عيد الصليب قراءات اليوم الثالث (١٩ توت )

ديناميكية الصليب (الروح القدس وحمل الصليب في جهادنا اليومي)

شواهد القراءات

(مز ٤٤: ٩ – ١٨)، (مت ١٦: ٢١ – ٢٦) ، (مز ٧٣ : ٢ ، ١١)، (مر ٨ : ٤٣ – ٩ :١)، (كو ٢ : ٦ – ١٩) ، (١يو ٥ : ١٣ – ٢١) ، (أع ٣ : ١٢ – ٢١)، (مز٦٠ : ٢ ، ٤) ، (لو ١٤ : ٢٥ – ٣٥)

ملاحظات على قراءات ثالث يوم عيد الصليب

+ إنجيل عشيّة اليوم (مت ١٦: ٢١ – ٢٦) مُشابه لإنجيل عشيّة (مت ١٦: ٢٤ – ٢٨) لأيَّام ٢٢ كيهك (تذكار الملاك غبريال) ، ويوم ١٣ برمهات ( شهادة الأربعين شهيداً بمدينة بوسته ، ويوم ٢٧ برمودة ( شهادة بقطر بن رومانوس ) ، ويوم ٣نسئ ( تذكار الملاك رافائيل )

والقراءة الأولي بدأت بإعلان الرب لتلاميذه عن آلامه وموته وقيامته (مت ١٦: ٢١)

أما ما جاء في القراءة الثانية كان يخص حمل الصليب مع الرب (١٣ برمهات، ٢٧ برموده ) ، ومجيء الرب في مجد أبيه مع ملائكته ( لذلك جاءت في تذكاراتهما : ٢٢ كيهك ، ٣ نسئ )

+ جزء من مزمور باكر (مز ٧٣: ١١) اليوم جاء أيضاً في مزمور باكر الأحد الثالث من شهر بشنس، والإشارة في قراءة الأحد (وأيضاً اليوم ) إلي إعلان الحب الإلهي من خلال الصليب

+ إنجيل باكر اليوم (مر ٨: ٣٤ – ٩: ١) تكرَّر في إنجيل عشيّة في يوم ٨ هاتور (تذكار الأربعة الكائنات غير المُتجسِّدين) ، وفي إنجيل باكر في يوم ٢٢ هاتور ( تذكار الملاك غبريال ) ، وفي إنجيل باكر في يوم ٢٣ برمودة (تذكار شهادة مارجرجس )

وهي القراءة التي تكلمت عن حمل الصليب، لذلك جاءت في عيد الصليب ، وفي تذكار الشهداء الذين حملوا الصليب ،كما أنها جاءت في تذكار القوّات السمائية ( يوم ٨ هاتور ) لأجل الآية (مر ٨ : ٣٨ )، والتي تكلمت عن مجيء الرب في مجد أبيه مع ملائكته

+ قراءة الكاثوليكون اليوم (١يو ٥: ١٣ – ٢١) تكلّمت عن الحياة المُعطاة لنا في المسيح (آية ١٣ ، ٢٠ ) ،وتكررت في قراءات عيد الغطاس في ١١ طوبة (١يو ٥ : ٥ – ٢١) بإضافة الآيات من ( ٥ – ١٣ ) والتي تكلمت عن المعمودية ، كما أنها تُشبه قراءة الكاثوليكون (١يو ٥ : ٩ – ٢١) للأحد الرابع من شهر طوبة ، والقراءة في ذاك الأحد تُشير إلي الحياة التي وُهبَتْ لنا في شخص ابن الله

+ مزمور قدَّاس اليوم (مز ٦٠: ٢، ٤) تكرَّرت آية أربعة أيضاً ” أنت يا الله استمعت إلي صلواتي ، أعطيت ميراثاً للذين يرهبون اسمك ” في مزمور قدَّاس الأحد الثالث من بؤونه ، ومزمور باكر الأحد الرابع من بؤونه ، والإشارة في هاتين الأحدين لعطية الميراث السماوي لنا في المسيح ، في الأحد الثالث من خلال كلمته ، وفي الأحد الرابع من خلال الصلاة الدائمة والرحمة

كما تكرَّرت آية ٢ (على الصخرة رفعتني وأرشدتني) في مزمور القدَّاس ليوم ٣ مسري الموافق تذكار القديس سمعان العمودي

+ إنجيل قدّاس اليوم (لو ١٤: ٢٥ – ٣٥) هو إنجيل قدّاس الأحد الثالث من هاتور ، وإنجيل قدَّاس يوم ٣ مسري ( نياحة القديس سمعان العمودي )

والقراءة الأولي (يوم ١٩ توت) تتكلّم عن حمل الصليب

والقراءة الثانية (الأحد الثالث من هاتور) تتكلّم عن حساب النفقة والتلمذة موضوع قراءات شهر هاتور

والقراءة الثالثة (٣ مسري) تتكلَّم عن البرج والصخرة في مزمور عشية والقداس وإنجيل عشية وإنجيل القداس ، وهي التي إرتبطت بسيرة حياة القديس سمعان العمودي ( سنكسار ٣ مسري )

شرح القراءات

تُخْتَم قراءات الصليب بعمل الروح القدس في جهادنا اليومي وصلب الذات والمشيئة كل يوم

وما تُبرزه قراءات اليوم هو أن الصليب حياة ديناميكية (مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ ) وشركة موت وقيامة وتلمذة وتخلّي وإنكار ذات

تبدأ المزامير بإيضاح أن الصليب قضاء (عشية ) وفداء ( باكر ) ورجاء                                         ( القداس )

يتكلّم مزمور عشية أن الصليب (قضيب ملكك ) هو مركز القضاء الإلهي ومرجع الدينونة العتيدة علي العالم

(كرسيك يا الله إلي دهر الدهور قضيب استقامة هو قضيب ملكك )

وفي مزمور باكر يظهر الصليب كفداء وخلاص للشعوب وفي وسط الأرض ” الجلجثة ”

( افتديت قضيب ميراثك جبل صهيون هذا الذي سكنت فيه أما الله فهو ملكنا قبل الدهور صنعت خلاصاً في وسط الأرض)

وفي مزمور القداس يظهر الصليب كبرج حصين يجد فيه المؤمنين الرجاء والحصانة

( علي الصخرة رفعتني وأرشدتني صرت رجائي وبرجاً حصيناً لأنك أنت يا الله استمعت صلاتي أعطيت ميراثاً للذين  يرهبون إسمك )

والصليب دعوة لمن قبلوا الدفن مع المسيح أن يتأصلوا فيه ويثبتوا في الإيمان                         ( البولس )

( متأصّلين ومبنيين فيه وثابتين في الإيمان كما عُلّمتم مُتفاضلين فيه بالشكر … مدفونين معه في المعمودية هذا الذي به قمتم معه أيضاً )

وأيضاً الصليب دعوة الحب المسؤول والمُثقّل بخطايا الإخوة في الجسد والمُصلّي دائماً لأجلهم وهي دالتّنا عنده لأنها حسب مشيئته ( الكاثوليكون )

( وهذه هي الدالة التي لنا عنده أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا … إن رأي أحد أخاه أخطأ خطيئة ليست موجبة للموت فليطلب أن تُعطي له حياةً للذين يُخطئون خطيئة ليست للموت )

والصليب دعوة توبة ورجوع لكل من خارج الحظيرة أو من هم ضَلُّوا في متاهات العالم والكور البعيدة       ( الإبركسيس )

( فتُوبوا وارجعوا لكي تُمحي خطاياكم لكي تأتي أزمنة الراحة من وجه الربَّ )

لذلك يدعو إنجيل عشية كل تلاميذ الرب في كل جيل لحمل الصليب وإنكار الذات من أجل أن نجد نفوسنا الحقيقية

( حينئذ قال يسوع لتلاميذه من يُرِيد أن يتبعني فليُنكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني لأن من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها ومن يُهْلِك نفسه من أجلي يجدُها )

ويدعو إنجيل باكر كل نفس للاعتراف والشهادة للمسيح له المجد ولكلمة نعمته الحذر من أن نستحي من وصيته ونُنكر روح كلمته في حياتنا

( لأن من يخزي بأن يعترف بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسد والخاطئ فإن ابن البشر أيضاً يستحي به متي جاء فيمجد أبيه مع ملائكته القديسين )

أمّا إنجيل القداس فيحدد ثلاثيات شروط التلمذة مواقف أولاد الله من الأشخاص والآلام والمال

فيبدأ بالأشخاص (من يأتي إليّ ولا يبغض أباه وَأُمَّه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتي نفسه أيضا فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً) وبالطبع لا يُقْصَد هنا كراهية وبُغضة أقرباؤنا وأحباؤنا بل أن نحبهم من خلال تبعية المسيح له المجد وتبعية إرادته في حياتنا فتصير المحبّة متجهة بنا معاً إلي الملكوت أمّا المحبّة البشرية دون هدف الخلاص والحياة بحسب فكر الله يمكن أن تقود إلي الجحيم وربما هذا معني القول المشهور ” من الحب ما قتل ”

وأوضح مثال علي ذلك القديسة دميانة وموقفها من والدها عندما أنكر الإيمان والذي يمكن أن يفسره البعض بعدم المحبة لكن بسبب موقفها القوي من تصرفه دفعته إلي الرجوع والشهادة للمسيح له المجد حتي الموت

والموقف من الآلام (ومن لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يمكنه أن يصير لي تلميذاً) ولا يُقْصَد بهذا الكلام أن يقبل الإنسان آلام الحياة بطريقة سلبية ولا يري في الصليب سوي الألم بل حمل الصليب معناه حمل المسيح المصلوب والألم يجب أن يكون معه وفِي حضوره الإلهي والتركيز في محبّته فنحن نتألّم معه ويحمل هو آلامنا معنا لذا يتحول الصليب إلي قيامة والأحمال إلي راحة والنير إلي عذوبة والتعب إلي شهوة مقدسة

والموقف من المال (فهكذا كل واحد منكم إن لم يترك جميع أمواله لا يقدر أن يصير لي تلميذاً) ولا يُقْصَد بهذا الكلام أن لا يملك أولاد الله شيئاً لكن أن يتحول المال من أسوأ سيّد إلي أفضل عبد نستخدمه فيما لمجد الله

مُلخّص القراءات

الصليب هو رجاؤنا وحصننا وفداؤنا ونجاتنا من الدينونة والقضاء الإلهي             ( مزامير القداس وباكر وعشية )

وهو دعوة للتوبة لكل البعيدين                                                                  ( الإبركسيس )

والصلاة من أجل الهالكين                                                                       ( الكاثوليكون )

والثبات والتأصل في الإيمان بالمسيح                                                              ( البولس )

ويحتاج حمل الصليب لإنكار الذات                                                             ( إنجيل عشية )

والشهادة للمسيح ولكلمة نعمته                                                               ( إنجيل باكر )

وموقف واضح من الأشخاص والآلام والمال                                                 ( إنجيل القداس )

أفكار مُقترحة لعظات

(١) محبة المصلوب

١- محبِّة المصلوب وإنكار الذات                                                                    إنجيل عشيَّة

” من يريد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني ”

تبعية المصلوب تتطلب الإنكار الدائم للذات والحياة بضمير المُتّكأ الأخير وشهوة غسل الأقدام

٢- محبِّة المصلوب والشهادة لكلمته وإنجيله                                                 إنجيل باكر

” ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلِّصها ”

قبول أتعاب الخدمة بفرح لأجل وصول نور الإنجيل لكل إنسان وإحتمال المشقات لأجل أن يُشرق نور الكلمة في قلب كلمن نخدمهم

٣- محبِّة المصلوب فوق كل العواطف البشرية والانشغالات المادّية               إنجيل القدَّاس

” من يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتي نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً … فهكذا كل واحد منكم إن لم يترك جميع أمواله لا يقدر أن يصير لي تلميذاً ”

الدعوة هنا لإتخاذ موقف واضح من العاطفة البشرية خارج تبعية المسيح أو مُعَطِّلَة له وأيضاً تجاه محبِّة المال والاستعباد له

(٢) حياة الصليب

١- الصليب دفن مع المسيح وقيامة دائمة معه وفيه                                          البولس

” مدفونين معه في المعمودية هذا الذي به قُمْتُم معه أيضاً بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات .. إذ محا كتابة اليد التي كانت علينا .. مُسمِّراً إيَّاها بالصليب ”

نحن نعيش موت المسيح له المجد وقيامته كل يوم بموتنا عن فكر العالم وشهواته ومبادئه ونُبشِّر بموته وقيامته في طبيعتنا وحياتنا الجديدة في المسيح كما نُصلِّي في القدَّاس الإلهي ( آمين آمين آمين بموتك يارب نُبشِّر …. )

٢- الصليب شركة وحَمْل مسؤولية خلاص الآخرين                                          الكاثوليكون

” إن رأي أحد أخاه أخطأ خطيئة ليست موجبة للموت فليطلب أن تعطي له حياة للذين يخطئون خطيئة ليست للموت ”

معني الصليب إلتحامي بمصير من حولي والطلب الدائم والتضرع لأجل خلاصهم وهذا مانراه في القدَّاس الإلهي فبالصلاة لأجل الخليقة كلها

٣- التوبة الدائمة إعلان عن دوام فعل الصليب في حياتنا                                الإبركسيس

” فتوبوا وارجعوا لكي تُمحي خطاياكم لكي تأتي أزمنة الراحة من وجه الرب ”

زمن الراحة من قبل الرب يرتبط بزمن الرجوع والتوبة وكُلَّما نرجع إليه نحن نرجع إلي مكان راحتنا فيه

(٣) معاني الصليب (قضاء وفداء ورجاء )

١- الصليب قضاء                                                                                        مزمور عشيَّة

” كرسيُّك يا الله إلي دهر الدهور قضيب استقامة هو قضيب ملكك ”

كرسيك أو عرشك هو كرسي الدينونة والقضاء في اليوم الأخير والمُكافأة لمن قبلوا خلاص الصليب أو العقاب لمن جحدوه لذلك تترنم الكنيسة بهذا المزمور يوم الجمعة العظيمة وقت دفن المسيح له المجد بلحن طويل إعلان عن مهابة العرش والدينونة والوقوف أمام الله

٢- الصليب فداء وخلاص                                                                            مزمور باكر

” افتديت قضيب ميراثك … صنعت خلاصاً في وسط الأرض ”

الخلاص في وسط الأرض لكي تراه كل الأرض ولا تكون هناك حجة وعذر لرفض الخلاص فنداء المصلوب كل يوم لكل البشر لقبول محبّته وفداؤه وخلاصه في الصليب

٣- الصليب رجاء وحماية                                                                     مزمور القدَّاس

” علي الصخرة رفعتني وأرشدتني صرت رجائي وبرجاً حصيناً ”

يُعطي الصليب حماية وحصانة ضد كل قوات الظلمة ويُعطي رجاء مهما كان الظلام ومهما كانت التحديات

من وحي قراءات اليوم

” لأن اليهود يسألون آيات واليونانيين يطلبون حكمة ” البولس لأوَّل أيام عيد الصليب

+ آفة العصر الحديث الآيات والحكمة البشرية

+ طلب الآيات والجري وراء الغيبيات هو آفة الفكر الشرقي

+ وتأليه العقل والمنطق ورفض كل ما هو روحي هو آفة الفكر الغربي

+ يقف الصليب والمصلوب له المجد مُعلنا مُعجزة تغيير وتجديد الإنسان (٢كو ٥: ١٧) أعظم من الآيات والمعجزات المادّية

+ ويُظهر بالضعف ما هو أعظم من قوي العالم وزيف قدرته (١كو ١: ٢٥)

+ كما أن الصليب يُعطي تابعيه حكمة سمائية تعلو على كل فلسفات العالم (١كو ١: ٢٤)

+ وهي الحكمة التي تجعل الإنسان يدرك محبة الله وحكمته وتدبيره الإلهي (١كو ٢: ١٢)

+ ما أخطر أن ينخدع أبناؤنا ببريق العلم والمنطق أو أن ينخدع بهوس المُعجزات

+ وما أجمل أن يبني أبناؤنا إيمانهم على الشركة اليومية مع المصلوب فيختبروا موته وقيامته (في ٣: ١٠)

+ ويشهدوا لمسيحهم بقوَّة الله التي فيهم وحكمته التي تستأسر كل فكر إلي طاعة المسيح (٢كو ١٠: ٥)

عظات آبائية

الأنبا أنطونيوس كوكب البريَّة

قوة الإيمان بالصليب أمام حكمة العالم وأمام قوي الشر في فكر القديس الأنبا أنطونيوس

نحن المسيحيين لا نتمسك بحكمة الكلام مثل الهيلينيين عند الكلام عن سر (الصليب)، بل بقوة الأيمان التي منحت لنا من الله بواسطة يسوع المسيح.

والكلمة هي حق، فنحن لا نتعلم من الكتب الأيمان بالله، بل نعرفه جيداً من خلال أعماله في مخلوقاته التي تنير بصيرة الكل. وأيماننا الفعال هو الذى يحرضنا بقوة الى الأيمان بالمسيح، وأنتم تجادلون بالأكاذيب.

وفى مقابل التحرر من ألهتكم الكاذبة، وصل أيماننا الى كل مكان.

وبالرغم من أنكم مفكرون وحكماء لم توفقوا بين المسيحية والهيلينية، أما نحن فبإيماننا بالمسيح تعلمنا أن نبتعد عن معتقداتكم، وكلنا يعلم تماماً أن المسيح هو الله وهو ابن الله.

وانتم تتكلمون بمنطق بلا توقف عن تعليم المسيح، أما نحن الذين ننادى بصليب المسيح فإننا نطرد كل الأرواح الشريرة، التي تخافون انتم منها وتعتبرونها آلهة.

وحيث تكون إشارة الصليب فإن الشعوذة تضعف، ويبطل عمل السحر.

لذلك، في أي موضع تتكلمون انتم عن ممارسة العرافة؟ وأين هم السحرة المصريون؟ والى أين تذهب خيالات السحرة؟ ومتى يوقف كل هذا الضعف ويبطل؟ أليس عند الأيمان بصليب المسيح؟

أف يستحق الصليب الاستهزاء أم بالأحرى نتحرر به ويكشف الضعف!

ومما يدعو للعجب أن عبادتكم للوثن لم تضطهد بعد، لأن الجميع يكرمونها في كل مدينة.

أما المسيحيين يضطهدون دائما، إما باحتقار الأيمان بالمسيح، أو بالسخرية من تعاليمه، ومع ذلك فان أيماننا يزدهر ويزداد أكثر من أيمانكم.

وعلى الرغم من أن أيمانكم يتلقى دعماً ويتخذ صفة رسمية فإننا نراه يضعف، في حين أن الأيمان بالمسيح وتعليمه ملأ المسكونة، رغم هزئكم بهما ورغم اضطهاد الملوك لهما..

متى أصبحت معرفة الله لامعة هكذا؟ أو متى ظهرت فضيلة البتولية على هذا النحو؟ ومتى أحتقر الموت اذا لم تكن مؤمنا بصليب المسيح؟ فلا أحد يرمى عنه كل هذا وهو يرى الذين يشهدون للمسيح يسخرون بالموت، ويرى البتوليين في الكنيسة في نقاء المسيح، ويحفظون الجسد بلا دنس.

(1) وهؤلاء الكثيرين أظهروا الأيمان بالمسيح الحقيقي وحده من خلال عبادتهم لله وتقواهم.

وها انتم حتى الآن غير مؤمنين وتطلبون المجادلة بالكلام.

ونحن لا نملك كلام الحكمة الهيلينية المقنع، مثلما قال معلمنا “كلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة لكى لا يكون أيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله” (١كو ٢ : ٤)، فبالإيمان ننال مسبقا الاقتناع بوضوح ونتهيأ للكلام.

وها قد حضر إلى هنا الذين يتألمون من أرواح شريرة، وكان البعض من الآتين اليه يحدثون قلقا بسبب الشياطين، فأتى بهم أنطونيوس في الوسط وقال: أنتم تتناقشون معهم وتطلبون المعونة من آلهتكم الزائفة وبالسحر لكى تطهروهم من الشياطين، واذا كنتم لا تقدرون فأوقفوا حربكم ضدنا لتروا القوة في صليب المسيح. ولما قال هذا دعا باسم المسيح ورسم إشارة الصليب مرتين وثلاثة على المتألمين. وفى الحال وقفوا هؤلاء المرضى سالمين وعقلاء، وشكروا الرب بعد ذلك.

وقد تعجب الحكماء بالكلام، وحقيقة ذهلوا من نفاذ بصيرة الرجل ومن استخدامه لعلامة الصليب.

فقال أنطونيوس: ماذا يدهشكم في هذا؟ لم نكن نحن الذى عمل هذا، بل المسيح هو الذى عمل، وأنتم تقدرون أن تفعلوا مثل هذه الأعمال بأيمانكم به. أيمانكم أنتم، رأيتم أنه ليس بحكمة الكلام فعلنا هذا بل بالأيمان بمحبة المسيح تصنع الأعمال، ولو امتلكتم أنتم مثل هذا الأيمان فلن تحتاجوا الى دليل بمجادلة الكلام، بل تكونوا راضين بأن تتسلحوا بسيف الأيمان بالمسيح.

وتعجب هؤلاء من أقوال أنطونيوس هذه، وذهبوا اليه وشكروه لأنهم استفادوا منه.[1]

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

قوة وحكمة الصليب

الذين قبلوا الدعوة الإلهية سواء كانوا يهودًا أم من الأمم صارت لهم نظرة واحدة نحو المسيح المصلوب. إنهم يرونه قوة اللَّه، إذ يجدون قوة الخلاص العامل في حياتهم. ويدركون حكمة الله أي خطته الإلهية للغفران والتقديس وتمجيد الإنسان أبديًّا في الرب. يرون في الصليب سرّ تمتع أعماقهم بالجمال الحقيقي، والسمو في الفكر وضمان الخلاص. يرونه مشرقًا على كل المسكونة ليضم الكل معًا فيه. الكل، سواء من أصل يهودي أو أممي، مدعوون ليصيروا بالحق عروس المسيح العفيفة الواحدة، تحمل قوة اللَّه وحكمته.

إن كان اليهود يطلبون آية، فإن المسيح ذاته هو أعظم الآيات، صليبه الذي يبدو لليهود عثرة هو قوة اللَّه للخلاص لمن يؤمن به. يتلامسون بالآية بتجديد أعماقهم. وإن كان اليونانيون يطلبون حكمة، فالمسيح هو حكمة اللَّه (كو ٢: ٣).

من يؤمن حقًا يتحد تمامًا بذاك الذي فيه الحق واللاهوت والجوهر والحياة والحكمة، ويرى فيهكل هذه والتي ليست فيمن لا يؤمن. فإنه بدون ابن اللَّه لا يكون لك وجود ولا اسم، ويصير القوي بلا قوة، والحكيم بلا حكمة. لأن المسيح هو “قوة اللَّه وحكمة اللَّه” (١كو ١ : ٢٤) ، فإن من يظن أنه يرى اللَّه الواحد بلا قوة ولا حق ولا حكمة ولا حياة ولا نور حقيقي إما أنه لا يرى شيئا بالمرة أو بالتأكيد يرى ما هو شر.

عندما خلق اللَّه كل الأشياء… لم يكن محتاجًا إلى أية مادة لكي يعمل، ولا إلى أدوات فإقامة الخليقة، لأن قوة اللَّه وحكمته لا تحتاج إلى عونٍ خارجي. بل المسيح قوة اللَّه وحكمة الله به كل الأشياء خُلقت، وبغيره لم يكن شيء مما كان كما يشهد يوحنا (يو ١: ٣)

الآن إذ تمم الابن مشيئة الآب، وهذا في لغة الرسول هو “أن يخلص كل بشر” (١تي ٢: ٤) ،يلزمهم لأجل نفعهم أن يكرموا الآب والابن مثله، إذ لم يكن ممكنًا أن يتحقق خلاصنا ولم يكن لإرادة اللَّه الصالحة أن تصير عملًا واقعيًّا من أجلنا إلا خلال قوته؛ وتعلمنا الكتب المقدسة أن الابن هو قوة الآب

إذ يعلن أن طبيعته تسمو وتفوق كل عقل يستخدم أسماء مجيدة، فيدعوه “إلهًا فوق الكل” (رو٩: ١٥) ، “الإله العظيم” (تي ٢ : ١٣) ، “قوة اللَّه وحكمة اللَّه” ، وما أشبه بذلك[2].

القديس كيرلس الأورشليمي

قوة الصليب

+ لا تخجل من صليب مخلصنا بل بالأحرى افتخر به . لأن كلمة الصليب عند اليهود عثرة ، وعند الأمم جهالة ، أما بالنسبة لنا فخلاص(١كو ١ : ٢ ، ٣) . إنه عند الهالكين جهالة ، وأما عندنا نحن المخلصين فهو قوة الله (١كو ١ : ١٨ ، ٢٣) . لأنه كما سبق أن قلت إنه لم يكن إنسانا مجرداً ذاك الذى مات عنا ، بل هو ابن الله المتأنس .

بالأحرى إن كان الحمل في أيام موسى جعل المُهلك يعبر ، أفلا ينزع عنا خطايانا ذاك الذى هو حمل الله الذى يرفع خطايا العالم ؟ !

دم الخراف غير الناطقة وهب خلاصاً ، أليس بالأحرى دم ابن الله الوحيد يخلص ؟! من ينكر قوة المصلوب فليسأل الشياطين !

من لا يؤمن بالكلام فليؤمن بما يرى ، فكثيرون صُلبوا في العالم ، لكن الشياطين لم تفزع من واحد منهم لكنها متى رأت مجرد علامة صليب المسيح الذى صلب عنا يُصعقون ، لأن هؤلاء الرجال صُلبوا بسبب أثامهم ، أما المسيح فصُلب بسبب آثام الأخرين … ” لأنه لم يعمل ظلماً ، ولم يكن في فمه غش ” (إش ٥٣ : ٩ ، ١بط ٢ : ٢٢) . لم ينطق بهذه العبارة وحده، وإلا لشككنا في أنه منحاز لمعلمه. لكن إشعياء قال أيضاً، ذاك الذى لم يكن حاضراً معه بالجسد لكنه تنبأ عن مجيئه بالجسد. ما بالنا نستشهد بالنبي وحده هنا ؟ فها هو بيلاطس نفسه الذى حكم عليه يقول: ” لا أجد في هذا الإنسان علة (لو ١٤: ٢٣) ولما أسلمه غسل يديه قائلاً : ” أنا برى من دم هذا البار ” .

هناك شهادة أخرى عن يسوع البار الذى بلا خطية، هي شهادة اللص أول الداخلين الفردوس ، إذ بكت زميله منتهراً قائلاً : أما نحن فبعدل  ، لأننا ننال استحقاق ما فعلنا ، وأما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محله (لو ٤١ : ٢٣) ، لأن كلينا تحت قضائه[3] .

القديس إيرينيوس

يسوع المسيح خلاصنا

” وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطى بين الناس به ينبغي أن نخلص”، إنه اسم يسوع، ابن الله الذي يخضع له حتى الشياطين والأرواح الشريرة والقوات المعادية.

بدعاء اسم يسوع المسيح، المصلوب على عهد بيلاطس البنطى“، يهرب الشيطان من البشر. يسوع المسيح يأتى ويبعد الشيطان عن البشر أينما وجدوا. وحيث إنهم يؤمنون به ويحفظون إرادته ويدعون باسمه، فإنه يحضر معهم ويسمع توسلاتهم وطلباتهم الموجهة إليه بقلب طاهر. وهو الذي بحكمته غير المتناهية وغير الموصوفة خلصنا وبشرنا من السماء بالخلاص، بمجيئه بيننا، أي نعمة تجسده. فالبشر لا يستطيعون من أنفسهم أن يحصلوا على هذه النعمة، ولكن غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله. لذا يصرخ إرميا: ” من صعد إلى السماء فأمسكها ونزل بها من الغيوم؟ من عبر البحر فوجدها وحصل عليها بالذهب الابريز؟ ليس أحد يعرف طريقها ويرغب فيسبيلها لكن العالم بكل شيء يعلمها وبعقله وجدها، وهو الذي جهز الأرض للأبد، وملأها حيوانات من ذوات الأربع. والذي يرسل النور فيذهب دعاة فأطاعه مرتعدا. أن النجوم أشرقت في محارسها وتهللت. دعاها فقالت: ها أنذا ” وأشرقت متهللة للذي صنعها. هذا هو إلهنا، ولا يحسب غيرة تجاهه. اهتدى إلى كل طريق للمعرفة، وجعله ليعقوب عبده وإسرائيل حبيبه. وبعد ذلك رُئيت على الأرض وعاشتبين البشر. هي كتاب أوامر الله والشريعة القائمة للأبد. كل من تمسك بها فله الحياة والذين يهملونها يموتون”. ويقصد بیعقوب وإسرائيل،ابن الله الذي أخذ من الآب السلطان لينزل على الأرض لكي ينقل لنا الحياة ويصاحب البشر البعيدين عن الآب. لقد وجد روح الله بخليقة الله حتى أن الإنسان يظل على صورة الله ومثاله (أي التشبه بالله)[4].

