قراءات يوم الأربعــاء من الأسبـوع الثالث من الصوم الكبير

 

“ولكننا في هذه جميعها يعظم إنتصارنا بالذي أحبنا” (رو ٨: ٣٧)

[كل من يقـول يا ربى يسوع كمن بيده سيف يصرع العـدو] (إبصالية الأثنين)

[المؤمن الذي له دالة عند الله لو قامت عليه كل الخليقة تحاربه بأصوات وسحب لا تستطيع أن تهزمه لأن جميع ما يتكلم به ذلك الإنسان فمثل الله يتكلم وكل البرايا تطيعه أي تطيع الله الساكن فيه] (القديس يوحنا سابا)[1]

شــواهــد القــراءات

(خر٤: ١٩- الخ، ص ٥، ص ٦: ١-١٣)، (يؤ ٢: ٢١-٢٦)، (أش٩: ٩ – الخ، ص١٠: ١-٤)، (أي ص ١٢، ١٣، ١٤)، (مز ٢٦: ٥)، (لو١٣: ١٨-٢٢)، (٢تس ٢: ٩-١٧)، (٢بط ٩-١٥)، (أع ٢٨: ٧-١١)، (مز ٢٦: ١١،١٠)، (لو٤: ١-١٣).

شــرح القـــراءات

تتكلّـم قـراءات اليـوم عن رصيد النصرة ابن الله وحضوره وقوّته ورصيده في أولاده وخدّامه.

تبدأ القــراءات بنزول موسي النبي لمصر لملاقاة فـرعـون ومعه وعـود الله وأيضاً عصا الله في يده وذهب لفـرعـون بسند ورصيد سمائي وقـوّة من فـوق جعلته لا يضطرب من الملك.

“وأخــذ موسي العصا من الله بيده وقال الـرب لموسي عندما تذهب وتعود لمصر فأنظر جميع العجائب التي جعلتها في يدك تصنعها قـدام فـرعـون، وقل لبني إسرائيل أنا الـرب سأخرجكم من تجبّر المصريين وأخلصكم من عبوديتهم وأفـديكم بذراع رفيعة وأحكام عظيمة وأتخذكم لي شعباً وأكون لكم إلهاً”.

ومن يوئيل النبي يعلن الـرب رصيده الدائم للإنسان ليس فقط في العطايا لكن أيضاً في التعـويضات.

“وأعـوّض لكم عن السنين التي أكلها الجراد، وتشبعون وتسبحــون الــرب إلهكم الذي صنع معكـم العجائب ولايخـزي شعبي إلى الأبـد فتعلمون أني أنا كائن في وسط إسرائيـل”.

ويحـذّر في نبـوءة إشعياء الظالمين والسالبين من غياب سندهم وملجأهم ونفاذ رصيدهم يوم الضيـق.

“ويل للذين يشترعون شرائع الظلم والذين يكتبون كتابة الجور، فماذا تصنعون في يوم الإفتقاد وفي الضيق الآتي من بعيد وإلى من تلجأون للنصرة وأين تتركون مجدكم”.

وتعلـن نبـوءة أيـوب صفات صاحب الرصيد.

“عنده الحكمة والجبروت وله المشورة والفطنة وإن هدم فمن يبني وإن أغلق على البشر فمن يفتح”.

لذلك في مزمـور باكـر طلب النفس الوحيد هو سكناها الدائم في الكنيسة أمانها وضمانها وحصنها.

“واحدةً سألتُ من الـرب وإياها ألتمس أن أسكن في بيت الـرب جميع أيام حياتي”.

ويشرح إنجيل باكر كيف ينمو الرصيد بالـرجل الـذي يـزرع ويتعب في زرعته فتأتي بثمر كثير، والمرأة التي تخبئ خميرتها حتى يختمر الجميع.

“إنه يشبه حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في بستانه فنمت وصارت شجرة كبيرة وتآوت طيور السماء في أغصانها”.

ويـوضّح البـولس كيف يعلـن الله رصيده وكيف نحفظ نحن رصيدنا.

“لأن الله اختاركم منذ البدء للخلاص بتقـديس الـروح والإيمان بالحق الأمر الذي دعاكم إليه بانجيلنا حياة المجد، فاثبتوا إذن أيها الأخوة وتمسكوا بالتقاليد”. أي أن رصيد الله لنا هـو إختيارنا وتقديسنا وحفظنا لـرصيده في ثباتنا وتمسّكنا.

ويعلن الكاثوليكون فـراغ رصيد الأشرار.

“أما هـؤلاء فكالحيوانات غير الناطقة الطبيعية الصائرة للهلاك والإقتناص يجدفون على ما لا يعلمون”.

بينما يشير الإبركسيس إلى رصيد الخدّام والكارزين من مواهب شفاء.

“وكان أبو بوبليـوس ملقي مريض قدامهم بحمي ورجع الأمعاء فدخل إليه بولس وصلي ووضع يديه عليه فشفاه فلما صار هذا كان الباقـون الذين بهم أمراض في الجزيرة يأتون إليه ويشفـون”.

لذا تصرخ النفس في مزمور القـدّاس ليسمع الله صوتها ويرحمها.

“استمع يا رب صوتي الذي به دعوتك إرحمني واستجب لي”.

ويختـم إنجيل القـدّاس برصيدنا الدائـم في المسيح رصيد نصرتنا وغلبتنا وسلطان كلمته لسحق الشيطان لذلك إنتصر على إبليس بما هـو متاح لنا جميعاً بكلمة الله الحيّة الفعّالة التي هى أقوي من كل سيف ذي حدّين وحياة الصوم.

“فأجابه يسوع قائلاً مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله”.

ملخّص القـــراءات

سفر الخروج رصيد موسي النبي للنصرة وعود الله وعصا الله في يده.
سفر يوئيل رصيد الله لشعبه لا يشمل فقط العطايا لكن أيضا التعويضات.
سفـر إشعياء والكاثوليكون غياب وإختفاء رصيد الأشرار وقت الضيق.
سفر أيـوب إمكانيات صاحب الرصيد.
مزمور باكر رجاء النفس الوحيـد وأمانها ورصيدها هو السكنى الـدائـم في بيت الـرب
إنجيل باكر ينمو الرصيد بالتعب في الزرع ليأتي بثمر كثير.
البولس كيف يعلن الله رصيده وكيف نحفظه نحن ونصونه.
الإبركسيس رصيد الخـدّام والـرعـاة والكارزيـن من المواهب.
مزمور القـدّاس صراخ النفس الدائم لنوال مراحم الله أمان رحلة حياتها على الأرض.
إنجيل القدّاس رصيدنا الدائم في المسيح الإمتلاء من الروح  بغني الكلمة وحياة الصوم

 

الكنيسة في قــراءات اليــوم

سفـر أيـوب أيّام الإنسان المحسوبة على الأرض.
مزمور باكـر بيت الــرب.
البـولس ظهور ضدّ المسيح.
البـولس التقليد الرسولي.
الكاثـوليكون الدينونة الإلهية وحقيقة الملائكة.
إنجيل القـدّاس الصوم.
إنجيـل القـدّاس الإمتلاء من الـروح القــدس.

 

عظات آبائية :

المسيح بين المصارعين – القديس كيرلس الكبير

العظة الآبائية الأولى:

المسيح له المجد يظهر بين المصارعين وهو نفسه كإله يمنح الجائزة – عند القديس كيرلس الكبير

لذلك، حينما يقول الإنجيلي الحكيم عنه: “أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح”، فلا تعثروا ولاتخطئوا في أفكاركم الداخلية وتحيدوا عن تعليم الحق، فيما يخص الطريق والكيفية التي بها تقدس الكلمة الذي هو الله، بل بالحري افهموا حكمة التدبير التي بسببها، هو موضوع إعجابنا، لأنه قد صار جسداً وأصبح إنساناً، لا لكي يتحاشى كل ما يخص بحالة الإنسان ويحتقر فقرنا، بل لكي نغتني نحن بما هو له، وذلك بأنه قد صار مثلنا في كل شئ ما خلا الخطية، لذلك فهو يتقدس كإنسان، ولكنه يُقَدِّس كإله، لأنه إذ هو بالطبيعة إله صار إنساناً.

لذلك يقول الإنجيلي: “وكان يُقتاد بالروح في البرية أربعين يومًا يُجرَب من إبليس”، فما هو اذاً معني كلمة يُقتاد؟ إنها لا تعني توصيله الى هناك، بقدر ما تعني إنه أقام واستمر هناك. لأننا نحن أنفسنا أيضاً اعتدنا أن نقول عن أي واحد يحيا بالتقوى، إن فلاناً أو فلاناً أيًا كان الشخص إنما يحيا حياة صالحة. ونحن نعطي لقب مُرَبِّي لا لنشير به بحسب المعني الحرفي إلى أولئك الذين يقودون الأطفال فعلاً، بل نعني أنهم يعتنون بهم ويدربونهم بطريقة حسنة جديرة بالثناء، مربين إياهم ومعلمينهم أن يسلكوا بطريقة لائقة.

إذا فهو قد أقام في البرية بالروح، أي روحياً، فإنه صام، ولم يُمنح أي طعام إطلاقاً لحاجات الجسد، ولكني أتخيل أن البعض قد يعترضون على هذا قائلين:

وما هو الضرر الذي يلحق يسوع من الإقامة الدائمة في المدن؟، وما هو الذي يفيده حتي يختار الإقامة في البرية؟، فليس هناك شئ حسن يحتاج إليه، وأيضاً لماذا هو يصوم؟، وما الذي كان يضطره أن يتعب وهو الذي لا يعرف أي إحساس بتحرك أي رغبة منحرفة؟، فنحن نمارس الصوم كوسيلة نافعة جداً نميت اللذات بواسطته ونقاوم ناموس الخطية الذي في أعضائنا، ونقتلع تلك العواطف التي تؤدي إلى الشهوة الجسدية. أما المسيح فأي حاجة له إلي الصوم؟ فهو الذي بواسطته يبيد الآب الخطية في الجسد. وبولس الإلهي إذ عرف هذا كتب: “لأن الناموس فيما كان عاجزاً عنه بسبب ضعفه بواسطة الجسد فإن الله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح” (رو٨. :٤،٣). لذلك فهو الذي يميت حركات الجسد فينا نحن أنفسنا الكائنات البائسة، وقد أباد الخطية، فأي صوم يمكن أن يحتاجه فيما يخصه هو نفسه؟ إنه قدوس وغير مدنس بالطبيعة، وهو نقي تماماً وبلا عيب، وهو لا يمكن أن يحدث له ولا ظل تغيير. فلماذا إذاً جعل إقامته في البرية وصام وجُرِّبَ؟

يا أحبائي إن المسيح كمثال لنا يهتم بنا، فهو يضع أعماله أمامنا كنموذج لنا، ويؤسس مثالاً للحياة الفضلي والعجيبة التي يمكن أن تُمَارَس في وسطنا، وأنا أعني حياة الرهبان القديسين، لأنه منذ متى كان ممكنًا للناس على الأرض أن يعرفوا أن عادة السكن في الصحاري هي نافعة لهم، ومفيدة جداً للخلاص؟ لأنهم يعتزلون من أمام الأمواج والعواصف ومن الاضطراب الشديد وارتباكات هذا العالم الباطلة، وهكذا كما لو كانوا مثل يوسف المبارك، فأنهم يتجردون ويتركون للعالم كل ماهو خاص به.

