سفر يونان في فكر آباء الكنيسة

سفر يونان[1]

  • يُعَرِّف كاتب سفر يونان (بالعبرية يونا، والذي يعتقد بعض العلماء أنه اسم شخصي يعني “حمامة”) النبي بإسم يونان بْنِ أَمِتَّايَ. في موضعٍ آخر، يُعْرَّف نبياً اسمه يونان بأنه ” بْنِ أَمِتَّايَ… الذي كان من جت حافر” في عهد يربعام الثاني.

يروي يونان (يون١ : ١٦) دعوته كنبي، ومحاولته التهرب من مسئولية التبشير لسكان نينوى، وإلقائِه من السفينة في عاصفةٍ أُتِهِم أنها كانت بسببه.

في يونان (يون١ : ١٧) ، (يون ٢ : ١٠)  ، ابتلع حوتاً عظيماً يونان، حيث مكث ثلاثة أيام وليالٍ. حافظ يونان على الرجاء بترتيله مزموراً مذكوراً في (يون ٢ : ٢ – ٩).

ألقاه الحوت على الشاطئ بعد أن تاب النبي ووافق على تنفيذ المهمة التي كلفه بها يهوه. يروي يونان (4) يأس يونان من توبة أهل نينوى، الذين كان يود أن يهلكهم يهوه. كما يحتوي أيضاً على حادثة شجرة اليقطين التي هاجمتها دودة مما تسببت في ذبولها. الأمر الذي ترك يونان معرضاً لحرارة النهار الشديدة.

بسبب الإقتباسات المحددة في الأناجيل المتعلقة بيسوع (مت ٢ : ٤٠-٤١) (لو ١١ : ٢٩ – ٣٢) ، كان يونان أحد كتب التفسير الرئيسية لآباء الكنيسة.

في الأناجيل، استخدم يسوع توبة أهل نينوى – غير اليهود- كوسيلة لتوبيخ اليهود الذين رفضوا رسالته.

في متى،على سبيل المثال، قارن يسوع أيامه الثلاثة في القبر مع أيام يونان الثلاثة في بطن الحوت.

باختصار، كان هدف آباء الكنيسة أن يروا المسيح على أنه يونان الجديد الذي أتم العهد القديم وتجاوزه، والذي عُهد إليه الآن بأهل نينوى الجدد، الأمم.

  • قصة يونان تلهم أولئٔك الذين، مثل يونان، يترددون في قبول نير الخدمة. (القديس غريغوريوس النزينزي).

ربما كان يونان مترددًا لأنه كان يخشى أن يثبت كذب نبوته. (القديس غريغوريوس النزينزي).

أو ربما كان يخشى أن تهلك إسرائيل إذا نجت نينوى. (القديس جيروم).

مع ذلك، لا يستطيع يونان الهروب من الله بالفرار إلى ترشيش. (ترتيليان، القديس غريغوريوس النزينزي)

هبت العاصفة بقوة على السفينة، فخطرها يمثل عدم أمان أولئك الذين لا يتبعون مشيئة الله (القديس جيروم).

في محاولاتهم لتخفيف حمولة السفينة، أثبتوا أن ثقل عصيان يونان كان العبء الأثقل (القديس يوحنا ذهبي الفم).

بمعرفة الله خالق البحر واليابسة، كان من غير المعقول أن يظن يونان أنه يستطيع الإفلات من مقاصد الله. تم مدح يونان لكونه كان على استعداد للتضحية بنفسه حتى لا يهلك البحارة (القديس غريغوريوس النزينزي).

علم يونان أن الطبيعة لن ترافقه في عصيانه لله (القديس يوحنا ذهبي الفم).

بينما كان يونان سيدمر مدينة نينوى بأكملها، حاول البحارة إنقاذ يونان (القديس يوحنا ذهبي الفم).

في نهاية المطاف ألقى البحارة يونان في البحر، وساد الهدوء. وهكذا، فإن عمل مشيئة الله ينتج عنه السلام والهدوء (القديس جيروم).

تظهرنعمة الله الغنية من حقيقة أنه خلص يونان بمجرد أن أظهر النبي ندمًا على عصيانه (القوانين الرسولية).

خلص الله أهل نينوى من خلال يونان مثلما يخلص الله التائبين الآخرين من خلال المسيح (العلامة ترتليان).

تهدئة يونان للبحر تشبه انتهار المسيح للرياح والبحر. تشبه أيام يونان الثلاثة في بطن الحوت أيام المسيح الثلاثة في القبر. (القديس كيرلس الأورشليمي)

حتى في أيام أوغسطينوس شكك الناس في تاريخية قصة يونان، لكن المسيحيين المؤمنين لا يخشون مثل هذه الهجمات من قبل منتقديهم. (القديس أوغسطينوس)

  • عندما وصل يونان إلى أقصى حد للتجربة في بطن الحوت، صرخ إلى الله طلبًا للمساعدة (القديس باسيليوس).

أصبح احتماله وصلاته في بطن الحوت نموذجًا للنسك المسيحي، والذي تحقق، على سبيل المثال، في حياة باسيليوس الكبير (القديس غريغوريوس النزينزي).

يرمز بطن الحوت إلى رحم مريم، الموضع الذي منه سيأتي المسيح (القديس أمبروسيوس).

على هذا النحو، يرمز يونان إلى نزول المسيح إلى العالم السفلي. وكما نجا يونان في بطنه، كذلك نجا المسيح من القبر (القديس كيرلس الأورشليمي).

قذف يونان من الحوت بعد ثلاثة أيام يرمز إلى القيامة (العلامة ترتليان).

لم يكن مصير يونان في بطن الحوت هلاكًا بل خلاصًا (القديس غريغوريوس النزينزي).

أولئك الذين لا يعتقدون أن إيليا قد أخذته المركبة الطائرة لديهم أيضًا مثال يونان، الذي نجا سالماً من ثلاثة أيام في بطن الحوت (القديس إيرينيؤس)

كما انتقل يونان من سفينة إلى حوت، هكذا أيضاً انتقل المسيح من شجرةٍ إلى قبر. وكما لم تتحقق نبوءة يونان إلا بعد محنته، كذلك أيضاً فإن الرسالة إلى الأمم لم تدخل حيز التنفيذ إلا بعد القيامة (القديس أوغسطينوس).

يكمن قرار الله بشأن الخلاص أو الدينونة في استجابة السامعين لما سيفعله الله أو لا يفعله (العلامة أوريجانوس).

الله يسمح بالوقت لأهل نينوى للتوبة (القديس يوحنا ذهبي الفم)

  • يدعو غريغوريوس النزينزي المسيحيين إلى الاقتداء بتوبة أهل نينوى وتجنب قسوة أهل سدوم (القديس غريغوريوس النزينزي).

فالصوم الحقيقي هوالانضباط المناسب للإبتعاد عن دينونة الله. نينوى حررت نفسها من الموت بصومها التائب (القديس أمبروسيوس).

إن فاعلية الصوم والتوبة رائعة في التخلص من الخطايا التي لا تعد ولا تحصى (القديس يوحنا ذهبي الفم).

يُنظر إلى ملك نينوى كمثالٍ على التوبة التي أدت إلى خلاص المدينة كلها (القديس أوغسطينوس).

حتى الحيوانات كانت مدرجة ضمن دعوة الصوم الجماعي. يتكلم الله بتحذيرٍ من خلال الأحداث الكارثية (القديس يوحنا ذهبي الفم).

كان إنقاذ نينوى رحمة مؤكدة (القديس أوغسطينوس)، لكن النتيجة النهائية غير مؤكدة (القديس جيروم).

إذ لم يكن لأهل نينوى خبرة سابقة برحمة الله (القديس يوحنا ذهبي الفم).

في ثلاثة أيام فقط، تُركت كل خطايا نينوى العديدة وراءها. لم يشفق الله على أهل نينوى فقط بسبب الصوم. لقد كان صومهم مع الامتناع عن الشر هو الذي قلب غضب الله للوراء (القديس يوحنا ذهبي الفم).

  • شك يونان منذ البداية أن الله لن يدمر نينوى (القديس يوحنا ذهب الفم).

لذلك غضب لأنه اعتقد أنه تنبأ نبؤة مزيفة (القديس جيروم).

من ناحية أخرى، فمن الجائز أنه توقع الدمار حقًا، لذلك ذهب خارج المدينة (القديس كيرلس السكندري).

يُنظر إلى سفر يونان على أنه درس موضوعي يؤكد الرأفة الذي يجب أن تتمتع بها الكنيسة تجاه غير المؤمنين (القديس أمبروسيوس).

  • يتم تشبيه أهل نينوى بالأطفال الذين لا يستطيعون التمييز بين الخير والشر. لذا فالله يحفظهم كما يعتني الآباء بأطفالهم (القديس جيروم).

 

 

الكنيسة في قراءات اليوم

 

الكاثوليكون الخلاص بالمعمودية وأهميّة عمل الصالحات.
الكاثوليكون صعود الرب وخضوع السمائين له.
الإبركسيس وحدة الكتاب ووعود الأنبياء التي تحققت في المسيح له المجد.
إنجيل القدّاس مهابة بيت الله.
إنجيل القدّاس قيامة المسيح له المجد في اليوم الثالث.

 

عظات آبائية

العظة الآبائية الأولى الندامة .. طريق التوبة – للقديس أمبروسيوس[2]

  • توبني فأتوب 

لنغتسل بالدموع حتي يسمعنا الله عندما ننوح. كما سمع لأفرايم عند بكائه كما هو مكتوب: “سمعًا سمِعتُ أفرايِمَ يَنتَحِبُ” (إر٣١: ١٨)، وقد تعمد تكرار ما نطق به افرايم في نحيبه: “أدَّبتَني فتأدَّبتُ كعِجلٍ غَيرِ مَروضٍ” (إر31: 18)، فالعجل لا يقدر أن يروض نفسه، انما يهرب من مروضه… هكذا ترك افرايم المريض تابعاً يربعام وعبد العجل ….

هكذا يتوب أفرايم قائلاً: “توِّبني فأتوبَ، لأنَّكَ أنتَ الرَّبُّ إلَهي. لأنِّي في نهاية سبيي نَدِمتُ، وبَعدَ تعَلُّمي حزنتُ علَى أيام الخزي. وأخضَعتُ نَفسي لَكَ. لأنِّي قد تَسَلمتُ تَوبيخَات وَصِرتُ مَعرُوفاً لي” راجع (إر31: 19).

اذاً فلنُخضِع أنفسنا لله لا للخطية. وإذ نمعن في تذكر معاصينا نخجل منها، كأمر رزيل ولا نفخر بها .. ليصر حديثنا هكذا، إننا نحن الذين لم نكن نعرف الله قد صرنا نشهد له أمام الآخرين. حتى يتحرك الرب بواسطة هذه الأحاديث من جانبنا ويجيبنا قائلاً: “أفرايِمُ ابنٌ عَزيزٌ لَدَيَّ، أو ولَدٌ مُسِرٌّ، لأنِّي كُلَّما تكلَّمتُ بهِ أذكُرُهُ بَعدُ ذِكرًا. مِنْ أجلِ ذلكَ حَنَّتْ أحشائي إليهِ. رَحمَةً أرحَمُهُ، يقولُ الرَّبُّ.” (إر31: 20).

وأي رحمة وعدنا بها الله؟ إنه يقول: “لأنِّي أروَيتُ النَّفسَ المُعييَةَ، ومَلأتُ كُلَّ نَفسٍ ذائبَةٍ. علَى ذلكَ استَيقَظتُ ونَظَرتُ ولَذَّ لي نَوْمي.” (إر31: 25-26).

ها نحن نلاحظ وعود الله للخطاة بمقدساته، اذا فلنرجع اليه ..

  • اذكر خطاياي بلا يأس 

لنا رب صالح يريد خلاص الكل، دعاكم على فم النبي قائلاً: أنا الشاهد؟ حتى أنا الذي أزلت خطاياكم، ولا أعود أذكرها فهل أنتم تذكرونها؟!. أنا لا أعود أذكرها بسبب نعمتي، أما أنتم فهل تذكرونها حتى ترجعون عنها؟.

تذكرونها، فتغفر لكم، أما إن انتفختم كأبرار بلا خطية تزيدوها .. إعترفوا بها تتبرروا لأن الإعتراف بخطاياكم في خجل يفك رباطاتها. للنوح وقت وللفرح وقت،

هل رأيتم ماذا يطلب الله منكم، أن تتذكروا نعمته عليكم ولا تنتفخوا كأبرار بذواتكم.

أنكم ترون كيف جذبكم إلى الإعتراف بالخطية بوعده لكم بالغفران الكامل. فاحذروا لئلا

تقاوموا وصاياه، فتسقطوا فيما سقط فيه اليهود العصاة، الذين قال لهم: “زَمَّرنا لكُمْ فلم ترقُصوا. نُحنا لكُمْ فلم تبكوا” (لو٧: ٣٢). يحمل هذا القول كلمات عادية، لكنه يحوي سراً غريباً. لهذا فلنحذر لئلا نأخذ بالتفسير العامي. فقد يظن البعض أنه يقصد بالرقص تلك الرقصات التي للعابثين أو الخاصة بجنوب المسارح، لأن مثل هذه مملوءة بشرور الصبا. لكن الرقص هنا إنما كرقصات داود أمام تابوت العهد. فكل شئ إنما وجد لأجل العبادة ..

فهنا لا يتحدث الرب عن الرقص المصاحب للملذات والترف، بل الرقص الروحي، الذي فيه سمو الانسان بالجسد الشهواني، ولا يسمح لأعضائه أن تتنعم بالأرضيات.. بولس رقص روحياً، إذ لأجلنا امتد إلى قدام ناسياً ما هو وراء، ساعياً نحو ما هو أمامه، جعالة السيد المسيح (في2: 13، 14).

هذا  هو  السر اذاً، أننا “زَمَّرنا لكُمْ” بأغنية العهد الجديد، فلم ترقصوا .. أي لم تسعوا بعد بأرواحكم  بواسطة النعمة الإلهية.

“نحنا لكم فلم تبكوا” أي لم تندموا.. عندما جاءكم يوحنا منادياً بالتوبة بنعمة السيد المسيح.

فالرب معطي النعمة، وإن كان يوحنا قد اعلنها كخادم له، أما الكنيسة فتحتفظ بالأثنين، حتى تدرك النعمة دون أن تطرد عنها التوبة. فالنعمة هي عطية الرب الذي وحده يهبها، والتوبة (أيضاً عطيته) هي علاج الخاطئ.

  • الندامة علاج الخطاة

لقد أدرك إرميا أن الندامة علاج عظيم، فاستخدمها لأجل أورشليم في مراثيه، وتقدم بأورشليم كتائبة عندما قال: “تبكي في اللَّيلِ بُكاءً، ودُموعُها علَى خَدَّيها. ليسَ لها مُعَزٍّ مِنْ كُلِّ مُحِبِّيها .. طُرُقُ صِهيَوْنَ نائحَةٌ” (مراثي ١: ٢، ٤).

(مراثي ١:١٦). إرميا فكر ان يضيف هذه العبارة المرة، لأنه وجد أن من يريح الحزانى قد أبعد عنه، فكيف تستطيع أن تنال راحة برفضك للتوبة رجاء  الغفران؟.

لكن ليت هؤلاء الذين يتوبون، يعرفون كيف يقدمون التوبة، بأية مشاعر، وكيف تبتاع كل تفكيرهم، وتهز أحشائهما الداخلية، وتخترق أعماق قلوبهم، إذ يقول إرميا النبي: “انظُرْ يارَبُّ، فإنِّي في ضيقٍ! أحشائي غَلَتْ. ارتَدَّ قَلبي في باطِني” (مراثي 1: 20) .. ويقول: “شُيوخُ بنتِ صِهيَوْنَ يَجلِسونَ علَى الأرضِ ساكِتينَ. يَرفَعونَ التُّرابَ علَى رؤوسِهِمْ. يتنَطَّقونَ بالمُسوحِ. تحني عَذارَى أورُشَليمَ رؤوسَهُنَّ إلَى الأرضِ. كلَّتْ مِنَ الدُّموعِ عَينايَ. غَلَتْ أحشائي. انسَكَبَتْ علَى الأرضِ كبِدي” (مراثي2: 10، 11).

هكذا ايضا اهل نينوي حزنوا فهربوا من هلاك مدينتهم (يو٣:٥). يالقوة مفعول هذا الدواءالذي للتوبة، حتى ليبدو وكأنه يغير نية الله.

فالهروب إذاً بين يديك، والرب يريد أن يلاطفك، إنه يود أن يترجاه البشر، ويريد أن يطلبوا منه العون.

إن كنت وأنت انسان تريد أن يطلب منك الآخرون العفو، فهل تظن أن الله دون أن تسأله المغفرة؟!!.

والرب نفسه بكى على أورشليم، إذ لم ترد أن تبكي على نفسها .. إنه يريدنا أن نبكي لنهرب، كما جاء في الانجيل: “يا بَناتِ أورُشَليمَ، لا تبكينَ علَيَّ بل ابكينَ علَى أنفُسِكُنَّ وعلَى أولادِكُنَّ” (لو23: 28).

وداود بكي فنال من الرحمة الالهية أن ينزع الموت عن الشعب الذي كاد أن يهلك، وعندما عرض عليه أن يختار أحد أمور ثلاثة (كتأديب) اختار الأمر الذي فيه ينال خبرة عظمى بين يدي المراحم الالهية.

فلماذا تكف عن البكاء على خطاياك، وإن كان الله قد أمر حتى الأنبياء أن يبكوا من أجل الشعب؟!..

وأخيراً حزقيال أمر بالبكاء على أورشليم، وقد أخذ الكتاب الذي في بدايته مَراثٍ ونَحيبٌ ووَيلٌ (حز2: 10).

إن من يبكي كثيراً في العالم ينقذ في المستقبل، لأن “قَلبُ الحُكَماءِ في بَيتِ النَّوْحِ، وقَلبُ الجُهّالِ في بَيتِ الفَرَحِ” (جا7: 4).

وقال الرب نفسه: “طوباكُمْ أيُّها الباكونَ الآنَ، لأنَّكُمْ ستَضحَكونَ” (لو6: 21).

فلنبك إذاً الى زمان، فلنفرح الى الأبد، لنخف الرب وننتظره، معترفين بخطايانا، راجعين عن شرنا، حتى لا يقال لنا: “ويلٌ لي!… قد بادَ التَّقيُّ مِنَ الأرضِ، وليس مُستَقيمٌ بَينَ الناسِ.” (مي7: 1، 2).

 

 

العظة الآبائية الثانية آية يونان النبي – للقديس كيرلس الأسكندري[3]

(لو١١: ٢٩- ٣٦) “وفيما كانَ الجُموعُ مُزدَحِمينَ، ابتَدأَ يقولُ: هذا الجيلُ شِرِّيرٌ. يَطلُبُ آيَةً، ولا تُعطَى لهُ آيَةٌ إلا آيَةُ يونانَ النَّبيِّ. لأنَّهُ كما كانَ يونانُ آيَةً لأهلِ نينَوَى، كذلكَ يكونُ ابنُ الإنسانِ أيضًا لهذا الجيلِ. مَلِكَةُ التَّيمَنِ ستَقومُ في الدِّينِ مع رِجالِ هذا الجيلِ وتدينُهُمْ، لأنَّها أتتْ مِنْ أقاصي الأرضِ لتسمَعَ حِكمَةَ سُلَيمانَ، وهوذا أعظَمُ مِنْ سُلَيمانَ ههنا! رِجالُ نينَوَى سيَقومونَ في الدِّينِ مع هذا الجيلِ ويَدينونَهُ، لأنَّهُمْ تابوا بمُناداةِ يونانَ، وهوذا أعظَمُ مِنْ يونانَ ههنا!