القديس كبريانوس الشهيد

أيها الإخوة الأحباء، إن الفكر ينبغي أن يتقوى بالتأمل وأن يتحصن ضد سهام إبليس بمثل هذه التداريب الروحية. فلتكن دوما بين يديك القراءة الإلهية (أي الكتاب المقدس)، وفي فكرك فكر الرب، ولا تتوقف أبدا عن الصلاة. والمثابرة في الأعمال الروحية حتى كلما يدنو من العدو ويحاول الاقتراب منا، يجد القلب مغلقا ومسلحًا ضده. لأن إكليل الإنسان المسيحي ليس هو الإكليل الذي يناله في زمن الاضطهاد فقط، بل أيضا إن فترة السلام لها إكليل، في حروبنا الروحية، حينما تنتصر على الخصم ونطرحه، فالنصرة على الشهوة يقابلها إكليل العفة، ومقاومة العنف والغضب مكافأته إكليل الصبر، أما النصرة على الجشع فهي في نبذ المال، ومدح الإيمان هو في احتمال ضيقات هذا العالم والثقة في المستقبل. ومن لا يفتخر بغناه ينال مجد الاتضاع. ومن يعطف على الفقير ينال الغنى السماوي. ومن لا يحسد أحد ويحب إخوته بلا رياء، يكرم ويكافأ بالمحبة والسلام، فنحن كل يوم نعدو في ميدان الفضائل لكي ما نصل إلى أكاليل وتيجان البر.

ولكي تستحقوا هذه الأكاليل، أنتم الذين امتلأتم بالغيرة والحسد عليكم أن تتركوا تماما كل نية سيئة كانت فيكم سابقا. وأن تقوموا ذواتكم لطريق الحياة الأبدية مقتفين خطوات الخلاص. انزعوا من قلوبكم الأشواك، حتى تأتي بذار الرب بثمر وفير. اقطعوا سم المرارة وكذلك مرض الانشقاقات، طهروا العقل الذي أصيب بغيرة الحية. دعوا المرارة التي استقرت داخلكم تلين بعذوبة المسيح. إذ أخذتم من سر الصليب الطعام والشراب. فلتدعوا الخشبة التي جعلت الماء عذبا في «مارة» (خر١٥: ٢٢-۲۷) تفيدكم أنتم بالحقيقة في شفاء قلوبكم المرتخية، وإن فعلتم هذا فستنالوا الشفاء، فأبدأوا في علاج أنفسكم من الموضع الذي منه كان الجرح. أحب من كنت تكرههم من قبل أكرم أولئك الذين أصابهم حسدك بتحقيرات ظالمة، اقتدى بالصالحين إن كنت تستطيع أن تفعل مثلهم، وإن كنت لا تستطيع ذلك فابتهج بالحقيقة معهم، وهنئ المتفوقين عليك. اجعل نفسك مشاركا معهم في وحدانية المحبة، وشريكا لهم في شركة الحب ورباط الإخوة. فسوف تغفر لك ذنوبك حين تغفر أنت أيضا للآخرين، وسوف تقبل تقدماتك وذبائحك حين تتقدم إلى الله كصانع سلام، أفكارك وأعمالك سيقودها الله حين تتأمل في الأمور الإلهية كما هو مكتوب: «قلب الإنسان يفكر في طريقه، والرب يهدى خطواته» (أم٩:١٦).

إضافة إلى ذلك فهناك أمور كثيرة علينا أن نتذكرها، تذكر الفردوس حيث لن يعود قايين إليه ثانية إذ قتل أخاه بسبب الغيرة، تذكر ملكوت السموات الذي لن يسمح الرب بدخوله إلا لمن لهم قلب وفكر واحد، تذكر أن هؤلاء فقط يمكن أن يدعوا أبناء الله: الذين هم صانعوا سلام(مت٥: ٩)، الذين بواسطة الميلاد الإلهي (المعمودية) وحفظ الوصايا أصبحوا واحدا، صائرين على مثال الله الآب والمسيح. تذكروا أننا تحت عينا الله، الذي يتطلع ويدين. أننا آنذاك نصل في النهاية إلى إمكانية رؤيته، إن كنا نرضيه إذ هو يلاحظ أعمالنا، إن كنا نظهر أنفسنا كمستحقين لنعمته وغفرانه إن أرضيناه أولاً في هذا العالم، وبالتالي سنكون في رضاه إلى الأبد في السماء[5].

القديس يوحنا ذهبي الفم

كيف أُسْتِعلَنَ المجد في الصليب والألم تعليقاً علي (عب ٢: ١٠)

” لأنه لاق بذلك الذي من اجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلي المجد ان يكمل رئيس خلاصهم بالآلام ”

٣- إنه يتحدث عن الآب ألا تري هنا كيف أن كلمة “وبه” ، تناسب الآب أيضاً. وما كان له أن يفعل هذا إن كان الابن أقل،وإبن كان هذا العمل لائق فقط بالابن. ما يقوله يعني الآتي: أنه فعل كما يليق بمحبته للبشر، من حيث أنه يظهر إلنه البكر أكثر بهاءً من الجميع، وضعه مثالًا للآخرين مثل الرياضي الشجاع والأسمى من الجميع.

رئيس خلاصهم”، أي سبب الخلاص. أريت كم هو الفارق(كبير بيننا وبين الابن الحقيقي)؟ فالمسيح ابن ونحن أيضا أبناء، لكن المسيح يخلص ونحن نخلص أريت كيف يوحدنا ثم بعد ذلك يفصلنا؟ يقول “وهو آت بأبناء كثيرين الي المجد” عنا جمعنا معاً، و”رئيس خلاصنا”، وايضاً فصلنا مرة أخري “ان يكمل بالآلام” إذا فالآلام هي كمال وسبب خلاصنا.

ألا تري أن الآلام ليست دليلاً علي أن من يعانوها هم أناس متروكون ومرفوضون. لكن الله قد كرم الابن اولاً بهذه الآلام ،أي بأن قاده للمجد بالآلام، لأنه بالحقيقة كونه قد أخذ جسداً، وتألم بكل ما تألم به، فهذا ما يعتبر أعظم بكثير من خلقه للعالم من العدم. وهذا بالطبع هو عمل محبة للبشر، أما الخلاص فهو أعظم من ذلك بكثير. ولكي يبين هذا تحديداً، يقول. بولس “ليظهر في الدهور الآتية غني نعمته الفائق. أقامنا معه واجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع”.

” الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلي المجد ان يكمل رئيس خلاصهم بالآلام “، اي كان يجب علي ذاك الذي يعتني بكل الأشياء وخلقها جميعًا ، ان يبذل أبنه من اجل خلاص الآخرين ، الواحد لأجل الكثيرين لكنه لم يقل هذا بل قال “ان يكمله بالآلام ” لكي يظهر ان من يتألم من أجل آخر ، لا يفيد الآخر فقط، بل هو نفسه يصير أكثر بهاءً وأكثر كمالا. وهذا قد قاله للمؤمنين ، لكي يشجعهم. كذلك فإن المسيح تمجد آنذاك عندما تألم. وعندما أقول انه تمجد، لا تعتقدانه أخذ مجداً (أي مجد إضافي)، لأن مجد الطبيعة الإلهية ، هو له علي الدوام ، ولم يأخذ أي شيء في ذلك الوقت[6].

 القديس أغسطينوس

أحبنا ونحن خطاه نحن نحبه لأنه أحبنا أولاً:

كيف يمكن أن نحبه إلا لأنه أحبنا أولاً؟ بالحب نصير أصدقاء. لقد احبنا ونحن اعداء لكي نصير أصدقاء. هو أحبنا أولاً وأعطانا نعمة الحب له ، لم نكن نحبه ولكن حين احببناه صرنا في جمال .

اذا احب أنسان قبيح المنظر ومشوه امرأة جميلة ماذا يفعل ؟ أو ماذا تفعل امرأة مشوهه وقبيحة وسوداء حين تحب رجلاً جميلاً ؟ هل بالحب يمكنها أن تصير جميلة . هل يستطيع هو بالحب أن يصير جميلاً ؟

لقد أحب هذا الأنسان امرأة جميلة وحين نظر وجهه في المرآة أحس بالخجل الشديد ان يرفع وجهه الي محبوبته التي صار متيماً بها… ماذا يفعل لكي يصير جميلاً ؟ هل ينتظر لعل الجمال والطلعة البهية تأتي إليه ؟ لا يمكن ، فمع الانتظار سوف يزحف الزمن وتضاف الشيخوخة التي تجعله أكثر قبحاً . لا يوجد شيء اذا يمكن ان يفعله ، لا يمكن ان نقدم له اية نصيحة سوي ان يكبح نفسه ولايتجرأ علي ان يحب هذا الحب غير المتكافئ .

واذا احب أنسان جميل امرأة قبيحة واراد ان يتخذها زوجة فهو لا يحب فيها الوجه الجسدي وانما يحب فيها طهارتها ، وروحها

يا إخوتي قبيحة ومكروهة بسبب الخطية ولكن بمحبة الله تصير محبوبة .

ماذا يكون هذا الحب الذي يجعل المحب جميلاً ؟!

والله دائماً محبوب ، لا يمكن ألا ان يحب ، غير متغير ، الذي هو محبوب دائماً احبنا هو اولا ً ، وحين أحبنا كنّا غير محبوبين وخطاه ولكن أحبنا لكي يغيرنا لنصير محبوبين .

كيف صرنا محبوبين ؟ بمحبته ذاك الذي هو دائماً محبوب . كلما زاد فيكم الحب صرتم محبوبين أكثر لأن الحب هو نفسه جمال الروح، نحن نحبه لأنه احبنا أولاً . اسمعوا الرسول بولس : ” ولكن الله بينّ محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاه مات المسيح عنا “. (رو٥: ٨، ٩) . البار لأجل الاثمة والجمال لأجل القبح .

اننا نجد يسوع جميلاً ” انك ابرع جمالاً من كل بني البشر وقد انسكبت النعمة علي شفتيك ” (مز٤٥: ٢) . لماذا هذا؟

انظروا لماذا هو جميل ابرع جمالاً من بني البشر ” انه في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الله الكلمة “(يو ١:١) .

ولكن لأنه اخذ جسداً فقد حمل في نفسه واخذ اليه قباحتنا التي كانت . لقد اخذ فنائنا لكي يقترب منا ، صار لابساً ايانا لكي يرفعنا الي محبة الجمال الداخلي . اين نري في الكتاب المقدس ان يسوع (غير جميل ) .

انه ابرع جمالاً من بني البشر فاين نجده ( غير جميل ) ؟! اسألوا إشعياء (لا صورة له ولا جمال فننظر اليه) . هكذا هنا مزماران يعزفان كأنهما يعطيان صورتين متنافرين علي الرغم من ان روحاً واحداً ينفخ فيهما ، الواحد يقول ( ابرع جمالاً من بني البشر) والآخر يقول ( لا صورة له ولا جمالاً فننظر اليه) .

بروح واحد امتلاء المزماران ولا يمكن ان يصنعا نشازاً ، لا تميلوا آذانكم بعيداً وأعطوني ذهنكم . دعونا نسأل الرسول بولس ونتركه يفسر لنا تناغم الصوتين : ” ابرع جمالاً من بني البشر الذي اذا كان في صورة الله ولم تكن مساواته للآب اختلاساً “(فيلبي٢: ٦، ٧) . دعوه يفسر لنا ايضا ً ( لا صورة له ولا جمال فننظر اليه- اخلي نفسه أخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس واذا وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه – لا صورة له ولا جمالاً ) لكي يعطينا الصورة والجمال .

أي صورة ؟ وأي جمال ؟

المحبة ، المحبة التي تجري ، والجري الذي بالمحبة (نش١: ٤) . انتم الآن في جمال ولكن لا تظنوا انه من أنفسكم لئلا تفقدوا ما قبلتموه، انسبوا هذا الجمال الي من صيركم في جمال ، احتفظوا بجمالكم لكي يحبكم فقط .

وجهوا كل الهدف اليه ، اجروا نحوه ، ابحثوا كيف تعانقونه وتقبلونه ، خافوا ان تحرموا منه فيكون خوفكم مقدساً نقياً يبقي الي الأبد .

ان قال احد اني احب الله (يو٤: ٢٠) :

+ من هو الله ؟

+ لماذا نحبه؟ نحبه لانه احبنا أولاً.

+ احبنا ونحن اشرار لنصير قديسين.

+ احبنا ونحن أثمة ليجعلنا ابراراً.

+ احبنا ونحن مرضي ليهبنا الشفاء.

اسألوا الناس ليخبروكم ان كانوا يحبون الله، سوف يصرخون عالياً ويجيبون انهم يحبونه، انهم يحبونه ، ولكن الله وحده يعلم الحقيقة[7].

القديس غريغوريوس النيسي

الرائحة الطيبة

” ما أحسن حبك يا أختي العروس. كم محبتك أطيب من خمر وكم رائحة ادهانك أطيب من كل الأطياب “(نش٤: ١٠) يجب أن نفهم النص على أن الروائح الطيبة هي أنفاس الله في الكتاب المقدس . نوح مثلا حين قدم ذبيحة الله التي أشتمها كرائحة طيبة وكان هناك ذبائح كثيرة في العهد القديم مثل ذبيحة المسرة وذبيحة الشكر وذبيحة الكفارة وذبيحة الخطية ، فهذه هي الروائح المنصوص عليها في الآية لأنه كانت هناك اجزاء تقدم لله والبخور أيضا وتقدمة الدقيق الملتوت بالزيت كلها كانت تقدم لله وكان يعبر عنها من خلال النار .

وكل هذه الذبائح كانت تدخل فى عداد الروائح العطرة . وحين نقرأ أن رائحة العريس هي أطيب من كل الروائح الأخرى فهذا هو الدرس الذى نتعلمه وهو سر الحق الذى كمل خلال الأنجيل وهو قبول ذبائحنا كرائحة سرور الله . وأصبحت ذبيحة الصليب تفوق كل روائح ذبائح العهد القديم لأن الرموز والأشكال تعطى تلك الروائح . واذا كانت هذه الذبائح تسر الله في العهد القديم فأن ذلك كان للرمز الذى تشير اليه وهذا ما قاله داود النبي ” هل أكل لحم الثيران أو أشرب دم التيوس ” (مز٥٠: ١٣) .لقد كانت توجد ذبائح حيوانية متعددة ولكن هنا كمعنى روحي واحد هو ضرورة الموت عن الخطايا والشهوات . وأن الذبيحة لله هي الروح المنسحق لأن ” القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره ” (مز٥١: ١٧) لأن هذه هي ذبائحنا أن نقدم لله التهليل والمجد الذى يشتمه الله ولهذا قال بولس الرسول أننا رائحة المسيح الذكية (٢كو٢: ١٥) والروح القدس هو الذى يملأ حياتنا برائحة القداسة . والبخور هو الفضائل المختلفة التى يشتمها العريس كرائحة طيب أفضل من الأطياب الأخرى.[8].

القديس يوحنا ذهبي الفم

مفهوم حمل الصليب

أقول هذه الأمور لأننى أريد أن احفظوا وصايا المسيح، الذي يوصينا أن نصلى ،حتى لا نقع فى تجربة، وأن نتبعه حاملين الصليب.لأن هذه الأمور ليست متناقضة بل هى متوافقة للغاية فيما بينها. إذاً فلتستعد هكذا مثل جندي شجاع، وأن تكون دائما متسلحاً، وهادئا ويقظا مستعداً لهجوم العدو. لكن يجب ألاّ تستدعي الحرب، لأن هذه ليست سمة جندى،بل سمة العاصي و المخالف، أما إذا معاك فوق التقوى فتجند على الفور،أحتفل الخياة،انطلق إلى الجهاد الروحي برغبة كبيرة حطم فايق الأعداء، اقطع وجه الشيطان وأقم نصب الأنصار.لكن إن لم يجبرك أحد أن تفعل شيئا مما لا يرضي الله فلا ترهق نفسك أكثر من اللازم.

حياة المسيحي يجب أن تكون مخضبة بالدماء، بالطبع ليس أن يريق دماء الآخرين، بل أن يكون مستعداً أن يُراق دمه هو.إذا لنريق دماءنا عندما يكون هذا لأجل المسيح بنفس القدر من الرغبة الطبيعية التي بها يمكن للمرء أن يصب ماء(لأنه في الحقيقة الدم هو ماء ينساب  في الجسم).ولننسلخ عن جسدها بنفس السهولة، التى من له بها ملابسنا. وهذا سيحدثإن لم نكن مقيدين بالمال، وبالبيوت، وإن لم نكن منجذبين للأمور الحاضرة بكل هذه الشهوة، أي أنه إن كان الجنود يتبرأونمن كل شئ بطيب خاطر، والأكثر جدا يجب أن نستعد نحن جنود المسيح هكذا، ومصطفى من أجل محارة الشهوات ومقاومتها. لا يوجد الآن اضطهاد، وياليت لا يحدث أبداً. ولكن هناك حرب أخرى،حرب شهوة المال، حرب شهوة الجسد حرب الشهوات عموماً.

هذه الحرب يصفها ق.بولس قائلاً:”إن مصارعاتنا ليست مع دم ولحم”.هذه الحرب موجودة على الدوام.من أجل هذا يجبأن نثبت دوماً متسلحين “فأثبتوا ممنطقين أحقائكم “،الأمر الذى يعني أن هذا أيضاُ يتعلق بالحياة الحاضرة، وقد أظهرأنه يجب علينا أن نكون مسلحين على الدوام. لأن الحرب التى تدار باللسان هي حرب كبيرة، وكبيرة أيضاً هي الحرب التىتنشب بالأعين، لنمنع هذه الحرب إذاً.شرسة هي حرب الرغبات، وانطلاقا من هذا يجب أن يتسلح جندي المسيح فأثبتوا إذاًممنطقين احقائكم”،وأضاف” بالحق”.

لأن الشهوة هي هزؤ وكذب،كما قال داود النبي في موضع”لأن خاصرتي قد امتلأت “.هذا الأمر ليس لذة أو شهوة أولذة،بل هو ظلال شهوة. ولهذا يقول”ممنطقين احقائكم بالحق “،أي بالشهوة الحقيقية، بتعقل وبلياقة. لأنه يعرف لا معقولةالخطية وأراد أن تكون كل أعضائنا مصانة. لأنه يقول:”غضب الأثيم لا يمكن أن يبرر”.يريد أيضاً أن نرتدي درعاً وترساً.لأن الغضب وحش يندفع بسهولة ولكي ننتصر عليه ونضبطه نحتاج لسياج وحواجز. ولهذا السبب تحديداُ،هذاالجزء، أى الأحقاء ،قد خلقه الله لنا من العِظام، كما لو كانت مخلوقة من صخر ما، واضعاً هذه العِظام حولها كدعائم،حتىلا يتحطم الإنسان  كله بسهولة إذا ما كٌسرت مرة أو قُطعت،لأنه إذا حدث هذا ،سيسبب ألماً لا يحتمل وأى عضو آخر لنيمكنه أن يحتمل هذا العنف.ليس هذا فقط ، بل أن الأطباء يقولون أنه لهذا السبب وضعت الرئتين تحت القلب حتى أن القلب يوجد فوق شئ لين ويترضض كما لو كان على أسفنج، ويسترح، ولا يتحطم بقفزاته المستمرة على عظم قاس،يترضض فوقه. إذاً نحن نحتاج لدرع قوي،حتى يظل هذا الوحش هادئ على الدوام. لكننا نحتاج أيضاً إلى خوذة.

لأن الأمر هنا مرتبط بالفكر، وعلى هذا الفكر يعتمد كل شئ، فإما أن نخلص، إن فعلنا ما ينبغى فعله، وإما أن نهلك إذا فعلنا عكس ذلك، ولهذا يقول”وخذوا خوذة الخلاص”.لأن المخ بطبيعته لين، ولهذا يُغطي من الجزء الأعلى كما من قشرة ما،من خوذة عظيمة. وهذا المخ هو المسئول عن كل ماهو حسن وشرير، سواء عرف الصواب أو عرف العكس (الأمور المخالفة).بل أيضاً تلك التي للنفس،الأيدي والأرجل الجسدية، بل أيضاً تلك التى للنفس،الأيدي لتفعل تلك الأمور التي ينبغي فعلها، والأرجل لكي تذهب ألة حيث يجب أن تذهب.

إذا لنسلَّح أنفسنا هكذا، وسنستطيع أن ننتصر على الأعداء، ونرتدي تاج النصرة بمشيئة ربنا يسوع المسيح، الذى يليقبه مع الآب والروح القدس المجد  والقوة والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين[9].

 القديس أغسطينوس

نحن نخوض حربا ضروسا مع الموت من خلال كل الأعمال الضرورية

فى هذه الحياة الراهنة ، نحن نخوض حربا ضروسا مع الموت من خلال كل الأعمال الضرورية . لأن كل رغبة واحتياج هى كعملية جذب نحو الموت ، بينما يساعدنا كل دواء على الانسحاب من الموت .ان الجسد  ( الانسانى ) غير مستقر ومتقلب لدرجة أنه توجد أنواع ميتاتــ اذا جاز التعبير ــ تصد بميتات أخرى .وربما يقول انسان ما : ان أى دواء يستعمل ضد الموت يصير بداية صغيرة الى نوع آخر من الموت بمجرد التوقف عن الاستمرار فى استخدامه . اذا كيف يمكن التحقق من هذا الأمر فى حياتنا الراهنة ؟ أى علاج ضد الموت هو فىحد ذاته بداية صغيرة الى الموت ان كنتم تعانون من آلام الموت بواسطة الاستمرار فى استخدام ( العلاج ) .على سبيل المثال ، خذوا حالة نسان يستخدم دواء الصوم . فهو يستعيد قوته ان أكل وهضم ، ولكن حينما يصوم فانه يستخدم دواء الصوم من أجل أن يصد الموت الذى جلب عليه الافراط ( فى الأكل ) ، ولن يصارع ذاك الموت ما لم يستخدم دواء الصوم والتقشف . وبالرغم من ذلك ، سوف يبرهن على خوفه من الجوع ان استمر فى استخدام دواء الصوم ، مع أنه شرع فى استعمال هذا الدواء من أجل الصراع مع الموت الذى جلب عليه الافراط ( فى الأكل ) .

ولذلك كما استعمل الصوم كدواء ضد الموت الذى جلب عليه الافراط ( فى الأكل ). يتحتم عليه أيضا استخدام الأكل كدواء من أجل الخلاص من الموت الذى جلب عليه الصوم . على أى حال ، انكم ستموتون ان كنتم ستستمرون فى استعمال أى دواء من الاثنين .هل المشى مرهق لكم ؟ فسوف تصابون بالاغماء وتموتون من شدة التعب ان استمريتم فى المشى بدون توقف . ثم تجلسون كى تنالوا قسطا من الراحة وتتجنبوا الاغماء . ولكن ان بقيتم جالسين للراحة ، فانكم ستموتون بسببها .هل ضغط النوم الثقيل بوزنه عليكم ؟(حينها) كان عليكم أن تستيقظوا أو كنتم لتموتون بسببه . بيد أنكم ستموتون من الأرق ما لم تناموا مرة أخرى . لأنه فى الصراع والجهاد مع أى شر يظلمكم ويضطهدكم : هل فى وسعكم أن تحددوا أى دواء تتخذونه بدرجة عالية من الأمان ؛ لدرجة أنكم ترغبون فبالاستمرار به الى أجل غير مسمى ؟أى دواء تختارونه سيكون فى حد ذاته تهديدا . ولذلك طوال هذا التتابع المتغير على الاحتياجات والأدوية، فأننا نشن حربا مع الموت . ولكن عندما يلبس هذا الجسد الفاسد عدم فساد، وهذا الجسد المائت يلبس عدم موت ، فسيسأل الموت ذاته : ” أين شوكتك يا موت ؟ أين غلبتك ياهاوية ؟ ” (١كو ١٥: ٥٥) ، حينئذ سنرى ثم نمجد ، فننال الراحة . لن نحتاج الى يد العون ، لأنه لن تكون هناك حاجة .بين الحياة الأرضية والحياة الأبدية :فى تلك الحياة ( الأبدية ) لن تجدوا شحاذا تشاركونه طعامكم ، ولاغريبا تشاركونه بيتكم . لن تجدوا ظمآن تتقاسمونه شرابكم ، عريانا لتكسوه ، مريضا لتزوروه ، متخاصمون لتصالحوهم ، وموتى لتدفنوهم .فى تلك الحياة ( الأبدية ) الجميع : سيطعم طعام البر ، وسيشرب شراب الحكمة ، وسيتوشح بوشاح الخلود ، وسيحيا فبالوطن الأبدي . صحتهم ستكون الأبدية ذاتها ؛ سيدوم سلامهم وفرحهم ؛؛ فى تلك الحياة ( الأبدية ) لن يكون هناك مرض ولا موت[10] .

القديس يوحنا ذهبي الفم

الصليب مسرة الآب ، مجد الإبن ، فرح الروح ، فخر الرسل

بهذه العبارة المفعمة بالمعاني الزاخرة والعميقة يعبر القديس يوحنا ذهبي الفم عن مفهوم الكنيسة الأولى للهبة التي تضافر الثالوث الأقدس في تقديمها للإنسان الحزين ليرفع عن وعيه المريض بالخطيئة الإحساس بالألم القاتل وتشاؤم الموت .الإنسان ينظر إلى الصليب من خلال عتمة الخطيئة وبؤس الإثم وعقدة الذنب فيلتمس منه مهرباً بـكـل وسيلة ؛ مستخدماً في ذلك إمكانياته الذهنية والنفسية والوجدانية ، لأنه مذلة وعار ـ قياساً على المستوى البشري ـ لا يليق بالإنسان ، فكم بالحري الله !!! …

أما القديسون رجال الله فينظرون إليه في مرآة الله ، وكما عاشه المسيح ومارسه . فيرون فيه : حب الله ، « لأنه هكذا أحب الله العالم حتىبذل إبنه الوحيد » ، « والله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا . »

وهـو لـيـس جهالة بل فيه حكمة الله ، وهو ليس ضعفاً لأن ضعف الله أقوى من الناس ، أو بحسب تعبير الكنيسة ـ جماعة القديسين [ الذي أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة  ] .

آه لو أعطي الإنسان عيناً تستطيع أن تلمح في لحظة من الزمان أجيال البشرية ألوف ألوف وربوات ربـوات ، بعيون ذابلة يائسة ، وأفواه حزينة متنهدة ، الهاوية تحتهم تفتح فاها لابتلاعهم ، وغضب السماء مـن فـوق يـرعـبهـم . ثم ، إلى لحـظـة مـن الزمان ، وقد غمر الصليب هذه الألوف والربوات ، فإذا بالعيون أشـرقـت بـالـفرح ، والشفاه انفرجت بالتسبيح ، وتهليل السماء بعودة المفديين ؛ كما يعبر إشعياء النبي عن هذا المشهد : « ومفديو الرب يرجعون و يأتون إلى صهيون بالترنم ، وعلى رؤوسهم فرح أبدي ، ابتهاج وفرح يدركانهم . يهرب الحزن والتنهد … يرفعون صوتهم يترنمون معاً لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون ، أشيدي ترنمي معاً يا خرب أورشليم لأن الرب قد عزى شعبه فدى أورشليم . قد شمر الرب عن ذراع قدسه أمام عيون كل الأمم فترى كل أطراف الأرض خلاص إلهنا» (أش ٥١: ١١، ٨:٥٢-١٠) .

