل أعداءك موطناً لقدميك (مز ١١٠ : ١ ، مت ٢٢ : ٤٤) . إن إعطاء مريم لقب ” والدة الإله ” في مجمع أفسس ، لم بكن لأجل تعظيمها هي شخصياً ، ولكن لكى نفهم بوضوح الطبيعة الواحدة الكائنة في ربنا يسوع المسيح … إن القديسة مريم لم تزل هي عبدة الرب ، ولكن لقبها ” بالثيئوطوكوس ” يعطى مفهوماً لحقيقة التجسد .. والكلمة صار جسداً . وأعتقد أنه من اللازم هنا إعطاء الخلفية التاريخية لمجمع أفسسس المقدس: نسطور الذى تثقف في مدرسة الرها بإنطاكية ، عُين سنة ٤٢٨م أسقفاً على القسطنطينية ، ونشر تعاليمه بأن القديسة مريم هي والدة المسيح وليست والدة الإله وتحمس لهذا التعليم كاهن عنده أسمه أنسطاسيوس فقال أن العذراء ولدت إنساناً : ثم اتحد الأقنوم الثانى بهذا الإنسان وقت المعمودية في نهر الأردن . وهذه الهرطقة خطيرة جداً .

+ لأنها تنفى حقيقة التجسد .

+ تقلل من قيمة عطية الفداء المجانية .

+ وتفصل الطبيعة الواحدة إلى طبيعتين في ربنا يسوع المسيح .

بعدما استشرى وباء هذه الهرطقة أصبح البابا كيرلس الأسكندرى هو مركز رد الفعل ضد نسطور ومدرسته … فانعقد مجمع أفسس سنة ٤٣١ م برئاسة البابا كيرلس عمود الدين ، واعترف المجمع برسالة كتبها البابا قال فيها : ” رغم أن الطبيعتين متباينتان ، إلا أنهما في شخص المسيح متحدتان وحدة حقيقية . لقد كان المسيح مسيحاً واحداً ، وابناً واحداً ، ليس أن الوحدة أبطلت التمايز بين هاتين الطبيعتين ولكن لأن الألوهية والبشرية قد كونتا وحدة واحدة متلاقية بسر لا يعبر عنه . رب واحد فقط ، المسيح ، الابن … المولود من العذراء ليس إنساناً عاديًا حل عليه اللوغوس فيما بعد ، كلا ، ولكننا نقول إنه من البطن اتخذ جسداً من العذراء مريم وقبل ميلاداً جسدياً كالتدبير ” . هكذا لم يتردد آباؤنا القديسون أن يلقبوا العذراء القديسة ” بوالدة الإله ” . وبعد ذلك قُرئ اثنا عشر حرماً ، وضعهم البابا كيرلس أمام المجمع . الحرم الأول يحدد حقيقة التجسد ، وتلقيب القديسة مريم ” ثيئوطوكوس ” .

– كل من لا يعرف أن عمانوئيل هو إله حقيقى ، ولهذا تلقب القديسة مريم ب ” والدة الإله ” ( لأنها ولدت كلمة الله  الذى صار جسداً ) فليكن محرومًا .

+ حقاً ، إن القول بأن القديسة مريم والدة الإله ، كان في الكنيسة من البداية ، ولم يأت مجمع أفسس بجديد سوى تثبيت وتحديد وإشهار ما كان كائناً . فالفكرة واضحة من آيات الكتاب المقدس: الملاك غبريال يبشر العذراء بأن المولود منها ابن العلى يدعى . وأليصابات تقول : من أين لى هذا أن تأتى أم ربى إلى . والملائكة ليلة عيد الميلاد تبشر الرعاة  : إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب . وعلى هذا النمط يقول القديس بولس : الله أرسل ابنه مولوداً من امرأة (غل ٤ : ٤) .

+ نسطور الهرطوقى ، فصل فصلاً كاملاً بين طبيعتي السيد المسيح : أي الألوهية والبشريه . وجعل الألوهية مجرد نزيل في جسد . فإن لم يكن ربنا يسوع المسيح طبيعة واحدة ، فلماذا قال بولس : إن اليهود صلبوا رب المجد ؟ (١كو ٢ : ٨) . لذلك نعترف أن العذراء مريم هي أم الإله ، وأن الذى حملته هو إله وقبل كل شيء الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد (رو ٩ : ٥) .

القديسة مريم والتجسد :

لكى ندرك أبعاد سر التجسد الإلهى ، علينا أن نتأمل في وضع أمومة العذراء مريم ، ومقدار عظمة هذه الأمومة الإلهية : إنها المرأة التي تعلو فوق السماء والأرض ، لها قلب بلغ به الاتضاع أن تعمل كخادمة في بيت أليصابات ! كان من اللائق أن تعد لها عربة خاصة من ذهب تجرها الأحصنة الفخمة ، وينادى أمامها : ” هنا تمر المرأة التي ارتفعت فوق كل نساء العالمين ، بل وفوق الجنس البشرى كله ” ولكنها قامت برحلتها سيراً على الأقدام مسافة ٢٠ ميلاً وهى تعي تماماً أنها والدة الإله. وحينما سمعت العذراء مريم مديح أليصابات لها بأنها آمنت بما قيل لها من قبل الرب وبأنها قد صارت والدة الإله لم يملأها ذلك كبراً وخيلاء ، بل زادت اتضاعاً بالأكثر …

يا والدة الإله ، ليس من بين النساء من هي أعظم منك ، ولا حتى تعادلك . أنت أفضل من ملكة أو إمبراطورة ، أنت أجلّ من حواء أو سارة . مباركة أنت فوق كل النبلاء والحكماء والقديسين .

الوضع البشرى العادى لأمومة القديسة مريم ، وطفولة يسوع يبرز عنصراً أساسياً في حقيقة التجسد : لقد كان تجسد الله تجسداً تاماً في جسد بشرى مثل جسدنا البشرى تماماً وكانت له أم حقيقية ، وكان هو ابناً بشرياً حقيقياً وسط أسرة بشرية . يمكننا أن نتصور مدى الفرح الذى كان يملأ قلب العذراء وهى تربى هذا الابن الإلهى . ترى ما هي الأسئلة التي خطرت على ذهنها وهى تواجه كأم حضرة الابن الوحيد الجنس ؟ كم أعجبت به ! وكم رغبت أن تتعبد له !! هذه الرابطة الوثيقة بين الله وأمه القديسة مريم ، هي التي مكنتها من أن تتقدم أكثر فأكثر في حياة فريدة في نوعها ، كلها إيمان ، وكلها حنان ، وكلها حب .