ليس أحَدٌ يوقِدُ سِراجًا ويَضَعُهُ في خِفيَةٍ، ولا تحتَ المِكيالِ، بل علَى المَنارَةِ، لكَيْ يَنظُرَ الدّاخِلونَ النّورَ. سِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ، فمَتَى كانَتْ عَينُكَ بَسيطَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ مَمْلوءًا نَوِّرًا، ومَتَى كانَتْ عَينَكَ شِرِّيرَةً فجَسَدُكَ يكونُ مملوءًا ظَلَامًا. فإنْ كانَ جَسَدُكَ كُلُّهُ مَملوءًا نوراً ليس فيهِ جُزءٌ مُظلِمٌ، يكونُ كله مملوءًا بالنور، كما حينَما يُضيءُ لكَ السِّراجُ بنورهِ” (لو11: 29- 35).

نتج الطلب من خبثهم، لذلك لم يمنح لهم كما هو مكتوب: “الأشرار سيطلبوني ولا يجدونني” (هو٥: ٦) .. دعونا نرى الأقوال التي قالها الله لموسي وما هي الحقيقة التي تشير إليها؟ وهذا ما يلزم أن نفحصه بالتأكيد، لأني أقول إنه لا يوجد شيء من كل ما تحويه الكتب المقدَّسة، غير نافع للبنيان، فعندما أقام إسرائيل مدة طويلة في مصر، ونشأ علي عوائد سكانها (في ذلك الوقت)، فإنه ضلَّ بعيداً عن الله، وصار كمن سقط من يد الله، وأصبح حيَّة، والحيَّة تشير إلى الشخص ذو النزعة الخبيثة جداً بطبعه، ولكن لما أمسك الله به ثانية فقد أعاده إلى حالته الأولى وأصبح عصا أي غرس الفردوس، لأنه دُعي إلي معرفة الله الحقيقية واغتني بالناموس كوسيلة لحياة فاضلة وصنع الله أيضاً أمراً آخراً له صفة معجزية مساوية، لأنه قال لموسى: “”أدخِلْ يَدَكَ في عُبِّكَ”. فأدخَلَ يَدَهُ في عُبِّهِ ثُمَّ أخرَجَها، وإذا يَدُهُ بَرصاءُ مِثلَ الثَّلجِ. ثُمَّ قالَ لهُ: “رُدَّ يَدَكَ إلَى عُبِّكَ”. فرَدَّ يَدَهُ إلَى عُبِّهِ ثُمَّ أخرَجَها مِنْ عُبِّهِ، وإذا هي قد عادَتْ مِثلَ جَسَدِهِ.”.

ادخل يدك في عبّك ، فأدخل يده في عبّه ثم أخرجها من عبه ، وإذا يده صارت برصاء مثل الثلج ؟ ثم قال له : رد يدك إلي عبّك فرد يده إلي عبه ثم أخرجها من عبه وإذا هي قد عادت مثل لون جسده “(خر ٤: ٦-٧) لأنه طالما كان اسرائيل متمسكاً بعادات آبائه، وكان يُظهر في أخلاقه نموذج الحياة الفاضلة التي كانت له في ابراهيم واسحق ويعقوب، فإنه كان كأنه في حضن الله، أي تحت رعايته وحمايته، فإنه تخلص من برصه، وخلع عنه نجاسة الحياة المصرية (الوثنية).

ولما حدثت هذه المعجزات أمامهم ، فإنهم صدَّقوا موسى عندما قال: “يَهوهْ إلَهُ آبائكُمْ… أرسَلَني إلَيكُمْ” (خر3: 15)، لذلك لاحظوا، أنهم لم يتخذوا من إظهار المعجزات سبباً لتصيُّد الخطأ، فلم يشتموا موسى الإلهي، ولم يجمحوا بلسان مُتَسيِّب ويقولوا إنه صنع المعجزات التي صنعها أمامهم بواسطة بعلزبول، ولم يطلبوا آية من السماء محتقرين أعمالهم المقتدرة، ولكن ها أنت تنسب إلى بعلزبول أعمالاً مكرمة ومعجزية، ولم تخجل من أن تأتي بآخرين وبنفسك أيضاً إلى الهلاك عن طريق تلك الأمور نفسها (المعجزات) التي كان ينبغي أن تجعلك تحصل على إيمان ثابت بالمسيح، ولكنه لن يعطيك آية أخرى لكي لا يعطي القدسات للكلاب، ولا يطرح الدرر أمام الخنازير، لأنه كيف يمكن لهؤلاء المفترين بشدة على المعجزات التي صنعها (المسيح) أمامهم للتو، أن يستحقوا معجزات أكثر؟ بل على العكس فنحن نلاحظ الكرَّامين المهرة حينما يجدون أن الأرض بطيئة في إعطاء الثمر، فإنهم يرفعون يدهم عنها، ويرفضون أن يحرثوها مرة أخرى، حتى لا يتكبدوا خسارتين معاً: خسارة تعبهم، وخسارة البذار، ومع ذلك فقد قال أنه ستعطى لهم آية يونان فقط، والتي يقصد بها الآلام على الصليب والقيامة من الأموات، لأنه يقول: “كما كانَ يونانُ في بَطنِ الحوتِ ثَلاثَةَ أيّامٍ وثَلاثَ لَيالٍ، هكذا يكونُ ابنُ الإنسانِ في قَلبِ الأرضِ ثَلاثَةَ أيّامٍ وثَلاثَ لَيالٍ” (مت12: 40).

ولكنه لو أنه كان ممكناً أن المسيح لا يريد أن يقاسي الموت بالجسد على الصليب، لما كانت قد أعطيت هذه الآية لليهود، ولكن حيث أن الآلام التي احتملها لأجل خلاص العالم كانت لابد منها، فقد أعطيت هذه الآية لأولئك العديمي الإيمان لأجل دينونتهم. وأيضاً عندما كان يكلم اليهود في مرة أخرى قال لهم: “انقُضوا هذا الهيكلَ، وفي ثَلاثَةِ أيّامٍ أُقيمُهُ” (يو 2: 19)، وكما أتصوره، فإن إبطال الموت وملاشاة الفساد بالقيامة من الموت –التي هي آية عظيمة جداً تدل على قوة الكلمة المتجسد وسلطانه الالهي- يتم البرهنة عليها بشكل كافِ بالنسبة للناس الجادين، بواسطة جنود بيلاطس الذين عُيِّنوا لحراسة القبر، وقد رشوهم بأموال كثيرة ليقولوا إن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه (مت28: 13).

فهي إذن آية ليستبدون منفعة، بل هي كافية لإقناع كل سكان الأرض أن المسيح هو الله ، وأنه قاسي الموت في الجسد بإرادته وحده. إذ أنه أمر رباطات الموت أن ترحل وأباد الفساد.أما اليهود فلم يؤمنوا أيضاً بالقيامة، ولهذا السبب قيل عنهم بحق، إن “مَلِكَةُ التَّيمَنِ ستَقومُ في يوم الدِّينِ ضد هذا الجيلِ وتدينُهُ”.

وهذه المرأة رغم أنها بربرية، فقد بحثت بشغف لتسمع سليمان، ولهذا الغرض سافرت مسافة طويلة جداً لتصغي إلي حكمته في طبيعة الأمور المنظورة والحيوانات والنباتات، أما أنتم فرغم أنكم حاضرون الآن وتستمعون إلي الحكمة ذاته، الذي أتى اليكم متحدثاً عن أمور غير منظورة وسماوية، وهو يؤكد ما يقوله بالأعمال والمعجزات، فإنكم تتحولون بعيداً عن كلامه ولا تبالون بطبيعة كلامه العجيبة، فكيف إذن لا يكون هنا أعظم من سليمان، أي في شخصي أنا؟

وأرجو أن تلاحظوا  ثانية مهارة لغة الرب، فلماذا يقول: “هنا” ولا يقول: “فيَّ أنا”؟. هو يقول ذلك لكي يحثنا أن نكون متضعين حتى لو كانت قد وهبت لنا مواهب روحية، وإلى جانب ذلك وإلي جانب ذلك فإنه من المحتمل أن لو سمعه اليهود يقول: “يوجد أعظم من سليمان في شخصي أنا” لكانوا قد تجرأوا أن يتكلمون عليه بطريقتهم المعتادة ويقولون: “انظروا إنه يقول إنه أعظم من الملوك الذين تملكوا علينا بمجد”.

لذلك فالمخلص –لأجل التدبير- يستخدم لغة مناسبة ويقول: “ها هنا” بدلاً من: “فيَّ أنا”. ويضيف الرب على ذلك قائلاً: إن رجال نينوى سيقومون يوم الدين ويدينون اليهود، لأنهم كانوا شرسين وأمميين ولا يعرفون الرب الذي هو الله بالطبيعة وبالحق، ولم يسمعوا قط أية نبوات من موسى، وكانوا يجهلون عظمة أخبار النبوة، ومع أن هذه كانت هي حالتهم الذهنية إلا أنهم نابوا بمناداة يونان، كما يقول الرب.

إذن فقد كان هؤلاء الرجال أفضل جداً من الاسرائيليين، وسوف يدينونهم. ولكن انصتوا إلى الكلمات نفسها: “رِجالُ نينَوَى سيَقومونَ في الدِّينِ مع هذا الجيلِ ويَدينونَهُ، لأنَّهُمْ تابوا بمُناداةِ يونانَ، وهوذا أعظَمُ مِنْ يونانَ ههنا!.

ليس أحَدٌ يوقِدُ سِراجًا ويَضَعُهُ في خِفيَةٍ، ولا تحتَ المِكيالِ، بل علَى المَنارَةِ، لكَيْ يَنظُرَ الدّاخِلونَ النّورَ.” (لو١١: 32-٣٣).

ماذا كان القصد بالنسبة لهذه الكلمات؟ إنه يقاوم اليهود باعتراض مأخوذ من غبائهم وجهلهم، لأنهم قالوا إنه يعمل معجزات لا ليؤمن به الناس أكثر، ولكن لكي يصير له أتباع كثيرون، ويحصل علي ثناء وتصفيق أولئك الذين ينظرون أعماله الخارقة، والرب يدحض هذا الافتراض باستخدام السراج كمثل، فهو يقول إن السراج يكون دائماً مرفوعاً وموضوعاً على المنارة، فيكون نافعاً لمن يبصرونه، ولنتأمل الآن النتيجة التي يشير إليها هذا الكلام، فقبل مجيء مخلصنا، كان الشيطان -أب الظُّلمة- قد أظلم العالم، وجعل كل الأشياء سوداء بقتام عقلي، ولكن وبينما العالم في هذه الحالة، فإن الآب أعطي ابنه ليكون نور للعالم، ليسطع علينا بنور إلهي، ولينقذنا من الظُّلمة الشيطانية، ولكن أيها اليهودي، إن كنت تلوم السراج لأنه غير مخفي، ولكن علي العكس هو موضوع علي منارة، وهو يعطي نوره لمن ينظرون، عندئذ يمكن أن تلوم المسيح لأنه لا يريد أن يكون مختفياً، بل علي العكس أن يراه الجميع، منيراً أولئك الذين في الظُّلمة، وليفيض عليهم بنور معرفة الله الحقيقية، فهو يصنع معجزاته لا لكي يعجب به الناس، ولا يسعي بواسطتها إلى الشهرة، بل بالحري لكي نؤمن أنه بينما هو الله بالطبيعة، إلا أنه صار إنساناً لأجلنا، دو أن يكف عن أن يكون كما كان (أي إلهاً)، ومن فوق الكنيسة المقدَّسة كمنارة تُشع بالتعاليم التي ينادي بها هو، فإنه يعطي نوراً لأذهان الجميع بأن يملأهم بالمعرفة الإلهية.

 

 

العظة الآبائية الثالثة يونان النبي – للقديس جيروم[4]

 

❈ يُشير هروب يونان إلى حال الإنسان بوجه عام فباحتقاره وصايا الرب هرب من وجهه وسلم نفسه للعالم فاشتد به نوء العالم ليغرق، عندئذ التزم بالتأمل في الله والرجوع إلى من هرب منه… كانت السفينة في خطر… والأمواج هائجة بواسطة الرياح… فإنه متى كان الرب غير راضٍ لا يكون شيء في أمان.

❈ لقد ظنوا أن السفينة بأمتعتها الطبيعية ثقيلة جدًا ولم يدركوا أن الثقل قائم بسبب النبي الهارب. لقد خاف الملاحون فصرخ كل واحد إلى إلهه، إذ كانوا يجهلون الحق لكنهم لم يجهلوا العناية الإلهية. خلال تدينهم الخاطئ عرفوا شيئًا وأدركوا بعض العمق الروحي… أما إسرائيل فلم يستطع الوسع ولا الألم أن يقوداه إلى معرفة الله. لذلك بكى يشوع على الشعب كثيرًا أما عيون الشعب فكانت جافة.

❈ بينما كان الآخرون في خطر إذا به في أمان ينام ويقوم. وبناء على طلبه وبسرّ آلامه خلّص الذين أيقظوه.

إن كان الله أرشدهم خلال القرعة إنما يحدثهم خلال فكرهم، فلا يبرر هذا استخدامنا للقرعة. لقد أرشد الله بلعام خلال أتانه (عد 22: 28)، ليعلن له أن الحيوان الأعجم أدرك ما لم يدركه الإنسان في شره، وكما تحدث الله مع المجوس خلال النجم، وكما سمح لقيافا أن يتنبأ وهو لا يعرف حين قال أنه ينبغي أن يموت واحد عن الشعب كله. على أي الأحوال إن كان يونان في حبه لشعبه استهان بخلاص الأمم فخلال القرعة كشف له الله أنه لا يحتقر أمميًا، إنما يحدثهم بلغتهم ويكشف لهم عن الحقيقة حتى خلال ممارستهم فما قدمته القرعة حمل توبيخًا إلهيًا خفيًا ليونان المُستهين بخلاص الأمم!.

❈ إنه لم يقل “أنا عبراني” قاصدًا اللقب الخاص بشعبه الذي ينتمي إلى أحد أسباطه، إنما قصد أنه عابر كإبراهيم، وكأنه يقول: أنا ضعيف وراحل كسائر آبائي، وكما جاء في المزمور: “عبروا من مدينة إلى أخرى ومن مملكة إلى شعب آخر… إنني خائف من الرب إله السماء وليس من الآلهة التي تضرعون إليها العاجزة عن الخلاص. إنني أتضرع إلى إله السماء الذي صنع البحر والبر، البحر الذي أهرب إليه، والبر الذي أهرب منه!.

❈ كأنهم يقولون: إنك تقول بأنه بسببك صار الريح والأمواج والبحر في هياج. لقد كشفت لنا عن سبب المرض فافصح عن الدواء. هوذا البحر يرتفع ضدنا، وعرفنا أننا صرنا موضع غضب لأننا أخذناك. أخطأنا إذ إستضفناك، فماذا نفعل حتى يسكن غضب الله علينا؟ ماذا نفعل بك؟ هل نقتلك؟ لكنك من مؤمني الرب! هل نحتفظ بك؟ إنك هارب من الله! الآن ليس لنا إلاَّ أن نُنفذ أمرك، فلتأمر حتى يهدأ البحر، فإن اضطرابه يشهد عن غضب الخالق… لا يمكن التأجيل بعد، أمام انتقام الخالق؟.

❈ إن هذا النوء يبحث عني، يُهددكم بالغرق لكي تمسكوا بيّ وبموتي تحيون! إنني أعرف بالحقيقة أن هذا النوء العظيم هو بسبي… هوذا الأمواج تأمركم أن تلقونيّ في البحر فتجدون هدوءًا… لنلاحظ هنا عظمة الهارب فإنه لا يراوغ ولا يكتم الأمر ولا ينكر بعدما اعترف بهروبه من الله، وإنما يتقبل العقاب بقلب متسع. يُريد أن يموت ولا يتحطم الآخرون بسببه.

❈ يوناننا يقول: إنني بالحقيقة أعرف أن هذا النوء العظيم عليكم هو بسببي، فإذ تراني الرياح مبحرًا معكم إلى ترشيش أي إلى “التأمل المفرح”، أقودكم إلى المجد، حتى حيث أوجد أنا هناك تكونون أنتم أيضًا عند الآب، لهذا يحدث غضب. العالم يبكي والطبيعة تضطرب! الموت يُريد أن يبتلعني لكي يقتلكم في نفس الوقت وهو لا يدرك أنه يأخذني كطعم، فبموتي يموت هو! خذوني إذن واطرحوني في البحر!.

❈ كانوا يريدون أن يسحبوا المجداف ويهزموا الطبيعة حتى لا يفضحوا نبي الرب… ظنوا أنهم قادرون أن يخلصوا السفينة من الخطر ولم يضعوا في اعتبارهم الدور الذي يقوم به يونان أنه يجب أن يتألم.

❈ عظيم هو إيمان الملاحين، فقد كانوا في خطر ومع هذا كانوا يصلون من أجل حياة الغير. عرفوا جيدًا أن الموت الروحي أبشع من الموت الطبيعي، إذ قالوا: “لا تجعل علينا دمًا بريئًا”. يجعلون الله نفسه شاهدًا حتى لا يتهمهم فيما لا يستطيعون عليه، وكأنهم يقولون له: لا نُريد أن نقتل نبيك إنما هو أعلن عن غضبك عليه، والنوء أكدّ إرادتك يا رب، هذه التي نحن نتممها بأيدينا.

❈ بينما لا يود الأمم موت المسيح مؤكدين أنه دم بريء (مت 27: 25)، إذا باليهود يقولون: “دمه علينا وعلى أولادنا”، لهذا متى رفعوا أيديهم نحو السماء لا يُستجاب لهم، لأن أيديهم مملوءة دمًا.

❈ لم يقل “أمسكوه” أو “انقضوا عليه” بل “أخذوه” كمن حملوه باحترام وإكرام، وطرحوه في البحر مسلمًا نفسه بين أيديهم بلا مقاومة، عندئذ وقف البحر عن هيجانه، إذ وجد من كان يبحث عنه. عندما نقتفي أثر شارد نجري وراءه بكل قدرات أرجلنا، وإذ نمسك به نتوقف بالغنيمة. هكذا كان البحر هائجًا بدون يونان، وإذ أُخذ في أعماقه من كان يشتهيه إبتهج بأخذه إياه وعيَّد له وهدأ فرحًا.

❈ عندما مات يونان الهارب في البحر خلصت السفينة التي هزتها الرياح وخلص عابدوا الأوثان.

❈ قبل آلام الرب تضرعوا إلى آلهتهم تحت تأثير الخوف (يون 1: 10)، أما بعد الآلام فخافوه بمعنى عبدوه ومجدوه… لقد خافوه خوفًا عظيمًا إي من كل النفس ومن كل القلب ومن كل الفكر (تث 6: 5) (مت 22: 37) وذبحوا ذبيحة؛ بالتأكيد لا تعني المعنى الحرفي، إذ لا توجد ذبائح في البحر، لكن ذبيحة الرب إنما هي الروح الأصيل، وكما قيل: “قدموا للرب ذبيحة الحمد، أوف للعلي نذورك” (مز 49: 14).

❈ أظهر الرب غضبه حين كان يونان في السفينة، وأظهر فرحه حين دخل إلى الموت.

❈ آمنت نينوى، أما إسرائيل فقاوم غير مصدق. آمن أهل الغرلة، أما أهل الختان فاستمروا في عدم إيمانهم.

❈ الصوم والمسوح هما أسلحة التوبة، معين للخطاة. الصوم أولًا ثم المسوح، الأول يُشير إلى ما هو غير منظور ويليه ما هو منظور. واحد قائم أمام الرب على الدوام والآخر يقوم إلى حين أمام الناس.

وكأنه يليق بتوبتنا أن نبدأ بالصوم الخفي والحياة العملية السرية وعندئذ ننطلق إلى الأعمال الظاهرة.