لـذلـك نـود لـو أن القارىء يتجاوز دور العبادة المتشحة بالسواد في أسبوع الآلام ، والألحان الحزينة التي تشجي النفس ، وذرف الدموع ولو على الحبيب المصلوب ؛ يتجاوز كل هذا الواقع ، الذي عكس الإنـسـان عـلـيـه بـشـريـتـه ؛ لـيـرى صليب المسيح من منظار الله ، وكيف كان يخطط له عبر الأجيال والأحداث بالنبوات . حقاً و يقيناً إن الصليب موضوع مسرة الآب الذي سر أن يسحق إبنه بالحزن ، وموضوع مجد الإبن الذي قال « قد أتت الساعة ( الصليب ) ليتمجد الإبن » ، وموضوع فرح الروح القدس الذي كان ينتظر حتى يتمجد الابن .

أولا : شهادة الأنبياء :

لو انحصر الصليب في سيرة المسيح لوجدناه مأساة حزينة وخاتمة تاريخ « قرية ظالمة » كما يسميها بعض الكتاب في جيلنا . أما لو تأملناه ضمن التدبير الإلهي فسنرى كيف أن الله منذ فجر الخلاص يشير إلـيـه بـالـرمـز والـنـبوة . فالله سبق وأنبأ بأفواه أنبيائه(أع١٨:٣) عن آلام المسيح وصليبه وموته ودفنه . وهذا القديس يوحنا ذهبي الفم يقدم شرحاً لبعض هذه النبوات : [ الأنـبـيـاء أنفسهم لم يكونوا يجهلون هذه الحقيقة ــ آلام الصليب ــ بل عرفوها بوضوح وأعلنوها مسبقاً بيقين كامل حتى أنها لابد أن تحدث ولابد أن تكون . اسمعهم كـيـف يـعـلـنـون الصليب بطرق مختلفة . أول الكل يعقوب رئيس الآباء يتوجه بالحديث إلى المسيح قائلاً : « اضطجعت ونمت كأسد ؛ فمن يقيمه ؟ » (تك٩:٤٩). هنا سمى الموت رقاداً ونوماً ، وربط بين الموت والقيامة بقوله : « فمن يقيمه ؟ » والحقيقة أنه لا يقدرأحـد على هـذا سـوى المسيح نفسه الذي شهد قائلاً : « لي سلطان أن أضع حياتي ولي سلطان أن آخذها » (يو۱۰ : ۱۸) . وأيضاً : « انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه » (يو۲ : ۱۹) . ولكن ، ما معنى هذه الكلمات : « اضطجعت ونمت كأسد ؟ » كما أن الأسد مرهوب ليس في صـحـوه فـقـط بل أيضاً في رقاده ، هكذا المسيح أيضاً كان مرهوباً ليس قبل الصليب بل وهو أيضاً على الصليب وفي لحظة الموت . لقد أجرى في ذلك الحين معجزات باهرات ، إذ حول ضياء الـشـمـس إلى ظلمة ، وفتت الصخور وزلزل الأرض ، شق حجاب الهيكل وأنذر امرأة بيلاطس حتى صـرحـت قـائـلـة لـزوجها : « إياك وذاك البار، لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله » (مت۱۹:۲۷) ، واسـتـذنـب يهوذا الخـائـن على خطيته فاعترف : « اخطأت إذ سلمت دماً بريئاً » (مت٢٧: ٤) . فلما حلت الظلمة على الأرض، وظهر الليل في وضح النهار، حينئذ باد الموت وانهدم طغيانه ؛ على الأقل بقيامة كثير من أجساد القديسين الراقدين . وهكذا سبق رئيس الآباء يعقوب وأعلن هذه الأمور، ليصور المسيح مرهوباً حتى عند صلبه ، فقال : « اضطجعت ونمت كأسد » وهوذا داود يتكلم عن الصليب هكذا : « ثقبوا يدي ورجلي ، أحصوا كل عظامي » . ليس ذلـك فـقـط بـل وصـف مـا حـدث مـن الجـنـود : « اقتسموا ثياب يبينهم وعلى لباسي اقترعوا » (مز۱۷:۲۲-۱۹). وأضاف أيـضـاً مـا قـدمـوه إلـيـه من طعام ممزوج بمرارة ، وخل ليشربه : « جعلوا في طعامي مرارة ، وفي عطشي سقوني خلأ . » (مز٦٩ : ٢٢) ونبي آخر يقول عن ضربه بالحربة : « و ينظر إلـيـه الذين طعنوه » (زك ١٢: ١٠) أما إشعياء فيتنبأ عن الصليب بأسلوب آخر قائلاً : أنه اقتيد مثل خروف إلى الذبح ، وكحمل صامت أمام الذي يجزه ، هكذا لم يفتح فاه . وفي تواضعه انتزع قضاؤه (إش٥٣: ۸،۷) .

نعود إلى داود النبي في وصفه للمحاكمة : « لماذا ارتجت الأمم وتكلمت الشعوب بالباطل ؟ قام ملوك الأرض واجتمع الرؤساء معاً ضد الرب وضد مسيحه » (مز۲ : ۱ ، ۲) … وحتى الخائن الـذي بـاعـه يـتـنـبأ عنه أنه صديقه الأليف : « الذي أكل خبزي رفع علي عقبه » (مزا٩:٤) والـكـلـمـات التي فاه بها على الـصـلـيـب سـبـق فـأنـبـأ عنها : « إلهي إلهي لماذا تركتني ؟ » (مز۱:۲۲). ثم يـصـف الدفن قائلا : « وضعوني في جب عميق . في مواضع مظلمة وظلال الموت » (مز٤:٨٨ ) . إذن فالأنبياء عرفوا الصليب وسببه وما ينتج عنه من قيامة وصعود ، عرفوا الخيانة والمحاكمة ووصـفـوهـا جميـعـاً بـدقـة . أيعقل إذن أن الذي أرسلهم وأوصاهم أن يتكلموا عنها أنه هو نفسه يجهلها ؟ أو يستعفي منها ؟ أو يستثقلها ؟ لأجل ذلك كان إرسال الأنبياء سلفاً ، ورؤساء الآباء أخبروا بهذه الأمور بواسطة الكلمات والأعمال . وهكذا رسم الصليب بتفاصيله قبل حدوثه . فذبيحة إسحق تشير لنا إلى الصليب . لذلك قال المسيح : « أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح » (يو٨ : ٥٧) . فرئيس الآبـاء كـان إذن مـسـروراً وهـو يـعاين صورة الصليب في

ذبيحة إبنه إسحق . وموسى أيضا غلب عـمـالـيق حينما رسم شكل الصليب بيديه المبسوطتين . ويمكن للإنسان أن يعدد أموراً لا حصر لها في العهد القديم تصف الصليب وترسمه قبل حدوثه . فالإعداد له كان منذ زمن طويل . ]

سؤال : لماذا استعمل الأنبياء الفعل في الزمن الماضي في نبواتهم عن الصليب ؟ :

عـنـد الـتـعرض لكتابات الأنبياء يحتار الشراح لكونها تتحدث عن المستقبل في حين أنها مكتوبة في زمـن الفعل الماضي . فمنهم من ينكر ظاهرة النبوة لذلك يلجأ إلى التاريخ المدني والآثار والحفريات لعله يعثر على مـا يـنـير لـه الـنـبـوة وسـط ظلمة أحداث ماضية ضاعت معالمها وخلفت وراءها النذر اليسير من المعلومات . أما يوحنا ذهبي الفم فيقدم هذا التفسير البسيط المقنع :

من عادة الأنبياء في مواضع كثيرة أن يتنبأوا عن أمور المستقبل كما لو كانت قد حدثت فعلاً . فكما أنه يستحيل على الأمور الماضية ألاتكون قد وقعت ، هكذا أيضاً النبوات لابد أنها واقعة مع أنهـا تـنـتـظـر المـسـتـقـبـل لتحقيقها . لأجل هذا كانوا يتنبأون في زمن الفعل الماضي تعبيراً عن اسـتـحـالـة عـدم وقـوعـهـا ولـتأكيد حدوثها . هكذا قال داود فيا يتعلق بالصليب : « ثقبوا يدي ورجلي » ولم يـقـل « سيثقبون » بل « ثقبوا » ورئيس الآباء يعقوب أيضاً : « اضطجعت ونمت كأسد » وليس « ستضطجع وستنام » ، ليؤكد حتمية حدوثها ] .

وهـذا بـالـضـبـط مـا تـعـنـيـه شـهـادة بطرس الرسول عن المسيح المصلوب لما وقف أمام الجموع يوم الخمسين : « أخـذتـمـوه مسلما بمشورة الله الحتمية وعلمه السابق ، وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه » (أع ٢ : ٣٢).

ثانياً : شهادة السيد المسيح عن صليبه :

بعـد هـذا الـعـبور السريع على بعض نبوات العهد القديم ، يتناول القديس يوحنا ذهبي الفم بالشرح بعض مواقف السيد المسيح التي تعرض فيها للحديث عن الصليب ، فيقول : [ … هـوذا بطرس المتقدم في الرسل ، لما قال « حاشاك يارب ، لا يكون لك هذا » وبخه المسيح بشدة لدرجة أن قـال لـه « إذهـب عني يا شيطان . أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس » (مت ۲۲:١٦، ۲۳) ، مع أنه قبل ذلك بقليل (مت ١٧:١٦) كان يطوبه !! … لأن التخلص من الصليب كان يبدو للمسيح أمراً مخيفاً ، حتى أن بطرس الرسول الذي قبل إعلانا من الآب ، والذي طؤبه ، والذي تسلم مفاتيح السموات ، دعي شيطاناً ومعثرة ، واتُهم بأنه لا يهتم بما الله ، لمجرد قـولـه للـمسيح : « حاشاك يارب ، لا يكون لك هذا » أعني الصليب . فالذي انتهر تلميذه ونعته بهذه الصفة بعدما مدحه لأنه طلب إليه أن يتحاشى الصليب، كيف لا يرغب أن يصلب ؟

ثم كـيـف يـكـون ذلك وهو الذي قدم صورة الراعي الصالح ؟ و برهان صلاحيته أن يقبل الـذبـح عـن خـرافـه ، إذ يـقـول : « أنـا هو الراعي الصالح ، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف » (يو١٠: ١١) ولم يـكـتـف بهذا بل أضاف : « أما الذي هو أجير وليس راعياً ، يرى الـذئـب مـقـبـلا و يترك الخراف ويهرب » (يو١٢:١٠). فإن كانت علامة الراعي الصالح أن يضحي بنفسه بينا الأجير يرفض ذلك مفضلاً الهرب ، فكيف يليق به أن يستعفي من الذبح ؟ … وكـيـف يـقـول : « أنا أضع حياتي » ؟ إن كنت تبذل ذاتك بإرادتك فكيف تطلب من آخر أن يـعـفـيـك مـن هذا البذل ؟ وهوذا بولس يتعجب و ينذهل من هذا الإعلان قائلاً : « إذ كان في صـورة الله ، لم يحسب مساواته لله اخـتـلاساً . لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائراً في شبه الـنـاس . وإذ وجد في الهيئة كإنسان تواضع وأطاع حتى الموت موت الصليب » (في ٢ : ٦-٨) . والمسيح يشهد عن ذاته : « لأجل هذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها » (يو١٧:۱۰) . فإن كان يستنكر هذا العمل فكيف يقول أن الآب يحبه ؟ لأن الحب يقوم بين إثنين لهما  اهتمامات واحدة ، كما يظهر مـن قـول الـرسول : « أحبوا بعضكم بعضاً كما أحبنا المسيح وأسلم ذاته لأجلنا » (أف ٥: ٢ ) . والمسـيـح نـفـسـه لمـا اقـتـرب مـن الـصليب قال : « أيها الآب ،قد أتت الساعة فمجد إبنك » (یو۱:۱۷)

أمـا أنـه يشير إلى الصليب كمجد ، فاسمع ما يقوله يوحنا الإنجيلي : « لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد ، لأن يسوع لم يكن قد تمجد بعد » (يو٧ : ۳۹) . ومعنى هذه الآية أن النعمة لم تكن قد نزلت بعد لأن العداوة بين الناس كانت ما زالت قائمة كما أن الصليب لميأت بثماره بعد .

فما الذي اضطره إلى الصليب ؟ وما الذي أحوجه لإرسال الأنبياء ليعلنوا مسبقاً أن سيصلب إن كان لا يـشـاؤه ؟ ولماذا دعاه « كأساً » إلا لأن الكأس لذيذ للعطشان هكذا كان الصليب شهياً عنده ! … لذلك قال : « شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم » (لو٢٢ : ١٥) . ولم يصرح بهذا الإعلان إلا لأن الصليب كان ينتظره بعد هذا العشاء . فبالحقيقة ترون أنه كان يسرع نحو الصليب ؛ على الأقل لما جاءوه سألهم : « من تطلبون ؟ » أجـابـوه : « يـسـوع الناصري . » فلما قال لهم : « أنا هو» .رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض(يو٦،٥:١٨). فبعدما أربكهم وأثبت أنه كان قادراً على الهرب من أيديهم ، استسلم لهم ، حتى تعلموا أنه لم يكن تحت اضطرار ولا قوة ولاسلطان ، بل خضع بإرادته عن قصد ورغبة ، وهو عالم بكل ما يأتي عليه ] .

مجد الصليب عقيدة إيمانية :

بهـذا يـظـهـر صليب المسيح وآلامه أنها كانا عملا إرادياً . وأكثر من ذلك ، قد صارت مقصداً وغاية جاء المسيح ليكملها : « لهذه الساعة أتـيـت » وهـذا أعمق ما بلغه الإنسان المسيحي من مفهوم الـصـلـيـب. ويأتي الـسـيـد نفسه ليجعل هذا المفهوم موضوع إيمان وعقيدة حياة للمؤمنين . فتلميذا عـمـواس يعبران عن خيبة الأمل التي يصاب بها كل من يدخل محنة الصليب والألم فلا يحصد منها سوى الندامة والحسرة . فـخـاطبها يـسـوع : « أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء ، أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ؟ » (لو٢٤ : ٢٥-٢٦) .

إن إدراكـنـا لسر صليب المسيح من هذ االوجه ـ كمسرة الآب ومجد الإبن ـ يلهمنا معرفة متجددة للألم والـضـيـق والعناء الذي نواجهه . كأنما الله ألقى للبشرية بهذا الإلهام جواباً عن آلامها التي لا مبرر لها. إن قبلتها أيها القارئ قبول السيد المسيح لصليبه وآلامه ستدخل في مجد الصليب ، السر الذي لا يـسـتـطـيـع قلم أن يصفه ولا كلمة أن تشرحه ، بل قد تحزن أن إيمانك بهذه الحقيقة قد جاء متأخراً ،وقد تـنـدم على آلام وأحزان كثيرة جزتها وتجرعتها خارجاً عن الصليب الممجد . ستستعيد قراءة حياتك مرة أخرى على ضوء هذا المفهوم الجديد وستترجمها ترجمة فورية بأن لا تستعمل حقك فيما بعد في الهروب مرة أخـرى مـن الصليب ، لقد أدركت الآن عمق الصليب وأسراره فما عادت الآلام إلا جزء لا يتجزء من إيمانك ، بل نصيباً تعتز به وتسعد بتتميمه وغاية تسعى نحوها بلا خوف . وها هوذا القديس يوحنا ذهبي الفم يتغنى بالصليب وبمآثره على الإنسان في شبه أنشودة جميلة : الصليب أزال العداوة بين الله والإنسان ، وجاء بالمصالحة . جعل الأرض سماء ، وجمع الناس مع الملائكة . هدم حصون الموت ، وحطم قوة الشرير .

الصليب مسرة الآب ومجد الإبن ،وتهليل الروح ، وفخر الرسول القائل : « حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح » .

الصليب يفوق الشمس في لمعانها ، يخطف البصر أكثر من شعاعها ، لما اظلمت الشمس ليس إلا لأن الصليب سطع ببريقه فاضمحلت أمامه ؛ ليس أنها انطفأت بل انغلبت أمام لمعانه . الصليب حطم قيودنا، وجعل سجن الموت كلا شيء. هو الحائط المنيع ، ودرع لا يقهر . الـصـلـيـب فـتـح الـفـردوس ، وأدخل اللص ، وأوصل جنس البشر إلى ملكوت السموات بعدما اقترب من الهلاك وصار غير مستحق ولاللأرض التي هبط إليها قد علمتم كيفية نصرته ، فتأملوا الخير الذي عاد علينا دون أن تتكلف تعباً ولا عرقاً  . أيدينا ملوثة بالدم دون أننشترك في الحرب.

وبالرغم من ذلك فلنا نصيب في هذا الإنتصار . أنـا أرى الـرب يجـاهـد إلى أن فاز بالإكليل، وهوذا ـ ياللعجب !! ـفوق رؤوسنا . لذلك تـمـثــلـوا بـالجنود الغالبين ، هللوا بالإنتصار، أنشدوا تسابيح التمجيد للغالب ، صيحوا بالصوت العالي : الموت ابتلع إلى غلبة . ياموت أين نصرتك ؟ ياهاوية أين شوكتك ؟ ] (هو٢٤:١٣)[11]

المتنيح الأنبا كيرلس مطران ميلانو

ارفع الموت ارفع یا رب عنا وعن كل العالم المـوت

بقيامة السيد المسيح ، اقتلعت شوكة الموت .. ومات الشبح المخيف للموت .. وبالمسيح يسوع عرفنا ما وراء الموت من حياة أبدية .. لذا نؤمن بحياة الدهر الآتي ، وننتظره برجاء ثابت ..

لقد صار الموت انتقالاً ، وهذا ما نقوله ونردده في أوشيه الراقدين ” ليس موت لعبيدك بل هو انتقال ” . الموت يأتي إلى الكل .. يمد يده ويخطف الجميع إليه .. ولا يستطيع أحد أن يقدم اعتذاراً للموت .. ولا يفلت أحد من قبضة يديه .. فهو القطار الذي حمل ويحمل الكل إلى محطة الانتظار .. حمل آدم وبنيه ، ويحمل كل مولود من البشرية إلى آخر الدهور .

في محطة الانتظار نرى منتظري الرب .. والخائفين من الرب .. نرى أطفالاً وشيوخاً .. نساء ورجالاً .. شباباً وشابات ..

منتظرو الرب الذين سلكوا في مخافة الرب .. بأعمالهم يرفعون أجنحة النسور ، وينجون من الموت الثاني .. يستقرون حول العرش ،وهناك يستبدلون أجنحتهم بالأجنحة النورانية .

الخائفون من الرب .. يبحثون عن الشقوق .. يخبئون عيونهم لكي لا ينظروا وجه من يكشفهم .. يزحفون إلى تحت الجبال لكي تسقط عليهم وللآكام لكي تغطيهم (رؤ ٦ : ١٦) .

مع السيد المسيح يكون الموت ربحاً . لذا نرجوه أن يرفع عنا وعن كل العالم : موت الخطية – موت الضمير – موت الحق – الخوف من الموت.

ارفع عنا موت الخطية:

نطلب من الرب لكي يرفع عنا وعن كل العالم موت الخطية، لأنها قاتلة للنفس .. وبها يموت الإنسان في غير وقته (جا ۷: ١٧) ، وبأعمالها تكتمل أيامه على الأرض .

إن عاشت الخطية ، مات الإنسان ، لأنها تقتله .. وإن ماتت الخطية، عاش الإنسان ، لأنه يحيا مع الله . الخطية والحياة مثل الليل والنهار.. لا يوجد نهار في الليل ، ولا توجد ظلمة في النهار .

لكي ننجو من موت الخطية .. نسمع قول الرب ” اطرحوا عنكم كل معاصيكم التي عصيتم بها .. واعملوا لأنفسكم قلبا جديدا وروحا جديدة . فلماذا تموتـون ؟! لأني لا أسـر بمـوت مـن يـمـوت .. فارجعـوا واحـيـوا ” (حز ۱۸: ۳۱) .

ارفع عنا موت الضمير :

عندما يسمع الضمير صوت الله ، يبقى مستيقظاً وساهراً على النفس .. فهو البواب في الإنسان ، الذي أوصاه المسيح بالسهر عندما قال : ” مثل إنسان مسافر ترك بيته ، وأعطى عبيده السلطان ، كل واحد كعمله ، وأوصى البواب بالسهر .. ” (مر ١٣: ٣٤) .

كل مساكن النفس من ” سمع ونظر ، وكلام ولمس ، وشم ، وفكر وقلب ” ، كلها تحت حراسة هذا البواب . إذا قتل العالم الضمير ، مات الحارس الذي يحرس الحواس والفكر والقلب . لكي ننجو من موت الضمير ، علينا ان نفتح آذاننا لسماع وصايا روح الله القدوس ، فيحل فينا دار القضاء العادل ..

لا نزن لأنفسنا وللآخرين بموازين غاشة ، فالذي يصفي للبعوضة – بضمير صالح – لا يبتلع جملاً .

الضمير الحي يتذوق دائما الحق .. ويلفظ الباطل .. ويتذكر قول الرب ” ويل للقائلين للشر خيراً .. وللخير شراً .. الجاعلين الظلام نوراًوالنور ظلاماً .. المر حلواً والحلو مراً ” (أش ٥ : ٢) .

للضمير لسان .. وفكر .. وقلب . لذا اجعل لسانك صادقا .. وقلب فكرك ، وفكر قلبك يرضيان الله .. لا تدخل شريكاً لله في قلبك ، يغير من وصايا الله .. لا تحابي الوجوه .. لا تصفق مجاملاً .. لا تمدح منافقاً ، لا تصدق كاذباً .. ولا تكذب صادقاً .. لا تحبس ضميرك في قفص ضمير الجماعة ، فتموت بأعمالهم .. لا تغير ضميرك .. ولا تستبدله ..

ليكن ضميرك حياً صالحاً .. أمام العالم الذي وضع في الشرير .

ارفع يا رب عنا وعن كل العالم موت الحق

في الحياة مع المسيح يكون الموت ربحاً .. أي موت الجسد .

لكن هناك نوعاً آخر من الموت نرجو أن يرفعه الرب عنـا .

نرجو من الرب أن يرفع عنا ، وعن كل العالم :

موت الخطية – موت الضمير – موت الحق – الخوف من الموت .

كل من يحب الله ويقترب منه ، يحب الحق ويعمل الحق .. ” فلا يبرئ مذنباً .. ولا يذنب بريئاً ” (أم ١٧: ١٥) .

الحق صار جسداً .. وجاء إلى العالم .. وسار على الأرض .. وأطلق المسبيين بعد أن فتح يد الذي قال ” سأقبض بيدي على المسكونة كلها، وأخذها كعش مهجور .. لا يستطيع أحد أن يفلت مني .. ولا يفتح فمه علي ” (أش ١٠: ١٤) .

لقد خلص المسيح المسكونة كلها من قبضة ابليس .. ودعاها إلي الحق قائلاً ” أنا هو الطريق والحق والحياة ” (يو ١٤ : ٦) .. ” إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا ” (يو ٨: ٣٦) .

يعتقد البعض بأن الحق يموت .. ولم يعرفوا الحقيقة بأن الحق لا يعرف الموت ..

أبناء العالم قيدوا المسيح الحق .. ولطموه .. وظلموه .. وصلبوه .. وأيضا دفنوه .. واعتقدوا أنهم على حق لذا أماتوه .. مساكين فهم ماتواعن الحق .. فظنوا أنه مات .

اللسان يحمل في يده سيف الحياة والموت (أم ١٨: ۲۱) … أنه يطعن صاحبه عندما يتفوه بالظلم .. وينجي نفسه من الموت الثاني بكلمة الحق.

عندما ينتزع الحق من سكان الأرض ، ويتبرر الشرير .. ينمو فيها زوان الأشرار .. وعنها يتحول السيد الرب ويعبر .. وعليها تحل اللعنات وتنتزع البركات .. كما يقول الرب ” ويل للذين يبررون الشرير من أجل الرشوة . أما حق الصديقين فينتزعونه منهم ” (أش ٥ : ٢٣) .

بين شهادة يوحنا المعمدان وبيلاطس الوالي :

مساكين الذين يستريحون .. لأنهم يشهدون للحق عن بعد .. أو يكتفون بالنظر إليه .. لقد نظر بيلاطس إلى الحق .. وبرأ نفسه أمام الشعب.. واكتفى بغسل يديه ، وبقوله أنا برئ من دم هذا البار .. ولم ينقذ المسيح من أيدي اليهود ورؤساء کہنتهم وكتبتهم ..

بينما يوحنا المعمدان الصوت الصارخ للحق .. هتف قائلاً ” . لا يحل لهيرودس الملك أن يأخذ هيروديا امرأة فيلبس زوجة له .. ”

لقد رقصت ابنة هيروديا أمام المتكئين.. فسرت الملك والحاضرين .. ووعدها أن تطلب ما تريد .. فطلبت رأس الحق .. فحزن هيرودس .. ولكن الحق رقص في قلب الملك .. إلى أن سقط الأمر من بين يديه .. لقد نفذ الحكم بعد أن مات الملك عن الحق .. وقطعت رأس يوحنا .. وبقي الحق صارخاً .

لذا إذا عرفت ما هو الحق .. عليك أن تتكلم .. ولا تجعل لسانك أخرس .. وترضي التراب القوي في نظرك . ليس خفي إلا ويظهر :

الذي يعرف الحق .. لا يتصيد الأخطاء .. ولا يكرس عينيه ، وأذنيه لمراقبة غيره .. ولا يجعل من لسانه قاطعا للأحكام .. إنما يبحث عن سبب الخطأ لينقذ المخطئ .. كما فعل الرب مع أبيمالك ملك جرار .. وحفظه قائلا ” أنا أمسكتك عن أن تخطئ إلي ” (تك ٢٠: ٦) . لأن أبيمالك أخذ سارة زوجة إبراهيم بسلامة قلب ، ونقاوة يد ، والرب يعلم هذا

يا صديقي من أجل الحق :

لا تقم في داخلك مجمع للمحاكم .. يضم العديد من القضايا .. لأبرار ومتهمين .. مضبوط عليهم ، ومفرج عنهم من داخل فكرك وحدك .. أو الوارد عليك من أفكار الآخرين .. والمصدقة عندك ..

لذا قبل أن تأتي الساعة التي تنحل فيها هذه المحاكم .. بإيقاف الفكر ومحاسبته أمام الله تذكر هذا هو عمل الرب .. وأنت من أقامك قاضيا على أخيك ؟! ليكن كل منا قاضيا على نفسه ، ليفلحها ويصلحها مع الله ، قبل أن نسمع ” أعطني حساب وكالتك ” (لو ١٦ : ٢) .

ارفع عنا وعن كل العالم الخوف من الموت

أولاد الله لا يخافون الموت .. إذ يتطلعون دائما نحو السماء من على الأرض .. هم مقيمون في أجسادهم كقيام الغرباء في الخيام .. وفيداخل الخيام الجسدية ، تبقى القلوب عالقة في السماء .. ودائما مستعدون للرحيل .. أفراحهم تكتمل عندما تنحل الخيمة الأرضية .. وعندما تفك الأوتاد المثبتة على الأرض (٢بط ١ : ١٤) .

المسيح جرد الموت من سلطانه :

من الخطية ولد الخوف.. وحل سلطان الموت على كل الناس .. وكل الشعوب .. وعلى كل الأمم .

لذا جاء المسيح الكلمة المتجسد .. وقبل الموت بإرادته .. ليدخل إلى مكان الموت ، ويميت الموت .. ويجرده من سلطانه .. بهذا يصيرالإنسان من أهل السموات ، ويرده إلى رئاسته كعظيم رحمته ( ثيؤطوكية الثلاثاء ) .