أن تحمل ابن الله بين ذراعيها وتعيش وتأكل معه وتستمتع برفقته سنيناً كثيرة . كل هذا لا يمكن إلا أن يترك آثاراً عميقة في حياتها .. ومن ناحية أخرى ، لقد نما الطفل يسوع قليلاً كشبه البشر ، وكان يلزمه أن ينشأ ويتعلم مثلنا .. ففي حادثة ذهاب الصبى يسوع مع يوسف ومريم إلى أورشليم في عيد الفصح ، نرى المسيح موضوعاً تحت رعايتهما الأبوية ، وقد كان لمريم أن تؤنبه على غيابه !! ولكن رده على أمه : ينبغي أن أكون فيما لأبى ، ويعكس تمامًا المهمة الفائقة التي جاء ليكملها . أما أبواه فلم يفهما أهمية إجابته (لو ٢ : ٤١ – ٥٠) الأمر الذى يؤكد لنا عدم تعودهما على أمور خارقة تحدث من طفلهما …

لقد عاش الإله المتجسد طفلاً عادياً جداً خاضعاً لكل النواميس الطبيعية في النمو . فالكتاب المقدس يخبرنا : ” وكان الصبى ينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة ، وكانت نعمة الله مستقرة عليه ” (لو ٢ : ٤٠) . هذه الآية تبين الطبيعة الإلهية التي كانت في المسيح وهى تنكشف أمام البشر قليلاً قليلاً وتتضح في تدرج غاية في الإحكام .

لقد عاشت القديسة مريم مع الطفل يسوع كطفل عادى وليس كطفل معجزة يُظهر نفسه باستمرار كإله .. لذلك عاشت الإيمان فقط في مواعيد الله : الثقه بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى (عب ١١ : ١) . وبأستثناء معجزة حبلها بالمسيح وولادتها له ، عاشت مريم مع طفلها حياة عادية . مؤمنة فقط أنه في يوم ما سيستعلن ابنها أنه الملك المسيا لذلك كانت تتفكر بكل الأمور ، متأملة فيها في قلبها . لو كان الطفل يسوع يعلن عن طبيعته الإلهية باستمرار في طفولته ، لما كان لمريم احتياج لحياة الإيمان التي عاشتها وما كانت تتعجب من إجابة ابنها وهو في الثانية عشر من عمره : لماذا كنتما تطلبانى ؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبى ؟ (لو ٢ :٤٩) .

لقد كانت القديسة مريم تعرف أن ابنها يسوع هو القدوس ابن الله … ولكنها كانت تعرف أيضا أنه يجب عليها أن تعيش على رجاء الإيمان حتى تحين ساعة البدء في مهمته الفائقة كالمسيا المنتظر . كانت تعتبره – حتى وهو في سن الثانية عشر – مازال محتاجاً إلى أمومتها البشرية ، ولم تكن تستعجل وقت الكلمة كما فعلت في عرس قانا الجليل بعد ذلك . لقد طاب لها أن تعيش حياة الإيمان ، وليس التصديق بالعيان .

بعد هذه الأحداث التي جرت في هيكل أورشليم : نزل ( يسوع) معهما ( مريم ويوسف ) وجاء إلى الناصرة ، وكان خاضعاً لهما وكانت أمه تحفط جميع هذه الأمور في قلبها . أما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس (لو ٢ : ٥١ – ٥٢) . هذه الرحلة الفصحية تمثل نقطة تحول . فلقد كشف علاقة ربنا يسوع : بالهيكل ، وبكلمة الله ، وبأبيه السماوى … لقد استيقظت رسالته المسيانية لأول مرة ، وبدأ قلب القديسة مريم يتفكر فيما استجد من أمور . فبشارة معلمنا لوقا تذكر في موضعين أن الصبى كان ينمو في النعمة والقامة والحكمة كشركة سرية مع الآب بل وأمام الناس أيضًا  ١ – (لو ٢ : ٤٠) ،  ٢ – (لو ٢ : ٥٢) .

ومعهما يذكر مرتين أيضًا أن القديسة مريم كانت تحفظ كل هذه الأمور متفكرة بها في قلبها  ١ – (لو ٢ : ١٩) ، ٢ – (لو ٢ : ٥١) .

فيبدوا أنه مع مرور الزمن ، بدأت نعمة يسوع وحكمته تستعلن لا سيما للقديسة مريم . وقد اتضحت لها الكلمة التي سمعتها بأنها أم الله بالحقيقة ، أم المخلص ، أم الملك المسيا . تلك الكلمات التي سمعتها من الرب في البشارة ومن أليصابات في الزيارة ومن سمعان الشيخ وحنه النبية حين الدخول إلى الهيكل ، قد بدأت تتحقق فعلاً . على أية حال ، استمر يسوع خاضعاً لأبويه ، وأخضع نفسه بإرادته لأمومة العذراء ولحماية يوسف البار … إرادة الخضوع هذه ، تكشف بوضوح عن الحقيقة البشرية للتجسد . كم تعلمت القديسة مريم عن الاتضاع ، وهى ترى ربها مسلماً نفسه لسلطانها كأم ! يمكن للإنسان هنا أن يتخيل المعاملات المتبادلة بين أم وابن في متطلبات السلطة والطاعة  : بين النظرة المستقبلية بأنه المسيا والواقع الحالي . لقد عاشت القديسة مريم مع إله هو ابنها ، وخضع الرب يسوع للقديسة مريم التي هي أمه ، والذى هو خالقها ومخلصها !!

إن إعطاء القديسة مريم لقب ” والدة الإله ” هو طريق التعبير الوحيد الذى يتوافق مع متطلبات سر التجسد حينما صار الله إنساناً[14].

أيضاً للراهب ماكس توريان

( من كتاب العذراء مثال الكنيسة ترجمة الراهب ويصا السرياني ” المتنيح الأنبا إيساك الأسقف العام ” )

مريم دائمة البتولية

النصوص الواضحة في الكتاب المقدس (مت ١ : ١٨ – ٢٥ ، لو ١ : ٢٧ و ٣٤ – ٣٥ ، يو ١ : ١٣) تجبر كل مسيحى مخلص أن يؤمن ويعترف ببتولية العذراء مريم . إنها حقيقة متجذرة في القليد الكنسى ، واضحة كل الوضوح في العهد الجديد … لقد أعطى القديس لوقا في تقريره عن حادثة البشارة لقب ” عذراء ” للقديسة مريم  . ونريد الآن أن نتأمل في قوة هذا اللقب ومعناه . نلاحظ أولاً وقبل كل شيء أن لقب العذراء في العهد القديم كان لقب احتقار .

ابنة يفتاح الجلعادى تنوح وتبكى على عذراويتها (قض ١١ : ٣٨) إنها تنوح لأنها ستموت قبل معرفة حالة الأمومة ، ومولد المسيا الذى سيخلصها إلى الأبد . ولكن من ناحية أخرى أخرى ، القديسة مريم في حادثة البشارة ، وهى عذراء ، أخذت الوعد بأنها ستكون أماً لمسيح الرب ، وهذا ما تتوقعة ابنة صهيون من زمن طويل .