❈ بالتوبة ترتبط المسوح بالصوم، حتى أن البطن الفارغة وملابس الحزن تترجى الرب بقدر كبير في الصلاة.

 

 

العظة الآبائية الرابعة الله ليس مسبباً للشرور – للقديس باسيليوس الكبير[5]

إستخدام داود النبى والمرنم المستنير بالروح القدس طرقاً شتى في تعليمنا. تارة يحكى لنا عن آلامه وشجاعته التي مكنته من تحمل مواقف كثيرة تاركاً لنا من خلال شخصه مثالاً يعلمنا الصبر، مثلما قال: “يا رَبُّ، ما أكثَرَ مُضايِقيَّ! كثيرونَ قائمونَ علَيَّ” (مز1:3).

وتارة أخرى يقدم لنا داود صلاح الله وسرعته في المعونة التي يمنحها لأولئك الذين يطلبونه حقاً، عندما يقول: “فاعلَموا أنَّ الرَّبَّ قد مَيَّزَ تقيَّهُ. الرَّبُّ يَسمَعُ عِندَما أدعوهُ” (مز ٤: 3).

وهذه الأقوال هي نفسها التي قالها النبى إشعياء : “حينَئذٍ تدعو فيُجيبُ الرَّبُّ. تستَغيثُ فيقولُ : هأنذا” (إش٥٨: ٩).

أيضاً يصلى داود النبى إلى الله بطلبات حارة لكى يعلمنا بطريقة صحيحة كيف يجعل الخطاة الله عطوفاً نحوهم بتوسلاتهم: “يا رَبُّ، لا توَبِّخني بغَضَبِكَ، ولا تؤَدِّبني بغَيظِكَ” (مز٦: ١). ويقول في المزمور الثالث عشر: “إلَى مَتَى يارَبُّ تنساني كُلَّ النِّسيانِ؟” لكى يعبر عن عتابه لله في شكل استفهام، ويعلمنا من هذا المزمور ألا نترك أنفسنا للحزن والضيق ونحن ننتظر صلاح الله نحونا، وعلينا أن نعرف أن الله يسلمنا إلى الضيقات والتجارب بحسب قياس ودرجة إيمان كل واحد منا.

❈ خطورة نسب الشرور إلى الله:

وبعدما قال داود “إلَى مَتَى يارَبُّ تنساني كُلَّ النِّسيانِ؟”، “إلَى مَتَى تحجُبُ وجهَكَ عَنِّي؟” (مز١٣: 1-٢) ينتقل مباشراً إلى شرور الوثنيين، غير المؤمنين الذين عندما يواجهون صعوبة صغيرة في الحياة لا يستطيعون أن يتحملوا ظروف الأحداث الأكثر صعوبة ويبدأوا يشكّوا بعقولهم ما إذا كان الله موجوداً ويعتنى بكل الأمور وأنه يجازى كل واحد بحسب أعماله، وعندما يرون أنفسهم مستمرين في هذه الظروف المؤلمة يُثَبِتّون داخلهم التعاليم الشريرة ويقتنعون في قلوبهم بالرأى القائل بأنه لا يوجد إله: “قالَ الجاهِلُ في قَلبِهِ: ليس إلَهٌ” (مز١٤: ١). وطالما أن هذا الجاهل يضع في قلبه هذا الأمر فإنه يفعل أي خطية بدون تردد، لأنه إن لم يوجد الله الذى يرى كل الأمور، إن لم يوجد الله الذى يجازى كل واحد حسب أعماله، إذاً فما الذى يمنع أن نظلم الفقير ونتسلط عليه ونقتل الأيتام، ولا نتردد في إبادة الأرملة والغريب الذى أراد أن يعيش بيننا، ونتجرأ على فعل أي عمل سخيف، ولا مانع أن نتلوث بالشهوات النجسة والقذرة وبكل الرغبات المتوحشة؟ لذلك وكنتيجة للإعتقاد بعدم وجود الله يقول المرنم: “فسَدوا ورَجِسوا بأفعالِهِمْ” (مز١٤: ١) لأنه ليس من الممكن أن ينحرفوا هكذا عن الطريق المستقيم إن لم تكن نفوسهم قد ضعفت بمرض نسيان الله.

إننى أتساءل : كيف سلم الوثنيين “إلَى ذِهنٍ مَرفوضٍ ليَفعَلوا ما لا يَليقُ” (رو١: ٢٨). ألم يسلموا أنفسهم لأنهم قالوا: “لا يوجد إله”؟ كيف وقعوا في “أهواءِ الهَوانِ، لأنَّ إناثَهُمُ استَبدَلنَ الاستِعمالَ الطَّبيعيَّ بالذي علَى خِلافِ الطَّبيعَةِ، وكذلكَ الذُّكورُ أيضًا تارِكينَ استِعمالَ الأُنثَى الطَّبيعيَّ، اشتَعَلوا بشَهوتِهِمْ بَعضِهِمْ لبَعضٍ، فاعِلينَ الفَحشاءَ ذُكورًا بذُكورٍ”  (رو١: ٢٦-٢٧). ألم يسلموا أنفسهم بسبب أنهم “أبدَلوا مَجدَ اللهِ الذي لا يَفنَى بشِبهِ صورَةِ الإنسانِ الذي يَفنَى، والطُّيورِ، والدَّوابِّ، والزَّحّافاتِ”؟ (رو١: ٢٣).

❈ من ينسب الشر لله يتشبه  بالوثنى:

حسناً من يقول ليس إله هو الذى لا يملك عقلا ولا حكمة، كذلك من يقول إن الله مسبب للشرور هو شبيه به. إنى أعتقد أن خطية الإثنين واحدة، لأن الأول والثانى ينكران الله الصالح. فالأول يقول لا يوجد إله والآخر يقول أن الله ليس صالحاً لأنه لو أن الله هو مسبب للشرور فهذا يعنى أن الله ليس صالحاً، إذاً هناك انكار لله من كلا الجانبين.

يتسائلون من أين تأتى الأمراض؟ من أين هذه الميتات المبكرة؟ من أين الدمار العظيم الذى يلحق بالمدن؟ من أين العواصف؟ من أين الأوبئة؟ إن هذه الأمور تعتبر – في نظرهم – بالطبع شروراً، وكلها من أعمال الله ويتمادى في ذلك بقولهم من هو الآخر الذى يمكننا أن نتهمه بإرتكاب هذه الحوادث إلا الله؟.

تعال الآن، إذاً، لأننا قد أدخلنا أنفسنا في موضوع يتحدث عنه كثيرون وقيل فيه كلام كثير، وحيث أننا إنشغلنا بهذه المسألة بالتفصيل دعنا نحاول أن نطرح شرحاً واضحاً ووافياً لها.

❈ هل الإنسان مسئول عن كل ما يصيبه من تجارب وضيقات؟

حسناً ينبغي أن نضع في تصورنا  إننا نحن خليقة الله الصالح وإننا محفوظون بواسطة الله الذى يدبر أمورنا الصغيرة والكبيرة في حياتنا، لذا لن نعانى شيئاً بدون أن يكون لله إرادة في ذلك. أيضاً ليس شيئاً مما نعانى منه يعتبر ضاراً لنا بل يكون أفضل لنا لأننا عندما نتأمل في ذلك نستطيع أن نقترب من الله خالقنا.

فالموت على سبيل المثال يأتي من قبل الله بالتأكيد ولكنه ليس شراً بل يصبح شراً فقط في حالة موت الخاطئ. والموت بالنسبة للخاطئ الذى يرحل عن هذا العالم يعتبر بداية الحجيم في الهاوية. وأيضاً ما يقابله الإنسان  من آلام في الهاوية لا يكون الله المتسبب فيها بل الإنسان نفسه لأنه كان في مقدرته وسلطته أن يختار بين فعل الخطية أو رفضها وكان لدى الخطاة إمكانية  الابتعاد عن فعل الشر وتجنب الإصابة بأية نكبات. ولكنهم إنخدعوا بطعم اللذة وانقادوا إلى الخطية. إذن فما صحة هذا الذى يقال بأن هؤلاء أنفسهم ليسوا سبباً في النكبات التي أصابتهم؟! هذه النكبات هي شرور كما نفهم نحن. وهناك شرور تتوقف علينا نحن مثل الظلم، الخلاعة، الإنحلال الخلقى، الجبن، الحسد، القتل، الدسائس وكل ما يترتب عليها من أفعال تلوث النفس التي خلقت بحسب صورة الله خالقنا. إن هذه الأفعال تشوه بالطبع جمال النفس.

أيضاً نحن ندعوا كل أمر متعب ومحزن لنا شراً مثل المرض الجسدى، الجروح، حرمان الجسد من الأمور الضرورية، العار أو الفضيحة، الضرر المالى، فقدان أحد الأقارب. إن هذه الأمور تأتى إلينا من الرب الصالح والحكيم وذلك لفائدتنا.

فمثلاً عندما يأخذ الله المال من الذين يستخدمونه بطريقة سيئة فإنه يريد أن يدمر بهذه الطريقة الأداة التي بها يظلمون الناس، وأحياناً يتسبب الله في مرض للذين يكون في صالحهم أن تتقيد أعضائهم ويلازمون فراش المرض أفضل من أن يكونوا معافين وأحراراً في إرتكاب الخطية. والموت يأتي إلى البشر في الوقت المناسب أي عندما يصلون إلى نهاية حياتهم التي حددها حكم الله العادل منذ البداية، الله الذى يرى مسبقاً ما يفيد كل واحد منا. فالمجاعات والسيول هي نكبات مشتركة تأتى على المدن والأمم لكى توقف وتحجم فعل الشر المتفاقم إذن مثلما نصف الطبيب دائماً بأنه محسن وكريم حتى لو تسبب في إيلام الجسد أو النفس (لأنه يحارب المرض وليس المريض) هكذا الله هو صالح يدبر الخلاص من خلال محصلة بعض الإجراءات. أيضاً نحن لا نتهم الطبيب بأى إتهام عندما يقوم ببتر جزء من أعضاء الجسد أو يكوى آخر بل نعطيه أجراً وندعوه مخلصاً لأنه يوقف المرض عندما يظهر في جزء صغير من الجسد  قبل أن ينتشر في كل الجسد.

ولكن عندما نرى مدينة تنهار على ساكنيها بسبب زلزال، أو سفينة تنكسر وتغرق في البحر مع كل ركابها لا نتردد في التجديف على الله الطبيب الحقيقى والمخلص. أننا نعرف جيداً أنه في حالة إصابة أحد بأى مرض فإنه يعطى له علاجاً مفيداً ليشفى، ولكن عندما يصاب بمرض لا يقبل الشفاء تصير الحاجة إلى قطع العضو غير القابل للشفاء حتى لا ينتشر المرض في كل أعضاءه الحية والنشطة. إذن كما أن الطبيب ليس هو السبب في إجراء الجراحة أو الكى بل المرض نفسه ، هكذا فالخطايا هي التي تسبب دمار المدن وليس الله المنزه عن أي تهمة.

 

 

العظة الآبائية الخامسة يونان النبي وأهل نينوي – للقديس يوحنا ذهبي الفم[6]

ان إجتماعنا اليوم يكتسي ببهاء خاص، ولم يكن اجتماعنا قط غير مكتس بهذا البهاء لأي شئ نستطيع أن نُعزي هذا؟.. أسألكم أإلى الصوم؟.. ليس إلى الصوم الذي تعودنا أن نحياه، لكن الذي قد أوشك الآن (على أن يبدأ)، فهو يجمعنا في البيت الأبوي. وهو يقتاد المؤمنين الذين لا يظهرون دائماً نفس الحماس لأمهم (الكنيسة).

ولو أن الرجاء الوحيد المرتقب من هذه الفترة يكفي يبث فينا مثل هذا الحماس (الروحي) فكم ستنتعش تقوانا لو كان هذا الصوم مفتوحاً (أي دائماً)؟.

إن سلوكنا تجاه الصوم والكنيسة يشبه بالتقريب تصرف مدينة يعلن فيها أن أميراً مهيباً سيزورها، فتطرد عنها كل فتور وتظهر في أوج نشاطها، ولكني أخشى لئلا تولد فيكم هذه المقارنة الخوف، فليس الصوم هو الذي ينبغي أن نحافه بل الشياطين.

❈ مغزي الصوم 

انه يكفي أن يقدم الصوم إلى أحد المصروعين بالشياطين، لكي في الحال يتجمد ويصير عديم الحركة مثل الصخر، إذ يتقيد بالخوف الذي يسببه الصوم، وأنتم تلاحظون رد الفعل هذا مضاعفاً لو أقرنتم الصوم بالصلاة، لأن المسيح علمنا أن الشيطان لا يخرج إلا بالصوم والصلاة (مت17: 21)، وايضاً يجب أن نخص الصوم باستقبال مناسب، أي بحماس وجدية وليس بخوف، لأنه يطرد أعداء خلاصنا، ويثير خوفاً عظيماً لمن يفسدون حياتنا (أي الشياطين).

لكن إذا لم يكن للصوم شئ من المهابة، فاحترسوا لئلا تسقطوا في السكر والإفراط، لأن هذه التجاوزات باسعبادنا وتسليمنا –خلواً من أي دفاع- لطغيان الرذيلة كما لقوة رديئة النية.

إن الصوم بالمقابل يحررنا من قيود العبودية، ويضع نهاية لهذا الطغيان ويستعيد لنا حريتنا الأصلية، حيث أنه يحارب أعدائنا ويحررنا من عبوديتنا ويمنحنا حريتنا.

أي إثبات اكثر وضوح تنتظرونه أيضا من حسنات الصوم تجاه الجنس البشري؟

❈ الصوم يحمينا كدرع 

هل تريدون أن تعرفوا في أي شئ يكون الصوم موضع مجد وأداة للحماية وأمان للبشر؟ فقط تأملوا في الحياة التقوية المثيرة للإعجاب التي للمتوحدين.

هؤلاء الرجال الذين هربوا من اضطراب العالم ليلتجئوا لقمة أحد الجبال، وعاشوا هناك في مغاير في عزلة وهدوء كما في ميناء سلام،

هؤلاء الرجال الذين تبنوا الصوم كرفيق لهم على مدى كل حياتهم، وقد حولهم الصوم هكذا إلى ملائكة، ورفعهم إلى ذروة الحكمة،

لكن لا تظنوا أن هذه الأعاجيب محفوظة فقط لهؤلاء المتوحدين، بل لكل سكان مدننا الذين إن مارسوا الصوم يمكن لهم أيضاً أن ينالوها.

موسى وايليا هذان النبيان، عمودا العهد القديم اللذان كان لهما دالة عظيمة عند الرب، كانا يرجعان للصوم كلما أرادا لقاء الله والتحدث اليه، وكان الصوم يرفعهما بيده حينئذ إلى الله.

لأجل هذا فإن الله أيضاً قد سارع بوضع الانسان الذي خلقه في البدء تحت وصية الصوم وأوكل إلى الصوم خلاصه كما إلى أم ممتلئة عطفاً أو كما إلى سيد نبيل.

نعم ، إذا نظرتم إلى هذه الوصية: “مِنْ جميعِ شَجَرِ الجَنَّةِ تأكُلُ أكلاً، وأمّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرِّ فلا تأكُلْ” (تك 2: 16-17). فهل تتعرفون وتميزون هنا وصية الصوم؟ إن كان الصوم قد ظهر كضرورة في الفردوس، فهو بالأولى ضروري جداً خارج الفردوس، وإن كان ثميناً ليمنع جرح، فكم بالأولى تزداد أهميته في حالة حدوث الجرح، وإن كانت أهواءنا آنذاك نائمة ومع ذلك تسلحنا بأسلحة مقتدرة فكم بالأولى الآن تكون هناك حاجة ماسة جداً وقد أُسلِمنا إلى حرب شرسة ضد الأهواء مع الشياطين.

لو كان آدم قد أصغى إلى النهاية لهذا الصوت، لما سمع اطلاقاً هذه الكلمات “لأنَّكَ تُرابٌ، وإلَى تُرابٍ تعودُ” (تك3: 19)، وهو إذ قد تعدى هذه الوصية لذلك فهو لم يعد يعرف إلا الموت والتعب والعذاب واليأس وحياة أكثر إيلاماً من الموت ومزروعة بالأشواك والحسك والكدر والتعب وضيقات آخرى لا تحصى.

❈ مثال أهل نينوي 

وهكذا رأينا كيف عاقب الله من رذل الصوم، ولكن لنرى الآن كيف يظهر رضاه لمن يحترم الصوم، وكما أنه لم يتردد عن أن يضرب بالموت كعقوبة لمن احتقر الصوم، فإنه أيضاً يعيد إلى الحياة كل من يخضع نفسه للصوم ولكي يبدد شكوككم من نحو فضيلة الصوم، فقد جعله قادراً على الغفران للمجرمين المدانين للموت واقتادهم حينئذ إلى الحياة مع أن حكم الموت قد صدر والتنفيذ كان موشك.

هذه الأعجوبة لم يصنعها الصوم لشخص أو أثنين أو حتى لعشرين، ولكن لشعب مدينة بأكملها – لأهل مدبنة نينوى، تلك المدينة العجيبة والعظيمة، قد صدر الأمر باستئصالها من أساسها ليهوي بها في عمق الجحيم، وصارت مهيأة لاستقبال ضربة قاتلة ستنقض عليها – ضربة تليق بقوة السماء، ولكن لنسمع القصة من الأول:

“وصارَ قَوْلُ الرَّبِّ إلَى يونانَ بنِ أمِتّايَ قائلاً: قُمِ اذهَبْ إلَى نينَوَى المدينةِ العظيمَةِ” (يو1: 1-2) إن الله من البداية قد ثار على عظمة المدينة لكي يتأثر النبي، لأن الله قد سبق ورأى مشروع هروب النبي، وهذه هي الرسالة التي كلفه بها: “بَعدَ أربَعينَ يومًا تنقَلِبُ نينَوَى” (يون 3: 4) – بحسب السبعينية.

يا رب لماذا أخبرت مقدماً بالشرور التي ستنزلها بالمدينة؟

لكي لا تتحقق تهديداتي.

وهذا أيضاً لكي يقينا جهنم التي يهددنا بها، فهو يقول: اخشوا تهديدي إن كنتم لا تريدون أن تقع عليكم ضرباتي.

هذا لكي تدركوا عظم فضيلة هؤلاء البرابرة – أقصد أهل نينوى، هؤلاء الذين كان يكفيهم ثلاثة أيام لكي يسكنوا الغضب الالهي الذي سببته خطاياهم، وأيضاً لكي تتعجبوا من صلاح الله الذي اكتفى بتوبة ثلاثة أيام لتكفر عن خطايا لا تعد من الكثرة.

لكن هل تظنوا أن أي انسان متكاسل ومهمل يمكن له أن يصل لنتائج باهرة حتى إن كرس وقت طويل للتوبة؟ إن كسله سيكون عقبة في طريق تصالحه مع الله، إلا أن الخاطي الذي ينهض ويظهر حماس عظيم يستطيع بفضل قوة توبته أن يمحو في وقت قصير خطايا متراكمة من سنوات طويلة مضت.