بالمسيح يسوع مات الخوف وخاف الموت . لم يعد الانسان يخاف من الموت ، ولا يموت من الخوف . بل يفرح وهو ساكن في الجسد ويقول” أين شوكتك يا موت .. أين غلبتك يا هاوية ” (١كو ١٥: ٥٥) . متى يكون الموت مخيفاً والخوف مميتاً :

عندما نسعى في الأرض ونملك لكي نبقى عليها إلى الأبد.. لأننا نجهل بأن الأرض تتزلزل وتزول ممتلكاتنا .. بذلك يكون الخوف على الأرضيات أمراً مفزعاً .

وأيضا عندما تنفصل أيادي القلوب عن يمين الرب .. وتفيض بالشرور ، يكون الوقوع في يد الله مخيفاً (عب ۱۰ : ۳۱) .

لكن إن كانت أجسادنا ، وأرواحنا وأنفسنا في يد الله ، لا نخاف من الموت .. لأن الله ينقلنا بيمينه من عالم فان إلى الحياة الباقية على يمينه .

إن كان عزيز في عيني الرب موت أتقيائه (مز ١١٦) . هكذا تكون أفراح الأنقياء بالخروج والانطلاق من هذا العالم .

أولاد الله يتذكرون قول السيد المسيح ” لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد .. ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها ” (مت ۱۰: ۲۸) .

لذا قال أحد الأباء ” لا يخشى فقد المال من لا يملك شيئا .. ولا يخاف النفي من يحسب السماء موطنه . ولا يهاب الموت من يرى أنه الطريق المؤدي إلى الحياة الأبدية”.

السماء في المسيح :

والطريق إلى السماء المسيح .. هو شخص المسيح .. وهو الذي ” يحمل في يده مفاتيح الهاوية والموت ” (رؤ ۱؛ ۱۸) .

لذا كل من يحيا مع المسيح يمتلئ قلبه بالفرح والسلام وينزع من قلبه الخوف والرعب من الموت . المسيح جاء إلينا على الأرض .. وجاءتمعه السموات .. وفتح لنا الباب للدخول من جنبه القدوس .. ومن جسده الطاهر ، وبدمه الكريم أقام الكنيسة العروس .. أقامها له . وأعطى لها حق الدخول .. وحق الصعود إلى السماء المفتوحة فيه .. كل من يأكل الجسد المقدس ، ويشرب الدم الكريم ، يثبت في السماء، والسماء تثبت فيه .. لا ينزعج من الموت ، ويقول مع القديس بولس الرسول ” إننا إن عشنا فللرب نعيش . وإن متنا فللرب نموت .. فإنعشنا .. وإن متنا فللرب نحن ” (رو ١٤ : ٨) .

كان اسطفانوس أول الشمامسة وأول الشهداء ، يحيا مع المسيح .. لذا رأى عند رجمه السماء المفتوحة .. رأى المسيح الجالس في مجده.. وبنور المسيح تحول وجهه كوجه ملاك .. (أع ٦: ١٥) .

بينما اليهود الذين رجموه لم يروا السماء المفتوحة .. ولا الحياة الأبدية .. ولا المجد العتيد .. ولم تنر وجوههم .. إنما كل ما رأوه الحجارة .. والدم .. والموت فقط .

الموت من اليأس .. والموت على الرجاء :

ليس كل من يقبل على الموت يكون شجاعا .. فيوجد من ينتحر مهزوما من نفسه .. ومن الضغوط المحيطة .. أنه يؤذي نفسه في هذا الدهر.. وفي الدهر الآتي ..

القديـس بـولـس وهـو سجين وبلا سـلاح .. أنقـذ سجـان فيلبي ، عندما حاول قتل نفسه ، لأنه ظن أن الذين في السجن قـد هـربـوا (أع١٦ : ٢٨) .

أولاد الله بصبرهم إلى المنتهى ، ينتحر اليأس منهم ، ويخلصون بالرجاء ، وعندما يطلبون الموت ، يكون ذلك لاشتياقات روحية بعد تذوق حلاوة ابيهم السماوي ..

سمعان الشيخ بعدما حمل على ذراعيه الطفل يسوع .. وعاين المسيح الرجاء المنتظر لأقطار المسكونة ، قال باشتياق ” الآن تطلق عبدك ياسيد حسب قولك بسلام ” (لو ۲ : ۲۹) .

هذه العبارة التي قالها سمعان الشيخ ، تقولها الرعية في التسبحة اليومية ، ويقولها الكاهن عندما يحمل البشارة المفرحة مع الحمل ،ويطوف في الهيكل .. وبها يتذكر أنه في المسيح لا يخاف الموت .. ويعمل جاهداً أو يستعد للانطلاق ، بعيدا عن العالميات .. وعلى هذا المنوال تنسج الرعية من الراعي حياة الرجاء في الحنين إلى الرحيل .

حلاوة العشرة مع المسيح جعلت القديس أوغسطينوس يقول ” إنني اشتهي الموت لكي أراك .. ولا أريد العيش بعد ، لكي أحيا معك ” .

لكي ننجو من الخوف :

نتذكر بأن كسب العالم كله .. ربح خاسر للنفس . كما قال السيد المسيح ” ماذا ينتفع الإنسان ، لوربح العالم كله وخسر نفسه ” (مت ١٦: ٢٦) .

فعلينا أن نقول لكل إغراءات العالم كما قال المسيح ” مملكتي ليست من هذا العالم ” (يو ١٨ : ٣٦) .. وبتسليم كامل نقول أيضا معه وله” في يديك أستودع روحي (لو ٢٣ : ٤٦)[12] .

الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار

صلب من اجلي الرب يسوع صليب من أجلى

فى تسبحة أسبوع الآلام التى تكررها كل يوم مرات كثيرة ، نقول فى المقطع الأول منها :” لك القوة والمجد والبركة والعزة الى الأبد ، آمين . يا عمانوئيل الهنا وملكنا” فى صيغة الجمع . وفى مقطعها الثانى نقول :” ياربى يسوع المسيح مخلص الصالح ” بصيغة المفرد؛ والغرض من ذلك ، التأكيد على أن ما عمله المسيح على الصليب يحتاج الى ايمان شخص لقبوله . كما يؤكد أن المسيح عندما مات على الصليب ، مات لأجلى ولأجلك شخصيا ، مات لأجل كل انسان فينا باسمه وشخصه. لذلك نجد الرسول بولس . يؤكد على هذا المفهوم الشخصى بقوله:” أحبنى (أنا شخصيا) وأسلم نفسه لأجلى”(غل٢: ٢٠) .

وفى نص قانون الايمان الذى تردده الكنيسة كل يوم ، ترد هذه العبارة: “الذى من أجلنا ومن أجل خلاصنا ، نزل من السماء ، وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء ، وتأنس وصلب عنا ” . هذه العبارة اللاهوتية الهامة تشير الى أن صلب المسيح على الصليب كان لأجلى ولأجلك، فمحبته لنا محبة شخصية وعميقة جدا . ويمكننا أن نردد مع اشعياء النبي ترنيمة العبد المتألم بصيغة الجمع ، كما يمكننا أيضا أن نرددها بصيغة المفرد :” لقد حمل أحزاني ، وأوجاعي تحملها .

وهو مجروح لأجل معاصي ، مسحوق لأجل آثامي . تأديب سلامى عليه، وبجلداته شفيت”. من أجلى علق على الصليب ،بسبب خطاياي ، ومن أجل أن يمنحني الغفران .

فى كتاب :” سيرة مختصرة لحياة يسوع المسيح “، يذكر العالم الفيزيائى والفيلسوف الرياضى والأديب الفرنسى بليزباكال(١٦٢٣ــ ١٦٦٢م) ، وهو من أعظم المفكرين الذين أنجبتهم البشرية ، يذكر قصة تحوله للايمان . فكتب يقول :” فى منتصف ليلة ٢٣نوفمبر ١٦٥٤، تكلم معى الرب يسوع قئلا: بليز، لقد كنت أفكر فيك أثناء آلامى” . هذا الاختبار كان سببايمان هذا الفيلسوف . لقد شعر أن صليب المسيح كان لأجله هو شخصيا. لقد قال المسيح :” بليز انه من أجلك احتملت كل هذا “. لقد تألم الرب يسوع ومات ودفن وقام ثانية ، ليس من أجل البشرية عامة، لكن من أجل كل انسان فى هذه البشرية بصفة خاصة .

كتب قديس روسيا العظيم تيخون زادونسكى (١٧٢٤ــ ١٧٨٣م) فى هذا المعنى قائلا :” لقد باعوك أيها الرب ، وأسلم وكللخطاة، حتى تمنحنا نحن العبيد الحرية. خضعت لمحاكمة جائرة، أنت يا من تحكم كل الأرض ، حتى نخلص نحن منالحكم الأبدى . تعريت حتى تكسونا برداء الخلاص . وضعوا على رأسك اكليل شوك حتى ننال اكليل الحياة. وضعت فىقبر حتى تقيمنا من موت القبر . هذا فعلته من أجلنا، نحن عبيدك غيرالمستحقين ،أيها الرب ” .

لا يمكننا أن نحيط بكل مفهوم الصليب والقيامة ، ان لم نفهم أن ما فعله المسيح كان من أجلنا ، ومن أجل كل شخص فينا بالتحديد .

حدث مرة فى يوم الجمعة العظيمة أن مر ثلاثة من الشباب المستهتر أمام احدى الكنائس في باريس ، ولاحظوا وجود صف طويل من المؤمنين ينتظرون أن يقدموا اعترافهم أمام كاهن هذه الكنيسة. ولعدم ايمان الشباب الثلاثة بالمسيح ، بدأوا فى التهكم على هؤلاء المؤمنين ، معتبرين أن كل ما حدث في هذا اليوم ــ يوم جمعة الصلبوت ـكان مجرد مهزلة تاريخية .

وقرر أحدهم أن يدخل ويقابل كاهن الكنيسة ليقول له رأيه فى المسيح والمسيحية . ولما مثل أمام أب الاعتراف ، قال له :” لقد كنا نسير خارج الكنيسة ورأينا هذا الجمع من الشعب منتظرين لتقديم اعترافهم . فرأينا أن كل ما يحدث هنا ليس الامسرحية هزلية ، وقررنا أن ندخل ونقول لك رأينا “.

فأجابه الكاهن ” حسنا لكن أطلب منك شيئا واحدا قبل مغادرتك الكنيسة، ادخل الى داخل الكنيسة وتقدم أمام الهيكل الرئيسي ، وانظر الى يسوع وهو معلق على الصليب ، وقل له :” لقد مت من أجلى ، أيها المسيح ، لكن هذا الأمر لا يهم  على الاطلاق. وأريدك أن تكرر هذه العبارة ثلاث مرات ، ثم يمكنك مغادرة الكنيسة.

فوافق الشاب المستهتر على ذلك ، وتقدم أمام الهيكل ونظر الى جسد الرب يسوع المعلق على الصليب ، وبصعوبة بالغة قال مرة واحدة:” لقد مت من أجلى ….”، وتحول مسرعا من أمام الهيكل . فاستوقفه الكاهن وقال له :” لقد وعدتني أنت قولها ثلاث مرات “. فرجع الشاب مترددا ، ونظر الى المسيح ، وجفت الكلمات على شفتيه، ولكنه أخيرا فعلها وقال :” لقدمت من أجلى “، وحفل مبتعدا عن الهيكل . فاستوقفه الكاهن ثانية وقال له : ” لقد وعدت أن تقولها مرة ثالثة”. فرجع بعد تردد شديد ، وأخذ ينظر الى الصليب متأملا في جروح المصلوب مدة طويلة ، ثم عاد الى الكاهن وقال له :” أبى، أنا مستعد أن أقدم اعترافي “.

من يستطيع أن ينظر الى الرب يسوع المصلوب من أجلنا ، ولا يقول له :” ارحمنى، يارب ، لأنى خاطىء”.

رسالة حب :

الصليب ليس فقط حقيقة قائمة بذاتها ، لكنه أيضا نافذة نطل منها على حقيقة أخرى عظيمة، وهى محبة الله للبشر :” هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ، لكى لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية”(يو ٣: ١٦). الله لميعد صامتا، ولم يعد محتجبا بعيدا عن أنيننا كما فى الماضى :” حقا أنت اله محتجب يا اله اسرائيل المخلص “(اش٤٥: ١٥) ؛ لكنه تخلى عن احتجابه وأظهر محبته من فوق الصليب .

+ ” الله بين محبته لنا ، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا “(رو٥: ٨)

+ “فى هذا هى المحبة : ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا ، وأرسل ابنه كفارة لخطايانا “(١يو ٤: ١٠) .

+ لكن أحزاننا حملها ، وأوجاعنا تحملها . ونحن حسبناه مصابا مضروبا من الله و مذلولا . وهو مجروح لأجل معاصينا ،مسحوق لأجل آثامنا . تأديب سلامنا عليه ، وبحبره شفينا” (اش ٥٣: ٤و٥) .

+ ” ابن الانسان لم يأت ليخدم بل ليخدم ، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين ” (مت ٢٠: ٢٨) .

+ عالمين أنكم افتديتم … بدم كريم ، كما من حمل بلا عيب ولا دنس ، دم المسيح” (١بط ١: ١٨و١٩) .

+ ” الذى فيه لنا الفداء بدمه ، غفران الخطايا ، حسب غنى نعمته” (أف ١: ٧)   .

+ بعد هذا أشفقت علينا كاله صالح ومحب البشر ، وأردت أن تخلصنا من يد الذى سبانا ، وأردت أن تعيدنا مرة أخرى الى فردوس النعيم ، فأرسلت أنبياءك ، فلم يقدروا أن يخلصونا .أعطيت الناموس فلم يصر لنا عونا . فرضيت بارادتك أنتبذل ذاتك للموت عنا وعن حياة العالم.

زار أحد الكهنة انسانا يحتضر ، ولم تكن الفرصة مواتية لسماع أية عظة قبل رحيله، فما كان من الكاهن الا أن أمسك بالصليب وعليه صورة المصلوب وقربه من عينى المريض ، وقال له :” انظر ، ما أعظم محبة الله لك ” ؛

عندما مات الرب يسوع على الصليب كان كمن يقول لنا : لا شيء يمكنكم أن تصنعوه بى قادر أن يوقف محبتي من نحوكم، من الممكن أن تضربوني وتسحقوني وتجلدوني ، ويمكنكم أن تقتلوني على الصليب ، لكنني لن أتوقف عن محبتكم ، هذا هو عظم محبتى لكم ” يا أبتاه اغفر لهم “. ان كل ما حدث على الجلجثة فقد رأينا الله يقدم ذاته ذبيحة فدية عن الانسان :” ليس لأحد حبا أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه ” (يو١٥: ١٣) . هذا هو حب الله لكل واحد منا

هل يحبنى ؟؛

قال أحد الرعاة: ان أسعد انسان عرفته انسانا كان قد سقط وهو في سن الخامسة عشرة على ظهره ، وأصابه كسر في العمود الفقري ، وبذلك صار طريح الفراش لمدة أربعين عاما . ربما لم يمر عليه يوم طوال تلك السنوات دون آلام مبرحة أثناء أي محاولة للحركة. ويوما ما طرح أحدهم عليه هذا السؤال :” ألم يحاربك الشيطان أبدا ، لكى يشككك في الله ،ويلقى في فكرك أنه اله قاس “؟ فأجابه بتلقائية :” نعم ، لقد حاول ذلك مرات كثيرة. عندما كنت أجلس وأرى أصدقاء مدرستي القدامى وهم يقودون سياراتهم ، كان الشيطان يوعز الى قائلا :” لو كان الله صالحا ، فلماذا يتركك هنا كل هذه السنين طريح الفراش ؟ ربما كنت الآن رجلا غنيا تنعم بقيادة سيارة ليموزين “؛ وعندما كنت أرى انسانا كنت أعرفه منذ الطفولية، وهو يسير في صحة تامة ، كان الشيطان يهمس فى أذنى :” ان كان الله يحبك ، ألم يكن يجنبك هذا المصير الأليم “؟ وعندما سألوه :” كيف كنت تجيب الشيطان على هذه الوساوس “؟ فأجاب فورا :” كنت آخذه الى الجلجثة وأريه يسوع ، وأشير له على الجروح البادية فى يديه ورجليه وجنبه، ثم أقول له :” هل هناك حب أعظم من هذا ؟؛”

كم أنت عزيز فى عينى الله :

كما أن الصليب يظهر محبة الله لنا ، فهو أيضا يبين كم أنت عزيز فى عيني الله. اذا قدم انسان حياته من أجلك ، فمن الضرورى أن تكون شخصا مهما ؛ فان كان هذا الانسان هو الله ذاته، فمن البين أنك مهم جدا . فمثلما نحكم على قيمة اللوحة الفنية بالثمن المدفوع فيها ، هكذا يمكننا أن نقيم ذواتنا بالثمن الذى دفعه الله فدية لأجلنا   :” عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى ، بفضة أو ذهب ، من سيرتكم الباطلة التي تقلدت موها من الآباء . بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولادنس ، دم المسيح “(١بط ١: ١٨و١٩) .

حضر طفل صغير الى الكنيسة لأول مرة ، وكان ذلك يوم الجمعة العظيمة. وهناك أصغى باهتمام الى قصة الرب يسوع المصلوب ، ومقدار محبته العظيمة لنا: كيف تألم من أجلنا ، وكيف غفر لنا خطايانا مانحا ايانا الحياة الأبدية ؛ وفى نهاية خدمة يوم الجمعة العظيمة ، بدأ المصلون فى الانصراف الى بيوتهم . فلم يفهم هذا الطفل لماذا يبدو على المصلين وكأنهم لايبالون لما استمعوا اليه. فجلس الطفل فى كرسيه وبدأ يجهش بالبكاء . فاقترب منه والده وقال له :” ياولدى ، لا ينبغى أنت تأثر هكذا بشدة وتجعل هذا الأمر يسيطر على حياتك ، لئلا يظن بك الناس أنك غير ناضج . يبدو أن هذا هو ما يحدث معنا أحيانا عندما نحضر صلوات هذا اليوم العظيم سنة بعد أخرى، ونخرج الكنيسة وكأننا نشاهد تمثيلية يوم الجمعة العظيمة ، غير مدركين قيمة الفداء العظيم الذي حققه المسيح من أجلنا ، وقيمة المحبة التي دفعته ليبذل نفسه من أجلنا :” الآن في المسيح يسوع ، أنتم الذين كنتم قبلا بعيدين ، صرتم قريبين بدم المسيح . لأنه هو سلامنا، الذي جعل الاثنين (اليهود والأمم) واحدا ،…لكي يخلق الاثنين في نفسه انسانا واحدا جديدا صانعا سلاما . ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب، قاتلا العداوة به “(أف٢: ١٦-١٣)[13].

القديس القمص بيشوي كامل

ايمان البهلوان

فى يوم ميلاد يوليانوس الجاحد ، أقيم حفل عظيم ، حضرته جميع الفرق الاستعراضية والبهلوانية لأحياء هذا اليوم العظيم

بروفوريوس البهلوان :

وتطوع هذا البهلوان الوثني أن يستعرض باستهزاء ما يقوم به المسيحيون من طقوس ، ولكن عندما بلغ تقليد طقس المعمودية وصلب على الماء باسم الآب والابن والروح القدس مقلدا دور الكاهن ، عندئذ أضاء الرب عقله فأبصر نعمة الهية قد حلت على الماء ونورا عظيما قد غشاه .

ايمان بروفوريوس فى ثانى يوم عيد الصليب :

عندما حلت عليه النعمة الالهية غطس فى الماء ثلاث مرات ثم صعد من الماء ولبس ثيابه وأقر أنه مسيحي ، فنال اكليل الشهادة . وتعيد له الكنيسة يوم ١٨ توت ــ ثانى يوم عيد الصليب .

علامة الصليب والمعمودية :

❖ فالمعمودية هى صبغة كأس الصليب ” تشربا الكأس التى أشربها وأن تصطبغا بالصبغة التى أصطبغ بها أنا ” (مر١٠: ٣٨) . فالكاهن يرشم المعمودية بالصليب وبالصلاة يحل روح الله عليها فينال ماء المعمودية بركات الصليب . لذلك عندما ينزل الطفل لماء المعمودية (بالتغطيس ) يعتمد لموت الرب ( أى لصلبه ) ويدفن معه بالمعمودية ويقوم مع الرب يسوع (رو ٦: ٦) .وبالمعمودية نصير أبناء الله . عندئذ نتمم قول الرب كأبناء ” من أراد أن يكون لى تلميذا ينكر نفسه ، ويحمل صليب هو يتبعنى المعمودية والصليب يفزعان الشيطان :

❖ المعمودية يرمز لها بعبور البحر الأحمر وغرق العدو بجنوده ، والصليب فى يد الكاهن مع الصلاة على ماء المعمودية يعط به قوة دحر الشيطان ” مدفونين معه بالمعمودية … اذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارا ظافرا بهم ” (كو ٢: ١٤, ١٥) .

قوة علامة الصليب :

❖ ذكر أحد الآباء أن كلبا كان يتردد على دكان جزار ليسرق منه قطعة لحم ، فضربه الجزار ضربا مبرحا ، وبعد عدة أيام بينما الكلبأت من بعيد أشار اليه الجزار بالعصا فولى هاربا . فالشيطان كالكلب ذاق ضربة الصليب الساحقة ، لذلك عندما نرشم هذه العلامة على أنفسنا يهرب منها الشيطان فورا ــ هكذ كان يعمل القديسون .

❖ ويقول مار أفرام السريانى ” بدلا من أن تحمل سلاحا أو شيئا يحميك ، ارشم الصليب وأطبع صورته على أعضائك وعلى قلبك .

❖ أما القديس أنطونيوس فيقول ” ارسموا أنفسكم بعلامة الصليب بشجاعة ودعوا هؤلاء الشياطين يسخرون من ذواتهم ”

❖ لذلك فالذي يرشم ذاته بعلامة الصليب بعجلة ، تفرح به الشياطين .

❖ وبعلامة الصليب نصلب الشهوات ، ونضبط أعيننا وأفكارنا .

❖ وبعلامة الصليب تحل البركة فى كل أعمالنا ، على المائدة ، فى وقت العمل ، فى مخادعنا ، وحول فراشنا ، وفى أركان منازلنا ،فى الحرب والسلم ، فى الليل والنهار . وهكذا يتبارى الجميع فى اقتناء هذه العطية العجيبة كنعمة لا ينطق بها (يوحنا ذهبى الفم) .

صورة الصليب أمام أعيننا طول اليوم :

❖ ومن يوم خروجنا من المعمودية ، وموتنا مع المسيح المصلوب … تتعهدنا الكنيسة بقوة الروح القدس ، وبالتوبة المستمرة (التى معمودية ثانية ) ــ تستمر الكنيسة تتمخض الى أن يتصور المسيح فينا (غل ٤: ١٩) حتى يصبح الصليب كل حياتنا ، ” أنتم الذين أمام عيونكم قد رسم يسوع المسيح بينكم مصلوبا ” (غل ٣: ١) . ومن أجل ذلك رسمت الكنيسة على حجاب الهيكل يسوع المسيح مصلوبا حتى يكون موضوع تأمل المؤمنين طيلة وجودهم فى الكنيسة .

❖ والتوبة والاحتمال والجهاد ضد الخطية والشهوات وانكار الذات كلها اثبات على وضوح ملامح الصليب فى حياتنا ، والا فما معنى حمل الصليب ؟

معنى علامة الصليب :

عندما نرشم الصليب بأيمان ، نضع الابهام على الجبهة ونقول باسم الآب لأن الآب أحبنا وأرسل ابنه من أجلنا من عنده من فوق . ( الصليب حب مجسم ) ، ثم ننزل الى البطن ونقول والابن لأن يسوع تجسد من أجلى والتحم بطبيعتي في بطن العذراء ــ التحم بطبيعتي ليرفعني الى علوه ، ثم نضع الابهام على الكتف الايسر وننقله للأيمن ونقول والروح القدس ، لأن الروح نقلنا من التدبير الشمالي لليمين ولآن يعمل في حياتنا كل يوم ليحولها باستمرار للانحياز للأب السماوي ــ للسماء .

اذا يا أخوتى : فلنمجد علامة الصليب ونرشمها طول يومنا بوعى وفهم لكى يتصور المسيح المصلوب فى أذهاننا وقلوبنا فيصلب أهواءنا ويضىء أذهاننا كما أضاء عقل بروفوريوس وحلت النعمة على الماء وأكسبته قوة الخلاص[14]

القديس القمص بيشوي كامل

الصليب قاعدة العمل الفردى

كان زوجها ملحدا، جاحدا للمسيح ــ لكنها كانت تعلم أن يسوع وحده يقدر على انقاذه ان رجال الدين كثيرا ما يؤلفون الكتب للرد على الملحدين ، ويؤيدون أقوالهم بالحجج الفلسفية والأدلة العلمية ــ كل هذا حسن ، ولكن المسيحية لها اتجاه آخر فى محاربة الالحاد مضاد بقية الديانات . فمعلمنا بولس الرسول والفيلسوف يقول ” لأنه اذ كان العالم فى حكمة الله لم يعرف (العالم ) بالحكمة ــ استحسن الله أن يخلص العالم بجهالة الكرازة . لأن اليهود يسألونه آية واليونانيين يطلبون حكمة ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبا لليهود عثرة واليونانيين جهالة ” (١كو ١: ٢٣) .

ركعت هذه الزوجة أمام تمثال المسيح فى بيتها (الكاثوليك يقتنون التماثيل) ــ وبينما هى تصلى تفجر الدم من التمثال … وكانت قوة الدم هى قوة الخلاص لزوجها وعودته للايمان ،(عن جريدة وطنى بتاريخ ٢/١١/ ١٩٧٥) اننا نخطىء عندما نتطلع الى الله فى صورة الحاكم العام للعالم ، ولكننا ننسى قوة حبه غير المحدودة التى دفعته أن يذوق الموت على الصليب عن خلاص العالم .ان يدى المسيح المفتوحة على الصليب تتطلع للعالم كله ـ تريد أن تحتضن الملحدين ، والخطاة ، والذين أساءوا للمسيح . أن يديه تدميان و … أن الدم يسيل من الأيدى المقدسة من أجل خلاص العالم كله. هكذا قال أحد آباء الكنيسة المعاصرين : ” آه لو علم يوحنا قيمة الدم المتفجر منأثر المسامير . اكليل الشوك والطعنة … لحاول بكل جهده لجمعه ولم يدعه يتساقط على الأرض ، وكذلك لو علمت المجدلية ذلك لكفت عن الصراخ وأسرعت لجمع الدم الذكى لغفران خطايا العالم كله … وهكذا بقية الرسل … “وفى نفس المعنى تقول احدى القديسات . ” عندما تأملت فى يدى ربنا المصلوب ــ هاتين اليدين الالهتين الداميتين وقد ثقبتهما المسامير … تجعل قلبى يقطر ألما اذ رأيت دمه الثمين يسيل على الأرض ولا يحاول أحد أن يلمه … لذلك صممت أن أقيم دائما بالروح عند قدمى المصلوب لأتلقى ندى الخلاص الالهى وأرشه فيما بعد على كل الأنفس … “من أجل ذلك يا أخى المسيحى علينا أن نقرر أن موقفنا اليوم يستدعى خروجا سريعا عن ذاتيتنا ، لكى ما نأخذ موقعنا الدائم بجوار الصليب عند قدمى يسوع ، حيث نستودع حياتنا ونفوسنا بجوار الجنب المجروح الذى احتوى كل آلام البشرية وصراعاتها حيث خرج منه دم وماء تطهيرا للبشرية البائسة التائهة ،ان الصليب ليس مكانا ساكنا علق عليه يسوع فى أحد الأيام ، بل هو قاعدة حركة قلب الرب نحو البشرية كلها . صرخة يسوع الخالدة للبشر بداية ونهاية ، وكذلك كل ما يرتبط بهم من أقوال وأفعال . أما يسوع المصلوب الاله الخالد فكل ما يصدر منه هو خالد : كلامه ، أعماله ، أحداثه … وهنا تقول نفس الكاتبة السابقة ” ان صرخة يسوع” أنا عطشان ” مازالت تدوى فى قلبى ، دون انقطاع لتلهب فيه حرارة شديدة لم يعرفها من قبل أردت أن أسقى حبيبى ، وشعرت أنعطش النفوس يصيبنى ، فوددت مهما كلفنى الأمر ، أن أنتزع الخطاة من اللهيب الأبدى ” .