هذه الأمومة ستكون بطريقة لم تخطر على بال ، وغير معروف من قبل . إن بتوليه ابنه صهيون لم تعد مصدراً للخزى والعار الآن ، بل هي فخرها وتسبيحها لأنها ستكون خصبة ، وستلد ابن الله  ،  البتولية  – رغم كونها محتقرة من اليهود – إلا أنها كانت موضع توقير واحترام منهم إن كانت تبتلاً من أجل الله ، وقصدها الانشغال بالأمور الإلهية (لا ٢١ : ٧ ، ١٣) ، (حز ٤٤ : ٢٢) . فالبتولية صفة تصوفية هدفها الاقتراب إلى الله وعدم الانشغال بأي شيء سواه ..

يبدو أن هناك علاقة ما بين الاقتراب إلى الله وحالة البتولية .

فهناك تقليد يؤكد أن موسى النبى ، الذى من لحم ودم كان قد اعتزل امرأته صفورة منذ يوم رؤيته للعليقة المشتعلة … حتى أن صفورة حينما سمعت أن الروح حل على ألداد ميداد (عد ١١ : ٢٦) صرخت قائلة : ” يا لحزن زوجتى هذبن الرجلين !! ” لأن مفهومها عن الاقتراب من الله – بحسب ظروفها هي – أن هذا الاقتراب ينتج عنه ترك حالة الزواج لبض الوقت .

ومن رسالة معلنا بولس الرسول إلى أهل غلاطية ، يمكننا أن نفهم أن إسماعيل وُلد حسب الجسد ، أما إسحق فقد حُبل به بطريقة معجزية : ” لكن الذى من الجارية ؤلد حسب الجسد ، وأما الذى من الحرة فبالموعد ” (غل ٤ : ٣٣) . وأب الآباء إبراهيم كان في أرض الموعد مشغولاً بالله ، حتى أنه لم يدرك أن زوجته سارة امرأة جميلة إلا عند اقترابه من مصر : ” وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراى امرأته إنى قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر ” (تك ١٢ : ١١) .

إن انشغاله بالله في أرض الموعد ، واهتمامه ببناء مذابح له ، والدعاء باسمه لم يترك له فرصة أن يتعرف على امرأته . وسارة أم أسحق ، يتحدث إشعياء النبى عنها قائلًا : ” افرحى أيتها العاقر التي لم تلد ، اهتفى واصرخى أيتها التي لم تتمخض ، فإن أولاد الموحشة أكثر من التي لها زوج ” (إش ٥٤ : ١) ، ونبوة إشعياء هذه تُفسر أيضاً على الكنيسة . فوقت ولادة ربنا يسوع المسيح له المجد ، كانت تملأ الأذهان هذه الفكرة عينها : أن اقترب أبطال الإيمان إلى الله يعنى تبتلهم . وقد أكدت بشارتا متى واوقا هذه الفكرة ، وقد أعطتا لبتولية القديسة مريم ملء مغزاها الروحى .

لم تكن بتوليه العذراء القديسة مريم ، التي ولدت مخلصنا الصالح ، موضع خزى وعار ، لأنها صارت خصبة بعمل الروح ، بل إن بتوليتها هي علاقة التقارب بينها وبين الله. القديسة مريم تقع على نفس الخط المُمتد من سارة التي ولدت إسحق بحسب الروح ، ومن موسى الذى انفصل عن صفورة بناء على دعوة الله … لقد أكد ربنا يسوع المسيح في تعاليمه هذه العلاقة القائمة بين التبتل والحياة الملائكية ، حينما أجاب على سؤال الصدوقيين بخصوص المرأة التي تزوجت من سبعة رجال إخوة فقال : ” أما بنو هذا الدهر فيتزوجون ويتزوجن فأما الذين استحقوا ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يتزوجون ولا يتزوجن لأنهم لا يستطيعون أن يموتوا أيضاً لأنهم مثل الملائكة ، وهم بنو الله ، إذ هم أبناء القيامة ” (لو ٢٠ : ٣٤ – ٣٦) .

ومن العجيب أن نلاحظ أن هذه الإجابة السرائرية يتبعها إشارة إلى العلية المشتعلة ، حينما كلم الرب موسى من وسط العليقة مؤكداً له حقيقة القيامة من الأموات !! ألم يكن في ذهن ربنا يسوع المسيح هذه العلاقة السرائرية بين رؤية موسى للعليقة المشتعلة ، وانفصاله عن زوجته ، والقيامة من الأموات ؟

على أية حال نحن لا نريد أن نضغط بشدة على الإحساس بهذه العلاقة … على نفس المستوى يمكننا تفسير قول ربنا يسوع المسيح لتلميذه بطرس الرسول : ” الحق أقول لكم ليس أحد ترك بيتاً أو والدين أو اخوة أو أمرأة أو أولاداً من أجل ملكوت الله إلا ويأخذ في هذا الزمان أضعافاً كثيرة ، وفى الدهر الآتى الحياة الأبدية ” (لو ١٨ : ٢٩ ، ٣٠ ، مت ١٩ : ٢٧ – ٢٩ ، مر ١٠ : ٢٨ – ٣٠) . فالدعوة لتبعية المسيح تستلزم الانفصال والترك التام لأمور الزواج من أجل ملكوت الله وهذا الترك هو الذى يستحق مئة ضعف في هذا العالم وفى الدهر الآتى الحياة الأبدية .

إن ملكوت المسيح ، على علاقة وطيدة بالتبتل وترك الزواج . فالبتولية والعفة من أجل الله أصبحنا سمة العالم الجديد وبدء الخياة فيه من الآن . لم يعد نظام التناسل الطبيعى نظاماً نهائيًا غير قابل للتغير ، فقد انتشر على الأرض نظام جديد نادى به ربنا يسوع المسيح . نظام مغاير لكل ما هو متفق عليه من جهة الزواج والتناسل !! نظام ربنا يسوع المسيح الجديد هو نظام يفتح أمامنا سراً للحياة الأبدية حيث تتلألأ أمامنا الحياة الملائكية.

هنا تتأكد العلاقة بين البتولية والعفة من ناحية ، وبين حياة الاقتراب والألفة مع الله من الناحية الآخرى . بالمثل نجد في سفر الرؤيا تلميحاً عن البتولية كرمز لشركة فريدة مع الله ، حيث يتحدث عن المائة والأربعة والأربعون ألف البتوليين قائلاً : ” هولاء هم الذين لم يتنجسوا مع النساء لأنهم أطهار . هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب. هؤلاء اشتروا من بين الناس باكورة لله والخروف وفى أفواههم لم يوجد غش لأنهم بلا عيب قدام عرش الله ” (رؤ ١٤ : ٤ ، ٥) .

إنهم جماعة المفديين ، أخصاء الحمل ، الذين رفضوا كل مظاهر غاشة . الشهوة هي غش . إنها الصنمية. إنها تقديم العبادة لآلهة كاذبة . جماعة المفديين هم ابكار ، تقدسوا باسم المسيح ، وينسبون إليه وحده إنهم في ألفة مع الحمل ، أي المسيح المُمجد . وهم متحدون به لحياة أبدية .