وأيضاً ألم ينكر بطرس الرسول الرب ثلاث مرات؟ ألم يكن مستعد للقسم في المرة الثالثة؟ ألم يجفل أمام كلمات جارية حقيرة؟ فهل كان عليه أن يجاهد سنوات عديدة لكي يتوب؟ .. إطلافاً فقد قام في نفس الليلة التي سقط فيها، لقد أدركه المرض ولكنه استعاد صحته بسرعة، كيف تحقق هذا؟، لقد بكي وانتحب ودموعه لم تكن مظهرية بل كانت نابعة من عمق قلبه بندم صادق والإنجيل ذكرها هكذا: “وبَكَى بُكاءً مُرًّاً” (مت26: 75)، حقاً فقد كان سقوطاً مريعاً، وهل يوجد خطية أكثر شناعة من الإنكار؟، ولكن بالرغم من شناعة هذه الخطية، فقد استعاد كرامته وسط التلاميذ، ونحن نرى في شهادة الرب لحب بطرس له شئ مميز، فهي تظهر ضمناً حبه الشديد للرب أكثر من سائر الرسل، إذ قال الرب له: “ياسِمعانُ بنَ يونا، أتُحِبُّني أكثَرَ مِنْ هؤُلاءِ؟” (يو21: 15)، وهل يوجد سؤال غير هذا يستطيع أن يدلنا على حبه الشديد للرب؟

❈ التوبة تمحو كثرة من الخطايا

لكن هل تظنون أن الله كان له من الأسباب الوجيهة ليغفر لأهل نينوى متذرعاً بوثنيتهم وجهلهم؟ “ولكن العبد الذي لا يَعلَمُ إرادة سيده ويَفعَلُ ما يَستَحِقُّ ضَرَباتٍ، يُضرَبُ قَليلاً” (لو12: 48).

وإن كان هذا شيئاً لا تصدقونه فالله يقدم لكم هذا المثال الأخير لبطرس ذاك العبد الذي كان يعرف بالضبط إرادة سيده، وهوذا أنتم ترون أي مكانة استعادها من جديد بالرغم من شتاعة سقطته، وأخيراً أرجو ألا تقعوا في اليأس عندما تخطئون ، فهذا اليأس هو شئ أسوأ من السقوط، هو المرعب بل إن عدم القيام من السقوط هو المرعب بالأكثر.

إن بولس الرسول أيضاً قد تأسف وأعلن متمرراً أن هذا الفتور (يقصد اليأس) جدير بالحزن الكثير “لأنِّي أخافُ إذا جِئتُ اليكمَ ….. أنْ يُذِلَّني إلَهي عِندَكُمْ، إذا جِئتُ أيضًا وأنوحُ علَى كثيرينَ مِنَ الذينَ أخطأوا مِنْ قَبلُ ولم يتوبوا عن النَّجاسَةِ والزِّنا والعَهارَةِ التي فعَلوها.” (2كو 12: 20-21) لكن أليس الصوم هو أكثر فترة مناسبة للتوبة.

لكن لنرجع إلى يونان، فبعد أن سمع ما طلبه الله منه نزل إلى يافا ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب ..

❈ إلى أين تهرب يا يونان؟

ألا تذكر كلمات النبي: “أينَ أذهَبُ مِنْ روحِكَ؟ ومِنْ وجهِكَ أين أختَفي؟” (مز139: 7)

أ إلى الأرض؟ ولكن: “للرَّبِّ الأرضُ ومِلؤُها” (مز٢٤: ١)،

أ إلى الهاوية؟ ولكن: “إنْ فرَشتُ في الهاويَةِ فها أنتَ” (مز١٣٩: ٨)،

أ في السموات ولكن: “إنْ صَعِدتُ إلَى السماواتِ فأنتَ هناكَ” (مز١٣٩: ٨)،

إذاً إلى البحر؟ ولكن: “فهناكَ أيضًا تهديني يَدُكَ” (مز١٠:١٣٩).

لذلك فإن المأزق الذي وقع فيه يونان لا يختلف في شيء عما نقع فيه حينما نخطئ، فكل سقطة (خطية) تدفعنا لنوع من الجنون، وهكذا كل من يعانون من الاضطراب العقلي، أو السكارى يفقدون رشدهم ويغامرون متحدين العقبات التي توجد في طريقهم، لذلك إن وجد جرف أو هوة عميقة يسقطون فيها بلا تردد، وبنفس الطريقة فإن كل الذين يخطئون يتعثرون مشابهين السكارى إذ هم سكارى بشهواتهم الآثمة ولا يريدون أن يتمموها ولم يعودوا يشعرون لا بالحاضر ولا بالمستقبل.

❈ تجربة يونان 

أتهرب من الرب يا يونان؟ 

حسناً انتظر فبعد قليل تعلمك الأحداث ما لم تستطيع أن تتعلمه حتى من تواريك في عرض البحر ومراحم الله هي التي ستتولى هذا الأمر.

ما أن صعد يونان للسفينة حتى هاج البحر، تخيلوا خادم أمين وجد أحد رفقائه في العبودية هاراً بعد أن اختلس جزءاً من ثروة سيدهما، انه سيبذل كل جهده ليتعقب رفيقه دون تواني ويقتاده لسيده دون أن يسبب أي مضايقات لمن قد أووا رفيقه الهارب لديهم.

إن البحر يشبه هذا الخادم، فإذ قد فوجئ وعلم بهرب يونان، لذلك في الحال وضع البحارة في إشكال عظيم إذ قد هيج عليهم أمواجه بعجيج شديد وهددهم ليس بأن يقتادهم إلى محكمة، بل بأن يبتلع السفينة وكل ما فيها إن لم يسلموا له رفيقه في العبودية.

فماذا فعلوا البحارة حينئذ؟

لقد طرحوا كل الأمتعة التي كانت في السفينة إلى البحر، ولكن البحر لم يهدأ، لأن الثقل الحقيقي الذي هو النبي الهارب كان لا يزال موجوداً في جوف السفينة، وكان ثقيلاً جداً ليس بأثقال الأوزان التي نتعامل بها، بل بثقل خطيته، لأنه لا شئ أكثر ثقلاً وأصعب حملاً من خطية عدم الطاعة ..

وعن ثقل الخطية يقول لنا زكريا النبي انها تشبه الرصاص، وداود النبي يكتب: “لأنَّ آثامي قد طَمَتْ فوقَ رأسي. كحِملٍ ثَقيلٍ أثقَلَ مِمّا أحتَمِلُ” (مز38: 4).

والمسيح أيضاً يهتف جاذباً انتباه الخطاة قائلاً: “تعالَوْا إلَيَّ ياجميعَ المُتعَبينَ والثَّقيلي الأحمالِ، وأنا أُريحُكُمْ” (مت11: 28)

لم يعد إذاً هناك أدنى شك في أن خطية يونان قد جعلت السفينة ثقيلة وتكاد تغرق، ولكن يونان كان نائماً نوماً عميقاً، ليس نوم خدوء البال اللذيذ ولا نوم الراحة الشامل ولكن نوم الضيق الشديد واليأس العظيم، لأن خدام الله يلمحون ويميزون بسرعة خطاياهم، وهذا كان حال يونان الذي بمجرد أن أخطأ أدرك خطورة خطيته، وهذه احد خصائص الخطية أنها تولد آلام وضيق في النفس التي أعطت ذاتها للخطية معاكسة بذلك الناموس الطبيعي، وبينما أن ولادة طفل تضع نهاية لآلام أمه، فالخطية بالعكس تبدأ آلامها الفظيعة لحظة ولادتها في القلب.

❈ قضية يونان 

ماذا فعل حيننئذ رئيس النوتيه ؟ 

لقد ذهب إلى يونان وقال له: “قُمِ اصرُخْ إلَى إلَهِكَ” إذ أن رئيس النوتية عرف بالخبرة أن هذه العاصفة لم تكن عاصفة عادية، ولكنها واحدة من ضربات الله، هذا فضلاً عن أن هيجان البحر كان شديداً جداً ويصعب على الجهود البشرية أن تسيطر عليه، ومهارة رئيس النوتية مع فريقه لم تجدي نفعاً هنا لأن ما هو حادث كان فعل ربان آخر قوته لا بهائية ويمسك بيده تدبير العالم أجمع، لذلك كان ينبغي النجدة أن تأتي من فوق.

وأيضاً فإن النوتية قد توقفوا عن التجديف ونشر القلاع وربط أجزاء السفينة بالحبال وسائر هذه الأمور وأوقفوا عمل كل شئ ورفعوا أيديهم نحو السماء يتضرعون إلى الله، ولما لم يظهر لهم أي تحسن في حالة الجو اتجهوا لإلقاء القرعة لمعرفة بسبب من هذه البلية.

ومع أن القرعة وقعت على يونان إلا أن رفقاؤه لم يتجهوا في الحال إلى القائه في البحر، بل حولوا السفينة لمحكمة بالرغم من البحر الهائج والارتباك الذي كانوا غارقين فيه، وبدا وكأنهم وكأنهم ينعمون بهدوء كامل ووحهوا الاتهام ليونان وسمعوا دفاعه.

وقد افتتح التحقيق بتدقيق شديد كما لو أن قرارهم النهائي كان من الضرورة أن يأخذ هذه الصبغة الرسمية حتى يخال للمرء أنه واقف فعلاً أمام هيئة محكمة .. ماهو عملك، ومن أين أتيت؟ ما هي أرضك ومن؟ أي شعب أنت؟ ولو أن البحر الهائج كان يصرخ ضده، والقرعة أقرت ذلك بمنتهى الوضوح .. بالرغم من هذه الشهادات الدامغة لم يتوقفوا عن تقصي الحقيقة كما لو كانوا بالفعل محكمة عادية .. فالبحارة المنعوتين بالجهل والوثنية احترموا السبل المعتادة للقضاء، وذلك بأن سمعوا اعتراف المشكو عليه بخطأ ما أمام أبواب محكمتهم، وبعد أن سمعوا الاتهام يسمعون الشهود ويفحصون أدلة الاتهام، كل هذا وسط الرعبة التي ألقتها عليهم العاصفة المخيفة المحيطة بهم، فالبحر بالكاد يسمح لهم أن يلتقطوا أنفاسهم، فهيجانه عنيف وأمواجه تهدر بلا توقف بصوت عجيجها.

يا أحبائي الأعزاء يحق لكم أن تتساءلون لماذا تصرف النوتية هكذا بحذر شديد مع النبي؟ إنه الله هو الذي أوحى اليهم بذلك، وهو يريد أن يعلم النبي درساً في الرأفة والوداعة عن طريق النوتية، وكأنه يقول له: تمثل بهؤلاء البحارة الذين رغم جهلهم (ووثنيتهم) فإنهم يحترمون حياة شخص لا يعرفوه، وقد حاولوا باستماتة أن يجنبوه الموت، أما أنت فعلى العكس قد تخليت عن المهمة التي أوكلتها اليك لإنقاذ مدينة بأكملها مع سكانها الذين لا يُعَدّون من الكثرة.

إنهم لم يسارعوا لتنفيذ ما قررته القرعة، أما أنت فلم تبد أي حزن أو شفقة على أهل نينوى وتريد أن توردهم للتهلكة، وبالرغم من الأمر الذي قد أعطيته لك لتذهب اليهم وتبلغهم ما أوصيتك به لتضعهم على طريق الخلاص فقد عصيتني، أما هؤلاء البحارة على الرغم من أنه لم يوجد من يهذبهم، فقد اجتهدوا أن يجنبوك عقوبة أنت تستحقها.

وبالحق فإن يونان عندما أدان نفسه وأقر بخطيته وبعد أن أتهم وفضح البحر أمره بالاضافة إلى القرعة، بالرغم من كل هذا فإن البحارة لم يحاولوا أن يتخلصوا منه بسرعة، بل بالعكس بذلوا كل ما في وسعهم لكي لا يسلموه للبحر المضطرب رغم ثبوت عصيان يونان ..

إن الأمواج بل بالحري الله مزمع أن يعطي يونان درساً آخر مستخدماً هذه المرة ليس البحارة بل الحوت: “خُذوني واطرَحوني في البحرِ فيَسكُنَ البحرُ عنكُمْ” لقد حاول البحارة الرجوع للبر بالسفينة ضاربين عرض الحائط بطلب يونان الأخير، ولكن العاصفة وقفت حائلاً ومنعتهم من ذلك.

❈ نينوي خلصت بالصوم 

لقد سمعتم قصه هرب النبي والآن اسمعوه وهو يقر بخطيته من عمق احشاء الحوت الذي ابتلعه، لأنه وإن كان يونان كإنسان قد خضع لهذه العقوبة، إلا أنه يخاطبنا بشهادته كنبي.

إن يونان قد ابتلعه حوت كبير بمجرد أن القي في البحر وهذا الحوت قد حفظه سالماً ليقتاده إلى الله.

ولقد عانى يونان من عنف الأمواج، ورعبه الحوت الشره الذي استقبله في أعماقه ونجا يونان وعاد للمدينة بعد أن تعلم الدرس الذي قدمته له الأحداث الخارقة للطبيعة.

ما أن وصل يونان للمدينة حتى أعلن حكم الله على المدينة كما يليق بخطاب ملكي يعلن عقوبة “بَعدَ أربَعينَ يومًا تنقَلِبُ نينَوَى”

لقد اصغي أهل نينوى بانتباه لإعلانه هذا، ولم يستخفوا اطلاقاً بالتهديد الذي يحويه هذا الإنذار، وفي الحال صام الرجال والنساء والعبيد والسادة والأمراء وعامة الشعب الشباب والكهول، الكل صام بل الحيوانات أيضاً أجبرت على الصوم في كل مكان يوجد مسوح ورماد ونحيب وزفير، وحتى الملك قد ترك عرشه وارتدى المسوح وتغطى بالرماد، وهكذا رُفِعَ الهلاك والعقاب الذي كان ينتظر المدينة.

لم يسمع من قبل أن يوجد ملك وثد بدل ثيابه الأرجوانية بالمسوح، ولكن ما عجز عنه الثوب الأرجواني قد نالته المسوح، وما لم يستطع التاج أن ينجزه أنجزه الرماد.

ألست أنا على صواب عندما أقول لكم لا تحافوا الصوم، بل خافوا السكر والإفراط؟ لأنه بالحق فإن الشراهة هي التي هزت أساسات هذه المدينة، والصوم هو الذي أعاد تثبيتها.

وبالمثل فإن الصوم هو الذي خلص دانيال حينما القي في جب الأسود وجعلها مثل حيوانات مستأنسة مع أن هذه الحيوانات المتوحشة كانت تغلى وتزيد في داخلها وعينيها تقدح بالدم، ولكنها مع ذلك لم تهاجم الفريسة الواقفة أمامها، وهذه الحيوانات كانت بطبيعتها وحشية، إلا أنها على الرغم من جوعها الشديد إذ أنها لم تأكل طيلة سبعة أيام، وكان يبدو عليها أنها كانت تطيع أمراً أملى عليها أن لا تهاجم النبي، وقد انصاعت لهذا الأمر.

 

 

 

عظات آباء معاصرون

 

 

العظة الأولى : نينوي – للمتنيح البابا شنودة الثالث [8]

 

❈ يونان يذهب إلى نينوى، ولكن…

أصدر الله ليونان نفس الأمر القديم “قم أذهب إلى نينوى..”. وفي هذه المرة لم يهرب من وجه الرب، بل “قام وذهب إلى نينوى حسب أمر الرب”.

وتم الآمر في هدوء: الله لم يعاتب، ويونان لم يعارض.. ولعل هذا الآمر يحتاج منا إلى وقفة تأمل…

الله لم يغضب من موقف يونان، بحيث يحرمه من الخدمة، أو يسقطه من درجة النبوة إلى درجة المؤمن العادي أو يبحث عن غيرة ليرسله..

والله أيضًا لم يعاتبه، يكفيه ما حدث له. كان درسا عمليا، لا يحتاج إلى مزيد من الكلام الذي يجرح النفس في تبكيت وتعنيف وتعيير بالخطأ السابق. كلا إن هذه ليست طريقة الله، بل الله يحافظ على إحساسات أولاده. يتركهم ليشعروا بأخطائهم دون أن يعيرهم بها..

أما يونان فقد تلقى درسًا، فأطاع… ولكن أتراها كانت طاعة عن اقتناع ورضى أم هي مجرد خضوع؟

هوذا أنت ذاهب يا يونان إلى نينوى.. فماذا عن العوائق السابقة التي كانت تمنعك في المرة الأولى؟ ماذا عن كرامتك؟ وماذا عن كلمتك التي ستقولها ثم لا ينفذها الرب، إذ تتوب المدينة ويرجع الرب عن تهديده لها؟ هل فكرت في كل ذلك، وهل مات الوحش التي في أحشائك، وحش الكرامة والاعتزاز بالكلمة؟

في هذه المرة كان يونان سيطيع، وكفى. كان سيطيع من الخارج، أما من الداخل فما تزال كرامته لها أهمية عنده. سيضغط على نفسه من أجل الطاعة. وسينتظر ماذا سيفعل الرب. في هذه المرة تقابل مع الله في منتصف الطريق.

كانت محبة الكرامة ما تزال تتعبه، ولكنه أطاع خوفا من التأديب، وليس عن أيمان وتواضع.

كان ينفذ أمر الله، بالخوف، مع تذمر في القلب من الداخل سيظهر في حينه. كان يسير بالعصا وليس بالنعمة. وقد قبل منه الله هذا الوضع كمجرد تدرج، ريثما سيواصله إلى الطاعة الصادرة عن اقتناع، المؤمنة بحكمة الله وحسن تدبيره..

❈ نينوي المدينة العظيمة

عجيب هذا اللقب “المدينة العظيمة” الذي أطلقه الرب على نينوي !! قاله الرب مرتين ليونان “قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة” (1: 2، 3:2). وهذا التعبير “المدينة العظيمة” كرره الوحي للمرة الثالثة بقوله “وأما نينوى فكانت مدينة عظيمة للرب مسيرة ثلاث أيام” (3:3). وتكرر هذا اللقب للمرة الرابعة في آخر السفر عندما قال الرب “فلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة” (يو4: 11).

ما أعجب هذا، أن يلقبها الرب أربع مرات بالمدينة العظيمة، بينما كانت مدينة أممية، جاهلة لا يعرف أهلها يمينهم من شمالهم، تستحق أن ينادى النبي عليها بالهلاك، وهى خاطئة قد صعد شرها أمام الرب، وليس فيها من جهة المقياس الروحي أي مظهر من مظاهر العظمة!!

أكان هذا تنازلا من الرب في استخدام الأسلوب البشرى، فسماها عظيمة، على اعتبار أنها عاصمة لدولة، وتضم أكثر من 120 ألف من السكان؟

أم أن الله رآها باعتبار ما سوف تصير إليه في توبتها وفي عظمتها المقبلة، كأممية توبخ اليهود، كما قال عنها الرب “إن رجال نينوى سيقومون في يوم الدين مع هذا الجيل ويدينونه، لأنهم تابوا بمناداة يونان. وهو ذا أعظم من يونان ههنا” (مت12: 41).

أن تسمية الرب لنينوى بالمدينة العظيمة درس نافع للذين يسلكون بالحرف، ويدققون في استخدام الألفاظ تدقيقًا يعقدون به كل الأمور ويخضعون به الروح لفقه الكلمات!!

أمر الله يونان النبي أن ينادي على نينوى بالهلاك، ولكنه كان في نفس الوقت يدبر لأهلها الخلاص .. كان يحبهم ويعمل على إنقاذهم دون أن يطلبوا منه هذا….

أن سفر يونان يعطينا فكرة عميقة عن كراهية الله للخطية ولكنه في نفس الوقت يشفق على الخطاة ويسعى لخلاصهم.

وإنقاذ الله لنينوى فكرة عن اهتمام الله بالأمم، إذ كان اليهود يظنون أن الله لهم وحدهم، وأنهم وحدهم الذين يتبعونه ويعبدونه، وهم شعبه وغنم رعيته، فأراهم الله في قصة نينوى أن له خرافًا أخر ليست من تلك الحظيرة. وكما وبخ عبده يونان بإيمان البحارة الأمميين، وكذلك وبخ اليهود بإيمان أهل نينوى وتوبتهم، تلك التوبة التي كانت عظيمة حقا في عمقها وفاعليتها.

❈ عظمة نينوي في توبتها

عندما وصف الله نينوى بأنها مدينة عظيمة، لم يكن ينظر إلى جهلها وخطيئتها، أنما كان ينظر في فرح شديد إلى عمق توبتها.