وبولس الحكيم يقول شيئاً مثل هذا أيضًا عن أولئك الذين يريدون أن يعيشوا هكذا: “ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غل ٢٤:٥). وهو يبين لأولئك الذين يختارون هذه الطريقة للحياة أن الإمساك ضروري، الذي ثمرته الصوم وقوة الإحتمال، والإمساك عن الطعام أو أخذ القليل منه. فإنَّه عندئذ حينما يُجرِّب الشيطان فإنه سيهُزم.

لاحظوا هذا بنوع خاص أن الرب إعتمد أولاً وإمتلأ من الروح القدس، وبعد ذلك ذهب إلى البرية ، ومارس الإمساك أي الصوم كما لو كان سلاحاً له، وهكذا إذ كان مستعداً فحينما إقترب منه الشيطان إنتصر عليه، وبذلك فقد وضع نفسه أمامنا كنموذج لنا.

فأنت، لذلك أيضاً أن تلبس أولاً سلاح الله، وترس الإيمان، وخوذة الخلاص. ينبغي أولاً أن تلبس قوة من الأعالي، أي ينبغي أن تصير مشتركاً في الروح القدس بواسطة المعمودية الثمينة، وحينئذ يمكن أن تسلك الحياة المحبوبة والمكرَّمة لدي الله، وحينئذ يمكنك بشجاعة روحية أن تسكن في الصحاري، وحينئذ تحفظ الصوم المقدس وتميت الأهواء وتهزم الشيطان حينما يجربك، لذلك فإننا في المسيح قد حصلنا علي كل الأشياء…

ياللعجب فإنه يظهر بين المصارعين وهو نفسه كإله يمنح الجائزة، يظهر بين أولئك الذين يلبسون إكليل النصر، وهو الذي يكلل هامات القديسين.

لذلك فلننظر ولنلاحظ مهارته في مصارعته وكيف هزم خبث الشيطان وشره، فحينما قضي أربعين يوماً صائماً فإنه جاع أخيراً ولكنه هو نفسه يعطي الجياع طعاماً، وهو نفسه الخبز النازل من السماء الواهب حياة للعالم، وهو الذي به تقوم كل الأشياء. ولكن من الجهة الأخرى، بسبب أنه كان من الضروري لذلك الذي لم يرفض فقرنا، أن لا ينسحب من أي شئ يخص حالة الإنسان، لذلك فقد وافق أن يحتاج جسده للمؤونة الطبيعية. وهذا هو السبب للقول “أنه جاع” ولكنه مع ذلك لم يَجُع إلا بعد أن صام مدة كافية، وبقوته الإلهية قد حفظ جسده من الخوار، رغم امتناعه عن الطعام والشراب، لكي يسمح لجسده أن يشعر بالإحساسات الطبيعية كما هو مكتوب “إنه جاع”. ولأي سبب هذا؟ لكي بمهارة بواسطة الاثنين[2]، فإنَّ ذلك الذي هو إله وإنسان معاً في نفس الوقت يمكن أن يُعرَف بهاتين الصفتين في نفس الشخص الواحد: أي اعلي مِنَّا بطبيعته الإلهية، ومساوٍ لنا في بشريته.[2]

 

 

الحرب الروحية – عند القديس مقاريوس الكبير

الانسان المسيحي يخوض معركتين، معركة داخلية وأخري خارجية:

à   المعركة الخارجية هي في ابتعاده عن الإرتباكات العالمية،

à   وأما المعركة الداخلية فتحدث في القلب ضد إيحاءات أرواح الشر.

 الحرب الخارجية والحرب الداخلية

١- الإنسان الذي يريد حقيقة أن يرضي الله، ويكون معادياً حقاً للعدو الشرير، ينبغي أن يقاتل في معركتين:

• معركة منهما تكون في الأمور المنظورة لهذه الحياة، وذلك بأن يتحول تماماً ويبتعد من الإرتباكات الأرضية، ومحبة الإرتباطات العالمية ومن الشهوات الخاطئة.

• والمعركة الأخرى تحدث في الداخل – في الخفاء ضد أرواح الشر نفسها، كما يقول الرسول: “فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء، مع أجناد الشر الروحية في السماويات” (أف٦: ١٢).

نوعان من القيود:

٢- فالإنسان حينما تعدى الوصيَّة وطرد من الفردوس، صار مقيداً من ناحيتين، وبقيدين مختلفين:

• أحد هذين القيدين كان عن طريق هذه الحياة، أي في اهتمامات المعيشة ومحبة العالم، أعني محبة اللذات الجسدية والشهوات، ومحبة الغنى والعظمة والمقتنيات والزوجة والأولاد، والأقرباء والأهل والبلد، والأمكنة الخاصة، والملابس وكل الأشياء الأخرى المتصلة بالحواس، والتي تحثه كلمة الله على أن ينفك منها باختياره، (حيث أن ما يربط أي انسان بكل أمور الحواس إنما يكون باختياره ورضاه)، حتي إذا تحرر من كل هذه الإهتمامات يستطيع أن يحفظ الوصيَّة حفظاً كاملاً.

• والى جانب هذا الرباط – ففي كيان الإنسان الداخلي، تكون النَّفس محاصرة بسياج ومربوطة بقيود الظُّلمة من أرواح الشر، فيكون الإنسان غير قادر أن يحب الرب كما يريد، أو أن يؤمن كما ينبغي، أو أن يصلي كما يرغب. فمن كل ناحية توجد مقاومة سواء في الأمور المنظورة والظاهرة أو في الأمور الخفية غير المنظورة، وهذه المقاومة قد نتجت وصارت فينا من سقوط الإنسان الأول.

قبول الكلمة واكتشاف الحرب الداخلية:

٣- لذلك فحينما ينصت أي انسان لكلمة الله ويقبلها، ويدخل في المعركة ويلقي عنه اهتمامات هذه الحياة ورباطات العالم وينكر كل اللذات الجسدية ويتحرر منها، فبعد ذلك إذ يلازم الرب وينتظره بمثابرة في الصلاة وبمداومة، فإنه يصير في وضع يمكنه من أن
يكتشف وجود حرب أخرى في داخل قلبه، إنه يكتشف مقاومة خفية وحرب أخرى مع إيحاءات أرواح الشر وتنفتح أمامه معركة أخرى.

وهكذا بوقوفه ثابتاً صارخاً إلى الرب يإيمان لا يتزعزع وصبر كثير، منتظراً الحماية والمعونة التي تأتي منه، فإنه يستطيع أن يحصل من الرب على حرية داخلية من القيود والسياجات والهجمات وظلام أرواح الشر التي تعمل في مجال الشهوات والأهواء الخفية.

نعمة الله تبطل الحرب تماماً:

٤- ولكن هذه الحرب تبطل وتنتهي تماماً بنعمة الله وقوته. فلا يستطيع إنسان بنفسه، أن ينقذ نفسه بقوته الخاصة من مقاومة وغوايات الأفكار والشهوات الداخلية وحيل الشر.

أما إذا كان الإنسان مربوطاً بالأمور المادية الحسية التي لهذا العالم، وواقعاً في شرك الرباطات الأرضية المتنوعة ومنساقاً بشهوات الشر، فإنه لا يستطيع حتي أن يكتشف وجود معركة أخرى، وأن هناك حرب تدور في داخل نفسه.

فالإنسان حينما يدخل المعركة ويتحرر من الرباطات العالمية الخارجية، ويحل نفسه من الأمور المادية ولذات الجسد، ويبتديء أن يتعلق بالرب ويلتصق به، مفرغاً نفسه من هذا العالم، فإنه حينئذ يستطيع أن يرى ويكتشف حرب الشهوات والأهواء الداخلية التي تحدث في باطنه. ويصير واعياً وعارفاً بهذه الحرب الداخلية، وحرب الايحاءات الشِرّيّرة.

وكما قلت سابقاً، فإنه إذا لم يناضل وينكر العالم ويتحرر من الشهوات الأرضية بكل قلبه، ويشتهي ويصمم بكل نفسه أن يصير ملتصقاً كلية بالرب، فإنه لا يكتشف ويعرف خداع أرواح الشر الخفي وشهوات الشر الخفية. ويظل غريباً عن نفسه ولا يعرف أنه مجروح من الداخل، وأن فيه شهوات خفية، وهو لا يدري بها. لأنه لا يزال مربوطاً بالأشياء الخارجية ومتعلقاً بأمور هذا العالم وارتباكاته برضاه وموافقته.

نوال السلاح السَّماويّ والانتصار:

٥- ولكن الإنسان الذي رفض العالم حقاً وطرح عنه ثقل هذه الأرض وألقى عنه الشهوات الباطلة الجسدية، وشهوات المجد والسلطان والكرامات البشرية وابتعد عنها جميعا بكل قلبه – (حيث أن الرب يعطيه النعمة والمعونة سراً في هذا الصراع المستمر، حتي أنه يتنكر للعالم تماماً) – ووضع في قلبه بثبات أن يخدم الرب ويعبده ويلتصق به بكل كيانه، جسداً ونفساً، مثل هذا الإنسان، أقول، إنه يكتشف وجود المقاومة، أي الأهواء الخفية والقيود غير المنظورة والحرب الخفية – أي المعركة والصراع الداخلي، وهكذا اذ هو يتوسل إلى الرب، فإنه ينال السلاح السَّماويّ: سلاح الروح القدس، الذي وصفه الرسول المبارك بقوله: “درع البر، وخوذة الخلاص، وترس الايمان، وسيف الروح” (أف٦: ٤). واذ يتسلح بهذه الأسلحة فإنه يستطيع أن يقف ضد خداعات إبليس، حتي رغم كونه محاطاً بالشرور.

وإذ قد سلح نفسه بهذا السلاح بكل صلاة ومواظبة وطلبة وصوم مع إيمان، فإنه يصير قادراً أن يحارب ضد الرئاسات والسلاطين وولاة ظلمة هذا العالم، وهكذا بانتصاره على القوات المعادية بمساعدة الروح القدس، مع سعيه وغيرته في كل فضيلة، فإنه يكون معداً للحياة الأبدية، ممجداً للآب والابن والروح القدس الذي له المجد والقدرة إلى الأبد آمين.[3]

 

المسيح حارب عنا وغلب – القديس أغسطينوس

المسيح حارب عنا وغلب:

✥ هذه الأمور الثلاثة موجودة ولا يمكن أن يُختَبَر الطمع البشري والجشع بغير هذه الأشياء: شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة. وهذه الثلاثة تعرض لها الرب حين جربه الشيطان. (مت٤: ١- ١٠).

تعرض الرب للتجربة بشهوة الجسد حين قيل له: “إن كنت ابن الله فقل أن تصير الحجارة خبزاً” حين جاع بعد الصوم الطويل.

ولكنً بأي طريق قد صَدَّ الرب المُجرِّب وعلم جنوده فنون الحرب؟

لاحظوا ماذا قال له: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله.

وتعرض أيضا لتجربة شهوة العيون التي تتعلق بصنع المعجزات حين قال له: “إطرح نفسك إلى أسفل لأنه مكتوب أنه يرسل ملائكته ليحملونك على أيديهم لئلا تصدم بحجر رجلك” وقد قاوم الرب المجرب ولم يصنع المعجزة، لأنه لو صنعها لكان يبدو أنه أذعن للشيطان، أو صنعها كنوع من لفت النظر. ولكن الله يصنع حين يشاء لكي يشفي الضعفاء، لأنه لو كان قد صنع المعجزة هنا لكان يُظَن أنه يريد فقط عمل المعجزة. ولئلا نظن ذلك، لاحظوا كيف أجاب حتي حين تتعرضون لتجربة مشابهة تجيبون بنفس الكلمات: “إذهب عني يا شيطان لأنه مكتوب لا تجرب الرب الهك”أي إنني إذا فعلت ذلك أكون كمن يجرب الله ..

لقد قال ما يريد أن تقولوه أنتم (أمام التجربة).

قد يعرض العدو عليكم ذلك ويقول: أي نوع من الرجال أنت؟ .. أي نوع من المسحيين أنت؟ إنك لم تصنع معجزة واحدة، صلِ لكي تقيم الموتى، صلِ لكي تخرج الشياطين!.

إذا تعرضت لهذه التجربة في أي لحظه أجب وقل: “مكتوب لا تجرب الرب الهك” لذلك سوف لا أجرب الرب إلهي كما لو أنني أكون فقط من خاصته حين أصنع المعجزات ولا أكون من خاصته إذا لم أصنع معجزة وما معني كلماته، إذاً “إفرحوا أن أسماءكم مكتوبة في السموات”؟.

كيف تجرب الرب بتعظم المعيشة؟

حين أخذه ابليس إلى مكان عالٍ وقال له. “أعطيك كل هذه إن خررت وسجدت لي” أراد الشيطان أن يُجرِب ملك العالم كله بمجد وعظمة هذا العالم الأرضي ولكن الرب خالق السماء والأرض سحق الشيطان تحت أقدامه.

ما هي الفائدة العظيمة التي عادت علينا من نصرته على الشيطان؟

لقد أراد بإجابته أن يعلمنا ما يجب أن نعمله، مكتوب للرب الهك تسجد وإياه وحده تعبد.

إذا تمسكت بهذا لن تبق فيك رغبة ملحة أو شهوة جامحة نحو العالم.

وإذا ذهبت من حياتك شهوة العالم فسوف لا تتعرض للتجربة بشهوة الجسد أو شهوة العيون وتعظم المعيشة.

بذلك سوف تفسح مكاناً للمحبة الأخوية حين تأتي إلى قلبك فيمكنك أن تحب الله. لأنه إذا كانت محبة العالم موجودة فإن محبة الله لا يمكن أن تتواجد. تمسك بقوة محبة الله لأن الله يبقي إلى الأبد لكي تبقي معه إلى الأبد.

لأن مثل كل إنسان هكذا تكون محبته.

هل تحب الأرض؟! سوف تصير إلى الأرض.

هل تحب الله؟ ماذا أقول؟ هل تصير إلهاً؟!

ما كان يجب أن أتجرأ لأقول ذلك من عندي لولا قول الكتاب: “أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم” (مز ٨٢: ٦).

“لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم، إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب لأن كل ما في العالم: شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم (من الناس، من الذين يحبون العالم) والعالم يمضي وشهوته أما من

يصنع إرادة الله فيثبت إلى الأبد”.[4]

 

 

العظة الآبائية الرابعة: نصرتي في المسيح – عند القديس أمبروسيوس

لنتأمَّل كيف طُرد آدم الأول من الفردوس، ولنعرف كيف رجع آدم الثاني من البرِّيَّة إلى الفردوس، ولنتأمَّل أيضًا كيف تمَّ الإصلاح وبأي ترتيب حدث.

وُلد آدم من أرض بكر، ووُلد المسيح من العذراء (البكر)،

خُلق آدم على صورة الله، أما المسيح فهو صورة الله (الجوهريَّة).

كان للأول سلطان على كل الحيوانات غير العاقلة، أما الثاني فله سلطان على كل شيء.

اتَّصفَت حواء بالتردُّد، واتَّصفت العذراء بالحكمة.

جاءت الشجرة بالموت، وجاء الصليب بالحياة.

 كان الأول في الفردوس، أما المسيح فكان في البرِّيَّة، لكنه جاء ليبدِّد ضلال المحكوم عليه ويردُّه للفردوس…

لم يكن ممكنًا أن يتراجع الله عن حُكمه، فتمَّ حُكم الموت في واحد عوض الآخر.

إن كان آدم قد سقط وهو في الفردوس لعدم وجود الراعي، فكيف كان يمكنه أن يجد الطريق وهو في البرِّيَّة بلا راعٍ يقوده؟ ففي البرِّيَّة تكثر التجارب… ويسهل الانحدار نحو الخطيَّة…

أي راع يستطيع أن يعيننا أمام فِخاخ هذه الحياة وخِداعات إبليس “لكي نجاهد ليس ضد لحم ودم، بل ضد الرؤساء والسلاطين وأجناد الشر الروحيَّة في الهواء” (أف ٦: ١١)؟! هل يُرسل الله ملاكًا وقد سقط بعض الملائكة…؟! هل يرسل ساروفًا، هذا الذي نزل على الأرض وسط شعب نجس الشفتين (إش ٦:٦)، لم يُطهِّر سوى شَفتيّ نبي واحد بجمرَّة من نار؟!

إذن كان يلزم البحث عن راعٍ آخر نتبعه جميعنا؛ فمن هو هذا الراعي العظيم الذي يستطيع أن يهيئ الخير للجميع إلا ذاك الذي هو أعلى من الكل؟! من يرفعني فوق هذا العالم إلا مَن هو فوق العالم؟! من هو هذا الراعي العظيم الذي يستطيع بقيادة واحدة يرعى الرجل والمرأة، اليهودي واليوناني، أهل الختان وأهل الغُرلة، البربري والسكِّيثي (كو ٣ : ١١)، العبد والحر، إلا ذاك الذي هو الكل في الكل؟!

الفخاخ كثيرة أينما ذهبنا، فخاخ الجسد، وفخاخ الناموس (حرفيَّته)، والفخاخ التي ينصبها إبليس على جناح الهيكل وعلى قمَّة الجبل، وفخاخ الفلسفات، وفِخاخ الشهوات، لأن العين الزانية هي فخْ الخاطئ (أم ٧: ٢٢)، وفِخاخ محبَّة العالم، وفِخاخ التديُّن (الرياء)، وفِخاخ في حياة الطهارة (احتقار سرّ الزواج)… غير أن أفضل طريقة تحطِّم هذه الفِخاخ هو عرض طُعم لإبليس لينقَضْ على فريسته فينطبق الفخْ عليه، عندئذ نستطيع أن نردِّد: “نصبوا لرجلي فخاخًا فسقطوا فيها” (مز٥٦: ٧). ما هذا الطُعم إلا الجسد… فقد أخذ الرب جسد تواضعنا وضعفنا، ليُعطي فرصة للعدو أن يحاربه فينهزم العدو إبليس…

الآن المسيح في البرِّيَّة يقود الإنسان ويعلِّمه ويشكِّله ويدرِّبه ويدهنه بالمسحة المقدَّسة، وعندما يراه قويًا يقوده إلى المراعي الخضراء المخصبة… أخيرًا يقوده إلى البستان أثناء الآلام، كما هو مكتوب: “تكلَّم يسوع بهذا ثم خرج مع تلاميذه إلى جبل الزيتون، حيث كان بستان دخله مع تلاميذه” (يو١٨ : ١)… أخيرًا فإن إرجاع الإنسان بقوَّة الرب تؤكِّد لنا هذه الحقيقة التي أبرزها القدّيس لوقا بين كل البشريِّين، بتلك الكلمات التي قالها الرب للِّص: “أنك اليوم تكون معي في الفردوس” (لو٢٣: ٤٤).

ينكشف لنا من هذه التجربة أن لإبليس ثلاثة سهام اعتاد أن يستخدمها ليجْرح قلب الإنسان: شهوة الأكل، المجد الباطل، الطمع! (يبدأ من حيث اِنتصر إبليس) هكذا تبدأ نُصرتي في المسيح من حيث غلبني إبليس في آدم…

يقول: “إن كنتَ ابن الله”، فقد كان إبليس يعلم تمامًا أنه ينبغي أن يأتي ابن الله، لكنه لم يكن يعتقد أنه يأتي في ضعف، لهذا أراد أن يتأكَّد ثم يُجرِّبه بعد ذلك…

انظروا أسلحة المسيح التي بها اِنتصر من أجلكم وليس لأجل نفسه، فإنه قادر أن يحوِّل العناصر (كما في عرس قانا الجليل)، لكنه يعلِّمنا ألا نطيع إبليس في شيء، ولا لإظهار قوَّتَك. لنعرف أيضًا من هذه التجربة مهارة إبليس الخادعة فهو يجُرِّب ليتأكَّد من الحقيقة ليخترق الإنسان ويُجرِّبه… ولم يستخدم الرب سلطانه كإله وإلا فإننا لم نكن نجني فائدة، إنما استخدم الإمكانيَّة العامة وهي استخدام كلام الله.

لما سمع إبليس اسم “الله” فارقه إلى حين، إذ جاء بعد ذلك لا ليُجربه وإنما ليُحاربه علانيَّة. والكتاب المقدَّس يُعرِّفك أنك في حرب ليس مع لحم ودم بل مع السلاطين والرؤساء مع أجناد الشر الروحيَّة (أف ٦: ١٢).

اُنظر رِفعة المسيحي الذي يُحارب رؤساء العالم (الشياطين)، فمع أنه يعيش على الأرض لكنه يبسط قوَّته الروحيَّة أمام أرواح الشرّ في السماويَّات. ونحن لا نُكافأ بأمور أرضيَّة في حربنا من أجله إنما مكافآتنا روحيَّة هي ملكوت السماوات وميراث المسيح.

يليق بنا أن نجاهد بكل مقاومة لإبليس، فالإكليل مقدَّم لنا، ويلزمنا أن نقبل الدخول معه في حرب. لا يكلَّل أحد ما لم يَغلب، ولا يمكن له أن يغلب ما لم يحارِب (٢تي٢:٥). والإكليل يعظُم كلما كثر الألم، لأنه ضيق وكرب هو الطريق المؤدِّي للحياة، وقليلون هم الذين يجدونه، وواسع هو الطريق المؤدِّي للموت (مت ٧: ١٣).

يليق بنا ألا نخشى تجارب هذه الحياة قط، فهي فرصة مقدَّمة للغلبة ومادة للنصرة…

المُضل يُكثر من جرح المجاهد، ومع ذلك فالمُجاهد في شجاعته لا يضطرب قلبه…

إن تعرَّضت للتجارب فاعلم أن الأكاليل تُعد…!

أُلقى يوسف في السجن كثمرة لطهارته، لكنه ما كان يشارك في حكم مصر لو لم يبعه إخوته.[5]

 

عظات آباء وخدام معاصرون :

حياة الغلبة والإنتصار للمتنيح البابا شنودة الثالث

نحن أعضاء الكنيسة المجاهدة على الأرض، نجتاز هنا فترة اختبار نتعرض فيها لحروب روحية كثيرة، شرحها القديس بولس الرسول فقال “إن مصارعتنا ليست مع لحم ودم، بل.. مع أجناد الشر الروحية في السماويات” (أف ٦ : ١٢).. وقال إنها حرب تحتاج إلى “سلاح الله الكامل، لكي نقدر أن نثبت ضد مكايد إبليس ” (أف ٦ : ١١).

إن الله يريدنا أن ننتصر في هذه الحرب. والسماء كلها ترقب جهادنا، وتفرح إذ ترانًا غالبين.

الملائكة وأرواح القديسين في السماء، يصلون لأجلنا لكي ننتصر، “ويكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب” (لو ١٥ : ٧). كذلك نعمة الله تعيننا لكي ننتصر، وروح الله يعمل فينا لكي نغلب.. أما إن سقطنا وانهزمنا، فإننا بهذا نحزن روح الله القدوس الذي ختمنا به” (أف ٤ : ٣٠).

الإنسان الروحي هو إنسان منتصر.

لأن روحه قد انتصرت على شهوات الجسد، وقد انتصرت في حروب الشياطين. وقد غلبت العالم والمادة. روحه تزفها الملائكة بتهليل إلى السماء، حينما تأتى ساعته.

والإنسان الروحي ينتصر، لأنه إنسان قوى، يعمل فيه روح الله بقوة. وقد صارت إرادته في تسليم كامل لإرادة الله.

الإنسان الروحي لا يحاول أن ينتصر على غيره.

لأنه يحب غيره، ويقدمه على نفسه في الكرامة (رو ١٢ : ١٠)، بينما يأخذ هو المتكأ الأخير (لو ١٠:١٤). إنه يحب أن ينتصر على الشر، وليس على الأشرار. يحب أن ينتصر على نفسه، وليس على الآخرين. وهو لا يحب أن ينتصر على الضعفاء والمخطئين، بل بالأكثر أن يحتملهم. كما قال الرسول “يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعفات” (رو ١٥ : ١).

هناك مجالات كثيرة ينتصر فيها الإنسان الروحي:

  •    إنه ينتصر أولًا على نفسه.

ينتصر في الداخل أولا، لأن انتصاره الداخلي هو الذي يساعده في الانتصار على الحروب الخارجية.

الابن الضال (لو١٥) لم يستطع أن يرجع إلى أبيه، إلا بعد أن انتصر من الداخلي، ولم تعد له شهوة في الكورة البعيدة، بل شعر فيها بسوء حالته..

ومن أعظم الأمثلة على الانتصار الداخلي ، يوسف الصديق. لقد كانت الإغراءات من الخارج قوية جدًا، وكانت تلح عليه كل (تك٣٩ :١٠). كانت الخطية هي التي تسعى إليه. ومع ذلك رفض كل تلك الإغراءات، لأن كان منتصرًا من الداخل، فاستطاع في نقاوة قلبه أن يقول “كيف افعل هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله” (تك ٣٩ : ٩). صدق القديس ذهبي الفم حينما قال: لا يستطيع أحد أن يضر إنسانًا، ما لم يضر هذا الإنسان نفسه.

أي أن العوامل الخارجية لا تهزمه إلا إذا كان مهزومًا من الداخل أولًا. ولهذا يقول الرب “فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة” (أم ٤ : ٢٣).

إن القديس أغسطينوس كان يعيش في الخطية حينما كان مغلوبًا منها، أي حينما كان يشتهيها. ولكنه حينما انتصر على نفسه من الداخل، حينئذ قال عبارته الجميلة “جلست على قمة العالم، حينما أحسست في نفسي إني لا أشتهى شيئًا ولا أخاف شيئًا”.

فإن تعبت يا أخي يومًا، تأكد أنك متعب من الداخل. هناك ثقب في نفسك تدخل منه المتاعب الخارجية. لذلك قال الرب عن الإنسان الروحي المنتصر إنه ” جنة مغلقة ، عين مقفلة ، ينبوع مختوم ”  (نش ٤ : ١٢).

الخطية الخارجية، تبحث عن خطية داخلك، لكي تتحد معها، وتفتح لها أبواب القلب وأبواب الفكر.

والإنسان الروحي الذي يود داخله روح الله، هذا لا تجد الخطية التي في الخارج مكانًا لها في داخله. تطرق على بابه فلا يفتح لها، فتتركه وترحل.. عدو مثلًا يريد أن يثيرك لكي تخطئ، فيجدك غير قابل للاستثارة لأنك قوى في الداخل. ماذا يفعل إذن؟ أما أن يخجل ويتركك، أو أن يعتذر لك، أو يكف عن استخدام هذا الأسلوب معك..

  •  الإنسان الروحي ينتصر على الخطية والشيطان..

مادام قد انتصر على شهوة القلب من الداخل، فلابد أن ينتصر على الخطية من الخارج، على كل حروبها وكل أفكارها. ولا تخدعه مطلقًا حيل الشيطان بل كما قال القديس بولس الرسول عنه: لا يطمع فينا الشيطان، لأننا لا نجهل أفكاره (٢كو ٢ : ١١).

والإنسان الروحي إن حاربته الخطية، يقاومها بكل قوة.

مستفيدًا بذلك من توبيخ القديس بولس الرسول للعبرانيين “لم تقاوموا بعد حتى الدم، مجاهدين ضد الخطية” (عب ١٢ : ٤).

ومستمعًا إلى قول القديس بطرس الرسول “اصحوا واسهروا، لأن إبليس خصمكم كأسد زائر.. فقاوموه راسخين في الإيمان”، إن الإنسان الأول انخدع من حديث الحية (تك ٣)، وفقد صورته الإلهية، منهزمًا أمام الخطية.

أما الإنسان الروحي فليس كذلك. إنه يحب أن ينتصر، مستفيدًا من دروس الماضي.

إن أسوأ ما في هزيمة الأشرار، افتخارهم بخطاياهم: هؤلاء الذين قال عنهم القديس بولس “والآن أذكرهم أيضًا باكيًا، وهم أعداء صليب المسيح ، الذين نهايتهم الهلاك.. ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في الأرضيات” (فى ٣ : ١٨ ، ١٩).

أما الإنسان الروحي، فإن مجده في الآلام التي يتحملها لأجل الرب، منتصرًا على ذلك الخزي الذي يفرح به الخطاة.

               الإنسان الروحي ينتصر على العوائق التي تقف في طريق حياته الروحية.

وينتصر أيضًا على العوائق التي تعترض نموه الروحي. إنه لا يسمح لشيء أن يعطله لغيرته انظروا ماذا قال القديس بولس : “من سيفصلنا عن محبة المسيح؟! أشدة أم ضيق أم اضطهاد، أم جوع أم عرى، أم خطر أم سيف؟! ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا. فإني متيقن أنه لا موت، ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا” (رو ٨ : ٣٥ – ٣٨).

               الإنسان الروحي لا يقدم أعذارًا إذا لم ينتصر. بل يقدم اعترافاً بالخطأ وتوبة.

إن الأعذار لا تبرر الهزيمة أمام العدو. لقد لجأ كل من آدم وحواء إلى تقديم الأعذار، فلم تكن مقبولة منهم أمام الله. فالله قد وضع أمامنا كل وسائل النصرة وهو مستعد أن يقودنا في موكب نصرته” (٢كو ٢ : ١٤).. العيب إذن إرادتنا. وكل محاولة لتبرير هزيمتنا في حروبنا الروحية، هي خطية أخرى تضاف إلى هذه الهزيمة..

               الإنسان الروحي ينتصر أيضًا على الضيقات والمشاكل

المشكلة لا تهزه، ولا تهزمه، ولا تضعف معنوناته، ولا تعكر نفسيته، ولا يستطيع أن تلقيه في دوامات القلق والاضطراب والشك. إنما هو ينتصر على المشكلة ولا يضيق قلبه به، ولا يفقد سلامه بسببها.

إنه ينتصر على المشاكل بالإيمان وبالصلاة والصبر.

ولعل من الأمثلة البارزة في هذا المجال: أيوب الصديق. كانت المشاكل التي حلت عليه، أصعب من أن يحتملها قلب إنسان عادى. من ذا الذي يستطيع أن يحتمل فقد كل بنيه وبناته في يوم احد؟ ويفقد معهم كل ثروته وغناه؟! ولكن هذا الإنسان الروحي لما سمع هذه الأخبار المحزنة قال “الرب أعطى، الر أخذ فليكن اسم الرب مباركًا”، “عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك” (أى١ :٢١). لذلك حسنًا قال الله عنه إنه “ليس مثله في الأرض. رجل كامل ومستقيم” (أى ٢ : ٣).

الإنسان الروحي، لا ينتصر فقط على الضيقة، بالاحتمال، بل أكثر من هذا يفرح بها.

كما قال القديس يعقوب الرسول “احسبوه كل فرح يا أخوتي، حينما تقعون في تجارب متنوعة” (يع1: 2). كما قال القديس بولس الرسول “بكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي، لكي تحل على قوة المسيح. لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح..” (٢كو ١٢ : ٩ ، ١٠).

وما أجمل ما قيل عن الآباء الرسل بعد أن سجنوهم، ثم جلدوهم وأطلقوهم.. قيل “وأما فذهبوا فرحين.. لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه” (أع ٥ : ٤١).

  • الإنسان الروحي إذا حَلَّت به ضيقة، يقول في إيمان: إنها للخير:

متذكرًا قول الرسول “كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله” (رو ٨ : ٢٨). لذلك فالضيقة لا تهزه، بل تقوى إيمانه، لأنه يعرف تمامًا أن الطريق الموصل إلى الله، هو طريق ضيق (مت ٧ : ١٤). فهو يتوقع إذن هذا الضيق، ويسر به لأنه دليل على أنه سائر في طريق الله. ثم هو بالإيمان ينتظر تدخل الله لإخراجه من الضيقة. وعلى أية الحالات فإنها تحمل له أكليلًا.. وبهذه المشاعر كلها ينتصر على الضيقة…

والإنسان الروحي لا يجد لذته في العالم، بل يفرح بالانتصار على العالم وما فيه من المادة والشهوات..

وما أجمل ما قاله أحد الأدباء “افرحوا لا لشهوة ونلتموها، بل لشهوة أذللتموها”. وبالانتصار على الشهوات يثبت الإنسان الروحي إنه ابن لله، لأن “كل الذين ينقادون بروح الله، أولئك هم أولاد الله” (رو ٨ : ١٤). إذا ينقادون بروح الله ينتصرون على الخطية ويفعلون البر، “المولود من الله لا يخطئ” (١يو ٣ : ٩).

  • وحياة الانتصار مفرحة، لأن الإنسان الروحي يصبح بها قدرة لغيره.

ويقدم للناس مثالًا على إمكانية حياة البر، وعلى أن حياة الانتصار هي واقع عملي يلمسونه أمامهم. كما يعطى مثالًا عن قوة أولاد الله التي ساعدتهم على الانتصار، كما قال القديس يوحنا للشباب “كتبت إليكم أيهًا الشباب “كتبت إليكم أيها الشباب، لأنكم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير” (١يو ٢ : ١). وكرر أيضًا تلك العبارة “وقد غلبتم الشرير” (١يو ٢ : ١٣).

  •     وحياة الانتصار مفرحة من أجل الوعود التي أعطاها الرب للغالبين.

وقد سجلت في الرسائل التي أرسلها الرب إلى الكنائس السبع التي في آسيا (رؤ٢ : ٣).

à   فقال لملاك كنيسة أفسس “من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله” (رؤ٢ : ٧).

à   وقال لملاك كنيسة سميرنا “مَنْ يغلب فلا يؤذيه الموت الثاني” (رؤ٢ : ١١). والمعروف أن:

l    الموت الأول هو مفارقة الروح للجسد.

l    أما الموت الثاني فهو الموت الأبدي، أو هو الحرمان من الله، والإلقاء في الظلمة الخارجية حيث البكاء وصرير الأسنان (مت ١٣ : ٤٢).

à   وقال لملاك كنيسة برغامس “مَن يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن الْمُخْفَى.. وأعطيه اسمًا جديدًا” (رؤ ٢ : ١٧).

à   وقال لملاك كنيسة ثياتيرا “مَن يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية، فسأعطيه سلطانًا على الأمم.. أخذت أنا أيضًا من عند أبي، وأعطيه كوكب الصبح” (رؤ ٢ : ٢٦ – ٢٨).

à   وقال لملاك كنيسة ساردس “ومَنْ يغلب سيلبس ثيابًا بيضًا، ولن أمحو اسمه من من سفر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبى وأمام ملائكته” (رؤ ٣ : ٥).

à   وقال لملاك كنيسة فيلادلفيا “مَن يغلب فسأجعله عمودًا، في هيكل إلهي” (رؤ ٣ : ١٢).

à   وقال لملاك كنيسة لاوديكية “مَن يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرش، كما غلبت أنا أيضًا وجلست مع أبي في عرشه” (رؤ ٣ : ٢١).

❈    ما أجمل هذا.. السيد المسيح يريدك أن تغلب، وأن تجلس معه في عرشه، في الملكوت الأبدي.

وإن كنت من الغالبين، تأكل من شجرة الحياة، ومن المن الْمُخْفَى، وتلبس ثيابًا بيضًا، وتصير عمودًا في هيكل الله ويصبح لك سلطان، وأسمك في سفر الحياة، بل يكون لك اسم جديد..

وإن غلبت تسكن في مدينة الله، في أورشليم السمائية مع الله والملائكة والقديسين (رؤ ٢١)، وترث الملك المعد للأبرار منذ تأسيس العالم (مت ٢٥ : ٣٤)، وحيث يكون المسيح، تكون أنت أيضًا (يو ١٤ : ٣)، وتتمتع بما لم تره عين، ولم تسمع به إذن، ولم يخطر على قلب بشر (١كو ٢ : ٩). ولا يقوى عليك الموت الثاني، بل تقوم في مجد، بجسد سماوي روحاني (١كو ١٥ : ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٩) ، كل هذه الأمجاد للغالبين.[6]

 

هل تعرف تجارتك ؟ قداسة البابا تواضروس الثاني

(لو٤ :١ – ١٣) هل تعرف تجارتك ؟

فـي إنجيـل يـوم الأربعـاء مـن الأسبوع الثالث يكلمنـا عـن التجربة على الجبـل أو التجربـة فـي البرية ، والسؤال الذي يوجهـه لـك ” هـل تعـرف تجاربك ؟” هـل تعـرف التجارب التي تدخل فيها ؟ عدو الخير عندما تقابـل مـع آدم ( الأول ) وحـواء ، أدخلهم فـي تجربـة وسقطوا وخالفوا وطردوا وأخذوا العقاب ، أما آدم ( الثاني ) ربنـا يسوع المسيح فدخل في التجربة ، والكتاب يذكر لنا ثلاث نوعيات من التجارب ولكنه انتصر . قد تقول السيد المسيح لا بد أن ينتصر وهذا بالتأكيد ، ولكنه انتصر ليس لنفسه بل لنا ، فانتصار السيد المسيح في التجربة على الجبل صار بمثابة كنز ونُصرة نأخذها نحن من التجارب التي نتعرض لها . يصف الكتاب المقدس الشيطان بأنه ” الكذاب وأبـو الكذاب والمضل “، والذي يهـوى هلاك الناس ، لذلك يعبر عنه الكتاب تعبيراً شديداً جداً ” إبليس خصمكم كأسد زائر، يجول ملتمساً من يبتلعه هو ” (١ بط ٥: ٨). وكلمة زائر تعني ” ردد الصوت “، عدو الخير يجول باستمرار حولك وفي مراحل مختلفة من عمرك وفي أي مكان وزمان .

* لماذا يحاربنا عدو الخير؟

١ـ لأنه يهوي إسقاط البشر ويعمل في النفوس الضعيفة ويصنع تجارب عديدة ؛ ولأنه خبيث وكذاب وأبو الكذاب ، ودائما هو ينبوع التجربة التي يدخل فيها الإنسان ، فأول شيء لا بد أن تعرفه هو أن الشيطان لا يمل من محاربتنا ، بل بالعكس فهو طويل البال وينتهز الفرص لنقع في الخطية ، ومن هنا جاءت أهمية فضيلة اليقظة الروحية ، فلا بد أن تكون منتبهـا وفـي حالـة احترازية ، فمثلاً فضيلة ” السهر” من الفضائل التي تكررت كثيراً في الكتاب المقدس ، وليس المقصود السهر المادي لكن المقصود بالسهر هو السهر على حياتك ، بمعنى أنك منتبه لحياتك ولا تتركها للشيطان . إذا أول شـيء أريـد أن تعـرفـه أن الشيطان لا يمـل ولا يكـل مـن محاربـة الإنسـان وامتلاكه ، وبالتالي يؤدى هذا إلى هلاكه .

٢- تجارب عدو الخير متنوعة ، فهناك تجارب تخص الجسد ، وبعضها يخص العقل أو النفس وأيضـاً قـد تخـص العاطفة ، فهناك تنـوع فـي التجارب حسب سن الإنسان ، فهناك مثلا مـن سنه صغير وعاطفته ليست ثابتة فليس هناك ما يمنع أن يحاربه بها ؛ كذلك أيضاً من هو كبير السن ويستطيع التحكم فـي عواطفه فيدخل عدو الخير من مدخل آخر مثل عقله أو نفسه أو ذاته … إلخ ، وممكن هذه التجارب تضرب الإنسان صغير السن وليس الكبير فقط وهكذا …

٣- السيد المسيح انتصر لحسابنا ، فالتجربة على الجبـل ليست مجرد قصة أو ثلاث قصص نسمعها أو نقرأها ، لكنها ثلاث تجارب ثمثل رصيداً للنصرة ، السيد المسيح انتصر لحسابك وليس لحسابه ، فمثلاً عندما يضع أب لابنه مبلغاً في البنك ويقـول له : ” خذ منه كما تُريد “، هكذا يفعل معنا السيد المسيح حيث أعطانا الإمكانية . مـن هـنـا جـاءت الصلاة السهمية التي نقـول فيهـا : ”  يا رب يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ ، يا رب يسوع المسيح اسندني فـي هـذه التجربة “، فـي مـزمـور الراعي تصلي ونقول : ” إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا ، لأنك أنت معي ” (مز ٢٣ : ٤)، وهذا هو المعنى الجميل في انتصار المسيح وجحده للشيطان.

٤- إن السلاح الأوحـد والأول والأكثر فاعليـة هـو الكتاب المقدس ، أنت لا تقـرأ الكتاب ليس بغرض معرفة الكتاب المقدس أو المتعة الروحية أو المتعة العقلية أو نقـرأه فـي الكنيسة لأنه نظام كنسي في القراءات الكنسية … أبدا ، نحن نقرأ الأسفار المقدسة ؛ لأن الكتاب المقدس هو سلاحنا الـذي بـه نغلـب عـدو الخير ، فعندما يأتي ليجربك ويشكك لتقـع فـي خطيـة اليـأس أو أيـة صـورة مـن صـور الخطيـة ، أو قـد يجعلـك شخصاً كسولاً أو شخصاً متردداً ، فبالإنجيل وآياته تستطيع أن ترد عليه ” فكلمة الله حية وفعالة وأمضى مـن كـل سـيف ذي حـدين ، وخارقة إلى مفرق النفس والـروح والمفاصـل والمخـاخ ، ومميـزة أفـكـار القلـب ونياتـه ” (عـب ٤ : ١٢). إن كلمـة اللـه معنا باستمرار لا تتوقف ، لذلك نجد أن السبب الذي يجعل عدو الخير يوقعنـا فـي الخطية هو اهمال كلمة ربنا .

* صور محاربات عدو الخير :

(۱) شهوات الجسد :

في أكثر شهوات الجسد هي شهوة الطعام ، فقد تتعدد صورها ، فهناك من يصنف وينوع في أشكال الطعام ، وهناك من يتناول الطعام بكثرة ، وهناك من هو بعيد عن الفترات الانقطاعية أو بعيد عن الصوم النباتي ، وهذا ينطبق على كل شهوات الإنسان الجسدية . وعلى هذا الأساس احذر عبودية البطن ، احذر من عدو الخير الذي ينمي داخلك شهوات الجسد ، وإن كانت خطيـة البطن هي امتلاء البطن ، فهناك خطية الحنجرة وهـي محبـة الأصـناف مـن الأطعمة ، وهناك خطيـة قـد تـكـون أخـذت شـكـل طـبـي وهـي السمنة ، وقـد تُعتبر خطيـة لأنك تأكل أكثـر مـن احتياجك ، ولكنها تأخـذ شكلاً مرضيا .

قد تتعجـب عنـدمـا أقـول لـك : ” إن بعض المجتمعات المتقدمـة فـي الخـارج المرض الأساسي فيها والأكثر انتشاراً هو السمنة “.

إن الله لا يخلق إنسان دون أن يوجد له طعام ، فالله هو ضابط الكل ، ولكن أنانية الإنسان وطمعـه تجعلـه يأخـذ نصيبه ونصيب غيره ، ومـن هـنـا يـأتي العجـز الغـذائي وحرمان الناس من الأكل ، وعليه تظهر المجاعات بأية صـورة مـن صـورالفقر … فاحذر عبودية البطن.

 في أيام الصوم الكبير بالتحديد نصوم فترة انقطاعية عن الطعام ، لكي أثبـت لـذاتي أن شهوة البطن لا تتحكم في ، وقد يصل الصوم إلى ١٥ ساعة في اليوم من نصف الليل وحتى الثالثة بعد الظهـر مـع مراعاة الفروق الفردية ، خاصـة فـي ظـروف المرض أو الحمل ، وهذا يتم من خلال ترتيب الشخص مع أب اعترافه ، ولكن عدو الخير لا يهدأ فيأتي بصداع أو بعض التعـب لـكنـك لا بد أن تـرد علـيـه بـهـذه الآية الجميلة : ” ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، بل بكل كلمة تخرج من فم الله ” (مت ٤ : ٤)، فبكلمة الله تشبع الروح.

+ التجربة الأولى “شهوة الجسد” وبكل أشكالها حيث يتفئن عدو الخير ، وعليك أن تنتبه أن التجربة في البرية كانت قبل خدمة السيد المسيح، وقد حاول إبليس إغراء المسيح بها بأنه صانع معجزة حيث حول الحجارة إلى خبز ، ولكن السيد المسيح لم تكن معجزاته بمثل هذه الكيفية ، وإنما كان يصنع المعجزات لاحتياج الإنسان ولخدمة الإنسان .

(۲) شهوات نفسية :

+ التجربة الثانيـة ” شـهوة العـين ” بحسـب الـنص الإنجيلي لمعلمنـا لـوقـا : بأن الشيطان أصعد السيد المسيح على جبل عال ، ثم قال له : ” أعطيك كل هذه الممالك إن خررت وسجدت لي “. هـذا هـو عـدوالخير الذي يعمـل الـيـوم ولـكـن مـع اخـتلاف التطـور (الكمبيوتر والإنترنت والموبايل) هو يطور من نفسه ، وهذه هي شهوة الطمع ” الشهوة النفسية “، حيث يضع الفخ وتقع أنت فيه.

الأمثلة على ذلك عديدة من واقع الحياة ، فنجد على سبيل المثال : الرسائل التي يستقبلها هاتفك المحمول وتبشرك بالفوز بمبلغ مالي كبير ، ومطلوب منك بعض البيانات الخاصة بك مثل اسمك ومكان سكنك والبنك الذي تتعامل معـه وأنـت تتهلـل بـالفوز ، لـكـن للأسـف كانت النتيجة أنه تم سحب كـل الرصيد الموجـود فـي البنك ، والسبب هو طمع الإنسان وحبه للمال .

+ التجربة الثالثة ” تعظم المعيشة ” حيث أخذ إبليس السيد المسيح على جناح الهيكل ، حيـث المكان المرتفـع ، وقـال لـه : ” اطـرح نفسـك مـن هـنـا وسـوف تـأتي الملائكة وتحملك ولا تصدم رجلك بأي حجر “، وهذا سوف يحقـق لـك شهرة وعظمـة والـبر الذاتي ، كل هذه الخطايا تدخل تحت بند العاطفة والذات.

فـي العهد القديم كان ” أيـوب الصديق ” يتفاخر بذاتـه رغـم أنـه كـان صديقاً ، حيـث كـان يـقـدم ذبـائـح عـن نـفسـه هـو وأولاده ، وكـان يـقـدم العبادات ولم يكـن مـثـلـه ، لكـن اللـه أراد أن يجـرده مـن كـل هـذا ، ويشتكى أيوب: ” لماذا فعلت بي كل هذا يا رب ؟”.

عندما تقرأ سفر أيوب تجد السفر عبارة عن شكاوي ، يأتي أصحابه لكي يعزوه لكن هؤلاء كانوا متعبين بالنسبة له ، ولكن بعد فترة يأتي شاب ويكشف لأيـوب خطيته وأنه واقع في خطية البر الذاتي وهي نوع من خطايا الكبرياء . وعنـدمـا بـدأ أيـوب يـتـوب ، بدأ يرجـع لنفسـه وقـال الاختبار الجميل ” بسمع الأذن قد سمعت عنك ، والآن رأتـك عيني ” (أي ٤٢ : ٥). أدرك أيـوب أن أي شـيء حلـو هـو مـن الله ، وأية نعمـة فـي حيـاتي سواء كانت مادية أو معنوية أو مسئولية هـي بـك يـا رب ؛ أي شخص فينا بدون الله هو لا شيء .

الخلاصة يا إخوتي ، كل ما أريد أن تعرفوه وتهتمـوا بـه هـو أن هذه التجارب تمت فـي البرية ، فالبريـة مدرسـة لنضـوج الإنسـان ، صحيح أغلبنـا لا يعـيـش فـي البريـة ، لكننا نجد الآباء الرهبان الذين يعيشون في البرية يتمتعون بالحياة هناك ، وقد علمنا الأنبا أنطونيوس أب جميع الرهبان وقال : ” عندما يخرج الراهـب مـن ديـره ، فيكون مثل السمك عندما يخرج من الماء “، ولذلك عندما تختار الكنيسة أحد أولادها ليخدم فـي العالم أو يحمل مسئوليات في العالم فلا يستطيع الاستغناء عن البرية ، ويجـب مـن وقت لآخر أن يخلو بنفسه في البرية .

* ماذا نتعلم من البرية ؟

١- البرية هي مدرسة لنضج شخصية الإنسان ، فعندما تقرأ اختبارات آباء البرية وأنت تعيش في العالم  ، فسوف تنضج شخصيتك روحيا ، فمثلاً القديس ” الأنبا بولا أول السواح ” حيث قضى حياته كلها في التوحد والسياحة ، ولا نعلم عن حياته سوى عبارة واحدة ” من يهرب من الضيقة يهرب من الله “، هذا اختبار من البرية وقس على ذلك عبارات كثيرة …

كذلك يقول معلمنا القديس ” أرسانيوس معلم أولاد الملوك “: “كثيراً ما تكلمتُ ونـدمت ، أمـا عـن السـكوت فـلـم أنـدم قـط “. وهـذا اختبـار ثان مـن اختبارات البرية فجميعنا يحتاج إلى البرية لأنها تمثل مدرسة نضوج .

 ٢ـ البرية تُعلمنا فن ” الاتكال على الله “، ويقصد به حياة التسليم والانضباط ، فحياتي في يد الله فهو الذي يدبرها ، فالأنبا أنطونيوس الذي يعتبرأب جميع الرهبان عندما خرج إلى البرية كان متكلاً على ربنـا ، ولم يكن يفكـر فـي أي أمـر مـن أمـور الحياة ، ولذلك عندما تصلي في القداس للأديرة والساكنين فيها نقول : ” والساكنين فيها بإيمان الله “؛ لأنهم معتمدون في حياتهم على إيمانهم بربنا .

٣- البرية تكسـر فـي الإنسان فكـرة الذات ، حيث يتعلم الإنسـان شـكـلا مـن أشكال الاكتفاء ، فالملبس هو نفسه ونظام الأكل محدود .

٤- البرية تعرف الإنسان رسالة الله له ، وذلك من خلال اختبارات القديسين ؛ لأنهم عاشوا الكلمة المقدسة واختبروا الإنجيل ، كما أنهم اختبروا وقـائـع كبيرة فـي حياتهم وعلموا أجيال وأجيال إلى يومنا هذا ، فمن خلال البرية تستطيع أن تكتشف ماذا يريد منك الله ، ومـا هـي رسالته لك ؟ فبعد رسامة أب كاهن جديد يذهب للبرية ٤٠ يوماً ، معظم الآباء إن لم يكن جميعهم أجمعـوا عـلـى مـدى أهميـة فـترة الأربعين يوماً في حياتهم ، فهي لا تعوض .

الخلاصة :

إذا كانت التجارب التي ذكرت في التجربة على الجبـل فـي البريـة تُعـطـي لـنـا إشارات ، فعليك أن تنتبه من عدو الخير الذي يتفنن كل يوم … هل تعرف تجاربك ؟ هل منتبه لما يحدث لك من عدو الخير ؟ فليعطنا مسيحنا هذه النصرة في حياتنا .

لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد. أمين .[7]

 

 

العظة الثالثة برية التجربة – للمتنيح الانبا ابيفانيوس اسقف ورئيس دير أبو مقار

عندما بدأ يوحنا المعمدان خدمته الكرازية، نادى فى برية اليهودية قائلاً: “توبوا، لأنَّهُ قد اقتَرَبَ ملكوتُ السماواتِ” (مت3: 1)

وبعد أن أعتمد الرب يسوع من يوحنا المعمدان، اقتاده الروح القدس الى البرية ليُجرَّب من إبليس، وهناك صام أربعين يوماً وأربعين ليلة (مت4: 1)

لم تكن برية التجربة أرضاً صحراء قاحلة، مغطاة بالرمال، وتنتشر فيها الكثبان الرملية؛ بل كانت منطقة جبلية وعرة، تكتنفها الهضاب والتلال، وتأوي اليها الوحوش والطيور الجارحة.

واذا عدنا إلى النص اليوناني للعهد الجديد نجد أنه يستعمل كلمة واحدة وهي:. (إريموس) عندما يريد أن يصف أى منطقة برية.

أما النص العبرى للعهد القديم فإنة يستعمل عدة كلمات مختلفة يمكن ترجمتها الى “برية”، ولكن كل منها يعطي وصفاً مختلفا لتلك البرية.

وعموما فإن المقصود بكلمة برية فى الكتاب المقدس، عدة مناطق جغرافية تحيط بمنطقة إسرائيل قديماً، وهذه المناطق تقع الى الجنوب، والى الجنوب الغربي، والى الشرق من المنطقة التى كانت مأهولة بالسكان في إسرائيل، والتى يقابلها جغرافياً شبه جزيرة سيناء وصحراء النقب وعبر الأردن. أما البرية التى قضى بها الرب يسوع الأربعين المقدسة فهي تختلف عن تلك البراري، وهى تقع على المنحدرات الشرقية لجبال الأردن، والتى غالباً ما كانت تعرف باسم: “يشيمون” والتى تترجم الى “القفر”.

والكلمة اليونانية “اريموس” التى ترجمت إلى “برية” فى العهد الجديد، يأتى معناها الأساسي من معنى “التخلية والهجران”. فهى تستعمل للأشخاص عندما يهجر إنسان أهله وذويه، وتستعمل للأماكن عندما يهجر إنسان مكان سكناه أو معيشته، كما تستعمل أيضاً عندما يتخلى إنسان عن فكرة أو رأي معين. وعندما تُستعمل للأماكن فهى لا تعني بالقطع معنى “الصحراء”، لكنها تشير فقط الى أي مكانٍ خالٍ أو غير آهل بالسكان كالمدن المهجورة والمقاطعات التى يندر وجود المقيمين بها.

وترتبط البرية فى أذهان الشعوب القديمة في الكتاب المقدس بالمكان الذى تعيش فيه العقارب والحيات والوحوش المفترسة، لذلك فهى تُعَدُّ من الأماكن الخطرة والمخيفة: “الذي سارَ بكَ في القَفرِ العظيمِ المَخوفِ، مَكانِ حَيّاتٍ مُحرِقَةٍ وعَقارِبَ وعَطَشٍ حَيثُ ليس ماءٌ.” (تث8: 15). والتقليد اليهودى يرى أن البرية هى المأوى المُفضَّل للشياطين والأرواح الشريرة.

❈ “لأنَّهُ أمَرَ الرّوحَ النَّجِسَ أنْ يَخرُجَ مِنَ الإنسانِ. لأنَّهُ منذُ زَمانٍ كثيرٍ كانَ يَخطَفُهُ، وقد رُبِطَ بسَلاسِلٍ وقُيودٍ مَحروسًا، وكانَ يَقطَعُ الرُّبُطَ ويُساقُ مِنَ الشَّيطانِ إلَى البَراري” (لو8: 29).

❈ “مَتَى خرجَ الرّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإنسانِ، يَجتازُ في أماكِنَ ليس فيها ماءٌ يَطلُبُ راحَةً” (لو11: 24).

❈ “هناكَ يَستَقِرُّ اللَّيلُ (أو الغول) ويَجِدُ لنَفسِهِ مَحَّلاً”. (إش34: 14).

وهناك يكتنف الظلام البرية وتنقطع فيها سبل الحياة :

❈ “…أين هو الرَّبُّ الذي أصعَدَنا مِنْ أرضِ مِصرَ، الذي سارَ بنا في البَرِّيَّةِ في أرضِ قَفرٍ وحُفَرٍ، في أرضِ يُبوسَةٍ وظِلِّ الموتِ” (إر2: 6).

الأهمية التاريخية:

ترجع أهمية البرية تاريخياً إلى ارتباطها برحلة خروج بني اسرائيل من أرض مصر. فخبرة الخروج من أرض مصر تربط أولاً بين البرية والعناية الإلهية، عندما قاد الله شعبه فى البرية وصنع به قوات وعجائب عظيمة إلى أن أدخله أرض الميعاد.

كما أنها تربط ثانياً بين البرية وعصيان شعب الله. ففى برية سيناء اختبر الشعب قدرة الله عندما أعطاة المن والسلوى، وعندما أخرج له الماء من الصخرة، وعندما قاده بعمود النار ليلاً وبالسحاب نهاراً. ومع ذلك فقد كان رد الشعب التذمُّر على الله عدة مرات والتمرُّد على موسى النبي: “اليومَ، إنْ سمِعتُمْ صوتهُ، فلا تُقَسّوا قُلوبَكُمْ، كما في الإسخاطِ، يومَ التَّجرِبَةِ في القَفرِ 9حَيثُ جَرَّبَني آباؤُكُمُ. اختَبَروني وأبصَروا أعمالي أربَعينَ سنَةً” (عب3: 7 ــ9).

وفى البرية مال الشعب الى مشورة الجواسيس العشرة الذين ذهبوا ليتجسسوا أرض كنعان ورفضوا مشورة يشوع بن نون وكالب بن يَفُنَّة. وكنتيجة لذلك عاقبهم الله في البرية بأن أفنى ذلك الجيل كله الذى خرج من أرض مصر، ولم يدخلهم أرض الميعاد بسبب تمرُّدهم على الله وعصيانهم، وعدم تصديقهم لمواعيده: “اختَبَروني وأبصَروا أعمالي أربَعينَ سنَةً. لذلكَ مَقَتُّ ذلكَ الجيلَ، وقُلتُ: إنهُم دائمًا يَضِلّونَ في قُلوبِهِمْ، ولكنهُمْ لم يَعرِفوا سُبُلي. حتَّى أقسَمتُ في غَضَبي: لن يَدخُلوا راحَتي” (عب3: 9ــ 11).

الأهمية اللاهوتية:

ابتداءً من أسفار الأنبياء فى العهد القديم، ومروراً بأسفار مابين العهدين (الأسفار القانونية الثانية) حتى نصل إلى زمن العهد الجديد، نجد أن البرية بدأت تحتل أهمية خاصة ومعنى رمزياً أغنى عند الشعب اليهودي، وذلك بصفتها المكان الذى منه سيخلِّص الله شعبه.

ففى الفترة الزمنية الواقعة بين خروج بنى اسرائيل من مصر وعصر الأنبياء، وهى فترة تُقدَّر بعدة مئات من السنين، اختفت الذكريات المُرَّة والأليمة المرتبطة برحلة الخروج. وبدأ الأنبياء يرون أن عبادة كنعان الوثنية كانت هي السبب وراء متاعب شعب إسرائيل. كما أن الذكريات الطيبة المتبقية من رحلة الخروج ألهمت الكُتَّاب بأن يذكروا البرية بتعبيرات عظيمة ومجيدة. فعلى سبيل المثال صار لمعجزة نزول المن في البرية معنىً مسياني، إذ أنه ارتبط في أذهانهم ببركات العصر المسيانى المرتقب. بل وصار هناك توقُّع في المستقبل أن الله سوف يُخْرِج شعبه مرة ثانية الى البرية حتى يتم تجديده لخروج جديد مماثل لخروجه من أرض مصر:

❈ “لكن هأنذا أتَمَلَّقُها وأذهَبُ بها إلَى البَرِّيَّةِ وأُلاطِفُها، وأُعطيها كُرومَها مِنْ هناكَ، ووادي عَخورَ بابًا للرَّجاءِ. وهي تُغَنِّي هناكَ كأيّامِ صِباها، وكيومِ صُعودِها مِنْ أرضِ مِصرَ.” (هو2: 14،15).

❈ صوتُ صارِخٍ في البَرِّيَّةِ: أعِدّوا طريقَ الرَّبِّ. قَوِّموا في القَفرِ سبيلاً لإلهِنا. كُلُّ وطاءٍ يَرتَفِعُ، وكُلُّ جَبَلٍ وأكَمَةٍ يَنخَفِضُ، ويَصيرُ المُعوَجُّ مُستَقيمًا، والعَراقيبُ سهلاً. فيُعلَنُ مَجدُ الرَّبِّ ويَراهُ كُلُّ بَشَرٍ جميعًا، لأنَّ فمَ الرَّبِّ تكلَّمَ” (إش40: 3ـ 5).

❈ حَيٌّ أنا، يقولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ،…. أُخرِجُكُمْ مِنْ بَينِ الشُّعوبِ، وأجمَعُكُمْ مِنَ الأراضي…. وآتي بكُمْ إلَى بَرِّيَّةِ الشُّعوبِ،…… وأُمِرُّكُمْ تحتَ العَصا، وأُدخِلُكُمْ في رِباطِ العَهدِ” (حز20: 33- 37).

وقد أخذ هذا التقليد ينمو الى زمن العهد الجديد حتى ساد الأعتقاد أن الخلاص الأبدي سوف يبدأ من البرية، وأن المسيا سوف يظهرأولاً فى البرية. وهذا التقليد يفسر لنا قول الرب يسوع لتلاميذه عن المجىء الثانى للمسيح: ” فإنْ قالوا لكُمْ: ها هو في البَرِّيَّةِ! فلا تخرُجوا” (مت24: 26). ونتيجة لهذا التقليد ظهرت بعض حركات التمرد المسيانية، وخاصة بين فئة الغيورين، واتجهت إلى البرية لتبدأ من هناك حركة التمرد ضد روما. وقد وجه قائد الكتيبة الرومانية هذه التهمة لبولس الرسول: “أفَلستَ أنتَ المِصريَّ الذي صَنَعَ قَبلَ هذِهِ الأيّامِ فِتنَةً، وأخرَجَ إلَى البَرِّيَّةِ أربَعَةَ الآلافِ الرَّجُلِ مِنَ القَتَلَةِ؟” (أع21: 38)، حتى صار هذا التقليد يُعرف عند مفسِّري الكتاب المقدس بـ “تقليد البرية”.

ولم يختف هذا التقليد تماما بعد مجيء الرب يسوع بالجسد، فيصف لنا سفر الرؤيا المرأة المتسربلة بالشمس التي حاول التنين أن يبتلع ولدها متى ولدت. فبعد أن ولدت ابناً ذكراً عتيداً أن يرعى جميع الأمم بعصاً من حديد، حدث أن المرأة هربت إلى البرية حيث لها موضع معد من الله لكى يعولها هناك (رؤ12: 1ــ 6). فعلى كنيسة الله أن تظل مختفية فى برية هذا العالم حتى مجىء المسيح الثاني لينهي على مملكة ابليس.

وقد أشار الأنجيليون عدة مرات إلى البرية ليوضحوا أن الخروج الجديد للبرية المعد لشعب الله قد تم بمجىء المسيح. فكما أن الرب عال شعبه فى البرية إذ أطعمهم المن من السماء، هكذا أطعم الرب يسوع الجموع فى البرية (مر8: 1ـــ 9). لكن الأكل من المن الأول تبعه موت لجميع الشعب، أما الأكل من المن الجديد أو المن الحقيقي، الذي هو جسد المسيح، فيتبعه حياة أبدية: “أنا هو خُبزُ الحياةِ. آباؤُكُمْ أكلوا المَنَّ في البَرِّيَّةِ وماتوا. هذا هو الخُبزُ النّازِلُ مِنَ السماءِ، لكَيْ يأكُلَ مِنهُ الإنسانُ ولا يَموتَ” (يو6: 48- 50).

وكما رفع موسى الحية النحاسية فى البرية حتى يعطي نجاة وقتية للشعب الذى هاجمته الحيات المحرقة نتيجة لتمرده، هكذا رُفع المسيح على الخشبة حتى يعطي حياة أبدية لكل من يؤمن به.

❈ “وكما رَفَعَ موسَى الحَيَّةَ في البَرِّيَّةِ هكذا يَنبَغي أنْ يُرفَعَ ابنُ الإنسانِ، 15لكَيْ لا يَهلِكَ كُلُّ مَنْ يؤمِنُ بهِ بل تكونُ لهُ الحياةُ الأبديَّةُ.” (يو3: 14، 15).

وكما شرب الشعب من الماء الذي خرج من الصخرة في البرية بعد أن كاد يهلك من العطش، هكذا أعطى المسيح شعبه ماء الحياة الذي كل مَنْ يشربه لن يعطش إلى الأبد:

❈ “كُلُّ مَنْ يَشرَبُ مِنْ هذا الماءِ يَعطَشُ أيضًا. ولكن مَنْ يَشرَبُ مِنَ الماءِ الذي أُعطيهِ أنا فلن يَعطَشَ إلَى الأبدِ، بل الماءُ الذي أُعطيهِ يَصيرُ فيهِ يَنبوعَ ماءٍ يَنبَعُ إلَى حياةٍ أبديَّةٍ” (يو4: 13، 14).

أما عن خروج الرب يسوع نفسه إلى البرية فيشرحه القديس كيرلس الكبير ـ في تفسيره لإنجيل القديس لوقا ـ موضِّحاً أن خروجه كان مكسباً لنا ومن أجلنا. فقد خرج بنا، وهذا هو الخروج الجديد الذى انتظرته البشرية، لكى يعطينا النصرة على الشيطان، ويكلِّل في نفسه الطبيعة البشرية بأسرها:

[لقد سكن الربُّ في البرية تاركاً مساكن المدن، وهناك فى البرية صام وتجرَّب من الشيطان. هناك انتصر من أجلنا. هناك سحق رؤوس التنين. هناك كما يقول داود الطوباوي: “العَدوُّ تمَّ خَرابُهُ إلَى الأبدِ. وهَدَمتَ مُدُنًا” (مز9: 6)، أى هدمت أعوانه الذين كالأبراج والمدن. لذلك فبعد ما تسلَّط على الشيطان وكلَّل في نفسه طبيعة الإنسان بالانتصارات التي أحرزها عليه، رجع بقوة الروح،

سالكاً بقوة وسلطان، وعاملاً معجزات كثيرة جداً أثارت اندهاش الكثيرين].[8]

 

إحتمال التجربة للمتنيح القمص يوسف أسعد

فى صلوتين من صلوات القسمة في القداس الإلهى نتعلم من أمنا الكنيسة منهجها التفسيرى لكيفية إحتمال الرب يسوع المسيح تجربة الصليب … ففي إحداها نسمع ” وما هذه الطريق المؤدية للموت التي أنت سائر فيها يا إلهى ومخلصى ؟ أي شيء تحمله  على منكبيك ؟ هو صليب العار الذى حملته عوضاً عنى . ما هذا أيها الفادى ؟ ما الذى جعلك ترضى بذلك ؟ أيهان العظيم ؟ ! أيذل الممجد ؟ ! أيوضع المرتفع ؟ ! يا لعظم حبك ! نعم هو حبك العظيم الذى جعلك تقبل إحتمال كل ذلك العذاب من أجلى ” …. فالحب الذى أقبل به الرب يسوع على الصليب كان سراً من أسرار إحتماله للصليب . ليتك ياأخى المجرب تقول لتجربتك ” ياحبيبتى ” … إنه حبيبة فعلاً ، لأنه تحمل لك خيراً مهما كان التعب فيها فالحكيم المختبر قال ” في كل تعب منفعة ” (أم ١٤: ٢٣) . لا تسخر منى وأنا أقول لك قل للتجربتك يا حبيبتى ، فإن المحبة حتى للتجربة التي تذلنى كافية أن تخضعها تحت قدمى . فلم يوجد ألم إنتصب أمام الحب . أحبب تجربتك ياأخى ، لا أقول لك إرض بها أو اقبلها كواقع ، بل أحبها وفى كل تجربة تواجهك قدم لها حبك فتحمل لا تجربتك فقط  بل وتجارب غيرك أيضاً . فالحب تجاه التجربة يحولك من مجرب إلى فنان أيضاً فتجد عقلك يفيض بإختراعات فوق خيالك تخفف عنك وطأة التجربة وربما تحولها إلى سعادة حقة .

لكى أقرب لك قصدى أدعوك لتذكر البائع الذى يحب عمله ، تجد سلوكه تجاه متجره وتجارته وزبائنه سلوك الفنان المبدع في العرض الجيد والإنتاج الجيد والتعامل الجيد مما يجعله هو الرابح في النهاية . ليتنى أكون قد وفقت في توصيل فهمى للكلمة ” أحب تجربتك ”

هذا منهج في إحتمال التجربة نتعلمه من أبينا يسوع بواسطة أمنا الكنيسة التي تقدم لنا منهجاً ثانياً في صلاة قسمة أخرى تقول : ” الشعب القاسى حملك خشبة الصليب من أجلى أنا الحامل قضية الموت بإرادتى . ضربك الأثمة على رأسك ، نفضوا البصاق في وجهك من أجلى ، وضعوا إكليل شوك على رأسك وقصبة في يمينك . ألبسوك ثوباً من برفير وصارو يستهزون بك . وأنت بإتصاعك حملت هذا كله من أجلى ” .

فالرب يسوع في تجربته ” إحتمل الصليب مستهيناً بالخزى ” (عب١٢ :٢ ) لأنه قال لنا تعلموا منى لأنى وديع  ومتواضع القلب فتجدوا راحه لنفوسكم “(مت١١ : ٢٩) . وكثيرون من القديسين قيل عنهم . “تجربوا في هزء ” (عب١١ : ٣٦) فكانوا يواجهون التجربة بإتضاعهم الحقيقى قدام الله  والناس وحتى الشياطين .

يا عزيزى ان كنت تنام الآن على الأرض بعد أن كنت تنام عل السرير فإتضع وقل لنفسك : أنا أنام على الأرض  .. حسناً .. فغيرى الآن ينامون تحت الأرض والتراب مهال عليهم … إنس سريرك وقل للأرض شكراً لأنك استضفتينى فوقك لأخذ فرصة جديدة في عمرى للتوبة .

وإن كان لك كثيروليس لك الآن شيئاً فاستهزأ بك الناس أو أهاجت الشياطين نفسك عليك… قل لها : يا عزيزتى كنت راكباً للساقية  فلما فرغتنى لم تفرغنى لأن الذى فرغنى في دورة  الهبوط هو هو بعينه سيملأنى في دورة الصعود ، عليك الآن أن تشرفني بالقناعة في دورة الهبوط .

وإن كنت صاحب رأى ، في تجربتك الآن يتجاهلك من كانوا يطلبون رأيك كتلاميذ فإتضع وقل : من أنا التراب حتى يكون لى رأى ؟ إنى مستريح لأنى معفى من ضريبة إبداء الرأي ومسئوليته … قل هذا باتضاع حقيقى في قلبك ، وليس بانهزام أو شعور بالمذلة أو المهانة فالأغصان الممتلئة بالثمار هي التي تنحنى .

وإن كنت في حياتك تحب الحق والعفة والاستقامة ، وفى تجربتك الآن مفترى عليك بما ليس فيك إطلاقاً … إتضع قدام الله الذى يجرى الحق للمظلومين وتذكر قول النبى ” إليك يسلم المسكين أمره “(مز ١٠: ١٤) … ومهما كان اسم المفترى عليك : أبوك أو أخوك أو إبنك فإتضع في قلبك وقل : برهم أكثر وشرى أنا أعظم ! ثم ابدأ صلاة الحب والتسامح في الحال ، مردداً قول ماربولس : نضهد فنحتمل ” (١كو ٤ : ١٢) . بهذين الجناحين : الحب والإتضاع يحلق بنا ربنا يسوع في أي تجربة وينادينا ” حملتكم على اجنحة النسور ” (خر١٩ : ٤) . فمهما كان إستضعاف العالم للحب والتواضع من المجربين فتذكر أنهما في سماء يرفعان فوق التجربة ، وفى قوة نسور قادران على الكسب والربح بحذق وإستنارة وبصيرة حادة .

وما يساعدك أيضاً على إحتمال تجربتك أيها الأخ المحبوب أن تكون على معرفة سليمة مقنعة بالحياة وكل ما يدور بها … هذه المعرفة تجدها بكل صدق والعمق والشمول في الكتاب المقدس . الذى أرجو أن يكون بجوارك الآن لتقرأ ما استطعت من كم ووقت . صدقنى ياأخى لو انشغلت كل وقت التجربة  بمحاولة معرفة الحياة السليمة بإقناع الروح القدس في كلام الكتاب لخرجت من كل تجربة مزدانة حياتك بخبرات روحية واجتماعية سخية تمنح لك هبة من النعمة الغنية …

وكلما إزدادت وطأة التجربة عليك ياأخى أكثر من قراءتك للكتاب المقدس . أكثر بتركيز وإصرار على أن تعرف الجديد الذى منه ستطلب المزيد . لقد أختبر داود النبى ذلك وقال : ” لو لم تكن شريعتك تلاوتى لهلكت جينئذ في مزلتى ” (مز ١١٩: ٩٢) . كما أختبر أحد المجربين أن يقرأ الكتاب المقدس تسع ساعات يومياً حتى أنهى قراءته مرتين خلال أربعة  شهور وكان يجد في قراءة تعزية ولذة وإبتهاجاً وإحساساً بالجهل المستمر الذى جعل أيام التجربة تتحول إلى درس وتعلم وتلمذة للمسيح في كتابه الحى .

ومن المناسب أيضاً أن تشغل نفسك ياأخى ببرنامج يومى يحقق النشاط الطبيعى العضوى لك . فلا شك أن المجهود البدنى المدعم بالعمق الذهنى والرغبة في إجتياز مرارة التجربة تغسل الجسد وتزيده قدرة على مواجهة التجربه بتعقل وسلامة نفس . لا أعرف هل ظروف تجربتك تسمح لك بالخروج إلى المتألمين والبحث عن المجربين . ربما ، فإن توفر لك قليكن له النصيب الأوفر في برنامج نشاطك اليومى . وإن لم تكن ظروفك تسمح لك بذلك فمجرد عمل يدوى لتنظيف الأرض والحوائط أو الملابس أو الخيمة كاف لتحقيق ذلك . وإذا كنت فاقداً في تجاربك هذا كله أو غيره مما لم أذكره فثق يا عزيزى أن همتك وعزمك أن تتجاوز حدود أي هزيمة  أو فشل أو مرض أو مهانة  في التجربة هو الذى سيبدع لك بنود برنامج نشاطك اليومى .

فإذا صنعت هذا ووجدت نفسك غي قادر على إحتمال التجربة فاترك لنفسك أن تعبر بأسلوب طبيعى غير متكلف …إذا وجدت الدموع في عينيك فلا تتحامل وتكبتها . إبك يا أخى ، ولكن إعرف أمام من تبكى … ليكن أمام الذى يستطيع أن يناديك من سمائه ” قد رأيت دموعك ”  . حول إنفجارك في الدموع إلى توسل وصلاة مقابل الله الذى يجمع بيديه دموعك ويمسح بحنان كل جراحك … ويخرجك كما تخرج من عند طبيب يعالج جرح إصبعك : بطمأنينة شفاء وحصانة عدم تلوث وألم أقل ونظافة أكثر ….

وإذا وجدت الدموع في عينيك متحجرة فاطرح رأسك في صمت أمام عرش نعمته فقط ، والتصاق رأسك بتراب الأرض وحده ياأخى صلاة يسمعها الرب ويقيمك محمولا على ذراعى النعمة المرطبة المطيبة للخاطر المنكسر … فالذى قال ” تعالوا إلى يا جميع المتعبين وثقيلى الاحمال وأنا أريحكم ” (مت١١ : ٢٨-٣٠) لن يتركك تخرج من لدنه إلا ومعك راحة واحتمال جديدين …

وبعد هذا كله إذا لم تجد فيك طاقة الإحتمال فتأكد  يا عزيزى أن التجربة كلما تضيق بك تحمل معها بشارة فرج ، وكلما تستحكم من حولك الآلام ثق أن أفراحاً تنتظرك ، وكلما يوهن جسدك من ثقل المعاناة كلما تسمو روحك وتعظم في عينى الرب . الذى قال ” طوبى للرجل الذى يحتمل التجربة لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذى وعد به الرب للذين يحبونه ” (يع ١ : ١٢) . وكما تجد الوحدة في التجربة تحاصرك ، تأكد من أمانة الله تجاهك الذى لن يعرضك للهلاك وقد دفع فيك ثمناً غالياً هو دم إبن الله الحى .. نعم يا أخى المجرب إن أمانة الله تجاهك وتجاه كل مجرب مثلى تفرض عليه أن يوجد منفذاً للإحتمال …

” أمين الذى لا يدعكو تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا ”  (١كو١٠: ١٣) .

تأكد يا حبيبى وشريكى في التجارب أن المنفذ جاهز ، ووسيلة النجاة تقترب … وعون من لا عون له معد .. تفكر في هذا ولا تخور في التجربة  وتطلع بعينى الرجاء للواحة لمياهها واشجارها بعد قفر هذه الصحراء وجدبها …. هناك سترتوى وستشبع وتذكر أن

كل ما مر بنا في المعاناة لم يكن سوى مقدمة لينبوع بركات غامرة.[9]

 

 

 

 

 

المراجع

 

[1]– تفسير مرقس ص ٣٤ – القمص تادرس يعقـوب ملطي.

[2] – تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الأسكندري –  صفحة ٧٦ – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[3] – كتاب عظات القديس مقاريوس الكبير –  صفحة ١٢٦ – طبعة 1991-  ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد .

[4] – كتاب عظات القديس أغسطينوس علي رسالة يوحنا الأولي صفحة ٤٧ – ترجمة القمص بنيامين مرجان.

[5] – كتاب تفسير إنجيل لوقا الإصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[6] – كتاب الإنسان الروحي – قداسة البابا شنودة الثالث

[7] –  إختبرني يا الله صفحة ١٥٦- قداسة البابا تواضروس الثاني

[8] – مفاهيم إنجيلية صفحة ٧٢ – الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار

[9] – إسندني يارب في تجاربي صفحة ٣٣ – القمص يوسف أسعد