هذا النص الرائع أوضح لنا مرة أخرى العلاقة بين التبتل والاقتراب إلى الحمل . إن البتولية علامة الاستعداد لتقبل إرادة اللة ، وسمة الاتحاد بالحمل والتكريس الكامل هو الكل في الكل . القديسه مريم كعذراء – كما لقبها القديس ) لوقا – قد تعمقت جداً في الشركة مع الله حتى أنه قد ائتمنها على تدبير تجسدة .

لذلك نادها الملاك قائلاً : ” الرب معك ” . إن البشارة بالنسبة للعذراء مريم كانت مثل العليقة المشتعلة بالنسبة لموسى . فكما كانت رؤية العليقة المشتعلة بداية علاقة بين الله وشعبه ، هكذا البشارة كانت بداية عهد جديد . وبتولية القديسة مريم هي العلامة المعجزية التي يصير بها الكلمة جسداً ويحل بيننا …

حينما نخلط بين معانى القداسة والبتولية ، لا ندرك على وجه التحديد كل ما يحويه لقب العذراء من معان . إن مريم لم تكن عذراء لأنها قديسة كما أنها لم تكن قديسة لأنها عذراء .

نريد أن ننظر إلى بتولية مريم وقداستها كنتيجتين منفصيلتين لامتلائها بالنعمة  . النعمة هي التي أوجدت عندها القداسة ، والنعمة هي التي جعلتها على علاقة فريدة مع الله ، ولا يشغل بالها أحد سواه . النعمة هي التي وهبتها البتولية كعلامة شبعها بحب الله وحده .

إن مريم تعيش قديسة في بتوليتها ، ونلقبها دائماً ب ” العذراء القديسة ” ، ولكن ينبغي أن نفصل بين فضيلة البتولية ، وفضيلة القداسة حتى نفهم كل الغنى في معنى كل منهما .

بتولية مريم أعطتها أيضاً صفة ” التكريس ” ، لقد اعتزلت لكى تكون قريبة من الله مستجيبة لعمل روحه القدوس لقد عاشت في وحدة ، كى توطد علاقتها بالواحد . إنها عذراء مقدسة ومفرزة لمهمة إلهية : الروح القدس يحل عليها وقوة العلى تظللها . سحابة النور ستكتنفها ، وستدخل إلى الغمام الإلهى كما كان موسى على جبل سيناء (خر ٢٤) عمود سحاب الحضرة الإلهية سيحل عليها كما كان في خيمة الأجتماع في الصحراء (خر ٤٠ : ٣٤ الخ) ، سحابة الصوت الإلهى ستظللها ، كما ظللت المسيح وتلميذيه مع موسى وإيليا على جبل التجلى (لو ٩ : ٣٤) . إنها مكان سكنى الله ، وهى التي ستقبل الله نفسه متجسدًا في أحشائها . إنها المكان الذى سيملأه مجد الله (خر ٤٠ : ٣٥) .

هذه الحادثة الفريدة مفرزة مكرسة لله ، وسمة تكريسها هي بتوليتها . القديسة مريم – رغم كونها مخلوقة بشرية – إلا أنها مباركة في النساء . أنها تحتل مكاناً خاصاً في خطة التدبير الإلهى . وبتوليتها هي علامة هذا السر العجيب : القديسة مريم أحبت الانفراد والوحدة كى تستقبل الله لأن ملء الرب سيسكن فيها . من الضرورى أن تفرغ نفسها من كل معونة بشرية وتعيش كعذراء فقيرة مسكينة حتى تنال هذا الملء الإلهى الصرف .

والبترولية هي علامة التفرغ والثقة الكلية في الله وهى أيضاً دعوة للتأمل : ” قوة العلى تظللك … ” ، فالعذراء تحول أفكارها عن البشر ، متوقعة كل شيء من الله . بتولية مريم هو غياب الحب البشرى . ( باللغة اليونانية إيروس ) وهو ذلك نوع من الحب الذى جعله الله في الكون كضرورة لعملية إيجاد كائن جديد في الحياة .

الحب البشرى هو عاطفة إنسانية وقوة خلق ، وقد تحررت القديسة مريم من هذه العاطفة لكى يكون مجئ الن الله بفعل الآب السماوى . إن القديسة مريم عذراء لكى تبين لنا أن المسيح المولود منها هو من الله ، وليس ثمرة بشرية : ” إن ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل ، بل من الله ” (يو ١ : ١٣) . الله وحده في تابيره الأزلية ، سبق فاختار العذراء مريم كى يتجسد منها وتلد مخلص العالم . الكل من الله ، من الله وحده .

فبتولية مريم إذن ، هي علامة عجز الإنسان عن خلاص نفسه .

لأن الإنسان أخطى من أن ينجب ابناً كاملاً قادراً أن يخلصه . لذلك تجسد الله بذاته في بطن العذراء . القديسة مريم تعترف في تسبحتها أنها فتاة حقيرة في إسرائيل ، معتمدة على الرب في كل شيء : ” القدير … نظر إلى اتضاع أمته ” (لو ١ : ٤٨) ، إن بتوليتها هي علامة اتضاعها وانتظارها لله . علامة أنها مخلوقة مسكينة تعتمد في كل شيء على خالقها . فكل ما نالته كان آتياً من العلى . لم تكن في أي وقت من الأوقات مسرحاً لأى جهد بشرى . إن كل ما فيها هو من عمل النعمة . هو عطية مجانية خالصة آتية من محبة الله وحده .

لقد احتملت العذراء مريم شك خطيبها يوسف حين  ” أراد تخليتها سراً (مت ١ : ١٨ – ٢٥) ، قبل أن يطمئنه الملاك . واحتملت نظرات الريبة المتوقعة من أسرتها . وتقبلت كل هذا بمسكنة واتضاع خدمة لخالقها الذى أراد هذه البتولية فيها لمدح مجده . كى يتمم فيها عمل قوته لتدابير الفداء ، فيكون العمل عمله هو وحده إذ ينزل إلينا ليكون هو – عمانوئيل – الله معنا .

البتولية أيضاً تعطى البشر إمكانية حياة التأمل ، المخلوقات يتأملون في خالقهم . لم تعرف القديسة مريم حباً آخر غير حب الله ، كانت متحدة به ومتحولة بكل كيانها نحوه . إنها متأهبة لطاعته بأقصى يقظة. إنها وحيدة مع ذلك الحب الإلهى ، منفردة في ألفة مع الرب . كان عليها فقط ان تحبه في تأمل صافى ، وهذا هو فرحها وتعزيتها وانتظارها وسندها وحمايتها وبرها .

إن بتوليتها قد وضعتها في صميم حياة التأمل ، وفى سلام وانتظار الخالق الذى سيصير ابنها . القدوس الذى ستحبل به وتلده خلاصاً وفرحاً لكل العالم . بتولية السيدة العذراء وعزلتها جعلت قلبها يموج بالإلهيات … ولما لم تطق صمتها أمام أليصابات عبرت عن

إلهها الذى احبته بلقب ” القدير ” .

إن الحياة التأملية التي عاشتها مريم العذراء ، قد أهلتها أن تؤتمن على سر التجسد الإلهى العجيب ، كما أضفت عليها موهبة الحب الخالص للناس ، فشاركتهم في حالتهم المتواضعة .