* كانت نينوى سريعة في استجابتها لكلمة الرب:

إن أهل سدوم عندما أنذرهم لوط بغضب الرب، استهزءوا به ” وكان كمازح في وسط اصهاره ” (تك 19: 14). أما أهل نينوى فأخذوا يونان بجدية فائقة الحد، واستجابوا للكلمة بسرعة. على الرغم من مهلة الأربعين يوما التي كان يمكن أن تستغل للتراخي والتهاون، لقد كانت كلمة الرب فيهم سريعة وحية وفعالة وأمضى من سيف ذي حدين.

وكان أهل نينوى في هذه الاستجابة السريعة أعظم من اليهود الذين عاصروا السيد المسيح الذي هو أعظم من يونان بما لا يقاس ورأوا معجزاته العديدة، وشاهدوا روحانيته التي لا تحد، ومع ذلك لم يتوبوا، فوبخهم الرب بأهل نينوى (مت١٢: ٣٩).

* كانت كلمة الرب لآهل نينوى كلمة مثمرة، أتت بثمر كثير عجيب:

أول ثمرة لها هي الايمان “فآمن أهل نينوى بالله”.

وثاني ثمرة لآهل نينوى كانت انسحاق القلب الصادق، المتذلل أمام الله. وهكذا “لبسوا المسوح من كبيرهم إلى صغيرهم”. والمسموح ملابس خشنة من شعر الماعز..، دليل على التذلل وعلى الزهد ورفض مغريات العالم.. حتى ملك نينوى نفسه: خلع رداءه الملكي، وتغطى بالمسوح، وقام عن عرشه، وجلس على الرماد..

ونظر الله إلى هذه المدينة المتضعة، وتنسم منها رائحة الرضى. “فالذبيحة لله هي روح منسحق. القلب المتخشع والمتواضع لا يرذله الله” (مز 50).. حقا ما أعجب هذا المنظر الفريد في نوعه.. أن نرى مدينة بأسرها منسحقة في التراب والرماد، متذللة في المسوح، من الملك إلى الطفل الصغير.. حتى البهائم، تغطت أيضًا بالمسوح..!

وكان من ثمار كلمة الله فيها أيضًا: الصوم والصلاة.. نادت المدينة بصوم عام للكل.. فلم يذق الناس شيئًا.. وحتى البهائم والبقر والغنم، لم ترع ولم تشرب ماء. لم يرد الناس أن ينشغلوا بإطعام بهائمهم حتى يتفرغوا للعبادة وللتضرع إلى الله.. وهكذا مزجوا صومهم بالصلاة و”صرخوا إلى الله بشدة”..

على أن أهم ثمرة لأهل نينوى كانت هي التوبة.. التوبة قادتهم إلى الإيمان، إذ كانت الخطية هي الحائل بينهم وبين الله. ومن ثمار التوبة فيهم كان التذلل والصوم ولبس المسوح والصراخ إلى الله. كانت توبة صادقة بكل معنى الكلمة، توبة جادة بكل مشاعر القلب، فيها “رجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم”.

وبهذه التوبة استحقوا رحمة الله، فعفا عنهم جميعا وسامحهم، وقبلهم أليه وضمهم إلى خاصته. وفي هذا يقول الكتاب “فلما رأى الله أعمالهم، أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه” (يون3: 10).

لم يقل الكتاب “لما رأى الرب صومهم وصلاتهم وتذللهم” بل قال “لما رأى أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة”. كانت التوبة إذن هي سبب رحمة الرب لهم. وكان صومهم وصلاتهم وتذللهم مجرد ثمار للتوبة..

*أود في هذه المناسبة أن أقف قليلا عنده عبارة هامة قيلت في توبة نينوى وهي أنها “تابت بمناداة يونان” .. فماذا كانت مناداة يونان؟

❈ مناداة يونان

لم يسجل لنا الكتاب الخطاب العميق الذي قاد 120,000 نسمة إلى التوبة، بهذا الانسحاق العجيب. ليته كان قد زودنا بهذا الجانب الهائل الذي تتركز فيه عظمة يونان النبي..

كل ما سجله الكتاب لنا في هذا المجال لا يزيد عن عبارة واحدة فقط، ذكر فيها أن يونان دخل المدينة ونادى وقال: “بعد أربعين يوما تنقلب نينوى” (يون3: 4).

هل حقا أن يونان لم يقل سوى هذه العبارة وحدها؟ وهل كانت كافية لخلاص المدينة وإحداث هذا التأثير الهائل؟

لقد قال لوط عن سدوم  “أن الرب مهلك المدينة” (تك19: 14)، ومع ذلك لم يتأثر أحد ولم يتب أحد. وسمع الناس عن الطوفان الذي سيهلك الأرض كلها ,، ورأوا الفلك يبني أمامهم، ومع ذلك لم يتب أحد، وهلكوا جميعا.. وكم من مرة فشلت الإنذارات بالموت. أدم نفسه سمع إنذارا ” موتا تموت”، فلم يمنعه هذا الإنذار عن الخطأ.

فما هو السر الذي يختفي وراء توبة نينوى وخلاصها؟

هل الآمر يرجع إلى مناداة التي نادى بها يونان وعمق تأثيرها في النفوس؟ أم أن السبب يرجع إلى قوة الاستعداد الداخلي في القلوب، بحيث أن كل كلمة إلهية لا بُد أن تحدث أثرًا، لآن القلب مستعد للسماع، والإرادة مستعد للتنفيذ، والأرض جيدة للزرع..؟ أنا في داخلي أميل إلى هذا الرأي الثاني..

أميل إلى الاعتقاد أن توبة نينوى كان مرجعها الأساسي هو الاستعداد القلبي عند أهل نينوى.

ولعل هذا الاستعداد هو الذي دعا الله إلى إرسال نبيه إليهم. وكما يقول الرسول “الذي سبق فعرفهم، سبق فعينهم” (رو 8: 29)… أن استعداد القلب له مكانة كبيرة في عمل التوبة…

الشاب الغني خاطبه الرب نفسه، بكل ما في كلام الرب من قوة وتأثير ومع ذلك مضى حزينا لأن القلب من الداخل لم يكن مستعدًا، كالأرض المحجرة لا تخرج نباتا مهما كانت البذار جيدة، ومهما كان الزارع خبيرا.. أما قلب الشاب انطونيوس المستعد للكلمة ، فلما سمع في الكنيسة نفس العبارة التي قيلت للشاب الغنى، تركت هذه العبارة فيه أثرًا عميقًا، ونفذها بحب.. هكذا نينوى أيضًا.

ويؤيد هذا الرأي عندي أن يونان عندما قال أن المدينة ستنقلب، قالها وهو مؤمن في أعماقه أنها سوف لا تنقلب، وأن كلمته سوف لا تنفذ…

نادى بهذه المناداة مضطراً، طاعة لآمر صدر إليه، وهو غير واثق مما يقول. ولو كان مؤمنا بما قاله، لكان كلامه أعمق تأثيرًا..

ومع ذلك تابت نينوى بمناداة يونان،لأن القلب كان مستعدا لآية كلمة تخرج من فم الله.. وهكذا كانت لهذه التوبة قوتها، صادرة من الداخل لا من الخارج..

ولهذا أمتدح الرب آهل نينوى وتوبتهم، وقال أنهم سيقومون في يوم الدين، ويدينون ذلك الجيل…

ومما يزيد هذه التوبة قوةً وجمالًا، أنها كانت توبة عامة.. الكل تابوا. الكل رجعوا إلى الله. الكل آمنوا به.

أكثر من 120 ألفًا دخلوا إلى حظيرة الرب دفعة واحدة أن كان يصير فرح في السماء تخاطي واحد يتوب، فماذا نقول عن الفرح بأكثر من اثنتي عشرة ربوة كانوا من قبل لا يعرفون يمينهم من شمالهم؟!

وهكذا نجح الهدف الثاني من خطة الله. فخاص أهل نينوى، كما خلص أهل السفينة من قبل.

❈ بقي يونان ..

إنقاذ يونان من قسوته وكبرياؤه 

كان هناك فرح في السماء بخلاص نينوى.

لقد فرح الله. وفرح الملائكة، وكانوا يهنئون بعضهم قائلين: لقد آمنت نينوى، وقد تابت، وقد أنضم إلى ملكوت الله 000ر120 من الناس في يوم واحد.

ووسط أفراح السماء وتهليل الملائكة، كان هناك إنسان واحد حزين بسبب هذا الخلاص العظيم، ذلك هو يونان النبي.

لقد حزن جدا لأن الله غفر لهؤلاء الناس ورحمهم ولم يهلكهم. وقد عبر الكتاب عن حزن يونان بعبارة مذهلة أو بعبارة مخجلة. قال فيها: “فغم ذلك يونان غما شديدا فاغتاظ” (4: 1). يا للهول!! أيغتم النبي من أجل خلاص الناس، وغما شديدا، ويغتاظ!! كل ذلك لآن هذه الآلاف كلها قد نجت من الهلاك..

إذن ما هو عمل النبي، إن لم يكن هو خلاص الناس؟! وما هو فرح النبي إن لم يكن هو الفرح بخلاصهم؟!

يذكرني يونان في تصرفه هذه بالابن الكبير عندما حزن ورفض أن يدخل، لآن أخاه كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوجد.. وقد قبله أبوه فرحاً فاغتنم هذا الابن الكبير غمًا شديدًا وأغتاظ، كيونان.. وحاول بغضبه أن يعكر صفو تلك البهجة.. تمامًا كيونان.

فما هو السر المختفي وراء غيظ يونان النبي؟

لقد كان يونان ما يزال متمركزا حول ذاته، لا يفكر إلا فيها.

لم يكن يفكر في نينوى، ولا في توبتها، ولا في هذا الخلاص العظيم الذي تم، ولا في ملكوت الله وبنائه. وإنما كان يفكر في شيء واحد فقط هو ذاته .. تمامًا كما فكر الابن الكبير في ذاته: كيف أنه خدم أباه سنين طويلة وكيف أنه لم يأخذ جديا، ولم يفرح مع أصدقائه.. (لو 15).

وعلى أسلوب أقل في الاهتمام بالذات، كان تعب مرثا بسبب جلسة التأمل الجميلة التي تمتعت بها مريم تحت قدمي المسيح.. كانت تفكر في راحتها الخاصة وعدم حصولها على مساعدة من أختها…

أما يونان، فقد كان تفكيره في ذاته من نوع أخطر. كان ما يزال يفكر في كرامته وفي كلمته التي نزلت إلى الأرض.

إنه نفس التفكير السابق القديم، الذي دفعه قبلًا إلى الهروب من وجه الرب.. وبسبب هذا الفكر، حرم نفسه من الاشتراك في أفراح السماء، وفصل نفسه من الانضمام إلى جماعة الملائكة المبتهجين بخلاص نينوى. وبرهن بغيظه هذا، على أن طريقة تفكيره ذاتية غير روحية، وبرهن على أن مشيئة الأب السماوي الذي “يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1تي 2: 4).

وبهذا الغيظ برهن يونان على أنه لم يستطع أن يستفيد من تجربته السابقة. نسى الثمن الذي دفعه في بطن الحوت وفي السفينة المهددة بالغرق..

لم يؤثر فيه ذلك الدرس المؤلم الذي تلقاه من الله. وإن كان قد أطاع الله ظاهريا بعد تلك التجربة، إلا أنه ظل في الداخل كما هو لم يتغير، ولم يتخلص من طبيعته المحبة لذاتها وكرامتها المتمركزة حول هذه الذات. لم تكن خدمة الرب في أعماقه، ولم تكن في أعماقه محبة الناس.. كانت كل هذه الأمور تطفو على سطح تفكيره. أما العمق ففيه الذات والكرامة أكثر من أي شيء أخر!!

والعجيب أن يونان وهو في هذا السقوط الروحي صلى إلى الرب.. بأي وجه كان يصلى وهو مختلف مع الله في الوسيلة والأهداف؟! بأي وجه كان يصلى وهو بهذا القلب الخالي من المحبة المغتاظ من تصرفات الله؟! لست أدرى. ولكن يكشف الآمر ويزيده عجبا، أنه كان يصلى ليشكو الله ويبرر ذاته، ويتذمر على هذه المعاملة. طالبا لنفسه الموت، فالموت عنده أفضل بكثير من ضياع كرامته...

إنه أخطأ، ولم يعترف بخطئه، بل على العكس تذمر!! وهكذا صلى وقال “آه يا رب..” بل آه منك أنت يا يونان الذي لا تهتم سوى بنفسك وكرامتك ، ماذا تريد أن تقول؟ يتابع يونان صلاته فيقول “آه يا رب، أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضى؟! لذلك بادرت بالهرب إلى ترشيش ،لآني علمت أنك اله رءوف ورحيم بطيْ الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر” (يون 4: 2).

وماذا يضيرك يا يونان في أن يكون الله رحيما؟! ثق أنه لولا رحمته لهلكت أنت أيضًا.. إن رحمته قد شملت الكل. كما شملت أهل نينوى التائبين المتذللين أمامه كذلك قد شملتك أنت أيضًا الذي لم تتب بعد، ولم تتذلل، وحتى صلاتك فيها تبرير ذات، وفيها شكوى، وفيها تذمر..

ويصرخ يونان في تذمره “فالآن يا رب خذ نفسي مني، لأن موتي خيرٌ من حياتي”!!

هل إلى هذا الحد وصل غيظك من سقوط كلمتك يا يونان، لدرجة أنك ترى الموت خيرًا من حياتك؟! قبل كل شيء، ينبغي أن تعلم أنها كلمة الله وليست كلمتك. انك مجرد مبلغ رسالة، وصاحب الرسالة هو الله ذاته. فأن كان الله في كل علوه وسموه وسلطانه، قد قبل هذا الوضع، فلماذا لا تقبله أنت، وأنت مجرد تراب ورماد…

ثم من قال أن كلمة الله التي قمت بتبليغها قد سقطت أو تغيرت أو نزلت إلى الأرض؟! أن الله أصدر حكم الهلاك والانقلاب على نينوى الخاطئة، وليس على نينوي التائبة.

كانت نينوى الخاطئة تستحق الموت حسب عدل الله، لآن “أجرة الخطية هي موت”. ولكن نينوى الخاطئة ليس لها وجود الآن، حتى يعاقبها الله بالانقلاب….أنها قد انقلبت فعلا عندما تحولت إلى هذا الوضع الجديد. ونينوى الجديدة لا علاقة لها إطلاقا بنيوي الخاطئة، التي ماتت فعلا واختفت صورتها عن أعين الناس. نينوى الجديدة هي مخلوق جديد قد ولد من الروح القدس، مخلوق طاهر نقي، بطبيعة جديدة وروح جديدة، وصفات جديدة. وليس من العدل أن يحكم على هذا المخلوق الجديد بالموت. أذن فإنقاذ الله لنينوى عمل من أعمال عدل الله، وليس فقط من أعمال رحمته..

لو كانت نينوى قد استمرت في خطيئتها وشرها، وأبقاها الله على هذه الحالة ولم ينفذ فيها حكمه، لأمكن القول أن كلمة التهديد قد سقطت ولم تنفذ.

على أن يونان لم يفهم هذا المنطق، وأهتم بحرفية الحكم لا بروحه! لذلك اغتاظ، ولم يكن له حق في غيظه.

ومن الأمور التي تدعو إلى الدهشة، أن يونان بعد صلاته التي عاتب فيها الرب وتذمر مما حدث كان ما يزال يراوده أمل في أن يعود الله فيهلك المدينة، إكرامًا لنبيه وإرضاء لهذا القلب المغتاظ!!. وهكذا يقول الكتاب أن يونان صنع له مظلة خارج المدينة وجلس تحتها ” حتى يرى ماذا يحدث في المدينة”!! (يون 4: 5).

رأى الله آن يونان مغتم ومغتاظ، فأراد أن يعمل معه عمل محبة. بينما كان يونان يفكر في ذاته، كان الله يفكر في خلاص الناس. الله لم يفكر في كرامته، كيونان. لم يفكر كيف أن يونان عصاه وخالفه وتذمر على أحكامه، وإنما فكر كيف يريح يونان ويخلصه من غمه. عجيبة هي محبة الله هذه…

كان لله عمل كبير مع يونان لا بُد أن يعمله…

يسعى لخلاصه هو أيضًا، لئلا بعد ما كرز لآخرين، يكون هو نفسه مرفوضًا أمام الله (كو 9: 27).. كان هذا الذي كرز للناس بالتوبة يحتاج هو أيضًا إلى توبة، يحتاج أن يتخلص من قسوته ومن كبريائه ومن اعتزازه بكرامته. وكدأب الله دائما، بدأ هو بعمل مصالحة، فلما رأى يونان مغتما، أعد يقطينة ارتفعت فوق رأس يونان “لتكون ظلًا على رأسه، لكي يخلصه من غمه” (يون 4: 6).

ما أكثر ما تتعب يا رب من أجلنا! من أجل راحتنا، ومن أجل إصلاحنا، ومن أجل مصالحتنا. كنا نظن انك استرحت منذ اليوم السابع، ولكنك ما تزال تعمل من أجلنا، استرحت من خلق العالم. أما من جهة رعايته فما تزال تعمل.

أنت تريد أن تريح يونان من غمه؟! ولكنه هو الذي يجلب لنفسه الغم بأسلوبه الخاطئ، نعم، الأمر كذلك، ولكنى أريد أن أريحه من الأمرين معًا، من غمه ومن أسلوبه الخاطئ.. إنه ابني على أي حال….

سأخرج القساوة من قلبه بأعمال الرحمة التي اعملها معه، لكي يرى ويتعلم. وكما أشفقت على نينوى، أنا أشفق عليه أيضًا، لان الشفقة هي طبيعتي. لقد أشفقت عليه عندما القي في البحر، وأشفقت عليه وهو في جوف الحوت، وأشفقت عليه في كل أخطائه وأحاسيسه. والآن أشفق عليه في غمه. لقد أعددت له اليقطينة لتظلل عليه، لآني أعرف أنه سيفرح بها جدا. وأنا أبحث عن فرحه، مهما تذمر على أحكامي، ومهما أغتاظ من عملي..

وكان كما شاء الله “وفرح يونان من أجل اليقطينة فرحًا عظيمًا” (يون4: 6). صدقوني أنني عندما قرأت من الفرح العظيم الذي فرحه، يونان باليقطينة انذهلت جدًا… أنها ولا شك عبارة مخجلة..

هل تفرح يا يونان فرحًا عظيمًا من أجل اليقطينة التي ظللت عليك، ولا تفرح ولو قليلًا، بل تغتاظ من أجل رحمة الله التي ظَلَّلَت على 120 ألف نسمة؟! ألم يكن الأجدر أن تفرح هذا الفرح العظيم من أجل خلاص نينوى؟!

ولكنك فرحت باليقطينة، لأنك تفكر في راحتك الشخصية، في ذاتك، وليس في ملكوت الله على الأرض..! والله رأى في أن يفرحك بهذا الأسلوب الذي تفرح به. لكي يريك أنه مهتم بك، وأنه لا يعاملك حسب أعمالك، بل حسب وفر حنانه.. ينزل الله إلى مستواك المادي، لكي يرفعك إلى المستوى الروحي اللائق بنبي.. انه يعاملك بهذه الشفقة وأنت خاطئ، لكي يغرس في قلبك الشفقة نحو الخطاة. وهكذا يعالج قسوتك على أهل نينوى وعدم رحمتك نحوهم.