+ إن صرخة يسوع مازالت تدوى فى أرجاء العالم كله ولكن لا يسمعها الا القلوب التى قد انجرحت بحب يسوع ، القلوب التى انضبط تردد حبها مع نغمات الحب الالهى .

+ ان صرخة يسوع مازالت تدوى فى أرجاء العالم كله ولكنها لا تسمع الا فى مخادع الصلاة حب النفوس المخلصة ليسوع واقفة وفاتحة لذراعيها تشاركه صرخته، اذ تصرخ معه من أجل الذين على حافة الهاوية قائلة ” من يضعف وأنا لا أضعف ومن يعثر وأنا لا ألتهب ” .

الأذرع المفتوحة

أنت يارب تفتح ذراعيك بقوة هائلة لتحتضن كل نفس فى العالم ، فأنت يارب قد فتحتها من أجل العالم ــ لأنك تحب العالم ــ وتحب خاصتك الذين فى العالم الى المنتهى .فحركة فتح ذراعيك ليست علامة السكون بل على العكس انها حركة حب للجميع ” تعالواالى ” … وأنا أريحكم ” وهذه الحركة تصحبها حركة سريعة هائلة ــ حركة عناق وقبلات … ان الأذرع المفتوحة قد اصطادت صيدا ثمينا اللص اليمين فأطبقت عليه بمنتهى القوة ـــ فى فرحة هائلة ــ وطارت به الى الفردوس قائلة ” اليوم تكون معى فى الفردوس ” ربى يسوع : ان أذرعك المفتوحة تستهوينى جدا . وأطمع أن أرتمى فيها فأشبع منك حبا وتعانقنى … وتطبق على فأعيش حيات الى الأبد فى فردوسك ــ نص دائرة حبك ، سواء هنا على الأرض أم فى السماء .ويعز على تعبك فى فتح ذراعيك باستمرار … انكتريد نفس من التى مت عنها لكى تحتضنها… يا للعجب أنت العريس الالهى فى صبرك واتضاعك تنتظر نفس ترتمى فى حضنك فتصير لك عروسا مقدسا حتى الى الفردوس .ان أذرعك المفتوحة المتعبة ستظل مظللة على أولادك وبناتك فى الجامعة ــ فىالمدارس ، فى أسرنا ، فى أماكن الشر، فى الأماكن التى لا تخطر على بالى أنك منتظر منها صيدا .ربى : أنى لا أحتمل هذا المنظر ، منظر استمرار فتح ذراعيك ليل نهار ، انه صعب جدا ـ انها متألوة ومسمرة ومفتوحة ــ وقلبك ينبض حبا وألما ودما … لايريحه الا صيدا ثمينا كاللص اليمين .

الأذرع المفتوحة هى سر الانتصار : ( خر ١٧)

فى حرب الشعب مع عماليق … كان اذا رفع موسى يده (على مثال الصليب ) فان الشعب يغلب واذا خفض يده أن عماليق يغلب. فلما صارت يدا موسى ثقيلتين أخذا حجرا ووضعاه تحته فجلس عليه ودعم هارون وحور يديه الواحد من هنا والآخر من هناك . فكانت يداه ثابتتين (على مثال الصليب ) الى غروب الشمس فهزم يشوع عماليق وقومه بحد السيف (خر ١٧) . فرفع اليد بمثال الصليب قوة جبارة فى انتصارات الخدمة . لقد كانت الحرب قديما تتم بالمواجهة المباشرة بين الجنود ــ أما الأن فالصواريخ تنطلق من على بعد آلاف الأميال ، ان صواريخ الخدمة تستطيع أن تنتقل من قاعدة الصليب الى أى مكان حيث تصيب الهدف فيقع مأسورا بين أذرع يسوع المطفطفة على العالم .

+ فهى تنبه خدام اليوم الى ديناميكية عمل الأذرع المفتوحة فى صليب يسوع ، وكيف أنه عندما تسرى قوتها فى كياننا كخدام تنفتح أذرعنا وأيضا قلوبنا معها لتحتضن أخطى الخطاة ثم يقبض عليها فى حضن المحبة الالهية … فيصير أسير حب يسوع المصلوب .

+ تأملت مرة فى الصباح الباكر أما تنزل من بيتها بملابسها المنزلية فى شدة البر ــ حاملة حقيبة ابنها الصغير ، بعد أن أعدت لهكل شىء فيها (أدواته وسندوتشه …الخ ) ، وهى واقفة فى انتظار أتوبيس المدرسة ، وعندما جاء الأتوبيس أسرعت الأم ، سلمت ابنها الى يدى المشرفة ثم أغلقت الباب وتحرك الأتوبيس وعينى الأم شاخصة نحو ابنها فى الأتوبيس ولسان حالها يقول ” فىسلامة الله ” .

+ تأملت يسوع وهو يرتب أمور أولاده فى العالم كله ــ فى كل صباح ثم ينزل معهم الى الشارع ، لكنه لا يتركهم بل يرافقهم للعمل والكلية والمدرسة … وعندما تأملت ذلك تأكدت أن أذرع يسوع الأبدية ترعى كل أولاده فى الجامعة وفى المدرسة وفى العمل وفى كل مكان …تأكدت أن هذه الأذرع الأبدية هى القوة الوحيدة لرعاية أبنائنا اليوم مضافا اليها أذرعا مفتوحة على مثال الصليب ، من كاهن أمام مذبحه ــ الى خادم فى مخدعه ــ الى أم فى منزلا ــ الى نفوس كرست حياتها طول يومها فى الكلية والعمل أن تقف بجوار صليب ربنا لكى ترش الدم النازل من الجنب الالهى وأثر المسامير على كل زميل ــ وكل زميلة . هذه هى حركة الصليب التىلا تسكت أبدا حتى غروب الشمس (خر ١٧) انها ترنيمة انتصار الكنيسة الخالدة حتى غروب حياتنا على الأرض، انها ديناميكية الصليب فى الخدمة .

الثنائية فى الخدمة (الصلاة والعمل )

س : فى أحد اجتماعات الخدام دار هذا الحوار : ان كان التركيز كله على الصلاة فهذا يعنى أننا نهمل قيمة العمل ؟

ج : الحقيقة أن الصلاة الحية متحركة وتنتقل الى مكان الخدمة . وتدفع بقوة صاحبها للخدمة، لا تفارقه أثناء الخدمة ــ فليس هناك ثنائية بين الصلاة والعمل .أما الصلاة الميتة فهى ساكنة منفصلة عن مكان الخدمة ، تحرك شيئا فى صاحبها نحو الخدمة ،أما فى أثناء الخدمة فهى تفارقه فتتحول الخدمة الى روتين أو واجب أو مجردات .

+ زرت مرة انسان كانت زوجته ستعمل عملية سرطان بعد يومين فى بلد بعيد ، وقبل العملية بيومين مرض هو بذبحة صدرية منعته عن الحركة ، كان ملازما الفراش ــ وكان يصلى وكان يلازم بعقله وبروحه وبقلبه عملية زوجته حتى وان كان المرض كان قد منعه عن الحركة المادية .على هذا المثال خادم واقف بجوار الصليب يحس بالآم يسوع من أجل زميل له . أنه يتألم وتتألم أحشاؤه فى وقفته فى مخدعه ان صلاته حية تدفعه دفعا للحركة ــ وان أمره الرب بالانتظار فسينتظر على مضض كيف يسكت ويسوعه متألما وأذرعه مفتوحة ومشدودة وقلبه مجروح ؟ لقد أعتذر أرميا عن الخدمة وقال ” انى ولد ” ولكن بعد أن كشف الله له آلامه وتعبه من أجل الخدمة كان أرميا ذاته يصرخ فى أعماق سجنه ويقول ” أحشائي توجعني لا أستطيع السكوت ” .

كلمة الله متحركة :

كان بولس الرسول مقيدا بالسلاسل فى أعماق السجن ، ولكنه بالروح أملى أعظم رسائله وكتب فيها أن كلمة الله لا تقيد لأنها متحركة ــ وقد أصابت نفوس كثيرة وأسرتهم فى حب يسوع وطاعته ، ومات القديس بولس ومازالت كلمته متحركة وتصيب هدفها ولاترجع فارغة الصليب قاعدة الحركة ومركزها :

ان النفوس ذاقت الوقوف المتواتر بجوار الصليب التى أحست بآلام الرب وأناته من أجل البشرية المتألمة ــ هى النفوس التي ستصرخ وتقول ” هانذا فأرسلنى ” . فمن عند الصليب يتحرك الخادم مستودعا نفوس مخدوميه فى أحضان الرب على الصليب وفى قلب يسوع ذاته … ثم يتحرك الخادم فى ظل الصليب وقوته ، حيث يوصل كلمة الله للمخدومين ــ ليس بحكمته البشرية بل بقوة الصليب ، وليس بحكمة العالم بل ببساطة الانجيل . ويسوع المصلوب يرافق الخادم فى رحلته مظللا بيده على خدمته ، ونافخا فىقلبه احساساته الالهية نحو الخروف الضال . والابن الضال والدرهم المفقود … وفى النهاية يرجع الخادم الى قاعدية خدمته ــ عند الصليب ــ حيث يستودع كل النفوس فى أحضان الأذرع المفتوحة . وفى صلاة الخادم الخاصة ــ عند قاعدة الصليب ــ تنطلق صلوات صاروخية بعيدة المدى تصيب كل مخدوميه فى أماكنهم وتأسرهم الى حب يسوع ــ الى الصليب .

توبة مجدى

فى حوالى عام ١٩٦١نشرت الصحف خبرا عن مجموعة شباب كانوا يقتلون السيدات بعد سرقة ما معها من مال ، ثم يقتلونهم ويلقونهم فى بئر بمنطقة المعادى … وتم القبض على مجدى وحكم عليه بالأعدام . وكانت هناك صلوات مقبولة قوية تصدر من على المذبح حيث يسوع المذبوح عن الخطاة ــ وأصابت هذه الصلوات مجدى فى أعماق سجنه ، واذا به يرى فى حلم السيدة العذراء ومعها كاهن ، طالبة منه أن يعترف للكاهن ويتناول جسد يسوع المكسور . وفى الصباح اتصل مجدى بأسرته ورسم لهم صورة الكاهن وطلب احضاره للاعتراف والتناول . ووصل أبونا ميخائيل الى السجن حيث وجد مجدى فى توبة عند أقدام الصليب وفى فرحة الرجوع الى الله ــ وأحس بأذرع يسوع تحضنه وبقبلاته الحلوة تقبله. وكتبت الصحف: ” للمرة الأولى يتقدم شابا الى المشنقة بسلام كامل وبشاشة وجه وتسليم لله وفرح كامل … ” .

بيصاريون

كان راهبا منعزلا عن العالم فى وحدة قوية مع الله ، ثم ينزل الى العالم فى خدمة هجومية ليخلص نفسا فى عمق الشر الذى ينقض على فريسته ، والعجيب أننا اليوم نقضى كل وقتنا فى الخدمة ، أما هؤلاء القديسون فكانوا يعيشون أغلب حياتهم فالتوبة والاتحاد بالله ثم ينزلون فى خدمة هجومية صاروخية الى معاقل الشر ، وبعد الانتهاء منها يرجعون فورا الى عزلتهم وأحيانا تكون فريستهم وصيدهم معهم … ( عن نبذة قوة الكرازة ــ الحرب الهجومية ) .

الجسد العريان

اننا دائما نرى الرب على الصليب عريانا ، ولابد أن هذا العرى يحمل عملا روحيا فى نفوس المؤمنين والخدام لأنه منظر مثير . انه اثارة لنفوس الخدام ليحسوا بالتعري والخزي الذى أصاب البشرية عندما تعرت من النعمة بسبب الخطية ــ وحمله الرب عنا. واستمرار الرب فى عريه على الصليب ليثيرنا جدا لأنه دليل على استمرار عرى وخزى كثير من أولاد الله ــ وأن الرب مصرا اصرارا كاملا أن يستمر عريانا ــ حتى تتحرك القلوب المخلصة فى حركة ديناميكية نحو الدعوة المستمرة للجميع . ” ألبسوا الرب يسوع ” .

+ لقد حذر سفر الرؤيا اللادوكيين قائلا  ” أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان … أشير عليك أن تشترى منى ثيابا بيضا لكى تلبس فلا يظهر خزى عريتك ” (رؤ ٤)

+ ان ورق التين لم يقدر أن يغطى عرى آدم وحواء . كذلك فالحياة المظهرية ــ لا تستطيع أن تغطى التفاهية والرياء ، والسطحية ،والشهوات المشتعلة فى داخل القلب ، والخوف والقلق ، والصراع النفسى … وكل هذه الصفات التى يرزح تحتها شباب هذا العصر . ان الكبرياء قد تسبب في عرى الانسان من التواضع الذى هو صفة المسيح .ومحبة المال قد تسبب فى عرى الانسان منحب أخيه الانسان لأنه أصل كل الشرور محبة العالم قد تسبب فى عرى الانسان من محبة الله لأنها عداوة له .والحياة المظهرية قد تسبب فى عرى الأسرة من الصفات المسيحية .والشهوات الكثيرة قد تسبب في عرى الانسان من الطهارة .وحب الظهور وكثرة الموضات قد عرت الفتاة من حشمة المسيحيين .وحب الرياسة ومحبة الذات قد عرت الخادم والكاهن من قوة الروح .من أجل كل هذه النفوس العريانة من النعمة سيظل يسوع عريانا على الصليب . مثلا لكل نفس ولكل خادم، لكى ما تلتفت كل نفس الى واقعها

المخزى فتسرع الى لبس الرب يسوع ، ولكى يتحرك كل خادم الى صلاة حارة ودعوة قوية للجميع قائلا : ” أشير عليك أن تشترى ثيابا ــ وتستر عريك بالرب يسوع “وستظل يارب عريانا على الصليب لكى تعلن لكل النفوس التي تحبها أنه لا المال ، ولا المدنية ،ولا التكنولوجيا … تستطيع أن تغطى عرى النفس … انه المسيح فقط . هذا هو العمل الديناميكى المستمر الذى يعمله الرب اليوم فى نفوس خدامه. البشرية كلها سقطت فى الشر من أجل ذلك وقع معهم يسوع تحت الصليب .اليوم آلاف من الشباب يعيشون تحت نير مع غير المؤمنين .اليوم آلاف من الشباب قد سقطوا فى شهوات الجسد .اليوم آلاف من الشابات قد تخلوا عن حشمة أولاد الله .من أجل كل هؤلاء أنت يارب يسوع واقع تحت الصليب ، ومن أجل خطيتى أنا .

سمعان القيروانى

ألا يوجد اليوم شابا خادما يحس باحساسات الرب ويشاركه حمل الصليب ويقع معه تحت نيره كسمعان القيروانى ، ينسكب بدموع تحت ثقل الصليب … ويدعو الجميع للتوبة عن خطاياهم التى يقع المسيح تحت ثقل صليبها .

فيرونيكا

هذه القديسة مسحت عرق الرب الحامل الصليب فانطبعت صورة وجهه على منديلها .ألا يوجد فيرونيكا اليوم من الشابات لتمسح آلام وعرق الرب الواقع تحت الصليب .فتشارك الرب فى عرقه وآلامه …وتدعو زميلاتها للتوبة … ورفع آلامهم عن المسيح .ربى يسوع: هذه هى ديناميكية صورتك تحت الصليب فى قلبى[15] .

القديس القمص بيشوي كامل

ديناميكية الصليب فى حياتى

+ ليس الصليب هو المصيبة والتجربة التى تحل بالانسان ، بل هى الاختبار اليومى للشركة مع يسوع المصلوب ، هو سلاح غلبتنا للعالم ،وترنيمة الانتصار على أهواء الجسد والذات .

+ الصليب هو مركز التعامل مع الله لكل انسان :للكاهن ، للشاب وللشابه ، لطالب فى كليته، للموظف فى عمله ، للزوج والزوجة ــللاحتكاك اليومى مع العالم ــ مع الناس مع البائع ــ فى الترام فى الشارع …

+ هو سلاحنا أثناء الحروب الروحية ، وهو ينبوع حبنا وخدمتنا للجميع ، وهو مصدر تعزية عجيبة فى الضيق ــ هو طريق الحرية والسعادة والتسليم لله …

+ من فقد صليبه ، فقد مسيحيته ، ومن فقد اختباره للصليب فقد اختباره للآب ــ لأن الجلجثة كانت مكان لقاء الانسان مع الله ــ حيث الحب والغفران والانتصار على الظلم والعالم وتسليم المشيئة وسرور الابن …

+ الصليب هو حياتى : فلا حياه الا من خلال الصليب . الصليب وأنا فى ديناميكية مستمرة ، عليه أصلب ذاتى ، وبه أصلب العالم ، ومنه أستقى ينابيع معرفة حب الله لى .

الصليب سلاح الطهارة

الطهارة سر القوة عندما تدخل النجاسة حياة انسان ، يتحول الجسد الى أتون مشتعل يوقد الشهوات حيث يحرق به نفسه بنفسه … الى أن تضمحل قوى الانسان ويذهب نور عينيه بلا رجعة فهكذا انتهى جبروت شمشون ، فالعين التى اشتهت دليلة أشعلت نار الشهوة فى قلبه حتى احترق بها وصار بلا قوة … أخيرا فقعت عينيه ونزل عن سيادته (١بط ١:١) فصاروا يستخدمونه بدل الثور .

أولا: العين سراج الجسد (مت ٦: ٢٢)

اذا اشتعلت العين بنار الشهوة، فقدت نورها وفقد الجسد سراجه فصار كله ظلام .

العين وحدها قادرة أن تجعل حياتى كلها ظلام بلا نور المسيح وتحول كل حواس الجسد للعمل فى الظلام، وتملأ القلب ظلاما … حينئذ يتحول الجسد كله الى قبر مظلم

العين هى الكاميرا للانسان بواسطة العين تطبع الصور فى الفكر كما تلتقط الكاميرا الصور على الفيلم الحساس ــ ومن هذا الفيلم يمكن أن يطبع الانسان آلاف الصور . ومن هنا جاءت خطورة العين لأن عن طريقها تلتقط الصور لحساب الشيطان حيث ينسخ منها ألاف النسخ كحق من حقوقه ليعرضها على فى أى لحظة فيثير الشهوة ويكدر ويعذب حياتى ويحولها الى جحيم… حيث يتحول الفكر والمخيلة مركزا للصور تعرض عليه ولو بعد عدة سنين حتى ولو فى الاحلام … حتى بعد التوبة والاعتراف؛

الهى : لقد عرفتنى من أين أبدأ … حتى أنك قلت لى خير لك أن تقلع عينك … الهى كيف أستعيد سراج جسدى ونور عين المفقود، هل سأغمض عينى أم سأقلعها ؛؟؛

الفصل بين القوات للانسان ثلاث قوى هامة: النظر والفكر والقلب وهذه هى أخطر القوى فى حياتي . ولأجل اعادة الطهارة للعين ، يجب تحرير الفكر والقلب عن النظر ــ بقوة صليب ربنا الذى هو سلاح الغلبة .

مثال ذلك: عندما تكون العين تنظر منظرا يكون الفكر فى نفس اللحظة منفصلا ومفكرا فى الله ويكون الصليب هو القوة القادرة على الفصل بينهما. وهكذا ينتهى هذا التدريب الى أنى فى كل مرة أنظر لأى منظر يكون الفكر بقوة خاطفة سريعة يفكر فى الله، عندئذ يكون الفكر حرا عن النظر ــ بمعنى أنه يكون حرا يفكر فقط فيما لله . عندئذ ستصير العين بسيطة ومنيرة ترى نور الله فىكل الخليقة لأن قوة الفكر ستكون دائما ثابتة فى الله وقوة القلب منشغلة بحبه . وتعبر الكنيسة عن حركة رفع القلب لله أثناء النظر بصلاة الساعة السادسة (١٢ ظهرا) وقت صلب ربنا بقولها:” بالمسامير التى سمرت بها أنقذ عقولنا من طياشة الأعمال الهيولي الى تذكار أحكامك السمائية كرأفتك ” . فهذه الطلبة تعبر بدقة عن الفصل بين الشهوات المنظورة الهيولية ــ وانقاذ الفكر من الطياشة وتحويله بواسطة الصليب والمسامير الى المناظر الالهية فى مرحلتين خاطفتين :

أ ــ تسمير الفكر: بعدم الطياشة فى المناظر الهيولية لانتزاع شهوة التلذذ الجنسى من العين .

ب ــ ثم رفع الفكر للالتصاق بالله وتذكر الأحكام السمائية .

العين المصلوبة

+ العين تريد أن تشبع من النظر … العين تشتهى النظر . داود النبى نظر واشتهى ، وآدم وجد الشجرة ” بهجة للعيون شهية للنظر” (تك ٣: ٦) ، ” من نظر ليشتهى “(مت ٥: ٢٨) . وأولاد الله لهم مناظر شهية وحسنة يشبعوا العين منها ، الصليب لا يجب أنننظر اليه نظرة عابرة بل أن نتملى ونشبع منه ، منظر يسوع واقعا تحت الصليب ، منظر جراحاته ، ومنظر جلداته ، منظر المسامير، منظر التفل على وجهه الطاهر ، منظر الفم العطشان ، منظر الأذرع المفتوحة ، منظر الرأس المنكس … انها مناظر شهية جدايجب أن تتدرب العين على التمتع بها والامتلاء منها ــ انها شهية ومشبعة …مناظر الرب يسوع فى مواقفه المختلفة : منظره وهويحملنى أنا الخروف الضال ، منظر الآب وهو يحتضنى ، منظره وهو يقرع على الباب ، منظر الخاطئة والدموع نازلة على رجليه ،انها مناظر شهية ومشبعة .

كذلك كل صورة للقديسة مريم العذراء مشبعة جدا للنفس ومفرحة لها جدا. عندئذ تبدأ العين تأنف مناظر العالم لأنها لا تشيع الامن المناظر الالهية .

+ والعين المصلوبة عين مضبوطة مختونة لله : حيث تتدرب فى المخدع على القداسة والطهارة وتخزين الصور الشهية للصليب في قاع العين ليستخدمها الفكر ويتمتع بها الى أن ينام بسلام فى بحر من هذه المناظر الشهية.

+ وهى عينى مقلوعة: ان قلع العين وصية انجيلية ــ وهى أجمل صورة لقوة الصليب الذى أعطيت لكل واحد منا . ان ابراهيم أخذابنه الوحيد (عينه الوحيدة) وقام ليذبحه بفرح داخلى ، وهو يعتبر طاعة الله أكبر مكسب عن خسارة ولده … ولما رأى الله أمانتهفى الذبح ، وفرحه ومحبته وطاعته أراه يومه ( أى يوم صلبه ) ، ففرح ابراهيم وتهلل ورأى المسيح يذبح عوضا عن ابنه الذى رجع حيا فاذا كنت جادا فى مقاومة النظرة الشريرة حتى صلب العين ( أى قلعها ) فان الله سيرى أمانتك ويعطيك عينا طاهرة ونقية فى اللحظة التى سترفع السكين عليها .

ان هذا القلع بالنية بقوة الصليب له قوة ايجابية منتصرة خالية من الكبت ومملوءة بالفرح ومتلامسة مع قدرة الله غير المحدودة وقوة الخلاص التى فى صليب ربنا.

عين المسيح: هى عين النفس التى تحررت بالصليب من الفكر الطائش، هي عين بسيطة ثمرة لقوة الصليب فى حياتها ، هي العين المثبتة دائما فى كل ما هو لله ــ ترى الله فى كل شىء وفى كل خليقته ــ ترى الله فى قلب المرأة الخاطئة ، فى قلب العشار ،فى قلب اللص … سيكون الله هو محرر حركتها لأنها عين مكرسة مختومة بمسحة الميرون المقدس .

ثانيا: صليب اللذة

ولكن ما الذي يدفعنا للنظرة غير البسيطة، بعد أن أدركنا أن العين هى سراج الجسد، وهي قادرة بانحرافها أن تحول الجسد كله الى آتون وجحيم تلتهى فيه حياة الانسان؟

الدافع هو اللذة المؤقتة: نظر ليشتهي (مت ٥: ٢٨). وهذه اللذة هي السبب فى تكوين العادات الجسدية المختلفة التى يصبح الانسان عبدا لها، مثل اللذة الجنسية، ولذة الأكل ولذة النوم الكثير والكسل. واللذة الجسدية تقتل فينا المثابرة

والجهاد وقراءة الانجيل ، واللذة الجسدية تولد فينا النظرة الشريرة وحب قراءة المجلات والجرائد والأحاديث التافهة ، والتليفزيون والكتب التافهة المنتشرة اليوم في السوق ، وطياشة العقل طول اليوم بلا هدف والسهر والرغى … الخ ، وتجعل الانسان ثقيلا في فكره الروحي متبلدا فى احساسه كالريشة المبللة بالطين .فالنفس الطاهرة هي كالريشة غاية في الرقة والنعومة في طبيعتها ــ قابلة للطيران بسبب خفتها تنطلق لتطير بالصلاة والتأمل الروحي مرتفعة عن الأمور السفلية .أما اذا أفسدتها اللذات الجسدية وتبللت بطينها ووحلها فأنها ليست فقط تعجز عن الانطلاق الروحي بل بالعكس دائما تنحدر الى أسفل

اللذة صنارة في يد الشرير

بها يسقطنا العدو فى الخطية (عن القديس باسيليوس) ، من أجل هذا اذا أمسكت صنارة اللذة بالعين أو باللسان أو بالأذن جذبت الانسان بكليته للخطية.

صلب اللذة

هذه اللذة ينبغى أن تصلب على الصليب: ان تثبيت النظر فى جروح الرب يجرح لذة الجنس المحركة للعين غير البسيطة. والتأمل فى عطش الرب على الصليب يعطى معنى للصوم، فليس الصوم مجرد انقطاع عن الأكل ولكنه صلب للذة شراهة الأكل . والتأمل فى الرب عريانا على الصليب كفيل أن يصلب فينا لذة الاندفاع للبس والزينة التى تكاد أن تحرق البشرية كلها بنار الشهوة. وهكذا سنحس بديناميكية الصليب فى حياتنا حيث يصبح واقعا عمليا اختباريا تصلب عليها كل يوم وكل وقت كل لذة جسدية وعالمية. ومن ناحية أخرى ستصير كل لذة عالمية وسيلة لتذكر الصليب وتفاعله فى حياتنا ــ سوف يصير الصليب حياتنا ، سوف نعيشه ونتفاعل معه ــ سوف يكون صليبنا الذى به نتبع المصلوب .

لذة الصليب

عبر الأجيال كلها صار الصليب ترنيمة لذيذة وشهية للعين ، وممتعة للأذن ، وصار دم المسيح المصلوب وجسده أشهى طعام للانسان المسيحى مع كلمة الله التى هو ، أشهى من العسل . ان تدرب الانسان على تذوق الحلاوة فى كلمة الله والصليب سيجعل النفس تتأفف من كل لذة جسدية. ان الخوار الروحي والعطش الشديد للذة الجنس والعالم والأكل سببه بلا شك حرمان فى التربية من اللذة الروحية. هيا بنا يا أخى بسرعة نعود لبيت أبينا لنرى ونأكل العجل المسمن ونتلذذ بحضن الآب … ونترك لذة الخرنوب والزناة والزوانى أى محبة العالم (لو ١٥). وأمامنا قطعة روحية من تأملات أوغسطينوس الذى كان غارقا فى شهواته الجسدية . عندما رجع الى المسيح واكتشف اللذة الحقيقية فى المسيح وذلك فى حديثه مع أمه مونيكا ؛؛” جلسنا نتحدث سويا فى لذة واشتياق … الى هذه الينابيع السماوية التى تفيض بالحياة عندك … كانت تتضاءل أمامنا ألذ المسرات بأشهى عروضها حتى تصغر عن أن نقارنها أو حتى نذكرها بجوار سعادة … كنا نحلق بشهوة ملهبة نحو الله … حتى نصل الى الرحب اللانهائي حيث جلست (يا الله) تطعم الأبرار من طعام الحق الى الأبد ” . وكان يقارن أحد القديسين ملذات العالم بأنها زبل حقير بالنسبة للذة الروحية .

ثالثا : صليب الأفكار

عقل الانسان مركز لتصورات غير محدودة ، خلقت أصلا لتسبح فى محبة الله غير المحدودة التى تجسمت فى الصليب ، ولكن الانسان أشبعها بتصورات مختلفة تكاد أن تملأ حياته جحيما لا يقدر أن ينقذه أحد منها الا الذى نزل الى الجحيم من قبل الصليب؟ والتصورات دائما لها دوافع معينة منها : فعندما يمتلىء القلب بالكراهية يمتلىء الذهن بتصورات لانهائية لها من أفكارالغضب ، وظن السوء ، والشماته وتصور المصائب كلها تحل بالانسان الذى تكرهه . وعندما يندفع القلب وراء الكبرياء … يسرح الذهن فى أفكار العظمة وادانة الآخرين ، وتخيل الظهور فى شكل القديسين . وعندما يهتم القلب بالذات … تتسرب أفكار الخوف على الذات ، والخوف من المستقبل والقلق ، والخوف من الناس وتخيل الأضرار تحيط بنا وأن كل الناس يضمرون لنا الشر . واذاعاش الانسان باحثا عن اللذة وكابتا اياها فى ذاته يملأ حياته بالأفكار الجنسية وتتحول حياته الى جحيم مشتعل . وبينما نحاولضبط هذه الأفكار والخيالات وغيرها ، نعجز ولا نجد أمامنا الا الصليب ملجأ النفوس المجاهدة . ففى الصليب تذوب الكراهية، ويحل محلها الحب والغفران، وفى الصليب ينتهى الكبرياء وتظهر وداعة الحبيب الذى لم يفتح فاه وفى الصليب ينتهى الخوف ويحل محله حياة التسليم الكامل. وفى الصليب تنتهي الطياشة الجنسية وترتفع الى الأفكار السماوية.

التأمل في الصليب هو وحده القادر أن يشعل في قلوبنا نار الحب الإلهي حتى تنسكب محبة الله في قلوبنا من الصليب، حيث نتحد بالمسيح فنعيش التسامح والوداعة والثقة الكاملة بالله في الضيق. وهكذا يتحول الصليب الى اختبار مستمر طول اليوم مع يسوع المصلوب ــ حيث تبدأ أفكارنا تسبح في محبة الله المتجسمه فى الصليب والتي تحصر كل أفكارنا فيه

رابعا: صليب الاضطرابات النفسية

عقل الانسان مركز لتصورات الخوف والقلق النفسي والاهتمام بالمستقبل. هذه الاضطرابات النفسية تجعل الانسان بعيدا عن الهدوء النفسى والاستقرار وهذا التوتر النفسى كثيرا ما يكون سببا فى طياشة الفكر والنظر والقلب كقول الكتاب ” لا سلام للأشرار قال الهى ” . ولكن أولاد الله أعطاهم الرب يسوع سلاما حقيقيا ليس كما يعطى العالم ، فالقلب المملوء بالسلام قادر أن يسير بخطوات ثابتة نحو الالتصاق بالله.

هل استأمنت الله على حياتك ؟

فى وسط صراعات العالم ومضايقة الكثيرين لنا ، والانشغال بالتزامات الحياة واهتمامات المستقبل … فى وسط كل هذا كيف تحصل على الهدوء النفسى ؟ والاجابة على ذلك أنه بعد أن اشترانا الله بدم ابنه كيف لا نسلم حياتنا له ، كيف لا نستأمن الله عليها ؟ لذلك يقول لنا الرب ” حياتكم فى ملكيتى وأنا اشتريتها بدمى فلا تخافوا … كيف لا ايمان لكم ؟ ، ” لا تهتموا بالغد ” ، ” حتى خطاياكم أنا أغسلها بدمى ” .

انظروا للصليب

” فى يديك أستودع روحى ” هذه آخر التعاليم التى نطق بها الرب على الصليب . فالصليب ليس هو من صنع الناس ولكنه عمل الهى أتمه الرب . كان الصليب فى مظهره الخارجى تعبيرا عن ظلم العالم ، والرب واقع فريسة فى أيدى حكام لا قلب لهم … أمامن الداخل فالصليب كله سرور وحب وتسليم للآب لأجل خلاص العالم ” … الذى اذ شتم لم يكن يشتم عوضا واذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضى بعدل ” (١بط ٢: ٢٣) .

صلب الذات

” كل من أراد أن يأتي  ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني ” (مر ٨: ٣٤) .

الحركة الديناميكية مع الصليب ، حركة داخلية يكون هدفها الأول صلب الذات . فالذات هى المركز الذى تدور حوله اللذه والأهتمام والأفكار ، والمظهر ( اللبس ) ، والكرامة ، والادانة ، والجري وراء العالم والماديات … والصليب هو الوسيلة الوحيدة لصلب الذات. فالنظر ليسوع المصلوب ينزع منا لذة الذات واهتماماتها، ” ليسوع العريان ينزع منا لذة مظهر اللبس ” . ” ليسوع المهان يزعمنا حب الكرامة ودينونة الآخرين ” .” للمسامير التى سمر بها الرب ، يرفع أفكارنا من طياشة الأعمال الهيولية الى تذكار أحكامها لسمائية ” .

ديناميكية الصليب فى حياتي

وهكذا بالاختبار اليومى فى كل لحظة يصبح الصليب مركز تعاملنا مع الله … ومن فقد صليبه أفتقد طريقه لله ، ومن فقد صليبه صارت حياته باردة فاترة ــ لا تعامل بينه وبين الله . فالصليب هو حياتى ، عليه أصلب ذاتى والعالم ، ومنه يتفجر فى ينابيع اللذة الروحية والنظرة المقدسة ، والحب الالهى والفكر المقدس ، والصليب هو ترنيمة انتصارى وتسليم حياتى للذى أستأمنته عليها ــأراه وأتفاعل معه فى عملى وفى كليتى ، وفى الترام ، وفى مذاكرتى ، ومع أصدقائى ، ومع الذين يسيئون الى ، وفى صلاتى ،وفى نومى … انه كل حياتى[16] .

القديس القمص بيشوي كامل

تحت جناحى الرب

أعتصم … وأستظل … وأبتهج

ساعة الظهيرة

❖ فى منتصف النهار ، حيث ساعات العمل ، والتعامل مع الآخرين .

❖ حيث أحيانا نسمع ” كلام القباحة والسفاهة والهزل التى لا تليق ” (فى ٥: ١٣) .

❖ وأحيانا يزداد حر النهار وثقله ” ان تألمتم من أجل البر فطوباكم ” (١بط ٣: ١٤) . فالأمانة والصدق والمحبة والتمسك بالطهارةوبوصية الانجيل … يسبب للمؤمن آلاما من أجل البر ــ أى وصية الانجيل .

❖ وحيث تأتينا المضايقات أحيانا من أجل اسمه … ” بل ان كنتم تتألمون ( وأنتم ) عاملين الخير فتصبرون فهذا فضل عند الله ” ( ١بط٢: ٢٠) .

❖ وحيث من كثرة الاثم والصراع المادى والصراع على المراكز تفتر محبة الكثيرين.

❖ فى وسط كل هذا يلقى الشيطان سهامه وشباكه ، وعنه يقول داود النبى ” … ولا من سهم يطير فى النهار … ولا من شيطان الظهيرة” (مز ٩٠ ) .

ان ساعة الظهيرة هى التى صلب فيها مخلصنا من أجل العالم كله هى الساعة التى اتفقت فيها كل قوات الشر بيلاطس الذى لايعرف الحق ، وهيرودس الثعلب المرائى ، والفريسيون النافقون ، مع رؤساء كهنة لليهود الحاقدين على يسوع … كل هؤلاء هم الذين قالوا أصلبه أصلبه . كل هذا كان يوم الجمعة ظهرا .

ولقد اهتمت الكنيسة بهذه الصلاة، وجعلت من الساعة ١٢ يوم الجمعة ساعة مقدسة لأنها ساعة صلب المسيح .

نشكر الله

❖ اننا اليوم وقت الظهيرة نرى الجميع يؤدون صلاة الظهر ، وفى هذه الساعة نسمع اخواننا المسلمين يؤذنون من المساجد لصلاة الظهر. ان هذا الصوت هو شاهد علينا فى يوم الدينونة ان أهملنا صلاة الظهيرة (الساعة السادسة) .

❖ انها الساعة التى نقول فيها ” صنعت خلاصا فى وسط الأرض كلها عندما بسطت يديك الطاهرتين على عود الصليب ، لهذا كل الأمم تقول المجد لك يارب ” .

❖ انها ساعة مجد المسيح التى فيها تم خلاص البشرية ، وفيها ملك الرب على خشبة (مز ٩٥) .

مزامير الساعة السادسة

كل المزامير تتحدث عن الخلاص بظل جناحى الصليب، وتنتهى بالحديث عن المجد يملك الرب على القلوب بالصليب :

١ـــ الاعتصام بجناحى الصليب

٢ـــ الاستظلال بجناحى الصليب

٣ـــ الابتهاج بجناحى الصليب

٤ـــ ملك الرب بالجلال

١ ــ الاعتصام بجناحى الصليب : (مز ٥٦ ، ٩٠)

” ارحمنى يا الله ، فانى عليك توكلت نفسى . وبظل جناحيك أعتصم الى أن يعبر الاثم ” .

❖ اننا نعتصم بجناحى الرب ، أى بذراعيه الممدودتين على الصليب حتى يعبر الشر ، وحتى يمر السهم الطائر فى النهار (مز ٩٠) . وحتى يغير فيها شيطان الظهيرة (مز٩٠) . انها ساعة سلطان الظلمة … وليس لنا قوة فيها الا بالصليب .

انها الساعة التى نطلب فيها النجدة السريعة من صليب المسيح بمسكنة شديدة فنقول ” اللهم التفت الى معونتى يارب أسرع وأعنى… أنا مسكين وفقير اللهم أعنى . أنت معينى ومخلصى فلا تبطىء الليلويا ” (مز ٦٩) . ان الآباء القديسون يسمون مز ٦٩ ” الصلاة السهمية ” ــ من أجل ذلك اختارتها الكنيسة فى الساعة السادسة كرد على شيطان الظهيرة والسهم الطائر فى النهار (راجع نبذة اللهم التفت لمعونتى ) .

٢ ــ الاستظلال بجناحى الصليب (مز ٦٠)

استمع يا الله طلبتى … على الصخرة رفعتنى وأرشدتنى … فأسكن فى مسكنك الى الدهر وأستظل بستر جناحيك .

❖ ان التفكير والتأمل فى صليب الرب فى هذه الساعة الساخنة يعطى للنفس سلاما وهدوا فتحتمل الآلام مع المصلوب ، وتغفر مع الذى طلب الغفران لصالبيه ، وتنقذ العقل من طياشة الأفكار والشهوات الجسدية الى تذكار أحكامه السمائية ( قطع الساعة ٦) .

❖ ما أحوجك يا نفسى المرهقة الى رفع القلب بالصلاة نحو الأذرع المفتوحة على الصليب فى هذه الساعة حيث الأذرع مفتوحة لتضمك من وسط بحر وتجارب وشهوات ساعة الظهيرة ، وتسمعى صوت حبيبك يسوع قائلا ” تعالى يا أيتها النفس المتعبة ، يل ثقيلى الأحمال والمتعبين وأنا أريحكم … تعال يا ابنى الضال وادخل الى حضنى لأقبلك … تعال أستظل تحت جناحى صليبى فأنا ضابط العالم كله ” .

٣- الابتهاج بجناحى الصليب : (مز ٦٢)

ان ثمرة الانتصار بقوة ذراعى الصليب ، ثم التمتع بأحضان الذراعين وظلهما ــ هو الابتهاج كما يقول النبى ” فى أوقات الأسحار كنت أرتل لك . لأنك صرت لى عونا . وبظل جناحيك أبتهج ” . هذا هو فرح الصليب وبهجته ، انه فرح روحى على مستوى الايمان القوى وبنعمة ظل جناحيه ، وبشهوة قلبنا لحمله فى كل يوم والسير وراء يسوع ــ انه فرح لا يقدر أحد أن ينزعه منا . انه فرح الشهداء فى شدة آلامهم ، وبهجة الصديقين فى أسهارهم وجهادهم ، وفرح المضطهدين من أجل المسيح ، وفرح المساكين بالروح… انه فرح محبى المسيح وحاملى صليبه … انه فرح صلاة الساعة السادسة .

والصليب هو عرش الله : (مز ٩٢و ٩٥)

ان آخر مزمور فى الساعة السادسة يقول ” الرب قد ملك ولبس الجلال ” (مز ٩٢) . أما فى الساعة التاسعة ( ٣ عصرا ) حيث أسلم الرب الروح فيرتل النبى ويقول ” قولوا بين الأمم ان الرب قد ملك على خشبة ( خشبة الصليب ) وأيضا ثبت المسكونة فلنتزعزع ” (مز ٩٥) . فالذين يحملون الصليب يحملون الملك على عرشه . فالصليب هو الطريق لملكية الرب على القلب ، وفى ذات الوقت الوسيلة الوحيدة لفصل أولاد الله المملوكين له عن أهل العالم .

مز ٦٦ : يتحدث عن بهجة العالم كله بخلاص الله وفتح ذراعيه من أجلهم ، وكأنه يقول ” صنعت خلاصا عندما بسطت يديك الطاهرتين على عود الصليب ، لذلك كل الأمم تصرخ قائلة المجد لك يارب ” .

والمزمور ٨٣

يتحدث عن العصفور الذى وجد له بيتا ، واليمامة التى وجدت لها عشا لتجمع أولادها وقت الظهيرة ، أما نحن فلنا الكنيسة حيث أذرع المسيح ” مساكنك محبوبة … مذابحك يارب اله القوات ملكى والهى ” حيث جسدك المذبوح عنا على المذبح .

والمزمور ٨٤

يتحدث عن المصالحة بين الأرض والسماء بالصليب ” ويصالح الاثتين فى جسد واحد مع الله بالصليب قاتلا العداوة (أف ٢: ١٦) ،حيث يقول المزمور ” الحق ( المسيح ) أشرق من الأرض والعدل ( الآب ) اطلع من السماء ” .

أما المزمورين ٨٥ و٦٩ فيتحدثان عن المسكنة بالروح ” أمل يارب أذنك لأنى مسكين وبائس أنا ” ، التى هى وسيلة دخول ملكوت السماء كما هو مسجل فى انجيل هذه الساعة .

الانجيل

❖ اختارت الكنيسة لهذه الساعة انجيل التطويبات كأحلى وأعمق ما يتناسب مع حاملى الصليب . والتطويب الأول عن المساكين بالروح ولهم نفس جزاء التطويب الأخير ( المطرودين من أجل المسيح ) ألا وهو ملكوت السوات .

❖ ولا يقدر أحد أن يتعلم المسكنة بالروح أو الفرح فى الطرد من العالم الا الذين يحملون الصليب . فالرب على الصليب صار مسكينا لأجلنا … أليس بالأحرى لنا أن نحس بأننا مساكين ، مساكين فى الصلاة ، مساكين فى المحبة ، فى الطهارة ــ مساكين فى قراءة الانجيل ، مساكين فى الخدمة والكرازة والشهادة للمسيح . ربى يسوع أنى مسكين وبائس ” أمل يارب أذنك وأستمعنى لأنى مسكين وبائس أنا ” (مز ٨٥) ـــ اللهم ألتفت لمعونتي لأنى مسكين وفقير (مز ٦٩) .

والحزانى لا يتعزون الا بالصليب . والحزن على الخطية لا يمكن الوصول اليه الا بالنظر الى يسوع المتألم على الصليب لأجل خطيتى .

أما الودعاء فهم الذين يتأملون فى يسوع الوديع الذى غفر لصالبيه ، هؤلاء يرثون الناس فى الأرض لحساب المسيح عندما يرىالناس أعمالهم الحسنة فيمجدون أباهم الذى فى السموات .

والجياع والعطاش هم النفوس الناظرة للمصلوب التى لا تشبع أبدا من حبه وغفرانه وقوة دمه .

وأنقياء القلب هم النفوس التى صلبت العالم مع الأهواء والشهوات ، ثم صلبت مع المسيح فأصبح المسيح هو حياتها النقية .

والصليب هو معلم الرحماء وصانعى السلام ومحبى الغفران للذين صاروا أبناء الله التابعين أثر خطواته .

أخيرا فالصليب هو المنارة التى أوقد عليه المسيح نور العالم ، والذى من قبله صرنا نورا للعالم … هذا هو انجيل الساعة السادسة .

أخى : اقطع عهدا مع الله أن تصلى هذه الصلاة ، ولو مزمور واحد منها مع الانجيل والقطع ، ولا تنسى أن الله يذكرك بميعادها كل يوم عن طريق ساعة تدق أو آذان مسجد أو ميكروفون … فأسرع واعتصم واستظل وابتهج بجناحى الصليب واجعل المسيح يملك بالكامل على قلبك آمين[17] .

 المتنيح القمص يوسف أسعد

إحتمال التجربة

في صلوتين من صلوات القسمة في القداس الإلهي نتعلم من أمنا الكنيسة منهجها التفسيري لكيفية احتمال الرب يسوع المسيح تجربة الصليب … ففي إحداها نسمع ” وما هذه الطريق المؤدية للموت التي أنت سائر فيها يا إلهى ومخلصي ؟ أي شيء تحمله  على منكبيك ؟هو صليب العار الذى حملته عوضاً عنى . ما هذا أيها الفادي ؟ ما الذى جعلك ترضى بذلك ؟ أيهان العظيم ؟ ! أيذل الممجد ؟ ! أيوضع المرتفع ؟ ! يا لعظم حبك ! نعم هو حبك العظيم الذى جعلك تقبل احتمال كل ذلك العذاب من أجلى ” …. فالحب الذى أقبل به الرب يسوع على الصليب كان سراً من أسرار احتماله للصليب . ليتك يا أخى المجرب تقول لتجربتك ” يا حبيبتي ” … إنه حبيبة فعلاً ، لأنه تحمل لك خيراً مهما كان التعب فيها فالحكيم المختبر قال ” في كل تعب منفعة ” ( أم ١٤: ٢٣ ) . لا تسخر منى وأنا أقول لك قل للتجربتك يا حبيبتي ، فإن المحبة حتى للتجربة التي تذلني كافية أن تخضعها تحت قدمي . فلم يوجد ألم انتصب أمام الحب . أحبب تجربتك يا أخي ،لا أقول لك ارض بها أو اقبلها كواقع ، بل أحبها وفى كل تجربة تواجهك قدم لها حبك فتحمل لا تجربتك فقط  بل وتجارب غيرك أيضاً . فالحب تجاه التجربة يحولك من مجرب إلى فنان أيضاً فتجد عقلك يفيض باختراعات فوق خيالك تخفف عنك وطأة التجربة وربما تحولها إلى سعادة حقة .

لكى أقرب لك قصدي أدعوك لتذكر البائع الذى يحب عمله ، تجد سلوكه تجاه متجره وتجارته وزبائنه سلوك الفنان المبدع في العرض الجيد والإنتاج الجيد والتعامل الجيد مما يجعله هو الرابح في النهاية . ليتنى أكون قد وفقت في توصيل فهمى للكلمة ” أحب تجربتك ”

هذا منهج في احتمال التجربة نتعلمه من أبينا يسوع بواسطة أمنا الكنيسة التي تقدم لنا منهجاً ثانياً في صلاة قسمة أخرى تقول : ” الشعب القاسي حملك خشبة الصليب من أجلى أنا الحامل قضية الموت بإرادتى . ضربك الأثمة على رأسك ، نفضوا البصاق في وجهك من أجلى ، وضعوا إكليل شوك على رأسك وقصبة في يمينك . ألبسوك ثوباً من برفير وصارو يستهزون بك . وأنت بإتصاعك حملت هذا كله من أجلى ” .

فالرب يسوع في تجربته ” احتمل الصليب مستهيناً بالخزي ” (عب ١٢ :٢) لأنه قال لنا تعلموا منى لأنى وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحه لنفوسكم “(مت ١١: ٢٩ ) . وكثيرون من القديسين قيل عنهم. “تجربوا في هزء ” (عب ١١: ٣٦) فكانوا يواجهون التجربة باتضاعهم الحقيقي قدام الله والناس وحتى الشياطين.

يا عزيزى ان كنت تنام الآن على الأرض بعد أن كنت تنام عل السرير فاتضع وقل لنفسك: أنا أنام على الأرض .. حسناً .. فغيرى الآنينامون تحت الأرض والتراب مهال عليهم … إنس سريرك وقل للأرض شكراً لأنك استضفتينى فوقك لأخذ فرصة جديدة في عمري للتوبة.

وإن كان لك كثير وليس لك الآن شيئاً فاستهزأ بك الناس أو أهاجت الشياطين نفسك عليك… قل لها : يا عزيزتى كنت راكباً للساقية  فلما فرغتنى لم تفرغنى لأن الذى فرغنى في دورة  الهبوط هو هو بعينه سيملأنى في دورة الصعود ، عليك الآن أن تشرفني بالقناعة في دورة الهبوط .

وإن كنت صاحب رأى ، في تجربتك الآن يتجاهلك من كانوا يطلبون رأيك كتلاميذ فإتضع وقل : من أنا التراب حتى يكون لى رأى ؟ إن مستريح لأنى معفى من ضريبة إبداء الرأي ومسئوليته … قل هذا باتضاع حقيقى في قلبك ، وليس بانهزام أو شعور بالمذلة أوالمهانة فالأغصان الممتلئة بالثمار هي التي تنحنى .

وإن كنت في حياتك تحب الحق والعفة والاستقامة ، وفى تجربتك الآن مفترى عليك بما ليس فيك إطلاقاً … إتضع قدام الله الذى يجرىالحق للمظلومين وتذكر قول النبى ” إليك يسلم المسكين أمره “( مز ١٠ : ١٤ ) … ومهما كان اسم المفترى عليك : أبوك أو أخوك أو إبنك فإتضع في قلبك وقل : برهم أكثر وشرى أنا أعظم ! ثم ابدأ صلاة الحب والتسامح في الحال ، مردداً قول مار بولس : نضهد فنحتمل ” ( ١كو ٤ : ١٢ ) . بهذين الجناحين : الحب والإتضاع يحلق بنا ربنا يسوع في أي تجربة وينادينا ” حملتكم على اجنحة النسور ” ( خر١٩: ٤ ) . فمهما كان إستضعاف العالم للحب والتواضع من المجربين فتذكر أنهما في سماء يرفعان فوق التجربة ، وفى قوة نسور قادران على الكسب والربح بحذق وإستنارة وبصيرة حادة .

وما يساعدك أيضاً على احتمال تجربتك أيها الأخ المحبوب أن تكون على معرفة سليمة مقنعة بالحياة وكل ما يدوربها … هذه المعرفة تجدها بكل صدق والعمق والشمول في الكتاب المقدس . الذى أرجو أن يكون بجوارك الآن لتقرأ ما استطعت من كم ووقت . صدقنى ياأخى لو انشغلت كل وقت التجربة  بمحاولة معرفة الحياة السليمة بإقناع الروح القدس في كلام الكتاب لخرجت من كل تجربة مزدانة حياتك بخبرات روحية واجتماعية سخية تمنح لك هبة من النعمة الغنية …

وكلما إزدادت وطأة التجربة عليك يا أخى أكثر من قراءتك للكتاب المقدس . أكثر بتركيز وإصرار على أن تعرف الجديد الذى منه ستطلب المزيد . لقد أختبر داود النبى ذلك وقال : ” لو لم تكن شريعتك تلاوتى لهلكت جينئذ في مزلتى ” مز ١١٩ : ٩٢  ) . كما أختبر أحد المجربين أن يقرأ الكتاب المقدس تسع ساعات يومياً حتى أنهى قراءته مرتين خلال أربعة شهور وكان يجد في قراءة تعزية ولذة وإبتهاجاً

وإحساساً بالجهل المستمر الذى جعل أيام التجربة تتحول إلى درس وتعلم وتلمذة للمسيح في كتابه الحى .

ومن المناسب أيضاً أن تشغل نفسك ياأخى ببرنامج يومى يحقق النشاط الطبيعى العضوى لك . فلا شك أن المجهود البدنى المدعم بالعمق الذهنى والرغبة في إجتياز مرارة التجربة تغسل الجسد وتزيده قدرة على مواجهة التجربه بتعقل وسلامة نفس . لاأعرف هل ظروف تجربتك تسمح لك بالخروج إلى المتألمين والبحث عن المجربين . ربما ، فإن توفر لك قليكن له النصيب الأوفر في برنامج نشاطك اليومى . وإن لم تكن ظروفك تسمح لك بذلك فمجرد عمل يدوى لتنظيف الأرض والحوائط أو الملابس أو الخيمة كاف لتحقيق ذلك . وإذا كنت فاقداً في تجاربك هذا كله أو غيره مما لم أذكره فثق يا عزيزى أن همتك وعزمك أن تتجاوز حدود أي هزيمة أو فشل أو مرض أو مهانة  في التجربة هو الذى سيبدع لك بنود برنامج نشاطك اليومى .

فإذا صنعت هذا ووجدت نفسك غي قادر على إحتمال التجربة فاترك لنفسك أن تعبر بأسلوب طبيعى غير متكلف…إذا وجدت الدموع في عينيك فلا تتحامل وتكبتها. إبك يا أخى ، ولكن إعرف أمام من تبكى … ليكن أمام الذى يستطيع أن يناديك منسمائه ” قد رأيت دموعك ”  . حول إنفجارك في الدموع إلى توسل وصلاة مقابل الله الذى يجمع بيديه دموعك ويمسح بحنان كل جراحك… ويخرجك كما تخرج من عند طبيب يعالج جرح إصبعك: بطمأنينة شفاء وحصانة عدم تلوث وألم أقل ونظافة أكثر ….

وإذا وجدت الدموع في عينيك متحجرة فاطرح رأسك في صمت أمام عرش نعمته فقط ، والتصاق رأسك بتراب الأرض وحده يا أخى صلاة يسمعها الرب ويقيمك محمولا على ذراعى النعمة المرطبة المطيبة للخاطر المنكسر … فألذى قال ” تعالوا إلى يا جميع المتعبين وثقيلى الاحمال وأنا أريحكم ” ( مت١١ : ٢٨ ، ٣٠ ) لن يتركك تخرج من لدنه إلا ومعك راحة واحتمال جديدين …

وبعد هذا كله إذا لم تجد فيك طاقة الإحتمال فتأكد يا عزيزى أن التجربة كلما تضيق بك تحمل معها بشارة فرج ،وكلما تستحكم من حولك الآلام ثق أن أفراحاً تنتظرك ، وكلما يوهن جسدك من ثقل المعاناة كلما تسمو روحك وتعظم في عينى الرب . الذى قال ” طوبى للرجل الذى يحتمل التجربة لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذى وعد به الرب للذين يحبونه ” (يع١ : ١٢ ) . وكما تجد الوحدة في التجربة تحاصرك، تأكد من أمانة الله تجاهك الذى لن يعرضك للهلاك وقد دفع فيك ثمناً غالياً هو دم إبن الله الحى .. نعم يا أخى المجرب إن أمانة الله تجاهك وتجاه كل مجرب مثلى تفرض عليه أن يوجد منفذاً للإحتمال …

” أمين الذى لا يدعكوا تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا ” (١كو ١٠: ١٣ ) .

تأكد يا حبيبي وشريكي في التجارب أن المنفذ جاهز، ووسيلة النجاة تقترب … وعون من لا عون له معد.. تفكر في هذا ولا تخور في التجربة وتطلع بعيني الرجاء للواحة لمياهها واشجارها بعد قفر هذه الصحراء وجدبها …. هناك سترتوى وستشبع وتذكر أنكل ما مر بنا في المعاناة لم يكن سوى مقدمة لينبوع بركات غامرة[18]

المتنيح القمص أشعياء ميخائيل

الصليب خلاصنا والقيامة حياتنا

كل ما عمله الرب يسوع إنما فعله من أجلنا فهو مات علي الصليب من أجل خلاصنا وغفران خطايانا وحريتنا من الخطية وعبودية الشيطان، ولذلك نحن نتلامس مع الصليب خلال أسرار الكنيسة فنأخذ حقنا في الخلاص ، وهذا الخلاص مع أنه خلاص مجاني ممنوح لكل من يؤمن بالرب يسوع المسيح مخلصنا وفاديا إلا أنه يجب أن نجاهد لكي نتمتع بهذا الخلاص وأن نتممه فينا حتي آخر لحظة من لحظات حياتنا ، ولذلك لا عجب إن سمعنا بولس الرسول يقول ” تمموا خلاصكم بخوف ورعدة ” (فيلبي ٢: ١٢) .

إن صليب يسوع المسيح ليس قصة في التاريخ نحكيها ونتذكرها وفقط وهو ليس طقساً نمارسه خلال أسبوع الآلام ثم نرجع إلي عاداتنا وخطايانا و همومنا .

ولكن صليب يسوع المسيح بالنسبة لنا هو:-

١- دعوة للتوبة

لقد تحدث الرسول بطرس في خطابه وعظته التي جذبت ثلاثة آلاف نسمة فقال ” وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائه أن يتألم المسيح قد تممه (في الصليب) هكذا. فتوبوا وارجعوا لتمحي خطاياكم لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب “(أعمال ٣: ١٨- ١٩) ، حقاً إن المسيح ” حمل هو نفسه خطايانا في جسده علي الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر . الذي بجلدته شفيتم ، لأنكم كنتم كخراف ضالة لكنكم رجعتم الآن إلي راعي نفوسكم واسقفها “(١بطرس ٣: ٢٥- ٢٦) .

وان معني التوبة هو عدم العودة إلي الخطية مرة أخري وإلا أصبحنا مثل الكلب الذي يعود إلي قيئه والخنزيرة إلي التمرغ في الطين والوحل(٢ بطرس ٢: ٢٢) .

إن التوبة هي تغيير الحياة بأكملها بأن نموت عن الخطايا فنحيا للبر (١بطرس ٢: ٢٤) ولا يمكن أن تمارس التوبة إلا بقوة الصليب ولذلك فإن الكاهن يقرأ الحل للمعترف التائب وواضعا الصليب علي رأسه لكي يمنحه الصلح بغفران الخطية بدم المسيح المصلوب الذي نتناوله خلال سر التناول المقدس .

٢- دعوة للحياة الأبدية

إن موت الرب عنا لكي يمنحنا الحياة والحياة التي يمنحنا إياها لا تنتهي بالموت ولا تنتهي بأي نهاية بل هي حياة دائمة “Everlasting” وهذه الحياة الدائمة هي السكني مع الله في الأبدية والملكوت وهذه الحياة الأبدية هي هبة من الله وعطية منحنا إياها بالصليب ، لقد عاين القديس يوحنا هذه الحياة حين قال ” وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها وسمعت صوتاً عظيم من السماء قائلا هوذا مسكّن الله مع الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلها لهم “(رؤيا ٢١: ٢-٣) .

إن الحياة الأبدية هي فرح وبهجة وتهليل يفوق هموم العالم الحالي ” وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم والموت لا يكون فيما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد “(رؤيا ٢١: ٤) .

إن صليب الرب وموته هو الباب المفتوح للأبدية والملكوت وخلال أسرار الكنيسة نحن نعاين هذا الملكوت بالإيمان حتي نخلع الجسد وتنتهي غربتنا فنعاين الملكوت.

٣- غفراننا للآخرين

في معاملاتنا مع الآخرين البعض يخطئ ويسئ إلينا فنتعب وأحيانا نفقد سلامنا ولكن في صليب الرب يسوع نحن نغفر للآخرين كما غفر هو لنا وهكذا يدعونا المسيح من فوق الصليب ويقول لنا ” محتملين بعضكم بعضا ومسامحين بعضكم بعضا إن كان لأحد علي أحد شكوي كما غفر لكم المسيح هكذا انتم أيضاً “(كولوني ٣: ١٣) .

وليعلم كل منا أن كلام المسيح واضح ولا يحتمل تفسير ولا توضيح ” إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم “(متي ٦: ١٤- ١٥) .

٤- قبول الألم والفرح به

هناك نوعان من الألم أحدهما ألم نتيجة خطايانا والآخر ألم الشركة مع المسيح وحياتنا علي الأرض هي إعداد للملكوت ومن وسائل هذا الإعداد الألم، إن الألم مدرسة لابد أن يلتحق بها كل سائر إلي الملكوت .

” لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارجي يفني فالداخل يتجدد يوما فيوما ، لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديا “(٢كو ٤: ١٦- ١٧)

” فأني احسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا “(رومية ٨: ١٨) .

٥- الكرازة بالصليب والدعوة للآخرين

إن الصليب هو قوة توبة وقوة حياة وقوة سلوك وقوة قبول الألم مع المسيح وهو أيضاً قوة كرازة ، كرازة لغير المؤمنين لأنه ينبغي أن يكرز بالأنجيل للخليقة كلها ، قوة كرازة لمن معنا ولمن يبعد عنا ، إن الوصية واضحة جدا ” اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والآبن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به “(متي ٢٨: ١٩- ٢٠) .

وها هو الرب وعد الرب للكارزين ” ها أنا معكم كل الأيام وإلي انقضاء الدهر ” (متي ٢٨: ٢٠) .

وها هو الرب الذي عمل مع التلاميذ مستعد أن يعمل مع كلِّ كارز بنفس القوة ” وأما هم فخرجوا وكرزوا في كل مكان والرب يعمل معهم ويثبت الكلام بالآيات التابعة. آمين “(مرقس ١٦: ٢٠))

وفي الرسالة المقبلة إن أحب الرب وعشنا سوف نتحدث معا عن ” القيامة حياتنا[19] ” .

القس بيشوي صدقي

من الإبرة إلي الصليب

يحكى أن أخا جاءت ساعة احتضاره وبينما هو في ساعاته الاخيرة صاح لمن حوله « الحقوني بمفتاح الفردوس. » أسرع أحدهم وأتي بصليب خشبي صغير وقدمه له ولكنه وضعه جانبا وكرر طلبه « اننی أريد مفتاح الفردوس » . ولما رأى الحيرة على وجوههم قال : « انني أريد أبره الخياطة » فلقد كان هذا الاخ يعمل ترزیا ولمـا أسرعوا اليه بإبرته احتضنها بين أصابعه باعتزاز ثم نظر الى عيونهم المندهشة وقال بما معناه « ان ابرتي العزيزة هذه هي المفتاح الذي سأدخل به الى الفردوس .. لقد كانت لى الصـديقة الحكيمة التي علمتني الصبر وطول الاناة وطالما قضيت معها الساعات الطويلة أرتل مزاميري.

ومع حركتها على القمـاش كان قلبي يخفق مناجيا الله بأحر الكلمات نعم أنها مفتاحي للفردوس.

لعلك يا عزيزي القارئ تتعجب من مفهوم هذا الأخ كيف يضع الصليب الخشبي جانبا ويمسك بإبرته ملقبا إياها أنها مفتاح الفردوس ،ولكن أرجوك لا تتعجل الحكم عليه فما كانت الإبرة الا صليبه الخاص فصليب السيد المسيح هو خطة خلاصه للبشرية وهي وان كانت خطة عامة ولكن كل فرد فينا يدخل فيها كدخول خيط دقيق في نسيج متشابك فلابد له اذا أن يصطبغ بصبغة هـذا النسيج . لابد أن يلقى

الصليب ظله بصورة أو بأخرى على كل من يريد أن يحتمي به . وصور الصليب متنوعة حسب كل واحد في احتياجه واحتماله . وكما تمم السيد المسيح الخلاص على الصليب لابد أن يتمم خلاص كل واحد بأحد صور الصليب هذه .

عليك أن تبحث عن صليبك . . تعرفه وتقبله وتحتضنه . . أنه مفتاحك إلى الفردوس .

لعله عملك اليومي الضاغط والثقيل .. الذي مللته وتأمل أن تزيحه عن كاهلك .

أو تلك المسئولية التي ترزح تحتها وتئن منها ولا تعرف متى تنتهى .

أو ذلك الشخص الذي يسبب لك تعبا ما .. لانه قاسي .. أو غير مهذب الكلام . أو لا يفكر الا من وجهة نظره .

أو هذا الالم الذي يصيب جسدك أو نفسك ولو من حين لآخر . او يصيب أحد من تحبهم ..واحترت في العلاج طويلا.

انه المكان الذي تعيش فيه أو الحالة التي تعاني منها ، أو الشخص الذي تتعامل معه.

ای ان كان هذا الصليب .. اقبله وقبله ..لانه تدبير خلاصك الذي قد لا تكتشفه الا عندما ينتهي الزمان وتتوقف دقات الساعة فتدري حينئذ ان ما ذاك الا انه كان مفتاحك للفردوس .

لا تظن أن الصليب يكون فقط في سلسلة ذهبية تزين الأعناق أو مضفور بالجلد بصورة بديعة . ولكن قد يصل الحال به ان يكون في ابر خياطة أيضا[20] !!

 

الحياة تواجه الموت لفريدا حدَّاد (عرض الأستاذة إيريس حبيب المصري )

ولنعد الي شرقنا الأوسط لكي نقف في شيء من التهّيب أمام سيدة لبنانية تتحدث عن ” الحياة تواجه الموت وتتغلب عليه ” ، قالت : إننا نختبر الموت في وسط الحياة : فنحن شعبَّ يعيش بأكمله تحت علامة الصليب ، يعيش تحت الموت ، يعيش يوماً بيوم علي حدود الموت والحياة ، وفي موقفه هذا يمد يديه مع توما الرسول ليتحسس شوكة الموت في لمسة مباشرة للمسيح القائم ، وبهذه اللمسة ذاق حلاوة الحياة ومجدها في مواجهتها للموت والانتصار عليه . وتراث الكنيسة الشرقية موسوَّم بهذا التراث الكياني ، فالكنيسة لا تبدأ بالمفاهيم والنظريات بل تبدأ بالحري بالاختبار المباشر و باجتيازها خبرة التطهير . وبالحياة علي حدود الموت يتلاشى أمامها كل ما هو غير ضروري .

وطعم الموت المتربّص يبدد كل وهم ويستأصل كل تفاهة ، إنه ينقّي الهواء الروحي ! فهو يواجهك مراراً وتكراراً بما لا تستطيع تفهّمه تماما مع كونه يلحّ عليك كل يوم ، ولابد من أن توما الرسول اختبر هذا كله حين مدّ يده المتشككة ، لابد من أنه أدرك بأن هناك وسيلة للمعرفة تتفحص مالا يمكن للعقل وحده أن يتفحّصها ، إنها الوسيلة التي تتخاطب بها قوة القيامة : قوة الحياة التي قهرت الموت وحين جلس إلي جانب إخوته التلاميذ تجمّعت الكنيسة خلف الأبواب المغلقة ، وتناول الكل سر الإفخارستيا من يد الرب القائم الذي نفخ فيهم قوة قيامته .

ولقد تجمعّنا ذات يوم – كان يوم عيد القيامة – في كنيسة صغيرة . وكنا نصلّي علي أصوات المدافع ودويّ المتفجرات ، فعرفنا يومذاك أننا مجتمعون لنختفي بالآتي ، ومنه ننال روح الحياة والسلام ، وهذا الوعي بالحضرة الإلهية نحسَّه كلما اجتمعنا لنتناول جسده الأقدس ودمه الكريم .

يقول لنا الرائي:” وسيمسح كل دمعة من عيونهم ، والموت لا يكون فيما بعد ، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع ، ها أنا أصنع كل شيء جديدا .” كيف يمكننا أن ننادي بهذا وسط الخرائب والدمار؟ وكيف نعلّم به والجديد لم يبزغ بعد ؟ إن خير صورة لحياتنا هي أننا نعيش منجماً ضخماً للفحم، وهذا الفحم يُخفي تحته الماس الساطع ، فالرب مختبئ داخل قلوب مِعتمة ، والعالم الجديد محمول به في سرية العمق في هذه القلوب ، متي يبزغ الفجر ؟ إن ظلمة الموت والألم لا تزال تغطّيه .

والكنيسة المصليّة في الشرق تعيش كل يوم حياة جديدة: تعيش ذلك اليوم الذي جعل الله منه الساعة الحاسمة لإعلان محبته لنا علي الصليب فوق الجلجثة ، إنها تصلي يومياً :” أيها المسيح إلهنا ، يا من في هذه الساعة بسطت يديك الحانيتين علي الصليب لكي تجمع الجميع اليك ، إنها هذه المحبة التي تبيد الموت ، إنها محبة رجل الآلام الحامل الأوجاع ، إنها سر الهتاف الذي كمل في صمت الله . ”

والله متجسداً دوماً في لحم التاريخ الإنساني، إنه مصلوب في كل ألم ووجع إنساني، فنحن في أنطاكية قد وصلنا الي قاع هاوية المرارة ، ومع ذلك فليلنا ليل الترقّب . فنحن – علي حد قول يوحنا الدمشقي – كالجمر الذي لا يحترق من نفسه ولكنه يحترق بالنار التي تتخلله. هكذا أنا لست سوي فحمة سوداء باردة، ولكي ألتهب بنار العنصرة أحتاج الي خبز الله الذي هو جسد السيد المسيح والي شرب دمه الذي هو المحبة الباقية الي الابد.

ففيه وحده نحن أكثر من منتصرين، وفيه مركز الكون ، وفيه نقطة التلاقي التي تخفي السلام داخلها .” إنه فينا تقدمه السلام ، إنه المُعطي والعطية .” فنحن أشبه بيعقوب في مصارعته مع الملاك إذ نصارع في الظلام، ولكننا نعرف أن الفجر سينبثق ، وأننا سنري الله وجهاً لوجه ، وعلي الرغم من أننا سنخرج عارجين لأن حُق فخدنا قد انخلع فإننا سنكون قادرين مع الله والناس . فتضرع الي الله أن يطلع النهار قريباً ، وأن يمنحنا القوة لنحوّل الأرض نحو رؤية وجه الله[21] .

 القمص بيشوي وديع

الشهادة للمسيح إختبار يومي

الشهادة لله اختبار يومي لذيذ، فيه نحس بعشرتنا اليومية مع الله كإنجيل معاش. والشهادة لله عندنا نحن المؤمنين باسم ابن الله الوحيد تختلف عن مفهوم الناس عموما لكلمة الشهادة، لأنها ليست نطقاً أو لفظاً نقر فيه بشيء عن الألوهة، بل هي حياة مع الله نفسه، واختبار نعمة الاتحاد به والبنوة له بعمل الفداء وتقديس الروح وفعل الطاعة.

وكمدخل أساسي لدراسة هذا الموضوع نضع أمامنا كلمات الرسول يوحنـا عـن الـشهادة ومعناها كما دونها في رسالته الأولى (١يو٩:٥-١٢): “إن كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم. لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه. من يؤمن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه. من لا يصدق الله فقد جعله كاذبا لأنه لم يؤمن بالشهادة التي قد شهد بها الله عـن ابنه. وهذه هي الشهادة أن الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هي في ابنه. من له الابن فلـه الحياة ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة”.

إذن الشهادة في المسيحية تعبير عن العلاقة الإيمانية والحبية المتبادلة بين الله والإنسان، وقد وصلت هذه الشهادة في أروع صورها ومظاهرها إلى حد الاستشهاد بسفك الدم وذبح الجسد وإماتة الأعضاء محبة في الملك المسيح الذي أحبنا أولا وبذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا مـن العالم الحاضر الشرير (غل١: ٤).

لذلك ليس صعباً أن يكون شعار الشهادة الحقيقية وأصحابها هو “من أجلك نمات كل النـهـار. قد حسبنا مثل غنم للذبح” (رو٨: ٣٦).

وإذا تساءلنا عن سر الشجاعة التي دفعت الشهداء للإقدام على هذا الجبروت فـي البـذل والعطاء، سنستنتج بالتأكيد أن هناك حياة مسيحية مقدسة واختبار يومي عاشه هؤلاء الشهداء مع الله. وكان سفك الدم أخيراً هو المحصلة الطبيعية والتعبير الأكيد عن صدق هذه الحياة المملوءة حبا نحو الله.

إذن نحن نشهد عن الرب من خلال حياتنا اليومية لكي نكون بلا لوم وبسطاء أولاداً لله بلا عيب في وسط جيل معوج وملتو نضيء بينهم كأنوار في العالم (في ١٥:٢).

والسؤال المطروح أمامنا الآن هو: كيف نشهد للمسيح وما هي مجالات الشهادة؟

١- الشهادة بالإيمان والحياة:

يؤكد الرسول يوحنا ارتباط الشهادة بالإيمان فيقول: “من يؤمن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه” (ايو٥: ١٠). إذن الإيمان الحي هو مدخل الشهادة الحقيقية عـن الله “آمنـت لـذلك تكلمت” (مز ١:١١٥). ولذلك فإن صدق الإيمان بالله المدعم بالحياة التقوية المقدسة هو الإعلان والبرهان الأكيد على صدق تديننا.. هذا هو التدين الاختباري الذي فيه يشهد الإنسان عن عمـل نعمة الله في داخله.  والرسول بطرس يدعونا أن تكون شهادتنا هي حياة ممزوجة بالفضائل، وإعلان حي عن إمكانية العيشة بالتقوى والفضيلة، ولهذا عينه وأنتم باذلون كل اجتهاد قدموا في إيمانكم فضيلة وفي الفضيلة معرفة، وفي المعرفة تعففاً وفي التعفف صبراً، وفي الصبر تقوى، وفي التقوى مودة أخوية، وفي المودة الأخوية محبة” (٣بط ١: ٥-٧).

إن العالم من حولنا محتاج لشهادة قوية عن “سر المسيح” (أف٣: ٤) الذي فينـا؛ وهـذا يتطلب شهودا أمناء قد خلعوا إنسانهم العتيق وماتوا مع المسيح بالصليب ثم قاموا معه ليسلكوا في جدة الحياة (رو٦: ٤، ٥) وهكذا يدعون الآخرين لاختبار قوة القيامة مع الرب. لقد كان هذا مطلب الرسل أساسياً وهم يبحثون عن تلميذ خلفا ليهوذا الإسخريوطي، فكـان الـشـرط هـو أن “يصير واحدا منهم شاهدا معنا بقيامته” (أع ۲۲:۱).

ما أحوجنا لمؤمنين وكارزين حقيقيين يحيون الشهادة بإيمانهم الحي، ويشهدون للرب بحياة قوية ملؤها الفضيلة والتقوى. وأظن أنه أمام هذه العينات سيخر كثيرون على وجوههم ويسجدون منادين أن الله بالحقيقة فيهم (اكو ٢٥:١٤).

٢ـ الشهادة بالانتماء الصادق للكنيسة

“لا يستطيع أحد أن يقول إن الله أبوه ما لم تكن الكنيسة أمه . عبـارة آبائيـة رائعـة صارت دستورا لكل من يريد أن يشهد لله، إننا لايمكننا أن نشهد عن بهجـة العيـشة مع الله وفرحة تبعيتنا له، إلا من خلال فرحنا بالكنيسة ومذبحها وصلواتها وقديسيها، وبخورها وشموعها، وتسبحتها وعقائدها، وتعليم أبائها وإيمانهم.

ما أحوجنا لجيل من شباب وخدام كنسيين يشهدون بأصالة حبهم لكنيستهم وكل ما فيها من تراث وجواهر ودرر، وأسرار وليتورجيا وعبادة؛ ليس فقط باستيعاب هذه الأمور عقليا وعلمياً على مستوى الوعظ والتعليم وشرحها للناس فحسب، وإنما أولا وقبل كل شيء بمعايشتها والنمو بمنهجها والعيشة فيها بصفة الاستمرار والدوام. سهل أن يشهد خادم عن جمال الكنيسة نظريـا، ولكن ما هو أنفع له وللآخرين أن يتلذذ بهذا الجمال ويحبه لأنه عاينه وتذوقه.

وموضوع الشهادة والاستشهاد بطبيعته هو أمر متصل اتصالاً صميمياً بمعنـى الكنيسة وجوهرها وطبيعة حياتها ومسيرتها، حتى أننا لا نتصور كنيسة بـلا شـهادة واستشهاد، ولا نتصور شهادة تأتي من إنسان لم يرتبط بعضوية أصيلة في جسد المسيح الواحد فـي الكنيسة الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية.

بالتأكيد: إن كل إنسان كنسي أصيل هو شاهد أمين لله، وإذا لزم الأمـر فـهـو شـهيد بحياته ودماه. وكل شاهد وشهيد هو مسنود بأحضان أمه الكنيسة وفـي أحـضـانها يستدفئ ويستظل ويعيش.

إن الشهادة عموماً هي صفة الكنيسة ورسالتها التي لن تتوقف قط… هكذا كانت الكنيسة فـي العصر الرسولي، وزمن الاستشهاد وستظل إلى يوم استعلان مجد عريسها “وظهور الابـن الوحيد ربنا يسوع المسيح الذي سيبينه في أوقاته المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب (١تى ٦: ١٤، ١٥)

٣- الشهادة بالوصية والإنجيل 

إن إنجيلنا ليس مكتوماً (٢كو ٤: ٣) ولكنه حي ومعاش ولذا فالشهادة لله تكون من خـلال حفظ الوصية “إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي” (يو ١٥:١٤). ويقول القديس يوحنا: “إن كنا تقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم” (١يو ٥؛ ٩). وشهادة الله العظمي هي إنجيله وكلمتـه: “فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية. وهي التي تشهد لي” (يو٣٩:٥).

الشاهد للإنجيل هو إنسان يحب الإنجيل ويدرسه، يشبع منه ويتلذذ به، ويستنير بواسطته ويعلم منه، ويصيد به النفوس ويضيء به عقول الناس، ويخلص به نفوس الكثيرين، بهذا كلـه يكون شاهدا لمينا للإنجيل حتى يقال عنه هذا التعبير الذي وصف به معلمنا بولس الرسول نفسه إذ قال: “إني موضوع لحماية الإنجيل” (في ١٧:١)، بل ودعانا أن نحيا بموجب هـذا القـانون الروحي: “فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح” (في ٢٧:١). هناك فرق بين من يقرا الإنجيـل ويقدمه كحقائق ومعلومات، وبين من يعيش الإنجيل فيشهد عن حلاوته وقوة الله الكائنـة فـي كلماته. فالأول مجرد قاريء ومعلم، لما الثاني فشاهد وشهيد.

يعلمنا تاريخ الاستشهاد أن محاورات كثيرة دارت بين الشهداء القديسين وبين الحكـام والولاة والأباطرة، وكانت كلها تعتمد على قوة كلمة الله المنطوقة بالروح القدس علـى ألـسنة الشهداء. فما كان للشهداء أن يأتوا بمفاهيم خاصة من عن دياتهم، لكنهم عاشوا الإنجيل أولا بحب والوصية بعشق، لذلك لم يكن صعبا أن يتكلموا بحق الإنجيل الذي عاشوه فشهدوا له، ولما دعوا لمزيد من الشهادة ختموها بالاستشهاد وسفك الدماء. لقد عاش الشهداء بالوصية الإنجيلية وبالحق الإلهي الذي استلموه من الإنجيل، واستوعبوه بالحياة والتطبيق. لذلك حسبوا أنهم إنجيليون قبـل أن تسطر أسماؤهم في سجل الشهداء أو المعترفين.

٤- الشهادة بالألم وحمل الصليب

ألام المؤمن وصلبانه الكثيرة شهادة على أصالة حبه للمسيح “لأنه قد وهب لكـم لأجـل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله (في ٢٩:١). الـشاهد الأمـين لله لـه مسمياته الخاصة عن آلامه وتجاربه.. له قاموسه الروحي واصطلاحاته الهادفـة الروحانيـة. نسمع مثلاً عن المتنيح القمص بيشوي كامل كيف كان يسمي مرض السرطان أنـه مـرض الفردوس”؛ وكان يفسر الأمور بأسلوب مفرح يدعو سامعيه لمزيد مـن تقبـل الألـم والفـرح بالصليب.

الشهادة في عمقها وجبروتها هي تلك التي تكون عبر الآلام والضيقات والشدائد. “لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح. لأني حينما أنـا ضعيف فحينئذ أنا قوي” (۲کو ۱۰:۱۲). إن هذه الأمور كلها تخلق منا رجالا وشهودا أمنـاء للرب.

القديس يوحنا ذهبي الفم يشهد عن أيوب وصبره في تجاربه ويضعه في مكانـة تفوق الشهداء فيقول: “لقد تألم أكثر من شهداء كثيرين. لقد قاسى آلاما من كل جانب… إن أيـوب شهيد”. ويقول القديس الأنبا باخوميوس: “لا تظن أن تقطيع الأعضاء والحرق وحـدهما هما الاستشهاد، بل من يتعب في النسك واحتمال الآلام بشكر فذلك هو الشهيد”.

٥- الشهادة بالخدمة وربح النفوس

يقول معلمنا بولس الرسول: بل قد رفضنا خفايا الخزي غير سالكين فـي مكـر ولا غاشين كلمة الله بل بإظهار الحق مادحين أنفسنا لدى ضمير كل إنسان قدام الله (۲کو ٢:٤). إن هناك مطلبا أساسيا ونيراً حلواً ينبغي أن نحمله كشهود لله ألا وهو “إنارة معرفة مجد الله فيوجه يسوع المسيح (٢کو٤: ٦).

ترى ما مقدار شهادتنا لله – خصوصاً كخدام ومدبرين – من خلال ربح النفوس؟.. هـل تتقدمنا أمام العرش وتزكينا أمام الحمل مواكب من الناس خدمناها من خلال تتويـب الخطـاة واحتضان الساقطين، وتشجيع اليائسين، وتقوية الضعفاء؟ وهل خدمتنا واضحة الهدف: “نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس” (ابط ۹:۱).

إنها دعوة عزيزة وغالية يوجهها لنا الرب، وفيها ربـط بـيـن الـشهادة وروح الخدمـة والكرازة حين يقول: “وتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض” (أع٨:١). والخدمة الحقيقية هي التي تستطيع أن تقدم شهادة عن إمكانية التوبة والرجوع لله والعيشة في الفضيلة والتمتع بالخلاص والإيمان الحي الذي به نغلب العالم ونواجه أعتى قواه.

خلاصة الأمر كله :

أيها المؤمن :

“لا تخجل بشهادة ربنا” (٢تي ٨:١).

“لأن فخرنا هو هذا شهادة ضميرنا” (۲کو ۱۲:۱).

إن الشهادة للرب ليست فقط رحلة حياة على الأرض بقدر ما هي سفارة منطلقة إلى السماء؛ والشهود الأمينة لله علامات مضيئة على الطريق تنير إلى أبد الدهور. هم شهود للمسيح كمظلة يختبئ فيها الكثيرون ويستظلون.

إن كل شاهد أمين لله يحيا الشهادة ويقدمها كاختبار يومي وكابن حقيقي الله، سينطبق عليه حتماً شهادة الإنجيل التي قيلت عن يوحنا الحبيب: “هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هـذا. ونعلم أن شهادته حق” (يو ٢٤:٢١). ليتنا نشهد للمسيح من عمق القلب والضمير شهادة حيـة أمينة غير مشوبة يمكن أن نصفها في جسارة الحق واتضاع الروح قائلين: “ونحن أيضاً نشهد وأنتم تعلمون أن شهادتنا هي صادقة”(٣يو١٢ )[22])

المتنيح دياكون يسي حنا

ليس لأحد حب أعظم من هذا

« ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه » ( يو ١٥ : ١٣) هكذا أحب الله العالم ـ رغم ما قدمه العالم لله من شر ، وما حاوله أبناء الناس من الابتعاد عن الله ، وما اختاره آدم و بنوه من السير في طريق التعال والكبرياء . رغم كل ذلك أحب الله العالم، حباً يزيد في حدوده عن كل ما في مقـدور البشر من عواطف و يتلاقى مع كلما لجلاله من قداسة فلا يسمح ببقاء الشر ولا يسمح بفناء الشرير هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ـ بذل ينبع من حياة وتضحية حتى الموت تعيد إلى المائتين الخلود، واتضاع حتى الهوان والصلب، و ليخلص من في الجحيم ويعيدهم إلى فردوس النعيم . هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به ـ من يؤمن به إيماناً ايجابيا ـ عاملا يراه في حبه الذي لا يحـسد فيحب، ويراه في وداعتـه فيتعلم منه ويسعى في ذات الطريق الذي سلك فيها ذاك حتى يصل إلى الحياة الأفضل. هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية كيف نحبه كما أحبنا؟! ـ «عندما نثبت فيه و نأتي بثمر» «و نقبل طواعية أن ينقينا لنأتي بثمر كثير » « عندما نحفظ و صاياه داخل القلب » « و نحب بعضنا بعضاً كما أحبنا » وكيف نحب بعضنا بعضاً ؟ ! عندما نسعى لتوسيع دائرة اهتمامنا بمن هم حولنـا ـ فنمتـد من حب الأبناء إلى حب الأهل والأقرباء ـ ومن حب القريب إلى حب الغريب، ومن حب الغريب إلى حب العدو. وهو وحده القادر «أن ينمينا ويزيدنا في المحبة بعضنا لبعض وللجميع» و كيف نصل إلى حب الجميع؟ ! عندما لا نعتمد على ذواتنا، ولا نركز تفكيرنا في مصالحنا، فتتحول صلواتنا من أجل أنفسنا إلى الصلاة من أجل الغير كأفراد وجماعات «فنشعر بالسعادة إذ نحيا في شركة القديسين إذ نتعزى بالإيمان الذي فينا جميعاً » (رو ۱:۲۱) .

وما هي غاية هذا الحب؟ !

« أن نتأصل و نتأسس في المحبة حتى نستطيع أن ندرك مع جميع القديسين ، ما هو العرض والطول والعمق. ونعرف محبة المسيح الفائقة المعرفة لكى نمتلىء إلى كل ملء الله» (أف ٣ : ١٨ ، ١٩) . فلنركع تحت صليبه، ونرفع عيونا إلى جنبـه المجروح » ( : ونتوج هامتنا بسلطان حبه ذلك الذي حمل على هامته إكليل الشوك . ونضع أنفسناكما وضع ذاته من أجلنا لكي يكون لنـا بموته الحياة الأبدية[23] .

الأب أنتوني م. كونيارس

ضعفي… قوته

“الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي هو مبارك إلى الأبد، يعلم أني لست أكذب… في دمشق، والي الحارث الملك كـان يحرس مدينة الدمشقيين يريد أن يمسكني، فتدليت من طاقة في زنبيل من السور، ونجوت من يديه.

إنه لا يوافقني أن أفتخر. فإنى آتي إلى مناظر الرب وإعلاناته. أعرف انساناً في المسيح قبل أربع عشرة سنة أفي الجســد؟ لست أعلم أم خارج الجسد؟ لسـت أعلـم الله يعلـم اختطف هذا إلى السماء الثالثة. وأعرف هذا الإنسان: أفـي الجسد أم خارج الجسد؟ لست أعلم. الله يعلم. أنه اختطف إلى الفردوس، وسمع كلمات لا ينطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها. “من جهة هذا تضرعت إلـى الرب ثلاث مرات أن يفارقني. فقال لي: “تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تكمل”. فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي، لكي تحل علي قوة المسيح لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح. لأنى حينما أنا ضعيف فحينئذ أناقوي” (۲کو ۱۲: ۸-۱۰)

قصة

هناك قصة عن خروف أصبح أعرج ولا يغامر بالتجول بعيدا عن راعيه، فسأل أحد الغرباء الراعي عن سبب عرج هذا الخـروف ولم لايفارق راعيه أبدا، فحكى له الراعي أن هذا الخـروف ولد بصمم خفيف، وكان غير قادر على سماع صوت راعيه، ونتيجة لهذا فقد كان يوقع نفسه دائما في المهالك، وأنقذه الراعي عدة مرات من على حافة الهاوية، وفي النهاية اضطر الراعي أن يحـدث إصـابة في إحدى أرجله، ومنذ ذلك اليوم أصبح الخروف يعرج، لكنه أيضـا أصبح لا يفارق راعيه طلبا للتوجيه والحماية.

تذكر معي صورة الخروف الذي أعرجه الراعي وهو يجلـس بجانبه، ثم استدع معي القديس بولس الرسول وهو يتحـدث عـن “عرج” مماثل، وقد أسماه “شوكة في الجسد”، وهو مرض جسـدي مزمن يتسبب له في أوجاع عظيمة. بالنسبة لبولس الرسول كانـت هذه الشوكة من :”ملاك الشيطان ليلطمني، لئلا أرتفع من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني. فقـال لـي: “تكفيـك نعمتي،لأن قوتي في الضعف تكمل” (۲کو ۱۲ : ۷-۹).

إن “العرج” الذي ابتلي به بولس لم يصبه من قبل الرب، لقد كان من قبل “ملاك الشيطان” كما قال بولس، لكن الرب لم يرفعه عنه بالرغم من صلوات بولس. إن محبة الرب سمحت بالإبقاء علـى المرض، حتى يظل بولس “يعرج” بجانب الراعي، حيث يجـد القـوة الثابتة الدائمة لتعين ضعفه.

لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي

عندما اكتشف بولس الرسول أن الغرض والهدف الحقيقـي للـ “شوكة في الجسد”، هو إبقاؤه بالقرب من مصدر القوة، افتخر بها: “فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي، لكي تحل علي قـوة المسيح. لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قـوي” (۲کو ۱۲: ۹-۱۰).

فعندما نكون ضعفاء فحينئذ نكون أقويـاء، لأن ضـعفنا يجعلنا نتكئ ونتكل على قوة الرب. نحن نملك أكثر من كل القوة الموجودة في العالم، فلا وهن أو ضعف يجعلنا سقماء إن كنا ثابتين في الرب.

هل وجدت نفسك محبوسا في ركن حيث لا مفر لـك؟ إن حدث لك ذلك فاعلم أن الرب قد سمح بذلك، حتى يـأتي بقوتـه الجبارة لينقذك لكنه يريدك أولاً أن تكتشف كيف أنك ولا حول لك ولا قوة إلا به، وأنت غير كاف بذاتك، وأن اعتمادك واتكالك يجب أن يكون على الرب: “لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي”.

عندما نصل إلى آخر مدى

عندما نتواجه في الحياة مع مواقف لا تكفـى فيهـا القـوة البشرية، يصير أمامنا أحد الخيارين، إمـا أن نستسلم وننسحب مهزومين وإما أن نبحث عن الرب ونهرع إلى قوته.

بولس الرسول يخبرنا عن واحدة من هذه التجـارب عنـدما يكتب: “فإننا لا نريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة ضيقتنا التـي أصابتنا فيأسيا، أننا تثقلنا جدا فوق الطاقة، حتى أيسنا من الحيـاة أيضا. لكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت، لكي لا نكون متكلين على أنفسنا بل على الله الذي يقيم الأموات” (۲کو ۱: ۸-۹).

للرب حكمة وغرض من وراء الشدائد، وهذه الحكمة أن نتكئ ونتكل كليا على ذراعه المنقذة: “لأني حينما أنـا ضـعيف فحينئذ أنا قوي”.

إن قوتنا الحقيقية تكمن في ضعفنا وعدم قدرتنا، وهي التى تجعلنا طالبين معونة الرب، وعندها يصبح الضعيف قادرا على فعـل أيشيء. فبالرغم من ضعفنا التام في حد ذاتنا إلا أنه: “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني” (في٤: ١٣).

إستمع إلى تجربة داود النبي في المزمور

“اكتنفتني حبال الموت، وسيول الهلاك أفزعتني؛

حبال الهاوية حاقت بي، أشراك الموت انتشبت بي.

في ضيقي دعوت الرب، وإلى إلهي صرخت.

فسمع من هيكله صوتي، وصراخي قدامه دخل أذنيه

طأطأ السماوات ونزل، وضباب تحت رجليه.

ركب على كروب وطار، وهف على أجنحة الرياح.

أرسل من العلى فأخذني. نشلني من مياه كثيرة” (المزمور ۱۸).

يقول داود النّبي إنه صرح للرب في ضيقه، والرب: “طاطـأ السموات ونزل”. لقد أصبح ضعفه موضعا لإظهار قوة الرب، مثلما

حدث في حياة بولس الرسول عندما كان موضع ضعفه موضعا لإظهار قوة الرب.

إميرســـون Emerson في مقالـه عـن: “التعويض “Compensation يقول :

“ليس هناك نقص لم ينبثق منه بصورة أو بأخرى نفـع لصاحبه”

إن الاستفادة التي رآها بولس الرسول في ضعفه هى أنه دفعـه هي ليكون أقرب للرب، لذلك عوضا عن تذمره منها، ابتهج بها. وبدلاً من الشكوى منها، مجد هذا الضعف. وعوضا عـن الإسـراف في الشفقة على الذات، والإحساس بالأسى على ذاته لأجل الشوكة التي لينزعها الرب عنه، استخدم هذه الشوكة وسيلة عبور للقوة (مثل الحجر الذي يوضع في وسط الوحل للعبور عليه).

هل نستطيع نحن أن نبتهج في أي ما يستخدمه الــرب حـتى نعتمد عليه ببساطة يوميا. لذا، فالواحد منا لا يقول: “أفتخر بالحري في ضعفاتي” فحسب، بل لنكمل الآية: “لكي تجـل علـي قـوة المسيح” (۲کو ۱۲- ۹).

هذا هو ما يهم حقا: أن نركز على قوة الرب، ولـيـس عـلـى ضعفنا نحن.

تناقض عظيم

هنا واحد من التناقضات paradoxes العظيمـة للإيمـان المسيحي: إنه في الضعف هناك قوة، حكمة العالم تعلمنا العكس تماما. أن يكون الإنسان ضعيفا، هذا يعنى، أن يكون عديم الحيلة، مزدری به، غير كفؤ، إنها دعوة للأقوياء أن يسحقوه، أن يكون قليل البخت في تعليمه، في زواجه، في أعماله. معناه إن كارثة في طريقها إليه. لكن عندما يظهر الرب في الصورة، تنقلب الأشياء تماما رأسا على عقب إنها حكمة الرب التي تقول على لسـان بولس الرسول: “لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي” (۲ کو ١٢: ۱۰). غير المتفحص في آلام بولس الرسول لا يمكن أن يصفه بالضعف، فقد كان واحدا من أقوى الرجال الذين عاشوا على وجه الأرض على مر الأزمان، فقليل جدا من البشر أكثـر حيوية، أو أكثر شجاعة، أو أكثر تحملاً ،أو أكثر توهجا عقليا من بولس الرسول. كل هذه القوى تدفقت من ضعف بولس الذي جعله يعتمد كليا على المسيح، فهو كان مثالاً حيا للـ “إيمـان” الذي وصفه في الرسالة إلى العبرانيين ١١ “الذين بالإيمان… مـن خلال الضعف صنعت قوة”.

وبالرغم من كل كما مما هو شائع ونسمعه دائما أن الرب يعطـي أحباءه طريقا سهلاً في هذا العالم، لكنه كلام غريب تماما عن تعاليم وأمثلة المسيح، وعن التجارب الحياتية واليومية للكنيسة الأولى، كما نراها في حياة بولس الرسول.

فراغنا وامتلاؤه

عندما يسيطر علينا شعور بالضعف أو انعدام الحيلة، فلنقـف في وجه شعورنا باليأس، بل علينا بالأحرى أن نبتهج، لأننا بالفعل حصلنا على نصف المطلوب لاستقبال قوة الرب، فنحن لدينا الفراغ الـذي سيتقبل امتلاء الرب. فنحن نستطيع أن نربط بين هذا الفراغ والضعف الداخلي، بقوة الرب في المسيح؛ الذي قد نكتشف من خلاله مصـدرا للقوة أكثر من كاف لكل احتياجاتنا: “فبكل سرور أفتخر بالحريفـي ضعفاتي، لكي تحل على قوة المسيح” (۲کو ۱۲: ۹).

القبول

إن كان بنا ضعف فلنقبله ونعترف به. دعنا لا نتظـاهر بقـوة ليست فينا. تقبل الضعف ـ لكن ليس فقط الضعف ـ بل تقبل حقيقة أن إحساسنا بمثل عدم الكفاية هذه يؤدي بنا فقط بأن يقودنا إليـه (أي إلى المسيح)، فيكون هو المصدر الحقيقي لكل كفاية في حياتنا فالرب هو: “القادر أن يفعل فوق كل شيء، أكثر جدا مما تطلب أو نفتكــر (أف ٣ :٢٠). إن مواجهة ضعفنا وتقبل هذا الضعف، هو فبالحقيقة عثور على مصدر القوة الذي لم نكن نعلم بوجوده من قبل.

هل الدين عكاز؟

كان أمريكي مسيحي في زيارة لروسيا، عندما استوقفته امرأة روسية ملحدة وسألته هل أنت متدين؟”، فوافقها قائلا إنه كذلك بالفعل. فبادرته قائلة: “أنت متدين لأنك ضعيف، فأنت تتجه للرب من أجل التعزية والراحة. هل أنت بحاجة لمن يمسك بيدك؟” وقذفت بيـدها بعيدا عن الأمريكي لتريه ماذا تعنى بكلامها. فأجابها الرجل: “أخشـى انك مخطئة يا سيدتي، إلي لا التجئ للرب للتعزية والراحة، بل للقوة أنا لا أريد من الرب أن يمسك بيدي؛ أنا أريد منه أن يقوي ذراعي حـتى أتمكن من مد يد المساعدة للآخرين. لا أريد للرب أن يمسح دموعي، بل أريد منه أن يمنحني منديلاً حتى أتمكن من مسح دموع الآخرين”.

عندما استند بولس الرسول على الرب في ضعفه، لم يكن فقط ليتلقى التعزية والراحة لذاته؛ إنما لتمكنه من أن يتواصل مع الآخرين حول مدى قوة الرب في ضعفنا.

ذات يوم قال طالب بالصف الثاني بإحدى الكليات العسكرية لمدير الكلية: “سيدي، إن الدين عكاز”، فأجابه المدير: “بالتأكيـد هـو كذلك لكن من منا لا يعرج؟” مثل الخروف ذي الرجل المكسـورة، أخذ بولس الرسول يعرج بجانب الراعي الصالح، وهناك وجـد قوته الأعظم.

سأل أحدهم القديس فرنسيس الأسيزي: كيف تمكن من انجاز كل هذا الكم مما أنجزه؟ فأجاب: “قد يكون هذا هو السبب؛ أن الرب تطلع من السماء وقال: “أين أجد أضعف وأقل إنسان في الأرض؟”، ثم أبصرني وقال: “لقد وجدته، وسأعمل من خلاله، وسوف لا يفتخر بذلك، لأنه سيعرف أننى استعمله فقط بسبب عدم أهميته”.

الرب اختار الضعفاء ليخزي الأقوياء

ألم يقل بولس الرسول لأهل كورنثوس: “بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء. واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء. لكي لايفتخر كل ذي جسد أمامه” (١كو٢٧، ٢٩)، في الضعف يبرهن الرب على قوته بحيث يعود إليه كل المجد.

ترفع من الضعف إلى القوة

رجل الصناعة الشهير جي. سي. بين J. C. Penney يخبرنا أنه عندما تعرض لانهيار في شركاته، وكان في المستشفى يعاني من الإحباط حتى إنه شعر أنه سيموت أثناء الليل ولن يأتي عليه نهار، أنه كتب رسالة وداع لزوجته وأولاده يقول فيها: “عندما أتى الصباح أحسست كأن الظلال من حولي خيمت على، وأن كل ضوء انطفأ الظلام كان يحيط بي في كل مكان. كنت بلا أي أمل، فالسواد كان فعقلي.

ثم من مكان ما بعيد في بهو المستشفى سمعت ترتيلاً، فقد كانوا يرتلون: “الرب سيعتني بك”، استمعت إلى الترتيلة وفجأة حدث أن شيئا بداخلي انكسر وأسلمت نفسي للرب وصليت له: “سيدي، أنا لا أستطيع فعل أي شيء، فارعني من فضلك”.

يقول جي. سي. بيني بعدما أسلم ذاته للرب، تبـد الظـلام كأنما شخص ما أزاح الستائر وأضاء كل الأنـوار في كـل مكـان، وتوهجت الغرفة بالضياء، وصار في قلبي وفي عقلي كل شيء جديـدا. أصبحت سعيدا، واختبرت تدفقا للقوة لم أتخيل أبدا إمكانية وجودها. لقد اكتشفت أنه إن أدرك الشخص المهزوم أنه أصبح بلا قـوة، ولكنه ربط نفسه بالرب بالإيمان، عندها سيكتشف قوة تفوق حـدود البشر؛ كما تصبح قطعتين من المعدن أكثر قوة عند نقطـة لحامهمـا، بعدما كانت من قبل النقطة الأضعف، كذلك فإن قوة المسيح القائم من الأموات تجعل منا الأقوى، من ذات النقطة التي كنا فيها الأضعف.

فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي

بولس الرسول بدأ حديثه بطرح المشكلة: “أعطيت شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني”، وهنا تضرع بولس الرسول للرب

ثلاث مرات: “أن يفارقني”، فجاء رد الرب عليه بطريقة قد تبـدو غريبة لأول وهلة: “تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تكمل”، وهنا اكتشف بولس الرسول صدق كلام الرب، ففي ضعفه اعتمـد على الرب ووجد قوة تفوق تخيله، مما جعله يقول: “فيكـل ســرور افتخر بالأحرى في ضعفاتى، لكى تحل علي قوة المسيح … لأنى حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي”

صلاة

“يارب قدنا في ضيقاتنا وشدائدنا،

أعطنا أن نبقى أكثر قربا منك.

حتى نجد بقربك، كما وجد بولس الرسول،

القوة لفعل وإنجاز كل شيء.

لك كل المجد، يا ربي يسوع المسيح،

مع أبيك الصالح والروح القدس،

من الآن وإلى الأبد. آمین[24]“.

الأب فرنسيس ب. لابيف

غضب الله « اما شعبی فقد نسينى اياما بلا عدد » (أر ۲: ٣٢)

« أخطأت يا أبتاه لأنني اغضبتك بعد كل هذه الرأفة التي أظهرتها علی ، حنانك يؤلمني ويخجلني » …تلك هي الكلمات التي انبعثت من نفس نادمة تحاول إصلاح نفسها و مع ذلك انزلقت مرة ثانية .

اعترفت مراراً كثيرة بثقل خطاياها للأب الكاهن فلم تسمع منه ای توبيخ أو كلمة قاسية ولكن كل تشجيع وحث رقیق على ترك الخطية ومحبة الله وحده . لقد تمسكت بمثل عليا وكان الكاهن يتوقع لها حياة أفضل وإذ بها تنزلق و تسقط في الخطية مرة أخرى .

لقد نفذت فكرة خانقة لهذه النفس القلقة وهي :  « اغضبت يسوع الذى لمس نفسي بكل حنان و خدعته » منذ ذلك الإدراك بعمق إلى تلك النفس المرتعدة بأنها مصدر غضب الله.

و كذلك بالنسبة لي عندما أفشل في الحياة وتضيع آمال الذين جاهدوا بكل اخلاص من اجلى، وعندما أدرك أن كل جهودهم فشلت تتدلى رأسي خجلا وقلبي يهبط في نفسي .

مع اني أغضبت إنساناً بذل جهوداً عظيمة إلا أنها كانت زائلة . لكن فكر ماذا يحدث عندما تقف أمام محاكمة الله، و تعلم انك کنت مصدر غضب الله ؟! لقد مرت السنون وفات الوقت .

وفجأة سأقف أمامه للدينونة الأخيرة وأجد نفسي مصدر غضبه لقد خطط الله وجودی منذ الأزل وشكل القرون والشعوب من اجل مجيئي ، لقد علق النجوم لإعطائي البهجة وجعل الشمس بالنهار والقمر بالليل لإضاءة طرقي .

وفي خلال الأزمنة وضع من اجلى و بطول اناة بساط الأرض الأخضر، وبنى الجبال الشاهقة ، و شكل من اجلى شلالات المياه الهائلة ، واثار من اجلى بأصبعه مجاري المياه … كل ذلك عمل حتى اتعلم معرفته ومحبته وخدمته من كل قلبي.

كل هذا كان اقل جداً مما أعطاه لي من رأفة عندما وضع الانسان على الأرض سابقا ، أعطاه خيرات فياضة لتبقي لي .

ولكن لم يصونها آدم إذ أبعد عنه وعن اولاده نعمة الله ، ولكن الله من اجل محبه استردها لنا – ويحكى صليبه القصة كلها … بناء على هذا استطيع قراءة محبته ، وبدمه أستطيع هجاء توسله من اجل استمالة قلبي .

اری بیت لحم ثانية وفقرها الذي يجعلني أبغض الثراء العالمي.

واری مشاق الناصرة وفراغها فأتعلم تجنب الفراغ والخطايا الناتجة منه ؟! وتبرز مصر من الظلام وتحذرني من

طموح في امكانه ابعاد الله نفسه حتى لا تقتل حياة طفولتي.

وانظر مرة ثانية وأقرأ بشاعة الخطية من خلال اليدين والرجلين المثقوبتين والجنب المطعون بالحربة – ومنها اری قيمة الألم لعلاج نفسي وخلاصها ، وبطول أناة ورأفة لا نهائية حاول ربنا يسوع استردادي للحياة الطاهرة و القداسة المتناهية كما يتناسب مع مجالي في الحياة .

كانت نعمته تقرع قلبي بقدوم يوم جديد ، و تناديني باستمرار في الصباح ووقت الظهر والمساء . كل هذا لكي أحبه وأعرفه وأخدمه جيداً .

إني أتألم من اغضاب انسان زائل، فكم يكون مدى خجلي عندما أقف أمام صديقي الدائم واسمعه قائلا : « إنني كنت مصدر غضبه » .

يا ربى يسوع الحبيب ، لا يؤلمني شيء غير أن أكون مصدر غضب

لأناس أنفقوا حياتهم من اجلى – ومع كل – لا مجال للمقارنة بين ما

أداه أي إنسان لي وما اديته انت يا إلهي لقد وضعت في آمالا عظيمة

حتى اصبح قديساً وأحبك كثيراً واخدمك جيداً .

ما قلت لي من هذه الآمال، و حلت نعمتك  في بغزارة کی تساعدني

على الحياة طبقا لآمالك . ولكني أعلم من قلبى أنني لست القديس

الذي تريده أنت .. و لكن يجب أن أكون قديساً. ياربي يسوع الحبيب

كما أنك قدوس، فقد فعلت الكثير من أجلى وبطول آناة ورأفة

وبإصرار أيضا عندما كنت انا على وشك التخلي عن جمیع المثل

التي غرستها في. أعطي فقط قلبا قويا و شجاعا، وامنحني من

نعمتك الفياضة، ولا تدعني أقف أمامك أبداً وانا مصدر غضب لك.

من وحي قراءات اليوم

” لأن اليهود يسألون آيات واليونانيين يطلبون حكمة ” البولس لأوَّل أيام عيد الصليب

+ آفة العصر الحديث الآيات والحكمة البشرية

+ طلب الآيات والجري وراء الغيبيات هو آفة الفكر الشرقي

+ وتأليه العقل والمنطق ورفض كل ما هو روحي هو آفة الفكر الغربي

+ يقف الصليب والمصلوب له المجد مُعلنا مُعجزة تغيير وتجديد الإنسان (٢كو ٥: ١٧ ) أعظم من الآيات والمعجزات المادّية

+ ويُظهر بالضعف ما هو أعظم من قوي العالم وزيف قدرته (١كو ١: ٢٥)

+ كما أن الصليب يُعطي تابعيه حكمة سمائية تعلو علي كل فلسفات العالم (١كو ١ : ٢٤)

+ وهي الحكمة التي تجعل الإنسان يدرك محبة الله وحكمته وتدبيره الإلهي (١كو ٢ : ١٢)

+ ما أخطر أن ينخدع أبناؤنا ببريق العلم والمنطق أو أن ينخدع بهوس المُعجزات

+ وما أجمل أن يبني أبناؤنا إيمانهم علي الشركة اليومية مع المصلوب فيختبروا موته وقيامته (في ٣ : ١٠)

+ ويشهدوا لمسيحهم بقوَّة الله التي فيهم وحكمته التي تستأسر كل فكر إلي طاعة المسيح (٢كو ١٠ : ٥)

 

 


 

المراجع

١-  سيرة حياة القديس أنطونيوس أب الرهبان كما كتبها البابا أثناسيوس الرسولي – إعداد بولين تدري أسعد وتقديم د. موريس تواضروس

٢- تفسير إنجيل يوحنا الإصحاح الثاني عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

٣-  كتاب الحب الإلهي ( صفحة ٥٤٤ ، ٥٤٥ ) – القمص تادرس يعقوب ملطي

٤- كتاب الكرازة الرسولية للقديس إيرينيوس ( صفحة ٢٣٦ ) – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد ودكتور جورج عوض إبراهيم

٥- كتاب مقالات القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد ( صفحة ١٦٦ ) – ترجمة وإعداد الراهب القمص مرقوريوس الأنبا بيشوي

٦- القديس يوحنا ذهبي الفم – تفسير الرسالة إلي العبرانيين ( صفحة ٨٣ ) – ترجمة دكتور سعيد حكيم يعقوب ومراجعة دكتورجورج عوض

٧- : كتاب عظات القديس أغسطينوس علي رسالة يوحنا الأولي (صفحة ١٦٩) – ترجمة القس بنيامين مرجان باسيلي

٨- المرجع : كتاب من مجد إلي مجد للقديس غريغوريوس النيسي ( صفحة ١٥٩ ) – ترجمة القمص إشعياء ميخائيل

٩- تفسير الرسالة إلي العبرانيين ( صفحة ١٠٦ ) – ترجمة دكتور سعيد حكيم يعقوب ومراجعة دكتور جورج عوض إبراهيم

١٠- كتاب المسيح مجد الشهداء ( صفحة ٤٠ ) – ترجمة الباحث ريمون يوسف رزق

١١- مجلة مرقس عدد شهر مارس ( صفحة ٢٣ ) – لسنة ١٩٨٠

١٢- كتاب شفتاك يا عروس تقطران شهداً – الجزء الثاني صفحة ١٠١- إصدار دير الأنبا شنوده بإيبارشية ميلانو

١٣-  كتاب مفاهيم إنجيلية ( صفحة ٢٠٢ ) – الأنبا إبيفانيوسأسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار

١٤- المرجع : كتاب نبذات روحية هادفة ( الجزء الأول مقالة رقم ٤ ) – القمص بيشوي كامل – مشروع الكنوز القبطية

١٥-  نبذات روحية هادفة ( الجزء الأول مقالة رقم ٨ ) – القمص بيشوي كامل – مشروع الكنوز القبطية

١٦- كتاب نبذات روحية هادفة ( الجزء الأول مقالة رقم ٧ ) – القمص بيشوي كامل – مشروع الكنوز القبطية

١٧- كتاب نبذات روحية هادفة ( الجزء الأول مقالة رقم ١٢ ) – القمص بيشوي كامل – مشروع الكنوز القبطية

١٨- كتاب إسندني يارب في تجاربي صفحة ٣٣ – القمص يوسف أسعد

١٩- كتيب الصليب خلاصنا والقيامة حياتنا – القمص إشعياء ميخائيل

٢٠- مجلة مدارس الاحد شهر يناير ١٩٨٧ – القس بيشوى صدقی – كنيسة مار مينا بشبرا

٢١- كتاب أم الفرح وبناتها ( صفحة ٤٨ ) – الاستاذة إيريس حبيب المصري

٢٢- مجلة مدارس الاحد شهر سبتمبر لسنة ٢٠١٣

٢٣- مجلة مدارس الأحد عدد شهر أبريل لسنة ١٩٦٢

٢٤- كتاب كنوز من رسائل بولس الرسول (الجزء الاول صفحة ٦١ ) – الأب أنتونى م.كونيارس – إصدار مطرانية بني مزار والبهنسا

٢٥- المرجع : كتاب الصديق الدائم ( صفحة ٣٣ ) – ترجمة السيدة إيزيس ميخائيل أسعد وتقديم القمص بيشوي كامل