أخيراً البتولية المكرسة تحمل في أعماقها الخليقة الجديدة ، والمناداة العملية باقتراب ملكوت الله في مواضع كثيرة من الكتاب المقدس ، تقترن البتولية والعفة والطهارة وترك الزواج بمجئ الملكوت والحياة فيه (مت ٢٩ : ١٢ ، مر ١٠ : ٢٩ ، لو ١٨ : ٢٩ ، ٣٥ ، ١كو ٧ : ٢٩) . نظام التناسل لم يعد ضروريًا وناموس الزواج يمكن كسره والاستعاضة عنه بناموس ملكوت المسيح . الاقتراب إلى الملكوت يعنى الابتعاد عن الزواج : ” من استطاع أن يقبل فليقبل ” (مت ١٩ : ١٢) لأنه في حياة الدهر الآتى : ” لا يُزوجون ولا يتزوجن ، ولكنهم يكونون كالملائكة في السماء ” (لو ٢٠ : ٣٤ – ٣٦ ، مر ١٢ : ٣٥ ، مت ٢٥ : ٣٠) . البتولية إذن هي علامة القيامة . الرهبان والراهبات هم وجود ملكوتى على الأرض ، في حين أن الزواج هو عمل قديم أثرى وسيضمحل .

في ملكوت الله ، سنكون في ملء الحب الإلهى ، حتى أن إنسان الملكوت لا يشعر بحاجة الاقتران مع البشر . إن الزواج في الملكوت عمل مستحيل لأنه يحد من طاقة الحب .

لذلك فالبتوليون هم علامة ملء الحب المتزايد الذى سنختبره في الملكوت . أيضاً التبتل يرتبط وثيقاً مباشراً بالقيامة من الأموات ، والحياة الأبدية وعدم الفساد. قد يرى البعض أن غاية الزواج هو إنجاب أطفال يعيشون بعد موت الآباء ، وبذلك تستمر الحياة . ولكن بالنسبة إلى قيامة الأموات يقول الكتاب : ” لا يستطيعون أن يموتوا لأنهم يكونون مثل الملائكة ، وسيكون أبناء الله إذ هم أبناء القيامة ” (لو ٢٠ : ٣٥) . فلا نحتاج هناك إذن إلى خلفاء لنا ، لأننا سوف لا نموت . وأيضاً في الملكوت سوف لا يكون سوى أب واحد ، هو الله وجميعنا نكون أبناء له ، نعيش حياة ملائكية .

فالتبتل في المسيحية هو انفتاح على حياة الدهر الآتى .

الإنسان الطبيعى لا يقبل البتولية ولا يطيقها ، لأنها تضعه وجهاً لوجه مع ملكوت الله . والحياة الرهبانية يواجهها جدل كثير ومناقشات حامية ، وعلى الرهبان أن يعطوا للناس صورة عملية عن ماهو عمق التأمل ، وما هو ملء الحب الإلهى الذى شغل كيانهم حتى أصبح الله بالنسبة لهم هو الكل في الكل .

والخلاصة : أن بتولية القديسة مريم قد أدخلت ملكوتاً جديداً إلى عالم يسود فيه ناموس الزواج . بتوليتها هي يمة تكريسها ، وسمة فقرها المدقع حيث لا تطلب الملء إلا من الله . وأيضاً سمة الملكوت الجديد الآتى ، الذى سيغير كل قوانين الخلق الطبيعى . والرهبنة في الكنيسة تبرز هذه السمات جميعاً بندورها التقليدية : طاعة ، فقر ، بتولية . إنها تكرس الطاعة ، وتتجرد للتأمل ، وتتبتل كى تتذوق ملكوت الدهر الآتى ، والحياة الجديدة فيه .

الراهب في الكنيسة يستجيب لنداء خاص متجذر في أعماقه ، وهو أن يصلب ذاته بمسامير نذوره الرهبانية … وسنركز هنا على نذر البتولية الطاهره .

إن دعوة الراهب لحياة التبتل ، هي في جوهرها دعوة لتكريسه وتفرغه لخدمة المسيح وخدمة القريب بصورة أكفأ مما لو كان متزوجاً . ولسنا هنا بصدد الجدل حول هل الزواج أدنى من البتولية أم العكس ، لأن الآباء قد قتلوا هذا الموضوع بحثاً . المتزوج المخلص لله أفضل من الراهب غير المخلص.

ولكن البتولية المكرسة لله ، أكبر في إمكانياتها من حيث خدمة الله بلا عائق . وبوضع القديسة مريم مثالاً في الكنيسة ، يستطيع الرهبان أن يعيشوا طاهرين في بتوليتهم . ناظرين إليها في ملء تكريسها الكلى لله ، وطاعتها الفورية لأوامره ، لكى تتقدس كل إمكانياتهم له كى يعمل فيهم وبهم .

+ إن التزام الراهب بحياة التبتل ، هي سمة مسكنة وإخلاء بشرى كى يألف حياه الوحدة مع الله في تأملات عميقة … لوعاش الراهب بدون صلوات عميقة ، سيكون في بؤس روحى ، لأن عزلته عن البشر هو نوع من العوز للامتلاء من الله . إنه بحسب المفهوم البشرى ، وحيد ، ولكنه في الواقع منفرد مع الله الذى يملأ الكل في الكل . لذلك ، فتشبع الراهب بحياة التأمل في الله تجعله قريباً جداً من جميع الناس ، وعنده إمكانيات جبارة للحب الأخوى .

حياة الراهب هي وحدة مع المسيح ، حوار طويل مع الله ، صلاة وتأمل ، عبادات ليتورجيةً ، وخدمة القداس اليومى . إن العوز والمسكنة الهائلة التي يحس بها البتول ، تدفعه أيضاً لخدمة المحبة والبذل لإخوته .

+ إن بتولية الراهب – كما قلنا – وجود ملكوتى على الأرض . لأنه يرسم أمامنا صورة الحياة الجديدة في ملكوت الدهر الآتى .

الراهب إنسان مجيئي يحيا في الأبدية وهو مازال على الأرض . إنه يعلن عن كيفية ملكوت الله الجديد حيث سينتهى الزواج من حياة البشر وتملأ محبة الله كل فراغ ، ويصبح الله هو الكل في الكل . العواطف البشرية ستضمحل ليحل محلها حب كونى أبدى . فالراهب ببتوليته يعلن التحول الذى سيجربه الله في العالم : ” ها أنا أصنع كل شيء جديداً ” (رؤ٢١ : ٥) ، وذلك بالانفصال الأكيد عن أمور الأرض ، كىًما تكون السيادة المُطلقة لملء الحياة في الله. إن الراهب هو رمز تلك الصرخة الخالدة : ” ماران آثا ” أو ” الرب آت ” … الكنيسة أيضًا كعروس للمسيح ، تعرف في إخلاصها له حالة التبتل الروحانى .