واليقطينة التي أعدها الله ليونان، كانت تحمل هدفين:

الأول هو إظهار الشفقة نحو يونان إذ تظلل عليه، والهدف الثاني أن يتعلم من قصتها درسًا روحيًا نافعًا لحياته. بنمو اليقطينة يعمل الله عمل رحمة نحو يونان، وبهلاك اليقطينة في يبسها، يعمل الله عمل تعليم وإرشاد ليونان، لكي ما تستفيد ماديًا ونفسيًا وروحيًا.

داخل نينوى كان يعمل مع الله في نشر ملكوته بالكرازة، وخارج نينوى كان الله يعمل لآجل يونان لتخليص نفسه، ولتخليصه من غمه..

واستمر الله يعمل، في هدوء وصمت، دون أن يحس يونان بعمله. عندما فرح يونان باليقطينة، فرح بظلها،ولكنه لم يفرح بدرسها، إذ لم يكن قد تلقاه بعد. فرح باليقطينة، ولم يفرح بالله الذي كان يعمل وراء اليقطينة من أجله.

وإذ بدأت خطة الله تأتي بثمرها، ضرب اليقطينة فيبست، أعد لها دودة فضربتها. وانتهى الدور الذي قامت به اليقطينة وبقى أن يتخذها الله مادة للتعليم!

ضاعت اليقطينة، وضاع الظل، وضربت الشمس على رأس يونان فذبل، واشتهى لنفسه الموت. كل ذلك كان بتدبير من الله، لكي يعطى يونان درسا نافعا لخلاص نفسه.

حقا أن الله يدبر كل شيء للخير. الظل للخير، وضربة الشمس للخير أيضًا.

يمكن أن يذبل الجسد، ويكون هذا خيرا، لكي تنتعش الروح. ويمكن أن يتضايق يونان وتتعب نفسه ويشتهى الموت، وتكون ضيقته وتعبه جزءًا من الخطة الإلهية صالحا لتخليص روحه وتنقية قلبه…

ان الله يريد لنا الخلاص، وهو مستعد أن يستخدم كافة السبل النافعة لخلاصنا، حتى لو كانت تحمل أحيانًا تعبًا للجسد، أو تعبًا للنفس.

وفى خلال كل هذه التدابير الروحية كان يونان غارقًا في تفكيره المادي. يفرح من أجل اليقطينة، ويحزن من أجل ضياعها، دون أن يفكر في خلاص نفسه، ودون أن يهتم بالمصالحة مع الله..

وإذ ذبل يونان من ضربة الشمس، “طلب لنفسه الموت وقال موتى خير من حياتي” (4: 8). وكانت هذه هي المرة الثانية التي يطلب فيها الموت لنفسه: الأولى عندما تضايق من أجل كرامته وسقوط كلمته، والثانية عندما تضايق بسبب ضربة الشمس وسقوط اليقطينة. الأولى لسبب جسدي، دون أن يكون للروح شأن بالموضوع…

كثيرون اشتهوا الموت لأسباب روحية مقدسة، أما يونان فطلب الموت لأسباب تافهة تحمل معنى التذمر وعدم الاحتمال.

بولس الرسول لم يخطئ عندما قال “لي اشتهاء أن انطلق وأكون مع المسيح، فذاك أفضل جدا” (في1:23). وسمعان الشيخ لم يخطئ عندما قال “الآن يا رب تطلق عبدك بسلام لآن عيني قد أبصرتا خلاصك” (لو 2: 29).

أما يونان فقد أخطأ عندما قال لله “الآن خذ نفسي لآن موتي خير من حياتي”.

قالها عن تذمر، في وقت لم يكن فيه مستعدا للموت. ولو سمع الله صلاته في ذلك الوقت واخذ نفسه منه، لضاع يونان. أليس رحمة من الله بنا، انه لا يستمع أحيانا لصلواتنا في جهالة طلباتنا التي تضرنا. وصدق الرسول حينما قال “تطلبون ولستم تأخذون، لأنكم تطلبون رديًا” (يع4: 3).

وإذ وصل يونان إلى طلب الموت، بدأ الله يتفاهم معه، فقال له “هل اغتظت بالصواب؟” هل اغتظت بسبب حكمة الله ورحمته؟ وأجاب يونان: “نعم اغتظت بالصواب حتى الموت”! أتضيع كلمتي وكرامتي، ثم تحرمني من ظل يقطينتي ولا تنتظر مني بعد ذلك أن أغتاظ. نعم اغتظت “بهذا الذي تسميه صوابًا” حتى الموت…

ومع أن هذا الأسلوب من يونان لم يكن لطيفًا من الناحية الروحية، آلا انه على أية الحالات يدل على صراحته مع الله وكشفه لدواخله كما هي..

وبأ الله يتفاهم معه ويقنعه. قال له الرب ” أنت أشفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها، التي بنت ليله كانت وبنت ليله هلكت. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس..”؟!

أما من جهة كلمتك التي تظن أنها سقطت، أو بالأحرى كلمتي، فاعلم أنها لم تسقط، وأنا لم أتغير. فالله ليس عنده تغيير ولا ظل دوران (يع 1: 17).

إنني لم اقصد إهلاك أهل نينوى، وإنما إهلاك الشر الذي فيهم. لقد حكمت عليهم بالهلاك عندما كانوا ممتزجين بالشر، بحيث صاروا هم والشر شيئًا واحدًا أما وقد انفصلوا عن الشر، فلا معنى بهلاكهم، لأنه ليس فيهم الآن شر يستحق الهلاك. لقد انضموا إلى صفي، وصاروا ضد الشر معي.

 

 

العظة الثانية : سفر يونان – لقداسة البابا تواضروس الثاني[9]

 

  • صوم يونان

تعيش الكنيسة أحداث سفر يونان بصوم وانقطاع ثلاثة أيام مع الصلاة والألحان، ولأهميته تعتبره مقدمة زمانية لرحلة الصوم الكبير التي بعد أسبوعين حتى القيامة المجيدة. في هذا الصوم ثلاث قصص:

الأولى: الله والإنسان، في اهتمام الله وعناد الإنسان وفكره الخاطئ وضياعه.

الثانية: الله وأفراد السفينة عابدي الأوثان، والجهل بالإله الحقيقي.

الثالثة: الله وشعب نينوى، الذي بلا نور وعاش في الضلالة والخطية.

وفي نفس الوقت نطالع ثلاث صفات إلهية عظمى:

  • هو إله الرحمة والسماح: يرحم شعب – يرحم أفراد –يرحم إنسان (يونان).
  • هو إله الفرصة الثانية: ليونان – لبحارة السفينة – لشعب نينوى.
  • هو إله الخير والنجاح: صار يونان صاحب أنجح إرسالية كرازية وأنقذ نينوى.

أربعة دروس

يونان النبي: عاش قرابة ال 100 عام في القرن الثمن ق.م منها 73 سنة خدمة.

السفر: يختلف عن أسفار الأنبياء إذ يتحدّث عن النبي نفسه وليس عن نبوة.

أقسام السفر: (ص 2،1 يونان يهرب من خدمته) (ص 4،3 يونان يتمم خدمته).

مُلخص السفر = ص 4،3

أربعة دروس:

1 دروس من البحّارة: روح الاستعداد والعدل← (درس المخافة) هم أفضل منه (10:1).

2 دروس من الحوت: حوار الصلاة الهادئ← (درس الطاعة) هم أكثر طاعة منه (10:2).

3 دروس من أهل نينوى: التوبة الحاسمة← (درس التوبة) هم أكثر منه فهماً (10:3).

4 دروس من الطبيعة (اليقطينة):← تذمُّر الإنسان مقابل رحمة الله التي تنساب على كل البشر.

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [ما أجمل أيقونة المسيح المرسومة في دمعة إنسان تائب!]

وأيضاً: [يلزمنا أولاً أن نصنع ما نستطيع، فيعمل الله فينا ما لا نستطيع].

  • صلاة يونان

سفر يونان أصحاح 2: هي قطعة النبوات التي تقرأ في اليوم الثاني من صوم نينوى.

السفر كله يُقارِن بين شوق الله نحو الإنسان، مقابل عناد الإنسان أمام الله.

السِّمات العامة في هذه الصلاة:

  1. تخلو من أية طلبة مباشرة “من الأعماق صرخت إليك يارب…” (مز1:130).
  2. تبدأ بالحزن والضيق وتنتهي بالمجد والشكر والحمد والنذور.
  3. يهرب في الرحب من وجه الرب، وفي الضيق يجد الرب ملجأ له.

ثلاثة ملامح في هذه الصلاة تُشكِّل مشاعر الإنسان التائب:

  • مشاعر الخجل: شدة خجله من خطاياه ومخالفته وهروبه من الله ثم استحقاقه للطرد والعقوبة من الله، مثلما قال داود: “خطيتي أمامي في كل حين.. لك وحدك أخطأت..” (مز51: 3-4).
  • مشاعر الثقة: شدة ثقته ورجائه في محبة الله. هو واثق أن الله سوف ينقذه. هو يغفر ويسامح وينسى ويبدأ معنا من جديد.
  • مشاعر الاختبار: هو يعلِّمنا: وقد تعلَّم أولاً من هذه الضيقة أمريْن:
    • الذين يراعون أباطيل كاذبة يتركون نعمتهم، فقد كان هروبه خدعة باطلة مثل الأباطيل الأخرى (الذات –الكرامة – المال – الخطية – … إلخ).
    • “بصوت الحمد أذبح لك وأوفي بما نذرته. للرب الخلاص” إنه يعلن خلاص الرب. (قبل مجيء المسيح بثمانية قرون) مثل أُمّنا العذراء (تبتهج روحي بالله مُخلِّصي).

 

من هو الإنسان؟

توجد 4 عبارات في سفر يونان تشرح من هو الإنسان وما هي مشاعره المتنوِّعة؟

1- نام نوماً ثقيلاً (ص 5:1) ← (الاستهتار والكسل والهرب).

2- خاف الرجال خوفاً عظيماً (ص10:1) ← (المخافة والإحساس بالحضرة الإلهية).

3- غمّ ذلك يونان غمّاً شديداً (ص 4: 1) ← (الأنانية وعدم محبة الآخرين).

4- فرح يونان فرحاً عظيماً (ص 4: 6) ← (السذاجة والنظرة الضيقة).

أمّا الحوت بطل القصة فقد كان بركة من الله:

  • مدرسة صلاة وقت الضيق. ← لقد دفع النبي الهارب إلى شركة الصلاة القلبية.
  • قدوة ونموذج للطاعة والعمل. ← كان بمثابة وسيلة تعليمية بطاعته أمام النبي.
  • وسيلة مواصلات مجانية للنبي. ← الله لا يترك خادمه حتى ولو كان هارباً معانداً.

يقول مار أفرام السرياني: طوبى للممتلئ فرحاً روحياً على الدوام، ولا يتكاسل في حمل نير الرب الصالح، لأنه سوف يُكلّل بمجد.

  • عناصر سفر يونان النبي الخمسة
  1. نبي متذمِّر: يرفض دعوة، يهرب، ينام، يتذمَّر، ضيق الأفق،… احذر الهروب من الوصية.
  2. بحّارة مُتعقِّلون: يُفكِّرون، يصلّون، يطرحون الأمتعة، يلقون قرعة، يجتهدون، يخافون، يُقدَّمون ذبيحة، ينذرون نذراً،….. لهم قلوب مفتوحة واعية.
  3. حوت مطيع: نشيط، يبتلع، يأتي في وقت مناسب، يصوم 3 أيام، ينفذ الأمر الإلهي، خاضع…
  4. شعب مقبول: يسمعون، يتأثرون، يصومون، يلبسون مسوحاً، يصلّون، يندمون عن شرهم، …
  5. إله مُحب: رؤوف، رحيم، بطيء الغضب، كثير الرحمة، طويل الأناة،….

يونان النبي يمثِّل البلادة الروحية، ومظاهرها كما يلي:

  • عدم طاعة الله (عصيان).
  • عدم الشفقة على الخطاة … قلب محدود.
  • عدم إدراك أبسط حقائق الإيمان حيث أن الله موجود في كل مكان.
  • عدم الاتضاع – فضّل كرامته على نجاة الشعب –وتمنى موته أفضل من حياته. عنده ذات وكبرياء.
  • عدم الاحتمال (صار غضوباً) وقال موتي خير من حياتي.

 

 

العظة الثالثة لآباء معاصرين : آية يونان النبى – للأنبا ابيفانيوس [10]

 

تمتلئ أسفار العهد القديم بالنبؤات عن الرب يسوع منذ ميلاده، حتى صعوده إلى السماء، ثم مجيئه الثاني ليدين الأحياء والأموات. ولا يخلو كلام أى نبي من أنبياء بنى اسرائيل من نبوءة أو أكثر تلقى الضوء على مرحلة من مراحل حياة الرب يسوع حتى بلعام النبي الأممي الغريب عن شعب اسرائيل تنبأ عن مجيء الرب يسوع بالجسد، فقال: “أراه وليس الآن. أبصره ولكن ليس قريباً. يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من اسرائيل ….” (عد24: 17). وهكذا يشترك جميع الأنبياء في التنبؤ عن شخص الرب يسوع .

أما يونان النبى فقد تميز على كثير من الأنبياء، فهو لم يتكلم متنبئا عن مجىء الرب فقط، بل صار هو نفسه رمزاً يشير إلى موت الرب وقيامته.

هذا ما أوضحه الرب يسوع عندما طلب قوم من الكتبة والفريسيين أن يريهم آية من السماء، فرد عليهم قائلاً: “جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطى له آية الا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان فى بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الانسان فى قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال…. لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى، كذلك يكون ابن الانسان أيضا لهذا الجيل” (مت 12: 39-40) (لو 11: 30).

❈ لمحة تاريخية :

ولد يونان بن أمتاي، ومعنى اسمه حمامة، فى قرية جت حافر التى تقع على حدود زبولون ونفتالى (يش19: 13)، وهى تبعد حوالى خمسة كيلومترات إلى الشمال الشرقى من مدينة الناصرة. وتقع مكانها الآن “خربة الزورة” بالقرب من قرية “مشهد” حيث يوجد الآن “قبر النبى يونس” الذى يعتقد أن النبى مدفون فيه، ويذكر القديس جيروم (من القرن الرابع)، أنه قام بزيارة هذا القبر.

ولا يرد فى كتاب العهد القديم أية اشارة عن هذا النبي خارج سفر يونان إلا فى سفر الملوك الثانى (2مل 14: 25)، حيث يذكر أنه تنبأ فى أيام الملك يربعام بن يوآش ملك اسرائيل ( 793 735 ق.م.).

تنبأ يونان النبي فى فترة من أصعب الفترات التى مرت على أمته. فجميع الملوك المعاصرين الذين حكموا اسرائيل كانوا أشراراً جداً فى عيني الرب، وكان عقاب الرب وشيكا أن يحل بهم. وقد استخدم الله يونان النبي لينذر الشعب لعلهم يتوبون، فيعود الله ويرحمهم ويخلصهم من أعدائهم. ويبدو أن تدخل الله ورحمته على هذا الشعب كان نتيجة كرازة النبي يونان بينهم: “لأن الرب رأى ضيق اسرائيل مراً جداً، لأنه لم يكن محجوز (عبد) ولا مطلق (حر)، وليس معين لإسرائيل، ولم يتكلم الرب بمحو اسم اسرائيل من تحت السماء، فخلصهم بيد يربعام بن يوآش” (2مل14: 26-27).

ان سبب الخلاص من الأعداء الذى تم على يد الملك لا يرجع الى توبة الشعب والملك، بقدر ما يعود إلى مراحم الله على شعبه.

لأنه بالرغم من مناداة يونان لهم بالتوبة إلا أن الملك لم يرجع عن شره ولم يقدم توبة للرب: “ملك يربعام بن يوآش ملك اسرائيل فى السامرة احدى وأربعين سنة. وعمل الشر فى عينى الرب….. هو رد تخم اسرائيل من مدخل حماة الى بحر العربة، حسب كلام الرب إله اسرائيل الذى تكلم به عن يد عبده يونان بن أمتاى النبى الذى من جت حافر” (2مل 14: 23-25).

أما ملوك دولة أشور، المعاصرون لهذا الملك، والذين تاب أحدهم بمناداة يونان النبي، فهم أداد نيرارى الثالث (810 782 ق.م.)، وشلمناصر الرابع (782 772ق.م.)، وأشور دان الثالث (772 754ق.م.)، وأشور نيرارى الخامس (754746ق.م.).

وهناك بعض الشواهد التاريخية التي تثبت أنه فى أيام الملك أداد نيرارى الثالث حدثت ثورة دينية تبعها نوع من الإيمان بإله واحد، أو على الأقل بإله أكبر، ويربط بعض المؤرخين بين هذه الثورة وبين مناداة يونان النبى لأهل نينوى .

ويبدو أن أهل نينوى كانوا أشراراً جداً في عيني الرب، اذ تنبأ عليهم بالهلاك أكثر من نبي.

فيقول ناحوم النبى في نبوءته: “ويل لمدينة الدماء. كلها ملآنة كذباً وخطفاً. لا يزول (منها) الإفتراس ….ليس جبر لإنكسارك. جرحك عديم الشفاء” (نا3: 1و 19).

كما يتنبأ عليها صفنيا النبى قائلاً: “ويجعل نينوى خراباً يابساً كالقفر ….هذه هى المدينة المبتهجة الساكنة مطمئنة، القائلة فى قلبها: أنا وليس غيري” (صف2: 13-15)

❈ رسالة يونان النبى :

لكى نعرف رسالة هذا النبي، ينبغي الرجوع إلى الكتاب الذى يحمل اسمه، وهو سفر يونان النبي، لأن هذا السفر يقدم لنا واحداً من أهم الأسرار اللاهوتية، وهو السر الذى نادى به بولس الرسول فى رسالته الى أهل أفسس:

“إنْ كنتُم قد سمِعتُمْ بتدبيرِ نِعمَةِ اللهِ المُعطاةِ لي لأجلِكُمْ. أنَّهُ بإعلانٍ عَرَّفَني بالسِّرِّ. كما سبَقتُ فكتَبتُ بالإيجازِ. الذي بحَسَبِهِ حينَما تقرأُونَهُ، تقدِرونَ أنْ تفهَموا دِرايَتي بسِرِّ المَسيحِ. الذي في أجيالٍ أُخَرَ لم يُعَرَّفْ بهِ بَنو البَشَرِ، كما قد أُعلِنَ الآنَ لرُسُلِهِ القِدِّيسينَ وأنبيائهِ بالرّوحِ: أنَّ الأُمَمَ شُرَكاءُ في الميراثِ والجَسَدِ ونَوالِ مَوْعِدِهِ في المَسيحِ بالإنجيلِ.” (أف3: 26).

واضح أن سر المسيح هنا هو أن الله ليس لليهود فقط، بل للأمم أيضا.

لقد أراد يونان النبي أن ينقل هذه الأفكار إلى شعبه اسرائيل، وقد كان يعلم تماماً أنه من العسير عليهم قبول هذا الفكر، لأنه هو نفسه كان يرفض هذا المفهوم تماماً. لماذا؟.

فكلما أخطأ شعب اسرائيل وحاد عن طريق الله، كان الله ينذرهم أنه سوف يؤدبهم بواسطة الأمم.

لذلك نظر بنو اسرائيل إلى الأمم نظرة عداء شديدة وتمنوا لهم العقاب المستمر، ولم يخطر على بالهم أبداً إمكانية خلاص هذه الشعوب. وحاولوا أن يفتشوا فى أقوال الأنبياء عن النبوءات التى تتنبأ عليهم بالخراب والدمار، وما أكثرها.

أما إذا وجدوا أى تلميح فى كلام الأنبياء عن إمكانية خلاص هذه الشعوب حاولوا تفسيره تفسيراً رمزياً غير صحيح حتى يبعدوا عن فكرهم أى إمكانية لخلاصهم.

