اليوم السابع والعشرين من شهر بابه

 

 

“لا اقتحام ولا هجوم، ولا شكوى في شوارعنا. طوبى للشعب الذي له كهذا. طوبى للشعب الذي الرب إلهه” (مز ١٤٤: ١٤، ١٥).

[السلام للعظيم أنبا مقار مصباح الرهبنة الذى صار منارة ذهبية تضئ أكثر من الشمس.

لأن نفسك مضيئة في أورشليم السمائية وجسدك لامع في كنيستك]. (ذكصولوجية القديس مقاريوس الكبير).

[طوبى لمن يضبطون أنفسهم، طوبى لمن يحفظون معموديتهم نقية، طوبى لمن يسهرون ويصلون، طوبى لمن يترقبون الآتي ليدين الأحياء والأموات] (القديس إفرام السرياني)[1].

شواهد القراءات

عشــية: مزمور (مز111: 1) – إنجيل (مت25: 14- 23).

بـــــاكر: مزمور (مز131: 1، 7) – انجيل (لو6: 17- 23).

القداس: البولس (عب11: 17- 31) – الكاثوليكون (يع 1: 12- 21) – الابركسيس (أع 19: 11-20).

المزمور (مز1: 1، 2) – الانجيل (مت4: 23- 5: 1- 16).

ملاحظات على قراءات يوم 27 بابة

إنجيل عشيّة اليوم (مت25: 14- 23) هو نفس إنجيل عشيّة أيام ٩ هاتور (تذكار إنعقاد مجمع نيقية) ٢٢ طوبة (الأنبا أنطونيوس)، ٢٥ مسرى (أنبا بيصاريون الكبير).

وهو نفس إنجيل باكر يوم ٢ أمشير (الأنبا بولا).

وهو مثل الوزنات والأمانة فيها والمكافاة السماوية للأُمناء، والمُلاحظ أن النص الكتابي ذكر فقط العبيد الأُمناء، وهو يتكلم هنا عن أمانة التعليم ونقاوته (تذكار انعقاد مجمع نيقية)، وأمانة الجهاد والسهر (أنبا أنطونيوس وأنبا بولا وأنبا بيصاريون الكبير).

انجيل باكر اليوم (لو6: 17- 23) هو إنجيل التطويبات للذين احتملوا الآلام من أجل الإيمان، وهو الحديث الذي وجهه الرب لتلاميذه القديسين (آية ٢٠) لكي لا ينزعجوا من الاضطهاد الذي سوف يقع عليهم بسبب الكرازة.

وهو نفس إنجيل باكر في قراءات أيام ٩ هاتور (تذكار انعقاد مجمع نيقية)، ١٧ هاتور (تذكار يوحنا ذهبي الفم)، ٢٨ هاتور (تذكار أنبا صرابامون أسقف نيقية)، ٢٦ طوبة (تذكار شهادة شيوخ شيهيت).

ويُضاف إلى هذه القراءة الجزء السابق لها (لو٦: ١٢- ٢٣)، وهو الجزء الخاص باختيار الآباء الرسل، لذلك جاء في قراءة إنجيل باكر ليوم ٢٦ بشنس (تذكار توما الرسول)، وإنجيل باكر ليوم ٥ أبيب (تذكار شهادة القديسين بطرس وبولس)، وإنجيل القدّاس في اليوم الثاني من النسئ (نياحة القديس تيطس الرسول).

✤ قراءة الكاثوليكون اليوم (يع 1: 12- 21) تُشبه قراءة الكاثوليكون (يع ١: ١٣- ٢١) للأحد الرابع من شهر أمشير.

مجيئها اليوم بإضافة آية ١٢ “طوبى للرجل الذي يصبر في التجربة “للإشارة للحياة الطوباوية التي للقديسين موضوع قراءة اليوم، بينما مجيئها في قراءة الأحد للإشارة إلى كيف صرنا باكورة خلائقه (مثل زكَّا العشار موضوع إنجيل ذاك الأحد).

✤ قراءة الإبركسيس اليوم (أع 19: 11-20) هي نفس قراءة الإبركسيس ليوم ٢٢ هاتور (تذكار القدّيسين قزمان وإخوته ووالدتهم)، ويوم ٢٦ مسرى (تذكار القديس موسى وسارة أخته) وتُشبه قراءة الإبركسيس (أع١٩: ١١- ١٧) ليوم ٢١ توت (تذكار كبريانوس الأسقف)، وتُشبه أيضاً قراءة الإبركسيس (أع١٩: ١١- ٢٢) للأحد الرابع من شهر أبيب.

وتأتي هذه القراءة اليوم (٢٧ بابه) لكثرة العجائب التي فعلها الله في حياة أنبا مقار الأسقف (كما هو موجود بسيرته)، ورُبما سبب مجئ القراءة أيام ٢٢ هاتور، ٢٦ مسرى للمُقارنة بين الأسرة الشريرة (سكاوا وأولاده في قراءة الإبركسيس) والأُسر المُقدَّسة (قزمان وإخوته ووالدتهم في ٢٢ هاتور، وموسى وسارة أخته في ٢٦ مسرى).

أما مجيئها في يوم ٢١ توت لأجل كبريانوس الذي كان ساحراً وترك السحر وتخلَّص من كل كتب السحر وهذا هو أيضاً موضوع القراءة في الإبركسيس.

ورُبَّما كان من الأفضل تكملة القراءة حتي آية ٢٠ مثل القراءات الثلاثة الأخرى لأن الآيات الثلاثة حتى آية ٢٠ تتكلَّم عن الذين كانوا يستعملون كتب السحر وبعد إيمانهم أحرقوها (مثل كبريانوس صاحب تذكار اليوم).

بينما مجيئها في الأحد الرابع من أبيب للإشارة إلي اسم الرب يسوع الذي يتعظَّم كما جاء أيضاً في إنجيل القدَّاس لذاك الأحد في أقامه لعازر من الموت.

إنجيل قدَّاس اليوم (مت4: 23- 5: 1- 16) هو نفس إنجيل القدَّاس ليوم ٢٦ طوبة ، وإنجيل عشيّة ليوم ١٧ هاتور.

وهي قراءة التطويبات التي جاءت في الموعظة على الجبل لذلك جاءت في تذكار نياحة أنبا مكاريوس أي الطوباوي أو المُطوَّب (٢٧ بابه) وشيوخ برية شيهيت (٢٦ طوبة) وتذكار القديس يوحنا ذهبي الفم (١٧ هاتور)، وكأنها تحكي الحياة الطوباوية للقديسين (٢٧ بابه)، والشهداء (٢٦ طوبة)، والرعاة (١٧ هاتور).

القراءة المحولة على هذا اليوم

٩ طوبة                         (نياحة أنبا إبرام رفيق جورجي بشيهات).

٥ أمشير                       (نياحة القديس أنبا أبولو المُتشبه بالملائكة ونياحا أنبا أغريبينو بابا الإسكندرية).

٢٧ برمهات                    (نياحة أبو مقار الكبير).

١٨ بشنس                    (نياحة القديس جورجي رفيق أنبا إبرآم).

٨ أبيب                         (نياحة القديس أنبا بيشوي كوكب البرية).

١٤ أبيب                       (نياحة أبو مقار).

١٩ مسري                   (حمل جسد أبو مقار إلى برية شيهيت).

شرح القراءات

اليوم تذكار القديس أنبا مكاريوس أسقف إدكو.

لذلك تدور محور قراءات اليوم عن الإسم والمعنى “الحياة الطوباوية التي للقديسين” مثل القديس مقاريوس والمُلاحظ هنا أن الحياة الطوباوية ليست هي الشكل والرتبة والنذر بل هي نقاوة القلب ومسكنة الروح والجوع والعطش إلي البرّ والوداعة ورسالة السلام وإحتمال الضيق لأجل الله. لذلك لا نستغرب صوت الله للقديس مقاريوس الطوباوي لإرشاده لإثنين سيدات متزوجات تعيشان في العالم لكن في نفس مكانته أمام الله لأنهما كانتا تعيشان بتولية القلب وتكريسه.

لذلك نرى التطويبات في قراءات اليوم عن كل مايشمل حياة القديسين:

❖ طوبي للرجل الخائف من الرب. (مزمور عشية).

❖ حسناً أيها العبد الصالح والأمين. (إنجيل عشية).

❖ طوباكم أيها المساكين بالروح. (إنجيل باكر).

❖ طوبي للرجل الذي يحتمل التجربة. (الكاثوليكون).

❖ طوبي للرجل الذي لم يسلك في مشورة المنافقين. (مزمور القداس).

❖ طوبي للمطرودين من أجل البرّ. (إنجيل القداس).

 

فالتطويب في المزامير على مخافة الرب (مزمور عشيّة)

ومحبّة العدل والبر (مزمور باكر)

واجتناب الخطية (مزمور القداس).

✤ في مزمور عشية ← يطوّب المرنم الإنسان الذي يحيا في مخافة الله ويحب وصاياه ويسلك بالاستقامة.

طوبى للرجل الخائف من الرب ويهوي وصاياه جداً يقوي زرعه على الأرض ويبارك جيل المستقيمين”

✤ وفي مزمور باكرالتطويب للعدل والبرّ والدعة.

“اذكر يارب داود وكل دعته كما أقسم للرب ونذر لإله يعقوب كهنتك يلبسون العدل وأبرارك يبتهجون من أجل داود عبدك”.

✤ ومزمور القداسالتطويب لمن يحترس ويبتعد عن مشورة المنافقين وطريق الخطاة ومجلس المستهزئين.

طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة المنافقين وفِي طريق الخطاة لم يقف وفِي مجلس المستهزئين لم يجلس”.

✤ لذلك يقدم البولس نموذجاً لمن رفض طريق الخطاة رغم بريقه وإختار طريق الله رغم عاره.

“بالإيمان موسى لما كبر أنكر أن يُدعي إبناً لإبنة فرعون وشاء بالأحرى أن يتألم مع شعب الله أفضل من أن يتنعم بالخطيّة زمناً يسيراً إذ جعل عار المسيح عنده أنه غنى عظيماً أوفر من كنوز مصر لأنه كان ينتظر حسن المجازاة”.

✤ وفي الكاثوليكون ← التطويب لمن يحتمل التجارب بصبر ومن يرفض أي شكل للخطية.

طوبى للرجل الذي يصبر في التجربة لأنه إذا صار مختاراً ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه… لذلك اطرحوا كل نجاسة وكثرة الشر واقبلوا بوداعة الكلمة المغروسة جديداً التي يمكنها أن تخلص نفوسكم”.

ولعلّ هذا هو موضوع المزمور الأوّل تطويب رفض الخطية ومعاشرة الخطاة والإلتصاق بكلمة الله ليلاً ونهاراً

✤ لذلك في الإبركسيس كثيرون يعترفون بخطاياهم وكثيرون يتركون أسحارهم والجميل أن يربط الكتاب بين هذا التغيير في السلوك وبين نمو كلمة الله في حياة الكنيسة والناس.

“فوقع خوف على جميعهم وكان اسم الرب يسوع يتعظم وكان كثيرون من الذين آمنوا يأتون معترفين ومخبِّرين بأفعالهم وكان كثيرون من الذين يستعملون السحر يقدمون كتبهم ويحرقونها أمام الجميع… هكذا كانت كلمة الرب تنمو وتقوى بشدّة”.

✤ وفي إنجيل عشية يُعطي الطوبى للأمناء في وزناتهم الكثيرة أو القليلة.

“ثم جاء الذي أخذ الوزنتين وقال يا سيّد وزنتين سلّمتني هوذا وزنتان أخريان ربحتهما قال له سَيِّدِه نعماً أيها العبد الصالح والأمين كُنتَ أميناً على القليل فأقيمك على الكثير ادخل إلى فرح سيِّدك”.

✤ أما إنجيل باكر فيُعطي الطوبى للمساكين بالروح والباكون والمُضْطَهدون من أجل الله.

“فيُعطي الطوبى للمساكين بالروح والباكون والمُضْطَهدون من أجل الله”.

✤ لذلك يختم إنجيل القداس بجوهرة وتاج الموعظة علي الجبل سلسلة تطويبات الحياة المسيحية الحقيقية.

طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض طوبى للجياع والعطاش إلي البرّ لأنهم يشبعون طوبى للرحماء لأنهم يرحمون”.

لذلك يصير المسيحي ملحاً للأرض ونوراً للعالم.

“أنتم ملح الأرض … أنتم نور العالم … فليضئ نوركم هكذا قدّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات”.

ملخص القراءات

❈ دعوة وبشارة الملكوت للأمم بكل عجائب الله               (مزمور عشيّة)

وفِي الكنائس                                                           (مزمور باكر)

وكل الأيام                                                                 (مزمور القدَّاس).

❈ وتحتاج دعوة الملكوت لقوة الروح القدس                        (الإبركسيس).

❈ وسهر الصلاة                                                            (البولس).

❈ واستقامة الإنسان وضميره الصالح                              (الكاثوليكون).

❈ ويُعْطي الرب مع الدعوة قوة وسلطان                           (إنجيل باكر).

❈ ويعطي وصايا ويسكب عطايا                                      (إنجيل القدَّاس).

❈ وينتظر منا الإيمان                                                     (إنجيل باكر).

أفكار مُقترحة للعظات

(1) تطويبات

١- تطويب من يحيا في مخافة الله.

“طوبى للرجل الخائف من الرب” (مزمور عشيَّة).

٢- تطويب الأمانة في الوزنات والمسؤولية .

“حسناً أيها العبد الصالح والأمين”. (إنجيل عشيَّة)

٣- تطويب المسكنة بالروح والإغتناء بالله وحده .

“طوباكم أيها المساكين بالروح”. (انجيل باكر)

4- تطويب إحتمال التجارب والصبر.

“طوبي للرجل الذي يحتمل التجربة” (الكاثوليكون).

5- تطويب نقاوة الحياة وإستقامتها.

“طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة المنافقين” (مزمور القدَّاس).

6- تطويب الآلام من أجل المسيح له المجد ومن أجل وصيَّته.

“طوبي للمطرودين من أجل البر”. (انجيل القدَّاس).

(2) عظمة الإيمان وأبطال الإيمان (البولس)

1- إبراهيم

“بالإيمان قرَّب إبراهيم إسحق.. وافتكر في نفسه أن الله قادر أن يقيمه من الأموات”.

عظمة إيمان إبراهيم ظهرت في إستعداد تقديمه إسحق محرقة وفِي ثقته في قدرة الله علي إقامته من الأموات.

2- إسحق ويعقوب

“بالإيمان من أجل ما سيكون بارك اسحق يعقوب وعيسو .. بالإيمان يعقوب عندموته بارك كل واحد من بني يوسف”.

إيمان البركة الذي توارثه يعقوب من أبيه إسحق فما أجمل أن يُقال عن إنسان أنه عند موته يبارك.

3- يوسف

“بالإيمان يوسف عند موته ذكر خروج بني اسرائيل وأوصي من أجل عظامه”.

نرى الإيمان هنا أيضاً في حرص يوسف على عدم وجود حتى عظامه في أرض غريبة.

4- موسى

” بالإيمان موسي لما وُلد أخفاه أبواه ثلاثة أشهر… بالإيمان موسى لما كبر أَنْكَر أن يُدعى إبناً لإبنة فرعون.. جعل عار المسيح عنده أنه غنى عظيماً أوفر من كنوز مصر… ترك مصر ولم يخف من غضب الملك.. صنع الفصح.. عبروا في البحر الأحمر”.

يتضح هنا الإيمان في حياة موسى النبي بداية من أسرته التي لم تخف من أمر الملك والشاب الذي إعتبر عار شعبه أفضل من كنوز مصر التي تنتظره في بيت الملك وصنع الفصح بإيمان وثقة في كلام الرب للخلاص وعبر البحر الأحمر مُتشدِّداً بوعد الرب له.

5- يشوع

“بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعد ما طِيفَ حولها سبعة أيام”

الإيمان الذي يخترق الحصون ويستهين بالجبابرة والعمالقة ويعتبرهم خبز أولاد الله (عد ٩:١٤).

6- راحاب

“بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاة إذ قبلت الجاسوسين بسلام”

هنا الإيمان والمخاطرة التي جعلتها وضعت حياتها وموتها في المحك لكن بسبب إيمانها كانت سبباً في نجاة أسرتها من الموت.

 (3) من أنتم (صورة أولاد الله)

١- العبد الصالح والأمين (إنجيل عشيَّة).

٢- مساكين بالروح (إنجيل باكر والقدّاس).

٣- يحيون بالإيمان (البولس).

٤- باكورة خلائقه (مُسرعاً في الإستماع مبطئاً في الغضب.. واقبلوا بوداعة الكلمة المغروسة) (الكاثوليكون)

٥- ملح الأرض (إنجيل القدَّاس).

٦- نور العالم (إنجيل القدَّاس).

عظات آبائية

[1] القديس أغسطينوس

المساكين بالروح هم المتواضعون وخائفوا الله – عند القديس أغسطينوس[2]

لقد إفتتح متى الموعظة كما يلي:

“ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل. فلما جلس تقدم اليه تلاميذه ففتح فاه وعلمهم قائلاً”.

لو سئلنا ماذا يعني بالجبل، فحسناً نفهم أنه يقصد وصايا البر العظيمة.

لأن هناك وصايا أقل أعطيت لليهود. ومع هذا فهو إله واحد، تكلم في القديم بواسطة ايليا وخدامه القديسين، معلناً الوصايا الأقل لشعب يعرف الله عن طريق الخوف،

ولكن الذي يوزع الأزمنة بترتيب كامل، أعطى بواسطة إبنه الوصايا العظمى لشعب قد تهيأ للتحرر بالمحبة.

علاوة علي ذلك عندما أعطيت الوصايا الصغرى للصغار والعظمى للعظماء، إنما أعطيت بواسطة الله الذي وحده يقدم للبشرية الدواء المناسب بحسب أحوالها.

ولا نعجب من أن تعطي الوصايا العظمي التي لأجل ملكوت السموات والصغرى التي للملكوت الأرضي بواسطة ذلك الواحد، الله نفسه صانع السماء والأرض.

لذلك قيل بالنبي عن بر الله “عدلك مثل جبال الله” وهذا قد يعني حسناً أنه يليق بالسيد الواحد أن يعلم الأمور العظيمة على جبل.

إنه يعلم جالساً، وهذا يليق بمقام وظيفة المعلم.

“فلما جلس تقدم إليه تلاميذه” ليكونوا قريبين منه بالجسد ليسمعوا كلماته، كما هم قريبين منه بالروح بتنفيذ وصاياه.

“ففتح فاه قائلاً”. وربما كانت هذه الدقة تشير برقة، إلى طول العظة بنوع ما،

وربما يكون هذا القول لأنه الآن فتح فاه، بينما إعتاد في الشريعة القديمة أن يفتح أفواه الأنبياء.

ماذا يقول إذن؟

طوبي للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات

نقرأ في الكتاب المقدس عن التعب من أجل الأمور الزمنية “الجميع باطل وكآبة الروح”.. أما كلمة كآبة الروح presumption of spirit، فتعني الوقاحة والكبرياء والغطرسة.

ومن المعتاد أيضاً أن يقال عن المتكبر أن به أرواحاً متعالية وهذا صحيح لأن الريح تدعي روحاً. وبهذا كتب “النار والبرد والثلج والضباب الريح العاصفة spirit of tempest حقاً إن المتكبر يُدعَى منتفخاً كما لو كان متعالياً مع الريح. ولهنا يقول الرسول “العلم ينفخ ولكن المحبة تبني”.

لنفهم بالحقيقة أن المساكين بالروح هم المتواضعون وخائفو الله أي الذين ليس لديهم الروح التي تنتفخ.

بالحق ليس للتطويبات أن تبدأ بغير هذه البداءة، مادامت موضوعة لأجل بلوغ الحكمة العالية “رأس الحكمة مخافة الرب” ومن الناحية الأخري “الكبرياء أول الخطايا”.

إذن فليبحث المتكبر عن الممالك الأرضية ويحبها، ولكن “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات”.

[2] القديس مقاريوس الكبير

مفهوم الحياة الطوباوية – حسب تعليم القديس مقاريوس الكبير[3]

يليق بالأخوة أن يسكنوا معاً في محبة كبيرة، سواء كانوا يُصلُّون أو يقرأون الأسفار المقدسة أو يمارسون أي نوع من العمل. بهذا تصير الميول المتنوعة للمنفعة، فالذين يُصلُّون والذين يقرأون والذين يعملون يمكنهم ان يعيشوا جميعًا في إخلاص وبساطة بعضهم مع بعض لنفعهم.

فماذا كتب؟!

“لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك علي الارض” (مت١٠:٦)

فكما أن الملائكة في السماء يسكنون معاً بإتفاق عظيم وسلام ومحبة، ولا يوجد بينهم كبرياء ولا حسد إنما يعيشون في محبة و إخلاص، هكذا يليق أن يسكن الاخوة معاً.

ربما يوجد ثلاثون أخاً تحت تدبير واحد، لا يمكنهم أن يستمروا كل النهار والليل في ممارسة شيء واحد. فالبعض يكرسون أنفسهم للصلاة ست ساعات بعدها يرغبون في القراءة، وللبعض إستعداد كبير للخدمة، بينما آخرون يمارسون أي نوع من الأعمال.

مهما يكن الأمر يلزم أن تكون المجموعة في حب وبشاشة نحو بعضهم البعض. فمن يعمل منهم يقول عن من يصلي “الكنز الذى يجده أخي هو كنز مشترك، لذلك فهو كنزى “وليقل الذي يصلي عمن يقرأ: إن ما ينتفع به أخي من القراءة هو لمصلحتى..

ليقل من يعمل: إن ما أعمله من خدمة هو لمنفعة الجميع.

كما أن أعضاء الجسد كثيرة لكن الجسد واحد(١كو١٢:١٢)، تساعد بعضها البعض، وكل عضو يؤدى وظيفته الخاصة، ولكن العين تنظر لحساب الجسد كله، واليد تعمل لأجل كل الأعضاء، هكذا ينبغي أن يكون الإخوة مع بعضهم البعض، فلا يدين من يصلي ذاك الذى يعمل بسبب عدم حضوره للصلاة ولا يدين من يعمل ذاك الذى يصلي قائلا: إنه يستريح وأنا أعمل.

ليته لا يدين من يخدم غيره، بل ليعمل كل أحد عمله أيّاً كان لمجد الله.

ليقبل الذى يقرأ من يصلي بمحبة ولطف وهو يقول في نفسه: إنه يذكرني في صلاته.

فليفكر المُصلي فيمن يعمل هكذا: إن ما يعمله هو لنفعنا جميعا.

هكذا يكون إتفاق عظيم وسلام ووحدانية في رباط السلام (اف٣:٤) يربطهم جميعًا، فيستطيعوا أن يعيشوا معاً في إخلاص وبساطة وفي نعمة الله.

بلا شك الأمر الرئيسي هو المداومة علي الصلاة.

وهناك امراً واحدًا لازم للكل وهو أن  يكون للإنسان كنز في داخل نفسه، وتكون له الحياة في عقله التى هي الرب نفسه، سواء كان يعمل أو يصلي أو يقرأ، عليه أن يقتنى ذاك الذى لا يزول، الذى هو الروح القدس.

[3] الشيخ الروحاني[4]

❈ طوبى للحامل في قلبه ذكرك في كل وقت، لأن نفسه تسكر دائماً بحلاوتك!..

طوبى لذلك الذى يطلبك في داخله كل ساعة، منه تجرى له الحياة ليتنعم.

طوبى للذي يشخص فيك داخله دائماً، فإن قلبه يضئ، فينظر الخفايا!..

طوبى لذلك الذى يطلبك في شخصه، فإن قلبه (يلتهب) بنورك، ويحترق لحمه مع عظامه بحرارة طاهرة!..

طوبى للذين احترقت خدودهم بدموع محبتك! فإن هذه الدموع تلين الأراضي التي احترقت بالنار المنافقة، فتعطي ثمار فرح، والذين يأكلونها لا يموتون!..

طوبى للذى خلط نومه بحبك، لأنه برعدة تهرب من عنده الشياطين النجسة التي تدنس الكسالى!..

طوبى للذى بسط فراشه بعجب أسرارك بلا فتور، فمنه تفوح رائحة الحياة التي تفرح قلوب النشيطين المنفعلين بروحك القدوس!..

طوبى للذى نسى حديث العالم بحديثه معك، لأن منك تكتمل كل حاجاته.

❈ إن كنت تحزن في طلبه فستبتهج بوجوده!..

إن كنت تتألم لكى تنظره بالدموع والضيق، فإنه يُظهر لك حُسنه (جماله) داخلك، فتنسى أحزانك!

لا تطلبة خارجاً عنك، ذلك الذى مسكنه ومقره في داخلك!

من رأى حكيماً أيطلب نعيمه خارجاً عنه؟!..

كيف تليق لك الحياة خارجاً عنك؟!..

لمن أنت تخدم؟

لمن أنت تصلى؟

قدام من أنت تصرخ؟

لمن تدعوا قائلاً: “أبانا، أسرع لمعونتي؟

قدام من أنت تسكب دموعك؟

أليس قدام ذاك الذى به تحيا وتتحرك؟!..

ولكن لماذا لا تشعر بنعيمك في داخل نفسك؟..

أليس لأنك لم تخلط أعمالك به؟..

إذا جلست، أنظر شعاعه متحداً بك..

وإذا قمت فبغمام مجده تطهر..

وإذا مشيت، ارفع الأرض عن نظرك، واجعل مسكنك في نور الرب كموضع نقي..

وإذا نمت فبلجج نوره تُغطى…

وفى شربك امزج شرابك بمنظر مُحبي الكل..

طر مع الطير في جو طهارته،

ومع السمك اسبح في عمق عظمته،

من الحديد في الكُور تعلم سر اتحاده بالنار،

ومع نسيم فمك تستنشق نفسك خليلها،

مع الروحانيين قدس في السماء داخلك.. وهناك انظر مسكنه.

❈ آه ما أعجب خفاياك يا إلهنا.

وما أعظم من يؤمن بها.

نسيت ذاتي بهذيذ أولئك القديسين، الذين لست أنا واحداً منهم.

أجاهد أن أمسك الله القُدوس، فلا يُمسك.

أصوره فلا يتصور.

إذ أنا مملوء فحينئذ أنا فارغ…

وإذ أنا ساكن فيه، يسكن هو فيّ..

وأذا هو مخفي عني، أنا مخفي فيه..

وإذ أردت أن أطلبه، أبصره داخلي..

ومن أي موضع، وإلى أي موضع أذهب به. إنه لا يتركني!

وإذ أُنُصِت إليه يتكلم معي.

وإذا التمسته لا يتحرك..

السُبح لك، إنك مخفى عن الكل، ولمحبيك تشرع بلا انقطاع!

السُبح لك، وعلينا رحمتك إلى الأبد آمين.

[4] القديس غريغوريوس النيسي

نقـــاوة القلــــب[5]

إن طبيعة جوهر الله يفوق كل معرفة بشرية، ولا يمكن الإقتراب من تلك الطبيعة الألهية أو ادراكها بتفكيرنا الخاص، وأن العقل البشري لم يستطع أن يدرك ما هو فوق مستوى الإدراك، لذلك قال الرسول بولس “ما أبعد احكامه عن الفحص” (رو١١: ٣٣) وهكذا يعلمنا أنه صعب على امكانياتنا البشرية أن تدرك جوهر الله، بل وحتى الذين سبقونا لم يتوصلوا الى معرفة ما هو فوق حدود المعرفة.

ولذلك فإن الله الذى يفوق فى جوهره كل طبيعة مدركة هو غير مرئي وغير مدرك، ولكن من الممكن رؤيته وادراكه بوسيلة أخرى، ونحن نستطيع أن نتوصل الى معرفته، بوسائل كثيرة نستطيع أن نراه “كلها بحكمة صنعت” (مز١٠٤: ٢٤) ولذلك يمكننا أن نستنتج الحكمة التى نراها فى المخلوقات. كما هو الحال حين نرى الفنون البشرية فاننا نستطيع أن نتصور الفنان الذى صنع هذا الفن والذى هو موجود قبل الفن الذى صنعه لأنه وضع فنه فى عمله. ولكن ما نراه ليس جوهر الفنان بل براعة الفن التى وضعها فى فنه،

وهكذا حينما ندرك نظام الخليقة فاننا لا ندرك جوهر الخالق بل حكمته التى صنعت كل الأشياء، فنحن حين نتأمل نظام الحياة البشرية وكيف خلق الله الانسان وكيف أعطاه الإرادة الحرة فإننا نتأمل فى طرق الله، وهذا هو صلاح الله وليس جوهره، وهذا هو مجال معرفتنا. ونحن نتكلم عن معرفة الله بهذه الطريقة ونرتفع الى مستوى وجود الله معنا، لأن التفكير فى القوة والطهارة والثبات والحرية والحب، كل هذا يطبع فى عقلنا صورة التفكير فى الله عن طريق الأرتقاء من المخلوقات إلى الخالق.

ولذلك فإن الله لم يخدعنا حين وعد أنقياء القلب أنهم سوف يعاينون الله، وأيضاً لم يخدعنا بولس الرسول حين قال: “الذي لم يره أحد من الناس ولم يقدر أن يراه” (١تي ٦: ١٦) ولا يوجد أى تعارض بين النصين لأن طبيعة الله غير المرئية صارت مرئية فى خليقته، وصرنا نستطيع أن نراه حين نتأمل فى المخلوقات التى خلقها هو.

ومعنى التطويب “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت٥: ٨) ليس أننا نرى طبيعة الله فى المخلوقات بل نرى حكمة هذا الكون التى تقودنا الى الحكمة الفائقة والقوة الألهية التى تظهر فى تناسق المخلوقات. وهذا التطويب يعطى التعزية لأولئك الذين يجاهدون من أجل نقاوة القلب حتى يعاينون الله.

وهناك أمثلة فى طبيعتنا البشرية مثل الصحة، فلا يكفي أن نتحدث عن أسباب الصحة، بل يجب أن نتمتع بها فإذا كان انسان يتحدث عن الصحة ولكنه يتناول أشياء ضارة ومؤذية ويشرب مشروبات غير صحية، فماذا ينفعه الحديث عن الصحة، اذا كان هو مصاباً بأمراض كثيرة؟

وهكذا يجب أن نفهم التطويب، لأن الله لم يطوب الذى يعرف شيئاً عن الله بل الذى يمتلك الله فى قلبه “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله”، ومعنى هذا أن من يطهر قلبه فان الكلمة تصير أكثر وضوحاً له، ويتم فيه قول الرب “ملكوت الله داخلكم” (لو١٧: ٢١)، فاذا طهر أحد قلبه من كل غضب وانفعال سوف يرى صورة الله الجميلة. ويكون مثله، مثل الفنان الذى يطبع على الشمع صورة الميدالية التى يريد أن يصنعها. هكذا فإن الله وضع فى داخلنا القدرة على معرفته لأنه حين خلقنا وضع فينا هذا الكمال، لكي يكون دائماً فى طبيعتنا السلوك والسعي نحو هذا الكمال المطبوع فى داخلنا. ولكن الشر الذى ملأ هذه المخلوقات الالهية جعل صورة هذا الكمال تتلوث. وتشوهت صورة الله بالشر الذى ملأ البشر، ولذلك يجب أن نغسل أنفسنا بحياة الفضيلة ونمحو الشر الذى لصق بقلوبنا، وعندئذ يشرق فينا الجمال الالهي. ومثلما يحدث أيضا للحديد حين يصدأ فانه يتحول لونة فجأة الى اللون الأسود، ولكن حين ينزع عنه الصدأ بدلكة بحجر الشحن فأنه يلمع ويتلألأ ويعكس أشعة الشمس، هكذا يحدث مع الأنسان الداخلى فاننا حين نزيل الصدأ الذى هو القذارة التى تجمعت بسبب الشر والفساد عن القلب فإنه يتنقى ويرجع الى حالة النقاوة الأولى.

ولذلك فان الانسان الذى خلق على صورة الله الصالح هو صالح أيضاً، واذا نظر الانسان إلى ذاته فانه سوف يرى صورته الأولى فى الطهارة والنقاوة اللتين هما صورة الله نفسه مثل الذين يرون الشمس في مرآه، فأنهم لا يتطلعون إلى السماء مباشرة ولكنهم يرون الشمس منعكسة فى المرآة، وهكذا قيل لنا بأن الله معنا. ولأننا غير أقوياء بالدرجة التى نستطيع بها أن نرى النور ذاته، إلا أننا إذا رجعنا إلى أنفسنا وعدنا إلى الصورة التى خلقنا عليها منذ البداية فإننا سنصير صورة الله الذي هو النقاوة عينها والقداسة وانعدام الشر بالتمام، وإذا ما نحن امتلكنا هذه الصفات كلها فان الله بالتأكيد سوف يكون معنا حين لا يتلوث فكرنا بأى شر ونتحرر من كل الشهوات ونتنقى من كل نجاسة، وعندئذ نُطَوَّب لأن عيوننا ستصير طاهرة ونستطيع أن نبصر الأشياء غير المرئية التى لا يقدر أن يراها غير الأطهار. وحينما تزول غمامة الظلمة من العين سوف نرى بوضوح تلك الرؤية المباركة بالفكر الطاهر والقلب النقي. ولكن ما هى تلك الرؤيا. إنها الطهارة والقداسة والبساطة والنور الذى يضىء علينا وينعكس فينا من الله. وبهذا نستطيع أن نرى الله.

[5] الأم الطوباوية سنكليتيكي

المحبة والبعد عن الغضب – حديث للطوباوية سنكليتيكي[6]

المحبة هي كنز ثمين، لذلك يؤكد الرسول عليها في كلامه، وحتى إذا اقتنيت كل شيء وأرهقت الجسد وليس لي محبة، فكأني لم أقتني شيئًا: “إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاسًا يطن أو سنجًا يرن…. وإن سلمت جسدي حتى احترق وليس لي محبة فلا أنتفع شيئًا” (١كو ١٣:١-٣). عظيمة هي المحبة للصالحين،

كما أنه مخيف وعنيف الغضب عند الأشرار. لأن الغضب يجعل النفس مظلمة ويزعجها ويقودها إلى الحمق. السيد الرب دبر لنا الخلاص من كل شيء، ولن يسمح بأي حال أن تكون النفس بلا أي حماية ولو قليلة. رغبة وشهوة العدو هي في إثارتنا وزحزحتنا، ولكن الرب يحاربه فينا بالانضباط والاعتدال.

الكبرياء يحدر النفس، أما الاتضاع ليس بعيدًا عن أن تناله النفس.

الكراهية تنفخ النفس، أما المحبة تجعل النفس أكثر ثباتًا.

ومن منا تثيره سهام العدو، فإن أسلحة محاربتنا بالرب تجعل العدو يسقط من ذاته، وتقودنا إلى الخلاص منه ومن الخضوع لعثراته وسقطاته.

الضرر من غضب الأشرار، لأنه قال: “غضب الإنسان لا يصنع بر الله” (يع ١: ٢٠). لذلك يجب على الإنسان أن يتحكم في غضبه، ويدرك الفائدة من ضبط الغضب في حينه، وإن كان ينبغي أن نغضب فلنغضب ضد ما هو نافع للشياطين.

لأنه من غير اللائق أن نتصرف بعنف تجاه الناس، لأنه بالعنف نقع في الخطايا، فيجب أن نتوب عنه وأن نوقف آلام الغضب في أنفسنا.

وأيضًا حتى الذين يغضبون قليلًا فهم محسوبين من الأشرار، ومن يحقد على الكل فهو أكثر قسوة. لأن دخان الغضب تزعج النفس وتجعلها تنحل،

وأيضًا الحقد والرغبة في الانتقام يعيق بنيان النفس وثباتها، فهو عمل أكثر بغضة من عمل الأفعى نفسها. ومثل الكلب الذي ينبح من أجل الأكل، هكذا من يتحول إلى الغضب.

وأيضًا من يتظاهر باللطف في التعامل فهو يتصرف مثل الحية. والذي يصل إلى الرغبة في الانتقام والحقد لا يقبل النصيحة ولا تشبعه الوداعة.

وبالحقيقة ولا واحد من كل الذين يغيرون فكرهم عن ألم الغضب هذا يشفى منه في الوقت المناسب.

وكل هؤلاء الدائمي الاشتعال بالغضب فهم أكثر المخالفين للناموس، لأنهم لا يطيعون كلام الله القائل: “اذهب أولًا اصطلح مع أخيك. وحينئذ تعال وقدم قربانك” (مت ٥: ٢٤)، وفى مكان آخر يقول: “لا تغرب الشمس على غيظكم” (أف ٤: ٢٦).

حديثها عن ثلاثة أشياء توصل الناس إلى الحياة السعيدة

ثلاثة أشياء في حياة الناس يصلون بها إلى غايتهم.

أولها: أن يكون هناك حدود للشر أو نهاية له.

والثاني: ترسيخ حياة الشركة مع بعض، والاهتمام بملاحظة ذلك.

والثالث: ألا يرتبط الإنسان بفكره فقط، بل يسترشد بالنماذج العظيمة في الكتاب المقدس، وأن يسعى للسلوك في سيرة ترضي الله إلى النهاية.

الناس الأشرار يفرضون قوتهم بطرق عنيفة من أجل أن يمتدوا ويزدادوا. ونصفنا يحاولون تجنب الجهلة والغير منضبطين ويخافون أن يعملوا معهم، ولا ينجذبون إليهم. والصغار يحصلون على فوائد منهم.

أما النوع الثالث من الناس، قادرون أن يصلوا إلى غايتهم بقوة وشجاعة، ويعيشون في بيوتهم بين الناس الأردياء ويرغبون في خلاص أنفسهم. لذلك فهم يهانون من الخارجين عنهم، ويستهزئ بهم الكسالى الذين يعيشون معهم ويفترون عليهم ويشوهون سمعتهم. هؤلاء هم الذين ينبهون الناس إلى التسبيح، وبثقة وبلا خوف يكملون عملهم إلى النهاية، لأنهم يسمعون كلام الكتاب: “طوبى لكم إذا طردوكم وعيروكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلى كاذبين. افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السموات.فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم” (مت٥: ١١، ١٢).

الرب نفسه عمل هذا، إذ كان يأكل مع العشارين والخطاة، لأنه محب للإخوة وكان يقصد أن يخلصهم من أنانيتهم. ونحن نرى الذين يضرمون النار في بيوتهم بارتكاب الأخطاء وهم يحتقرون أنفسهم، وآخرون مصرين على إنهم منقذين من الهلاك، والذين يحترقون بالغضب وهم صابرين على الإهانات، ونصفنا له شكل الأخوة من الخارج وهم مولعون بالخطية ويتجنبون الآخرون، فلا نخاف منهم ومن انتشار نارهم، والذين من النوع الثالث يستمرون في معاقبة جيرانهم الأشرار، ويضرمون النار أكثر في المتفقين معهم ويقودونهم للهلاك، ويقربون الشر من بيوتهم، وهكذا نكون في سفينة حالكة السواد عوض أن نفكر في ترطيب الأمور وتهدئتها.

وعلى عكس ذلك الأبرار الصالحين فهم يتخلون عن ممتلكاتهم الشخصية من أجل أن يخلصوا، وهذا هو البرهان على المحبة الحقيقية، هؤلاء هم الذين حفظوا المحبة بإخلاص.

[6] كلمات آباء الكنيسة عن نقاوة القلب[7]

 القديس غريغوريوس أسقف نيصص

هذه هي النعم التي يغمر بها الرب طبيعتنا وبينما هو يجازيها بالغبطة الآبدية (أو الطوبى) فانه في نفس الوقت يعلمها ويعدها للفوز بهذا الوعد ولكن مما لا شك فإن لا يمكن الوصول بلا معاناة إلى هذه “الطوبی”. نحن نعرف أي سمات تتميز بها حياة الاثم أو حياة البر ونحن لنا الحرية أن نختار أحد الطريقتين فلنتجنب مرأى إبليس ولنتخل عن سماته. ولنلبس الصورة الإلهية مطهرين قلوبنا من كل العلل الرديئة. وهكذا نحصل على الفرح (الروحاني) فتتألق فينا الصورة الإلهية من خلال نقاوتنا في المسيح يسوع ربنا يسوع الذي له المجد إلى دهر الدهور آمين.

القديس يوحنا ذهبي الفم

“طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” لا يكفي الامتناع عن الشر بل نقاوة القلب، ليمكن رؤية الله. لاحظوا هنا أيضاً أن المكافأة روحية. فهو يدعو “أنقياء” من قد بلغوا إلى قمة الفضائل ولم يبقوا في أنفسهم شيئاً من الشر وكذلك من يضبطون أنفسهم في كل شيء ويتعففون عن الشهوات. لأنه ليس هناك شيء نحتاج إليه بشدة لكي نعاين الله بقدر هذه الفضيلة الأخيرة، حيث يقول بولس الرسول أيضاً: “اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب” (عب١٤:١٢).

فهو يتكلم هنا عن الرؤية النسبية أي التي على قدر ما يحتمل الإنسان بسبب محدودية البشرية فكثيرون يمارسوا عمل الرحمة ولا يرتكبون السلب ولا يشتهون مال الغير ومع هذا يوجدون متلبسين بخطايا الفسق والنجاسة. فلكي يظهر المسيح أن عمل الرحمة وحده لا يكفي. أضاف هذا التطويب وهذا هو نفس المعنى تماما الذي يعنية بولس الرسول عندما كتب لأهل كورنثوس شاهداً للمقدونيين أنهم أسخياء ليس فقط في إعطاء الصدقة ولكن أيضا في سائر الفضائل الأخرى لأنه بعد ان تكلم عن سخاؤهم ومحبتهم التي أبدوها من جهة كرمهم المادي قال ايضاً: “بل أعطوا أنفسهم أولاً للرب ولنا بمشيئة الله” (٢كو ۸: ٥).

القديس أغسطينوس

“طوبى لأنقياء القلب لأنهم سيعانون الله” كم هو من الغباء بمكان أن يبحث البعض عن الله بهذه الأعين الخارجية فهو يرى بالقلب فقط كما هو مكتوب في موضع ما (من الأسفار الإلهية): ويإخلاص (أو وحدانية) هو قلب نقي. وكما أن نور هذه الحياة (سفر الحكمة ۱: ۱) فالقلب المتوحد(أى الذي لا يبتغي إلا الله وحده) هو قلب نقى. وكما أن نور هذه الحياة لا يُرى إلا بالأعين السليمة غير المريضة. كذلك الله لا يُرى إلا بنقاء القلب وهو الإداة التي بها يرى.

القديس سمعان اللاهوتي

قد يستطيع الإنسان قهر انفعالاته ولكنه لا يستطيع اقتلاعها، إنه يعطى القدرة على عدم فعل الشر. لكن لا يعطي المقدرة على ألا يفكر فيه. ومع ذلك فالبر الحقيقي لا يعني فقط الامتناع عن فعل الشر بل أيضا عدم التفكير فيه. إن الذي يفكر في الشر غير طاهر، كيف يستطيع القلب أن يكون نقياً في إنسان دنس نفسه بأفكار قذرة كمرآه غشاها التراب وعتمها.

يكون قلب الإنسان نقياً إذا لم يزعجه ويثقل كاهله أی انفعال بل يستمر في ذكر الله بمحبة، لأنه إذ لم يدخل في تفكيره أو تأمله أي شيء أثيم فالعقل – عين النفس – يرى الله في نور نقی. يكون الإنسان ثابتاً رزيناً ليس فقط عندما يرفض أن يكون عبداً لشهواته، بل أيضا نافراً منها تماماً وليس هذا فقط بل يجرد عقله من التفكير فيها ويحلق بحرية في الأعالي كما يريد، وعندما يصل إلى ما وراء حدود المنظور والمحسوس يكون كما لو كانت الحواس مغلقة تماما والعقل سابحاً في دائرة ما فوق المحسوس، ومع محافظته على حواسه تماماً كما يحافظ النسر على ريشه (عندما يطير في الجو).

القلب يكون ويسمى نقياً عندما لا يجد في نفسه أي تفكير دنيوي، وعندما يلتصق التصاقاً كلياً بالله ويتحد معه اتحاداً كاملاً لا يتذكر بعده أي شيء دینوی ساراً كان أو محزناً، بل يظل في التأمل محلقاً في السماء الثالثة، يدخل الفردوس ويرى النعم الموعودة للقديسين كميراث لهم، وبذلك يتأمل النعم الأبدية بقدر الإمكان حسب ضعفه البشري، هذا هو الدليل القاطع على نقاوة القلب التي بها يستطيع كل إنسان أن يحدد درجة طهارته ويرى نفسه كما في مرآة.

يقول الرب “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت٥: ٨) لا توجد فضيلة أو اثنتان أو حتى عشر فضائل تجعل القلب نقياً. لكن كلها مجتمعة تندمج كما لو كانت في داخله في فضيلة واحدة تصل إلى آخر درجة الكمال. لكن حتى الآن الفضائل وحدها لا تستطيع أن تجعل القلب نقياً دون وجود عمل الروح القدس مثل الحداد الذي لا يستطيع أن يعمل شيئاً بدون مساعدة النار. مهما بلغت مهارته في استعمال آلاته. لذلك يجب على الإنسان أن يكون شبيها بالنحلة يعرف كيف يستخرج من كل فضيلة ما هو الأعظم فائدة. هكذا يأخذ القليل من كل فضيلة ويبنى مخزناً عظيماً من ممارستها. كي يشكل عسل الحكمة الذي يجعل القلب بهيجاً.

كما أن التراب الذي يلقي على النار المشتعلة في أي فرن يطفئها. كذلك الاهتمامات الدنيوية وكل أنواع التعلق بأي شيء. مهما كان صغيراً أو تافهاً. تقضي على حرارة القلب التي كانت موجودة فيه في بادئ الأمر، لأن أي إنسان ينبذ كل شيء خارجي بفرح وشعور سليم كامل، أعني أن ينبذ الناس والأشياء وينساها جميعاً، تاركاً كل تعلق بها كما لو كانت وراء حائط يكون غريباً عن العالم وعن كل شيء فيه وعندما يحتفظ بعقله ثابتاً. يدرب نفسه دائماً على شيء واحد فقط. هو ذكر الموت والتفكير فيه. لذلك يكون اهتمامه دائماً بالأمور المتعلقة بالدينونة والجزاء يكون سجيناً بكليته فيها كما لو كان مصفد بالأغلال، مقيداً بها يغرس الخوف الشديد في قلبه بالتفكير في هذه الأمور وبإمعان النظر فيها. القلب الطاهر الذي يقدم دائماً لله ذكراً عديم الشكل والصورة والذي يكون على استعداد لعدم قبول أي شيء إلا انطباعات تأتي من الله وبهذه الانطباعات يألف القلب ويشتهي ظهور الله فيه وعندما نسمع يوحنا يصرخ في البرية: “أعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة” (مر١: ٣) افهم هذه الآية، أن الوصايا هي للقلب والأعمال لأنه من المستحيل حقاً أن تتبع الوصايا وان تعمل بالحق إلا إذا كان القلب كذلك مستقيماً.

كل من يحصل على طهارة القلب ينتصر على الخوف، لكن الإنسان الذي لا يزال في طريق التطهير أحياناً يهزمه الخوف وأحياناً هو يهزم الخوف. ومع ذلك فالإنسان الذي لا يكافح البتة بعد التطهير. أما أن يكون دائماً غارقاً في حالة جمود وعدم شعور ويكون صديق الإنفعالات والشياطين ومملوء بالغرور والصلف يظن أنه شيء وهو ليس شيئاً (غلا ٦: ٣) أو يكون عبد يسلم لأيدي الخوف ولكون عقله عقل طفل فهو يرتجف ويخاف لأن هؤلاء الذين يخافون الله لا يرتجفون ولا يخشون.

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

ان الله لم يخدعنا حين وعد أنقياء القلب انهم سوف يعاينون الله، وأيضا لم يخدعنا بولس الرسول حين قال (1تي ٦: ١٦) ولا يوجد أي تعارض بين النصين لأن طبيعة الله غير المرئية صارت مرئية في خليقته وصرنا نستطيع أن نراه حين نتأمل في المخلوقات التي خلقها هو. ومعنى التطويب (مت٥ :٨) ليس أننا نرى طبيعة الله في المخلوقات بل نرى حكمة هذا الكون التي تقودنا إلى الحكمة الفائقة والقوة الإلهية التي تظهر في تناسق المخلوقات.

وهذا التطويب يعطي تعزية لأولئك الذين يجاهدون من أجل نقاوة القلب حتى يعاينون الله.

وهناك أمثلة في طبيعتنا البشرية مثل الصحة، فلا يكفي أن نتحدث عن أسباب الصحة بل يجب أن نتمتع بها.

لأن الله لم يطوب الذي يعرف شيئاً عن الله بل الذي يمتلك الله في قلبه (مت ٥: ۸) ومعنى هذا أن من يطهر قلبه فإن الكلمة تصير أكثر له ويتم فيه قول الرب “ملكوت الله داخلكم” (لو۱۷: ۲۱) فإن طهر إنسان قلبه من كل غضب وانفعال سوف يرى صورة الله الجميلة. فإن الله وضع القدرة في داخلنا على معرفته لأنه حين خلقنا وضع فينا هذا الكمال لكي يكون دائماً في طبيعتنا السلوك والسعي نحو هذا الكمال المطبوع في داخلنا.

يحدث في إنساننا الداخلي عندما نزيل القذارة التي تجمعت بسبب الشر والفساد عن القلب فإنه يتنقى ويرجع إلى حالة النقاوة الأولى. وإذا نظر الإنسان إلى ذاته فإنه سوف يرى صورته الأولى في طهارته ونقاوته التي هي صورة الله نفسه مثل الذين يرون الشمس في مرآة. فأنهم لا يتطلعون إلى السماء مباشرة ولكنهم يرون الشمس منعكسة في المرآة. وحينما تزول غمامة الظلمة من العين سوف نرى بوضوح تلك الرؤيا المباركة بالفكر الطاهر والقلب النقي. ولكن ما تلك الرؤيا: إنها الطهارة والقداسة والبساطة والنور الذي يضئ علينا وينعكس فينا من الله. وبهذا نستطيع أن نرى الله!!.

القديس يوحنا ذهبي الفم

مطوب ومثلث الطوبى ومتعدد الطوبى أولئك الذين يحسبون أهلاً أن يروا ذاك المجد، عن هذا يقول النبي: “لينزع الشرير فلا يرى جلال الرب” (إش ٢٦: ۱۰) الله لا يسمح أن ينزع في أحد منا أو يستبعد عن رؤيته. فإننا إن كنا لا نتمتع بذلك فسيأتي وقت نقول لأنفسنا “كان خير لنا لو لم نولد” لأنه لماذا نحن نعيش؟ ولماذا نتنفس؟ ماذا نكون إذا فشلنا في التمتع بمشاهدة ذلك ولم نمنح معاينة الرب؟ إن كان الذين لا يرون نور الشمس يحسبون الحياة أمَّر من الموت فماذا يكون حال المحرومين من مثل هذا النور؟!.

[7] القديس يوحنا كاسيان

الهدف ملكوت السموات وحياة الكمال[8]

إن هدفنا هو ملكوت السموات وهو الهدف الثابت الذي لا يتغير قط. وبدون طهارة القلب لا يمكن أن نصل لهذا الهدف. ويجب أن نحتفظ بهذا الهدف دائماً في عقلنا. وقد يحدث أحياناً لفترة قصيرة أن ينحرف قلبنا عن الطريق المستقيم ولكن يجب أن نرجعه ثانيه وأن نقود حياتنا بالتقوي المناسبه لهذا الهدف.

ويجب أن نفعل كل شئ من أجل هذا الهدف المباشر، فنحن نترك اوطاننا وعائلاتنا وممتلكاتنا وكل شئ عالمي لكي ننال طهارة القلب. ونحن نحتقر الغنى المادي من أجل محبة إخوتنا لئلا نقاتل بالغضب ونسقط من الحب. وإذا ما تحركنا بالغضب ضد أخينا. حتى لو كان من أجل أمور بسيطة فإننا نسقط من هدفنا ويكون خروجنا من العالم غير ذي أهميه.

ولقد حذرنا بولس الرسول من ذلك حين قال “وإن سلمت جسدي حتي إحترق ولكن ليس لي محبة فلا انتفع شيئاً” (1كو٣:١٣).

ونحن نعلم أن الكمال لا يتوقف على مجرد ترك العالم، ولكنه يأتي بعد إدراك الحب كما يقول الرسول بولس “المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ. ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء” (1كو ١٣: ٤-٥) وكل هذه الأمور السابقة التي تحدث عنها بولس الرسول هي التي تؤسس طهارة القلب. ونحن نفعل كل شئ من أجل هذا ونحتقر كل ممتلكاتنا ونحتمل الأسهار والأصوام بفرح والقراءة الروحية والتسبيح.

إن الأصوام والأسهار وقراءة الكتاب المقدسة ليست هي الهدف والكمال ولكننا نصل إلي الكمال عن طريق تلك الممارسات. لأنه لن يفيدنا إفتخارنا بأصوامنا وأسهارنا وقراءتنا في الكتاب المقدس إذا لم نصل إلى محبة الله ومحبة القريب، لأن كل من أدرك حب الله في قلبه فإن عقله يكون دائماً مع الله.

[8] القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد[9]

«أنتم ملح الأرض» (مت٥: ١٣)

هكذا يحثنا الرب، كما يوصينا أيضاً بالبساطة والوداعة، وأن تقترن الوادعة بالحكمة.

أيها الإخوة الأحباء ألا يليق بنا إذا أن نكون ذوي بصيرة وإفراز، وأن يكون لنا القلب اليقظ لكي ندرك ونحذر من شراك العدو، ونحترس لئلا- نحن الذين لبسنا المسيح حكمة الله الآب- أن نكون معتازين للحكمة اللازمة لخلاصنا؟ إن الاضطهاد ليس هو الأمر الذي يجب أن نخشاه، ولا كل الأمور التي تهاجم علانية، لأن الحذر يصبح سهلاً عندما يكون سبب الخوف واضحاً، فالذهن حينئذ يكون مهيأ للقتال متى أعلن العدو عن نفسه، وعلى العكس من ذلك، الخشية والحرص تزداد أكثر من العدو الذي يتسلل خلسة، إذ بعد أن يخدع بمظهره، وبهذه الصورة من السلام يهاجمنا بطرق خفية، إذ له أيضا اسم الحية، وهو هكذا دائماً في خداعه وحيله ومؤامراته الخفية والمظلمة التي بها يهزم الإنسان، فقد استطاع منذ بدء الخليقة أن يخدع ويتملق بكلماته الكاذبة النفوس الساذجة مستغلاً بساطتها وعدم حذرها، وهكذا حاول أيضاً أن يجرب الرب نفسه فاقترب منه خفية، ولكن الرب أدرك خداعه ورده، وطرحه أرضاً إذ عرفه ونزع عنه قناعه.

❈ لقد كان هذا مثالاً لنا، لكى نهرب ونتجنب طريق الإنسان العتيق حتى نسير في خطى المسيح الغالب، ولا نعود بعد للسقوط مرة أخرى في فخاخ الموت بغير حذر، بل أن نعرف وندرك الخطر، حتى نقتني الخلود الذي نلناه فعلاً. وكيف لنا أن نقتني الأبدية إن لم نحفظ وصايا المسيح تلك التي بها نستطيع أن نطرد الموت ونهزمه؟ إن الرب يحثنا بنفسه قائلاً: “إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا” (مت ۱۷:۱۹). وأيضا “إن فعلتم ما أوصيكم به، لا أعود أسميكم عبيداً بل أحباء” (يو١٥: ١٤، ١٥). ويدعو أخيراً هؤلاء الذين يحفظون وصاياه أقوياء وثابتين، وأنهم في أمان تام مؤسسين على الصخرة. مبنيين بثبات لا يهتز في مواجهة عواصف وأعاصير هذا العالم، وثباتهم لا يتزعزع، إذ يقول: “كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها، أشبهه برجل عاقل، بنى بيته على الصخر. فنـزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبت الرياح، ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط، لأنه كان مؤسساً على الصخر” (مت 7: ٢٤، ٢٥). لذلك يجب علينا أن نثبت في كلماته وأن نتعلم ونعمل بكل ما علَّم به وعمله.

كيف يقول أحد أنه يؤمن بالمسيح، بينما هو لا يفعل ما يأمر به المسيح؟ أو كيف ينال جعالة الإيمان، ذاك الذي لا يحيا الوصية؟ حتما سيضل وتنال منه روح الضلال، تماماً كما تعصف الريح بالتراب وتذريه، ولن يتقدم في طريقه نحو الخلاص، إذ أنه بحق لا يحفظ هذا الطريق.

❈ علينا أن نأخذ حذرنا ليس فقط الأمور الواضحة أو من المعلنة، بل أيضا من الذين يحتالون بمكر. وما هي الحيلة الأكثر خداعاً ومكراً لهذا العدو؟ فبعد أن عرف وسحق بمجئ المسيح، وبعد أن أشرق النور للأمم، لكيما يستطيع الأصم سماع النعمة الروحية، والأعمى أن يفتح عينيه الله، وأن يصير الضعيف مرة أخرى قوياً، وأن يجري المقعد للكنيسة، وأن يصلي الأخرس ويسبح بأصوات واضحة نقية.

وإذ رأى أن أوثانه قد هجرت، وجموع المؤمنين ترکت معابده، اخترع حيلة جديدة مستخدماً الأسم المسيحي نفسه، حتى يخدع من هو غير حذر وغير حكيم؟

لقد اخترع الهرطقات والانشقاقات حتى يهدم بها الإيمان، ويفسد الحق ويشطر الوحدة، فالذين لم يستطيع أن يقيدهم ويأسرهم في ظلام الطريق العتيق، يحتال عليهم ويخدعهم بضلال طريق جديد، فهو يخطف أناساً من داخل الكنيسة ذاتها، وإذ يظنون أنهم قد أقتربوا بالفعل من النور، وأفلتوا من ليل العالم المظلم، يلقى عليهم بظلاله من جديد، في جهلهم ولا وعيهم، يدعون ذواتهم مسيحيين، رغم أنهم ليسوا مع إنجيل المسيح ولا وصاياه، يظنون أن لهم النور، بينما هم سائرون في الظلمة، حيث العدو الذي يكذب ويخدع، ذلك العدو الذي بحسب كلمات الرسول قادر أن يغير نفسه إلى شكل ملاك نور، وأن يجعل خدامه يبدون كما لو كانوا خدام البر، هؤلاء الذين لهم الليل عوض النهار، والموت عوض الخلاص، واليأس تحت دعوى الرجاء، والخيانة تحت ستار الوفاء والإخلاص، ضد المسيح تحت اسم المسيح، وبينما هم يختلقون ويزعمون أن لديهم الحق، يفسدون الحق بخداعهم ومكرهم، وهذا ما يحدث- أيها الإخوة الأحباء عندما لا نعود إلى ينبوع ومصدر الحق، عندما لا نطلب الرأس (أي السيد المسيح)، ولا نحفظ تعليم الأم السمائية (أي الكنيسة).

عظات آباء وخدام معاصرين

[1] المتنيح الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف والبهنسا

أولاً: صُورة ابناء الملكوت (مت٥: ١-١٥)[10]

التطويبات: (مت ٥: ١- ۱۲)

صعد السيد الى الجبل وأخذ الجموع معه لكي يعلمنا الصعود اليه، والجبل يرمز إلى الإرتفاع فوق هموم الحياة. فأسفل الجبل القرى والبيوت والأنهار ومشاغل الحياة. وأما السيد فيأخذنا إلى ما فوق هموم الحياة، على جبل التأمل والخلوة والعبادة. نتأمل فيه وفي صفات بره ونقول “برك مثل جبال الله” (مز ٣٦: ٦). هناك نطلب منه القوة التي نسلك بها في الحياة الأرضية بتقوى “رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني” (مز۱۲۱: ۱)

“فلما جلس…” جلس السيد جلسة هادئة يعلم فيها الجموع، ولم يقف موقف خطیب متحمس، وهكذا فعل في مجمع الناصرة (لو ٤: ٢٠). وتقدم التلاميذ إليه فخاطبهم. وكأن السيد لم يكن يفعل كبعض الخدام الذين تشغلهم الخدمة العامة المتسعة فينسوا قطيعهم الخاص وتلاميذهم، يهتمون بالبعيدين وينسون القريبين. بل كان يهتم بالجميع.

طوبی للمساكين بالروح. لأن لهم ملكوت السموات. المساكين الذين يشعرون بضعفهم وخطاياهم. هم منکسرو القلب “والقلب المنكسر والمنسحق لا ترذله يا الله” (مز ٥١: ۱۷)، الذين يشبهون العشار الذي لم يجرؤ على رفع عينيه إلى السماء فرجع مبرراً (لو۱۸: ١٣، ١٤).

الودعاءيرثون. قال الرب “مستكبر العين ومنتفخ القلب لا أحتمله” (مز۱۰۱: ٥). فالودعاء هم الذين لا يتكبرون ولا يغترون بشيء مما لهم، وبذلك يأخذون الرب نصيبهم، فيرثون الأرض الدائمة التي قال عنها “ثم رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة…” (رؤ۱:۲۱) كما أنهم يتمتعون بالراحة والبركة هنا لأنهم أمنوا أن يروا جود الرب في أرض الأحياء (مز۲۷: ۱۳).

الجياع والعطاش إلى البر. لا يطلبون الجسديات بل يقولون: “طعامي أن أفعل مشيئة الذي أرسلني” (يو٤ :٣٤). لأن الجري وراء الجسديات لا يشبع “الذي يشرب من هذا الماء يعطش ايضاً، ولكن الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية” (يو٤: ١٤).

الرحماء يرحمون.. كقوله “طوبی لمن يتعطف على المسكين، في يوم الشر ينجيه الرب” (مز٤١: ١) وإن لم نرحم لا يرحمنا الله کالعبد الذي لم يرحم زميله (مت ۱۸: ۲۱- ٣٥).

طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله. الذين ينقون قلوبهم من الخطية يمكنهم أن يروا الله، لأن الأداة التي نری الله بها هي القلب، فإن كانت الأداة معتمة استحالت رؤية الله علينا.

طوبى لصانعي السلام.. وهؤلاء هم الذين يصنعون السلام أولاً بينهم وبين الله، ويكفون عن فعل الشر، ويطرحون رئیس هذا العالم خارجاً. ثم أنهم الذين يفعلون السلام بين الناس “مجتهدين إلى حفظ وحدانية الروح برباط السلام” (أف٤: ٣). الذين يشبهون ابن الله الذي صنع السلام بين السماء والناس.

طوبي لكم اذا عیروکم.. من أجلي كاذبين (مت ٥: ١١) إذا كان الانسان مخطئاً فهو مستحق العقاب الموضوع عليه. ولكن يكافأ إن أضطهد من أجل اسم السيد المسيح وافتري عليه. “لأنه أي مجد هو إن كنتم تُلطَمون مخطئين فتصبرون. بل إن کنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون فهذا فضل عند الله” (١بط ۲: 20، 21) “…وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه” (أع ٥: ٤١) وبهذا نصير شركاء الأنبياء.

أنتم ملح الأرض: (مت ٥: ١٣)

الملح في ذاته حاذق الطعم غير حلو، ولكنه يساعد الطعام في أن يؤكل. والانسان ليس فيه بذاته شيء حلو “لأني عالم أنه ليس ساكناً فيَّ أي في جسدي شیء صالح” (رو۷: ۱۸) والقديس أيضا لايحوي شيئاً صالحاً بذاته “متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا أننا عبيد بطالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا” (لو۱۷: ١٠) ولكن في يد الله يفيد المؤمن العالم.

فالملح يجعل الطعام مستساغاً. والمؤمن يجمل الوسط الذي يوجد فيه ويطيبه. والملح يوضع على الأشياء القابلة للفساد كاللحم ليحفظها والمؤمن يبارك العالم ويحفظه من الهلاك “لأنه لو لم يبق لنا الرب بقية، لصرنا مثل سدوم وشابهنا عامورة” (رو٩: ٢٩) فوجود القديسين على الأرض يمنع غضب الله، وبسببهم يرحم الله العالم. والملح يستعمل ذائباً في الطعام، ولا يجب للمؤمن أن يجعل نفسه شيئاً، بل ينكر نفسه من أجل بركة الآخرين، يجب أن يفني المؤمن ذاته ويذيبها في العالم. وكما أننا نشعر بقيمة الملح حين يذوب، هكذا حين تنزل التجارب بالمؤمن ويحتملها فإن قيمته الحقيقية تظهر وترتفع “لأنه إن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيوماً” (۲ کو١٤: ١٦).

أنتم نور العالم: (مت٥: ١٤، ١٥)

ليس للمسيحي في حد ذاته نور، وإنما هو نور السيد المسيح الذي ينعكس عليه كإنعكاس الصورة على المرآة. ولذلك يرى الناس أعمال المؤمن الحسنة، فيجب ألا يمجدوه هو بل أباه السماوي مصدر هذا الحسن.

والنور يستعمل للهداية، والمؤمن رسالة المسيح المقروءة من الناس (٢کو ٣: ۲، 3). والشمعة تنير، وهكذا المؤمن الذي ينير أمام الناس، الذي يدقق في حياته، ويقمع جسده ويستعبده، ويسهر في التأمل في الرب، وفي خدمة النفوس يفنى، بينما حياته تنير أمام الناس.

ولقد شبه السيد المؤمن بمدينة على جبل، والجبل الذي يصعد عليه المؤمن هو جبل الإيمان والصلاة والتجارب. يجلس المؤمن هناك ويمتلئ.

[2] المتنيح الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة والإجتماعية

الكاهن.. طبيب بارع[11]

† حقاً إن الكاهن طبيب بارع ؟!

† وإذا كان ذلك هو شأنه فأيه أمراض يستطيع أن يشخصها ؟!

† وأية أدوية يمكن أن يصفها ؟!

† وأيه جروح لديه القدرة على علاجها ؟!

قال صاحبي ـ وهو أحد الخدام القدامى ـ والدموع تنساب على وجهه، لم أكن أتوقع أن يسرع المرض إلى عروسي وشريكة حياتي. بل كنت أتوقع السعادة التي لا يعكر صفوها مرض أو سقم. نعم لم أكن أتوقع ذلك لأني أشعر أنني خادم الرب منذ مدة طويلة ـ إنها ليست تجربة عادية، ولكنها قصة مرض ظل أربعة شهور زارت خلالها عديداً من الأطباء حتى هدانا الله إلى طبيب يعرف الله ويُقدِّر قيمة وسائط النعمة مع عمل الإنسان. كان هذا الطبيب رجلاً تقياً يعرف قيمة صلاة الكاهن وأثرها في شفاء النفس والجسد معاً. وكان يؤمن بأن عمله كطبيب يحتاج إلى مشاركة طبيب آخر رتبه الله ورسم له الطريق.. نعم رسم له طريق شفاء الناس في صلاة وطقس يتم به سر من أسرار الكنيسة السبعة وهو “سر مسحة المرضى”.

ابتدرني الطبيب بقوله: لقد جربنا أدوية كثيرة، ولكن ينقصك دواء آخر. فقلت له على الفور: وما هو لأشتريه حالاً؟. فقال: إنه صلاة مسحة المرضى.. هل قمت بها؟ فتعجبت من ذلك، وبسرعة أجبت: إننا لا نقيمها إلا في الصوم الكبير وبالتحديد في الأسبوع الخامس منه. وهنا ربت الرجل التقي على كتفي وقال: ألم تقرأ ما قاله معلمنا يعقوب الرسول “أمريض أحد بينكم فليدع قسوس الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب، وصلاة الإيمان تشفي المريض والرب يقيمه وإن كان قد فعل خطيئة تغفر له….”.

ومضت لحظة قصيرة لمس الطبيب في وجهي علامات التعجب فلم يقابلها إلا بابتسامته الرقيقة التي ما لبثت أن انفرجت عن ضحكة طويلة حين سألته: وما علاقة هذا الذي تقوله بمرض عروسي؟ أنا أفهم أن معلمنا يعقوب ربما يقصد من هذا الكلام بعض الأمراض الخفيفة، أو ربما بعض الأمراض النفسية!!..

غيرأن الطبيب ما لبث أن أجابني: لابد أن نقرأ باقي الإصحاح ـ أنظر ماذا يقول لمن يشك في هذا الأمر “كان إيليا إنساناً مثلنا تحت الآلام وصلى صلاة أن لا تمطر فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر، ثم صلى أيضاً فأعطت السماء مطراً وأخرجت الأرض ثمرها”.

ومضى صاحبى يقول “كم كان الحديث مشوقاً، فتح الرجاء أمامي لألمس عمل النعمة في أبناء النور الذين ينقصهم أن يذوقوا حلاوة العشرة مع الله بدلاً من الوقوف على عتبة المسيحية والاكتفاء بحفظ بعض الآيات، أو القراءة دون الممارسة العملية.

وأسرعت إلى أبي الكاهن أعرض عليه الأمر وأطلب صلاته ومعونته ـ وكم كان كاهناً مثالياً حين أعطاني من وقته فترة، أحضر فيها كتاب صلاة مسحة المرضى، وجلس يشرح لى هذا السر العظيم الذي يهب الله بواسطته نعمة الشفاء الكامل المريض على يد الكاهن وتحت مادة منظورة هي الزيت المقدس.

وكان شغفي بالحديث مبعث عديد من الأسئلة أخذت أوجهها لأبي الكاهن لعل أهمها: هل نكتفي يا أبي بهذه الصلاة ولا داعى لاستشارة الطبيب؟

فقال الكاهن: لا يا بني.. إننا لا ينبغي أن نفعل هذا ونترك ذاك لأن الطبيب سبب من أسباب الشفاءـ هو وسيلة، والدواء وسيلة، والصلاة وسيلة، والكاهن أيضا وسيلة- فليس الغارس شيئاً ولا الساقي شيئا ولكن الله الذي ينمي.

وأخذ الكاهن يشرح لى بعض صلوات مسحة المرضى وكم تأملت في كلمات هذه الصلوات ومنها صلاة أوشية المرضى التي يقول فيها:

“تعهدهم بالمراحم والرأفات أشفهم. انزع عنهم وعنا كل مرض وكل سقم، وروح الأمراض أطرده، والذين أبطأوا مطروحين في الأمراض أقمهم وعزهم.. رجاء من ليس له رجاء ومعين من ليس له معين. عزاء صغيري القلوب ميناء الذين في العاصف.. ونحن أيضاً يا رب أمراض نفوسنا أشفها والتي لأجسادنا عافها أيها الطبيب الحقيقي الذى لأنفسنا وأجسادنا يا مدبر كل جسد تعهدنا بخلاصك” .

وما أحلى هذه الطلبات، وما أعذب كلماتها على النفس المريضة والجسد العليل. هذه التي يرددها الكاهن مع كل صلاة من صلوات مسحة المرضى.

أعطيت نعمتك أيها المتأنى على أيدى رسلك الأطهار يا محب البشر لكى يشفوا بمسحتك المقدسة كل ضربات وكل أسقام الآتين اليك وإلى مواهبك بأمانة. فالآن أيضاً طهرنا بيمينك من كل مرض واجعلنا مستحقين بصلاحك لفرحك غير الفاني وارشم الآتين اليك بأمانة ليكون لهم خلاص ونجاة من الأمراض النفسية والجسمانية عندما تدهنهم كهنتك كما قلت على فم يعقوب تلميذك. أنت يا رب من البدء بغصن الزيتون قد أظهرت أنه قد مضى الطوفان وبمسرتك المقدسة وبإسمك أيها الرؤوف الرحيم خلص عبدك (فلان) المؤمن باسمك بشفاعة العذراء أم الخلاص (كيرياليسون).

…اشف يا رب أنفسنا وأجسادنا برشمك الإلهي ويدك العالية لأنك ربنا كلنا بشفاعة العذراء أم الخلاص (كيريا ليسون).

✥ من أجل السلامة العالية من الرب نطلب (كيرياليسون).

✥ من أجل تقديس هذا الزيت من الرب نطلب (كيرياليسون).

✥ من أجل عبدك (فلان) منك أيها الرب نطلب (كيرياليسون).

✥ أيها الرب الرؤوف المتحنن أعلن رحمتك لكل أحد. وأظهر قوتك في خلاص الآتين إلى مسحة كهنتك بأمانة وأشفهم بنعمتك.

وكل الذين سقطوا في الأوجاع أنقذهم من سهام العدو ومضايقة الأفكار وآلام الجسد، وسائر المكروهات الخفية والظاهرة بشفاعة والدة الإله وسؤال الملائكة ودم الشهداء. وطلبات القديسين ورؤساء الآباء ومصاف الشهداء.

نسألك يا رب من أجل عبدك ( فلان ) لكى تحل عليه بنعمة روح قدسك وطهره من جمع خطاياه. وأغفر له جميع زلاته وخلصه ونجيه من كل شدة، وخلصنا كلنا من الشر والشرير آمين.

ويحلق بك الكاهن في صلوات مسحة المرضى. فهذا السلطان الكبير الذي أعطى له أن يشفي المرضى وأن يطهر البرص وأن يخرج الشياطين.

وتنقلنا صلاة مسحة المرضى بين القراءات الانجيلية عن الشفاء وسلطان الكهنوت فيه، وكذلك الطلبات من أجل أمراض النفس والجسد معاً، ويختم هذا كله برشم المريض بالزيت “وصلاة الإيمان تشفي المريض والرب يقيمه”.

خبرة لا تنسى:

وخرج صاحبى من هذه التجربة أو ـ الخبرة إن شئت أن تسميها ـ وقد زاد إيماناً ونمواً. لقد شفيت عروسه وانفرجت أساريره وعرف أن الله لابد أن يكون له مكان في المرض أيضاً كما له في الصحة. وعرف أن الله يعطى الكاهن سلطاناً ليتم أسراره المقدسة التي يحصل فيها المؤمن على نعمة غير منظورة تحت مادة منظورة.

✤ نعم هناك أمراض النفس والجسد وللكاهن سلطان أن يصنع الشفاء بقوة الروح القدس الذي يطرد كل روح شريرة.

✤ ويستطيع الكاهن أن يصف الأدوية الروحية التي تبعث السلام الذي يفوق كل عقل في قلب المريض فإذ بجسده يهدأ ونفسه وروحه تسكن على رجاء.

✤ ويستطيع الكاهن أن يستجلب العزاء إلى النفوس التي جرحها المرض والحزن والكآبة والتنهد ووجع القلب.

✤ ويستطيع أن يضع النور أمام كل نفس مريضة لترى الطريق والحق والحياة.

✤ نعم يستطيع كل شيء في المسيح يسوع الذي يقويه.

[3] العلَّامة الأنبا إيسيذوروس – أسقف دير البراموس

ما يجب على الكاهن (من نحو رعاية الشعب)[12]

أ–   ثواب البار وعقاب الخاطىء.

ب– حزن الكاهن المتكاسل.

ج– اغراؤه على القيام بواجباته.

أ – ثواب البار وعقاب الخاطىء:

قال الله: لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود (مل ٢: ٧) فان الكاهن بما أنه يحوي الشريعة فى صدره، ويحفظ كلام الانجيل فى قلبه، ويعمل بها، يعتبر بكليته قدوة المسيحيين وسراج المؤمنين، وبالتالى فعليه التعويل فى كافة الأمور، وضروريات الحياة الروحية فان المسيح قال وهو يخاطب الكهنة: أنتم نور العالم (مت ٥: ١٤) وقال وهو يخاطب الشعب: فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فأحفظوه وافعلوه (مت ٢٣: ٣) فأنت أيها الكاهن قد نصبت معلماً للأغبياء، ومحكماً للجهلاء، ونوراً للعميان فى طريق الكمال المسيحى، وهادياً للذاهبين عند أبي الأنوار حيث يستقبلون بوجوه باشة وصدور رحبة، أو يطردون الى مكان الظلام، فأحرص لئلا يتأخر أحد من الرعية التى دفعت ليدك، وينقطع عن السائرين، أو ينعس أثناء الطريق، أو يفاجئه مرض، فلا يبصر تلك الأماكن التى تبهج النواظر، وتشرح الخواطر، وترتاح لها النفس، ويهتز لها القلب فرحاً، وتدفع الانسان بجملته الى اللذة والنعيم والسرور، الذي لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب البشر.

أما هو فيبقى خارجاً حيث يندم ولا ينفعه الندم، ويبكي ولا يجد من يجفف دموعه، ويحزن وليس من يعزي، ويقرع وليس من يفتح، ويدعو وليس من يجيب، حينئذ يتم ما قالته حكمة اللة فأنا أيضاً أضحك عند بليتكم أشمت عند مجىء خوفكم، اذا جاء خوفكم كعاصفة وأتت بليتكم كالزوبعة اذا جاءت عليكم شدة وضيق، حينئذ يدعوننى فلا أستجيب يبكرون الىّ فلا يجدوننى (أم١: ٢٦– ٢٨) وما قاله المسيح فى تشبيه ملكوت السموات بالعشر عذارى.

“أخيراً جاءت بقية العذارى أيضاً قائلات يا سيد يا سيد أفتح لنا، فأجاب وقال الحق أقول لكن أنى ما أعرفكن” (مت٢٥: ١١، ١٢).

ب- حزن الكاهن المتكاسل:

فأنت أيها الكاهن المؤتمن على قطيع الرب، والذي دفعت لك الوكالة لتعطي العبيد والإماء والاخوة والأخوات الطعام فى حينه، أنظر حينئذ أى خجل يعتريك حين ترى أحد الأغصان عديم الثمر ومقطوع من أصله، مطروحاً بعيداً وجافاً، يابساً مستعداً للحرق والإيقاد وحين ترى ذلك الأخ المسيحى الذى لبس حلة بيضاء من داخل المعمودية، واشترك معك فى فى الجسد والدم القوت المحيي، مطروحاً خارج الفردوس بعيداً عن أخوته، غريباً من أقرانه، منفصلاً عن خلانه، نائياً عن صحبته، واهمالك وكسلك هما اللذان سببا ذلك  فتأمل كيف يشتد الأسى فى فؤادك، واعلم أنك مهما كنت جامعاً من صفات الصلاح، فانك ستظهر غاشاً لنفسك، ومخدوعاً وخسراناً فى تجارتك، فانك وجدت مهملاً جزء عظيماً من واجباتك، لأن الله قد جعلك رقيباً على شعبه لكي ما تسمع الكلمة من فمه وتنذرهم بها فلم تفعل حسب كلامه، ولم تنذر الشرير ليرجع عن طريقه الرديئة فيحيا، لذلك يموت باثمه ويطلب دمه من يدك.

“قد جعلتك رقيباً لبيت اسرائيل فاسمع الكلمة من فمي وانذرهم من قبلي، اذا قلت للشرير موتاً تموت وما أنذرته أنت ولا تكلمت انذاراً للشرير من طريقه الرديئة لا حيائه فذلك الشرير يموت باثمه أما دمه فمن يدك أطلبه” (حز٣: ١٧، ١٨) واذا كان راعي صالح مجتهد وساعي، ومهتم ليلاً ونهاراً فى خلاص رعيته، وخلاص نفسه، وهو بولس الرسول الذى أظهر ذاته بريئاً من دم الجميع:

“لذلك أشهدكم اليوم هذا أنى برىء من دم الجميع (أع ٢٠: ٢٦) يلتهب بجمرات الآلام، ويخلص كما بنار حين يرى مساعيه خابت، وإن واحداً من الذين سعى فى خلاصهم، ووعظهم مسلسلاً ومطروحاً خارج الملكوت، حيث البكاء الدائم وصرير الأسنان كما قال:

فعمل كل واحد سيصير ظاهراً لأن اليوم سيبينه لأنه بنار يستعلن وستمتحن النار عمل كل واحد ما هو، إن بقى عمل أحد قد بناه عليه فسيأخذ أجرة (١كو٣: ١٣، ١٤) فما عسى تكون حالتك أيها الكاهن المتقاعس، المتغافل عن تدبير وتعليم شعبك والى أين تهرب، وأي جواب تجاوب حين يطالبك الديان بدم نفسك، ودم أحد أعضاء جسده الذى كنت أنت المتكفل باتصاله بجسم الكنيسة على الدوام، فوجد منفصلاً ومنقطعاً، وملقياً بعيداً عنها يقاسي مُرّ العذاب فى النار التي لا تطفأ فقم وطف فى الشوارع والمنازل والكهوف، وأنشد ضالتك، واذا وجدتها احملها على كتفك، وتعال بها الى حضن الكنيسة فرحاً، عظ وعلم فى الكنيسة وخارجها على اجتماع وانفراد، على اتصال وافتراق، فى الحفلات والندوات، زر البيوت وأنذر بكلمة الله، تمم واجبك، ولتقطر شفتاك حلاوة ولذة من شريعة الرب الطيبة، ولسانك فليلهج بها على الدوام، وليدِّر فمك قطرات ناموسه المحيي، وعقلك وجميع حواسك فلتكن مسبية بمحبة كتبه الطاهرة.

“تضرم أيضاً موهبة الله التى فيك” (٢تي١: ٦).

“لا تطفئوا الروح” (١تس ٥: ١٩) لئلا يتقيأك المسيح من فمه.

“أنا مزمع أن أتقيأك من فمي” (رؤ ٣: ١٦)

لأنك إن دفنت الوزنة التى منحتها، ولم تقم بما قلدت به من الوظيفة فأحرص وخف فانك فى خطر ومزمع أن تطالب بربح تجارة عظيم، فأحذر أن تخسر، والموسم قائم، لئلا يأتي وقت لا تجد من يعاملك، وتسد فى وجهك أبواب التجارة، والموسم ينحل، وأبواب السوق تغلق، ويأتي الليل الذي ما بعده نهار، حين لا تستطيع أن تعمل شيئاً.

“يأتى ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل” (يو ٩: ٤) انك لمزمع أن تطالب لا بنفسك فقط ، بل بنفوس كثيرة، فخف أن يضيع منها واحدة، فإن ضاعت تبقى نفسك بدلها.

فإن الله قد وكلك بحفظها وصيانتها والأعتناء بها فى رقادها ويقظتها، فى جلوسها وقيامها، فى سيرها ووقوفها، فأحذر أن تجوع أو تعطش من حر النهار، أو تبرد من برد الليل، فيقرب هلاكها.

ج- اغراؤه على القيام بواجباته:

فقد صرت كمربية تربى أولادها الى أن ينموا ويقووا، ويبلغوا الى كمال قامة المسيح، لأنه هكذا جعل الله فى كنيسته.

“أعطى البعض أن يكونوا رسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين، لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح، الى أن ننتهى جميعنا الى وحدانية الايمان ومعرفة ابن الله الى انسان كامل الى قياس قامة ملء المسيح (أف ٤: ١١-١٣) فقد حسبت أحد هؤلاء العاملين فى كرم الرب، الحارثين أرضه، والمعتنين بغروسه المقدسة سقياً وتقضيباً، وفلاحة وتقويماً، الى أن تصير أشجاراً تينع وتثمر أثمار البر والتقوى، أثمار القداسة والطهارة، أثمار الكمالات المسيحية  فربى العروس الصغيرة، وأعتن بالشجيرات الى أن تصير أشجاراً، وربي الأطفال، وهذب الصبيان، وأدب الشبان، وروض الأحداث، وقوم الرجال، وثبت الشيوخ.

“لا تزجر شيخاً بل عظه كأب والأحداث كأخوة، والعجائز كأمهات والحدثات كأخوات بكل طهارة” (١تي ٥: ١) فقد جعلت نوراً فى ظلام، وسراجاً فى قتام، وهداية فى ضلال، وارشاد فى تيه.

فليشرق ضياؤك على السالكين فى ظلمة الهاوية وظلال الموت، وليسطع نورك على الفاقدي النور، ولتمتد يدك لأولئك الذين أضلتهم ظلمات العالم وغيومه الكثيفة، واجذب الذين ساروا فى طرق ملتوية الى الطريق المستوية  فقد جعلت مراقباً على جنود الرب، وراعياً لخرافه الناطقة، وقائداً للجيوش المجاهدة فأيقظ الغافل اذا رأيت العدو مقبلاً، واسهر لكي لا يأتي الذئب فيخطف ويبدد، ويجعل الخراف فريسة، انتبه ولا تدع النعاس يغشي عينيك، خذ سيفك وانتصب للقتال والنضال، كن يقظاً دائماً لئلا تفاجئك جيوش الغزاة وأنت غافل أو نائم فتمزق الخراف وأما اذا حاربت الى النهاية، وجاهدت الى الغاية، فستكلل باكليل النصر، وتتوج بتاج الفخر، وتلبس ثياب الغلبة لأن: “من يغلب فذلك سيلبس ثيابا بيضاً ولن أمحو أسمه من سفر الحياة وسأعترف باسمه أمام أبى وأمام ملائكته” (رؤ ٣: ٥) فقد صرت علاجاً للمريض، وجبراً للكسير، وشفاء للسقيم، وقوة للضعيف، وتعزية للحزين، وفرجاً للمتضايق فهذه ضروب الوظيفة وأنواع الموهبة والمنحة، فأعرف كيف تقوم بعبء كل منها.

“لا تهمل الموهبة التى فيك المعطاة لك بالنبوة مع وضع أيدى المشيخة، أهتم بهذا كن فيه لكي يكون تقدمك ظاهراً في كل شىء، لاحظ نفسك والتعليم وداوم على ذلك لأنك اذا فعلت هذا تخلص نفسك والذين يسمعونك أيضاً” (١تي ٤: ١٤– ١٦).

زيارة الكاهن للشعب

أ– تثبيت التائبين وحثهم على الاتحاد بالمسيح.

ب– تعزية الحزانى.

ج– تعهد الفقراء والمحتاجين وزيارة المرضى.

أ- تثبيت التائبين وحثهم على الاتحاد بالمسيح:

لا يكفي الكاهن أن يقتصر على أن يعظ الخاطىء، ويقبل أعترافه، ويمنحه الحل من خطاياه، ويضع عليه ما يستطيع أن يحتمل من القوانين والتأديبات الكنسية، حتى يصير مستحقاً لتناول القربان وعضواً فى جسد المسيح بل ينبغى أن يلاحظ سيره دائماً، لأنه كما أن الغارس فى كرمه يلتزم أن يعتنى بغروسه، حيث اذا مالت الى الاعوجاج يقومها الى أن تصير شجراً، وتعطى ثمراً يانعاً، كذلك يلتزم الكاهن لما يغرس تلك الغروس الجديدة فى كرم السيد المسيح أن يتعهدها، ويسقيها، ويغذيها دائماً وأبداً، الى أن تبلغ قامة الكمال، وحد الاعتدال فيرعى التائب ليثبت على توبته ويسعى الى الأمام تاركاً ما وراءه ناسياً أعماله الأولى الأثيمة متقدماً فى طريق الكمال المسيحي، وسائراً فى السبيل الذى يؤدي الى أبواب السماء ويحذر القائم من السقوط، والمعتدل من الاعوجاج، والطاهر من الدنس، والقوي من الضعف، والنشيط من الكسل، والمجتهد من التراخى والانحلال، والرحوم من القساوة، والمتقشف من الشراهة والتمرغ فى الشهوات العالمية، والقنوع والعفيف من الطمع، مضيفاً الى ترهيبه وترغيبه ووعده ووعيده، النصائح المنبهة والعبر المؤثرة والحكم الصائبة.  ولا يكفي لرعاية الشعب أن يعظهم الكاهن كل ما حضروا احتفال الصلاة يوم الأحد، فإن هذا لا يقوم بالمقصود من تربية المسيحيين، وارشادهم الى الطريق المؤدي الى السماء، المملوء من المخاطر والآفات والعثرات  بل ينبغى للكاهن أن يزور كلا منهم فى بيته، ويتخذ لذلك الوقت المناسب لوجوده، واذا رأى عزمه متراخياً، وكادت قواه الدينية تنحل، واحساساته المسيحية تفتر، وتأخر عن الحضور فى أوقات العبادة المعينة، فليشدد عزمه، ويلهب ما كاد ينطفىء من شعائره، ليعود به الى ما كان من حال الأستقامة والبر والطهارة ولا يوجد طريقة تربط المسيحى بالكرمة الحقيقية نظير انعكافه على التغذى من الأفخارستيا بايمان ثابت، ويقين متين – بعد الصوم والصلاة وممارسة باقى الفضائل – اذ يتحد بجسد المسيح الحي، ويستمر حياً بحياته، فجسد المسيح المقدس ودمه الذكى اللذان يؤكلان فى شكل الخبز والخمر، هما اللذان يتكفلان بحياة المؤمن طالما يتناولهما بما يمكنه من الاستعداد فأنت أيها الكاهن الراعى المؤتمن على القطيع الذى دفعه المسيح لترعاه، بما أنك تعلم العلم اليقين أنه لا يوجد فى ذخائر الكنيسة وكنوزها شىء يقدر أن يتكفل بحياة المؤمن الدائمة مثل ملازمة الأعتراف، وتناول الجسد والدم فحث رعيتك على أن يواظبوا على ذلك بكل استطاعتهم، ولا تخجل من انذارهم ووعظهم، ولو عصوك أحياناً، وردوك أوقاتاً، فداوم على ايقاظهم فان لديهم من المهام العالمية، وتحصيل الرزق، وتربية البنين، ما يجعلهم ينفرون من وعظك، ويحسبونك حملاً ثقيلاً على عاتقهم، ومتكلماً فى ما لا يعنيك، لكن لا يصدك ذلك فأعتبرهم أطفالاً يحتاجون الى الملاطفة، والاغذية اللطيفة، الى أن تقوى أبدانهم، ويبلغوا قامة الكمال المسيحى كالرجال الذين لا يضرهم تناول الأغذية الثقيلة مثل المسيحيون التائبون يحتاجون الى الكلام اللين والوعظ الرقيق، ليغرس القول الالهى فى قلوبهم، ويتمكن فيهم الرجاء، وترسخ المحبة الأخوية فى عقولهم، ويضيفوا الأعمال الفاضلة، وممارسة الخصال الحميدة من نحو الله والنفس والقريب على ايمانهم فان طريقهم المسيحى مملوء من العوائق والعثرات، فان الانسان يسير بين هذه المخاطر أعمى وعاجزاً، فان لم تمد له يدك أيها الكاهن وتقتاده بطول الأناة، واللطف والشفقة، فلا يؤمن عليه من عثرة أو سقطة أو ضلال أثناء سيره وسفره فى البراري القاحلة فيموت وتطالب أنت بدمه فأحذر لأنه قد ابتيع بثمن غالى وقيمة لا تعادل، فلا تمل اذا من أن تطوف ليلك ونهارك وتجول تنشد الخروف لئلا يهلك، وتتفقد النعاج فى الخارج والداخل وتتعهدها وتقيها من المرض والبرد والحر والعطش والجوع، لكي تقدمها الى صاحبها سالمة متعافية، قوية شديدة، كما سلمها اليك، فتأخذ منه الأجر المضاعف، وتفرح الفرح الذى لا يوصف.

ب- تعزية الحزانى 

يجب عليك أيها الكاهن أن تسعى بتعزية الحزانى، فانك تستطيع أن تلطف أحزان وأشجان ذوي المصائب والبلايا والتجارب.

خصوصاً الذى يصاب بفقد ولد أو والدين أو قريب، فتلطف أثقاله، وتجعل مصابه خفيفاً بما تورده وتقدمه من الأقوال المؤثرة، والبراهين، والعبر، والأمثلة، والقصص التى تنبه المصابين، وتجعلهم يحسون أنهم غرباء ونزلاء على الأرض وأنهم مزمعون قريباً ان طال المدى أو قصر أن يرحلوا من هذا الوطن القابل للأنحلال، والتلاشي والدمار والأضمحلال، الى ذلك الوطن الذى لا يعتريه تغير ولا فناء ولا تبديل ولا بلاء ومن شأن الغريب أن لا يغتم على رجوعه الى مسقط رأسه، حيث يستقر ويستمر بلا نهاية، وان المقتني مهما علت نفائسه، واختلفت أجناسه، فانه لم يولد مع الانسان، ومن المعلوم أنه لا يعود به، فالقنية والثروة هى أمور عرضية للانسان تأتى من حيث تذهب، وتذهب من حيث تأتى فلا يدوم للمسيحى سوى أعماله، ومزاياه التى تصحبه اينما توجه، وأن الغاية المقصودة من الثروة مهما عظمت، وراقت للعين وصفت للنظر وحلت للذوق ولذت للطعم، انما هى الحصول على القوت الضرورى أما الشىء الواجب الحزن لأجله فهو فقد الأعمال البارة التى تصحب المرء اينما توجه، وأينما حل، وتكون له الشفيع المقبول، أما تلك فهى غرور وخداع وأباطيل لا يلزم المسيحى أن يشغل نفسه بها كما قال الرسول: “كل ما فى العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته وأما الذى يصنع مشيئة الله فيثبت الى الأبد” (١يو٢: ١٦، ١٧).

فاذا فاوضت المصاب أيها الكاهن بمثل هذه الأقوال تستطيع أن تزيل عن قلبه الهم والغم والحزن الذى لا يفيد لأن الحزن الذى يفيد فهو عن ارتكاب الخطايا، وعدم القداسة، فيجب أن يقبل بالانسان الى التوبة المرضية، كما قال الرسول: “لأن الحزن الذى بحسب مشيئة الله ينشىء توبة لخلاص بلا ندامة وأما حزن العالم فينشىء موتاً” (٢كو ٧: ١٠).

ج- تعهد الفقراء والمحتاجين وزيارة المرضى:

من واجبات الكاهن أن يفتقد الفقراء والمحتاجين، وأن يزور المرضى والمسجونين، وقد خص الكاهن بذلك منذ القرون الأولى، وجعل من ضمن واجباته كما أخبرتنا التواريخ، والقوانين الرسولية، وقوانين المجمع  فكان الكاهن عند ختام كل صلاة أحتفالية يجمع من المؤمنين عطايا مادية، ويوزعها على ذوي الحاجة وأصحاب الفاقة من الآرامل والآيتام وأصحاب العاهات والمرضى وقد وكل اليه بذلك لأنه لا يستطيع أحد غيره أن يعلم حالة شعبه من فقراء ومحتاجين، فهو الذى يطوف البيوت، ويزور أهلها، ويتفقد أحوالهم الدينية، ويساعدهم بكل ما تصل اليه قدرته مادياً وأدبياً ودينياً.

وأحياناً يقوم بهذا الواجب الأسقف أو الشماس، أما ما يفضل عن التوزيع فكان يودع تحت يد الأسقف، أو تحت غيره من الكهنة والأراخنة الأمناء فان ذمة التوزيع خدمة روحية أيضاً، ويكفي كون المسيح دعا بنوع خصوصي الفقراء أخوته: “بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبى فعلتم (مت ٢٥: ٤٠) فيجب أن يفتقدهم الكاهن ويعتنى بهم ويسدد ضروراتهم، ويتخذ الوسائل المؤدية الى راحتهم بهذا المعنى كونهم أخوة المسيح، كما كان القديس بولس الرسول يفعل مع فقراء أورشليم، واذا شعر بأن أحداً منهم مريضاً يقربه من الأسرار المقدسة، أو مسجوناً فيزوره ويعزيه.

[4] المتنيح الأنبا يؤانس أسقف الغربية

شهداء من أجل العقيدة[13]

ما كادت الكنيسة تنتهى من اضطهاد ملوك الدول الوثنيين، عقب ارتقاء الملك قسطنطين عرش الملك، حتى بدأت تواجه متاعب داخلية خطيرة نتيجة ظهور البدع والهرطقات الدينية، انتهت بانقسام كنيسة المسيح الواحدة، وشوهت صورة وحدانية الروح والفكر والقلب، وجعلت الضعف يسري في أجزائها المختلفة..

ونحن لا ننكر أن هذه المتاعب الداخلية واجهت الكنيسة منذ العصر الرسولي، حتى أن بولس الرسول يكتب لكنيسة كورنثوس قائلاً “أسمع أن بينكم انشقاقات وأصدق بعض التصديق. لأن لابد أن يكون بينكم بدع أيضاً ليكون المزكون ظاهرين بينكم” (١كو١١: ١٨، ١٩). لكنها لم تكن من الخطورة حتى تقلق الكنيسة. وقد تمكنت الكنيسة من القضاء على معظمها من غير كبير عناء.

لكن الأمر أخذ وضعاً أخطر وأعنف ابتداء من عشرينات القرن الرابع المسيحي. وزاد من هذه الخطورة اعتناق بعض ملوك الدولة المسيحيين لبعض هذه البدع والهرطقات. فأخذوا ينكلون بخصومهم في الرأي والمعتقد بالوسائل العالمية من نفي وتشريد وقتل.. وصار شهداء العقيدة يعدون بالآلاف. وينبغي ألا يقلل من أهمية هذا الموضوع. فقد غدا الخلاف المذهبي من أجل العقيدة – عقب مجمع خلقيدونية سنة ٤٥١ – أحد الأسباب الهامة، إن لم يكن أهمها في تقويض عرش الأباطرة البيزنطيين، وانهيار هذه الإمبراطورية أمام زحف الجيوش العربية القليلة العدد والعدة، في منطقة الشرق الأوسط.. والآن نقدم بعض أمثلة لشهداء استشهدوا دفاعاً عن العقيدة القويمة:

الآريوسية:

في الأسكندرية، على عهد الأسقف الأريوسي جورجيوس، قبض الأريوسيون على سيكوندوس كاهن برقه في الخمس مدن الغربية الذى تصادف وجوده حينئذ في الإسكندرية. أمسكه الأريوسيون وطرحوه أرضاً وأوسعوه ضرباً وركلاً بالأقدام حتى فاضت روحه. وفيما كان يتعذب بقسوة لم يكف هذا الأب عن أن يردد القول “لا ينتقم أحد لدمي المسفوك بل سيدى الذى أنا أتألم لأجله هو الذى ينتقم لي” وقد ارتكب الأريوسيون جريمتهم البشعة هذه في الصوم الكبير.

وفى عيد العنصرة تواطأ جورجيوس المذكور مع الدوق سبستيان Sebastian الهرطوقي، وأحدث مذبحة في الإسكندرية.

كانت جميع كنائس الإسكندرية في يد الأريوسيين. ولما لم يجد الارثوذكسيون كنيسة يحتفلون فيها بعيد العنصرة، ذهبوا إلى مقابرهم ليحتفلوا هناك بالعيد.. وكانت لمقاطعة الشعب لهذا الأسقف الأريوسي الدخيل، أثرها في تحريك كوامن غيظه، فاستنجد بالدوق سبستيان الهرطوقي. فأمر الجند وأرسلهم مدججي السلاح، وساروا في الطرق المؤدية إلى تلك المقابر، وضبطوا منافذها حتى لا يستطيع أحد الهرب.

اعتدى الجند على من صادفهم في الطريق بوحشية، ثم اضرمت نار هائلة، وكانوا يجذبون السيدات ويجبرونهن على اعلان الإيمان الريوسي تحت تهديد الإلقاء في النيران.. وقد وقفت السيدات وقفات بطولية، فلم ترهبن الموقف، واعترفن بقوة وعلى الملأ بإيمانهن الارثوذكسي، وبناء على أوامر الدوق سبيستيان أخذ الجنود يصفعون السيدات الأرثوذكسيات على وجوهن حتى تورمت، وأصبح من المستحيل التعرف على شخصياتهن.

أما بالنسبة للرجال، فقد جردهم الجند من ثيابهم كليه، وكانوا يضربونهم بكل قسوة ووحشية بجريد النخيل ذي الأشواك الحادة جداً، ويدحرجونهم عليها، فانغرس الشوك في لحمهم، وأحدث آلاماً قاسية، حتى أن كثيرين ماتوا، والبعض الآخر ظلوا تحت العلاج لمدة طويلة، كما نفي أخرون إلى الواحات في الصحارى..

  • والقديس بولس أسقف القسطنطينية (+٣٥١) الذى ناصب الأريوسيين العداء نفاه الملك الأريوسي قسطنطيوس خمس مرات، وأخيراً أوعز إلى أحدٍ الاربوسيين فقتله في منفاه ببلاد أرمينيا. ثم ما لبث أن لحق به تلميذاه مركيانوس ومرقوريوس بعد أيام قليلة، اذ أمر الملك بقتلهما بحد السيف لعدائهما للأريوسيين وعلى رأسهم الملك نفسه.
  • القديس ثيودورسالذى كان راهباً بدير قريب من اسكندرية، اخذته الغيرة أثناء نفي البابا أثناسيوس بسبب الأريوسيين. فكان يناقشهم محاولاً كسبهم باظهار فساد معتقدهم. فأمر البطريرك الأربوسي بالقبض عليه وربطه في رجل حصان جموح، أخذ يسحله في الشوارع، حتى فاضت روحه.

الخلقيدونية:

  • القديس مقاريوس الأسقف – أحد الثلاث مقارات القديسين – والذى نفي مع البابا ديسقوروس بعد مجمع خلقيدونية، أظهر حرارة في الإيمان وثباتاً على المعتقد الأرثوذكسي، فأنقذه البابا ديسقوروس من منفاه سراً إلى الإسكندرية لتثبيت المؤمنين. وبوصوله اليها وجد رسول الملك مركيان ومعه طومس لاون، يحاول أن يقنع الآباء بقبوله والتوقيع عليه . ولما طلب رسول الملك إلى القديس مقاريوس التوقيع رفض، وأخذ يحض الباقين على التمسك بإيمان الآباء. اغتاظ منه رسول الملك وهجم عليه وركله بقدميه بقوة، فسقط ميتا لوقته نظراً لشيخوخته.
  • وكنتيجة لمجمع خلقيدونية وعزل البابا ديسقوروس ونفيه وتعيين الملك للمدعو بروتيريوس Proterius بطريركاً بدله، حدث هياج شديد في الإسكندرية، وقتل بروتيريوس. وقيل أن اللصوص الذين انقضوا عليه ليسلبوه أمواله (بعد أن سلب أموال كنائس وأديرة الأرثوذكسسين)، هم الذين قتلوه. فغضب الملك مركيان وأرسل عدداً من الجند، أعملوا القتل في الأقباط الأرثوذكسيين، فقتلوا منهم حوالى ثلاثين الفاً.
  • وفى مدة حكم الملك ليو الذى خلف بلشاريا نُفي البابا الأسكندرى تيموثاوس ٢٦ خليفة البابا ديسقوروس، وبقى في المنفى لمدة سبع سنوات حتى خلف ليو ملكاً آخر، أعاد البابا من منفاه. وفى مدة غياب البابا تيموثاوس عن كرسيه، اجتاحت البلاد ثورات دامية اشتدت في الإسكندرية . وشدد الملكيون [أصحاب بدعة الطبيعتين] اضطهادهم للأرثوذكسيين بقصد اخضاعهم، فسقط شهداء كثيرون دفاعاً عن المعتقد القويم.
  • كما استشهد بالإسكندرية على أيدي أصحاب بدعة الطبيعتين، مينا شقيق البابا بنيامين البطريرك ٣٨، وبعد أن احتمل عذابات كثيرة، منها تسليط مشاعل على جنبيه حتى سال شحم كليتيه، وكسروا أسنانه من كثرة الضرب.. لكنه في كل ذلك رفض الخضوع لمطلبهم، وهو الاعتراف بمجمع خلقيدونية، وأخيراً طرحوه في البحر.
  • كما أنزل الملك هرقل (٦١٠– ٦٤١) – اضطهادات بالغة العنف بأصحاب الطبيعة الواحدة (الأرثوذكسيين) وطارد رعاتهم، وكان يفتك بهم. فاستشهد في حكمه كثيرون.

[5] المتنيح الأنبا بيمن أسقف ملوي

نور العالم[14]

“أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة” (یو ۱۲:۸)

من الألقاب التي عرف بها الرب يسوع في الكتاب المقدس، أنه نور العالم إنه هو النور الحقيقي، الذي يضئ في الظلمة، والظلمة لا تدركه ولا تعرفه.. وهذا اللقب ذكره المسيح له المجد عن نفسه، عندما قدموا له المرأة التي أمسكت في الزنا، وكانوا يطلبون رجمها.. أشار الرب في سرية روحية، أن الظلمة لم تكن في المرأة الزانية التي تابت، وإنما في الفريسيين الذين يعيشون في حياة مظلمة داخلية، ويدعون أنهم يعرفون النور والحق والوصايا. وأطلق هذا اللقب مرة أخرى، عندما رأى المولود أعمى.. وواجه الفريسيين الحاقدين، الذين لم يفرحوا لأن الرب أعاد البصر لهذا المسكين، إنما أظلمت قلوبهم بالحقد، وأدانوا المخلص أنه عمل المعجزة يوم سبت…

فالقضية إذا مسيحياً ليست هي قضية بصر العينين الجسديتين، إنما البصيرة التي في الداخل، التي تعرف الانسان الحق، وتلهمه الصلاح. وتقوده إلى الطريق، وتحفظه في النور والحق والحب والحياة الحقيقية.. وحتى يستكمل المقال أبعاده، نسأل:

١ – ما الذي جاء عن النور في العهد القديم، وإشاراته ورموزه عن المخلص؟.

۲ – ما أعلنه السيد الرب لنا عن شخصه کنور للعالم، وعلاقة هذا بالمفاهيم اللاهوتية الأساسية، مثل الحق والحب والحياة؟.

3 – ما هي التداريب الروحية، التي نخرج بها من دراستنا هذه، کي نحيا في النور ونسلك كأبناء نور؟

النور في العهد القديم

في سفر التكوين، نقرأ عن أن الله الذي هو نور لا يدني منه، إذ رأى الأرض خربة وخالية، مشوشة ومضطربة.. أخذ روح الله يرف علی وجه المياه.. ومعنى هذا أن الحياة بدأت تدب في الخراب والفوضى..

وأعد روح الله الأرض، ليقول الآب فأبنه الكلمة ليكن نور فكان نور.. وهكذا كان النور إفصاحا عن طبيعة الله.

فالله هو النور الحقيقي، وخلق النور كان من عمل يديه، وكل ما يعمله الله حسن، ورأى الله أن النور حسن، فهو حسن لأنه صنعة يديه، ولأنه يعلن عن طبيعة الله النورانية الحقانية، ولأنه يمهد لأعمال الخلقة العظيمة الآتية من بعد، ولأن سيكون متعة وجمالاً للإنسان الذي أراد خلقته على صورته ومثاله، لينعم بكل ما يخلقه له.

الله يسكن في نور لا يدنى منه، وهو النور الحقيقي . ولكنه إذ أراد أن يكشف للإنسان عن شئ من طبيعته النورانية، أعطاه النور الحي، ليكون واسطة وإيضاحاً عن إمكانية التلامس مع النور الإلهي، هذا النور الحقيقي الذي كل من يتبعه لا يمشي في الظلمة البتة.

وكان الرمز صريحاً في خيمة الإجتماع، فالمغارة الذهبية بشُعَبِهَا الست وسرجها السبعة، كانت تشير في وضوح إلى الرب يسوع المسيح، الذي هو نور العالم، والنور الحقيقي الذي ينير كل إنسان (يو١: ٩)، كان نورها مستمرا من المساء إلى الصباح بإستمرار.. وكانت من ذهب نقي، تشير إلى المسيح الآتی کنور العالم، وإلى النقاوة الكاملة في شخص المسيح، وإلى المؤمنين الذين سيضيئون كأنوار في العالم (في۲: ١٥).

وكذلك كان نور الله ومجده يحل بين الكروبين على غطاء تابوت الشهادة (خر٤٠: ٣٥) فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الاجتماع، لأن السحابة حلت عليه، وبهاء الرب ملأ المسكن.

وورد بسفر العدد أنه “وَفِي يَوْمِ إِقَامَةِ الْمَسْكَنِ، غَطَّتِ السَّحَابَةُ الْمَسْكَنَ، خَيْمَةَ الشَّهَادَةِ وَفِي الْمَسَاءِ كَانَ عَلَى الْمَسْكَنِ كَمَنْظَرِ نَارٍ إِلَى الصَّبَاحِ. هكَذَا كَانَ دَائِمًا السَّحَابَةُ تُغَطِّيهِ وَمَنْظَرُ النَّارِ لَيْلاً” (عدد ٩: 15، ١٦).

لقد كان النور نهاراً في السحابة، واللهيب ليلاً في عمود النار، إشارة إلی نور المسيح الذي يضئ في قلوب المؤمنين نهاراً وليلاً يهدي مواكبهم طرق السلام.

وفي عيد المظال أيضاً، كان اليهود يوقدون المنارة، ثم يسكبون الماء على درج الهيكل، ليذكرهم العيد كيف أخرج الرب لهم الماء من الصخر، وكيف هداهم بعمود النور ليلاً والسحابة نهاراً…

وفي هذا اليوم من العيد العظيم، وقف يسوع بجوار المنارة وشاهد الطقس يجري، وأعلن عن نفسه أنه نور العالم، وأن من يؤمن به تخرج من بطنه أنهار ماء حي.

لقد كان النور مرتبطا بالمسيا إرتباطاً شديداً طيلة العهد القديم وبالأخص في سفر إشعياء النبي الإنجيلي.

❈ ” الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور” (إش ۲:۹) .

❈ قد جعلتك نورا للأمم، لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض (إش٤٩: ٦) أنظر أيضا (إش٦٠:١)، (إش٤٢: ٦).

المسيح هو النور الحقيقي

❈ هو نور شخصية المبارك “الرب نوري وخلاصي”.

❈ وهو نور في طبيعته “الله نور وليس فيه ظلمة البتة”.

❈ وهو نور في معرفته. كل حق هو نور. إنه ينير لكل إنسان أتيا إلى العالم لهذا كل من يتبعه، يحيا في النور ويصبح هو أيضاً نوراً للآخرين.

النور والحياة

إن المتأمل في اللاهوت الأرثوذكسي يجد ثمة إرتباطاً شديداً بين النور والحياة، النور والحق، النور والحب. فالمسيح هو النور وهو الحياة وقد أعلن عن هذا بوضوح عند قبر لعازر.. حيث المعركة التي واجهت فيها الحياة ظلمة الموت والخطيئة.

فهو عندما يعلن عن حبيبه لعازر انه قد نام، أي قد مات، يقول إن كان أحد يمشي في النهار لا يعثر، لأنه ينظر نور العالم، ولكن إن كان أحد يمشي في الليل يعثر لأن النور ليس فيه.

فالخطيئة هي التي أثمرت الموت، إذ يقول الكتاب أجرة الخطية موت، أما هبة الله هي حياة أبدية، وأما الذي يؤمن بالإبن فله حياة أبدية ولو مات فسوف يحيا، لأن الحياة هي في شخص الرب يسوع.. ونوره ونلبس أسلحة النور ولنسلك بلياقة كما في النهار، لا بالبطر والسكر لا بالمضاجع والعهر، لا بالخصام والحسد، بل إلبسوا الرب يسوع المسيح. ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات. (رو۱۳: ۱۳، ١٤).

النور والحق

المسيح هو النور الحقيقي، وهو الحق كما هو الحب والحياة. والإرتباط  وثيق تماماً بين النور والحق. فهما طريق الرب.

وقد سلم للكنيسة الروح القدس، وسلمه الآباء لتلاميذهم، حتی سمیت المسيحية في عصر الرسل طريقة الرب.. إنها الحياة التي فيها النور، القداسة، الوضوح والصراحة والاستقامة، الحق الذي لا يعرف غشاً أو التواء أو خداعاً أو دبلوماسية، وأشعياء في القديم بروح النبوة، حذر بشدة من الدخول في طريق الإلتواء، وطريق الخداع ومجاملة الناس على حساب الوصية وحق الله..

“ويل للقائلين للشر خير، وللخير شراً، الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً والجاعلين المر حلواً والحلو مراً، ويل للحكماء في أعين أنفسهم والفهماء عند ذواتهم” (إش ٥: ۲۰).

ولقد أوضح الرب هذه الحقيقة، عندما واجه الكتبة والفريسين، الذين تنطبق عليهم ويلات إشعياء، عندما قال: وهذه هي الدينونة، أن النور قد جاء الى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة” (يو٣ :١٩، ٢٠).

وفي الإرتباط بين النور والحق، قال الرب له المجد، وأما من يفعل الحق، فيقبل إلى النور، لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة (يو٣: ۲۱).

والنور الذي أعلن لنا في شخص المسيح، ليس إضاءة مادية، بل هو طريق ومنهج وحياة وسلوك وإختيار.. “فسيروا مادام لكم النور، لئلا يدرككم الظلام، والذي يسير في الظلام، لا يعلم إلى أين يذهب. مادام لكم النور، آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور” (يو۱۲: ٣٥).

ويقول بولس الرسول لأهل أفسس “لأنكم كنتم قبلاً ظلمة أما الآن فنور في الرب اسلكوا كأولاد نور” (أف٥: ٨).

ويقول معلمنا يوحنا البشير “ولكن إن سلكنا في النور، كما هو في النور، فلنا شركة بعضنا مع بعض، ودم يسوع المسيح إبنه يطهرنا من كل خطية” (1یو١: ٧).

ويربط الرسول بولس في إلهام بديع، بين حياة القداسة واليقظة الروحية من ناحية، والنور والنهار من ناحية أخرى.

ويشير بالليل إلى النجاسة وظلمة الخطية، بقوله “فلستم فی ظلمة، حتی يدرككم ذلك اليوم كلص. جميعكم أبناء نور وأبناء نهار. لسنا من ليل، ولا ظلمة، فلا ننم إذاً كالباقين، بل لنسهر ونصح، لأن الذين ينامون فبالليل ينامون، والذين يسكرون فبالليل يسكرون” (1تس ٥: ٢، ٦).

وهذه صرخته المدوية التي أيقظت أغسطينوس، وأعطته حياة التوبة “قد تناهي الليل، وتقارب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة”.

النور والحب

لم نجد رسولاً ربط بين النور الإلهي والحب المقدس، مثلما فعل القديس يوحنا الرسول. فرسالته الأولى يدور محورها الأساسي حول هذه القضية اللاهوتية.. إن النور والحب الحقيقي هما واحد في شخص المسيح، وأن كل من في النور يحب، ومن يحب يحيا في النور، ومن لا يحب فلم يعرف النور، وفي الظلمة يسلك.

“أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضاً، لأن المحبة هي من الله وكل من يحب فقد ولد من الله، ومن لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة”.

“من قال إنه في النور، وهو يبغض أخاه، فهو إلى الآن في الظلمة، من يحب أخاه يثبت في النور، وليس فيه عثرة وأما من يبغض أخاه فهو في الظلمة وفي الظلمة يسلك، ولا يعلم أين يمضي، لأن الظلمة أعمت عينيه” (1یو٤: ٧، 8، 1یو ۹:۲- ۱۱).

تداريب روحية

نور المسيح يكشف ظلمتي الداخلية

إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي ( می ۷: ۸) ..

هل أنا أحب الأخوة ؟

هل أنا أسلك في الحق ؟

هل أنا أسمح لنور المسيح أن يستعلن في داخلي بروح القداسة، حتى يظهر رائحة المسيح الذكية للناس؟

“لتشرق فينا الحواس المضيئة، والأفكار النورانية، ولا تغطينا ظلمة الآلام” .

نور المسيح يهدی طرقی

❈ سراج لرجلي كلامك، ونور لسبیلی (مز ۱۱۹: ١٠٥) .

❈ لأن الوصية مصباح والشريعة نور، وتوبيخات الأدب طريق الحياة (أم ٦: ۲۳).

❈ هل أجلس متتلمذاً كل يوم عند أقدامه، أطلب منه بإلحاح أن يقود خطواتي بنوره الإلهي؟ أم أن دوافعى ذاتية، ومحركات قلبي أرضية بشرية؟.

نور المسيح يبهج حياتي

أيها النور الحقيقي، الذي يضئ لكل إنسان آت إلى العالم ، أتيت إلى العالم بمحبتك للبشر، وكل الخليقة تهللت بمجيئك، أعطني أن أبتهج بنور محبتك، وليبدد نور حبك ظلمات الحقد والحسد والقلق.

هبنا في كل يوم حاضر أن نرضيك فيه ، لنكون أبناء نور وأبناء قيامة.

[6] المتنيح الأنبا إبيفانوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار

المســـيح نـــــور العـــــــالم[15]

“ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا قَائِلاً: أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ ” (يو ٨: ١٢).

العتمة تسود:

قبل مجىء المسيح واستعلانه كنور للعالم، كان الظلام الروحى يعم الأرض، ومن جرَّاء احتجاب النور الالهي، كان الأنين من سلطان الظلمة على الطبيعة البشرية غصة ألم مكتومة فى صدور الأتقياء، حسبما يصف الكتاب المقدس البار “لوط” قائلاً عنه: “إِذْ كَانَ الْبَارُّ، بِالنَّظَرِ وَالسَّمْعِ وَهُوَ سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ، يُعَذِّبُ يَوْمًا فَيَوْمًا نَفْسَهُ الْبَارَّةَ بِالأَفْعَالِ الأَثِيمَةِ” (2بط 2: 8)

كانت ظلمة الخطية قلعة حصينة فى مدينة الموت أرض شقائنا، استطاع عدو جنسنا أن يوجه سهامه منها الى الناس، كما استطاع _من طول زمان حكمه من قلعة الظلمة هذه – أن يجد لظلمته مساراً وطريقاً داخل نفس الانسان، حتى تغلغلت فى كيانه كله.

ومن خلال عمل الظلمة فى الانسان، استطاعت الخطية أن تجسِّم فيه صفات الانسان العتيق، بعد أن انطمست الصورة الالهية داخل الانسان.

وفى مجال الظلمة خلا الجو لسلاطين الموت لكى تبدد وتهلك قطيع البشرية، حتى ملكت وسيطرت على ميول الانسان. وصارت هذه الميول هى المجال المحبب والادوات المناسبة التى من خلالها نفث عدو الخير سموم شره فى قلب الانسان فأفسد طريقه:  “وَرَأَى اللهُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ، إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الأَرْضِ” (تك6: 12). حتى الافكار والتصورات والغرائز الفطرية المجبولة حسناً فى الانسان، وضعها العدو تحت تصرفه، وطرح عليها نيره فأمست هى وقيد النار الذى يشعل به لهيب الشهوة داخل كيان الانسان: “كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ” (تك6: 5).

وعلى صعيد ظلمة بنى الأنسان، اكتسى وجه البشرية بعرق كد السنين، وعاشت التعاسة والحرمان، وامتلأت من السآمة والملل، وعانت من العجز وفراغ النفس. وفوق ذلك فقد حفرت الظلمة لها خطوطاً عميقة فى أرض النفس، ورمى العدو بذور زوانه فيها، حتى أثمرت ثمراً ردياً.

ومن جراء سيادة الظلمة، وتملك الخطية على الأعضاء، وسيطرة الشهوة على الغرائز تسيدت العتمة على الانسان المطرود من حضرة الله، فهبط من علو الشركة الحية مع الله (فى الفردوس) الى حضيض الترابيات، كقول الله لآدم “لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ” (تك3: 19). وقد زاد من مرارة الأنسان شعوره بالفقر والإفلاس الروحي معاً من كل ميراث روحي، اذ صارت البشرية كلها “شَعْبٌ مَنْهُوبٌ وَمَسْلُوبٌ قَدِ اصْطِيدَ فِي الْحُفَرِ كُلُّهُ” (إش42: 22). وأضحت الظلمة غماماً كثيفاً ينتشر على وجه الأرض ويغطى كل ساكنيها “أَنَّهُ هَا هِيَ الظُّلْمَةُ تُغَطِّي الأَرْضَ وَالظَّلاَمُ الدَّامِسُ الأُمَمَ” (إش60: 2).

 

الرجاء يتجدد :

ومع شعور الانسان بافلاسه، واحساسه بالموت يسري فى كيانه، رفعت البشرية وجهها الى فوق تترجى الخلاص:

فيعقوب أبو الأسباط يتنهد منتظراً الخلاص فيقول: “لِخَلاَصِكَ انْتَظَرْتُ يَا رَبُّ” (تك49: 18). وظل الألحاح شديداً من قبل البشرية -فى شخص الأنبياء- فى طلب اشراق النور والخلاص: فداود النبي يصرخ “يَا اَللهُ أَرْجِعْنَا، وَأَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ” (مز80: 3)، ويتوسل قائلاً: “أَرْسِلْ نُورَكَ وَحَقَّكَ” (مز 43: 3). ويواصل صراخه: “أَضِئْ بِوَجْهِكَ عَلَى عَبْدِكَ خَلِّصْنِي بِرَحْمَتِكَ يَا رَبُّ، لاَ تَدَعْنِي أَخْزَى لأَنِّي دَعَوْتُكَ” (مز31: 16، 17).

استجابة الله لصراخ الانسان  :

وينظر الله الى ظلمة الأنسان وبؤسه، فيرثي لحال بنى المذلة، ويستجيب لصراخ البائسين. وتأتي الاستجابة على لسان الأنبياء الناطقين بروح الله، لتعلن قرب مجىء النور الذى سيعوض عن تعب السنين ومشقتها، ويبدِّل عناء الانسان وبؤسه ومرارة عبوديته، بحلاوة عتقه من قيود الظلمة، واسترداده من بين أنياب الموت، ورد الانسان الغارق فى ظلمة الأحزان الى الله مصدر عزائه دفعة أخرى:

فأيوب الصديق يفرح بشروق النور على حياته، وخلاصه من حفرة الهلاك، فيقول: “فَدَى نَفْسِي مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْحُفْرَةِ، فَتَرَى حَيَاتِيَ النُّورَ” (أى33: 28).

واشعياء النبي يعزي النفس البشرية قائلا لها: “لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ” (إش60: 1). ويبشر الجالسين فى الظلمة  قائلاً: “اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظَِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ” (إش 9: 2).

وكذلك ناحوم النبى يكرز بالدفء للقلوب التى جمدها صقيع البعد عن الله، فيقول: “فِي يَوْمِ الْبَرْدِ تُشْرِقُ الشَّمْسُ” (نا 3: 17).

وزكريا النبى يبشر البشرية التى أمسى عليها الزمان، وتراكمت عليها الظلمة وكأنها فى مساء دائم قائلاً: “وَقْتِ الْمَسَاءِ يَكُونُ نُورٌ” (زك14: 7).

وأيضا ملاخي النبى يهتف فرحا لشفاء البشرية من أمراض ظلمة الخطية وعطبها من كل بر، بانسكاب أشعة شمس البر عليها قائلاً: “تشرق شمس البر والشفاء فى أجنحتها” (ملا4: 2).

استعلان النور :

وأخيرا، وفى ملء الزمان، جاء المسيح وأعلن نفسه كنور حقيقي صادر من عند الآب: “خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ” (يو16: 28)، تدفعه وتحركه قوة الحب الكامنة فيه من جهة خلاص الأنسان من سلطان الظلمة، وتحطيم حواجزها التى نشأت من جراء معصية الانسان.

جاء المسيح كبهاء مجد الآب، ليلاشي الضباب المتكاثف على قلوب الناس، ويحررهم من سلاسل الظلمة التى أسرتهم واستولت عليهم: “كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ إِلَى اللهِ”  (اع26: 18) ظلمة العبودية للشهوات :” لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ “( اش 42: 7).

جاء ليريح التعابى والمتضايقين، والذين من كثرة يأسهم تراءى لهم أن الحياة ليل لا يعقبه نهار ، ولكيما يحمل أثقال كل القلوب التى انسحقت تحت عبء أحمال الهموم والآلام، داعيا إياهم: “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ”ة (مت 11: 28)

جاء النور الحقيقى كقوة حياة جديدة ليوقف تيار الأثم عن السريان فى كيان الأنسان، ليقيم وينقذ كل الغارقين فى بحار الظلمة ويحيي من جديد كل من جرفه تيار الموت : “ارحمنى يارب. انظر مذلتى من مبغضى، يا رافعى من أبواب الموت”(مز9: 13) “وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ”(يو10: 10)

على عتبة الاحساس بدخول النور :

طالما لم تكن هناك موانع – من جهة الانسان- تقف فى وجه النور ليدخل ويعمل، فهو يبدأ عمله حالاً، وإن كان بطيئاً وعلى مهل، ولكن أثره يكون واضحاً جلياً يوماً بعد يوم.

وإزاء دخول النور إلى القلب يبدأ الإنسان بمؤازرة روح الله حسب الآية: “إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ” (رو8: 13) فى إماتة الانسان العتيق – بكل صفاته وشهواته القديمة – لكي يترك المجال لبذرة الانسان الجديد أن تطلع وتنمو. وعندئذ تبدأ صورة الانسان الجديد المخلوق بحسب الله فى البر وقداسة الحق أن تأخذ فى الظهور. واذ يدخل النور الى القلب وهو محمل بالحياة، ينساب تيار الحياة فى القلب كسريان النهر المتدفق الذى يكتسح أمامه كل مخلفات الظلمة وآثارها. لذلك فهو سمى “نور الحياة” أي النور الذي يحمل الحياة في أشعته، فيدخل ليُحيي من موت الخطية ويقيم من القبور “مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ” (يو8: 12)

ولا يكف النور عن عمله حسب قول الرب: “أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ” (يو 5: 17)، بل يستمر فى عمله حتى يفطم النفس عن الملذات والنزوات الماضية التى كان يشرب منها بلا ارتواء. وبفعل النور المتواصل تقل الأستجابة لالحاح الغريزة ومتطلبات الشهوة، حتى يجىء اليوم الذى يدوس عليها الأنسان برجليه، ويشمئزمن كل أعمال الظلمة “اَلنَّفْسُ الشَّبْعَانَةُ (من عمل النور) تَدُوسُ الْعَسَلَ” (أم27: 7) فالنفس تجد شبعها الحقيقى فى كلمة الله التى هى نور، وفى وسائط النعمة المغذية لبذرة الحياة فى الداخل.

ومع التسليم والخضوع لعمل النور، يبِّدد النور كل قلق ومخاوف فى الداخل ليحل محلها السلام والهدوء والفرح وراحة الضمير: “سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ” (يو14: 27) وبطبيعة عمل النور كنور، فهو يضىء الطريق الروحي أمام الأنسان، ويقود خطواته فى طريق السلام “يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلاَمِ” (لو1: 79)، “سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي” (مز119: 105)، كما يتولى تنبيه الانسان وتحذيره من كل المعاثر وحفر الهلاك: “لأَنَّ الرَّبَّ يَكُونُ مُعْتَمَدَكَ، وَيَصُونُ رِجْلَكَ مِنْ أَنْ تُؤْخَذَ” (أم3: 26).

أبناء نور وأبناء نهار :

الانسان العائش فى الظلمة إما أنه يحاول التملص من سلطان النور فيبقى فى الخطية، وإما أنه بتصميم القلب على السير فى طريق النور وأمام قوة عمل النور، تبدأ الظلمة تتراجع الى الوراء شيئاً فشيئاً حتى يملك النور على القلب ويملأ كل جوانبه، ويصير سنداً قوياً ومعيناً جباراً لكل من يصارع ويجاهد ضد أباطيل ظلمة العالم.

ولا يقف عمل النور عند حد المعونة والسند، بل يصير هو نفسه القائد الأول على خط النار فى المعركة الضارية بين مملكة النور ومملكة الظلمة، ليصد هجوم الخطية. كما يستعلن النور عمله كقوة الهية فتبطل عمل الأعداء غير المنظورين، وترد السهام النارية الموجهة الى أولاد الله من قوات الظلمة: “صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ” (لو1: 51) “اَللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ” (مز46: 1)، “لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ” (لو4: 36) .

ومنذ مجىء المسيح، والى يومنا هذا، وحتى مجيئه الثانى سيظل الصراع قائماً والحرب بلا هدنة بين النور والظلمة. لذلك يوصينا الرب محذراً ايانا: “فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ الظَّلاَمُ” (يو12: 35).

ولكن من دواعى سرورنا، أنه بحضور النور الإلهي الى عالمنا، استعلن ملكوت الله، ملكوت النور الأبدى. أتى النور الى أرضنا وأبى أن يفارقها، بل امتد وتعمق حتى تغلغل طبيعة الانسان ذاته فولده من جديد، وبدأت ملامح النور تتكامل داخل الانسان حتى تشكَّل وتمخَّض عن انسان جديد بطبيعة جديدة وعطايا صالحة من عند أبى الآنوار.

وباندفاق النور على أرضنا لم تعد الطبيعة البشرية سقيمة أو عقيمة، بل صار قمح برها ملأناً فى السنبل، أى الحياة ملآنة من ثمار الروح القدس: “مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ” (غل5: 22، 23).

ومع بزوغ النور فى قلوب المولودين من فوق، تنقطع الصلة التى كانت تربط قلوبهم وأفكارهم بالأرض وشهواتها، وتصير سيرتهم فى السموات، ولا يعودون يطأطئون رؤوسهم وينحنون لنير العدو وسلطانه، ولا تعود ميولهم وعواطفهم سائبة تتجه أينما أرادت، إذ تنضبط وتخضع لعمل الله ولتتميم  مشيئته، “أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلهِي سُرِرْتُ” (مز40: 8)، “أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ” (1كو9: 27).

ومن جراء استضاءة النفوس بنور الله، رأينا من هذه النفوس قمماً شوامخ مثل الشهداء الأبرارالذين فرطوا فى حياتهم ولم يفرطوا فى النور الذى احتواهم وملك عليهم. كما رأينا أشجاراً فارعة ظليلة، استظل تحت غصون برها كثيرون.

وهكذا مع استعلان النور فى عالم الانسان، انحسر عنه سلطان ملاك الظلمة وتضاءل نفوذه: “اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ خَارِجًا” (يو12: 31)، وصار رأس الظلمة ورئيسها فاقداً قوته أمام كل السائرين فى طريق النور كأبناء نور وأبناء نهار.

يقول القديس كيرلس الكبير:

[ان كلمة الله ينير كل انسان آت الى العالم ليس عن طريق التعليم، كما يفعل الملائكة مثلاً أو الناس، ولكنه عن طريق الخلق كإله يبث فى الذين يدعوهم الى الوجود، بذرة الحكمة والمعرفة الالهية، ويغرس فيهم أصل الفهم، وهكذا يجعل الكائن الحيّ عاقلاً، وشريكاً لطبيعته الخاصة، إذ يشع فى ذهنه اشعاعات من النور الأسنى بالكيفية التى يعملها هو، وأعتقد أن الكلام الكثير غير جائز فى هذه الأمور… والخليقة حينما تستنير بشركة هذا النور، فإنها تُدعى بل وتكون نوراً (مت5: 14) وترتقي الى ما يفوق طبيعتها الخاصة، بنعمة الذى يمجدها ويكللها بكافة الكرامات…

فالرب يتعطف حقاً على الصغار، الأدنياء بحسب طبيعتهم الخاصة، ويجعلهم عظماء وجديرين بأن يُتعجَّب منهم بسبب احسانه عليهم، لأنه كإله أراد أن يسبغ علينا خيراته الخاصة بسخاء، ولذلك يدعونا آلهة (يو10: 34)، ونوراً (مت5: 14)، وأي الخيرات لم يَدعُنا اليها؟؟][16]

ويتأمل الآباء فى نور قيامة المسيح :

[الآن أضاءت علينا اشعاعات من نور المسيح المقدس، وأشرقت علينا أضواء صافية من الروح القدس النقي، وانفتحت علينا كنوز سماوية من المجد والألوهة. لقد ابتُلع الليل الكثيف الحالك، وانقشع الظلام الدامس واختفى ظل الموت الكئيب. الحياة امتدت وشملت كل واحد، وامتلأ الجميع من النور غير المحدود. الفجر الجديد أشرق على الجميع، والمسيح العظيم القوى غير المائت الذى قبل كوكب الصبح (مز109: 2) بل وقبل كل الأجسام المنيرة، صار يضىء الآن على الجميع  أكثر من الشمس. بسبب ذلك أوجد لنا نحن المؤمنين به يوماً جديداً مضيئاً عظيماً أبدياً لا ينقص نوره،

إنه الفصح السري الذى كانوا يحتفلون به رمزياً فى الناموس، ولكنه الآن اكتمل بالتمام فى المسيح، إنه الفصح العجيب، ابداع فضيلة الله وفعل قوته، العيد الحقيقى والتذكار الأبدي الذى فيه نَبَعَ انعدام الآلام من الألم، وعدم الموت من الموت، والحياة من القبر، والشفاء من الجروح، والقيامة من السقوط، والصعود الى أعلى (السموات) من النزول الى أسفل (الجحيم)][17].

[7]  القديس الأرشيدياكون حبيب جرجس

الشريعة الجديدة ومباديء المسيحية (مت ص ٥، ٦)[18]

“تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت ۱۱: ۲۸).

“أنتـــــم نـــــور العــــــــالم” (مت ١٤:٥)

قصة:

هناك قصة عن صاحب خمارة باع مبنى حانته التي كان يشغلها لسنين عديدة إلى كنيسة بروتستانتية محلية، وقام شعب الكنيسة المتحمس بإزالة البار، وإعادة طلائها، وإعادة توزيع الإضاءة، ووضعوا بضعة صفوف من الدكك الكنسية بها، لكنّهم تغاضوا عن وجود ببغاء كان لصاحب الحانة. وتم افتتاحها للخدمة الكنسية يوم الأحد. وعندما دخل القس ليقوم بالخدمة، صاح الببغاء: “المالك الجديد”، وعندما تقدمت صفوف الخورس للترنيم، صاح الببغاء: “الاستعراض الجديد”، ونظر حوله متفحصاً الشعب الموجود بالكنيسة وصاح: “لكنهم نفس الزبائن القدامى”.

هذه القصة الخيالية الطريفة قد تبعث على الابتسام في أول الأمر، لكن ما إن تتأمل الحقيقة التي تطرحها، فربما تدفعك للبكاء بدموع. إنها تشير إلى صعوبة إيجاد فارق بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين المسيحيين وغير المسيحيين. في الحقيقة إنهم: “نفس الزبائن القدامي”

وأي فرق تحدثه؟ 

ذهب أسقف أمريكي لحضور بعض الخدمات الكنسية في روسيا، وهناك سألته فتاة صغيرة عن الكنائس في أمريكا، فاستفاض الأسقف في الإجابة معطيا إياها صورة كاملة عن الكنائس هناك، بقدر استطاعته. لكنها عادت وسألته: “ولكن، أي فرق تحدثه في النفوس؟”

هذا هو السؤال الذي دائما ما يسأله العالم لنا، نحن المسيحيين؟ ما الفرق الذي يحدثه المسيح في الإنسان؟ كيف أنتم أيها المسيحيون مختلفون عن الآخرين، هذا إن كنتم مختلفين بالفعل؟!”

إن هذا الفرق يفسره بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية (٦: ١٥) عندما يقول: “لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئا ولا الغزلة، بل الخليقة الجديدة”. إنه ليس شيئاً خارجياً في أجسادنا الذي يميزنا كمسيحيين، بل إنه شيء من داخلنا، من ذواتنا. نحن من المسيح، من المعمودية، من التوبة، من الروح القدس، صرنا “خليقة جديدة”، وكما يقول بولس الرسول في موضع آخر: “إذا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدا” (۲کو ٥: ۱۷). خليقة جديدة!

ويقول الكتاب: “ها أنا أصنع كل شيء جديدا!” (رؤ٢١ :٥)

أسس الرب يسوع العهد الجديد، ليصير شعبه بشراً جدداً خالعين عنهم طبيعة آدم القديم، واضعين عليهم طبيعة آدم الجديد: “أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق” (أف٤: ٢٢- ٢٤). “خليقة جديدة”.

عندما عاد كريستوفر كولمبوس Columbus إلى أسبانيا بعد اكتشافه العالم الجديد (القارة الأمريكية)، أراد أن يدلل على اكتشافه، فأتى معه بأحد الهنود الحمر.

إن برهان المسيحية، كما يقول بولس الرسول، هو نوعية جديدة من البشر، “خليفة جديدة”.

[8] الأب أنتوني م. كونيارس

خليقة جديدة[19]

“لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئا ولا الغزلة، بل الخليقة الجديدة” (غل٦ : ١٥).

هناك مقولة عربية قديمة تقول: “أصدق أن الفهد ممکن أن يغير بقع جلده، ولا أصدق أن بني آدم يمكنه أن يغير طبعه”، لكن ليس هذا ما تعلمنا إياه المسيحية. إن المبدأ الجوهري للمسيحية أنّ كل إنسان يستطيع أن يتغير في المسيح في أي وقت وأي مكان إن أراد ذلك من كل كيانه، فهو يستطيع أن يكون خليقة جديدة في المسيح.

كتب بول تيليك: [لو لخصت رسالة المسيحية في عصرنا الحالي في كلمتين، فسأقول مع بولس الرسول، إنها رسالة عن: “خليقة جديدة” لأن يسوع، المسيا المختار والممسوح، هو الذي يهب الأشياء حالتها الجديدة].

يقول القديس يوحنا الدرجي St. John of the Ladder [ستكون حريصاً على أن لا تدین الخطـاة إن تـذكرت أن… اللص اليمين كان واحداً من عصابة قتلة؛ لكـن وفي لحظة حدثت معجزة التجدد بداخله]. خليقة جديدة!

تغييرات مذهلة حدثت في العلوم في السنوات القليلة الماضية. في الواقع، إن التغييرات التي حدثت في السنوات الـ ٤٠ الماضية أكثر من التغييرات التي حدثت خلال الـ٤٠٠ سنة الماضية؛ لكن يبدو وفقا لما يقوله نورمان گوزنز Norman Cousins: [إن الإنسان يعلي من قيمة التغيير ويبجله في كل شيء، إلا نفسه]. 

التغيير الأكثر احتياجا إليه

التغيير الأكثر احتياجا إليه هو الإنسان نفسه؛ فإن لم يتغير الإنسان من الداخل، وإن لم يولد من جديد، وإن لم يبدل أنانيته بالحب، فكل التغييرات العلمية تصبح بلا طائل، بل واقعياً، هي فقط تُعجل بفنائه وإبادته.

نظر شخص إلى هيكل ديناصور Dinosaur في المتحف ذات يوم وتساءل “ماذا حدث لهذه الديناصورات، لماذا لا يعيش أي منها اليوم؟ أي شيء في العالم يمكنه قتل شيء كبير كهذا؟”، فأجابه مرشد المتحف: [لم يقتلها أحد، فقط لم تستطع أن تتغير مع تغييرات بيئاتها. فعندما تغير المناخ والبيئة تباعا، وأصبحت الظروف الحياتية مختلفة تماماً، ماتت الديناصورات واختفت تدريجيا].

البيئة الخارجية للإنسان أيضاً تغيرت بشدة؛ فعلى سبيل المثال، هناك وفرة زائدة في أسلحة الدمار تحت تصرفه، بحيث إن لم يتغير الإنسان من داخله، فغالباً، سيكون عليه كذلك أن يواجه نفس مصير الديناصورات.

قد نسمع بعض الآراء المتفائلة، مثل كارل ساندبرج Carl Sandburg الذي يقول: [إن الرب خلق الإنسان في استطاعته أن يتغير، فيمكن للإنسان أن يحول نفسه لسمكة، ويغطس للأعماق ويظل تحت الماء غير هياب من كائنات الماء. وهو يستطيع أن يحول نفسه لطائر قادراً على الطيران لأبعد ما يكون حاملاً الأحمال الثقيلة، بأجنحة أعرض ومخالب ومنقار أشرس من أي طائر آخر. إن الرب بالتأكيد أراد للإنسان أن يكون متغيراً، أي قادرا على إحداث تغيير].

لكن التغيير الأساسي للإنسان ليس أن يتغير لطائر قادر على الطيران، بل أن يغير الذئب الذي بداخله إلى حمل، وهذا بالتحديد ما يفوق استطاعة الإنسان حيث تواجهه أعظم الصعاب. هذا ما وصفه بولس الرسول كحالة قابعة بداخله عندما قال: “لأني لست أعرف ما أنا أفعله، إذ لست أفعل ما أريدة، بل ما أبغضة فإياه أفعل. فإن كنت أفعل ما لست أريده، فإنى أصادق الناموس أنه حسن .فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا، بل الخطية الساكنة فيَّ .فإني أعلم أنه ليس ساكن فيَّ، أي في جسدي، شيء صالح. لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل. فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل، فلست بعد أفعله أنا، بل الخطية الساكنة فيَّ. إذا أجد الناموس لي حينما أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضر عندي . فإنى أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن. ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟” (رو٧: ١٥ – ٢٤).

يقول بولس الرسول إن الخلل والمشكلة فيَّ أنا، فأنا عندي مشاكل هذه الذات التي لي، أكثر من أي شخص آخر قابلته في حياتي، إن هذه الذات تتوغل في طريقي، تجذبني لأسفل، تبعثر وتلخبط الأشياء لي، وتجعل مني أحمق. السبب الوحيد لتسكعي مع هذه الذات ـ ذاتي أنا ـ أنني ملتصق بها وملازم لها، ولا أستطيع الفرار منها.

“ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني”. هذه ليست مشكلة بولس الرسول بمفرده، بل إنها أيضا مشكلة كل إنسان منا.

 هذا هو طبعي! 

قصة:

هناك قصة مسلية حول أحد العقارب، الذي لا يستطيع السباحة بحكم طبيعة تكوين العقارب. طلب هذا العقرب من سلحفاة أن تحمله على ظهرها لتعبر به النهر. فصرخت السلحفاة: “أجننت، ستلدغني أثناء عبور النّهر وسأغرق”. فأجابها العقرب ضاحكاً: “سلحفتي العزيزة، لو لدغتك، ستغرقين وسأغرق معك، بأي منطق تتحدثين؟”، فأجابته السلحفاة: “معك حق، اقفز على ظهري!”. وهذا ما كان، ففي منتصف الطريق لدغ العقرب السلحفاة لدغة قوية، وبينما كلاهما يغرقان لقاع النّهر، سألته السلحفاة: “لقد قلت لي إنه ضد المنطق أن تلدغني، فلماذا فعلت هذا؟”

أجابها العقرب وهو يغرق معها متألماً: “هذا شيء ليس له علاقة بالمنطق، إنها مجرد طباعي”.

الواحد الذي يجعل كل الأشياء جديدة 

هناك احتياج للتغيير في شخصية الإنسان، في طبيعة الإنسان. الطب النفسي لا يقدر أبداً على إحداث هذا التغيير، لا علم النفس، ولا علم الاجتماع، ولا التعليم، أو الحكومات، أو الشيوعية، أو الاشتراكية، أو أي شيء آخر. فقط يسوع المسيح هو الذي يمكنه صنع هذا النوع من التغيير الجذري، بحيث يصنع من الإنسان: “خليقة جديدة”.

لقد فعل هذا مع قائد جماعة النمور السوداء (قائد منازعات عام ١٩٦٠ المسلحة لاستخلاص حقوق السود في المجتمع الأمريكي) عندما كان عائداً من المنفى، فقد أعلن لتوه: “لقد تحولت حياتي ١٨٠ درجة، لقد ولدت من جديد”. لقد فعل هذا مع أحد القادة السياسيين المتورطين بشدة في فضيحة ووترجيت Watergate بأمريكا، لقد أصبح خليقة جديدة في المسيح.

بصرف النظر عما فعله لك أبواك أو أي شخص آخر في الماضي، فأنت هو المسؤول الآن لاتخاذ الخيارات الصائبة لتعديل طريقك في الحياة.

فإذا كان خيارك أن تدعو يسوع إلى حياتك، أن تحيا له، فباستطاعتك أن تصبح خليقة جديدة.

يقول إي. إس. جونز E. S. Jones: [ذاتك بين يديك هي مشكلة وألم، وبين يدي الرب هي استطاعة وقوة]. خليقة جديدة!

الوحيد الذي يستطيع إعادة خلقتنا هو ذاته الوحيد الذي خلقنا أولاً. لقد خلقنا على صورته ومثاله، واليوم هو قادر على إعادة خلقتنا على مثال ابنه الوحيد، ويجعلنا شركاء معه في حياة ابنه.

يقول سليمان الحكيم في سفر الجامعة: “لا جديد تحت الشمس”. في ذلك الوقت، وقبل مجيء المسيح بقرون، لم يكن باستطاعة سليمان معرفة سر التجديد، لكننا الآن نعرف “ما هو الجديد تحت الشمس؟” إنه الحياة مع المسيح التي هى جديدة في كل يوم.

الكتاب المقدس ليس سجلاً لنظريات التغيير، لكنه سجل للتغيير في حياة أفراده.

إنه يخبرنا عن يعقوب المخادع الذي أصبح أبانا يعقوب الصالح أبا الشعب الإسرائيلي.

الكتاب المقدس يخبرنا كذلك عن موسى، السريع الغضب، قاتل المصري، الذي تغير ليصبح موسى القائد الصبور للجموع المتمردة في البرية.

كما يخبرنا عن سمعان المتقلب الذي تحول لبطرس الجريء والمنادي بقيامة يسوع المسيح.

إنه يخبرنا عن شاول الطرسوسي الذي “ينفث تهدداً وقتلاً” ضد المسيح، الذي يتحول ليكون بولس كاتب أروع ما كتب عن المحبة على الإطلاق: “المحبة تحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء،وتصبر على كل شيءالمحبة لا تسقط أبدا” (١كو١٥: ١-٨) لقد أصبح شاول خليقة جديدة بالكامل في يسوع المسيح!

الفلك الحقيقي 

كثيرا جدا ما يقارن آباء الكنيسة كنيستنا بفلك نوح، وكما نجا كل من دخل الفلك من الهلاك، هكذا أيضا ينجو من يدخل الكنيسة الآن من مهالك بحر العالم الزائل من الخطية والموت.

لكن عمل كنيسة الله أسمى وأكثر إيجابية من عمل فلك نوح، لأنه وفقا لتوجيهات الرب، أخذ نوح في الفلك الحيوانات الوحشية، ثم تم إطلاقها بعد هذا؛ لكن يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: إن كنيسة الله تحت قيادة السيد المسيح، يأخذ فيها الخطاة ويحولهم لقديسين. الديك دخل الفلك كديك وخرج منه أيضا كديك، والذئب دخل الفلك كذئب وخرج منه أيضا كذئب؛ لكن عندما يدخل إنسان إلى الكنيسة، فهو يدخل كديك ويخرج منها كحمامة، يدخل كذئب ويخرج منها كحمل، يدخل منها كيرقة ويخرج منها كفراشة. خليقة جديدة!

الفن الأعظم

كان لونجفيلو Longfellow يستطيع أن يأخذ ورقة عديمة الفائدة، ويكتب بعض أشعار عليها ليجعل هذه الورقة تساوى ٦٠٠٠ دولار، هذه عبقرية.

كان إمضاء روكفيللر Rockfeller لاسمه على قطعة من الورق يجعلها تساوى مليون دولار، هذا رأسمال!

كان باستطاعة هنري فورد Henry Ford أن يأخذ قطعة من المعدن تساوي 150 دولاراً، ويحولها إلى عربة تساوي ١٥٠٠دولار، هذه براعة.

كان دافنشي Davinci يستطيع أن پرسم صورة على قطعة قماش كنفاه تساوی نصف دولار ويجعلها تساوى الملايين، هذه براعة فنية.

لكن يسوع المسيح فقط باستطاعته أن يأخذ نفساً ملوثة بالخطايا، ليغسلها وينظفها بدمه الثمين، ويضع روحه فيها، فيحولها إلى بركة للبشرية، هذا هو الخلاص، هذه خليقة جديدة!

صلاة 

ها أنا يا سيدي،

أجعل مني إنساناً جديداً،

فالقديم كان موجعاً، كان مؤلماً.

فها أنا أضع نفسي تحت إمرة الإدارة الجديدة،

إدارتك أنت.

لك كل المجد إلى الأبد. آمين.

[9] الأب فرنسيس ب. لابيف

كيف نتحدث عن الله[20]

“نَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا بِعَظَائِمِ اللهِ” (أع ٢: ١١).

  • بينما كان التلاميذ مجتمعين معاً بنفس واحدة، صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، ونزل الروح القدس بشكل السنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم.
  • لقد كان التلاميذ مجموعة من الناس: فقراء وبسطاء وخائفين من اليهود، فامتلأ الجميع من الروح القدس الذي حولهم إلى كارزين مملوئين شجاعة من أجل كلمة الله.
  • امتلأت أورشليم بالرجال والنساء من جميع أنحاء العالم المعروف، أناس غرباء من الشمال والجنوب والشرق والغرب، وسمعوا بطرس، والرسل الآخرين يتحدثون بلغاتهم، واستقوا البشارة المفرحة العظيمة.
  • وهي التوبة وفداء الجميع ..
  • فقد ولدت الكنيسة في هذا اليوم العظيم
  • وبدأ بطرس والرسل يتحدثون للجموع بلغاتهم عن أعمال الله العجيبة،
  • وهكذا انتشرت كلمة الرب بسرعة لتأتي بكل نفس لمعرفة الله ومحبته وخدمته.
  • ما أعظمه درس لنا أجمعين ، كل واحد كان يسمعهم يتكلمون بلغته على انفراد.
  • إنه ليس بكافيا أن نوصف الله، ونحدث الناس عنه، ولكن يجب أن نتحدث عن الله بلغة الناس وبطريقتهم . يجب البحث عن أفكار الناس ، وطرقهم وميولهم، ونقدم لهم الله ومحبته بالطريقة التي تناسبهم فهو أزلی وتستطيع جاذبيته اللانهائية جذب كل قلب، بالرغم من بعد رغباته وعاداته .
  • ولكن توجد لغة واحدة يفهمها الجميع هي لغة الأعمال، فإذا تحدثنا عن الله بسلوكنا وأعمالنا فسنردهم إليه. فيجب مواساة الحزاني ولمس نفوسهم بحنان مثلما تفعل الأم حتى ترتفع رؤوسهم، مرة أخرى لتشاهد الله يأتي للخطاة وغبار الحياة قد ملأ نفوسهم، فيجب علينا إذا الإشفاق عليهم کی نساعدهم حتى لا ينزلقوا مرة أخرى، بل يتسلقوا الدرجات متوجهين إلى عرش الله و مبتعدين عن وادي الدموع. يجب الحنو بصبر لا نهاية له على المتكبرين والمتمردين الذين يقدفون الله في ضيقاتهم، ولا نستسلم لردودهم القاسية و عتاباتهم، فهم سيتعلمون يوما كراهية اعوجاجهم وستتغير نظرتهم إلى الله الرحوم الذي ارسل لهم صديقا كهذا .
  • إنه لمن المستحب أتحدث عن الله ، ولكن اعلى حديث هو معايشة طرقه من خلال حياتنا حتى نتحدث عن أعماله العجيبة. فالنداء المرتفع الوحيد الذي يجذب كل نفس بشرية في المنزل، أو في العمل، أو أثناء اللعب، أو في المدرسة، أو في الحياة العامة هو هذا الصوت الفصيح الذي يشير إلى حياة الانسان التي يقودها الله .
  • عندئذ سيفهمنا الآخرين إذ اننا نتحدث لكل واحد منهم بلغته هو.

يا ربي يسوع الحبيب،

إن أقرب شيء إلى قلبى هي تلك الرغبة القوية في احضار النفوس إليك.

واحيانا أبغي التحدث بكل فصاحة عنك إما بالكتابة أو التحدث، حتى اجذب نفوساً أنت عطشان إليها،

ولكن هذا ليس من المستطاع دائماً.

دعني أتعلم هذا الدرس الحيوي، ألا وهو التحدث عنك بالطريقة التي أستطيعها دائماً، والتي يستطيعون فهمها.

دعنى أنمو حتى اكون شريكاً لك – واقول هذا بكل خشوع – حتى يعرفوك برؤيتهم لي، وأکون رسالتك المقروءة من جميع الناس، ونور وملح للعالم كله، هكذا سأتحدث إليهم بكل إقناع وبلغاتهم عن الأعمال المستقيمة وعن عظمة محبتك واعمالك العجيبة.

[10] مقالة مُتَرْجَمة

السعادة للمساكين بالروح[21]

طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ” (مت٥: ٣).

قال أحدهم: [لو وجد العالم حاجته الكاملة من الأكل والمال والراحة من المهد إلى اللحد لاكتفى ولم يطلب المزيد].. وجعلنى هذا القول أسأل نفسي مراراً: هل حقا تحقق هذه الأمور السعادة للجميع؟!

و كنت دائماً أجيب بالنفي، فإنني أعرف كثيراً من الأغنياء ولكنهم أشقياء.. كما إنني أعرف الكثيرين يطلبون المزيد ليكونوا سعداء ولكنهم لا يصلوا للسعادة المنشودة؛ إنهم يطلبون إمتلاك العالم بأجمعه فإذا امتلكوه طلبوا عالماً آخر!!..

لكن يسوع رسم لنا طريق السعادة الحقيقية وأوضح في أقواله أن الغنى والأموال لا تحقق سعادة الروح.

لقد كانت العظة على الجبل موجهة إلى مجموعتين من الناس:

الأولى: هي عامة الشعب

والثانية: هي جماعة تلاميذه

وكان حديث السيد المسيح إلى كليهما واحداً، إلا أن العظة كانت لجماعة التلاميذ تلميح عن الوطن السمائي الذي سيكون مسكن الله مع الناس، والذي سيحيون فيه كأزهار حول للمسيح، كما أنها أوضحت لهم أن الطريق إليه شاق والباب ضيق، أما لجماعة الشعب فقد كشفت العظة المعنى الحقيقي لإتباع المسيح.

لم يكن المسبح في نظرهم حتى ذلك الوقت سوى صانع معجزات، وكإنسان ذي قوة خارقة. أما عندما سمعوه على الجبل فأيقنوا أنه السيد والمعلم الحكيم.. لقد كان يجمع بين الرقة والصلابة.. إنهم لم يسمعوا إطلاقاً عن أحد مثله. إن يوماً واحداً يقضيه الشعب مع يسوع وهو يشفي الأمراض ويقيم الساقطين ويدعو الأطفال، لهو يوم فريد لا ينسى في حياة شعب كان يحيا حياة مملة مقبضة في أرض الشقاء.

لقد كانت الديانة عندهم مجرد إحتفالات، ولم تكن هناك علاقة بين الدين والحياة.. حتى كلمة السعادة أصبحت بلا معنى، إلا أن السيد المسيح أعاد كلمة طوبى.. وسعادة إلى أحاديثهم، بل وبمعنى جديد يدخل إلى أعماق قلوبهم وحياتهم.

وحينما فتح المسيح فمه بدأ بكلمة “طوبى”.. أو “ما أسعد”.. لقد كانت بداية طيبة ولا أعتقد أن هناك كلمة مشبعة أكثر من تلك لهؤلاء الذين كانوا يظنون أن بينهم وبين السعادة والتطويب بوناً شاسعاً.

لقد كان هذا الشعب تحت حكم رومانی متعسف، وحكومة ظالمة مستبدة وعشارين، كثيرين، لقد كانوا في يأس وضيق.. فهل كلمة التطويب التي نسوها تقدر أن تحل مشكلة حياتهم الشقية وتعطيهم الراحة. وبسرعة تتلاحق الكلمات.. “طوبى للمساكين بالروح..” ولو أن المسيح حذف الكلمة الثالثة لامتلأوا فرحاً لأنهم جميعا فقراء، إلا أنه حدد كلماته فقال: “المساكين بالروح”. وفي تعجب أنصتوا جميعاً لأول مبادىء أسرار السعادة.

ونحن نظن عادة أن الفقراء أو المساكين ليسوا سعداء.. لكن السيد المسيح يعلمنا أن السعادة تأتي حتى في الفقر.

ولكن أي نوع من الفقر يقصده المسيح؟ .. هل يعني هؤلاء الذين يمتلكون قليلاً جداً من متاع الدنيا ؟ بالتأكيد لا … إن كنت تريد أن تكون أحد هؤلاء المساكين بالروح فيجب أن تعلم جيداً:

أولاً: إنك في احتياج دائم الله.

فما من إنسان يستحق الشفقة إلا الذي يكون في احتياج شديد لله ولا يدري فمثلا نفاق الفريسيين وريائهم ليس هو الأمر الوحيد الذي يستحق الرثاء بل قصورهم في معرفة الحق ومعرفة حقيقتهم التي يكشفها فاحص القلوب والكلى،هي الأدعى إلى الرثاء.

ومما يؤسف له دائماً رؤية إنسان يظن أنه غني وهو في الحقيقة فقير أو يظن أنه صالح وهو في الحقيقة مرذول أو يظن أنه عالم وهو جاهل حقاً، وقد ضرب لنا السيد المسيح مثل الغني الغبي الذي ظن أن له خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة، ويستطيع أن يستريح ويأكل ويشرب ويفرح، ولم يخطر بباله إطلاقاً ان الروح لا تسعد بالماديات، والقلب لا يتغذى بالأكل والشراب، ولأنه غبى وجاهل قال له الرب -كما يقول في كل العصور لأمثاله- “يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك فهذه التي أعددتها لمن تكون، هكذا الذي يكنز لنفسه وليس هو غنياً لله” (لو12: 20، 21).

إننا جميعا نملك أعين وآذان وأقدام وجسد كامل.. وهذا الجسد له رغبات واحتياجات. ولكن الكتاب المقدس يعلمنا أننا أكثر من جسد.. إننا في الحقيقة روح حية، وهكذا كما أن الجسد له رغباته واحتياجاته هكذا أيضا الروح.. وهذه الروح تبحث دائما عن السلام والرضا والسعادة.. وفي هذه الحياة التي نعيشها ينصب كل اهتمامنا على إرضاء وإشباع رغبات الجسد وشهواته، أما الروح فليس لها نصيب، لذا نصير ممتلئين جسدياً ومادياً بينما أرواحنا هزيلة وضعيفة ومصابة بالفقر الشديد. لقد خلقت أرواحنا كصورة الله، ولن ترضى أن تكون غير ذلك، والله وحده هو الذي يستطيع أن يهب الروح رغباتها واحتياجها، وقد تكون أحد المشاهير أو العلماء أو الأغنياء جداً ولكنك للان لا تشعر بالسعادة والسلام الحقيقي.. لماذا؟.. إن الإجابة ببساطة: لأنك أنت تعطي كل اهتماماتك للجسد وليس للروح نصيب.

إن الروح تحتاج أن نعطيها حقها كالجسد.. إنها تحتاج إلى صداقة كاملة واتصال دائم بالله خالقها، وإن لم نعطيها غذاءها، وندربها كثيراً كل يوم فستصير ضعيفة غير حارة، بل وستبقى غير راضية قلقة. لذا لجأ كثيرون إلى الخمور في محاولة لإطفاء إشتياقات الروح، وانغمس آخرون في الشهوات الجسدية وأمور أخرى كثيرة، ولكن لا شيء مرض.

أما الله فانه يعطى الرضا والراحة لأن الروح خلقت وله وبدون الله ستظل قلقة ودائماً في عذاب دفين. وأولى الخطوات إلى الله هي: معرفتك التامة بفقرك الروحي..

إن المسكنة بالروح لا تقيس أهمية الحياة بالممتلكات الأرضية التي تذبل سريعاً، ولكن بدلالة الحقائق الأبدية التي تبقى للأبد.. وأنه لحكيم ذلك الإنسان الذي يعترف بنقص ثروته الروحية ويصرخ إلى الله “يا رب ارحمني أنا الخاطيء”.

إن القانون الإلهي يقول دائماً: إن الاحتياج يأتي قبل الامتلاء، والاعتراف قبل المغفرة، والفقر قبل الغنى،

وقد قال الرب يسوع “إن السعادة تكمن في معرفتنا بفقرنا الروحي لأنه الباب الذي يدخل منه إلينا”.

إن الكتاب يعلمنا أن الروح تمرض وتصاب بأمراض فتاكة، ومرض الروح وباء يسبب المتاعب والضيقات الشديدة للانسان وكما أننا نخاف من الأمراض هكذا يجب أن نخشى أن تصاب أرواحنا بالمرض الروحي.

إن مرض الروح هو أصل الضيقات وسبب البلايا. إنه الخطية.. وكل خطية نصنعها فإنما نوجهها ضـد الله، والله الكلي القداسة والعادل لا يسمح للخطية أن توجد في حضرته “بدون القداسة لا يعاين أحد الرب” (عب12: 14) لذا تصبح الخطية حائلاً بيننا وبين الله. ولذا يجب أن يكون هناك اعتراف بأننا قد  كسرنا قوانين الله، وأننا مستعدون لترك الخطية. وأنه بدون المسير بمصاحبته ونوال رحمته.. تصير الحياة فارغة وجوفاء وجحيم لا يطاق. يقول الوحي في سفر الرؤيا عن هذا الانسان “لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس. وفقير وأعمى وعريان” (رؤ3: 17).

إن الاعتراف بالاحتياج ليس سهلًا فجميعنا مصاب بالكبرياء.. كثيرون لا يقبلون الاعتراف بخطأهم وفشلهم، ولكن الوحي الإلهي يعلن لهؤلاء “من يكتم خطاياه لا ينجح ومن يقر بها ويتركها يرحم” (أم 23: 13) “إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم” (1يو1: 19).

لذلك يجب أن نشعر باحتياجنا إلى الله ونعترف بخطايانا لأن هذه هي الخطوة الأولى نحو السعادة والسلام الحقيقي. ولنواجه أنفسنا بهذه الحقيقة: إننا دخلنا العالم بلا شيء وواضح أيضاً أننا سنتركه بلا شيء. فأنت إن كنت كاتباً مرموقاً أو مديراً ناجحاً أو طبيباً ذو شهرة أو فناناً أو غنياً، فمن اين لك تلك الموهبة أو ذلك الحظ؟!.. هل تعرف ماذا كنت ستصير بدون هبات الله وعطاياه؟!.. ألم نولد فقراء وسنموت أيضاً فقراء.. أما كان يمكن أن نعيش فقراء لولا رحمة الرب الواسعة ومحبته الفياضة؟!.. لقد أتينا من لا شيء، فإن صرنا شيئاً فذلك لأن الله هو كل شيء. فان أوقف قوته لحظة واحدة أو أمسك بنسيم الحياة ثوان قليلة لأصبح وجودنا في أبدية لا نهائية.

إن هؤلاء المساكين بالروح يعرفون جيداً حقيقة وجودهم وخطيتهم أمامهم في كل حين. كما أنهم على استعداد تام أن يعترفوا بخطاياهم ويتوبوا عنها.

ثانياً: إن كنت تريد أن تكون أحد هؤلاء المساكين بالروح فانه يجب أن تمتلئ من الغنى الذى أعطانا إياه الرب يسوع بموته وقيامته.

لقد اكتشف العلم حديثاً معظم أنواع العلاج اللازم لأغلب الأمراض ولكن سيكون غريباً جداً أن يجد العلم علاجاً لضيق الانسان وتعبه.. دعنا نتخيل أن كل إنسان في العالم قد امتلأ قلبه بالحب بدلاً من الكراهية وفاض بالخير والرضا بدلاً من التذمر.. لو تم ذلك حقاً، فسيكون ذلك حلاً نهائياً لمشاكل البشرية، فالصحف تطالعنا كل يوم بأن تذمر الانسان هو نتيجة حتمية لشهواته وأطماعه، فلماذا لا يقنع الانسان بحاله؟!.. لماذا لا يحب الانسان أخاه الانسان بغض النظر عن اللون أو الجنس؟!.. لماذا لا يعطي من يملك الكثير لمن لا يملك؟!.. حقاً لو تخلى الناس من أطماعهم وشهواتهم لتغير هذا العالم الذي نعيش فيه.

لكل شيء علاج .. هذه الحقيقة ثابتة ويعرفها الجميع ، وهكذا أيضا فكل الخطايا تغفر وكل الآثام يمحوها الله.

إن الحق والفرح والسعادة والرضا تقدر أن تحل محل الخطية والخزي والألم..

إن السلام يقدر أن يحمل في الروح ويظل فيه مهما تغيرت الظروف المحيطة..

إن هذا العلاج قد أعطاه لنا يسوع منذ الفي عام على صليب الجلجثة..

لذا أصبح الصليب شعار للكنيسة ورمزاً للخلاص.. لماذا؟..

ذلك لأنه فوق الصليب بذل المسيح دمه الذي صار علاجاً للخطاة الذين عرفوا أنهم محتاجين له واكتشفوا فقرهم الروحي وحاجتهم إلى مخلصهم وسيدهم وربهم. إن موت المخلص في يوم الجمعة العظيمة لم يكن مجرد حادثة.. لقد كان علامة الحب بين الله والانسان المؤمن به.

لقد كانت الخطية حائلاً بين الله والانسان.. ولم يستطع الانسان أن يكون سعيداً بعيداً عن الله.. لذا أرسل الله ابنه الوحيد ليحمل خطايانا ويرفع عنا عقوبة الموت التي حكم بها علينا.

الله يطلب منك أن تعلن فقرك الروحي وتعترف بخطاياك وتتقدم في إيمان إلى ابنه يسوع المسيح فإن أنت فعلت ذلك فستولد ثانية وتتغير حياتك حتماً وستدخل السعادة والرضا إلى نفسك في أول لقاء مع المخلص.

يوجد طريق واحد يدخل منه السلام إلى حياتك..

انه طريق التوبة والايمان الشخصي بيسوع المسيح .

هل اختبرت بحق اللقاء مع المخلص؟.. إنه ليس انفعال عاطفي، إنه تسليم الإرادة إلى يسوع.

إن الثمن الحقيقي لسعادتك هو ركوعك أمام الصليب وقبولك المسيح كمخلص.

ثالثاً: إن كنت تريد أن تكون أحد هؤلاء المساكين بالروح فيجب أن تعرف ما معنى الاعتماد الكامل على الرب.

لقد تكلم المسيح عن أننا يجب أن نصير كالأطفال لندخل ملكوت السموات.. وكما أن الأطفال يعتمدون على والديهم في جميع الأمور وكما أنهم بدون والديهم يصيرون كمن لا حول له هكذا نحن أيضاً.

وكأبناء لله.. يقول الكتاب “كما يترأف الأب على البنين يترأف الرب على خائفيه” (مز103: 13) وكما أن الأبناء لا يصرفون وقتاً في التفكير في الملابس والطعام أو المأوى.. هكذا أيضاً يقول يسوع “فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس فإن هذه كلها تطلبها الأمم لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم” (مت٦: ٣١-٣٦) ولان الرب حمل المسئولية كامله لذا طلب منا أن نلقي بأعبائنا وأحمالنا عليه وهو سيعتني بنا.

ولأننا أبناء الله.. قال يسوع: “لا تضطرب قلوبكم” (يو١٤: ١).. سأحمل همومكم.. لا تفتكروا.. اتركوا كل شيء عليَّ، والأبناء يسألون والديهم كل ما يطلبون.. لذا قال الرسول لأولاد الله المتكلين عليه “فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة وعونا في حينه” (عب4: 16) ولأن الله سيلبي أيضاً طلباتنا في الحياة لذا قال “اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم” (مت7: 7)

حقاً أن الانسان الذي عرف كيف يتقدم إلى الله بالصلاة يومياً لسعيد جداً.. إن الدقائق التي تقضيها صباحاً مع الله لتبدأ بها يومك ستغير كثيراً من الأمور بل ستزيل جبالاً. إن هذه السعادة والنعمة اللانهائية التي تأتي من كنوز السماء لتعتمد أساساً على تسليمنا واعتمادنا على الله. إن ذلك يكون لأولاده المتكلين عليه فقط.. إنهم يشعرون براحة تامة وسعادة كاملة. ولكي تكون أحد أولاده، يجب عليك أن تتكل عليه وتلقي بكل أحمالك عند قدميه.

يجب أن نعترف بفقرنا لكي نصبح أغنياء يجب أن نعرف أننا لا شيء قبل أن نصبح أولاد الله حينما نعرف أن برنا وصلاحنا الشخصي هو لا شيء في نظر الله، وحينها نتأكد من اتكالنا الكلي على الله ونعمته التي تأتي من خلال مراحمه فإننا نكون قد بدأنا طريق السعادة.

والانسان يعرف الله من أعماله وكما يعرفه بالإيمان كعطية صالحة من لدنه. إن السير في طريق الله يأتى كهدية منه عن طريق معرفة يسوع المسيح.

رابعاً: إن كنت تريد أن تكون أحد هؤلاء المساكين بالروح فانه يجب عليك إن تنكر ذاتك. لتخدم المسيح أكثر. 

إن هؤلاء المساكين بالروح هم الذين باعوا كل شيء وباعوا ذواتهم لينفذوا قول الرب “إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (مت16: 24).

إن بعض الفلسفات الحديثة تنادي بالاعتماد على الذات والثقة بالنفس، والدين في نظرهم يكون صالحاً جدا لهؤلاء الناس العاطفيين ولكنه لا يقوى أمام الذين يؤمنون بأنفسهم.

ولكن وأسفاه أن ثمار هذا الجيل الذي يثق بنفسه هي الخمور والعادات الشريرة والجرائم والحروب والأسر المنحلة والعنف والتشرد والانتحار بنسبة أكثر بكثير من أى جيل مضى. ولكن الواجب الآن أن نقوم من سقطاتنا وزلاتنا، وأن نقلل من ثقتنا بأنفسنا لنثق أكثر ونؤمن أكثر بالله. لقد جاء الشاب الغني إلى المسيح وهو معتز بجماله وأمواله ولكنه مضى حزيناً حينماً عرف أن ثمن الحياة الأبدية هو أن «يبيع الكل» ويأتي ويتبعه. لقد مضى في أسف لأنه كما يقول الكتاب لم يقدر أن يفصل ذاته من لذاته ولقد كان صعباً جداً عليه أن يصير فقيراً بالروح. إن الكثيرين ممن حولنا مغرورين وأنانيين وذلك بسبب الخطية ولكن الصوت ينادي من السماء: “أشير عليك أن تشتري مني ذهباً مصفى بالنار لكي تستغني وثياباً بیضاً لكي تلبس فلا يظهر خزي عريتك وكحل عينيك بكحل لكي تبصر.. هنذا واقف على الباب وأقرع إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه” (رؤ۳: ١٨، ٢٠)، السماء في حياتنا هذه وفي حياتنا القادمة ليست هي مستوى مادي ولن يعرف باب وطريق ملكوت السموات جسد ودم يحب العالم ويتلذذ بما فيه “إن لحماً ودماً لا برثان ملكوت السموات” بل هؤلاء المساكين بالروح، والأغنياء بالرب سوف يسمح لهم بالدخول إلى مجده وملكوت السموات معد لهم لأنهم لا يأتوا بيرهم الذاتي ولكن بدم مخلصهم.. سعداء هؤلاء المساكين بالروح لأن لهم ملكوت الله؟.

من وحي قراءات اليوم

“أنتم ملح الأرض… أنتم نور العالم” (انجيل القدَّاس).

بين القيمة والمكانة

❈ المسافة كبيرة جدا في مجتمعنا الشرقي بين المكانة والقيمة.

❈ القيمة حددناها بما نملكه أو بما ندرسه أو بما نقتنيه.

❈ قيمتنا العظمى في أننا صورته مهما كانت الصورة.

❈ ليتنا نربي أولادنا أن يعتزوا بأنفسهم بعيداً عن ذكاءهم الدراسي أو إمكانيات والديهم.

❈ عندما إحتضن الرب الأطفال كان يحتضن القيمة وعندما جلس مع العشارين كان يُظْهِر جمال القيمة.

❈ وعندما أعطى الويلات للقادة كان يرفض كبرياء المكانة.

❈ مكانتنا تزداد عندما نتنازل عنها بإرادة حرة للآخرين أو نستخدمها لخدمتهم.

❈ وقيمتنا تزيد عندما نُظْهِر جمال قيمة الآخرين.

❈ الكنيسة التي تفرق بين الناس على أساس المكانة لاتعلن حضور الله.

❈ والخادم الذي لايظهر لمعان دهب من يخدمهم يبدد مجد المسيح.

 

 

المراجع

 

[1]  شرح أناجيل آحاد السنة التوتية – شهر هاتور – ص ١٩- دكتور جوزيف موريس فلتس.

[2]  كتاب أغسطينوس في شرح الموعظة علي الجبل – صفحة ٤١ – كنيسة مار جرجس سبورتنج.

[3]  كتاب عطية الروح القدس – صفحة ٦٢ – القمص تادرس يعقوب ملطي

[4]  كتاب الحب الإلهي – صفحة ١٥٦ – القمص تادرس يعقوب ملطي

[5]  كتاب من مجد إلي مجد للقديس غريغوريوس النيسي 0 صفحة ٢٩ – ترجمة القمص إشعياء ميخائيل.

[6]  سيرة وحياة القديسة والمعلمة الطوباوية سنكليتيكي – بقلم القديس البابا اثناسيوس الرسولي –  ترجمة بولين تدري.

[7]  كتاب نقاوة القلب في المفهوم الكتابي والآبائي – الجزء الثاني ص ١٠٦٣– ١٠٦٦، ١٠٩٤- ١٠٩٥- إعداد أحد الآباء الرهبان بدير السيدة العذراء “برموس”

[8]  كتاب سياحة القلب – كنز من روحانية أقوال الآباء – صفحة ١٢٨ – تعريب وتقديم القمص إشعياء ميخائيل – كنيسة الملاك ميخائيل بالظاهر.

[9]  كتاب مقالات القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد – صفحة ٤٢ – ترجمة وإعداد القمص مرقوريوس الأنبا بيشوي.

[10]  كتاب دراسات في الكتاب المقدس – إنجيل متى – صفحة ١٢٨ – الأنبا أثناسيوس مطران كرسي بني سويف والبهنسا.

[11]  مجلة مدارس الاحد عدد اكتوبر لسنة ١٩٦٧

[12]  كتاب نظم الياقوت في سر الكهنوت – صفحة ٩٨ – الأنبا إيسيذوروس أول أسقف لدير البراموس – مشروع الكنوز القبطية.

[13]    كتاب الإستشهاد في المسيحية – صفحة ١١٧ – الأنبا يؤانس أسقف الغربية.

[14]  كتاب ألقاب المسيح ووظائفه – صفحة ٨٦ – الأنبا بيمن أسقف ملوي وأنصنا والأشمونين.

[15]  كتاب مفاهيم إنجيلية – صفحة ٤٠ – أنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار.

[16]  شرح انجيل يوحنا 1: 9

[17]  عظة فصحية من القرن الثانى ، محفوظة ضمن كتابات ق. يوحنا ذهبى الفم

[18]  كتاب الكنز الأنفس للأرشيدياكون حبيب جرجس الجزء الثالث – صفحة ٧٣.

[19]  كتاب كنوز من رسائل بولس الرسول -الجزء الاول صفحة ٤٥ – الأب أنتونى م.كونيارس – إصدار مطرانية بني مزار والبهنسا.

[20]  كتاب الصديق الدائم للأب فرنسيس ب. لابيف ( صفحة ٢٠ ) – ترجمة السيدة إيزيس ميخائيل أسعد.

[21]  مجلة مدارس الاحد شهر مارس ١٩٦٩ – ترجمة المهندس عاطف ميخائيل