إنها للرب بكليتها ، ولا تعرف حباً آخر غير هذا الحب الخالص له ، ولكل البشر الذين مات من أجلهم : ” أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة ، واسلم نفسه من أجلها ، لكى يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة ، لكى يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك ، بل تكون مقدسة وبلا عيب ” (أف ٥ : ٢٥ – ٢٧) .

الكنيسة كالقديسة مريم ، تحيا متبتلة للمسيح  . مكرسة ، متأملة ، منتظرة للمجئ . وهى أيضًا مثل مريم التي من بيت عنيا  : ” التي جلست عند قدمى يسوع ، وكانت تسمع كلامة  ” (لو ١٠ : ٣٩) ، إنها لا تهتم أن يكون لها مظاهر القوة الدنيوية ، لأن قوتها الحقيقية كامنة في الملكوت الجديد الذى تحويه في أعماقها ، وهى متلهفة على استعلان مجد الملكوت : ” الروح وتلعروس يقولان تعال !! ” (رؤ ٢٢ : ١٧) .

يود تقليد قديم جداً في الكنيسة يؤكد دوام بتولية القديسة مريم وأنها ” العذراء كل حين ” .

أولاً : لأنها إنسانة مكرسة ، قد سلمت كل ما لها للرب وحده ، فتكريسها المستمر هو شهادة دوام بتوليتها .

ثانياً : لأنها إنسانة التأمل ، وكان الله هو شبعها ، ولا شيء بعد التجسد يمكن أن يشبعها . لقد أخذت من الله كل شيء ، ولا يمكن أن تشغل نفسها بأى شيء سوى أن تتأمل متعزية بعمل النعمة معها .

ثالثاً : أن انتظارها للملكوت الجديد الذى أخذت علامته وسمته فيها هي عملية دائمة ، وعلامة بتولية ثابتة لا تزول … من أجل ملكوت الله (مت ١٩ : ١٢) كما قال ربنا يسوع المسيح . لقد كانت فكرة التبتل لله سائدة في عصر القديسة مريم …

+ فالتقليد الذى قيل عن موسى ، جعل فكرة الطهارة الكاملة غير مستبعدة عن اليهودى ، رجلاً كان أو امرأة .

+ وحنة النبية التي ترملت بعد سبع سنين من زواجها ، ظلت ” لا تفارق الهيكل ، عابدة بأصوام وصلوات ” (لو ٢ : ٣٦ ، ٣٧) لمدة أربع وثمانون سنة .

+ وجماعة الأسينين الذين عاشوا متفرغين للعبادة في شبة أديرة وأنتشروا حول البحر الميت في الأردن ، أولئك تركوا الزواج من تلقاء أنفسهم .

حقاً إن آيات العهد الجديد لم تعالج موضوع البتولية للقديسة مريم بطريقة واضحة تعلو عن الشك . رغم أن بعض المفسرين قدروا أن يستنتجوا قرار القديسة مريم ببقائها عذراء من قولها للملاك : ” كيف يكون لى هذا وأنا لست أعرف رجلاً ” (لو ١ : ٣٤) . وحتى إن لم يكن لدينا آيات كتابية قاطعة ، فعلى الأقل يوجد توافق معقول بين كل الآيات وبين تعليم البتولية الدائمة للقديسة مريم . ولا نقدر أن نعتبر الآيات التي تتحدث عن إخوة وأخوات ليسوع (مت ١٢ : ٤٦ ، ١٣: ٥٥) تناقض هذه العقيدة لأنهم ربما كانوا أبناء ليوسف النجار من زواج سابق .

أو هم أقارب ليسوع كأبناء العم أو الخال أو العمة أو الخالة ، ويطلق عليهم إخوته كنوع من المرونة في وصف الأقارب عند اليهود. ودراسة هذه الأسماء ، لا تقودنا إلى أي استنتاج يدعى أن هؤلاء كانوا إخوته فعلاً ، فالذين دُعوا إخوة يسوع (مت ١٣ : ٥٥) . يعقوب ويوسى ثبت أنهم أبناء مريم أخرى (مت ٢٧ : ٥٦ ، مر ١٥ : ٤٠) وليس أبناء مريم العذراء . لا يوجد أي إثبات يمكن أن يؤخذ من هذا النص ، نقدر أن نؤكد به أن القديسة مريم لها آخرين غير يسوع . لذلك فالتقليد الكنسى العام قد استقر منذ القديم على أن القديسة مريم دائمة البتولية … عذراء قبل الحبل والولادة ، وبقيت عذراء أيضًا في الولادة وبعدها[15] .

المتنيح القمص تادرس البراموسي

اليوم الثالث من شهر كيهك المبارك

مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك (لو ١: ٣٩-٥٦)

نري في حياة السيد المسيح له المجد عجباً وفي حياة أمه العـذراء سراً عجيباً لا يوصف من التضحيات والإتضاعات والمحبة الزائدة ما يجعلنا مضطرين أن نتشبه بهما نجد اليوم في إنجيـل القـداس قامت السيدة العذراء من بيت لحم . لتزور أليصـابات أم القديس يوحنا في الناصرة يقول الكتاب وفي تلك الأيام التي بشر فيها الملاك غبريال القديس العذراء مريم ذهبت إلى مدينة يهوذا القريبـة من أورشليم لترى القديسة أليصابات لتعرف حقيقة الأمر الذي كلمها به الملاك عن حبل أليصابات تلك العاقر ليس على سـبيل أنهـا لـم تصدق بل لتشترك مع أليصابات في فرحتها وفى نفس الوقت ترى بعينيها ما سمعت عنه ولتهنئها بما أعلمها به الملاك ذهبت العذراء الطاهرة بكل فرح وكل حب إلى أليصابات ودخلت بيـت زكريـا وسلمت على أليصابات . فلما سمعت أليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها وإمتلأت أليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك . من أين لي هذا أن تأتى أم ربي إلىّ . فهـوذا حين صار صوت سلامك في أذنى ارتكـض الجنـين بإبتهـاج فـى بطنـى (لو ١ : ٤٤) . سرور يوحنا في بطن أمه لم يكن من الطبيعة أو من النفس لأنه لم يكن في قدرته.لكن كان هذا من الروح القدس .

وكما أن الروح القدس أنار عقول التلاميذ في العلية هكذا فعل مع يوحنا في بطن أمه . وهذا كان تحقيق ما بشرت به ، يقول الكتاب وامتلأت اليصابات من الروح القدس (لو ١-٤١) . أي أنها اسـتنارت مـن الروح القدس ونطقت جهرا بما قاله الملاك سراً . فحل عليهـا النبوة وبواسطة الروح القدس فهمت ارتكاض الجنين وعرفـت أن القديسة مريم هي التي تلد المسيح فقالت بإلهام إلهي . مباركة أنـت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك .

هذه الجملـة قالهـا الملاك وكررتها اليصابات وصارت مريم مباركة لأن بها ارتفعت اللعنة التي شملتنا بسقوط حواء وقولها مباركة هي ثمرة بطنك . أي أبارك و أسبح وأمجد الرب يسوع الذي انت حبلى به وقولها من أين لى هذا ان تأتي أم ربي إلىّ احست اليصابات أن الذي حبلت به العذراء هو سيد الكل وسيد يوحنا ابنها أيضـاً . قالت اليصابات للعذراء انك قد نلت مقاماً من اسمي المقامات لأنك سـتليدين ابـن العلى وتكونين أما لله الكلمة . فطوبي للتي آمنت أن يتم ما قيل لهـا من قبل الرب . فآمنت بما بشرها به الملاك لما سمعت مريم كلام اليصابات تهللت بالروح وقالت تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصی (لو ١: ٤٦) .

هذه تسبيحة العذراء التي ترنمت بها أمام اليصابات وتكررها الكنيسة كثيرا على مدار السنة . ثم كملت هكذا قائلة لأنه نظر إلى اتضاع امته . فهـوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني . وهكذا صار أن جميـع الاجيـال تطول العذراء مريم لأنها استحقت التطويب وهـذا المـديح . لأن القدير قد صنع بی عجائب وإسمه قدوس .

مجدت السيدة العذراء الله لأنه قديراً ومجدته لأنه قدوسا لأنه ذا قداسة وطهارة وأنـه متنـزه عن الخطية . ظلم ولم يفتح فاه وقال عنه الكتاب ليس قدوسـاً مثـل الرب (١صم ٢ : ٢) وقولها ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقون صنع قوة بذراعيه شتت المستكبرين بفكر قلوبهم . انزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتواضعين . اشبع الجياع من الخيـرات وصـرف الأغنياء فارغين . وقد عضد اسرائيل فتاه ليذكر رحمته كما كلم ابينا ابراهيم ونسله إلى الأبد .

فمكثت السيدة العذراء عند اليصابات ثلاث شـهور حتـى ولـدت اليصابات وقامت بخدمتها ثم رجعت إلى بيتها . ما أعجب أعمال الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولايعر وقد بعدت أفكاره عـن أفكارنا وطرقه عن طرقنا . وكيف دبر خدمة اليصابات في وقت ولادتها[16].

القديس الأرشيدياكون حبيب جرجس

زيارة السيدة العذراء لأليصابات (لو١ : ٣٩ – ٥٦)

«أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضمين » (لو ١ : ٥٢)

(أولاً) ما أحسن الفوائد التي تنتج من مشاطرة الناس بعضهم بعضاً في أمور الحياة . فان العذراء مريم زارت اليصابات وكانت هذه الزيارة وسيلة للمحادثات والتعزيات الروحية وتمجيد الله . فامتلأت اليصابات بالروح القدس وارتكض الجنين في بطنها .

(ثانياً) تطويب اليصابات للسيدة العذراء ومدحها ايمانها واعلانها عدم استحقاقها لزيارتها لأنها أم ربها وهذا يدل على تقوى اليصابات وعظم مقدار معرفتها الروحية .

(ثالثاً) تواضع السيدة العذراء فانها قابلت مدحها بتمجيد الله بتسبحتها الشهيرة . وهي تسبيحة ملأى بالمعاني الدالة على كمال معرفتها ومع أنها صارت أماً لله دعت نفسها أمة الرب ووجهت كل الحمد والمجد لأسمه القدوس .

(رابعاً) ذكرت السيدة العذراء في تسبحتها أموراً كثيرة من أعمال الله في حوادث كثيرة مثل كبرياء فرعون واهلاك جيوشه واهلاك الفلسطينيين وتشتيت جيش سنحاريب وابطال دسائس هامان وغيرها ومثل قصة يوسف وموسى وصموئيل وداود واستير وغيرهم عند ما قالت « أنزل الاعزاء عن الكراسي الخ )

(خامساً) شدة تمسك السيدة العذراء بمواعيد الله المدخرة في الكتب المقدسة لأبينا ابراهيم ونسله[17] .

دكتور سعد ميخائيل سعد

تعظم نفسي الرب

كلما تأملت في تسبحة العذراء القديسة مريم، وشرعت أرتلها في حضرة الله، أجد إيماني يمتحن، وأعماق وجودي وضميري تهتز.. إنهـا خـيرة روحيـة فـريـدة فـي نوعها! أحيانا تنفتح شفتاي بفرح، وأغنى بقوة وعذوبة، وتبتهج روحي حقا بالله مخلصى. وأحيانا تتحشـر الكلمـات فـي حلقي، لأن إيمـاني ورجائى ليسا على المستوى السامي لهذه الترنيمة، وأحيانا أخرى يلتصق لسنى بحنكي، إذ يسيطر علـى شعور بعدم الاستحقاق، إذ كيـف أنطـق أنا أشـر الخطـاة بتعبيرات صادرة عن قلب والدة الإله!.

وأسأل نفسي: هل هـذه دورة طبيعيـة للحياة الروحية؟ فرح ثم حزن، ترتيـل ثـم صمت؟ هل هذا هو تعاقب النهار والليل.. حسب الروح؟ أم أنـا كوكب أرضـى يـدور في فلك شمس البر، ولكن أيضا يدور حـول نفسه فيتعاقب النور والظلام؟ وهل هناك من تعزية؟ إن القديسة مريـم تبتهـج باللـه. مخلصها. ونعم مخلصى أنا أيضا حتى وإن كنت أسوأ الخطاة، لأن رحمته إلى جيـل الأجيال للذين يتقونه، وإنه ولو أحزن يرحـم حسب كثرة رحمته (مراثی إر٣: ٣٢).

تسبحة مريم وامتحان الأعمال

وأعود مرة ثانية لأسأل نفسي: مـن مـن البشر يستحق أن يرتل مع القديسة مريـم أغنيتها العذبة؟ كما شهدت الآن عن نفسي أني لا أشعر بالاستحقاق خصوصا عندما أفحص أعمالي.

الخطية محيطة بي ومتوافقة مع إرادتي، وبين الخطاة اجتهدت أن أكون الأول. لقد انشغل فكرى وقلبـي عـن همـوم الأرامـل والأيتام، وامتلأت بطنـى بينمـا الكثيرون جوعي، وجلست على كرسي كريم بينما المتضعون يفترشون الأرض، وسكنت خلف أسوار وحراس بينما إخوتي يتعرضون للإهانة أو الموت بسبب فقرهم أو إيمانهم. كيف إذن أرتل مع مريم تسبحتها؟ مـرة أخرى يلتصق لساني بحنگی!

تسبحة مريم والألفية الثالثة

ولكن شكرا لله الذي لـم يعطنا روح الفشل واليأس بل روح النجاح والرجاء وبهما أثق أني يومـا مـا سـأغنى مـع أمـى مريم.

إن الروح القدس الذي نطق علـى شفتي مريم هو الذي حل علي في المعموديـة. وكما وافقت مريم على الدعوة الإلهيـة قائلة “هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك” هكذا سأبادر أنا أيضا بالاستجابة لعمل الـروح القدس. فهو معطى الحياة الجديدة والثياب الجديدة والاسم الجديد والأغنية الجديدة.