ومن التلميحات القليلة التى تشير إلى قبول الله للأمم، والتى ذكرها الأنبياء بصورة عرضية، قول إشعياء النبي فى نبوءته عن يوحنا المعمدان: “صوت صارخ فى البرية: أعدوا طريق الرب، قوموا فى القفر (أى بين الشعوب التى لم تعرف الله) سبيلا لإلهنا” (إش40: 3).

كما يتكلم إشعياء أيضا عن عودة كل الأمم إلى حظيرة الرب: “ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتا فى رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجرى اليه كل الأمم” (إش2: 2). ومن الواضح أن هذه التنبوءات كانت تشير إلى عصر مجىء المسيا الرب يسوع .

هكذا كانت تلميحات الأنبياء. أما يونان النبي فبدلاً من أن يقدم تعاليم وأقوالا نظرية حول قبول الله لتوبة الأمم، اضطر لأن يقص عليهم قصة تعامل الله معه هو شخصيا فى الأرسالية التى أرسله فيها الله للأمم ليدعوهم للتوبة.

كما أوضح لهم أنه كان فى البداية رافضاً لفكرة توبة الأمم ورجوعهم إلى الله. وكيف حاول الهروب من وجه الرب حتى لا يذهب ويبشر الأمم فتتوب وترجع ويصفح عنها الله. وأثناء هروبه إلى ترشيش (التى ربما تكون أحد موانى بلاد أسبانيا الحالية)، أهاج الله عليه البحر، وكادت السفينة أن تغرق، فاضطر البحارة إلى القائه فى اليم، حيث أعد الله له حوتا ابتلعه وحفظه سالما ثم لفظه على البر. فرضخ يونان لأمر الله وذهب ليكرز لأهل نينوى، الذين حالما سمعوا صوت النذير تابوا إلى الله، مقدمين صوماً نقياً استدر مراحم الله فصفح عن اثمهم .

لقد لقن الله يونان درساً لن ينساه، وهو يريد الآن من أخوته اليهود أن يعوا هذا الدرس. وها هي كنيسة العهد الجديد، وقد استفادت هي أيضا من هذا الدرس، تقنن صوماً خاصاً على غرار صوم أهل نينوى حتى تغرس في نفوس أولادها دائما أن الله لا يفرح فقط بتوبة ورجوع الخاطئ إليه، بل أنه أيضا ليس إله كنيسة بعينها ولا شعب بعينه، بل هو إله الخليقة كلها: “الذى يريد أن جميع الناس يخلصون، والى معرفة الحق يقبلون” (1تى2: 4)، وأنه: “في كل أمة، الذى يتقيه ويصنع البر مقبول عنده” (أع10: 35).

وبالإضافة إلى هذا السر الذى يعلنه النبي، وهو سر قبول الله للأمم، يؤكد أيضاً على حياة التوبة. فهو يخبرنا عن توبة البحارة الوثنيين وإيمانهم بإله السماء والأرض والبحر، وفي توبتهم نذروا لله نذورا وذبحوا ذبيحة (يون 1: 16). كما يقص علينا توبة أهل نينوى من كبيرهم إلى صغيرهم وعودتهم إلى الله نادمين وجالسين فى المسوح والرماد (يون3: 59). كما يخبرنا أيضا  ولو بإشارة خفية عن توبته هو نفسه.

فإن كان النبي لم يذكر لنا صراحة أنه تاب، لكنه فى كتابته لهذا السفر إعتراف صريح منه بالطريق الخطأ الذى سلكه. وأخيراً يخبرنا عن ندم الله عن الشر الذى أراد أن يوقعه بأهل نينوى، وأن توبة هذا الشعب جعلت الله يرجع عن تهديده بفناء هذا البلد: “فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذى تكلم أن يصنعه بهم، فلم يصنعه” (يون3: 10).

لقد أراد الله قديماً أن يجد فى سدوم وعمورة عشرة أتقياء فقط يردون غضبه ليصفح عنها فلم يجد (تك18: 32). بل أكثر من ذلك أراد أن يصفح عن أورشليم إن وجد فيها باراً واحداً: “طوفوا فى شوارع أورشليم وانظروا، واعرفوا وفتشوا فى ساحاتها، هل تجدون انساناً أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق، فأصفح عنها؟” (إر 5: 1)

أما مدينة نينوى الوثنية فقد تابت ورجعت الى الله عن بكرة أبيها، فنالت خلاصاً، واستحقت  كما شهد لها المسيح  أن تقف أمام كرسي الله لتدين المدن التى لم تتب وتقبل كلمة الله: “رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونة، لأنهم تابوا بمناداة يونان” (مت12: 41).

❈ آية يونان النبى :

كيف صار يونان آية؟..

يجيب انجيل القديس متى قائلاً: “كما كان يونان فى بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الانسان في قلب الأرض ثلاث أيام وثلاث ليال” (مت12: 40). ويضيف انجيل القديس لوقا قائلاً: “كما كان يونان آية لأهل نينوى، كذلك يكون ابن الانسان أيضا لهذا الجيل” (لو11 : 30).

لقد طلب الفريسيون من الرب أن يريهم آية من السماء، متناسين كل الآيات والمعجزات التى عملها بينهم. فأظهر لهم الرب بأن هذا الجيل الشرير، الذى فاق فى شره أهل نينوى، يحتاج إلى نوع آخر من الآيات، لأن أهل نينوى تابوا بمناداة يونان دون أن يطلبوا منه آية تثبت صدق كلامه.

لذلك رأى الرب يسوع أنهم فى احتياج إلى الآية التى من أجلها تجسد ونزل إلى أرضنا، آية موته ودفنه فى القبر ثلاثة أيام ثم قيامته من بين الأموات، مقيما معه كل الذين يؤمنون به فى ذلك الجيل وفى كل الأجيال: “أقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات” (أف2: 6).

لقد تألب البحارة على يونان وألقوه فى اليم، وصار له بطن الحوت بمثابة “جوف الهاوية” (يون2: 2).

هكذا تألب اليهود على الرب وصلبوه ودفن في “باطن الأرض”.

وكما حفظ الله يونان فى بطن الحوت سالماً وكان يعيش على رجاء أن ينظر هيكل الله مرة أخرى: “ولكنى أعود أنظر الى هيكل قدسك” (يون2: 5). هكذا قالت النبوة عن الرب يسوع أنه دفن على رجاء: “حتى جسدي أيضا سيسكن على رجاء. لأنك لن تترك نفسى فى الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فساداً” (أع 2: 26،27 ؛ مز 16:9،10).

وكما خرج يونان من بطن الحوت بعد ثلاثة أيام وثلاث ليال، وذهب وكرز لأهل نينوى، هكذا قام الرب من بين الأموات فى اليوم الثالث وأعلن بشرى الخلاص للخليقة كلها. والمقصود ب “ثلاثة أيام ثلاث ليال” ليس ثلاثة أيام كاملة، لأنه في لغة الكتاب المقدس، وفى الأدب اليهودي القديم عامة، يطلق على الجزء من اليوم يوماً كاملاً (مثل: (1مل20: 29)؛ (أس4: 16-5: 1)؛ (لو2: 21).

لقد كان نزول يونان الى بطن الحوت وخروجه سالماً آية لأهل نينوى، أعطتهم حياة بعد أن كان قد صدر حكم الموت عليهم “بعد أربعين يوما تنقلب نينوى” (يون3: 4)، هكذا صار موت الرب وقيامته سبب حياة أبدية لجميع الذين يؤمنون به، بعد أن كنا جميعاً تحت حكم الموت بسبب الحكم الذى صار على آدم ونسله: “لأنه كما فى آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيحيا الجميع، فإنه إذ الموت بانسان، بانسان أيضا قيامة الأموات ” (1كو15: 21-22).

 

 

العظة الرابعة : لأبونا بيشوي كامل (عشية السبت ١٨ / ٢ / ١٩٧٨)[7]

 

نشكر الله الذي أعاننا إلى هذا اليوم وأعطانا في هذه الليلة ان احنا نهيئ نفسينا لهذا الصوم المقدس صوم يونان.

الحقيقة صوم يونان ده صوم ٣ أيام ما يفرقش عن بقية الصيامات كثير، لكن الملاحظ في هذا الصوم انه يمثل ناحية جماعية، يعني كل واحد مننا له حياته الشخصية مع ربنا .. لكن ساعات بنحب نحط ايدينا في ايدين بعض علشان نعمل عمل كبير .. كمان كل واحد مننا له توبة خاصة قدام الله .. لكن أحياناً نحس كمان ان الكنيسة لازم كلها تتوب وترجع لربنا.

فصوم يونان في الواقع هو صورة العمل الجماعي في الكنيسة .. صورة حلوة للعمل الجماعي.

عارف منظر الأربعة اللي شالوا المفلوج وقدموه للمسيح وفتحوا السقف من فوق ودلوه قام ربنا نظر الى ايمانهم مش ايمان الراجل المفلوج .. الي ايمانهم هم وأقامه.

فالكنيسة في مناسبات كثيرة بتستخدم الصوم الجماعي .. زي لما بتمر الكنيسة في محنة، أو في ضيقة، أو في تجربة، وبعدين الكنيسة تقرر أن احنا نصوم ٣ أيام مثلاً .. آهو صوم يونان كان حاجة زي كدة.

يونان راح نادى في المدينة وقال: “بعد أربعين يوم تنقلب المدينة” .. هايحرقها ربنا بعد أربعين يوم .. فسفر يونان سفرلطيف أنت لما تقراه بنعمة ربنا في الأيام دي هتجد ان الملك جمع الناس الكبار .. وهو أول واحد كقدوة ليهم نزل عن كرسيه ولبس المسوح واتمرغ في الرماد!!.. وصوموا كل الناس اللي في البلد .. فرجع الله عن غضبه. لأن الله مش زينا، يعني أنا لما باغضب بأبقى متغاظ من اللي قدامي .. لكن أنت تقدر تفهم أيه هو غضب ربنا دلوقت.

رغم إن غضب ربنا شديد جداً لكن ربنا لما بيغضب .. بيغضب علشان نرجع .. مش بيغضب علشان ينتقم.

الغضب بتاع الإنسان مليان بالغيظ، لكن حاشا لله أنه يتملي بالغيظ أو بالشر ..

غضب الإنسان لا يصنع بر الله، لكن غضب ربنا يخلينا نتوب ونرجع ..

الله مستعد أن يرجع عن غضبه، غضب الله بالنسبة لينا تهديد .. زي ما أنت بتعلم أبنك .. تشخط فيه وتقول له هاعاقبك وبعدين يقول لك معلش يا بابا .. تقول له خلاص مش هاعاقبك .. أنت عاوز  طلباتك أيه .. اللي انت عاوزه خذه.

لدرجه احنا لما نقارن الإنسان بربنا نقارن يونان بربنا !!..

ربنا غضب على نينوي، تابت نينوي، رحمها ربنا .. رجع يونان زعلان قال له بسرعة أنا كنت عارف كدة إن أنت بسرعة هاترجع عن غضبك، فقعد تحت يقطينة .. شجرة صغيرة كدة .. وجت دودة أكلت اليقطينة فذبلت، وكانت الدينا حر، فزعل يونان أزاي ربنا يرضى بموت اليقطينة دي ويسبني أنا أموت من الحر، والشمس تلفحني ..

قال له: يا يونان زعلت على اليقطينة دي اللي ولا تعبت ولا لك فيها حاجة خالص، وأنا ما اتغاظش على نينوى اللي لي فيها اثني عشر ربوة واطفال كثيرين ما بيعرفوش يمينهم من شمالهم، مش عاوزني أزعل؟!..

مسرة الله بتوبة الخاطيء، ليس بإدانتهم .. حتي لما كانوا مسكوا المرأة الخاطئة والكل عاوز يرجمها وبعدين مشوا .. قال لها: أما احد أدانك؟ قالت له: لا .. قال لها: ولا أنا أيضا أدينك، أذهبي ولا تعودي تخطئي.

ولما شفى الراجل المخلع قال له: ها أنت قد برئت فلا تخطيء لئلا يكون لك أشر .. أنت برئت دلوقتي والخطية بتجيب لك الشر، فأنا بأزعل علشان أنت تتوب .. وآديني اديتك فرصة ورجعت تاني سليم وصحيح فمتعملش خطية ثانية علشان مايجيش غضبي عليك مرة ثانية.

فغضب ربنا القصد منه إن أحنا نرجع ليه.

أحنا لما بنصوم صوم جماعي، ليه معني جميل جداً وده في صيامات الكنيسة كلها اللي هي رتبتها، أن أحنا كلنا أعضاء في جسد واحد، الكنيسة جسم واحد مش أفراد فتمتد الوحدانية .. لما بنقف نصلي، بنقف كلنا وشنا للشرق علشان لينا اتجاه واحد.. لما نصوم كل بيت تلاقيه صايم، الكبير والصغير .. لأن كلنا بنتحرك بقلب واحد وبروح واحدة .. أحنا كلنا جسد واحد، فتبص تلاقي الصوم الجماعي علامة صحيحة للكنيسة .. لسلامة الكنيسة، فأهل نيينوى صاموا صوم جماعي، أخذوا بركة .. أخذوا غفران وتوبة.

الكنيسة بتاعتنا محتاجة في كل وقت للصوم الجماعي ده .. مش لازم لما يكون فيه ضيقة يقولوا لازم نصوم .. لكن أبداً .. الكنيسة ليه ما تتوبش كلها .. يبقي منظرها جميل.

لما بينظفوا الكنيسة كدة ويغسلوها وتيجي تلاقيها نظيفة، بتلاقي الكنيسة دية هي عروس المسيح .. لما واحد فيها بيغلط . بيشوه منظر الكنيسة كلها سواء كان كبير ولا صغير .. ونقول دي عثرة .. ازاي؟!.. شفت حصل النهاردة في الكنيسة أيه؟ دي كنيسة المسيح ويحصل فيها كدة!!.. فالتوبة في الواقع في الكنيسة عملية تنظيف للكنيسة كلها على بعضها .. ودية ما تخصش كنيستنا هنا .. أنا باتكلم على الكنيسة بمعناها الكبير .. يعني أحنا لما نصوم صيام يونان .. يصوموا في القاهرة، ويصوموا في اسوان، ويصوموا في مرسي مطروح، ويصوموا في كل حتة … الكنيسة كلها بترفع قلبها.

الصوم في الواقع الجماعي ده اللي أحنا بنتكلم عنه، أتكلم عنه ربنا في سفر يوئيل الأصحاح الثاني “ولكن الآن يقول الرب أرجعوا إليّ” .. تعالوا توبوا يعني بكل قلوبكم. فالرجوع لربنا بيبقي بالقلب، طب ما نرجع لربنا بالقلب وبلاش بالصيام..

أرجعوا إلي بكل قلوبكم .. بالصوم وبالبكاء وبالنوح .. دايما البكاء والنوح والصوم يبقي طالع من القلب .. لكن لما يطلعش من القلب، يبقي تمثيل، يبقي حركة ظاهرية، يبقي ماليهوش قيمة .. الصوم لازم يكون طالع من القلب، زي ما البكاء طالع من القلب، لكن الانسان اللي ما يطلعش صومه من القلب يبقي حاجة شكلية .. علشان كدة بيقول أرجعوا إلي بقلوبكم .. بالصوم والبكاء والنوح.

ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم وأرجعوا إلي الرب إلهكم لأنه رؤوف ورحيم وبطيء الغضب وكثير الرأفة ويندم على الشر .. لعله يرجع ويندم فيبقي وراءه بركة تقدمة وسكيبا للرب الهكم .. اضربوا بالبوق في صهيون في وسط الكنيسة قدسوا الجماعة احشدوا الشيوخ .. اجمعوا الأطفال وراضعي الثدي، ليخرج العريس من مخدعه والعروس من حجلتها .. ليبك الكهنة خدام الرب بين الرواق والمذبح، ويقولوا أشفق يا رب على شعبك ولا تسلم ميراثك للعار .. فيغار الرب لأرضه ويرق لشعبه.

ده في يوئيل، وفي اشعياء ٥٨، احنا نستفيد من يوئيل ٢ ان هو قال الصوم يكون من القلب، وقال نادوا بصوم وقال كمان نادوا باعتكاف، فربط الصوم انه حركة قلبية مش حركة ظاهرية وربط بالاعتكاف أيضاً ..

يعني الاختلاء، يعني الصوم عاوز هدوء نفسي .. عاوز خلوة للانسان بينه وبين ربنا علشان يتوب ويرجع لربنا، إذاً الصوم من غير اعتكاف هايبقي ناقص .. هايبقي كل الحمل على الجسد، والنفس ما عملتش حاجة، فمش ها تصفى ولا تروق، لكن لما يبقي يقول نادوا باعتكاف، يبقي فترة توبة الانسان يقعد مع نفسه ويختلي بالهه ويصفي الحاجات اللي جواه.

وبعدين نستفيد من يوئيل كمان ان هو قال نادوا بصوم .. نادوا باعتكاف .. واتكلم على الطفل الرضيع والعروس اللي متجوزة لسة لازم تشترك في الصوم.

وقال للكاهن، والكهنة ان هم يبكوا أيضاً بين المذبح والرواق، وكل الكنيسة تشترك في الصيام، مافيش ما بيشتركش خالص.

في إشعياء بيتكم الأول بيسأل ويقول: يا رب احنا صمنا قدامك .. ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ. أنت لما أحنا صمنا أنت ليه ماسمعتش لينا، قال لهم: أنا ما اتبسطش من الصوم بتاعكم .. صحيح أنتم كنتم بتتذللوا قدامي لكن ما اتبسطش منكم .. ولا سمعت للصوم بتاعكم وصومكم ده راح على الفاضي .. قالوا ليه؟!..

قال: ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون، ولتضربوا بلكمة الشر .. فواضح خالص ان الصوم لازم ينزع من قلبنا الخصومة والنزاع.

يعني لا يُقبَل صوم في الكنيسة لإنسان قلبه فيه خصومة، لأن الهدف من الصوم هو نقاوة القلب، ده اللي كنت عاوزأوصل له في الآخر، فإذا كان القلب من الأول الإنسان مُصِّر إن هو ما ينقيش قلبه ويزرع في قلبه الخصومة، يبقي لن يقبل الصوم بتاعه مهما عمل، إذاً لو اتمرغ في التراب وفي قلبه خصومة لن يقبل هذا الصوم.

تقدر بقي تقول ها يبقي منظر الكنيسة أيه ساعة الشماس ما يقول قَبِّلوا بعضكم بعضاً بقبلة مقدسة، تبص تلاقي كل القلوب مفتوحة على بعضها مش ممكن ها تقول الكنيسة دي لها قلب واحد، الكنيسة مش يعني الناس اللي في الكنيسة، في البيت، الجار، المعرفة، القريب، إذا كان فيه خصومة يبقي أحسن لازم تنبه نفسك ليه.

إشعياء بيقول له: ليه يا ربنا احنا صمنا وذللنا أنفسنا وما سمعتناش؟.. قال: لأن انتم صمتم للخصومة والنزاع، كان فيه بينكم خصومة ونزاع، فصمتم، فصوم من غير توبه ما اتقبلش الصيام ده.

أمثل هذا يكون صوم؟!.. أهكذا صوم أختاره؟!.. قال: لاً .. الصوم اللي يختاره ربنا حط له شروط ما يكونش فيه خصومة .. ما يكونش فيه شر، علشان كدة أنت تلاحظ في الصيام الكبير بالذات نقعد نتكلم كتير عن وصية المحبة واسبوع مخصوص نقعد نتكلم فيه عن موعظة الجبل وأغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمسيئين الينا .. فصوم ما فيش فيه غفران وتسامح هيكون صوم مش مقبول قدام ربنا.

أليس هذا صوم أختاره .. حل قيود الشر، نمرة واحد ما يكونش صوم فيه خصومة ويكون القلب رايق وصافي.