نعم سأغني مع والدة الإلـه وسـتبتهج روحي بالله مخلصی.

تسبحة مريم ومعونة السماء

لقد تدفقت من قلب أمنا القديسة مريم تلك الأنشودة الدافئة، ثم فاضت كنهر من الفرح واليقين يكتسح في طريقـه كـل همـوم الجياع والعطاش إلى البر والمضطهدين من أجل الإيمان.

إن تسبحة مريـم تعـطـي معـان جـديـدة لهمومنا الروحية والاجتماعية والمالية، إنهـا تحل مشاكلنا العامة والعائلية والشخصية. تضعها جميعها في سياقها الأبدي، إنها اللغز اللاهوتي الحائر بيـن قـدرة اللـه ومحبتـه اللانهائية من ناحيـة وسماحه بالضيقـات والآلام لأولاده من ناحية أخرى” إنها ترفع عيوننـا إلـى القدير القدوس صانع العظـائم الذي رحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه. تسبحة مریم وانتصار الرجاء

لقد تقاطع التاريخ بألفياته وحضاراته، بأمجاده وآلامه، عند قلب أمنا القديسة مريم. وهي الفتاة اليتيمة الأبوين، المحاطة بأجواء عدم الأمان والفقر المدقع، رفعت قلبهـا إلـى إلـه التـاريخ والألفيـات فـفـاض ذلـك القلـب بكلام صالح وأنشودة خالدة، لـم يكـن فيها مكان للسلبيات أو الانهزام، بل هي نهر من الفرح واليقين، يكتسح في طريقـه همـوم الخطـاة والفقـراء والجيـاع والمظلوميـن ومنكسرى القلوب.

ونحن الذيـن لـم نـفـرغ بعـد مـن حروب الألفية الثانيـة، وتواجهنـا التحديات علـى مشارف الألفية الثالثة، نلجأ إلى الضيـاء القدسي الـذي تشـعه علينـا أمنـا العـذراء بإيمانهـا وشجاعتها، ونتمسـك بشفاعتها کوالدة الإله، وننهل من تسبحتها الخالدة قـوة يقين وسلام، راسخة في القلب والعقل، في العاطفة والفكر.

إن أمنا العذراء القديسة مريم تدعونا لنرتل معها تسبحتها بإيمان وفرح، في كل عبارة جماعية وكل صلاة فردية، فلنطبعهـا إذن في قلوبنا وفي كتب صلواتنا، ولنرتلها عشية وباكرا ووقت الظهر، فيسمع الرب أصواتنا مع أمه الطاهرة، ويخلص نفوسنا بسلام. آمین[18]

من وحي قراءات اليوم

هوذا أنا أمة الرب (لو٣٨:١)

+ فليصمت كل لسان ، متعظم فالعظيمة في البشر تلقب نفسها بأمة الرب

+ فليتراجع كل تمجيد للبشر ، فأم رب المجد تري نفسها عبدته

+ رئيس الملائكة يلقبها بأم القدوس وإليصابات تلقبها بأم ربي ، وهي تتغني بأنها أمة الرب

+ فليسكت كل متفلسف واصفا فقط إياها بأم يسوع ، متجاهلا شهادة الوحي الإلهي وللأسف مدعيا أنه إنجيلي

+ عندما لم تريدي سوي عبوديته أعطاك كل أمجاده

نحن نتهافت علي التمجيد ، وانت تمجدت بحياتك في الخفاء

+ كان فقر حياتك هو القشرة الخارجية لغني مجدك الداخلي ، والذي لم يلحظه العالميين

+ جميع الأجيال تطوبني ، كانت شهاده روح الله لذلك سطرها الوحي الإلهي

+ كل من يقبل بفرح فقره وبساطه حياته وتجاهل الناس وتعييرهم متجها لمجده الداخلي ، يتشبه بأُمُّنا كلنا وفخر جنسنا والدة الإله

“لأنك قدمت شعبا كثيرا لله من خلال طهارتك” ثيئوطوكية الأحد

 

 

 

 

المراجع

 

١- القديس أغسطينوس أسقف هيبو – القمص بنيامين مرجان باسيلي – العذراء في فكر الآباء ص ١٥٩

٢- هيلاري أسقف آرل – تفسير رسالة يوحنا الرسول الثانية – القمص تادرس يعقوب ملطي

٣- (تفسير مزمور ٨٧ – أبونا تادرس يعقوب )

٤- المرجع : كتاب العذراء في فكر الآباء ( صفحة ٩١ ) – القمص بنيامين مرجان باسيلي

٥- المرجع : كتاب الآباء والعقيدة ( صفحة ١٦٨ – ١٨٨ ) – دكتور سعيد حكيم يعقوب – مؤسسة القديس أنطونيوس للدراسات الآبائية

٦- المرجع : كتاب العذراء في فكر الآباء ( صفحة ٥١ ) – القمص بنيامين مرجان باسيلي

٧- المرجع : كتاب العذراء في فكر الآباء ( صفحة ١٨٧ ) – القمص بنيامين مرجان باسيلي

٨- كتاب القديسة مريم العذراء في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية بقلم قداسة العلامة البطريرك زكا الأول عيواص ( صفحة ١٧ )

٩- المرجع : كتاب القديسة مريم والدة الإله صفحة ٧ – دار الكتاب القبطي – د. راغب عبد النور

(مقدمة الكتاب للمتنيح الأنبا ميخائيل مطران أسيوط )

١٠- المرجع : كتاب السحابة المتألقة في دقادوس ( صفحة ٥٩ ) – الأنبا فيلبس مطران الدقهلية

١١- كتاب شفتاك يا عروس تقطران شهداً ( الجزء الثاني صفحة ٢٢٠ ) – إصدار دير الأنبا شنوده العامر بإيبارشية ميلانو

١٢- المرجع : كتاب شفتاك يا عروس تقطران شهداً ( الجزء الثالث صفحة ١٠٣ ) – إصدار دير الأنبا شنوده العامر بإيبارشية ميلانو

١٣- المرجع : كتاب محفل الملائكة وسحابة الشهود ( صفحة ١٦ ) – القمص لوقا سيداروس

١٤- المرجع : الكتاب الشهري للشباب والخدام عدد شهر أغسطس لسنة ٢٠٠٩ – إصدار بيت التكريس لخدمة الكرازة

١٥- المرجع : الكتاب الشهري للشباب والخدام عدد شهر أغسطس لسنة ٢٠٠٥ – إصدار بيت التكريس لخدمة الكرازة

١٦- كتاب تأملات وعناصر روحية في آحاد وأيام السنة التوتية ( الجزء الثالث  صفحة ١٢١ ) – إعداد القمص تادرس البراموسي

١٧- كتاب الكنز الأنفس للارشيدياكون حبيب جرجس الجزء الثالث ( صفحة ٨ ) – الأرشيدياكون حبيب جرجس – مشروع الكنوز القبطية

١٨- مجلة مدارس الاحد عدد شهر ديسمبر لسنة ١٩٩٩