نمرة اثنين ما يكونش فيه قيود للشر مربطة الإنسان، الصوم معناه نقاوة للقلب، وانطلاق روحي في محبة ربنا، إذا كان الإنسان متربط بالشر ازاي هيقدر ينطلق في محبة ربنا؟!، فالصوم هيكون غير مقبول زي عصفورة مربوطة بحبل في الأرض، العصفورة مش فاهمة ففكرت ان الحبل طويل يعني ما دام الحبل طويل فاكرة إنها تقدر تطير، فجاءت طايرة بعنف فانكسرت رجليها واجنحتها .. جت بعد كدة تطير فماعرفتش تطير.

فالصوم اذا كان فيه قيود الشر لازم الواحد يرجع عنها .. فيه خطية محببة … فيه حاجة مسيطرة على الإنسان لازم يبتدي صومه يفك القيود بتاعة الشر علشان خاطر لما ينطلق في محبة ربنا ما يبصش يلاقي حاجات مقيداه ولا مربطاه، فأيه القيود اللي أنت ممكن تفكر فيها في بداية هذا الصوم .. هل فيه قيود مادية مربطاكً في العالم؟!.. هل فيه قيود شر بأي نوع من الأنواع؟!.. فربنا يعطينا إن أحنا نفحص نفسينا ونفك القيود بتاعة الشر علشان الصوم عبارة عن انطلاق روحي في محبة ربنا، فمش ها تقدر نفوسنا تنطلق وهي مربطة.

نمرة ثلاثة .. أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك.

يعني ما دام واحد معاك في الكنيسة ده يبقي لحمك، أنت لما تسيب لحمك عريان تبقى أنت اللي عريان، فبيقول كدة ان الصوم مش تذلل بس قدام ربنا .. تنقية القلب ..فك قيود الشر .. وفيه اعتكاف، لكن كمان تكسر للجائع خبزك وتفتح بيتك وإذا رأيت عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك.

ولما بيقول تدخل المساكين إلى بيتك، في الواقع مش مجرد أنك بتديهم صدقة .. لكن هي نفس الآية الاخرانية بيقول لا تتغاضي عن لحمك .. يعني لما تدخلهم بيتك تحس أن هم أخواتك، فاحسانك اللطيف ده إن أحنا كلنا أخوات المسيح وبناكل لقمة واحدة هو ده اللي يخلي الصيام بتاعك مقبول قدام ربنا .. وفي عدم وجود هذا الإحساس أن أنت شيء وزميلك شيء ثاني .. أو أخوك شيء ثاني ده يخلي الصيام بتاعك مش مقبول.

الصيام الجماعي احنا كلنا بنحس بيه إن أحنا قلب واحد وروح واحد وفكر واحد.

نمرة أربعة: كمان بيتكلم “إذا نزعت من وسطك النير والإيماء بالأصبع وكلام الأثم .. وانفقت نفسك للجائع واشبعت النفس الذليلة” .. الإيماء بالأصبع زي ما تقول الواحد كدة يا شيخ روح يعني .. يعني بس كفاية كدة .. إن أنت تعمل له علامة إحتقار .. ودي فيه زيها في العهد الجديد، بيقول ربنا يسوع: “سمعتم أنه قيل في القديم لا تقتل أما أنا فأقول لكم من غضب علي أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم، ومن قال لأخيه رقاً يكون مستوجب المجمع”  فكلمة رقاً يعني كلمة استهتار كدة.

فالإيماء بالأصبع يعني واحد بيحتقر واحد، كدة بيموته أدبياً .. قال شيل ده من جوه.

إشعياء في الواقع ده أسمه نبي العهد الجديد، بيقول نفس كلام المسيح .. يعني ما يكفيش أن أنت تنقي القلب بتاعك، إن أنت تروح لأخوك وتقول له: أخطأت وخلاص، لكن لازم تشيل كمان من قلبك الغضب واحتقارك لغيرك، لأن أحنا كلنا أخوات وما أقدرش أقول إن أنا أبر من أخويا، أو ده أنظر له نظرة أن هو مستوي أقل مني .. الإيماء بالأصبع .. وكلام الأثم .. النفس الصائمة لازم تصوم اللسان .. زي لما بيقعد، مش بيقول بالتعبير البلدي يقعد ينتش  في لحمه .. ولما يقعد يدين في اخوه ويتكلم كلام آثم عليه، فهو بياكل في لحم أخوه .. فهو صايم ازاي؟ صايم عن اللحم لكن بياكل في لحم اخوه.

فواضح خالص إن يا أحبائي الصوم القصد منه أن القلب نقي .. ولما القلب يكون نقي .. يقوم القلب النقي يعرف يصلي كويس .. ويكون كمان مسكن للروح القدس .. أنتم هياكل الله وروح الله ساكن فيكم .. فمادام أنا الهيكل يبقي نظيف، ربنا يسكن فيه .. وطبيعة النفس البشرية هي طبيعة رقيقة هواء .. الريشة تطير في الهواء، الريشة أيه تطير .. لكن لما الريشة دي تكون متعاصة شوية تراب ولا طين من الأرض تبقي ثقيلة لازقة في الأرض .. فتقوم أنت لما تشيل الوساخة دي من الريشة .. هي بطبيعتها الهواء يطيرها.

يعني ساعات تقول فيه فتور في الصلاة .. الصوم اللي هو صوم القلب اللي اتكلمنا عنه ده .. والصوم اللي مليان بالرحمة ومحبة القريب .. وصوم اللسان مايبقاش فيه كلام الأثم. والصوم اللي مافيش غضب في القلب هايخلق من الأنسان ريشة خفيفة ترفعها ريح الروح القدس فيرفع الأنسان للصلاة إذاً هاتبقى الصلاة لذيذة جداً.

  • وبدل ما أكلمك كلام نظري مش ده اللي أنت بتحسه في الصيام الكبير أنك بتبص تلاقيك بتحب الكنيسة .. تحب المناولة .. بتبقي قريب من ربنا .. أيه اللي جرى .. علشان بس الصيام طول شوية .. والصيام بطريقة مضبوطة فتكون النتيجة أنك تحس في الصيام الكبير أنت غير أيام السنة .. تحب الصلاة .. تحس أن الوقفة قدام ربنا بتبقى لذيذة .. أيه اللي جرى؟!.. فالصوم المقصود منه نقاوة القلب .. واحد يقول يا ترى الواحد لما يكسر خبز للجائع ويدخل المسكين بيته ويكسي العريان .. ياتري الإنسان ده ياخذ جزاءه فين؟.. إن شاء الله في السماء .. لا أبداً .. ده المسيح قال كده: “كنت عرياناً فكسوتموني” .. أبداً مين قال الجزاء هايكون في السماء بس ده جزاءنا بناخذه هنا فورآ ..
  • ” طوبي لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” مش هانستني لما نعاينه فوق .. والقلب النقي يتمتع بالجسد والدم اللي على المذبح .. ويتمتع بربنا اللي جوه ..
  • هو فكرة الجزاء أيه؟ مكافأة مادية؟.. الجزاء بتاعنا في عهد النعمة أن هو المسيح نفسه. فأنا لما بيكون قلبي نقي بيكون نصيبي المسيح، يبقي أخذت جزائي ولا ما اخذتش؟ .. أو أيه الجزاء اللي ممكن الواحد ياخذه أكثر من كده .. إشعياء النبي بيتكلم عن الجزاء ده بيقول هنا علي الأرض هايجري أيه؟
  • حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك، ده بعدما تكلم عن الصيام … قال حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك .. وتنبت صحتك سريعاً ويسير برك أمامك.
  • يننفجر مثل الصبح نورك ازاي بقى؟.. معلمنا بولس الرسول هو اللي كشف لنا الحكاية دي .. قال في رسالته لكورنثوس الثانية قال: “إن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة” قال فليكن نور .. فالله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أضاء في قلوبنا لإنارة مجد الله في وجه يسوع المسيح.

يعني النور بيطلع من أين .. من المسيح .. إذاً المسيح هو نور العالم.

فالجزاء اللي انت هاتأخذه فوراً اللي باكلمك عليه .. إن أنت هاتحس أن قلبك منور .. دي أيه دي؟!.. قال دي تحس بيها كده .. تبص تلاقي قلبك صافي ونقي ومليان بنعمة ربنا .. وده ما اقدرش اشرحه لك .. لكن أنت تختبره في حياتك فعلاً .. أن في عشرتك مع ربنا وفي صومك بتحس فعلاً أن قلبك خفيف .. يعني نقي .. مش مثقل بحاجات مشدودة بالعالم بتحس كدة أنك عاوز تبقي في صلة مستمرة مع ربنا .. بدل ما كان الصلاة يبقي فرض وواجب ثقيل عليك .. بتحس إن قلبك عاوز يتكلم مع ربنا .. بتحس إن قلبك بيحب الخير،  بتحس أن قلبك فيه نعمة .. أيه اللي حصل؟.. يشرق مثل الفجر نورك .. المسيح هايشرق، الذي قال يشرق نور من ظلمة هو يضئ قلبك بنور يسوع المسيح .. ففيه نور هايجي في قلبنا .

وتنبت صحتك سريعا .. صحيح الراجل بتاع العهد القديم هايفهم الصحة انها الصحة الجسدية، وعلي كل حتي الصيام نافع للجسد زي ما بيعلمونا .. لأن أمراض الجسم الكثيرة ناتجة من كثرة الأكل، وأمراض القرن العشرين أغلبها أمراض ناتجة من كثرة الأكل .

فالصوم هايخلي صحتك كويسة لكن ما اعتقدش أنه بيتكلم عن الصحة الجسدية .. لكن الصحة الروحية .. إذا كانوا الجماعة بتوع علم النفس بيتكلموا عن الصحة النفسية .. يقول لك فلان ده صحته النفسية سليمة، وفلان ده صحته النفسية تعبانة .. نفسيته معقدة وتعب نفسياً .. وفي ضيق نفس .. ومشاكله كثيرة .. وبعدين فلان ده .. وفيه علم مخصوص اسمه الصحة النفسية .. فإحنا ما بنتكلمش عن الصحة الروحية؟!..

طبعاً الإنسان اللي قلبه فيه سلام مع ربنا ده هايكون فيه صحة روحية .. علي طول صحته الروحية هاتكون في صحة كويسة .. مش هايكون عنده أمراض روحية، لأن الإنسان المسيحي مهدد بأمراض كثيرة .. أمراض بتصيب الروح .. واللي يقرأ كتاب زي الحرب الروحية .. يشوف قد أيه الأمراض اللي بتصيب النفس .. وبتصيب الروح .. تصور فيه نفس فيها روح مصابة بالكبرياء، ونفس مصابة بالغرور، نفس مصابة بالكراهية، ونفس حتى مش عارفة تحب حتى نفسها وبتحقد على الغير، ونفس مصابة بمحبة العالم .. دي كلها أمراض روحية، في الصوم هتنبت صحتك أمامك، هاتبص كدة على صحتك الروحية هتلاقيها بقت كويسة .. فهتفرح لما تلاقي صحتك بقيت كويسة .. وهتلاقي النور نور قلبك والمسيح ملأ حياتك .

حينئذ الأول خالص بيقول ايه؟ إحنا ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ .. إحنا صمنا قبل كدة يا رب وأنت ما سمعتش .

هنا بيقول كدة حينئذ تدعو فيجيب الرب تستغيث فيقول ها أنذا .. أيه معني الكلام ده؟ معني الكلام ده إن الواحد بقى قريب من ربنا خالص .. يكلمه، الرد يجي فوراً .. إنما الأول كان يتكلم ولا ربنا هنا موجود خالص .. لأن القلب مش نظيف .. مش كدة مظبوط؟ انقياء القلب يعاينوا ربنا .. النهاردة تتكلم، تدعو فيستجيب، تستغيث فيقول ها أنذا .

حينئذ يشرق في الظلمة نورك ويكون ظلامك الدامس مثل الظهر، ويقودك الرب على الدوام ويشبع في الجدوب نفسك وينشط عظامك فتصير كجنة ريا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه ومنك تبني الخرب القديمة تقيم أساسات دور فدور فيسمونك مرمم الثغرة .. مرجع المسالك للسكنى  .

مش بس ربنا هينور في حياتك، لكن هو بيعبر كمان تعبير أعمق بيقول إن حياتك نفسها كانت ظلمة .. قبل ما يختبرالصوم والتوبة، كانت حياتك ظلمة فبيقول بيحول ظلامك الدامس، طبعا .. النفس اللي ما تابتش وما داقتش التوبة تبقي نفس عايشة هي كلها ظلمة على بعضها .

يعني المرأه الخاطئة قبل ما تجلس تحت رجلين المسيح مش كانت حياتها ظلمة، بعدما قعدت تحت رجلين المسيح .. حول حياتها الظلمة .. هي حست إن هي بقت زي الظهر، شمس في عز الظهر، الوساخة اللي فيها كلها طلعت .

فالصوم والتوبة بتحول ظلمة حياتنا إلى نور .. مين مش عايز حياته تكون نور؟..

احنا كلنا عايزين نخلع الظلمة اللي في حياتنا .. فالكنيسة بتقدم لنا الصوم ده والتوبة علشان نرجع لربنا.

ويشبع في الجدوب نفسك فتبقي جنة ريا بدل ماكنت أرض ناشفة مشققة هتتملي مياه. داود النبي لما وقع في الخطية وماتابش لربنا يقول: “لما سكت تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ” (في المزمور ٣١) .. لما سكت تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ يعني حياتي كلها رطبة بصيت لقيتها ناشفة، لما تلاقي حياتك ناشفة كدة ومشققة .. ده كلام ماعرفش أوصفه لكن ده احساس حس بيه النبي وقال: تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ .

بعد توبة ورجوع لربنا .. وحياة صوم وصلاة بص لقى حياته مابقتش يابسة لكن بقت زي الجنة اللي مليانة مياه ..

آخر حاجة بيقول له ومنك -دي نقطة مهمة خالص- ومنك تبنى الخرب القديمة وهيسموك مرمم الخرب القديمة .  يعني أنت حياتك كانت خربانة، لما تبت وصمت ورجعت لربنا بقيت أنت مش بس حياة الخراب اللي كان فيها اترمم لكن بقيت ترمم الخراب بتاع الناس الثانيين .دي نقطة دقيقة جداً عندنا في المسيحية لما يقول أنتم نور العالم .

ده النفس التائبة والمنسحقة قدام ربنا بتقود الآخرين إلى الحياة مع الله وإلى حياة التوبة. واحسن من وعظة في الكنيسة .. نفس تكون تائبة، لما بتقرا عن قديس عاش حياة التوبة أنت بتتأثر بيها أحسن ما حد يكلمك عن التوبة ..

صورة القديس كدة التائب، ويقولوا عن القديس أغسطينوس أنه لما تاب بقي يعمل عظات كثيرة .. لكن اللي تابوا بسيرة أغسطينوس -أنه كان عايش في الشر وتحول للخير- أكثر بكثير جداً من اللي تابوا بالعظات بتاعة أغطينوس .

فالتوبة عدوى في الكنيسة .. التوبة حلوة .. يعني النور يطلع من الإنسان .. تشوف إنسان واقف منسحق في الكنيسة، تشوفي واحدة بتحب الناس .. ماتقولش كلمة وحشة علي حد، تبص تلاقي فيه نور طالع منها، فتبتدي تقتدي بيها .

فتبقي المسيحية .. مسيحية حياة وعمل واحنا نقدر نعدي غيرنا بالنعمة اللي موجودة فينا، بالحياة بتاعتنا الكويسة .. علشان كدة يقول: يشبه ملكوت السموات خميرة خبأتها امرأة في ثلاثة أكيال دقيق، بعد شوية لقيت العجين كله ايه أتخمر .. فالمسيح بيعزينا خالص بيقول الصوم الجماعي بتاعكم اللي ها تعملوه ده مش بس هيصلح الخرب القديمة في حياتنا، لكن هيعدي كل واحد جوة الكنيسة .. صحيح صدقني مظبوط ..

جرب كدة وبص لحال الكنيسة في فترات الصيامات بيحصل لها عدوى روحية .. عدوى جميلة بتبص تلاقي فلان تاب، اللي قصاده يتوب .. فلان ابتدأ الصوم، الجيران ابتدأوا يصوموا .. الكبير ابتدأ يصوم، الصغير ابتدأ يتعلم منه .. ده بيتسامح بيسامح أخوه، الثاني بيتعلم منه .. تبص تلاقي الإنسان يبقي أسمى .. إشعياء بيسميه كدة مرمم .. مرمم الخرب القديمة .. مش حياته بس اللي كانت خربانة وربنا نورها وعمل فيها .. لا .. هو نفسه بسيرته وحياته هيبقى تأثيره على الآخرين إن هو يرمم كل الخرب القديمة ويشيل الشر اللي موجود .

يعني باختصار كدة عاوز أقول إن الصوم الجماعي اللي حطاه قدامنا الكنيسة النهاردة هتبص تلاقيه ها ينفجر .. أنا حاسس كدة هينفجر زي النور في وسط الكنيسة في حياتنا كأفراد، حياتنا، المجتمع .. وتبص تلاقي بيوتنا كدة الشر بيهرب منها .. دي الظلمة بتهرب من النور ..

وتبص تلاقي الحاجات الوحشة بتهرب من القلب كدة، زي الحشرات لما أول الشمس ما تتطلع تهرب وتبتدي تستخبى في الشقوق .. وتبص تلاقي حياتنا عدوى نعدي بعضينا البعض بالأعمال الصالحة .. ونشجع بعضينا البعض في فعل الخير .. وتبص تلاقينا  نحس كلنا أننا أعضاء في جسم واحد .. وده نتيجة صومنا الجماعي.

ان مابقاش فيه واحد غلبان، وواحد كبير .. أو واحد عظيم، وواحد مسكين .. لكن كلنا بنحترم بعض .. وبنحب بعض .. وبنبص لبعض إن أحنا كلنا أخوات في جسد واحد .

الله يعطينا نعمة ببركة الثلاثة أيام دوله إن أحنا نصوم صوم حقيقي من القلب لكي يشرق نور الله في كنيسته إلى الأبد.

ولإلهنا المجد دائماً أبدياً. آمين.

 

 

 

 

المراجع

 

[1]Ferreiro, A & Oden, T.C. ( 2003 ). The Twelve prophets (The Ancient Christian Commentary on Scripture, Old Testament part XIV ). Illinois (U.S.A): InterVarsity Press. Pages 128 – 146 ترجمة الأخ : كيرلس كامل مرقص – كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل بأبو قرقاص.

[2] كتاب ترفَّقوا بالخطاة صفحة ٢٨ – القديس أمبروسيوس – القمص تادرس يعقوب ملطي

[3] كتاب تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الأسكندري صفحة ٣٩١ – ترجمة  دكتور نصحي عبد الشهيد.

[4] أقوال للقديس جيروم من تفسير سفر يونان –  للقمص تادرس يعقوب ملطي.

[5] كتاب: الله ليس مسبباً للشرور صفحة ١٧ – القديس باسيليوس الكبير – ترجمه عن اليونانية د. جورج عوض إبراهيم.

[6] كتاب التوبة للقديس يوحنا ذهبي الفم صفحة ٧٩ – ترجمة نشأت مرجان – دار النشر الأسقفية

[7]كتاب عظات مضيئة معاشة للقمص بيشوي كامل صفحة ٨٩٧ – إصدار مطرانية ملوي وأنصنا والأشمونين.

[8]كتاب تأملات في سفر يونان النبي – لقداسة البابا شنودة الثالث.

[9]كتاب المنجلية القبطية الأرثوذكسية صفحة ٢٨٢ – قداسة البابا تواضروس الثاني.

[10]كتاب مفاهيم إنجيلية صفحة ١٣١ – أنبا إبيفانيوس – أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار.