ليلة الجمعة العظيمة من البصخة المُقدَّسة

 ليلة الجمعة العظيمة من البصخة المُقدَّسة

“كلنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه. كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه” (حز 16: 9).

[قدوس القوى الذي اظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة] (لحن مونوجينيس).

[ارتعبوا أيها الحكماء من القبلات الغاشة، فإنه بواحدة منها عُلق ابن اللّه على خشبة] (القديس يعقوب السروجي)[1]

[بكى بطرس، بكى لأنه أخطأ، بكى لأنه ضلّ كإنسان،

بكى دون أن يعتذر، لأن الدموع تغسل ما تخجل أن ننطق به بأفواهنا…

الدموع تعترف بالجرم دون أن تؤذي الحياء.

الدموع لا تسأل الغفران لكنها تناله] (القديس أمبروسيوس)[2]

 

شرح القراءات

تتحرك قراءات هذه الليلة بنا خارج الزمن لنرى آلام الرب أنها ليست حدثاً أو حادثةً بل:

تدبيراً منذ الأزل. (الساعة الأولى)

وآلاماً إرادية. (الساعة الثالثة).

وصلاة توحِّد الإنسان مع إرادة الآب. (الساعة السادسة).

ومواجهة مع سلطان الظلمة نيابة عن البشر. (الساعة التاسعة).

وصمتاً تدبيرياً. (الساعة الحادية عشر).

وبهذا جعل الرب آلامنا فيه ولأجله هي لأجل تدبير خلاصنا،

وإذا جاهدنا في صلاة تسليم المشيئة ستقبلها إرادتنا وتتجلَّي في صمتنا، وسنواجه بقوة هذه الصلاة سلطان الظلمة ومكائد المُقاومين.

 

الساعة الأولى من ليلة الجمعة العظيمة

تتكلّم قراءات هذه الساعة عن التدبير الإلهي في الخلاص، وكيف أعلن الخلاص محبة الله الآب في الصليب، وأظهر عمل الابن في تجديد الإنسان، وفعل الروح القدس لإدراك هذا التدبير، وميلاد كنيسة العهد الجديد.

لذلك تبدأ قراءات هذه الساعة:

بالاحتياج لمُخلِّص                                        (إرميا).

وتحالف قوات الظلمة ضد المُخلِّص                 (المزمور).

ومجد الآب المُعْلَن في خلاصنا                   (الإنجيل الأوَّل).

وعطايا خلاص الابن                                (الإنجيل الثاني).

وإدراك تدبير خلاصه بعمل الروح القدس        (الإنجيل الثالث).

وميلاد كنيسة العهد الجديد                        (الإنجيل الرابع).

 

النبوَّات

إرميا النبي (إر 8: 17- الخ؛ 9: 1- 6)

تُعْلِن هذه النبوَّة عن احتياج البشرية لمُخلِّص ومدى تعاسة وشقاء البشر بدون الخلاص.

“عبر الصيف وانقضى الحصاد ونحن لم نخلص… ألا يوجد ترياق في جلعاد أو ليس هناك طبيب؟ فلماذا لم يصعد شفاء لبنت شعبي؟”.

ويشرح هذا النص أبونا تادرس يعقوب ملطي:

[لم يستطع رجال العهد القديم أن يتمتعوا بالإجابة على هذه الأسئلة إلا قلة قليلة خلال الرموز والظلال، لذا كانوا يصرخون: “مضى الحصاد، انتهى الصيف، ونحن لم نخلص”. إذ كان الفلاحون يتوقعون في ذلك الحين أن يحصدوا الحنطة في الفترة ما بين شهري إبريل ومايو، وإن لم تأتِ الحنطة بحصاد يترجون حصاد العنب والتين والزيتون إلخ. في الصيف. لكن عبر وقت الحصاد وانتهى الصيف وليس من ثمر! أي رجاء لهم بعد؟

رجاؤنا في السيد المسيح القائل: أنا هو البلسان، أنا هو الطبيب! “من أجل سحق بنت شعبي انسحقت، حزنت، أخذتني دهشة”. وجدنا الإجابة في مسيحنا الذي بصليبه انسحق ليردنا من سبي الخطية، ويدخل بنا إلى أورشليمه السماوية، ويقيمنا ملوكًا وكهنة لله أبيه][3]

 

المزمور (مز 54: 18، 10)

“يا رب استمع صلاتي وليصعد أمامك صراخي النهار كله يعيرني أعدائي والذين يمدحونني كانوا يتحالفون عليّ”.

تتكلّم هذه النبوَّة عن تحالف الرؤساء مع يهوذا وصراخ الرب في بستان جثسيماني.

والمزمور الذي جاءت منه هذه الآيات هو من المزامير المسيانية والتي اقتبس منها القديس بولس في رسالة العبرانيين.

والآيات (٢٥، ٢٦) من المزمور طبقها بولس الرسول على المسيح (عب ١: ١٠- ١٢) ولذلك نفهم أن المزمور يتنبأ عن آلام المسيح، أو آلام كنيسة المسيح لأجل اسمه.

[ولأن المزمور يتكلم عن آلام المؤمن في العالم بصورة عامة نجد المزمور معنون باسم صلاة المسكين، يصلي به كالمسكين بالروح، وأيضًا نبوة عن المسيح الذي صار مسكينًا وأخلى ذاته آخذًا صورة عبد لأجلنا. وهكذا صلى المسيح ليلة القبض عليه].[4]

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[5]

يا رب استمع صلاتي…

عنوان هذا المزمور صلاة المسكين، إذ أعيا وسكب شكواه قدام الله.

فإن كان كاتب المزمور قد عانى آلاماً رمزت إلى آلام السيد المسيح وصرخ كمسكين، هكذا عبّرت كلمات المزمور عن صلاة يسوع الوداعية التي صلى بها عنا في هذه الساعة.

يكفى أن نتأمل في هذه الصلاة لتتعزى نفوسنا:

“مجد ابنك … مجدني أنت أيها الآب بالمجد الذى كان لي عندك قبل كون العالم”.

“من أجلهم أنا أسأل، هم قبلوا كلامك وعلموا يقيناً أنك أرسلتني”.

“احفظهم في اسمك”.

“لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير”.

“لست أسأل من أجل هؤلاء فقط بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم …”.

“أيها الآب أريد أن هؤلاء الذي أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني”.

 

 

النهار كله كان يعيرني أعدائي…

إن يسوع المسيح يقول لتلاميذه في هذا الإنجيل “إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه أبغضني قبلكم. لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته” (يو١٥: ١٨– ١٩).

[إن أتباع المسيح يجب أن يضعوا في قلوبهم:

أنهم ضد العالم وأنهم محسوبون أعداء من العالم.

أنهم يتعرضون لتعييرات واضطهادات النهار كله أي طوال العمر.

أنهم محتاجون للسير في الدروب التي سلكها الرب حاملين الصليب معه].[6]

 

الأناجيل (فصول الباراقليط)

تتكلّم الأناجيل عن تدبير الثالوث في الخلاص، وكنيسة العهد الجديد.

أمَّا متى قال الرب للتلاميذ هذا الحديث الوداعي وأين، فربما يكون هذا التفسير -لأبونا أنطونيوس فكري- هو الأقرب لما حدث:

[“قوموا ننطلق من ههنا “.. وهذه العبارة تعني غالبًا أنهم خرجوا من العلية حيث غسل أقدامهم وقدّم لهم جسده ودمه في العشاء السري. وغالبًا انطلقوا إلى الهيكل حيث فاه السيد بتعاليمه الواردة في (ص15، 16) وبعد ذلك صلّى صلاته الشفاعية (ص17)

وبعد ذلك نسمع أنه خرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون (18: 1). ووادي قدرون هذا هو وادي يفصل بين الهيكل وجبل الزيتون حيث بستان جثسيماني. وهناك من يقول إن تعاليم (ص15، 16) كانت في الطريق. والصلاة (ص17) في الهيكل.

والآية الأولى في (ص15) يحدثهم فيها المسيح أنه هو الكرمة الحقيقية، ويقول المفسرون أن المسيح رأى كرمة في الطريق فأشار لها وقال: أنا هو الكرمة الحقيقية.

أمّا أصحاب الرأي الأول الذين يقولون إن تعاليم (ص15، 16) كانت في الهيكل فيقولون إن الكرمة المقصودة هي كرمة ذهبية مجسمة على أبواب الهيكل (فالكرمة كانت ترمز لإسرائيل).

عمومًا فالمقصود استعارة من واقع ما يرونه بعيونهم. والمسيح يستعمل ما نراه بعيوننا ليحدثنا عن طريقه (مثل الزارع والصياد والحقول..)

والمسيح اختار الكرمة لأنهم منذ دقائق شربوا من عصير الكرمة أي دم المسيح الذي يعطيهم حياة فيكونوا أعضاء حيَّة في كرمة المسيح.

والكرمة قيلت أولًا عن إسرائيل ولكن قيل إنها أعطت ثمرًا رديئًا (إر21:2-22؛ إش1:5-2؛ مز8:80-19؛ مت23:21-46)…

 

كما نجد علَّة تسميتها بفصول الباراقليط:

وهي تتضمن أحاديث ما بعد العشاء ثم الصلاة الشفاعية (يو17)، وتسمى فصول الباراقليط لما فيها من كلام معزٍ ووعود بإرسال الروح القدس الباراقليط. وفي صلاة المسيح الشفاعية يسكب فيها تضرعاته الحارة للآب من أجل تلاميذه ومن أجل الكنيسة كلها. وكل هذا هو حديث المسيح لأحبائه حديثًا خاصًا وداعيًا. وصلاة للآب عنهم أرادهم أن يسمعوها، كانت بعد خروج يهوذا فهو لا يستحق أن يكون صديقًا للمسيح يسمع كل هذا. ومن هنا نفهم أن هذه التعزيات الخاصة هي لأولاد الله الأحباء فقط.

ونرى في هذه الإصحاحات أعمق العلاقات بين الآب والابن وعلاقة الآب والابن مع الروح القدس وعلاقة المسيح مع كنيسته. وعلاقة الكنيسة مع العالم. ونرى فيها فعاليات المحبة الفائضة من قلب الله نحو الإنسان(القمص أنطونيوس فكري)][7]

وهذه القراءات الأربعة تُعْلِن المحبّة الإلهية ومجد كنيسة العهد الجديد، كما أوضح أبونا تادرس يعقوب ملطي:

[استخدم الإنجيلي كلمة “محبة” كاسم أو فعل 9 مرات في الأصحاحات 1،2، بينما استخدمها 30 مرة في الأصحاحات 13-14-15-16-17. فقصة العلية طابعها الرئيسي هو الحب.

في أحاديثه الوداعية قدم السيد المسيح الكثير من أسراره لتلاميذه الخاصة بالعمل الإلهي في حياتهم، فكشف عن الآتي:

خطته الإلهية: لكي يهيئ لهم موضعًا معه في السماء المتسعة، والتي تترقب مجيء البشرية للتمتع بشركة المجد الأبدي. كشف لهم أن كل ما يحدث له من الآلام والصلب ليس بكارثة مُرة، وإنما عطية الآب له ليحقق حبه للبشرية، فيدخل بهم إلى حضن الآب.

شخصه الإلهي: فهو واحد مع الآب، يتمم مشيئة الآب بمسرَّة، ما ينطق به وما يعمله إنما هي كلمات الآب محب البشر وأعماله.

مركزهم الجديد: كأغصان في الكرمة الإلهية. فإن كان الإنسان قد طُرد من جنة عدن، صار له مسيحه كرمة إلهية، بل صار الإنسان غصنًا يحمل ثمرًا فائقًا للطبيعة، يُسر الله بثمره الذي من عمل يديه.

إمكانياتهم الجديدة: الحب الباذل لأجل الآخرين. حيث يحسب المؤمن نفسه غير أهلٍ أن يُبذل من أجل إخوته، مشاركًا مسيحه مجد الحب الباذل حتى الصليب.

دورهم في العالم: يحبون البشرية، والعالم يبغضهم. إذ يقدمون ما هو لمملكتهم، مملكة النور والحب، ويقدم العالم الشرير ما لمملكته من ظلمة وبغض.

مساندتهم الإلهية: يرسل لهم الباراقليط، الذي يسحبهم من الارتباك بالآلام التي تواجههم، ليشتموا فيها الحب لله والناس، والمجد والكرامة كشركاء للمسيح في آلامه، والتمتع برائحة قيامة المصلوب الذكية. يرفعهم الروح القدس فوق الآلام، فلن تقدر أن تحاصرهم أو تضيق عليهم، بل يرونها طريق الجلجثة الذي ينطلق بهم إلى السماوي المصلوب، فينعموا بالتمتع به في سماواته(القمص تادرس يعقوب ملطي)][8]

 

الفصل الأوَّل (يو 13: 33- الخ؛ 14: 1- 25)

تتكلّم قراءات هذا الفصل عن:

ملكوت الآب للبشر.

واستعلان مجده في ابنه الوحيد.

وسُكناه في قلوب من يحفظوا وصايا ابنه.

وهو الذي يُعطي الروح القدس للمؤمنين.

“في بيت أبي منازل كثيرة”.

“لا أحد يأتي إلى الآب إلَّا بي لو كنتم تعرفونني لعرفتم أبي أيضاً ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه”.

“يا رب أرنا الآب وحسبنا فقال له يسوع: أنا معكم كل هذا الزمان ولم تعرفني يا فيلبس من رآني فقد رأي الآب”.

“أما تؤمن إني في الآب والآب فيّ؟!”.

“بل الآب الحال فيّ هو الذي يعمل الأعمال”.

“لأني ماضٍ إلى الآب ومهما تسألونه بإسمي أفعله لكم ليتمجد الآب بالابن”.

“وأنا أسأل الآب فيعطيكم معزياً آخر”.

“فذاك هو الذي يحبني والذي يحبني يحبه أبي”.

“من يحبني يحفظ كلامي وأبي يحبه وإليه نأتي وعنده نصنع مسكناً”.

“والقول الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني”.

 

الفصل الثاني (يو ١٤: ٢٦- ١٥: ١- ٢٥)

يتكلَّم هذا الفصل عن ابن الله:

الكرمة الذي غرسنا أغصاناً فيه بصليبه،

وجعلنا أحباء ومُختارين،

وفاض علينا بغنى محبّته وملء فرحه.

“سلامي أترك لكم سلامي أنا أعطيكم”.

“رئيس هذا العالم آتٍ وليس له فيّ شيء”.

“أنا هو الكرمة الحقيقية وأبي الغارس كل غصن فيّ لا يأتي بثمر ينزعه”.

“أثبتوا فيّ وأنا أيضاً فيكم “.

“أنا الكرمة وأنتم الأغصان”.

“لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيء”.

“فإن أنتم ثبتم فيّ وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم”.

“أثبتوا في محبتي إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي”.

“قلت لكم هذا ليكون فرحي فيكم ويكمل فرحكم أنتم أيضاً”.

“أما أنتم قد دعوتكم أحبائي”.

“ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتنموا وتأتوا بثمر”.

“ليس عبد أعظم من سيده إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أنتم أيضاً”

“ولو لم أعمل بينهم أعمالاً لم يعملها آخر لما كانت لهم خطيّة”.

 

الفصل الثالث (يو 14: 26- 31؛ 15: 1- 25)

يتكلَّم هذا الفصل عن الروح القدس:

المُنبثق من الآب والذي يأتي إلينا بعد صعود الإبن إلي الآب.

وهو مصدر كل تعزية.

والطريق إلى معرفة الحق.

وبتبكيته نعيش خلاصنا.

ويُسْتَعلن به مجد ابن الله فينا.

“وإذا جاء المعزي الذي أرسله أنا إليكم من عند أبي روح الحق المنبثق من الآب فهو يشهد لي”.

“لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي”.

“ومتي جاء ذاك فهو يبكّت العالم”.

“ولكن إذا جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق”.

“بل كل ما يسمع يتكلَّم به ويخبركم بما يأتي”.

“وذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم”.

 

الفصل الرابع (يو 17: 1- الخ)

يتكلَّم هذا الفصل عن:

كنيسة العهد الجديد والتي أعطاها الآب للابن،

لذلك تكررت كلمة “الذين أعطيتني” حوالي سبع مرّات.

“ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته إياه”.

“قد أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتهم لي من العالم”.

“لك هم وأعطيتهم لي وكلامك حفظوه”.

“ولست أطلب من أجل العالم بل من أجل الذين أعطيتهم لي لأنهم لك”.

“وأنا قد تمجدت فيهم”.

“الذين أعطيتهم لي ليكونوا واحداً كما نحن”.

“الذين أعطيتهم لي حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلَّا ابن الهلاك”.

“وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا هم أيضاً في الوحدة”.

“يا أبت إن الذين أعطيتني أريد أن يكونوا معي هناك حيث أكون أنا”.

 

 

الساعة الثالثة من ليلة الجمعة العظيمة

تتكلّم قراءات هذه الساعة عن الخلاص وآلام إبن الإنسان الإرادية،

لذلك تتكلم عن:

إرادته الإلهية لخلاصنا لأجل اسمه القدّوس (النبوَّة).

وارتباط الألم الإرادي بالتسبيح والشكر (المزمور).

وإخبار الرب للتلاميذ بما هو مُزْمَع أن يكون (الإنجيل الأوَّل والثاني).

وطمأنته للتلاميذ بما اختبروه معه (الانجيل الثالث).

وارتباط آلامه ببستان وخضرة وحياة (الانجيل الرابع).

 

النبوَّة – سفر حزقيال (حز 36: 16– 26)

ما أجمل هذه النبوَّة التي أعلنت أن الخلاص في أساسه وتدبيره ليس بسبب طلبنا وإرادتنا، بل جاء نتيجة إرادة الله الخلاصية واسمه القدّوس، ومحبته للبشرية التي فسدت بسبب الخطية، واحتاجت تجديد طبيعتها وفداؤها.

“فتحننت عليهم لأجل إسمي القدّوس … ليس لأجلكم أنا صانع يا بيت إسرائيل بل لأجل إسمي القدّوس الذي نجستموه في الأمم … وستعلم جميع الأمم أني أنا هو الرب يقول أدوناي الرب”.

 

المزمور (مز 108: 1، 2)

“اللهم لا تسكت عن تسبحتي لأن فم الخاطئ وفم الغاش قد انفتحا عليّ وبكلام بغض أحاطوني وحاربوني مجاناً”.

يتكلَّم المزمور على تحالف التلميذ الخائن مع رؤساء اليهود والدم الزكي هنا هو دم ابن الله.

في ترجمة أخرى “يا إله تسبيحي” لأن الصليب في المسيح لم يعد علامة غضب ومرار، بل طريق الفرح والتسبيح والشكر، متي قبله الإنسان بإرادته وحمله مع المسيح وفِي المسيح.

كما يرتبط عنوان هذا المزمور “للتمام” بآلام المسيح له المجد كما يشرح الآباء القديسون:

[كلمة “للتمام” (على الانقضاء) كُتِبَتْ لأن بموت المسيح صار لنا الخلاص، وهذه كانت الغاية (النهاية) التي من أجلها جاء المُخَلِّص بالجسد، والتي عنها كتب بطرس الرسول: “نائلين غاية إيمانكم خلاص نفوسكم، الخلاص الذي من أجله فتَّش عنه الأنبياء الذين تنبأوا من أجل النعمة التي لأجلكم، وفتشوا لمن أو في أي وقت استُعلن روح المسيح الذي كان فيهم، إذ سبق فشهد عن آلام السيد المسيح والأمجاد التي بعدها” (أنظر ١بط ١: ٩- ١١)] (البابا أثناسيوس الرسولي)[9]

[هذا المزمور من قَبْل ربنا يسوع المسيح، وأقواله ليست دعاء ضد يهوذا الخائن، وضد اليهود الذين صلبوه، بل هو نبوة عن ما كان مُزمِعًا أن يحدث لهم، لذلك جاء في عنوانه “للتمام”، أي لمستقبل وقوعه في تمام الزمن المحدود] (الأب أنسيمس الأورشليمي)[10]

كما أن فم الخاطئ وفم الغاش هما أفواه الشهود الكذبة في محاكمات الرب وفم يهوذا الخائن.

وهو المزمور الخاص بآلام الرب والذي تنبأ أيضاً عن مصير يهوذا وهي الآيات التي إستشهد بها القديس بطرس في الكلام عن مصير خيانة يهوذا في بداية سفر الأعمال.

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[11]

اللهم لا تسكت عن تسبحتى

هذه التسبحة قدمها الرب من خلال تلاميذه بعد أن قدم ذاته لهم كجسد مكسور ودم مسفوك. وهى عينها تسبحه الكنيسة في السماء التي تقدمها صفوف السمائيين للخروف المذبوح.

رتبت الكنيسة أن تسبح المزمور المائة والخمسين بعد انتهاء القداس الإلهي وفى أثناء توزيع الأسرار المقدسة “سبحوا الله في جميع قديسيه… سبحوه… سبحوه”. فالتسبيح لغة الشكر والعرفان بالجميل والإحساس بالدين نحو صليب المسيح.

التلاميذ الذين طلبوا – من قبل – من المخلص أن يعلمهم الصلاة… انفتحت أفواههم بالتسبيح بعد اتحادهم بجسد المسيح في سر الشكر. وعلى هذا يصير التسبيح في حياتنا ليس عملاً ذاتياً ولكن نتيجة تلقائية للتناول من جسد الرب ودمه والاتحاد به. لذلك فالله يلتفت إلى تسبحتنا ولا يسكت عنها لأننا لا نسبح بذواتنا ولكن بالمسيح فينا.

“في وسط الجماعة أسبحك”.

[شعبك وكنيستك يطلبون إليك وبك ومعك إلى الآب]،

“وكل ما تطلبونه من الآب باسمي يعطيكم”.

فم الخاطئ وفم الغاش قد انفتحا علي

فم الخاطئ هو فم يهوذا الخائن الذى لبس اللعنة كالثوب وتكلم على الرب أمام رؤساء الكهنة “ماذا تعطوني وأنا أسلمه لكم”؟، يا لشقاء يهوذا مولود الخطية الذى اقتنى له نصيباً رديئاً مع الفسقة الذين أحاطوا بالمخلص.

 

الإناجيل

الانجيل الأوَّل، والانجيل الثاني (مت 26: 30- 35)؛ (مر 14: 26- 31)

تتفق الرواية في الإنجيلين في أن الرب يُعرِّف تلاميذه بما سيكون وإن كانت رواية القديس مرقس تُزيد علي رواية القديس متي بأن إنكار بطرس سيكون بعد صياح الديك مرتين.

الانجيل الثالث

يشرح القديس لوقا الموقف بمزيد من التفاصيل:

فهو ينفرد بتثبيت الرب لإيمان بطرس بالذات لعلمه الإلهي بأن ما سيقع فيه كان ضعف إنساني وليس خيانات مُستمرِّة وانحراف في الشخصية واستمرارية في الاستهانة مثل يهوذا:

“سمعان سمعان هوذا الشيطان قد طلبكم لكي يغربلكم مثل الحنطة ولكني طلبت عنك لكي لا يفنى إيمانك”.

كما ينفرد أيضاً طمأنة الرب للتلاميذ قبل الآلام بما اختبروه معه:

“ثم قال لهم: لما أرسلتكم بغير كيس ولا مزود ولا حذاء هل احتجتم إلى شيء؟ أما هم فقالوا له: لا “.

ويُضيف أيضاً بوصية الرب لهم بتسلُّحهم الروحي والتي فهمها التلاميذ وقتها بصورة حرفية:

“لكن الآن فمن له كيس فليأخذه ومزود كذلك ومن ليس له سيف فليبع ثوبه ويشتر سيفاً”.

وهو الوحيد الذي ذكر النبوَّة القائلة: “فإني أقول لكم إنه ينبغي أن يتم فيّ المكتوب وأحصوه مع الأثمة”.

وما أجمل الكلمة التي ذكرها القديس لوقا عن الرب (حسب الترجمة القبطية):

“لأن ما كُتب من أجلي له تمامه”.

الانجيل الرابع (يو 18: 1، 2)

ليس جُزافاً أو زيادة أن يكتب القديس يوحنا هنا عن أن ذلك الموضع بستان ليُعلن عن ارتباط الصليب والألم بالحياة وثمرة القيامة وتجديد طبيعة الإنسان:

“فلما قال يسوع هذا خرج مع تلاميذه إلى عبر وادي الأردن حيث كان في ذلك الموضع بستان”.

الساعة السادسة من ليلة الجمعة العظيمة

تتكلم قراءات هذه الساعة عن:

احتياج الجميع للخلاص. (النبوَّة).

وتخلِّي الجميع عن ابن الإنسان. (المزمور).

وقبوله كأس خطايا البشر وموتهم في صلاته نائباً عن البشرية. (الأناجيل الثلاثة الأولى).

وحافظاً لأولاده من الهلاك (الإنجيل الرابع).

 

النبوَّة – حزقيال النبي (حز 22: 23- 28)

تتكلّم القراءات في هذه الساعة عن غياب ماء الحياة عن جميع الشعب وكل قادته بسبب خطاياهم، وهذا هو مصير الأُمَّة اليهودية التي رفضت ينبوع المياه الحية ربنا يسوع المسيح:

“وصارت إليّ كلمة الرب قائلاً : يا ابن الإنسان قُل لها : أنت هي الأرض التي لم تقبل ماء ولم يأتِ عليك مطر في يوم غضبي التي مدبروها في وسطها كالأسود المفترسة يخطفون اختطافا… وكهنتك رذلوا ناموسي ودنسوا مقادسي ولم يميزوا بين البار والفاجر.

[هذا يُذكرنا بالعلامة التي طلبها جدعون من الله في الليلة الأولى: “ها إني واضع جزة الصوف في البيدر فإن كان طل علي الجزة وحدها وجفاف علي الأرض كلها علمت أنك تخلص بيدي إسرائيل كما تكلمت” (قض ٦: ٣٧) فكانت الجزة تُشير إلى الشعب اليهودي الذي قبل كلمة الله وحده دون سائر الأمم في العهد القديم، فكانت الجزة بها طل ماء وحدها وجفاف على الأرض كلها. أما الليلة التالية حيث تُشير إلى العهد الجديد فطلب العكس إذ صار طل على الأرض كلها وجفاف على جزة الصوف، فكان إشارة إلى رفض الأمة اليهودية السيد المسيح،كلمة الله، أو الطل السماوي، بينما قبل العالم الأممي الإيمان به. لقد صارت الأمة اليهودية الأرض التي بلا مطر]. (القمص تادرس يعقوب ملطي)[12]

ويا ليتهم من كانوا قد وضعوا القراءات كانوا قد أضافوا الآيتين التي بعدها وهي التي تُشير بوضوح لشخص ربنا يسوع المسيح القادر وحده علي أن يشفع فينا وفِي خطايانا أمام الله الآب.

“وطلبت من بينهم رجلاً يبني جداراً ويقف في الثغر أمامي عن الأرض لكيلا أخربها فلم أَجِد”.

 

المزمور (مز 58: 1، مز 68: 18)

“خلصني من أعدائي يا الله، ومن الذين يقومون عليّ أنقذني، وانتظرت من يحزن معي فلم يوجد ومن يعزيني فلم أصب”.

تأتي هنا نبوتان عن الصليب:

أولاهما من مزمور ٥٨ وهي صلاة ابن الإنسان للآب لكي يُخلِّص البشرية، والتي كان يحمل جسدها من الموت أي أن تنال القيامة (وليس أن لا تموت) وهو ما كان يقصده القديس بولس في رسالته للعبرانيين (عب ٥: ٧).

وما أجمل ما كتبه أحد الآباء تعليقاً عن صلاة ابن الإنسان للآب قائلاً: خلصني .. أنقذني:

[بقوله “افدني” يلتمس حضور ابن الله، الذي جعل نفسه فدية عن العالم. وأيضًا هذا القول موجه كما من قبل ربنا، إذ يطلب من الله أبيه خلاصًا لجماعة المؤمنين الذين هم جسده من الأعداء المنظورين، ومن الذين يصنعون الإثم، ومن سافكي الدماء الذين يهيمون واثبين على قتله، وقتل رسله من بعده، وقتل من يتبعهم. وأيضًا يطلب خلاصهم وتبريرهم من فعلة الإثم والقتل. لكن طلبته لدى الآب، وتضرعه إليه، ليس عن ضعفٍ ولا عن نقص سلطانه أو سيادته عن سيادة الآب، حاشا! وإنما فقط لكي يعلن عن كمال ناسوته، وليعلمنا أن نستغيث بالله عند ورود الشدائد.]. (الأب أنسيمس الأورشليمي)[13]

أما النبوَّة الثانية فهي من مزمور ٦٨ وهو من أشهر المزامير التي تكلمت عن آلام المسيح له المجد بعد مزمور ٢٢.

[يُعتبَر المزمور ٢٢ من أكثر المزامير التي اقتبس منها العهد الجديد، يليه مباشرة هذا المزمور. لهذا كثيرًا ما يُفَسَّر كمزمور مسياني يشير إلى شخص ربنا يسوع المسيح وعمله الخلاصي]. (القمص تادرس يعقوب ملطي)[14]

وتأتي منه اقتباسات كثيرة في العهد الجديد:

أ.    (مز٦٩: ٤) ← (يو١٥: ٢٥).

ب. (مز٦٩: ٩)  ← (يو٢: ١٧)؛ (رو١٥: ٣).

ج.  (مز٦٩: ٢١) ← (مت27: 34، 48)؛ (مر15: 23)؛ (يو19: 28-29).

د.  (مز٦٩: ٢٥) ← (أع ١: ١٦، ٢٠).

ويقول ثيؤدورت أسقف كورش:

[إنه نبوة عن آلام المسيح، والدمار النهائي لليهود بسبب ذلك.]

والكلام هنا عن تخلّي الجميع عنه وهو ما سبق وأنبأ به في أناجيل الساعة الثالثة.

 

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[15]

خلصني من أعدائي … أنقذنى

“إن أمكن أن تعبر عني هذه الكأس”. “ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك”. لقد أكمل القول القائل إنه أخلى ذاته ولم يستبق لنفسه شيئاً، بل في تسليم كامل فائق لطبيعة الإنسان… تسليم مذهل استحق الإنسان بسبب هذا التسليم أن يأخذ مدخرات أبوة الله… ومن خلال هذا التسليم رجعت البشرية في المسيح إلى حضن الآب… مطيعة وخاضعة بعد أن تغربت طويلا بسبب العصيان “إن كان بخطية واحد مات كثيرون فكم بالحرى نعمة الله”.

في المسيح يسوع ندرك معنى التسليم الإرادي للآب دون الإحساس بالضجر واليأس.

في المسيح أيضاً تطلب النفس ليس ما هو مقبول لديها أو مسرتها الذاتية، بل ما هو مقبول لدى الآب وحسب مسرته .

المطلوب من المسيحي أن يتحرر من ذاته أولاً وينكر نفسه… من لا ينكر نفسه فلا يستحق أن يصير تلميذاً للمسيح الذى أكمل إرادة الآب، ووضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب .

قبول الآلام والضيقات بفرح وشكر، يحسب كاستمرار لعمل المسيح في البستان في حياة أولاده في كل زمان. لأن المسيح يسوع هو أمس واليوم وإلى الأبد.

وانتظرت من يحزن معي…

ما أعمق هذه الكلمات التي قابل بها المزمور نوم التلاميذ في البستان… الذى دفع الثمن كله بسبب بره هل يطلب وينتظر من يحزن معه . الذى سهر وأسلم نفسه للحزن حتى الموت … وتصبب عرقه كقطرات الدم هل ينتظر من يعزيه؟

يكشف لنا المزمور سر آلام مسيحنا الذى أشركنا في كل مكاسب الصليب وكل نصرة على الآلام والموت… يحق لنا أن نقول مع الرسول: “أين شوكتك يا موت… أين غلبتك يا جحيم؟… احسبوه كل فرح يا أخوتى حينما تقعون في تجارب متنوعة”. وتصيرون شركاء المسيح في الآلام… لأن الذى يحزن معه في البستان سوف  ينال عربون قيامة الأموات بفرح لا ينطق به ومجيد.

“إن كنا نتألم معه لكى نتمجد أيضاً معه” (رو ٨: ١٧). انتظرت فيسوع ينتظر أن يعطى شرف آلامه وبهجة أحزانه لأولاده، ينتظر سمعان القيرواني ليخلد له شرف حمله صليب المسيح… فهو يريد أن يشركنا في موته لكى يشركنا في قيامته. فالرب أيقظ التلاميذ مرات لكى لا تفوتهم فرصة التمتع ببركات آلام المسيح… ولكنهم لسبب الضعف والحزن الجسدي تثقلوا في النوم فقال لهم: “ناموا الآن واستريحوا… الروح نشيط أما الجسد فضعيف”. وقد حفظ لهم الرب نصيبهم من الآلام كموهبة ثمينة… وقالوا فيما بعد: “لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح لأنى حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى” (٢كو١٢: ١٠).

يسوع يطلب كل يوم وفى كل ظروف حياتنا قائلاً: “انتظرت من يحزن معي” نحن لا نحزن لأن المسيح تألم ولكن نحزن لأننا لم نستفيد من آلامه لأجلنا حتى الآن.

 

الأناجيل

الإنجيل الأول والإنجيل الثاني (مت 26: 36– 46)، (مر 14: 32- 42)

نرى في هذين الروايتين أكثر من موقف يحتاج وقفة :

حزن الرب الشديد – صلاته الحارة – إرادة الآب وإرادته – معنى أن يعبر الكأس وأن لا ندخل في تجربة:

حزن الرب الشديد:

“وابتدأ يحزن ويكتئب حينئذ قال لهم: إن نفسي حزينة حتى الموت ”

[يرى القديس جيروم والقديس أمبروسيوس أن الحزن الشديد هنا دليل كمال ناسوته وردَّاً واضحا على كل الهرطقات التي شكَّكت في حقيقة التجسد:

[“نفسي حزينة جدًا حتى الموت”. لنقدّم الشكر أن ليسوع جسد حقيقي ونفس حقيقيّة، فلو أن الرب لم يأخذ الطبيعة الإنسانيّة بكاملها لما خلّصت البشريّة. لو أنه أخذ جسدًا فقط بلا نفس لخلص الجسد دون النفس مع أننا نحتاج إلى خلاص النفس أكثر من خلاص الجسد. لقد أخذ الجسد والنفس معًا ليخلّصهما، يخلّص الإنسان بكامله كما خلقه]. (القديس جيروم)

[بكونه الله الذي لبس جسدًا قام بدور الضعف الجسدي حتى لا يوجد عذر لدى الأشرار مُنكري التجسّد. فمع قوله هذا إذا بأتباع ماني لا يصدقون، وفالنتيوس ينكر التجسّد، ومرقيون يَدَّعي أنه كان خيالًا… لقد أظهر نفسه أنه يحمل جسدًا حقيقيًا]. (القديس أمبروسيوس)

ويرى القديس كيرلس الكبير أن سرّ حزن السيِّد المسيح هو رفض إسرائيل ابنه البكر له، إذ يقول:

[كما بكى على لعازر في ترفُّق بالجنس البشري كلّه بكونه صار فريسة للفساد والموت، هكذا نقول أنه حزن هنا إذ رأى أورشليم، وقد أحاطت بها المآسي الكبرى، ولم يعد لمصائبها علاج.

لم تكن آلامه عملًا تحقّق بغير إرادته، لكن من جانب آخر كانت خطيرة، إذ تؤدي إلى رفض مجمع اليهود وخرابه. لم تكن إرادته أن يكون إسرائيل قاتلًا لربِّه، معرِّضًا نفسه للدينونة واللوم والحرمان من عطايا الله… بينما كانوا قبلًا شعبه، وحدهم كانوا شعبه ومختاريه وورثة!]. (القديس كيرلس الكبير)][16]

صلاته الحارة:

“وخر على وجهه يصلي قائلاً…”

ويحدّثنا القديس كيرلس الكبير عن ضرورة اقتدائنا بالسيِّد وقت التجربة، قائلًا:

[كان يصلّي عندما كان الذين يريدون أن يمسكوه على الأبواب. لا يفهم أحد أنه يقدّم هنا توسُّلات كمن هو في حاجة إلى قوّة أو عون من آخر، إذ هو نفسه قوّة الله الآب القدير وسلطانه، إنّما صنع ذلك لتعليمنا، لكي ينزع عنّا التراخي عند حلول التجربة، وعندما يضغط الاضطهاد علينا وعندما تلقى شباك الغدر ضدّنا، وتكون شبكة الموت مُعدَّة لنا. فإن وسيلة خلاصنا هي السهر وإحناء الركب وتقديم التوسُّلات وسؤال العون من فوق حتى لا نضعف ويصيبنا هلاكًا مرعبًا …

… لم يرد لنا أن نستخدم السيوف في مقاومة أعدائنا بل بالأحرى نستخدم الحب والوقار، فنكسب من هم ضدّنا. يعلّمنا بولس تعليمًا مشابهًا بقوله: “هادمين ظنونًا وكل علوّ يرتفع ضدّ معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (٢كو ١٠: ٥)، لأن الحرب من أجل الحق روحيّة والسلاح الذي يجعلنا قدّيسين عقلي ومملوء محبّة الله.]. (القديس كيرلس الكبير)[17]

إرادة الآب وإرادة الابن:

لا يوجد هنا تعارض بين الإرادتين، بل لأنه ابن الإنسان تكلَّم بلغة الإنسان وعجزه وضعف إرادته التي لم تتحد بعد مع إرادة الآب، ولأنه كان يحملنا في جسده الخاص، حسب تعبير القديس أثناسيوس الرسولي فحمل كل ما يخص الإنسان ما عدا الخطية، وهذا ما شرحه القديس أثناسيوس في رسائله ضد الأريوسيين (يمكن الرجوع لكتاب الرد على الأريوسيين إصدار مؤسسة القديس أنطونيوس للدراسات الآبائية).

وهو أيضاً ما أكده باقي الآباء القديسين:[18]

[إذ صار إنسانًا حمل ما هو للإنسان… وها هو يسأل الأمور الخاصة بالآب (إرادة الآب) مع أنه من جهة لاهوته إرادته واحدة مع الآب… بالتأكيد لم يطلب المخلص ما هو مستحيل ولا ما هو ليس بعملي، ولا ما هو مخالف لإرادة الآب] (القديس ديونسيوس)

[لا توجد إرادة للآب تختلف عن إرادة الابن، بل لهما مشيئة واحدة، لاهوت واحد، ومع ذلك تعلم الخضوع لله]. (القديس أمبروسيوس)

[لا توجد إرادة للآب تختلف عن إرادة الابن، بل لهما مشيئة واحدة، لاهوت واحد، ومع ذلك تعلم الخضوع لله]. (القديس أمبروسيوس).

معني أن يعبر الكأس وأن لا ندخل في تجربة

معني أن يعبر الكأس وأن لا ندخل في تجربة هو أن ننتصر عليها ونجتازها دون خوف أو ضعف، فلو افترضنا أن التلاميذ صلوا مع الرب في البستان فما خافوا ولا هربوا.

فالكأس هنا هي حروب قوات الظلمة ضد إيماننا، والتي قال القديس يعقوب أن لا نخاف منها بل نقبلها بفرح واثقين من مكافأة الرب لنا (يع١: ١٢)، وينصحنا القديس بولس بأن نتشدَّد بالرب في مواجهتها (أف ٦: ١٣، ١٤).

أما التجربة التي لا ندخل فيها إذا صلينا هي أن نضعف ونهرب ونخاف ونشك في محبّته ونبحث عن طرق للهروب من التجارب.

ويقول القدّيس ديونيسيوس السكندري :

[من يثبت في التجربة ويحتملها، فمثل هذا وإن كان بالحقيقة يُجرب لكنه لا يدخل في تجربة، ولا يسقط تحتها. هكذا اقتاد الروح يسوع لا ليدخل في تجربة، وإنما لكي يجربه الشيطان (مت 4: 1). وإبراهيم أيضًا لم يدخل في تجربة، ولا قادة الله في تجربة إنما جربه (امتحنه) دون أن يسحبه في التجربة (أي تحتها)..

الشيطان يسحبنا بالقوة لكي يهلكنا، لكن الله يقودنا بيده ليدربنا على خلاصنا. (القديس ديونسيوس السكندري)][19]

 

الإنجيل الثالث (لو22: 40- 46)

ويُضيف القديس لوقا هنا موقفين:

أولهما ظهور ملاك من السماء يقويه.

وثانيهما عرقه الذي كان لونه كلون الدم أثناء صلاته.

ظهور ملاك من السماء يقويه تأكيداً لناسوته الكامل وتوضيحاً لمساندة الملائكة لأولاد الله في صلواتهم (عب ١)

وكأنه يُقدِّم للرب تسبحة المجد والقوة والبركة التي تشدو بها الكنيسة لمسيحها المصلوب لأجلها أثناء فترة البصخة المُقدَّسة.

[لكي يظهر لنا قوة الصلاة فنمارسها أثناء صراعنا، ظهر ملاك لربنا ليقويه. (الأب ثيؤفلاكتيوس)

وما أجمل قول القديس ديونسيوس أن قطرات العرق بالدم نزعت ينبوع الخوف من طبيعتنا:

فاضت قطرات العرق منه بطريقة عجيبة كقطرات دم، كما لو أنه استنزف دمه، مفرغًا ينبوع الخوف اللائق بطبيعتنا. (القديس ديونسيوس السكندري)][20]

 

الإنجيل الرابع (يو 18: 3- 9)

لم يذكر القديس يوحنا في إنجيله ما حدث في بستان جثسيماني أثناء صلاة الرب واكتفي بشهادة البشيرين الثلاثة رغم أنه كان شاهد العيان الوحيد بينهم وتكلَّم فقط عن كيف قابل الرب يسوع مُسلِّمه ومُقاوميه لذلك أظهر ثلاثة أشياء هامة انفرد وحده بذكرها :

أولاً: معرفته السابقة وعلمه بكل ما يأتي عليه تأكيداً على قبوله الآلام بإرادته.

“وأن يسوع كان عالماً بكل ما يأتي عليه فخرج وقال لهم: من تطلبون”

وهذا أيضاً ما أكده القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله:

[هؤلاء كثيرا ما أرسلوا للقبض عليه لكنهم لم يكونوا قادرين. لكن في هذه المرة واضح أنه سلم نفسه لهم بإرادته. كيف أغروا الكتيبة؟ لقد كانوا جنودا يفعلون أي شيء من أجل نوال مال. (القديس يوحنا الذهبي الفم) ][21]

ثانياً: لاهوته وسلطانه الإلهي اللذان ظهرا في رجوع الجند للوراء من الخوف وسقوطهم على الأرض.

“فلما قال لهم أني أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض”.

[ويقول القديس أغسطينوس إنه إن كان قد فعل ذلك عندما أُلقي القبض عليه ليُحاكَم، فماذا يفعل عندما يأتي لكي يُحَاكِم؟.

وشرح القديس غريغوريوس النيسي بتفصيل سلطان الرب قائلاً:

رب المجد الذي استهان بالخزي واحتضن الآلام في الجسد لم يهجر حرية إرادته، إذ يقول: “انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أقيمه” (يو٢: ١٩ ).

مرة أخرى: “ليس أحد يأخذ حياتي مني، بل أنا أضعها بنفسي”. “لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها” (راجع يو ١٨: ١٠).

ولما اقترب منه المسلحون بالسيوف والعصي في ليلة آلامه، جعلهم يتراجعون إلى الوراء بقوله: “أنا هو” (يو ١٨: ٦؛ خر ٣: ١٤).

مرة أخرى عندما طلب منه اللص وهو يموت أن يذكره، اظهر سلطانه الجامعي بقوله: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو ٢٣: ٢٤).

حتى في لحظات آلامه لم يتخلَ عن سلطانه. (القديس غريغوريوس النيسي)][22]

ويشرح أبونا تادرس يعقوب ملطي العدد المُتوقَّع وجوده للقبض على الرب ليلة صلبه:

[خرجت فرقة (teen speiran) cohort وهي تعادل عُشر فيلق (legion). يرى البعض أن تعداد الفيلق 6000 شخصًا، غير أن البعض يرى أن عدد الفيلق لم يكن ثابتًا ولا أقسامه كفرقٍ متساوية.

فرقة الجند هنا هم العسكر الرومان الذين يقدمهم الحاكم لحماية الهيكل، وأما الخدام فهم الذين ينتسبون إلى السنهدرين. ويقدر البعض الجند والخدام (جند الهيكل) بحوالي 500 شخصًا، والبعض يظنهم ألفًا، أما الذين حول السيد في البستان فكانوا غالبًا إحدى عشر

 

فكثرة الجمهور لا تعني صدق الطريق؛ كثيرًا ما تكون القلة القليلة هي الأمينة المخلصة في علاقتها مع الله.

ولعل الجند جاءوا بالسيوف، وأما الخدام فجاءوا بالعصي.

ربما يتساءل البعض: لماذا كل هذا العدد للقبض على السيد المسيح؟

لقد اعتاد الرومان أن يستخدموا أعدادًا كبيرة من الجند لممارسة عملٍ صغيرٍ. ففي أعمال الرسل نجد 200 جنديًا و70 فارسًا و200 حاملي حراب في حراسة الأسير بولس في الطريق.(أع 23:23)

هذا وقد كان يُخشى حدوث ثورة شعبية بالقبض عليه.

لم تكن هذه جماهير شعبية جاءت اعتباطًا، وإنما كانت قيادات، وجاء مسئولون من الهيكل ومن البلاط للقبض عليه. اتحدت الكنيسة الشكلية الحرفية مع قوات الظلمة ضد الحق. (القمص تادرس يعقوب ملطي)][23]

 

ثالثاً: حفظه للتلاميذ من الضيق والألم أثناء آلامه وصلبه.

“فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون ليتم القول الذي قاله أن الذين أعطيتني لم يهلك منهم أحد”

ويشرح القديس يوحنا ذهبي الفم كيف حفظ الرب تلاميذه من أي أذى:

[الهلاك هنا لا يعني الموت بل الهلاك الأبدي؛ وإن كان الإنجيلي في هذا الموضع عني أيضًا المعنى السابق (الموت) أيضًا.

ربما يندهش أحد لماذا لم يلقوا القبض عليهم معه، ويقطعونهم إربًا، خاصة عندما أثارهم بطرس بما فعله مع العبد. من إذًا الذي منعهم؟ ليس أحد سوى القوة التي دفعتهم إلى الوراء.

هكذا لكي يظهر الإنجيلي أن هذا لم يحدث بمحض رغبتهم، بل بأمرة (السيد) وقوته قد مُنعوا من ذلك، أضاف: “ليتم القول الذي قاله أن الذين أعطيتني لم أهلك منهم أحدا” (القديس يوحنا الذهبي الفم)][24]

 

 

الساعة التاسعة من ليلة الجمعة العظيمة

تتكلّم هذه القراءة عن المواجهة مع سلطان الظلمة ولكنها مواجهة قَبِلَها الرب بإرادته وتدبيره حسب كل ما قاله أنبياء العهد القديم:

لذلك نري أيضاً في هذه المواجهة:

دينونته للمُقاومين. (النبوَّات والمزمور).

وعتابه للخائن. (المزمور).

وكمال نبوّات الأنبياء عنه. (الإنجيل الأوَّل).

وسرعة الأحداث وضعف التلاميذ. (الإنجيل الثاني).

ومحبّة المصلوب لصالبيه. (الإنجيل الثالث).

ووحدة مشيئته مع الآب في تدبير الخلاص. (الإنجيل الرابع).

 

النبوَّات

النبوَّة الأولى: إرميا النبي (إر 9: 7- 15)

تتكلّم هذه النبوَّة عن:

خيانة يهوذا

وعن مصير أورشليم اليهود برفضها الخلاص وخرابها المُزْمَع أن يكون.

ومجيء أورشليم الأمم أي خلاص كل الشعوب.

“لسانهم سهم حاد وكلمات أفواههم غاشة يتكلَّم مع قريبه كلاماً سلامياً والعداوة في قلبه… لأنها قد تُرِكَت وليس فيها إنسان… وسأنقل أورشليم… ومدن يهوذا أجعلها للهلاك”.

 

النبوَّة الثانية:ـ حزقيال النبي (حز 21: 28-32)

تتكلّم هذه النبوَّة عن دينونة الأمم الذين تحالفوا مع اليهود لصلب الرب.

والسيف هنا إشارة إلى الصليب، الذي سيدين البشر، لأنهم لم يروا إلَّا الباطل، ولم يعرفوا إلَّا الكذب:

“وقل للسيف: أيها السيف المسلول للذبح المصقول للنهاية قم وأبرق برؤياك الباطل وللتهديد بالكذب لتقطع أعناق المخالفين الذين قد قربت أيامهم وكمل زمان ظلمهم”.

 

المزامير

يأتي في هذه الساعة مزموران:

الأوَّل يتكلَّم عن يهوذا المُخالف.

والثاني يتكلَّم عن رؤساء اليهود.

 

المزمور الأول (مز ٢٧: ٤، ٥)

“المتكلمون مع أصحابهم بالسلام والشرور في قلوبهم أعطهم يا رب كحسب أفعالهم ومثل شر أعمالهم”.

يُظْهِر هذا المزمور خيانة يهوذا وخداعه في مقابلته للرب وقوله له السلام يا معلم، وهو بصحبة الجمع المُسلَّح ليسلِّمه لهم.

المزمور الثاني (مز٣٤: ٤، ٥)

“فليخز ويخجل جميع الذين يطلبون نفسي وليرتدوا إلى الوراء ويفتضح الذين يتآمرون عليّ بالسوء”

يتكلَّم هذا المزمور عن مُقاوميه من رؤساء اليهود، وصالبيه من الرومان، وهم الذين ارتدوا إلى الوراء عندما قال لهم: أنا هو.

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[25]

المتكلمون مع أصحابهم بالسلام والشرور في قلوبهم..

يتكلم المزمور عن يهوذا التلميذ الخائن الذى أخفى نفسه وشره عن الرب يسوع وتكلم بالسلام قائلاً: “السلام يا معلم”. “كيف تتكلمون بالصالحات وأنتم أشرار؟”.

ربى يسوع لا تسمح أن أتكلم معك في صلاة ومحبة العالم في قلبي.

أعطهم يا رب كحسب أعمالهم

يأخذ حسب أفعاله… لأن ما يزرعه الإنسان فإياه يحصد أيضاً…

الرب يسوع قال ليهوذا وهو قادم: “يا صاحب”، لكى ينقذه ويعطيه فرصة أخيرة للنجاة… لم يعتبر يهوذا بذلك الصوت الحنون لأنه كان منحدراً إلى الهلاك.

فليخز.. وليرتد إلى الوراء ويفتضح الذين يتآمرون على بالسوء...

خرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم: من تطلبون؟… أجابوه يسوع الناصري… قال لهم يسوع: أنا هو… فلما قال لهم إني أنا هو ارتدوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض.

انفضح العالم، وانكسرت القوة وسقط العنف عند قدمي الرب… أين قوة حاملي السيوف ورافعي العصي..

اجعلني يا سيدى أتمسك بك فأمتلأ قوة ولا أعود أخاف العالم ولا أرهب سيف.

انفضح أمامي الشيطان كل يوم، فأكتشف أن لذة الجسد عار، ومجد العالم هوان، وسلطان الخطية وهم.

 

الأناجيل

عندما نُقارن بين هذا الموقف في البشائر الأربعة نجد أن:

القديس متي يتكلَّم عن:

ابن الله في وحدة مشيئته مع الآب في الصليب.

وابن الإنسان الذي قبل الصليب والكأس كاملاً.

وأيضاً يتكلَّم عن المُعلِّم الإلهي.

والقديس مرقس يتكلَّم عن سرعة الموقف ورهبته.

والقديس لوقا عن الجانب الإنساني.

والقديس يوحنا عن التدبير الإلهي.

 

الإنجيل الأول – متى البشير (مت 26: 47– 58)

يتكلَّم القديس متى عن وحدة مشيئته مع الآب في تدبير الخلاص بالصليب وأنه قَبِلَ الصليب بإرادته الواحدة مع إرادة الآب والتي أوحي بها للأنبياء:

“أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب من أبي فيقدّم لي في الحال ههنا أكثر من إثنتي عشرة جوقة من الملائكة. ولكن كيف تتم الكتب؟ … وهذا كله قد كان لتتم كتب الأنبياء”.

كما يُعْلِن قبوله الصليب بإرادته الكاملة: “فإنه هكذا ينبغي أن يكون”

كما يقول ذهبي الفم:

[قال السيد المسيح لبطرس الرسول “الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟” موضحًا أن الحادث لم يكن من اقتدار أولئك لكنه من سلطانه وأظهر أنه ليس مخالفًا لله لكنه مطيع لأبيه إلى الموت. (القديس يوحنا ذهبي الفم)][26]

[كما يظهر في الإنجيل تحيّة الخائن له “السلام يا معلم”، لأن إنجيل متى هو إنجيل التعليم الإلهي فهو الذي تأتي فيه خمسة محطَّات تعليمية:

الموعظة على الجبل (مت ٥، ٦، ٧).

دعوة الأثنى عشر (مت ١٠).

أمثال الملكوت (مت ١٣).

حديث الغفران سبعة في سبعين (مت ١٨).

الويلات للكتبة والمجيء الثاني وأمثال الملكوت (مت ٢٣، ٢٤، ٢٥).

وهي الأحاديث التي كانت تنتهي دائما بكلمة “ولما أكمل يسوع الكلام أو أمره لتلاميذه”. (د. موريس تواضروس)][27]

 

الإنجيل الثاني (مر 14: 43- 54)

يتكلَّم القديس مرقس عن سرعة الموقف ورهبته لذلك يتكرَّر فيه كلمة (للوقت) وهي الكلمة المشهور بها إنجيل مرقس والتي جعلت أحدهم يقول أن من يقرأ إنجيل مرقس وهو يمشي يجد نفسه يجري من سرعة تتابع الأحداث.

كما يتضح رهبة الموقف من هروب الشاب (يقول البعض أنه مرقس الرسول نفسه) تاركاً إزاره وراءه لهم لينجو بنفسه.

 

الإنجيل الثالث (لو 22: 47- 55)

يتكلَّم إنجيل لوقا على الجانب الإنساني في ربنا يسوع فهو الذي يُعاتب الخائن عتاب المحبّة “يا يهوذا أبقبلة تُسلِّم ابن الإنسان” وهو أيضا الذي يشفي من أتوا ليأخذوه للعذاب “ولمس أذنه وأبرأها” وذلك لكي يُعلِّمنا كيف نواجه الشر والعنف كما يقول القديس كيرلس الكبير:

[لم يرد لنا أن نستخدم السيوف في مقاومة أعدائنا بل بالأحرى نستخدم الحب والوقار، فنكسب من هم ضدّنا. يعلّمنا بولس تعليمًا مشابهاً بقوله: “هادمين ظنونًا وكل علوّ يرتفع ضدّ معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (٢كو ١٠: ٥)، لأن الحرب من أجل الحق روحية والسلاح الذي يجعلنا قدّيسين عقلي ومملوء محبّة الله. (القديس كيرلس الكبير)][28]

 

الإنجيل الرابع (يو 18: 10- 14)

يتكلَّم القديس يوحنا عن التدبير الإلهي للثالوث في الصليب فالكأس أعطاها الآب للابن والنبوَّة أوحى بها الروح لرئيس الكهنة “الكأس التي أعطانيها أبي ألا أشربها؟… وكان قيافا هو الذي أشار على اليهود قائلاً: أنه خير أن يموت رجل واحد عن الشعب”.

نلاحظ هنا أن القديس يوحنا هو الوحيد الذي ذكر اسم القديس بطرس في قطع أذن عبد رئيس الكهنة.

[كما يقول أبونا أنطونيوس فكري :

كان الاعتداء على جندي من جنود رئيس الكهنة عقوبته الإعدام، لذلك كان الوحيد الذي ذكر اسم بطرس هو يوحنا. فقد كتب بشارته بعد استشهاد بطرس. وغالبًا كان عبيد رئيس الكهنة في المقدمة ولم يرى الجند الرومان ما فعله بطرس. ولكن المسيح أنقذ الموقف بشفائه لأذن العبد.

ولنعلم أن العواطف البشرية والعوامل الجسدية التي تحرك الاندفاعات تؤدي للإنكار والجبن. أمّا المسيح فكان مملوءً محبة محتملة صابرة..

احتملت خيانة يهوذا وظلم الجند ومؤامرات رؤساء الكهنة وجبن بطرس ولازالت تحتملنا في خياناتنا وضعفاتنا.

ولاحظ أن ما فعله بطرس كان يمكن أن يحاكم المسيح بسببه أنه السبب فيما حدث. (القمص أنطونيوس فكري).

ويتحدّث القديسان كيرلس الكبير وأمبروسيوس عن ضعف بطرس الرسول وتوبته، قائلًين:

لم يكن المسيح قد قام من الأموات، ولا أبطل الموت، ولا نزع الفساد، لذلك كان الخوف من الموت فوق احتمال البشر… قد دان الرسول نفسه بضميره كما يظهر من بكائه مباشرة بعد ذلك ومن دموع توبته النازلة من عينيّه بسبب خطيّته الخطيرة… إنه لم يكن مهمِلًا في توبته، فكما سقط سريعًا في خطيّته هكذا بسرعة كانت دموعه تسقط بسببها، فإنه لم يبكِ فحسب وإنما بكى بمرارة. كإنسان سقط، وفي شجاعة قام مرة أخرى إذ يعرف أن الله الرحوم يقول بأحد أنبيائه: “هل يسقطون ولا يقومون؟! أو يرتدّ أحد ولا يرجع؟!” (إر ٨ : ٤ ). ففي رجوعه لم يفقد العلامة بل اِستمر كما كان عليه قبلًا كتلميذٍ حقيقي. (القديس كيرلس الكبير).

بكى بطرس لأنه أخطأ، كإنسان ضلَّ وبكى ولم يعتذر، لأن الدموع تغسل ما تخجل أفواهنا أن تنطق به… الدموع لا تسأل الغفران إنّما تناله…

نظر إليه يسوع، فبكى بكاءً مرًا.

لتنظر إلينا أيها الرب يسوع فنعرف البكاء على خطيَّتنا. (القديس أمبروسيوس)][29]

 

الساعة الحادية عشر من ليلة الجمعة العظيمة

تتكلّم قراءات هذه الساعة عن صمت الرب من جهة، وعن المُحاكمة الدينية وإنكار بطرس من جهة أخرى.

لذلك تشرح القراءات:

خيانة الشعب وقادته ومصيرهم. (النبوَّة).

وبطلان مؤامراتهم. (المزمور).

وزور شهادتهم وظلم محاكمهم. (الإنجيل الأوَّل والثاني والرابع).

وإنكار بطرس. (الأناجيل الأربعة).

 

النبوَّة – إشعياء النبي (إش 27: 11- الخ؛ ص 28: 1- 15)

تشرح هذه النبوَّة أنه رغم مؤامرات الرؤساء وفسادهم وتآمرهم مع التلميذ الخائن، إلَّا إن الصليب سيجتذب جميع الشعوب، وسيُعلن الصليب مجد الله.

“فتأتي الشعوب الكثيرة التي ضلت في كورة الأشوريين والذين تاهوا في مصر سيسجدون للرب على جبل صهيون المقدس بأورشليم (الصليب)… وتصير راحة للأرض … في ذلك اليوم يكون رب الصباؤوت إكليل رجاء المجد… وتبقي روح محاكمة على محاكمة وتمنع القوة عن الفساد .. الكاهن والنبي ترنحا من أجل الخمر… وهذا هو حلم اللعنة تأكل مشورتهم…  على من تقولتم الشر؟ وعلى من جدفتم؟”.

وتأتي كل هذه اللعنات عليهم ليس لموقفهم من الله فقط، بقدر موقفهم أيضاً من آلام الآخرين وأتعابه.

[قيل بالنبي: “هذه هي راحتي: أَرِيحُوا الرَّازِحَ”. حقق هذه الراحة للرب أيها الإنسان عندئذ لا تحتاج إلى القول: “اغفر ليّ”. أرح المتعبين، افتقد المرضى، أعطِ قوتًا للفقراء، فإن هذه بالحقيقة هي صلاة… كل الوقت الذي فيه تتممون راحة الرب إنما هو وقت صلاة…

احذر أيها الحبيب لئلا تأتيك فرصة لتقدم راحة لإرادة الله فتقول: الآن وقت للصلاة، سأصلي وبعد ذلك أعمل. (الأب أفراهات)][30]

 

المزمور (مز 1: 3)

“لماذا ارتجت الأمم وهذت الشعوب بالأباطيل قامت ملوك الأرض والرؤساء اجتمعوا معاً على الرب وعلى مسيحي هللويا الساكن في السموات يضحك بهم والرب يمقتهم حينئذ يكلمهم بغضبه وبرجزه يقلقهم”.

يُعتبر هذا المزمور من المزامير المسيانية التي تخص ابن الله كما شرح أبونا تادرس يعقوب ملطي:

[اُقتبس هذا المزمور مرارًا في العهد الجديد، بكونه خاصًا بالسيد المسيح الملك العظيم ابن داود، مسيح الرب (أع ٤: ٢٥- إلخ؛ ١٣: ٢٣)؛ (عب١: ٥؛ ٥: ٥)  .

يتطلع التقليدان اليهودي والمسيحي على حد سواء إلى المزمور الثاني بكونه مزمورًا مسيانيًا، مثله مثل المزمور ١١٠ الذي يبدو أنه اعتمد عليه. يقولArno C. Gaebelein : كان التفسير المسياني عند اليهود هو التفسير الوحيد (للمزمور) حتى القرن العاشر/ الحادي عشر. بعد ذلك حدّه اليهود ليعني داود، وذلك من أجل مقاومة التفسير المسيحي له.

ويقول القديس كيرلس الكبير: إن الساكن في السموات يضحك بهم، لأنه بالحقيقة الرب الابن والوارث بكونه واحدًا في الجوهر مع الآب في السلطة تجسد، داعيًا الذين آمنوا به إلى الشركة معه في مملكته السماوية ومجده الأبدي، لكن الأشرار بكبريائهم رفضوا ذلك، ظانين أنهم قادرون أن يملكوا بدونه.][31]

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[32]

لماذا ارتجت الأمم وتفكرت الشعوب بالباطل . قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً ، على الرب وعلى مسيحه

لأنه بالحقيقة اجتمعت كل قوى الشر التي في هذا العالم.. ضد الحق الذى هو ابن الله الكلمة المتجسد. اجتمعت النجاسات والشهوات الجسدية والمكر والدهاء (ممثلة في هيرودس) مع السلطان العالمي وشهوة المراكز والمصلحة الذاتية (ممثلة في بيلاطس البُنطي) كل هذا مع صورة الفضيلة والتمسك بالحق مع الرياء والفساد الداخلي (ممثلة في رؤساء الكهنة والفريسيين) مع أمم وشعوب عديمة المعرفة تمثل الحماقة والشهادة الزور.. كل هؤلاء اجتمعوا معاً على الرب وعلى مسيحه.

الساكن في السموات يضحك بهم.. حينئذ يكلمهم بعضبه

وقف السيد الرب الساكن في السموات والعارف قلب كل واحد.. يضحك بهم.. ويستهزئ بسلطان الموت وكل قوات العدو الشرير.. “أين شوكتك يا موت”.. وقف الرب أمام رئيس الكهنة (القبر المبيض) الذى يظهر خارجه حسناً أمام الناس ومن داخله مملوء عظام أموات وكل نجاسات وقف صامتاً!! وقف صامتاً أمام هيرودس ولم يرد أن ينطق كلمة واحدة أمام صاحب القلب النجس والفكر الملتوي..

يضحك بهم لأن كل شيء عريان ومكشوف أمامه.

حينئذ يكلمهم بغضبه

ليس الآب يدين أحداً بل قد أعطى الحكم كله للابن ولكن الآن ليس وقت الدينونة.. حينما طلب التلميذان ناراً من السماء للقرية التي لم تقبله قال لهما: لستما تعلمان من أي روح أنتما.. ابن الإنسان جاء ليخلص ما قد هلك. الآن يكلمهم برحمته الكثيرة ولكن حينئذ يكلمهم بغضبه قائلاً: “اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المعدة لإبليس وملائكته.. حينئذ يقولون للجبال اسقطي علينا وللآكام غطينا”.

النفس التي لا تقبل الرب في منظر الذل والعار على الصليب لا تستطيع أن تقف أمامه عندما يتكلم بغضبه.. عندما يأتي ليدين العالم.. ينظر إليه الذين طعنوه.. وتنوح عليه جميع قبائل الأرض. كم هو مخيف جداً الوقوع بين يدي الله الحي.

 

الأناجيل

إنجيل لوقا لهذه الساعة يذكر فقط إنكار بطرس، وباقي الأناجيل تذكر المُحاكمة الدينية، وإنكار بطرس.

 

الإنجيل الأول والثاني (مت 26: 59-75)؛ (مر 14: 55-72)

تتفق الروايتان في مجملهما مع بعض الاختلافات البسيطة لكن المهمة في ذات الوقت:

القديس متي يذكر:

الهيكل بأنه “هيكل الله”.

وقَسَم رئيس الكهنة “أقسم عليك بالله الحي”.

ودعوة المسيح بأنه “ابن الله الحي”.

ورد الرب على رئيس الكهنة “أنت قلت”. وهو نفس رد الرب على كلام يهوذا الخائن عندما سأله” أ-لعلي أنا هو يا معلم”، وهو تعبير يهودي شائع يعني الموافقة.

كما أنه ذكر عن رئيس الكهنة أنه: “فشق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه” وهو الممنوع حسب الوصية (لا٢١: ١٠( كما يُظْهِر مدى ندم وتوبة القديس بطرس “فخرج وبكى بكاءً مرّاً”.

أما القديس مرقس:

فيصف الهيكل “المصنوع بالأيادي”.

ويقول عن رد الرب علي رئيس الكهنة “أنا هو” وهو تعبير يُظْهِر لاهوت الابن، كما ذكر رد فعل رئيس الكهنة “مزق ثيابه”، ويعني شدَّة الغضب.

كما يُظْهِر أيضاً مبالغة الخدّام في إهانة الرب “ثم تناوله الخدّام باللطم”.

ويحكي أيضاً كيف كانت شهادتهم زوراً.

[يتضح في (مت 26: 61) طريقة التزوير في الشهادة، فالمسيح لم يقل أنا أنقض هيكل الله. بل قال عن هيكل جسده (يو19:2، 21). وهو لم يقل أنا أنقض بل قال لهم أنقضوا.. وأنا أقيمه. فالمسيح يتكلم عماّ سيفعلونه بصلبهم له “انقضوا ..” ثم قيامته بعد 3 أيام. وهم فهموا كلامه وهم كانوا يعلمون أنه قال إنه سيقوم بعد 3 أيام وقالوا هذا لبيلاطس (مت63:27). وهم لأنهم شهود زور فهم لم يشهدوا بأن المسيح صنع معجزات أكبر من إقامة الهيكل في 3أيام، فهو أقام لعازر بعد أن أنتن، وكان سؤال رئيس الكهنة للسيد أستحلفك .. هل أنت المسيح ابن الله؟، هو يسأل لا ليعرف الإجابة، بل ليُسقِط المسيح في مشكلة:

إن رفض الإجابة يتهمه بأنه يستهين بالحلف باسم الله.

إن قال نعم فهو سيدينه بتهمة التجديف.

إن قال لا فهو يكذب نفسه لأنه أعلن هذا أمام الجموع.

(أبونا أنطونيوس فكري)][33]

 

الإنجيل الثالث (لو 22: 56-65)

يأتي في هذا النص قصة إنكار القديس بطرس وهي التي ذكرها كل البشيرين، ولكن ينفرد القديس لوقا هنا بلفت النظر إلى أن توبته كانت نتيجة نظرة الرب إليه “فالتفت الرب ونظر إلى بطرس، فتذكر بطرس … فخرج بطرس خارجاً وبكى بمرارة”.

ونقف هنا عند تعبير القديس لوقا في معرفة من سألوا القديس بطرس أنه جليلي “في الحقيقة هذا أيضاً كان معه لأنه جليلي” لأن الجليلين كانت لهم طريقة نُطْق للكلمات مُختلفة بعض الشيء، وهذا نراه الآن في كثير من دول العالم في الاختلاف في اللهجة التي يتكلمها ساكني شمال البلاد عن ساكني جنوبها (مثل سكان الإسكندرية والصعيد)

كما يأتي تساؤل أيضاً كيف ومتي التفت الرب لبطرس وهو في طريق آلامه؟

[كان التدبير الإلهي عجيب في أن المحاكمة انتهت وكان المسيح يمر في الفسحة التي وقف فيها بطرس. وكان هذا بعد صياح الديك والإنكار الثالث حتى ينظر المسيح لبطرس معاتبًا فيدعوه للتوبة (لو ٢٢: ٦١) (القمص أنطونيوس فكري) ][34]

وما أجمل تعليق القديس أمبروسيوس:

[حسنة هي الدموع التي تغسل الخطية! من يلتفت إليهم الرب وينظر يبكون، فإن بطرس أنكر أولًا ولم يبكِ، لأن الرب لم يلتفت ولا نظر إليه. أنكر للمرة الثانية ومع هذا لم يبكِ… وفي المرة الثالثة أنكر أيضًا وإذ التفت إليه يسوع ونظره عندئذ بكى بمرارة… لا نستطيع القول بأنه “مجرد” التفت إليه بعينيه الجسديتين ونظر إليه في عتاب منظور واضح، إنما تحقق هذا داخليًا في الذهن والإرادة… تلامس معه الرب برحمته في صمت وسرية، فذكَّره بنعمته الداخلية، مفتقدًا بطرس وحاثًا إياه، مقدمًا له دموعًا ظاهرة تعبر عن مشاعر الإنسان الداخلي. أنظر بأية طريقة الله حاضر بمعونته ليسندنا في الإرادة والعمل، يعمل فينا أن نريد وأن نعمل][35]

 

الأنجيل الرابع (يو ١٨: ١٥- ٢٧)

تأتي أيضاً في رواية القديس يوحنا المُحاكمة الدينية وإنكار القديس بطرس مع تفاصيل أخرى:

كلام القديس يوحنا للبوابة لتُدخِل القديس بطرس وذلك لأن أسرته كانت معروفة عند رئيس الكهنة.

وكما يقول ذهبي الفم عن اتضاع القديس يوحنا:

[وإن سألت: لِمَ لم يذكر اسمه…؟ لأنه ذكر هنا فضيلة عظمى لم يحكمها، لأن تلاميذه فروا هاربين، وهو لحقه، لهذا السبب أخفى نفسه، وقدم بطرس الرسول عن نفسه. وحتى لا يُقال كيف لما انصرف التلاميذ كلهم دخل هذا التلميذ إلى دار رئيس الكهنة؟! ذكر أنه “كان ذلك التلميذ معروفًا عند رئيس الكهنة”، حتى لا يتعجب أحد أنه لحقه، ولا يصفه بالشجاعة (القديس يوحنا الذهبي الفم)][36]

سؤال رئيس الكهنة للرب يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه ولطم واحد من الخدّام للرب ورد الرب الحاسم لكي يُعلِّمنا كيف لا يتعارض الخد الآخر مع الدفاع عن النفس والمُطالبة الواعية بالحقوق ولكن بحزم مملوء بوداعة.

كما يقول ذهبي الفم:

[ارتعبي أيتها السماء، وتزعزعي أيتها الأرض من أجل حُلْمْ الرب وطول أناته ولقلة تحفظ عبيده. ماذا قال (السيد)؟ إنه لم يقل: “لماذا تسألني؟ كمن يرفض أن يتكلم معه، إنما أراد أن ينزع كل ستار عن سلوك أحمق، بل يكون فوق هذه اللطمة مع أنه قادر أن يحطمها ويزيلها، وينزع كل شيء، لكنه لم يفعل شيئًا من هذا، بل نطق بكلمات يمكن أن تهدئ من كل وحشية. (القديس يوحنا الذهبي الفم)][37]

ونرى هنا أيضاً كيف لم يُجب الرب عن سؤال رئيس الكهنة له عن تلاميذه لئلا يتعرضون لآلام وجلدات مثله

وربما يأتي سؤال آخر هنا.. يشرحه بتفصيل أبونا أنطونيوس فكري:

[لماذا لم تتدخل العناية الإلهية وتحمي بطرس من الإنكار؟

لما قال المسيح لتلاميذه كلكم تشكون فيَّ في هذه الليلة، قال بطرس “أنا لا أشك” وكان في هذا كبرياء من بطرس، فهو شك في كلام المسيح بكبرياء، بينما هو رأى من سابق عشرته للسيد معرفته بكل شيء، وهنا المسيح تركه ليشفيه وليتأدب. وكان من المفروض أن يقول بطرس للسيد، أعنى حتى لا أشك ولكنه أخطأ فتركه السيد ليسقط فيعرف ضعفه ولا يعود يثق في ذاته. ونلاحظ أنه بعد هذه السقطة وبعد أن تأدب قال للسيد حين سأله “أتحبني” أجاب “أنت تعلم أني أحبك” فهو أصبح لا يثق في ذاته، وقارن هذا القول بأنه سيبذل نفسه عن السيد بينما سيده يقول له ستشكون فيَّ في هذه الليلة، فهل كان يتصور أن السيد لا يعلم. ونلاحظ أن المسيح كان يعلم مستقبل بطرس وأنه سيصنع معجزات ويؤمن على يديه ألوف، وهو سمح بسقوطه حتى لا يتكبر، كما سمح لبولس بشوكة في الجسد لئلا يرتفع. ونلاحظ أن المسيح لم يجعله يسقط بل هو رفع العناية الإلهية التي تحفظه. وهذا يفسر كلام المسيح له “وأنا طلبت إلى الآب حتى لا يفنى إيمانك” فالمسيح هو الذي يعتني بنا، أما بطرس ففي كبريائه الأول ظن أن قوته وسيفه هما اللذان يحميانه. وبطرس صار لنا مثالًا، لذلك قال له المسيح “وأنت متى رجعت فثبت إخوتك”. (القمص أنطونيوس فكري)][38]

ويرى البعض أن إنكار بطرس سببه:[39]

اعتماده على قوته الطبيعية وافتخاره بها.

عدم قدرته على الصلاة والسهر نتيجة النوم.

اختلاطه بجماعة الأشرار.

استحواذ الخوف والخجل عليه لما نسبوه إلى تلاميذ المسيح.

 

من وحي قراءات ليلة الجمعة العظيمة

 

“فالتفت الرب ونظر إلى بطرس .. فخرج بطرس خارجاً وبكى بمرارة” (الإنجيل الثالث للساعة الحادية عشر)

هنا الفرق بين بطرس الرسول ويهوذا.

أن نُخطئ ونحن معه وقريبون منه ونراه عندما ينظر إلينا.

وبين ان نخطئ ونحن بعيدين عنه وعن رسائل محبّته.

ونظرة الرب هنا نظرة العتاب المملوء من الحب.

لذلك قادت التلميذ في ضعفه إلي رجاء التوبة ويقين الغفران والقبول.

والعجيب أن لقاء الرب معه بعد القيامة (١كو ١٥: ٥) أعطاه ليس فقط يقين الغفران.

لكن أيضاً جعله يغفر لنفسه ويتصالح معها ويخرج الماضي وضعف إنكاره من دينونته (رو ٨: ١).

والأعجب أنه يُبكِّت اليهود بشدِّة علي الإنكار بعدها بأسابيع (أع ٣: ١٣، ١٤) مُعْلِناً تصالحه مع نفسه وقبوله غفران الله.

فما أجمل أن نُوجِّه نظر أنفسنا ومن نخدمهم إلى سرعة القيام (ميخا ٧: ٨) أهم من التركيز في مرار السقوط.

وأن النظر الدائم إلى الرب (عب ١٢: ٢) هو جوهر التوبة وضمان الغفران ومصدر النمو والانطلاق.

 

 

أفكار مقترحة لعظات ليلة الجمعة العظيمة

صلاة الكلمة المُتجسِّد الشفاعية..

الهدف من صلوات ابن الله وقت تجسّده

ربما يأتي سؤال : لماذا كان ابن الله يصلي دائما للآب وقت تجسّده على الأرض؟.

(لو ٣: ٢١، لو ٦: ١٢، لو ٩: ٢٩، لو ٢٢: ٤١)

بالطبع لا يحتاج ابن الله للصلاة، لكنه كما فعل كل شيء لأجل تدبير خلاصنا مثل معموديته من يوحنا، وصومه وذهابه للهيكل، وحضوره الأعياد، فهكذا أيضاً صلى لكي تكون الصلاة في تدبير خلاصنا.

وبصلاته على الأرض وقت التجسّد ترك للبشرية رصيد صلاته للآب “ميراثاً لنا” وكأن كل من يصلي الآن باسم الثالوث (علامة الصليب كبداية الصلاة) يدخل في رصيد صلاة الكلمة المُتجسِّد ويأخذ من الميراث المخزون من وقت تجسّده.

وكُلَّما نُصلِّي بالروح نأخذ أكثر من هذا الرصيد، ويُدخلنا الروح إلى الأنَّات (رو٨: ٢٦) التي لا يُنْطَق بها التي لابن الله فندرك مشيئة الآب لأجل خلاصنا.

أي أننا عندما نصلي بالروح في الحقيقة أننا لا نُصلِّي بذواتنا بل ندخل (أو بالأحرى يُدْخِلنا الروح) إلى “صلاة المسيح” فتفتح الصلاة أبواب السماء لاستقبال ملء الروح (لو٣: ٢١، ٢٢) وتجعل قراراتنا وخدمتنا من الروح (لو٦: ١٢، ١٣) وتُغيِّر دائماً هيئتنا وتُعطينا مجد المسيح (لو ٩: ٢٩) وتصل بنا في جهاد الصلاة إلى الوحدة الكاملة مع إرادة الآب (لو ٢٢: ٤٢ -٤٤) وما أجمل أن تنال الكنيسة المُصلِّية بروح واحد ما طلبته في الحال (أع ٤: ٢٩، ٣١ -أع ١٢: ٥، ١١).

لذلك يجب أن نُسلِّم ذواتنا لله في الصلاة، فتُغيِّرنا الصلاة من هيئة العالم بأحزانه (١ صم ١: ١٥، ١٨) إلى هيئة مجد ابن الله (٢ كو ٣: ١٨، لو ٩: ٢٩) ولا ننتظر استجابة معينة بل ننتظر استنارة لنفهم وندرك تدبيره الإلهي ” قبل الصلاة أهب نفسك، ولا تكن كإنسان يجرب الرب” (سيراخ ١٨: ٢٣) وإذا انحصرنا فقط في طلباتنا دون الانشغال بمعرفة مشيئته ربما نشعر وكأن الله لا يسمع صلواتنا، أو لا تخترق الصلاة السحب إلى السماء “التحفت بالسحاب حتى لا تنفذ الصلاة” (مراثي ارميا ٣: ٤٤)

وإذا إنفتحت أعيننا على سر مشيئته وملء محبّته بالصلاة (أف ٣: ١٤ -٢٠) ستتحول الصلاة إلى:

سلامنا وأماننا وضماننا “لا تهتموا بشيء بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتعلم طلباتكم لدي الله وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع” (في٤: ٦، ٧).

سلاحنا وقوتنا ونصرتنا “لان رجلا لا عيب فيه بادر لحمايتهم فبرز بسلاح خدمته الذي هو الصلاة والتكفير بالبخور وقاوم الغضب وازال النازلة فتبين انه خادمك” (الحكمة ١٨: ٢١).

رسالتنا كخُدَّام ورعاة: مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح، وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة، لأجل جميع القديسين ولأجلي، لكي يعطى لي كلام عند افتتاح فمي، لأعلم جهارا بسر الإنجيل” (أف٦: ١٨، ١٩).

“يسلم عليكم أبفراس، الذي هو منكم، عبد للمسيح، مجاهد كل حين لأجلكم بالصلوات، لكي تثبتوا كاملين وممتلئين في كل مشيئة الله” (كو٤: ١٢).

 

 

عظات آبائية ليلة الجمعة العظيمة من البصخة المقدسة

العظة الأولي

شرح نصوص (مت ٢٦: ٢٩، يو ١٢:٢٧) – للبابا أثناسيوس الرسولي[40]

إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس

الآن نفسي قد اضطربت

لذلك فهم يتأرجحون إلى أعلا وإلى أسفل، كما لو كانوا بهذا يعضّدون هرطقتهم من جديد، ويقولون: [“انظروا ها قد بكى وقال “الآن نفسي قد اضطربت” (يو 12: 27) وطلب أن تعبر عنه الكأس (انظر مت 26: 39)، فكيف إذاً إن كان قد تكلّم هكذا يكون هو إلهاً وكلمة الآب؟]. نعم يا أعداء الله، قد كُتب عنه أنه بكى، وأنه قال اضطّربت، وعلى الصليب قال: “إلُوِي إلُوِي، لما شَبَقْتَنِي، الذي تفسيره: “إلهي إلهي، لماذا تركتني؟” (مر 15: 34) وطلب أن تعبرعنه الكأس، حقاً قد كُتب هذا، لكن أود أن أسألكم، لأنه من الضروري أن أرد على كل اعتراضاتكم، إن كان المُتكلّم هو مجرَّد إنسان، فهو يبكي ويخاف الموت لكونه إنساناً، ولكن إن كان هو الكلمة في الجسد (لأنه ينبغي أن لا أمل من تكرار هذا) فممن يخاف وهو الله؟ أو لماذا يخاف الموت؟ وهو نفسه الحياة، وهو الذي حرّر الآخرين من الموت؟

أو كيف، بينما هو يقول “لا تَخَافُوا مِنَ الذينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ” (لو 12: 4) هو نفسه يخاف؟ وكيف وهو الذي قال لإبراهيم “لا تخف لأني معك” (تك 26: 24س)، وشجع موسى ضد فرعون، وقال لابن نون “تَشَدَّد وتَشَجَّع” (يش 1: 6)، كيف يشعر هو نفسه بالخوف أمام هيرودس وبيلاطس؟ وأكثر من ذلك فالذي يُعين الآخرين ضد الخوف [لأن الكتاب يقول: “الرب معين لي فلا أخاف ماذا يصنع بي إنسان” (مز117: 6س)] هل يخاف هو الحكام والبشر المائتين؟ والذي جاء هو نفسه ليبيد الموت، كيف يخاف من الموت؟.

ألا يكون أمراً غير لائق وعديم التقوى أن يُقال عنه أنه يخاف الموت أو الجحيم وهو الذي ارتعد منه بوابو الجحيم حينما رأوه؟ ولكن إن كان حسب رأيكم أن الكلمة كان خائفاً، فلماذا إذاً وهو قد تكلَّم عن مكيدة اليهود قبلها بوقت طويل، لم يهرب، بل حينما جاءوا للقبض عليه قال: “أنا هو”.

لأنه كان يستطيع أن يتجنَّب الموت، كما قال “لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذهَا أَيْضًا” (يو 10: 18)

لكن اعلموا يا أعداء المسيح، مثل اليهود غير الشاكرين أن هذه الانفعالات لم تكن من خصائص طبيعة الكلمة؛ بكونه الكلمة، بل كانت من خصائص الجسد الذي اتخذه الكلمة.

لأنه بَقُل يقل كل هذا قبل التجسد ولكن حينما “صار الكلمة جسداً وصار إنساناً” حينئذ كُتب عنه أنه قال هذا، أي قاله إنسانياً، فالذي كُتب عنه هذا، هو الذي أقام لعازر من الأموات، وحوّل الماء خمراً، ووهب النظر للمولود أعمى، والذي قال “أَنَا والآبُ واحِدٌ” (يو10: 30).

إذاً فإن كانوا يجعلون صفاته الإنسانية سبباً ليفكّروا أفكاراً حقيرة عن ابن الله، ويعتبرونه إنساناً من الأرض، وليس من السماء، فلماذا لا يعترفون بأنه هو الكلمة الكائن في الآب، من خلال أعماله، ومن ثم يتخلّون عن كفرهم؟.

لأنه قد أُعطي لهم أن يروا كيف أن الذي يعمل هذه الأعمال هو نفسه الذي أظهر جسده متألماً بسماحه له بالبكاء والجوع، وأن يُظهر الخواص الأخرى للجسد. لأنه بينما بواسطة مثل هذه (الخواص) عُرف أنه قد أخذ جسداً متألماً رغم أنه هو الله غير المتألِّم، إلا أنه من هذه الأعمال أظهر نفسه أنه بالفعل هو كلمة الله الذي صار فيما بعد إنساناً وكأنه يقول “رغم أنكم لا تؤمنون بي حيث ترونني مرتدياً جسداً بشرياً، فآمنوا بالأعمال “لكَيْ تَعرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أنَّ الآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ” (يو10: 38). ويبدو لي أن أعداء المسيح لديهم وقاحة كبيرة وتجديف عظيم لأنهم حينما يسمعون القول “أَنَا والآبُ واحِدٌ” (يو10: 30) فإنهم يشوّهون المعنى بشدة، ويفصلون وحدة الآب والابن، وحينما يسمعون أنه بكى، وعرق، وتألم لا ينسبونها لجسده بل يحصونه بسببها مع الخليقة، وهو الذي به خُلِقَت الخليقة، إذاً في أي شيء يختلف هؤلاء عن اليهود؟ (لهذا السبب، سبق أن أطلق القديس أثناسيوس عليهم لقب: “اليهود الجدد أو اليهود المعاصرون”) لأنه كما أن اليهود جدّفوا ناسبين أعمال الله إلى بعلزبول، هكذا هؤلاء أيضاً، إذ يحصون الرب الذي صنع تلك الأعمال، مع الخلائق، سوف يقع عليهم مع أولئك (اليهود) نفس الحكم بلا رحمة .

إذاً كان ينبغي على هؤلاء عندما يسمعون “أَنَا والآبُ واحِدٌ” أن يروا فيه وحدة الألوهية وجوهر الآب ذاته، وأيضاً عندما يسمعون أنه “بكى” وما يماثلها، أن يقولوا إن هذه الأمور هي خاصة بالجسد، وبنوع خاص لأن هذه الأمور لها أساس معقول من كل جهة، أي أن الكلمات الأولى كُتِبَت عنه بكونه هو الله والأخرى كُتبت عنه كإنسان، لأن خصائص الجسد لا يمكن أن تصير لمن هو بلا جسد لو لم يكن قد أخذ جسداً قابلاً للفساد والموت .

لأن مريم القديسة التي أخذ منها جسده كانت قابلة للموت، لذلك فمن الضروري حينما كان في الجسد أن يعاني، وأن يبكي، وأن يتعب، فهذه الأمور التي تخص الجسد، تُنسب إليه مع الجسد.

ومن ثم فعندما يقال: بكى، واضطرب، لم يكن الكلمة باعتباره الكلمة هو الذي بكى واضطرب، لكن هذه كانت من خصائص الجسد، وأيضاً عندما طلب أن تعبُر عنه الكأس فلم يكن اللاهوت هو الذي ارتعد، بل إن هذا الانفعال أيضاً كان خاصاً بناسوته، وأيضاً فكلمات “لماذا تركتني؟” (مر15: 34) هي كلماته، بحسب الشرح السابق، رغم أنه لم يتألّم بشيء، لأنه الكلمة غير متألم، وهذا ما أعلنه البشيرون، وحيث إن الرب صار إنساناً فهذه الأمور تحدث وتقال كما من إنسان، لكي يُبطل أوجاع الجسد هذه، ويحررّ الجسد منها، لذلك لا يمكن أن الرب يُترَك من الآب، وهو كائن دائماً في الآب قبل أن يتكلَّم، وأثناء نطقه بهذه الصرخة، وأيضاً ليس من الجائز أن يُقال إن الرب كان مرتعداً وهو الذي هرب من أمامه بوابو الجحيم “والقُبورُ تفَتَّحَتْ، وقامَ كثيرٌ مِنْ أجسادِ القِدِّيسينَ الرّاقِدينَ… وظهروا لأهلهم” (مت27: 52، 53).

لذلك ليستّد فم كل هرطوقي ولا يتجاسر أن ينسب الخوف للرب، الذي منه يهرب الموت مثل حية، والذي منه ترتعد الشياطين، وبه ينزعج البحر، وله تنشق السموات، وتتزعزع كل القوات، لأنه هوذا حينما قال “لماذا تركتني؟” أظهَر أن الآب كان دائماً فيه حتى في تلك اللحظة، لأن الأرض إذ تعرف ربها الذي تكلّم ارتعدت في الحال، وانشَّق حجاب الهيكل، واحتجبت الشمس، وتشقّقت الصخور وتفتّحت القبور، كما قلت سابقاً، وقام الأموات الذين كانوا فيها، والمدهش أيضاً أن أولئك الذين كانوا حاضرين عندئذ وكانوا ينكرونه قبلاً، بعد أن رأوا هذه الآيات اعترفوا قائلين “حَقًّاً كَانَ هَذَا ابْنَ اللهِ!” (مت27: 54).

وعن قوله “إنْ أمكَنَ فَلْتَعبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ” (مت26: 39) إعلموا كيف أنه رغم كلامه هكذا فقد انتهر بطرس قائلاً “لأنَّكَ لا تهتَمُّ بما للهِ لكن بما للنّاسِ” (مر8: 33)، لأنه كان يريد هذه الكأس التي طلب أن تعبر عنه، إذ لأجل هذا قد جاء الكلمة إلى العالم، أما الخوف فهو خاص بالجسد، لذلك فقد نطق بهذا الكلام أيضاً كإنسان، ومع ذلك فالأمران معاً قالهما نفس الشخص، لكي يُظهر أن مَنْ أراد وفَعَلَ هو الله، ولكن حينما صار إنساناً، فقد أخذ جسداً يخاف، ولأجل هذا الجسد ربط إرادته الخاصة بالضعف البشري، لكي بإبادته لهذا الضعف، يُعطي للإنسان مرة أخرى أن يكون شجاعاً أمام الموت، يا له من أمر عجيب حقاً! فالمسيح الذي يُلصِق به أعداؤه كلمات الخوف، هو نفسه بواسطة ما يسمونه الخوف، جعل الناس شجعاناً وغير خائفين، وهكذا فالرسل الطوباويون من بعده استهانوا بالموت بقوَّة بسبب كلماته هذه حتى أنهم لم يبالوا بأولئك الذين حاكموهم، بل أجابوا “يَنبَغي أنْ يُطاعَ اللهُ أكثَرَ مِنَ الناسِ” (أع5: 29) والشهداء القديسون الآخرون كانوا شجعاناً أيضاً، حتى اعتقدوا أنهم كانوا ينتقلون إلى الحياة، أكثر من كونهم يقاسون الموت، أليس إذاً هو أمر في غير محله أن يُعجب أحد بشجاعة خدام الكلمة، ومع ذلك يقول إن الكلمة نفسه كان خائفاً، مع أن خدامه قد احتقروا الموت؟ ولكن من العزيمة الصبورة جداً وشجاعة الشهداء القديسين يظهر أن الألوهة لم تكن هي التي تخاف، بل هو خوفنا ذلك الذي نزعه المخلص، لأنه كما أباد الموت بالموت، وبوسائل بشرية أبطل كل ما للإنسان (من ضعفات) هكذا أيضاً بهذا الذي ظهر وكأنه خوف، نزع خوفنا، وأعطى الناس أن لا يعودوا يخافون الموت فيما بعد .

 

فكلمته وفعله يحدثان معاً، لأنه إنسانياً قد قال “أعبر عني الكأس” و”لماذا تركتني؟” ولأنه هو الله فقد جعل الشمس تحتجب، والموتى يقومون بقوة لاهوته، وأيضاً إنسانياً قال “الآنَ نَفسي قد اضطَرَبَتْ” (يو12: 27)، وإلهياً قال “لي سُلطانٌ أنْ أضَعَها ولي سُلطانٌ أنْ آخُذَها أيضًا” (يو10: 18). فكونه يضطرب فهذا أمر خاص بالجسد، وأن يكون له سلطان أن يضع نفسه وأن يأخذها أيضاً حينما يريد، فهذا أمر ليس خاصاً بطبيعة البشر، بل بقوَّة الكلمة، لأن الإنسان لا يموت بسلطانه الخاص بل باضطرار الطبيعة ورغم إرادته، أما الرب، فلأنه هو نفسه غير مائت، ولكن لأنه أخذ جسداً مائتاً، فله السلطان لكونه هو الله، أن يفصل النَّفس عن الجسد، وأن يعيدها أيضاً، حينما يريد، وداود يرتل عن هذا قائلاً “لن تترك نفسي في الجحيم، ولا تدع قدوسك يرى فساداً” (مز15: 10س).

لذلك كان يجب أن الجسد الذي كان قابلاً للفساد ألاَّ يبقى فيما بعد مائتاً حسب طبيعته الخاصة، بل بسبب الكلمة الذي اتخذه يبقى غير قابل للفساد، لأنه كما صار هو في جسدنا، وشابه ما لنا، هكذا نحن، إذ نقبله فإننا ننال منه عدم الموت .

إذاً فلا مبرر لهؤلاء الآريوسيين المجانين، فيما يعثرون به مفكرين أفكاراً حقيرة عن الكلمة، بسبب المكتوب، أنه “اضطرب”، و “بكى” لأنهم يظهرون كأن ليس عندهم مشاعر إنسانية، فهم يجهلون طبيعة البشر وخصائصها، التي بها يكون أمراً عجيباً جداً أن الكلمة يوجد في مثل هذا الجسد المتألم، وهو لم يمنع أولئك الذين تآمروا عليه، ولا انتقم من أولئك الذين صلبوه، رغم أنه يستطيع، وهو الذي منع الموت عن البعض، وأقام البعض من الموت، وجعل جسده الخاص يتألَّم، لأنه لهذا قد جاء، كما قلت سابقاً، لكي إذ يتألم في الجسد، يجعل الجسد من الآن فصاعداً غير متألم وغير مائت، ولكي، وكما قلنا مرّات عديدة، إنه جعل الأوجاع والأمور الأخرى تأتي عليه هو ولا تصيب الناس فيما بعد، إذ تكون قد أُبيدت تماماً بواسطته، ويبقى الناس على الدوام غير قابلين للفساد كهيكل للكلمة، فلو أن أعداء المسيح تفكروا في هذه الأمور وعرفوا التعليم الكنسي كمرساة للإيمان لما انكسرت بهم سفينة الإيمان، ولما كانوا هكذا عديمي الحياء لدرجة أنهم يقاومون أولئك الذين يريدون أن يخلصوهم من سقطتهم، ويحسبون أولئك الذين ينصحونهم بالتقوى كأعداء لهم .

ولكن كما يبدو ، فإن الهرطوقي هو حقيقة إنسان خبيث، وقلبه منحرف من كل ناحية إلى الكفر، فرغم فضحهم في كل النقاط، وإظهارهم أنهم محرومون من الفهم تماماً، فإنهم لا يشعرون بأي خجل، بل مثل (الإيدرا) أي منبع الوحش الذي في الأسطورة اليونانية، أنه حينما تموت الحيات السابقة، فالمنبع يلد حيّات جديدة، يحارب بها الذي أهلك الحيّات القديمة، هكذا أيضاً محاربو الله والكارهون له هم مثل (الإيدرا) أي منبع الوحوش، حينما تسقط اعتراضاتهم التي يقدمونها، فهم يخترعون لأنفسهم أسئلة أخرى يهودية وغبية، وحيل جديدة كما لو أن الحق هو عدوهم، مظهرين بذلك بالأحرى أنهم أعداء المسيح في كل شيء.

 

العظة الآبائية الثانية – ليلة الجمعة العظيمة

يا أبَتاهُ، إنْ أمكَنَ فلتَعبُرْ عَنِّي هذِهِ الكأسُللعلامة أوريجانوس[41]

“يا أبَتاهُ، إنْ أمكَنَ فلتَعبُرْ عَنِّي هذِهِ الكأسُ” (مت٣٩:٢٦)

ربما كانت هذه الكلمات سبباً في ان بعضاً ممن لا يفهمون معاني الكتاب المقدس بدقة، قد ظنوا أن المخلص- بطريقة ما – كان خائفاً من وقت آلامه. ثم يقول أحدهم بعد ذلك، اذا كان يسوع يخاف الاستشهاد، فكيف يستطيع الإنسان العادي أن يظل صلباً حتي النهاية؟.

وهنا أجد نفسي مضطراً أن أوجه بدوري سؤالًا لمن يخامره مثل هذا الظن. هل يقل المخلص عن صاحب المزمور القائل: “الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؟ الرب حصن حياتي ممن أرتعب؟ عندما اقترب الي الأشرار ليأكلوا لحمي. مضايقي وأعدائي ضعفوا وسقطوا. لو اصطف جيوش العدو ضدي فلا يخاف قلبي. إن قامت علي حرب ففي ذلك أنا مطمئن” (مز26: 1- 3) ومن أكثر الأمور احتمالًا أن هذه الكلمات التي نطق بها النبي لا تنطبق على أحد بقدر ما تعبر عن رب المجد، لأنه بفضل النور والخلاص الذي أعلنه من قبل الآب لا يخشى أحداً، وبسبب الحماية الحصينة التي يتمتع بها ابناء الله – وبالأولى ابن الانسان- لا يمكن ان يخاف انسانًا. إن قلب المخلص لم يضطرب مطلقاً، وبأي طريقة، عندما هاج كل معسكر الشيطان ضده. إن قلبه الممتلئ بالمعرفة المقدسة كان مستريحاً في الآب عندما اندلعت الحرب ضده. ولذلك فمن المستحيل أن ابن الإنسان كان يقول: “يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس”، تحت احساس بالخوف، بينما يقول في نفس الوقت: لو اصطفت جيوش العدو ضدي فلا يخاف قلبي .

ورغبة في استيفاء البحث، فلنتأمل معاً نص هذه الطلبة في الأناجيل الثلاث التي وردت فيها. يقول معلمنا متي أن الرب قال: “يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس” (مت ٣٩:٢٦)، راجع أيضاً (لو٤٢:٢٢؛ مر٣٦:١٤) وكل استشهاد يعني الموت مهما كان سبب الموت، والاستشهاد كما قلنا يدعي كأساً، وعلى هذا نرى أن الرب لم يطلب إعفاءه من الاستشهاد بصفة مطلقة، ولكنه قرن كلمة “كأس” بكلمة “هذه” أي أنه كان يقصد نوعًا بالذات يحدده باسم الإشارة “هذه” فالرب يسوع لا يستعفي من ذبيحة الموت حتى تصل نعمة الخلاص للجنس البشري كله، ولكنه يتحاشى نوعاً أو لوناً يصطبغ به هذا الموت بالذات.

لا شك أن كأس الخلاص المقصود في المزمور هو موت الشهادة، ولذا قيل: “كأس الخلاص آخذ وباسم الرب أدعو” (مز ١٣:١١٦) ثم يليها: “عزيز في عيني الرب موت قديسيه” (مز 116: 15) فالموت -اذاً- يصبح ثمينًا تزداد قيمته عندما نكون من قديسي الله جديرين ومستحقين للموت، ليس الموت العادي أو -بتعبير أدق- الموت العقيم غير المثمر في السماوات، بل ذلك النمط المعين من الموت المقدس، الموت من أجل الإيمان المسيحي، ومن أجل التقوى والقداسة.

 

العظة الآبائية الثالثة – ليلة الجمعة العظيمة

يسوع يُصلي ويحزن ويكتئب في جبل الزيتون – للقديس كيرلس الأسكندري[42]

(لو٢٢: ٣٩- ٤٢، ٤٥، ٤٦)

“وخرجَ ومَضَى كالعادَةِ إلَى جَبَلِ الزَّيتونِ، وتبِعَهُ أيضًا تلاميذُهُ. ولَمّا صارَ إلَى المَكانِ قالَ لهُمْ: صَلّوا لكَيْ لا تدخُلوا في تجرِبَةٍ. وانفَصَلَ عنهُمْ نَحوَ رَميَةِ حَجَرٍ وجَثا علَى رُكبَتَيهِ وصَلَّى قائلاً: يا أبَتاهُ، إنْ شِئتَ أنْ تُجيزَ عَنِّي هذِهِ الكأسَ. ولكن لتكُنْ لا إرادَتي بل إرادَتُكَ….. ثُمَّ قامَ مِنَ الصَّلاةِ وجاءَ إلَى تلاميذِهِ، فوَجَدَهُمْ نيامًا مِنَ الحُزنِ. فقالَ لهُمْ: لماذا أنتُمْ نيامٌ؟ قوموا وصَلّوا لِئلا تدخُلوا في تجرِبَةٍ”.

يطلب ربنا يسوع المسيح من الذين يحبونه أن يكونوا باحثين مدقِّقين بخصوص كل ما كُتب عنه، لأنه يقول: “يُشبِهُ ملكوتُ السماواتِ كنزًا مُخفًى في حَقلٍ” (مت١٣: ٤٤)، لأن سرَّ المسيح مُودع – إن جاز القول – علي عمق عظيم، وهو ليس واضحًا للكثيرين، أما الذي يرفع الغطاء عنه بواسطة المعرفة الدقيقة فهو يجد الغني المُخبَّأ هناك، وهذا يشبه المرأة الحكيمة، أعني مريم، التي قال عنها المسيح إنها: “اختارَتْ مَريَمُ النَّصيبَ الصّالِحَ الذي لن يُنزَعَ مِنها” (لو١٠: ٤٢)، لأن هذه الأمور الأرضية والمؤقتة تذبل مع الجسد، أما الأمور الإلهية والعقلية والتي تنفع حياة النَّفس، فهي ثابتة تماماً، ولا يمكن أن تتزعزع، لذلك هيا بنا نتطلع إلى معنى الدروس الموضوعة أمامنا .

كان المخلص يقيم نهاراً في أورشليم يُعلَّم الإسرائيليين ويكشف لهم طريق ملكوت السموات، ولكن عندما كان يأتي المساء كان يستمر مع التلاميذ القديسين على جبل الزيتون عند بقعة تسمي جثسيماني، فهكذا يخبرنا متى البشير بخصوصه .

ولما جاء إلى هناك – كما يخبرنا أيضاً متى نفسه – فإنه أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا وابتدأ يحزن ويكتئب، فقال لهم: “نَفسي حَزينَةٌ جِدًّا حتَّى الموتِ…. ثُمَّ تقَدَّمَ قَليلاً وخَرَّ علَى وجهِهِ، وكانَ يُصَلِّي قائلاً: يا أبَتاهُ، إنْ أمكَنَ فلتَعبُرْ عَنِّي هذِهِ الكأسُ، ولكن ليس كما أُريدُ أنا بل كما تُريدُ أنتَ” (مت ٢٦: ٣٧-٣٩). أرجوكم أن تنظروا هنا إلى عمق التدبير في الجسد، وإلي سُمو تلك الحكمة التي لا يمكن لكلمات أن تُخبر بها، ثبَّتوا عليها عين العقل الثاقبة، وإن لم تستطيعوا رؤية جمال السر، فأنتم أيضاً ستقولون: “يا لَعُمقِ غِنَى اللهِ وحِكمَتِهِ وعِلمِهِ! ما أبعَدَ أحكامَهُ عن الفَحصِ وطُرُقَهُ عن الِاستِقصاءِ!” (رو١١: ٣٣). يقول الكتاب إنه ابتدأ يحزن ويكتئب، لأي سبب أيها الرب؟ هل أنت أيضاً ترتعب من الموت؟ هل أنت أيضاً يستولى عليك الخوف وتتراجع عن الألم؟ وأيضاً ألست أنت الذي علَّمت الرسل القديسين ألا يبالوا بأهوال الموت بقولك: “لا تخافوا مِنَ الذينَ يَقتُلونَ الجَسَدَ ولكن النَّفسَ لا يَقدِرونَ أنْ يَقتُلوها” (مت١٠: ٢٨). وأكثر من هذا، إن قال أحد إنَّ نعمة الثبات الروحي هي عطيَّتك للمختارين، فلا يكون قد حاد عن الصواب؛ لأن كل قوة هي من عندك وكذلك أيضاً كل ثقة وكل شجاعة في كل مواجهة ضارية، أنت الحياة بالطبيعة، أنت علَّة الحياة، ونحن نتطلَّع إليك كمخلِّص ومنقذ ومحطَّم للفساد، منك يقتبل الجميع حياتهم ووجودهم، أنت خلقت كل ما يتنفس، الملائكة لك ومنك وبك، وهكذا أيضاً جميع الخليقة العاقلة، يتحدث إليك الطوباوي داود بخصوصنا: “تُرسل روحك فيُخلقُون، وتُجدّد وجه الأرض” (مز١٠٣: ٣٠ س).

 

كيف إذن تحزن وتكتئب وتتأسَّى حتي الموت؟ فمن الواضح أنك تعلم أنك أنت هو الله بالطبيعة، وتعلم كل ما هو مزمع أن يحدث، وأنك باحتمالك الموت في الجسد سوف تُحرِّر سكان الأرض كلها من الموت، وسوف تهزأ بالشيطان، وسوف تقيم نصباً للنصرة على كل قوة شريرة ومقاومة، وأنك سوف تكون معروفاً لكل شخص، وتُعبَد كإله وكخالق للجميع، أنت تعرف أنك سوف تُبيد الهاوية، وأنك سوف تُخلِّص الذين هناك من الرباطات التي كابدوها لأجيال عديدة، وأنك سوف تجذب إلى نفسك كل من هم تحت السماء. هذه الأمور أنت أعلنتها بنفسك لنا منذ القديم بواسطة الأنبياء القديسين، ونحن قد سمعناك تقول بوضوح عندما كنت مثلنا: “الآنَ دَينونَةُ هذا العالَمِ. الآنَ يُطرَحُ رَئيسُ هذا العالَمِ خارِجًا” (يو١٢: ٣١)، وأيضاً: “وأنا إنِ ارتَفَعتُ عن الأرضِ أجذِبُ إلَيَّ الجميعَ” (يو١٢: ٣٢)، وأيضاً: “الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنْ لم تقَعْ حَبَّةُ الحِنطَةِ في الأرضِ وتمُتْ فهي تبقَى وحدَها. ولكن إنْ ماتَتْ تأتي بثَمَرٍ كثيرٍ” (يو١٢: ٢٤) .

فلأي سبب إذن تحزن وتكتئب ؟ إنه يقول: نعم، ليس بدون مناسبة أن أُوجد هكذا في هذا الكرب، لأنني أعرف حقاً أنه بقبولي أن أقاسي الألم على الصليب، فإنني سوف أخلِّص كل الذين تحت السماء من كل شر، وأكون سبباً لبركات لا تحصى لجميع سكان الأرض، أنا لا أجهل أني سأحل وثاقات الموت وسأبطل اضمحلال الأجساد، وسأهزم طغيان الشرير وأهب غفران الخطايا، ولكن، ما يحزنني هو بخصوص البكر إسرائيل، لأنه من الآن فصاعداً، لن يعود يُحسب، حتي ولا بين الخدام، إن نصيب الرب وحبل ميراثي سوف يصير نصيباً لبنات آوى – كما هو مكتوب (مز ٦٢: ١٠س)، المحبوب سوف يُكره بشدة، الذي له المواعيد سوف يُجرَّد تماماً من جميع مواهبي، والكَرْم المختار مع عنبه الجيَّد سوف يصير من الآن فصاعداً أرضاً جرداء، مكاناً مقفراً بلا ماء لأني سوف آمر السحب بألا تمطر عليه (إش ٥: ٦س)، وسوف أنزع سياجه فيصير للنهب، وأهدم جدرانه فيصير للدوس (إش٥:٥س). أخبرني إذن ألا يشعر صاحب الكرم بالكرب، بسبب ذلك عندما يصير كرمه خرباً وقفراً؟ أي نوع من الرعاة يكون هذا من القسوة والشدة فلا يتأثر عندما يتلف قطيعه؟ كيف لا يتألم لأجله؟ إن هذه الأشياء مجتمعة هي سبب حزني، لأجل هذه الأمور أنا حزين، لأنني أنا هو الله اللطيف الرحيم الذي يحب الصفح والإنقاذ، والذي ليست لي مسرَّة بموت الخاطئ مثلما يرجع عن طريقه الشرير فيحيا (حز١٨: ٢٣س)، فبالصواب، حقاً بالصواب جداً، إذ أنني صالح ورحوم، فإنني لا أكون فقط فرحاً بما هو مُسرَّ، بل وأشعر أيضاً بالأسي لكل ما هو مُحزِن .

أمَّا بخصوص شفقته على أورشليم، فهو يدرك جيدًا ما هو مزمع أن يحدث لها، وأنها سوف تكابد كل شقاء بسبب جرائمها ضده، وهذا يمكنك أن تعرفه من الآتي: فالبشير يقول إنه فيما كان ذاهباً من اليهودية إلى أورشليم، فإنه: “نَظَرَ إلَى المدينةِ وبَكَى علَيها قائلاً: إنَّكِ لو عَلِمتِ أنتِ أيضًا، حتَّى في يومِكِ هذا، ما هو لسَلامِكِ! ولكن الآنَ قد أُخفيَ عن عَينَيكِ” (لو١٩: ٤١، ٤٢)، فكما بكي على لعازر إشفاقاً على كل الجنس البشري الذي صار فريسة للفساد والموت، هكذا نقول إنه حزن وهو يرى أورشليم وقد تورَّطت في تعاسات شديدة جدًا، وهي معرَّضة لكوارث مفجعة لا خلاص منها .

ولكي نعرف ماذا كانت رغبته بخصوص إسرائيل، قال لتلاميذه إنه فيحزن وكرب شديدين، لأنه كان من المستحيل عليهم أن يعرفوا ما هو مخبَّأ داخله إن لم يكشف مشاعره بواسطة الكلام.

وأظن أنه من الضروري أن أضيف لما قيل أنَّ أوجاع الحزن، والكآبة، لا يمكن إرجاعها إلى طبيعة الكلمة الإلهية التي هي غير قابلة للألم، لأنه من المستحيل أن تتألم، إذ أنَّ هذه الطبيعة تعلو على كل ألم، ولكننا نقول إن الكلمة المتجسد شاء أن يُخضع نفسه إلى قياس الطبع البشري، بأن فرض على نفسه أن يقاسي ما يخصّه (أي الطبع البشري)، وحيث إنه قيل إنه جاع مع أنه الحياة وسبب الحياة والخبز الحي، وقيل إنه تعب من رحلة طويلة مع أنه رب القوات، هكذا قيل أيضاً إنه حزن، وبدا أنه قادر أن يتألم، لأنه لم يكن من المناسب أنّ هذا الذي أخضع نفسه للإخلاء ألاَّ يشترك في معاناة الأمور البشرية، فكلمة الله الآب إذن هو خال تماماً من كل ألم، ولكن بحكمة ولأجل التدبير، فإنه أخضع ذاته للضعف البشري حتي لا يظهر أنه يرفض ما يتطلبه التدبير (تدبير الجسد)، حقاً، إنه قد استسلم تماماً للطاعة للعوائد البشرية والنواميس مع أنه – كما قلتّ- لا يوجد أي شيء من هذه الأمور في طبيعته الخاصة .

ومع ذلك فيوجد كثير يُضاف على ما قيل، ولكن نكتفي في عظتنا بهذا الحدَّ في الوقت الحاضر، ونستبقي ما هو أكثر إلى لقاء آخر إن شاء المسيح مخلَّصنا كلنا أن يجمعنا هنا مرَّة أخرى، هذا الذي به ومعه يليق التسبيح والسلطان لله الأب مع الروح القدس إلي دهر الدهور آمين.

 

 

العظة الآبائية الرابعة – ليلة الجمعة العظيمة

صلاة الرب يسوع في البستان – للقديس يوحنا ذهبي الفم[43]

“الذي -في أيّامِ جَسَدِهِ- إذ قَدَّمَ بصُراخٍ شَديدٍ ودُموعٍ طَلِباتٍ وتضَرُّعاتٍ للقادِرِ أنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الموتِ، وسُمِعَ لهُ مِنْ أجلِ تقواهُ، مع كونِهِ ابنًا تعَلَّمَ الطّاعَةَ مِمّا تألَّمَ بهِ” (عب٥: ٧، ٨) .

أرأيت أنه لم يصنع شيئاً آخراً، سوى أنه قد قدم رعايته ومحبته الفائقة فقط؟

ماذا يريد أن يقول بعبارة “بصراخ شديد”؟ هذا ما لم يذكره الإنجيل مطلقاً، ولا أنه ذرف الدمع في الصلوات، ولا أنه صرخ صرخة شديدة. أرأيت كيف أنه صنع كل هذا؟ لأنه لم يكتف أن يقول صلّى، بل قال بصراخ شديد.

يقول “وسُمِعَ لهُ مِنْ أجلِ تقواهُ، مع كونِهِ ابنًا تعَلَّمَ الطّاعَةَ مِمّا تألَّمَ بهِ. وإذ كُمِّلَ صارَ لجميعِ الذينَ يُطيعونَهُ، سبَبَ خَلاصٍ أبديٍّ، مَدعوًّا مِنَ اللهِ رَئيسَ كهنةٍ علَى رُتبَةِ مَلكي صادَقَ” (عب٥: 7- ١٠) .

حتى (وإن كانت طلباته) بصراخ، لكن لماذا يصف هذا الصراخ بقوله شديد؟ ثم يقول “بدموع” “وسُمع له من أجل تقواه”.

فليستحي الهراطقة الذين يرفضون الجسد. ماذا تقول؟ هل ابن الله سُمع له من أجل تقواه؟ وماذا يمكن للمرء أن يقول أكثر عن الأنبياء؟ وأي علاقة بين قوله “سُمع له من أجل تقواه” وأن يُضيف “مع كونه ابناً تعلّم الطاعة مما تألم به؟” هل يمكن لأحد أن يتكلم بهذه الأمور عن الله؟

 

ومَن هو ذاك الذي أصابه الجنون إلى هذا الحد الكبير جداً وقليل التبصر الذي سيتكلم بهذه الأمور؟ يقول “من أجل تقواه.. وتعلم الطاعة مما تألم به” . أي طاعة تعلّمها؟ هذا الذي أطاع حتى الموت، كابن للآب، كيف تعلّم الطاعة مؤخراً؟ .

أرأيت أن هذا الكلام قد قيل عّن الجسد؟ إذاً فلتخبرني، هل تضرّع إلى الآب لكي يخلّصه من الموت، ولهذا كان حزيناً وقال “إنْ أمكَنَ فلتَعبُرْ عَنِّي هذِهِ الكأسُ” (مت26: 39)؟ لكنه لم يتضرع إلى الآب أبداً من أجل القيامة، بل العكس، قد صرّح قائلاً “انقُضوا هذا الهيكلَ، وفي ثَلاثَةِ أيّامٍ أُقيمُهُ” (يو2: 19)، و”ليس أحَدٌ يأخُذُها مِنِّي، بل أضَعُها أنا مِنْ ذاتي. لي سُلطانٌ أنْ أضَعَها ولي سُلطانٌ أنْ آخُذَها أيضًا” (يو10: 18). إذاً ماذا يحدث؟ ولأي سبب تضرّع؟

وأيضاً يقول “ها نَحنُ صاعِدونَ إلَى أورُشَليمَ، وابنُ الإنسانِ يُسَلَّمُ إلَى رؤَساءِ الكهنةِ والكتبةِ، فيَحكُمونَ علَيهِ بالموتِ، ويُسَلِّمونَهُ إلَى الأُمَمِ لكَيْ يَهزأوا بهِ ويَجلِدوهُ ويَصلِبوهُ، وفي اليومِ الثّالِثِ يَقومُ” (مت20: 18، 19). ولم يقل أن الآب سيُقيمني. كيف إذاً تضرّع من أجل هذا (أن يخلصه من الموت)؟ .

لكن لمن قد تضرّع؟ تضرّع نيابةً عن كل مَن أمن به. ما يقوله يعني الآتي: أنه يُسمع له بسهولة. ولأنه لم يحملوا له أبداً الرؤية أو الفكر الذي كان ينبغي أن يحملونه، قال سُمع له. تماماً مثلما أن الإبن حين أراد أن يعزي تلاميذه قال “لو كنتُم تُحِبّونَني لكُنتُمْ تفرَحونَ لأنِّي قُلتُ أمضي إلَى الآبِ، لأنَّ أبي أعظَمُ مِنِّي” (يو14: 28). لكن كيف لم يُمجد نفسه، ذلك الذي وضعها تماماً، والذي بذلها (من أجلنا)؟

لأن القدِّيس بولس يقول “الذي بَذَلَ نَفسَهُ لأجلِ خطايانا” (غل 1: 4). وأيضاً “الذي بَذَلَ نَفسَهُ فِديَةً لأجلِ الجميعِ” (1تي 2: 6). إذاً ماذا يحدث؟ أرأيت أنه يتكلم باتضاع عن جسده الخاص؟

هكذا يقول هنا أيضاً وبرغم أنه ابن “سُمع له من أجل تقواه”. أي أنه يريد أن يُبيّن أن ما تحقق هو خاص به، أكثر مما هو خاص بنعمة الله. فهو يقول أن تقواه كانت عظيمة إلي هذا الحد الكبير، حتى أن الله يوقره من أجل تقواه. ثم يقول “تعلّم الطاعة (لله)”. هنا أيضاً يُظهر كم هو عظيم الربح الذي يأتي من الآلام .

 

وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي”. فإن كان ذاك الذي هو ابن قد تعلّم الطاعة مما تألم به، بالأكثر جداً نحن.

أرأيت أن كل ما يقوله عن الطاعة، يقوله لكي يدفع هؤلاء العبرانيين للطاعة؟ يبدو لي أنهم باستمرار ينحرفون، ولا يحفظوا أقوال الكتاب. هذا قد أشار إليه، بقوله “صِرتُمْ مُتَباطِئي المَسامِعِ” (عب5: 11).

ومن خلال الآلام المستمرة، يقول أنه تعلّم أن يطيع الله. هكذا كمل” بالآلام، إذاً فهذا هو الكمال، ومن داخل الآلام يجب أن يصل المرء إلى الكمال. لأنه ليس فقط قد خلص، لكنه صار لآخرين، غني للخلاص. “وإذ كُمِّلَ صارَ لجميعِ الذينَ يُطيعونَهُ، سبَبَ خَلاصٍ أبديٍّ” (عب5: 9).

 

العظة الآبائية الخامسة – ليلة الجمعة العظيمة

يهوذا، وآل قيافا وحنان – للقديس يعقوب السروجي [44]

يهوذا

سمع التلاميذ أن معلمهم يقتله اليهود فتألموا، وسمعوا أن واحدًا منهم يسلمه فتكدروا.

تُرى من يخرج من جوقة نور ربنا، ويمضي ويختلط مع الظلام بالرعب العظيم.

تُرى من يترك صحبة الشمس الحسنة الشعاع، ويسير في الطريق الممتلئة غيومًا وظلامًا.

من هو هذا الحمل الذي قلب نفسه فصار ذئبًا، وبدأ يعض الراعي الصالح.

السياسة غصبت بطرس أن يجحد الابن، وأما يهوذا فلم يغصبه أحد أن يسلم… ولما سأل يهوذا: لعلي أنا هو؟ أجابه الرب: أنت قلت. كمن يقول له: لم يغصبك أحد.

إن تقل: لماذا اختاره العارف بالكل وهو يعلم أنه غاش…؟ اختاره وهو حسن وطاهر ولم يكن فيه عيب، إذ كان وديعًا ومستقيمًا. وبعد أن اختاره وهو لائق ومملوء صلاحًا تغَّير وأهلك صلاحه وصار مرذولًا…

ابن الله وعد يهوذا بالكرسي، ولما جحده أنزله وتركه للمشنقة…

إلى أين تترك كرسيك ومجدك يا أيها المختار؟ من يعطيك كرسيًا عاليًا كمثل الذي لك…؟

المرضى الذين شفيتهم يبكون عليك بمرارة؛ والبرص الذين طهرت ينحنون بسبب سقوطك.

ارتعبوا أيها المفرزون من القبلات الغاشة، لأن بقبلةٍ غاشةٍ واحدةٍ تعلق ابن الله على خشبةٍ.

الشيطان الذي علَّم يهوذا أن يسلم معلمه، عاد فعلَّمه أن يشنق نفسه، ليرث بالاثنين الهاوية التي تأهل لها.

 

آلـ قيافا وحنَّان

آلـ قيافا رفاق كل الكذب، وآل حنَّان حاملو السيف على مخلصنا.

يهوذا في المقدمة، مثل قائد المصيبة العظمى، ومعه حلقة متعطشة إلى الدم بغضبٍ عظيمٍ.

المرضى الذين جُنّوا، حملوا السيوف والعصيّ على الطبيب ليضربوه، بعد أن ضمدهم وشفاهم.

تهديد وحقد وصخب وكلمات زائدة وإهانة وسخرية، وصرير الأسنان على المنتصر.

جُنّ الترابيون وهددوا، وخرجوا ضد الموج، الأشواك والهباء خرجت لكي تصطاد اللهيب.

ركض القش ليحارب مع اللهيب، والتراب والهباء ليصطادا الريح التي تستأصل الجبال.

الغيوم والسحب خرجت مهددة النهار، والظلال كانت تجنّ لتربط الشمس.

سألهم من تطلبون؟ أما هم فسقطوا، لأنه لا توجد قوة في الرمل ليلاقي الريح.

منظر الشمس سقط على الظلال بخوفٍ وبددها، ولم تجد موضعًا لتهرب إليه.

عندما قال: أنا هو، سقط الأشقياء، لأن العالم كله لا يقدر أن يقف قدام قوته.

كان بحر ناره يلتهب ليحرقهم، وبمراحمه كان يخمد ناره ليحفظهم.

قوته كانت تخيف وتسقطهم عندما يرونه، وبما أنه كان صالحًا، فقد سندهم ليقيمهم.

 

 

عظات آباء وخدام معاصرين ليلة الجمعة العظيمة من البصخة المقدسة

العظة الأولى

ليلة الجمعة للمتنيح البابا شنودة الثالث[45]

في الحقيقة إن الإنسان لا بُد أن يتردد كثيرًا قبل أن يتكلم عن جلسة وداعية بين المسيح وتلاميذه. فنسال أولًا:

أحقا ودع المسيح تلاميذه؟

الوداع معناه الترك. والمسيح لم يتركهم مطلقًا، هذا الذي قال لهم “حَيثُما اجتَمَعَ اثنانِ أو ثَلاثَةٌ باسمي فهناكَ أكونُ في وسطِهِمْ” )مت ١٨: ٢٠) وهو الذي قال لهم أيضًا قبيل الصعود “ها أنا معكُمْ كُلَّ الأيّامِ إلَى انقِضاءِ الدَّهرِ” (مت ٢٨: ٢٠).

ولكنه على أية الحالات كان تركا بالجسد، والى حين.

ومع ذلك كان الأمر صعبًا عليهم. وكان الرب يعرف هذا، لذلك جلس معهم يخفف عليهم ويعزيهم.

كان يعرف أن هذا الأمر صعب عليهم. ويظهر هذا من قوله لهم “لأنِّي قُلتُ لكُمْ هذا قد مَلأَ الحُزنُ قُلوبَكُمْ” (يو ١٦: ٦) فما هو هذا الأمر الذي قاله لهم فحزنوا؟ إنه قوله لهم “أمّا الآنَ فأنا ماضٍ إلَى الذي أرسَلَني”.

كان لا بُد أن يواجههم الرب بالواقع الذي سيحدث.. ثم بعد ذلك يعالج تأثير هذا على مشاعرهم.

أما عن هذا الواقع، فقال لهم “يا أولادي، أنا معكُمْ زَمانًا قَليلاً بَعدُ. وكما قُلتُ لليَهودِ: حَيثُ أذهَبُ أنا لا تقدِرونَ أنتُمْ أنْ تأتوا” (يو١٣: 33).

وكان لا بُد أن يرد على سؤالهم الذي يقولونه:

“إلَى أين تذهَبُ؟” (يو١٣: ٣٦).

“لسنا نَعلَمُ أين تذهَبُ؟” (يو١٤: ٥).

كان لا بُد أن يجيب المسيح، وبصراحة. فبماذا أجاب؟

قال: “أنِّي ذاهِبٌ إلَى الآبِ” (يو١٦: ١٦).

و “بَعدَ قَليلٍ لا تُبصِرونَني” (يو١٦: ١٧). وماذا أيضًا؟

“إنَّكُمْ ستَبكونَ وتنوحونَ والعالَمُ يَفرَحُ” (يو١٦: ٢٠).

وكان لا بُد أن يقول لهم حقيقة أخرى، بالإضافة إلى ذهابه وهي: “إنْ كانوا قد اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكُمْ” (يو١٥: ٢٠).

 

ولتعزيتهم أعطاهم الرب رجاء في كل شيء.

فمن جهة ذهابه، سيرونه مرة أخرى..

إن عبارة “لا تبصرونني” أو “لا ترونني” هي نصف الحقيقة، النصف المؤلم. فما هو النصف الآخر المُعَزي؟

قال لهم الرب “بَعدَ قَليلٍ لا تُبصِرونَني، ثُمَّ بَعدَ قَليلٍ أيضًا ترَوْنَني” (يو١٦: ١6) “بَعدَ قَليلٍ لا يَراني العالَمُ أيضًا، وأمّا أنتُمْ فترَوْنَني” (يو١٤: ١٩) معنى أن العالم لا يراك، انك ستموت. فكيف نراك نحن إذن؟ يجيب المسيح عن هذا الفكر. بقوله “إنِّي أنا حَيٌّ” “في ذلكَ اليومِ تعلَمونَ أنِّي أنا في أبي” “الذي يُحِبُّني، والذي يُحِبُّني يُحِبُّهُ أبي، وأنا أُحِبُّهُ، وأُظهِرُ لهُ ذاتي” (يو١٤: ١٩- ٢١).

أعطاهم إذن فكرة عن قيامته، وانهم سيرونه.

كان قد قال لهم إن ابن الإنسان سيصلب، وفي اليوم الثالث يقوم (مت١٦: ٢١) (مت٢٠: ١٨، ١٩). وهو اليوم يؤكد لهم هذه الحقيقة في عبارات كلها حب: “لا أترُكُكُمْ يتامَى. إنِّي آتي إلَيكُمْ” (يو١٤: ١٨).

نصف الحقيقة “إنَّكُمْ ستَبكونَ وتنوحونَ والعالَمُ يَفرَحُ” فما هو النصف الآخر المضيء إذن؟ انه “أنتُمْ ستَحزَنونَ، ولكن حُزنَكُمْ يتحَوَّلُ إلَى فرَحٍ… ولكني سأراكُمْ أيضًا فتفرَحُ قُلوبُكُمْ، ولا يَنزِعُ أحَدٌ فرَحَكُمْ مِنكُمْ” (يو١٦: ٢٠- 22).

عجيب هو الرب، إنه في وداعة، يتحدث عن الفرح.

كان يؤلمه جدًا حزن تلاميذه بسبب فراقه لهم. انه يعرف تمامًا مقدار محبتهم له. أما عن محبته هو، فيكفى قول الكتاب عنها “إذ كانَ قد أحَبَّ خاصَّتَهُ الذينَ في العالَمِ، أحَبَّهُمْ إلَى المُنتَهَى” (يو١٣: ٢) وقلب الرب حساس جدًا من جهة راحة هؤلاء الذين يحبهم ويحبونه. لذلك يقول لهم هنا: لا أترككم يتامى.

عبارة (يتامى) هنا، تشعرهم بأنهم أولاده.

وهو في هذه الجلسة يستخدم أيضًا تعبير (يا أولادي).

“يا أولادي، أنا معكُمْ زَمانًا قَليلاً بَعدُ” (يو١٣: ٣٣).

أنتم أولادي، وأنا أعلم أنكم تتيتمون من بعدى، ولكنى لا أترككم يتامى، ولا أترككم حَزَانى، سآتي إليكم. سأراكم فتفرح قلوبكم، وأقول لكم إن حزنكم..

أريد في هذا الوداع الصعب، أن أفُرح قلوبكم، وأقول لكم إن حُزنكم هو إلى حين، وحين بسيط، فبعد قليل سترونني.

أنتم لست فقط أولادي، بل أحبائي أيضًا.

 

“أنتُمْ أحِبّائي إنْ فعَلتُمْ ما أوصيكُمْ بهِ. لا أعودُ أُسَمِّيكُمْ عَبيدًا…. لكني قد سمَّيتُكُمْ أحِبّاءَ” (يو١٥: ١٤، ١٥) أنا سأضع نفسي عنكم “ليس لأحَدٍ حُبٌّ أعظَمُ مِنْ هذا: أنْ يَضَعَ أحَدٌ نَفسَهُ لأجلِ أحِبّائهِ” (يو15: ١3) “كما أحَبَّني الآبُ كذلكَ أحبَبتُكُمْ أنا” (يو١٥: ٩).

جميل أن تكون جلسة الوداع، هي حديث حب كهذا.

 

ويضيف الرب في تعزيته لهم تشبيها جميلا، فيشعرهم انه لا انفصال بينه وبينهم، وهو علاقة الكرمة بالأغصان.

فيقول لهم “أنا الكَرمَةُ وأنتُمُ الأغصانُ” (يو١٥: ٥) إننا معًا، “انتم في، وأنا فيكم” علاقتي بكم، كعلاقة الرأس بالجسد. لستم غرباء عنى. اثبتوا في وأنا فيكم ن كما يثبت الغصن في الكرمة، حينئذ لا يكون وداع بينى وبينكم، لأنه لا يكون فراق أبدًا.

ما أجمله تشبيه، كله حب وعاطفة وعزاء في ساعة كهذه.

مبارك أنت يا رب في كل تعزيانك الجميلة..

يضيف أيضًا بأن ذهابه هو للفائدة وللفرح.

فيقول لتلاميذه “لا تضطَرِبْ قُلوبُكُمْ ولا تجزع. سمِعتُمْ أنِّي قُلتُ لكُمْ: أنا ماضُ ثُمَّ آتي إلَيكُمْ. لو كنتُم تُحِبّونَني لكُنتُمْ تفرَحونَ لأنِّي قُلتُ أمضي إلَى الآبِ) (يو١٤: ٢٧، ٢٨).

نعم، لأنه بهذا تنتهى عبارة “أخلى ذاته” (في٢: ٦، ٧) هناك سأرجع إلى ما قبل إخلاء الذات، وذلك أعظم. لذلك إن كنتم تحبونني ستفرحون أنى أمضي.

ثم أن ذهابي نافع لكم، لأعد لكم مكانًا.

“لا تضطَرِبْ قُلوبُكُمْ. أنتُمْ تؤمِنونَ باللهِ فآمِنوا بي. في بَيتِ أبي مَنازِلُ كثيرَةٌ، وإلا فإنِّي كُنتُ قد قُلتُ لكُمْ. أنا أمضي لأُعِدَّ لكُمْ مَكانًا، وإنْ مَضَيتُ وأعدَدتُ لكُمْ مَكانًا آتي أيضًا وآخُذُكُمْ إلَيَّ، حتَّى حَيثُ أكونُ أنا تكونونَ أنتُمْ أيضًا” (يو١٤: ١- ٣) نعم، سنكون معًا باستمرار.

 

ولكن وجودنا الدائم معًا، سيكون هناك وليس هنا.

لا تضطَرِبْ قُلوبُكُمْ، فهذا أفضل. أما هنا، فأنى اترك لكم سلامي “سلامًا أترُكُ لكُمْ. سلامي أُعطيكُمْ( يو 14 : 21) انه سلام من نوع آخر، سلام روحي ثابت، ليس كالسلام الذي يعطيه العالم..

لكن كيف يكون لنا سلام يا رب، وأنت بعيد عنا؟

هنا الفائدة الثالثة من ذهابي. أرسل لكم الروح القدس:

وقد أفاض الرب في حديثه عن هذه النقطة بالذات:

وقد كرر عبارة “المعزي” أكثر من مرة. فقال لهم: “لأنَّهُ إنْ لم أنطَلِقْ لا يأتيكُمُ المُعَزِّي، ولكن إنْ ذَهَبتُ أُرسِلُهُ إلَيكُمْ” (يو 16 : 7)

لذلك:

“أقولُ لكُمُ الحَقَّ: إنَّهُ خَيرٌ لكُمْ أنْ أنطَلِقَ” (يو 16 :7)

“وأمّا المُعَزِّي، الرّوحُ القُدُسُ، الذي سيُرسِلُهُ الآبُ باسمي، فهو يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيءٍ، ويُذَكِّرُكُمْ بكُلِّ ما قُلتُهُ لكُمْ” (يو14: 26) ومَتَى جاءَ المُعَزِّي الذي سأُرسِلُهُ أنا إلَيكُمْ مِنَ الآبِ، روحُ الحَقِّ، الذي مِنْ عِندِ الآبِ يَنبَثِقُ، فهو يَشهَدُ لي. وتشهَدونَ أنتُمْ أيضًا” (يو 15: 26) “مَتَى جاءَ ذاكَ، روحُ الحَقِّ، فهو يُرشِدُكُمْ إلَى جميعِ الحَقِّ” (يو 16: 13)

وأضاف الرب في تعزيته لتلاميذه، بان هذا الروح المعزى سيمكث معهم إلى الأبد، وسيكون فيهم (يو14: 16، 17).

هذا يذكرنا أيضًا بما قاله لهم قبيل الصعود “لكنكُمْ ستَنالونَ قوَّةً مَتَى حَلَّ الرّوحُ القُدُسُ علَيكُمْ، وتكونونَ لي شُهودًا” (اع 1: 8) . كان الحديث عن الروح القدس تعزية كبيرة للتلاميذ..

 

نلاحظ في وداع المسيح لتلاميذه انه كان صريحًا معهم.

أراد أن يعزيهم على أساس الحق والواقع، ويقوى قلوبهم ولكن بدون إخفاء الحقائق، كما كان صريحا معهم من جهة أخطائهم ومن جهة المتاعب التي ستصادفهم، بعد صَلْبه.

كان هذا نافعا لهم من جهة الإيمان، واتقاء المفاجأة.

قال لهم “أقولُ لكُمُ الآنَ قَبلَ أنْ يكونَ، حتَّى مَتَى كانَ تؤمِنونَ” (يو 13: 19) (يو14 :29) “كلَّمتُكُمْ بهذا حتَّى إذا جاءَتِ السّاعَةُ تذكُرونَ أنِّي أنا قُلتُهُ لكُمْ” ( يو 16: 4).

كان صريحًا معهم في ذكر ما سيصدر عنهم من أخطاء.

قال لهم إن  الشيطان مزمع أن يغربلكم، وإنكم كلكم تشكون في هذه الليلة، وقال تأتى ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي. وقال لبطرس  ستنكرني ثلاث مرات وحتى يهوذا قدم له الرب تحذيرات. فقال “واحِدًا مِنكُمْ سيُسَلِّمُني”، وحدد ذلك بقوله “الذي أغمِسُ أنا اللُّقمَةَ وأُعطيهِ”، وقال له موبخا “ما أنتَ تعمَلُهُ فاعمَلهُ بأكثَرِ سُرعَةٍ” (يو13: 21، 26، 27).

وكان صريحًا معهم في ذكر المتاعب التي سيتعرضون لها.

فقال لهم “إنْ كانوا قد اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكُمْ” “إنْ كانَ العالَمُ يُبغِضُكُمْ فاعلَموا أنَّهُ قد أبغَضَني قَبلكُمْ” “لأنَّكُمْ لستُمْ مِنَ العالَمِ… لذلكَ يُبغِضُكُمُ العالَمُ”(15: 18-20) . بل قال لهم أكثر من هذا “سيُخرِجونَكُمْ مِنَ المجامعِ، بل تأتي ساعَةٌ فيها يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقتُلُكُمْ أنَّهُ يُقَدِّمُ خِدمَةً للهِ”(يو16: 2) . حقًا إن الصراحة في هذه الأمور افضل لذلك قال لهم في هذا المجال “قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا”.

إن السيد المسيح واضح في هذا الأمر منذ البداية منذ حديثه عن الباب الضيق وعن حمل الصليب. ولكنه أيضًا يخلط الحديث عن الضيقة بالعزاء فيقول لهم “في العالَمِ سيكونُ لكُمْ ضيقٌ، ولكن ثِقوا: أنا قد غَلَبتُ العالَمَ” (يو16: 33)  وما دام قوتي معكم ستغلبونه..

 

نلاحظ في هذه الجلسة الوداعية، أنه أعطاهم وعودًا كثيرة:

بعضها من جهة ظهوره لهم مثل “أنا آتى إليكم” “بعد قليل ترونني” “أعد لكم مكاًنا.. آتى وآخذكم إليَّ..”.. ووعود أخرى من جهة إرساله الروح القدس إليهم، وعمل هذا الروح فيهم ومكوثه معهم إلى الأبد.. وأيضًا وعود أخرى من جهة طلباتهم، فقال لهم “كُلَّ ما طَلَبتُمْ مِنَ الآبِ باسمي يُعطيكُمْ” “اُطلُبوا تأخُذوا، ليكونَ فرَحُكُمْ كامِلاً” (يو16: 23، 24) “مَهما سألتُمْ باسمي فذلكَ أفعَلُهُ…. إنْ سألتُمْ شَيئًا باسمي فإنِّي أفعَلُهُ” (يو14: 13، 14).

ولعل من الوعود المُعَزيَة جدًا، والعجيبة أيضًا، قوله لهم: “الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: مَنْ يؤمِنُ بي فالأعمالُ التي أنا أعمَلُها يَعمَلُها هو أيضًا، ويَعمَلُ أعظَمَ مِنها” (يو14: 12).

وفي جلسته الوداعية معهم، زودهم بوصايا.

فمن جهة علاقتهم ببعضهم البعض، أعطاهم وصية واحدة لا غير وهي “هذِهِ هي وصيَّتي أنْ تُحِبّوا بَعضُكُمْ بَعضًا كما أحبَبتُكُمْ” والى أي حد يا رب يكون هذا الحب؟ فيكمل وصيته قائلًا: “أنْ تُحِبّوا بَعضُكُمْ بَعضًا كما أحبَبتُكُمْ” (يو 15: 12) ومن يستطيع هذا، أن نحب بنفس الحب الذي أحببتنا به، حتى بذلت ذاتك عنا، الحب الذي قيل فيه “أحَبَّ خاصَّتَهُ الذينَ في العالَمِ، أحَبَّهُمْ إلَى المُنتَهَى” (يو13: 1).

ولكن الرب يكرر نفس الوصية، في نفس الجلسة الوداعية: “وصيَّةً جديدَةً أنا أُعطيكُمْ: أنْ تُحِبّوا بَعضُكُمْ بَعضًا” (يو13: 34) ويعتبر الرب أن هذه المحبة التي مثل محبته، علامة التلمذة له، فيقول “بهذا يَعرِفُ الجميعُ أنَّكُمْ تلاميذي: إنْ كانَ لكُمْ حُبٌّ بَعضًا لبَعضٍ”  (يو13: 35).

 

إنه مستوى سامى جدًا من الحب، يطلبه الرب منا.

نحب بعضنا بعضًا، كما أحببنا هو. وكيف احبنا هو؟ يعمق الرب مفهومنا لهذا الحب، فيقول “كما أحَبَّني الآبُ كذلكَ أحبَبتُكُمْ أنا. اُثبُتوا في مَحَبَّتي” (يو 15: 9) أصارحك يا رب أن الأمر قد ازداد صعوبة في الفهم، أو صعوبة في التنفيذ،

وهنا نعرض وصية المحبة كما أعطيت لنا، في ثلاث نقاط:

ا-   الآب أحب الابن (وهي محبة غير محدودة بلا شك).

ب- والابن أحبنا، بنفس المحبة (غير المحدودة) التي أحبه بها الآب.

ج- والمطلوب أن نحب بعضنا بعضًا بهذا الحب.

ها مطانية يا رب أمامك. اعترف أننا لم نصل ولن نصل مطلقًا إلى مستوى هذا الحب. حقًا إنها وصية جديدة.

جديدة في مفهومنا، وجديدة في مستواها، جديدة في هذا التشبيه الذي شبهت به.. إننا مهما أحببنا، ومهما بذلنا، فلن نصل إلى محبة الابن لنا، أو إلى محبة الآب للابن.

لهذا نتضع أمامك، ونطلب أن تسكب فينا هذا الحب من عندك، من الروح القدس، لأن الطاقة البشرية وحدها لا تستطيعه..نحب بعضنا بعضًا، كما أحبنا! وكيف ذلك؟

 

لقد أحب المسيح تلاميذه، في محبتهم له، وفي ضعفاتهم.

كما احبهم وهم يحبونه، احبهم أيضًا في خوفهم وفي ضعفهم وفي هروبهم. قال لبطرس ستنكرني ثلاث مرات. ولم يقل ذلك في انفعال، ولا في غضب، إنما في حب وإشفاق، وهو يقول معها “طَلَبتُ مِنْ أجلِكَ لكَيْ لا يَفنَى إيمانُكَ” انه يحبنا في سقطاتنا وضعفاتنا، لكي يخلصنا من هذه السقطات والضعفات.. “وفيما نحن خطاة، مات المسيح لأجلنا” (رو 5: 8).

وفي البستان، حينما تركوه وحده وناموا، قابل أيضًا ضعفهم بإشفاق، ونسب الضعف إلى الجسد فقط، وقال عنهم “الرّوحُ نَشيطٌ وأمّا الجَسَدُ فضَعيفٌ” (مت26: 41) “ناموا الآنَ واستَريحوا” (مت26: 45).

وسيأتي الوقت الذي أعطى فيه نشاطًاً للروح والجسد معًا..

أنتم الآن ضعفاء. هذا حق. لذلك لا تبرحوا أورشليم حتى تلبسوا قوة من الأعالي (لو 24: 49)  وهذه القوة ستنالونها حين يحل الروح القدس عليكم، حينئذ تكونون لي شهودا (أع1: 8)

أنا لا أحتقر الضعف، إنما في حبي أمنح القوة.

هذه محبتي لكم. فماذا ستكون محبتكم لي؟

سأضرب لكم مثال لهذه المحبة “أنا الكَرمَةُ وأنتُمُ الأغصانُ”(يو 15: 5)  إذن نحبك يا رب، كما يحب الغصن كرمته، إذ لا حياة له بدون الثبات في الكرمة. إن انفصل عنها يجف ويموت.

لذلك قال لهم الرب في جلسته الوداعية “اُثبُتوا في مَحَبَّتي” (يو15: 9) “الذي يَثبُتُ فيَّ وأنا فيهِ هذا يأتي بثَمَرٍ كثيرٍ” (يو 15: 5) . وماذا عن الذي لا يثبت؟ قال الرب لهم “إنْ كانَ أحَدٌ لا يَثبُتُ فيَّ يُطرَحُ خارِجًا كالغُصنِ، فيَجِفُّ ويَجمَعونَهُ ويَطرَحونَهُ في النّارِ، فيَحتَرِقُ” ولذلك “اُثبُتوا فيَّ وأنا فيكُم” “اُثبُتوا في مَحَبَّتي” (يو 15: 4، 9) ولعل التلاميذ يسألون:

 

كيف نستطيع يا رب أن نحبك، ونثبت في محبتك.

يجيبهم الرب في هذه الجلسة الوداعية “إنْ حَفِظتُمْ وصايايَ تثبُتونَ في مَحَبَّتي، كما أنِّي أنا قد حَفِظتُ وصايا أبي وأثبُتُ في مَحَبَّتِهِ” (يو 5: 10)  إذن فالمحبة ليست مجرد عاطفة، ولا يليق بنا أن نحب بالكلام واللسان.. (1يو3: 18).

فمحبتنا للرب، تظهر في حفظنا لوصاياه..

وهنا ذكَّرَ المسيح تلاميذه بوصاياه، بكل ما سمعوه منه قبل، لكي يعملوا به. ولكن ماذا يحدث إن نسوا ما قاله لهم؟ لقد طمأنهم من جهة هذا أيضًا. وقال لهم: سأرسل لكم الروح القدس المعزى. وذاك “يُذَكِّرُكُمْ بكُلِّ ما قُلتُهُ لكُمْ”(يو 14: 26) .

لقد اهتم المسيح بتلاميذه، الذين ائتمنهم على نشر الإنجيل.

بذل كل الجهد لكي يثبتهم، لأن في ثباتهم ثباتا للكنيسة كلها، وثباتًا للإيمان الذي سيجاهد هؤلاء من أجله.

وما دام الأمر أمر الإيمان، لذلك نرى أن المسيح في هذه الجلسة الوداعية، قد تكلم معهم في أمور إيمانية.

ففي جلسته معهم، شمل حديثه أيضًا عقيدة الثالوث القدوس فحدثهم عن الآب والروح القدس وعن ذاته..

ذكَّرنا ما قاله لهم عن الروح القدس، وعمله فيهم، وحلوله عليهم، ومكوثه معهم، وارشاده لهم..

كذلك ما أكثر الحديث الذي قاله في تلك الجلسة عن الآب “أنا ماضٍ إلَى أبي”، “مِنْ عِندِ الآبِ خرجت، وأتيتُ إلَى العالَمِ، وأيضًا أترُكُ العالَمَ وأَرجِع إلَى الآبِ” (يو16: 28).

“وأمّا المُعَزِّي، الرّوحُ القُدُسُ، الذي سيُرسِلُهُ الآبُ باسمي” “الذي سأُرسِلُهُ أنا إلَيكُمْ مِنَ الآبِ، روحُ الحَقِّ، الذي مِنْ عِندِ الآبِ يَنبَثِقُ، فهو يَشهَدُ لي” (يو14: 26) (يو15: 26)  هاتان آيتان، كل منهما واضحة في حديثها عن الثالوث القدوس.

 

أما عن علاقة الآب بالابن، فقال لهم:

“أنِّي أنا في الآبِ والآبَ فيَّ” “الذي رَآني فقد رأَى الآبَ” (يو14: 9-11)  وكان قد قال لهم من قبل “أنا والآبُ واحِدٌ”(يو10: 30).

وقد كرر هذه المعلومات، في صلاته لأجلهم.

فقال للآب “احفَظهُمْ في اسمِكَ الذينَ أعطَيتَني، ليكونوا واحِدًا كما نَحنُ” (يو17: 11) فاعلن هنا أنه والآب واحد.. وكرر هذا المعنى أيضًا في صلاته فقال “ليكونَ الجميعُ واحِدًا، كما أنَّكَ أنتَ أيُّها الآبُ فيَّ وأنا فيكَ، ليكونوا هُم أيضًا واحِدًا فينا” (يو17: 22، 23) وقال أيضًا “ليكون الجميع واحدا، كما انك أنت أيها الآب في، وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدا فينا” (يو17: 21). إنه يقدم لهم العقيدة في كلامه، وفي صلاته.

ثم يحدثهم عن الآب الذي يحبهم..

فيقول “الذي يُحِبُّني، والذي يُحِبُّني يُحِبُّهُ أبي، وأنا أُحِبُّهُ، وأُظهِرُ لهُ ذاتي”(يو14: 21) “إنْ أحَبَّني أحَدٌ يَحفَظْ كلامي، ويُحِبُّهُ أبي، وإليهِ نأتي، وعِندَهُ نَصنَعُ مَنزِلاً” (يو14: 23) انه يريد أن يربطهم بالآب، فيحدثهم عن الآب ومحبته لهم. وهكذا يقول “تأتي ساعَةٌ حينَ لا أُكلِّمُكُمْ أيضًا بأمثالٍ، بل أُخبِرُكُمْ عن الآبِ عَلانيَةً…. لأنَّ الآبَ نَفسَهُ يُحِبُّكُمْ، لأنَّكُمْ قد أحبَبتُموني، وآمَنتُمْ أنِّي مِنْ عِندِ اللهِ خرجتُ” (يو16: 25، 27).

 

وفي صلاته عنهم، يريدهم أن يعرفوا الآب.

فيقول “أيُّها الآبُ… مَجِّدِ ابنَكَ… هذِهِ هي الحياةُ الأبديَّةُ: أنْ يَعرِفوكَ أنتَ الإلَهَ الحَقيقيَّ وحدَكَ ويَسوعَ المَسيحَ الذي أرسَلتهُ” (يو17: 1-3).

لقد عرف التلاميذ المسيح. ولكنه يريد أن يعرفهم بالآب أيضًا، ويعرفهم أن كل شيء هو الآب. وقد نجح في كل هذا، إذ يقول في صلاته لله الآب:

“أنا أظهَرتُ اسمَكَ للنّاسِ الذينَ أعطَيتَني مِنَ العالَمِ… والآنَ عَلِموا أنَّ كُلَّ ما أعطَيتَني هو مِنْ عِندِكَ” (يو17: 6، 7).

المسيح وهو ماض إلى الآب، يربط تلاميذه بالآب:

وهكذا يقول: “أيُّها الآبُ البارُّ، إنَّ العالَمَ لم يَعرِفكَ، أمّا أنا فعَرَفتُكَ، وهؤُلاءِ عَرَفوا أنَّكَ أنتَ أرسَلتني. وعَرَّفتُهُمُ اسمَكَ وسأُعَرِّفُهُمْ، ليكونَ فيهِمُ الحُبُّ الذي أحبَبتَني بهِ، وأكونَ أنا فيهِمْ” (يو17: 25).

وبهذا الحب، طلب من الآب أن يحفظهم.

وهكذا قال في صلاته “لستُ أنا بَعدُ في العالَمِ، وأمّا هؤُلاءِ فهُم في العالَمِ… أيُّها الآبُ القُدّوسُ، احفَظهُمْ في اسمِكَ… لستُ أسألُ أنْ تأخُذَهُمْ مِنَ العالَمِ بل أنْ تحفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ”.

“حينَ كُنتُ معهُمْ في العالَمِ كُنتُ أحفَظُهُمْ… أمّا الآنَ فإنِّي آتي إلَيكَ” “احفَظهُمْ في اسمِكَ” (يو17: 11- 15).

 

والمسيح يصلي أيضًا أن يكون معهم باستمرار:

فيقول “أيُّها الآبُ أُريدُ أنَّ هؤُلاءِ الذينَ أعطَيتَني يكونونَ مَعي حَيثُ أكونُ أنا” (يو17: 24)

إنها عبارة مؤثرة، تدل على مدى الحب العميق الذي في قلب السيد المسيح من نحو تلاميذه..

حب المسيح لتلاميذه، وحفظه لهم، كان أمرًا لازمًا.

لأنه إن كان الشيطان قد بدأ يعمل ضدهم، وأزمع أن يغربلهم، فلابد من الناحية الأخرى أن يعمل المسيح لحفظهم.. يقويهم ويعزيهم، ويعدهم للتجربة المقبلة، بحبه وحفظه، وبكلامه معهم، وصلاته لأجلهم..

وهذا الحب الذي في قلبه نحوهم، يشجعنا نحن.

يذكرنا بأننا لسنا وحدنا، بل انه معنا كل الأيام والى انقضاء الدهر، ويذكرنا بتعزياته الإلهية، واعداده لأولاده قبل الضيقة، كما يذكرنا بمحبة الآب وحفظه لنا.

ويذكرنا أيضًا أن صلاة المسيح قد شملتنا كذلك بقوله:

 

“ولستُ أسألُ مِنْ أجلِ هؤُلاءِ فقط، بل أيضًا مِنْ أجلِ الذينَ يؤمِنونَ بي بكلامِهِمْ” (يو17: 20).

مبارك أنت يا رب، في كل محبتك وحِفْظَك.

نسألك أن تكون معنا، كما كنت مع تلاميذك و رسلك القديسين ، بنفس الحب، ونفس الحفظ، ونفس الرعاية.

حقًا إن صلاتك قد حفظت التلاميذ. ومع انهم ضعفوا بعض الشيء إلا أن الإيمان بقى ثابتا فيهم، لم يتزعزع..

وهذا الإيمان الذي فيهم وصل إلينا، بكرازتهم..

واستطاع هؤلاء يا رب أن (يأتوا بثمر كثير) كما أوصيتهم. (أع15: 8)

كل ذلك كان ببركة آلامك المقدسة، وبمحبتك لتلاميذك وتثبيتك لهم في يوم الخميس الكبير الذي غسلت فيه أرجلهم، طهرتهم، ومنحتهم جسدك ودمك، وجلست إليهم تعزيهم وتقوى إيمانهم.

لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين.

 

العظة الثانية لآباء معاصرين – ليلة الجمعة العظيمة

ليلة الجمعة الكبيرة (مساء الخميس) قداسة البابا تواضروس الثاني [46]

طول الأناة

ليلة الجمعة العظيمة كانت في بستان جثسيماني حيث معصرة الزيتون . وتاريخ البشرية يدور بين نقطتين:

أ – عـــدن     = بستان الجنـــــة.

ب- جثسيماني = بستان المعصرة.

آدم الأول طوح بالثقة والعلاقة مع الله. أما آدم الثاني جاء ليعيدها خالصة, وفي ليلة الوداع كان الرب يسوع طويل الأناة:

علي التلاميذ اليتامي:

كان الأصدقاء نائمين، بينما كان المتآمرون ساهرين.

توزيع التلاميذ: 8 عند مدخل البستان،3 داخل الفستان بقرب المسيح، 1 يُدبر فعلته الأثيمة (يو17).

وهؤلاء ناموا ثلاث مرات، وفي المرتين:

الأولي قال لهم: “امكثوا هنا واسهروا معي”.

الثانية قال فيها: “ناموا الآن واستريحوا! هوذا الساعة قد أقتربت….” (مت45:26)

المسيح يطيل أناته علي تلاميذه … وعلينا .

علي بطرس تلميذه المتسرِّع:

كان بطرس أحد التلاميذ المقربين, وقد استل السيف وقطع “أُذن” ملخس عبد رئيس الكهنة، فانتهزه الرب يسوع “اجعل سيفك في الغمد” (يو10:18) ويعيد الأُذن المقطوعة ويقول: “الذين يأخذون بالسيف، بالسيف يهلكون” (مت52:26).

– كان الجيش عند الرومان يتكون من 6000 جندي، ومعني هذا أن المسيح كان بإمكانه أن يطلب 12 جيش من الملائكة (72 ألف جندي) فماذا يكون سيف بطرس؟

علي يهوذا الخائن:

إن إلقاء القبض علي المسيح كان شركة بين اليهود والأمم. يقول داود النبي: “عندما اقترب إلي الأشرار ليأكلوا لحمي، مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا” (مز2:27).

– كانت النهاية أنه يجب أن يذهب هو إلي الذبح وحده حيث رئيس الكهنة، حسب الطقس اليهودي القديم كان يجب أن يكون وحده عند تقديم الذبيحة.

– الله أطال أناته علي البشرية كلها منذ سقطة آدم.. قايين.. سدوم وعمورة..إلخ.

– الصليب يعني طول الأناة: “احسبوا أناة ربنا خلاصاً” (2بط 15:3).

 

محطات الحياة الثلاث

اليوم يوم «الحب» ..

ومفتاح شخصية مسيحنا القدوس هو «الحب».

ومفتاح عمل مسيحيتنا المقدسة هو «الحب».

«الإنسان يسقط»

«المسيح يستر»

«الفردوس ينتظر»

أولاً: محطة جنة عدن: «البداية».

الخليقة الجميلة: علي صورة الله ومثاله.

الوصية والعقاب: تعدى آدم وحواء واحتوى ثمرة محرمة في جوفه وصارت جذورها فيه..

والعقوبة كانت الإحساس بالعري والخجل والذنب.

وقد حاول آدم أن يُبرر بالأعذار:

العقوبة الأرضية ← العُري ← تحتاج ســــتراً.

العقوبة الأبديـــة ← الهلاك ← تحتاج خلاصاً.

الموت بصوره الأربعة:

روحـي ← انفصـــــــال عـــــــن الله.

أزلـــي ← فقـــدان الصـــورة الإلهية.

جسدي ← انفصال الروح عن الجسد.

أبـــدي ← هـــلاك الإنســان النهائي.

ثانياُ: محطة الجلجثة: «محطة اختيارية».

كان للخطية فعلان:

إحزان قلب الله الذي كسرنا وصاياه.

هلاك الإنسان هلاكاً أبدياً.

ولذا علاج الخطية يحتاج إلى:

المُحرقة: لإرضاء قلب الله.

الذبيحـة: [ذبيحة الخطية] لإنقاذ الإنسان الهالك.

وفي المسيح اجتمع الأمران [المُحرقة، والذبيحة] .

لقد كان قلب المسيح الذي يحمل خطايا العالم يشبه بحيرة عميقة انسكبت فيها المجاري والجداول التي تُمثل معاصينا.

ومحبة المسيح جعلته يحمل كل هذا وهو بلا خطية.

إلهي إلهي لماذا تركتني؟ هذا تعبير عن عدم رضا الآب وحجب وجهه عن ابنه المحبوب بسبب خطايانا التي كان يحملها في جسده.

الصليب: مسرة الآب – مجد الابن – فرح الروح – فخر الرُسل – خلاص الإنسان.

 

ثالثاً: محطة أورشليم السمائية: «النهاية».

كيف نستمر إلي محطة النهاية؟؟

بالتوبة الصادقة:

لا ينشغل الإنسان إلا بنفسه، فلك نفس واحدة إن خسرتها خسرت كل شئ. إنه الجهاد الروحي.

بالمحبة المشتعلة:

الاهتمام بالآخر بعيداً عن الأنانية والتقوقع.

كيف نقدم صورة المسيح المُحب للجميع؟

بالحياة الهادفة:

الهدف واضح هو تمجيد اسم يسوع.

إننا نحيا على الأرض ككنيسة متغربة.

وفي الفردوس ككنيسة منتظرة.

وفي الملكوت ككنيسة منتصرة.

إن كلمات المسيح علي الصليب هي المبادئ الرئيسية لحياة الإنسان المسيحي:

يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون (لو34:23) = التعامل مع الآخر والصلاة لأجله (إنه التسامح).

اذكرني يا رب متي جئت في ملكوتك.. اليوم تكون معي في الفردوس. (لو43:23) = الأشتياق الدائم للسماء والتوبة.

يا امرأة، هوذا ابنك.. هوذا أمك. (يو26:19) = الوفاء الأسري.

أنا عطشان (يو28:19) = تتويب الآخرين / هواية خلاص الآخرين.

إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ (مر34:15) = الندم على الخطية والتوبة.

قد أُكمل (يو30:19) = تتميم كل عمل ولا كون ناقصاً.

يا أبتاه، في يديك أستودع روحي (لو46:23) = الاطمئنان والسلام في حضن يسوع.

 

الخطية وأبعادها

[بعين مُتحننة يا رب، انظر إلى ضعفي، فعما قليل تفنى حياتي، وبأعمالي ليس لي خلاص، فلهذا أسأل بعين رحيمة: يا رب أنظر إلى ضعفي وذُلي ومسكنتي وغُربتي ونجني] (القطعة الأولى من الخدمة الثالثة).

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [في العالم كارثة وحيدة….هي الخطية]. والخطية ليست فعل مُعين ولكنها حالة.. إنها حالة غُربة عن محضر الله .

وبهذه الصورة تكون للخطية ثلاثة أبعاد تؤدي إلى الضعف والمذلة والمسكنة والغُربة:

فقدان الصورة الإلهية: «الغُربة».

إن صورة الله فيك هي أمانة لديك، ولكن الخطية شوهت هذه الصورة.

عيسو باع بكوريته بأكلة عدس [شئ تافه].

العذارى الجاهلات قيل لهن: إني ما أعرفكن.

معاناة الموت الروحي: «المسكنة».

أي أنحناء النفس “لماذا أنت مُنحنية فيَّ يا نفسي ترجي الله” (مز42) = إنه عجز الروح.

الملك بيلشاصر ملك مستبيح يمثل الاستهتار بكل القيم. (دانيال5).

مواجهة الغضب الإلهي: «المذلة».

هناك الغضب الحالي “المُعلن علي جميع فجور الناس” مثل الخطية التي جبلت الطوفان. وهلاك سدوم وعمورة.

وهناك الغضب الآتي.. غضب يوم الدينونة.

هذه الصلاة “بعين متحننة..” نتصور أن كثيرين يقولونها مثل: المرأة الخاطئة – بطرس – اللص اليمين – زكا العشار – أُغسطينوس – موسي الأسود – مريم المصرية… وأنا وأنت…

تدريب: اقرأ وتأمل واحفظ: إشعياء 53 ، يوحنا 17.

 

 

العظة الثالثة لآباء معاصرين – ليلة الجمعة العظيمة

الصلاة الأخيرة للمتنيح أنبا أثناسيوس مطران بني سويف والبهنسا[47]

كان الرب يصلي كثيراً. وكان أحيانا يطيل الصلاة مثلما حدث ليلة التجلي، أو يقضي الليل كله في الصلاة مثلما في ليلة اختياره التلاميذ (لو٦: ١٢- 16) أو ليلة القبض عليه. والصلاة المذكورة في هذا الإصحاح لم ترد في الأناجيل الأخرى. اذ يبدو أنها كانت في البيت حيث أكلوا الفصح، فإنها غير الصلاة التي أوردتها الأناجيل الأخرى عن البستان، فإنه خرج بعدها إلى البستان (يو۱۸: ۱) .

(يو17: 1- 10) مجد وحياة

بعد أن دخل الرب أورشليم ظهر صوت “مَجَّدتُ، وأُمَجِّدُ أيضًا!” (یو۱۲: ۲۸) وكان المقصود بذلك المجد احتماله ألم الصليب. (أنظر يو۱۲: 27) وحين خرج يهوذا لتنفيذ الخطة قال الرب “الآنَ تمَجَّدَ ابنُ الإنسانِ وتمَجَّدَ اللهُ فيهِ” (يو13: 31)

وهنا تبدأ الصلاة بالحديث عن هذا المجد. أي أن الفداء يفتح باب السماء للناس ويعطيهم الحياة الأبدية وهذا مجد محبة الله الذي لا يقل عن مجد عدله وسلطانه “إذ كانَ في صورَةِ اللهِ، لم يَحسِبْ خُلسَةً أنْ يكونَ مُعادِلاً للهِ. لكنهُ أخلَى نَفسَهُ، آخِذًا صورَةَ عَبدٍ، صائرًا في شِبهِ الناسِ. وإذ وُجِدَ في الهَيئَةِ كإنسانٍ، وضَعَ نَفسَهُ، وأطاعَ حتَّى الموتَ، موتَ الصَّليبِ. لذلكَ رَفَّعَهُ اللهُ أيضًا، وأعطاهُ اسمًا فوقَ كُلِّ اسمٍ، لكَيْ تجثوَ باسمِ يَسوعَ كُلُّ رُكبَةٍ مِمَّنْ في السماءِ، ومَنْ علَى الأرضِ، ومَنْ تحتَ الأرضِ، ويَعتَرِفَ كُلُّ لسانٍ أنَّ يَسوعَ المَسيحَ هو رَبٌّ، لمَجدِ اللهِ الآبِ” (في٢: ٦-۱۱).

وأطرد استعمال لفظ “مجد” لعملية الصلب منذ دخول الرب أورشليم “وكانوا يَصرُخونَ: “أوصَنّا! مُبارَكٌ الآتي باسمِ الرَّبِّ!… وهذِهِ الأُمورُ لم يَفهَمها تلاميذُهُ أوَّلاً، ولكن لَمّا تمَجَّدَ يَسوعُ، حينَئذٍ تذَكَّروا أنَّ هذِهِ كانَتْ مَكتوبَةً عنهُ” (١٢: ١٣، ١٦). واستمر إلى نهاية الإنجيل حین استعملت عن الرسول بطرس لما أشار الرب متنبئاً عن الطريقة التي يموت بها الرسول “قالَ هذا مُشيرًا إلَى أيَّةِ ميتَةٍ كانَ مُزمِعًا أنْ يُمَجِّدَ اللهَ بها” (۱۹:۲۱).

والكنيسة تعمل شيئا مشابها لهذا حين تصلي صلوات سبت الفرح فتجمع بين الطقس الحزين والطقس السنوي علامة على أن الفرح قد بدأ بتمام الصلب والفداء، وان كان الحزن مستمرًا إلى أن يكمل الفرح بالقيامة. كما أن الكنيسة تتلو مزمور [عرشك يا الله إلى دهر الدهور] في صلاة الساعة الحادية عشرة من يوم الثلاثاء لأن يوم الأربعاء فيه ذهب يهوذا واتفق مع رؤساء اليهود على تسليم السيد، فهي في نهاية صلوات الثلاثاء تخاطب الرب بهذا المزمور علامة على أنها تعبده وتحييه في هذه الساعة التي يبدأ فيها يوم الخيانة وفي التمجيد الخاص بأسبوع الآلام [لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد..] وتضيف الكنيسة منذ ليلة الأربعاء لنفس السبب [مخلصي الصالح].

 

(يو17: ٦٨) كانوا لك وأعطيتهم لي

خلق الله جميع الناس، ولكنهم سقطوا، ثم جاء الفادي وجدد خلقهم. كنا جميعًا لله بالخلق الأول، وتجددت بنويتنا بالخلق الثاني إذ “ليس بغيره خلاص”.

ليس من فارق بين الآب والابن، ولكن عمل الفداء يمجد في السماء مجدًا خاصًا لأنه سحق العدو واسترد الأسرى.

“هُم قَبِلوا وعَلِموا يَقينًا أنِّي خرجتُ مِنْ عِندِكَ” المؤمنون بالرب يعلمون يقينًا أنه الإله، وأنه الخالق “كُلُّ شَيءٍ بهِ كانَ، وبغَيرِهِ لم يَكُنْ شَيءٌ مِمّا كانَ” (يو1: 3) ولكنهم يُكرِمُون عمل الفداء تكريمًا خاصًا لأنه أعاد لهم حياتهم المفقودة . أعاد لهم كل شيء.

وهو لا يقصد أنهم كانوا للآب ثم صاروا للابن لافتراق الاثنين، بل أنهم كانوا تحت سلطان العدل فصاروا تحت الرحمة وبذا انتقلوا من تحت حكم الموت إلى حكم الحرية والحياة.

(۱۷: 11- ۱۹) الصلاة عن أبنائه

صلى الرب عن أبنائه من أجل عدة أمور :

كنت أحفظهم في أسمك: إنه يعلم أن الإنسان كثيرًا ما يحتاج إلى شخص يجد فيه المبادئ التي ينشدها ليمسك بيده ولو في بداية الطريق إلى أن يقوم ارتباطه بالمبادئ دون الأشخاص. ولما كان الرب ابان تجسده موجودًا معهم حسيًا، وقد آن الأوان ليرتفع، فهو يصلي ليكون الروح مشبعًا ایاهم وحافظًا وراعيًا .

ليكونوا واحدًا” الكنيسة هي الوجه الظاهر للملكوت، والملكوت متسع جدًا ومنظم تمامًا. وكل مافيه مترابط في وحدة محبة وانسجام مقدسین. ولذا نراه هنا يطلب أن يكون المؤمنون واحدًا. والانقسامات الكنسية حرب شيطانية خطيرة تقسم جسد السيد المسيح، وكل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب .

قبل صلاة باكر من كل يوم يتلو المصلي الفصل “فأطلُبُ إلَيكُمْ، أنا الأسيرَ في الرَّبِّ: أنْ تسلُكوا كما يَحِقُّ للدَّعوَةِ التي دُعيتُمْ بها.. مُحتَمِلينَ بَعضُكُمْ بَعضًا في المَحَبَّةِ. مُجتَهِدينَ أنْ تحفَظوا وحدانيَّةَ الرّوحِ.. جَسَدٌ واحِدٌ، وروحٌ واحِدٌ…” (أف٤: ١-4) .

فلنلتزم بالوحدة، ولنسرع لإصلاح أي ثلم فيها، وهكذا تكون وحدة نامية جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا في الرب الواحد .

 

ليس مطلوبًا أن يؤخذوا من العالم بل أن يحفظوا من شره وهم فيه. والسلبية والانسحاب من الحياة لا يحلان مشكلة. والمسيحية هي التقدم لحل مشاكل الناس وليست عدم المبالاة بهم. والرسول بولس يقول لأهل كورنثوس “لا تُخالِطوا الزُّناةَ. وليس مُطلَقًا زُناةَ هذا العالَمِ، أو الطَّمّاعينَ، أو الخاطِفينَ، أو عَبَدَةَ الأوثانِ، وإلا فيَلزَمُكُمْ أنْ تخرُجوا مِنَ العالَمِ! (۱كو٥: ٩-۱۰) والرب يقول “لستُ أسألُ أنْ تأخُذَهُمْ مِنَ العالَمِ بل أنْ تحفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ” (يو17: 15) وقد علمنا في الصلاة الربانية “ولا تُدخِلنا في تجرِبَةٍ، لكن نَجِّنا مِنَ الشِّرِّيرِ” (مت6: 13) والآباء الرهبان يقولون أن الرهبنة ليست في مجرد الخروج من العالم بل هي في خروج العالم من داخلنا، أي عدم السير وراء الشهوات، وهذا ما يقصد بالآية الأخرى، “قَدِّسهُمْ في حَقِّكَ” (يو17: 17) فالمطلوب حياة القداسة لكل المسيحيين. وعندنا كلمة الله تهدي الطريق. والقداسة كانت من بين الصفات الباهرة التي بهرت العالم الوثني قديمًا فجعلت المسيحية تغزوه، فكان المسيحيون بقداستهم شهادة باهرة أمام الوثنيين لفعل المسيحية في تغيير الحياة فوق ما غرق فيه الناس من شهوات.

وهنا كلمة استعملها الرب على نفسه على الرغم من أنه بغیر لها من أي ناحية. “لأجلِهِمْ أُقَدِّسُ أنا ذاتي” (يو17: 19) فكان هو القدوس الذي ليس فيه شر البتة ولكنه إذ يصلي ممارسًا صفة انسانية، ويطلب بلجاجة، فإنه يتكلم عن نفسه أيضًا معبرًا عن صفة إنسانية يطلبها لجميع الخدام والقادة في الكنيسة الذين جعل نفسه واحدا منهم .

(يو۲۰:۱۷- ٢٦) الكــــرازة

وسائر الطلبات التي طلبها الرب هي للكنيسة كلها على مر العصور: التعليم الواعي، والوحدة، والقداسة. فهو يصلي من أجل الذين يؤمنون به بكرازة الرسل ليكونوا هم أيضا مقدسين وواحدًا. إلى أن يصلوا إلى الميراث المعد لهم “يكونونَ مَعي حَيثُ أكونُ” (يو17: 24) في نمو مستمر وتعلم مستمر “عَرَّفتُهُمُ اسمَكَ وسأُعَرِّفُهُمْ” (يو17: 26) فالتعليم والقداسة والوحدة مستمرة في الكنيسة إلى أن تصل إلى الميراث وهناك يدخل المؤمنون في الوجه الأبدي للملكوت.

 

العظة الرابعة لآباء معاصرين – ليلة الجمعة العظيمة

بستان الدمـــــوع للمتنيح القس منسي يوحنا[48]

“نفسى حزينة جداً حتى الموت” (مت26: 38)

إن المسبيين من اليهود فى بابل فى أوقات حزنهم علقوا أعوادهم على أشجار الصفصاف على أنهار بابل وجلسوا تحتها يندبون صهيون (مز37). وعلى هذا المنوال أختار السيد المسيح بستان زيتون جثسيمانى ليكون حزنه واكتئابه فيه (مت26: 37) واختاره بستان زيتون لأنه مُرّ إشارة إلى آلامه، ولأن الحمامة بشرت نوحا بزوال الخطر عن الأرض بورقة زيتون، والبشرية أخذت خبر الخلاص من خطر الموت من بستان الزيتون.

ففى هذا البستان الذى هرب إليه داود من وجه ابنه أبشالوم (2صم15: 23-30)، والذى ذرى فيه يوشيا الملك الصالح غبار مذابح الاصنام (2مل23: 12) كان سيدنا منحصراً فى حزن وضيقة شديدة حتى باح بذلك لتلاميذه وقال لهم “نفسى حزينة جداً حتى الموت”.

كلمة تستدر الدمع من عين كل محب ولا ريب، فإنها أثرت فى نفوس التلاميذ حتى جعلتهم يتمنون لو يقدمون ذواتهم ضحية لإنقاذ سيدهم مما يلم به. ولكن أنى لجميع البشر أن يقوموا باحتمال ما أحزن نفس المخلص، أنى لهم حتى يشاركوه فى آلامه، وتلاميذه لم يقووا بعد على أن يسهروا معه ساعة واحدة .

تعال بنا إذا لندخل البستان ونتأمل فى ذلك المنظر فإننا لا نجده مفرحا بل محزنا، هناك تقع عيوننا على مشهد يجرح القلب ويذيب الفؤاد. هناك نبصر “آدم الجديد” فى البستان يعمل لا لكى يَنعَم، كما كان آدم فى جنة عدن، بل يجاهد ليحصل على الخلاص للبشر.

فما أعظم الفرق بين ذينك البستانين. فالأول توفرت فيه كل أسباب الراحة والسرور، والثانى أفعم بعلامات الحزن والكآبة. بستان خصب وبستان مجدب. بستان يستريح فيه المخلوق، وبستان يتعب فيه الخالق. بستان ابتدأ فيه شقاء الإنسانية، وبستان خرجت منه ينابيع السعادة لبني آدم. بستان فيه سقطنا وبستان فيه قمنا. بستان فيه دين آدم، وبستان فيه وفَّى يسوع عنه دينه.

 

قال القديس أوغسطينوس: يا لحكم الله غير المدرك: يخطىء الأثيم ويعاقب الكريم. يجرم الطالح ويجلد الصالح. وما يرتكبه المنافق يحتمله الصديق. وما يستقرضه العبد يدفعه الرب. وما يلقيه المخلوق يلقاه الخالق.

إن حزن النفس نوعان: أحدهما من آلام الجسد، والآخر من الآم الفكر. وقد تكبد يسوع كليهما فكان يتوقع لجسده أقسى الآلام، كما عانى فى تلك الليلة كل صنوف العذاب الفكري.

هناك مشهد عظيم، قال لتلاميذه “امكثوا ههنا واسهروا معي” ثم تقدم قليلاً وخرَّ على وجهه وكان يصلي قائلاً “يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، لكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت” (مت26: 38-39) فيا له من عمل بديع يعلمنا أقصى درجات التواضع، ويا له من أمر جليل يرسم لنا كيفية الصلاة. يا له من موقف عالج فيه بالطاعة جروح العصيان، ويا له من منظر مؤثر يحرك الجماد وهو لا يتأثر بمرور الأيام والأزمان. ابن الله المساوي لأبيه فى الجوهر يُرَى طريحا على الأرض. ذاك الذي هو فى الحضن الأبوي يشكو من أن نفسه حزينة جداً. إن الإله المسجود له من جميع القوات السمائية يجثو ويركع!.

من يلمح هذا المشهد المؤثر ولا يتأثر؟ من يرى العظيم يتواضع والرفيع يجثو ولا ينكسر قلبه؟ يا للحب العظيم المفرط الذى جعل ابن الله يترك نفسه، تسكب فى الهوان إلى هذا الحد!.

تألم فاتجه بقلبه نحو الصلاة إلى أبيه ليعلمنا أن الصلاة هى سلاح المؤمن المحارب الذى يسمع طلبات الآخرين ويقبل توسلاتهم: أخذ يسوع يصلي بحرارة.. ففى ضيقك أيها المؤمن تشجع بالصلاة. هو صلى لكي يعين المصلين، صلى لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن (مر14: 35).

وكيف ذلك؟ أتى ليموت، فكيف يريد التخلص من الموت؟.. لقد جاء إلى الصليب، فكيف يرغب أن يفلت منه؟.. لم يصل هكذا لما تشبه بنا فى كل شىء، لقد أعطانا أنموذجاً حسناً نتصرف به فى ضيقاتنا. فهو إذاً لم يطلب أن ينتحى، بل أراد بذلك أن يعلمنا درساً هاماً وهو القائل “ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها أيضاً” (يو10: 18).

يسوع لم يتوقع الصليب فى تلك الليلة فقط، ولم يره فى يوم صلبه فقط، بل توقعه منذ ابتدأت حياته البشرية، بل كان يتوقعه منذ الأزل ولبث قائماً أمامه دائماً كقوله “ووجعي مقابلي دائماً” (مز38: 17) فكان إذاً ينظر إلى الصليب المعد لتعذيبه منذ زمن بعيد، بل كان عالماً بكل ما سيحل به من صنوف الإهانة والتعبير والعذاب. كل سجين مهما كان ذنبه يلازمه شىء من الأمل أو الرجاء بالخلاص من سجنه، أما يسوع فلم يكن يرى مناصاً من الصليب. فعند قيامه مع تلاميذه إلى أورشليم “ابتدأ يقول عما سيحدث له” (مر10: 22) “ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الانسان يسلم إلى رؤساء الكهنة فيحكمون عليه بالموت” (مت20: 18).

إن كثيرين ماتوا أو اختبأوا أو شاب شعرهم على أثر سماعهم بغتة بنكبة حلت بهم، فكم كان حزن يسوع عظيماً وكآبة قلبه بالغة وهو يرى أمام عينيه طول حياته صورة الصليب حتى يصح له أن يصرخ قائلاً: “لأن حياتي قد فنيت بالحزن وسنيني بالتنهد” (مز21: 10) ولذلك كان يكرر دائما ذكر الصليب فى كلامه بقوله “ومن لا يأخذ صليب ويتبعني فلا يستحقني” (مت20: 38) وقوله “إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (مت16: 24) وقوله لابني زبدي “أتستطيعان أن تشربا الكأس التى سوف أشربها أنا، وأن تصطبغا بالصبغة التي اصطبغ بها أنا” (مت20: 22) إلى غير ذلك من الآيات التى تدل على أنه لم يخل ساعة واحدة من حمل الصليب لأجل خلاص البشر.

 

لم يكن يسوع إذاً فى طلبه من أبيه خائفاً من أمر غير منتظر بل قد مرت به جميع مناظر الصليب وأجتازها بالثبات المهيب عالماً أنه ينبغى أن يكون هكذا. هذا هو سرور الصليب. إن يسوع لم يضل الطريق بل سار بثبات إلى غرضه فلم يكن فريسة الصدفة، بل كان فى كل خطوة يخطوها يعمل شيئاً أنبىء به سابقاً. شيئا حتمته مشيئة الله وجعلته أمراً ضروري الوقوع كقوله “ها نحن صاعدون إلى أورشليم وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الانسان. لأنه يسلم إلى الأمم ويستهزأ به ويشتم ويتفل عليه، ويجلدونه ويقتلونه وفى اليوم الثالث يقوم” (لو 18: 31-33) ولما جاءوا للقبض عليه يقول الكتاب “فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه” (يو18: 4).

وبعد أن أكمل المخلص جهاده الأول رجع إلى تلاميذه فوجدهم نياماً. فوا أسفاه يا يسوع: إن تلاميذك تخلوا عنك وأصبحت وحيدا تكابد الحزن فى نفسك، إن الخليقة الساقطة التى أتيت لإنهاضها هجعت وتركتك تصارع وحدك لإنقاذها، لقد سبقت وأنبأتهم بالآمك وخاطبتهم قائلاً “نفسى حزينة جداً حتى الموت” وطلبت إليهم أن يسهروا معك لتسليتك وتعزيتك فى إبان كربك ولكنك وجدتهم يهملون القيام بما ينتظر من الصديق وقت الشدة، حتى صرت تعاتبهم كما يعاتب الحبيب حبيبه فنطقت بهذا العتاب المملوء حباً قائلاً لهم “أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معى ساعة واحدة” (مت26: 40). بل زادوك حزناً لأنهم كانوا يمثلون الخليقة التى لم تقدر أمر خلاصها فأهملت القائم به.

تقدم المخلص إليهم بالنصيحة قائلاً: “اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا فى تجربة” (مر14: 38). حتى وهو فى شدته لم ينس أن يهب الخير للآخرين. فما أعظم شفقتك يا يسوع، وما أسمى رغبتك فى خلاص البشر. فلنسمع نصيحة المخلص فى ليلة آلامه “صلوا لئلا تدخلوا فى تجربة”. إن السهر يحفظنا مصلين والصلاة تحفظنا ساهرين: إذا اشتدت التجربة فلنشكر الله لأنها لا تأتي إلا ليقابلها الإنسان بالصلاة، فيسود عليها ويسحقها تحت قدميه ويفرح بالنصرة. كم من كثيرين يتغافلون بهذا المقدار عن خلاص نفوسهم وبنطرحون على فراش الإهمال، والله ينبههم بطرق مختلفة وهم لا ينتبهون. فبينما يهتم يسوع بخلاص الإنسان، يوجد الإنسان متكاسلاً. فما أعظم شفقتك يا يسوع لأنك تطيل عليّ أناتك وأنا غافل ساه، فأيقظنى يا ربي ولا تدعني أغلب من نوم أباطيل هذا العالم.

قام المخلص ثانية ليقابل ما توقع أن يغمره من الحزن والوجع، ترك تلاميذه نياماً وقام هو وحده كالجبار يتلقى سهام الآلآم. كرر الطلب ولكنه سلم المشيئة لله لنتعلم كيف ينبغى أن نسلم له فى وقت التجربة. قال لأبيه “إن لم يكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك” (مت26: 43) إن أعظم معرفة هى معرفة إرادة الله. وأعظم بطولة هى التسليم لإرادة الله، وأعظم عمل هو إتمام إرادة الله .

رجع إلى تلاميذه ثانياً فوجدهم نياماً. “إذ كانت أعينهم ثقيلة فلم يعلموا بما يجيبونه” (مر14: 40). فتركهم ومضى وصلى ثالثة قائلاً ذلك الكلام بعينه (مت16: 40). اضطرب جنود السماء عندما رأوه يصلي كالعبد. العظيم اتضع لأجلنا. والمرتفع نزل إلى مقامنا. وقد فعلت الصلاة فعلها فظهر له ملاك من السماء يقويه (لو22: 43) وهنا نرى تعزية كبرى لكل مصلِ على  مثال المخلص. لابد أن يأتيه العون من قبل الرب ويظهر له أن الذين معه أكثر من الذين عليه (2مل6: 16) فليطمئن المؤمن المصلي لأن وعد الله يقول “لأنه تعلق بى أنجيه” (مز91: 64) فتشجع وأدخل البستان تجد هناك الملاك الذى يقويك. ملاك السلام فى بيت الحزن. ملاك الصبر فى الفقر. ملاك القيامة فى بيت الموت.

صلى المخلص بحرارة ومن شدة حرارته سال عرقه وصار كقطرات دم نازلة على الأرض (لو22: 44). قال مار يعقوب السروجى: [بشارة صالحة هى العرق للمريض لأن الصحة تتبعه. سال عرق ابن الله وهو يعمل لإنقاذ العبد من عمق الهاوية. بمرض الموت العظيم انطرح آدم. وأتى المسيح وعرق وأراحه من ضيقه، بعرق الرب صارت الصحة للعبد المريض. لقد أكل آدم خبزه بعرق جبينه (تك3: 19) ولكن هذا العرق الممزوج بالخطية لم يقدر أن يشفيه، فأتى الذى بلا خطية وعرق دفعة واحدة فنجاه من خطيته].

 

إن المسيح فى البستان عرق من مجرد تصور آلامه فكم كان حزنه حينما وقعت عليه بالفعل؟ ومن لا يتأثر من هذه الحال، ومن لا يتوجع على خطاياه إذا عرف أنها هى التى جعلت ابن الله يعرق عندما تفكر فيها. إعلم أيها الخاطىء أن ما جعل العرق يتصبب من مخلصك ليس هو العذاب الذى كان ينتظره، بل آثامك الكثيرة. يا يسوع أنك لكي تشترى دواء نفسي قد تكلفت ثمناً باهظاً فلتباركك إذا الأرض ولتسبح كل نسمة اسمك العظيم .

هوذا المحبة تعصر جسم المخلص الطاهر وتخرج منه عرقا وافراً. أيها الإنسان انظر أى شقاء عظيم استحقيت حتى إن إلهك لما أراد أن يبكى عليك لم يستعمل الدموع المألوفة عند البشر؛ التى تجرى من العيون فقط، بل زاد عليها الدموع التى تجرى من جميع مسام الجلد بغزارة حتى أنها كانت تجرى كقطرات الدم، مما يدل غلى عظم محبته لك فأى شكر تستحقه يا ابن الله على هذا الجهاد وذاك العرق. إن دماء الشهداء وسائر البشر المولودين منذ ابتداء العالم إلى نهايته ليست شيئا يذكر بالنسبة إلى نقطة واحدة مما قطر منك فى البستان.

ففى البستان كانت نفس مخلصنا معلقة على صليب قاس روحي قبل أن يعلق جسده على الصليب فكانت نفسه تتألم بأشد آلام لدى تصوره ما سيتم له. كما كانت تتوجع كلما رأت فى خليقته مثال الخيانة وصورة الضعف الزائد ورسم نكران الجميل، وكانت كل هذه الرذائل تلوح أمامه فتحزن نفسه وهو يعلم أنه يموت لأجل مرتكبيها لكى تكون كل نقطة دم تسيل منه جهنما ثانية للخاطىء العنيد صاحب القلب القاسي.

وقد سبق أن تنبأ الأنبياء فتنبأوا بآلام المسيح النفسية فقيل “يمخض قلبي فى داخلي وأهوال الموت سقطت عليّ” (مز55: 4) وقوله “اكتنفتنى حبال الموت. أصابتنى شدائد الهاوية. كابدت ضيقاً وحزناً” (مز116: 3). وما من شىء أشبه باسحق من المسيح فإنه عندما كان فى بستان الزيتون كان يعد نفسه للتضحية على الصليب كما أعد إبراهيم الحطب على ظهر ابنه اسحق ليقدمه محرقة للرب. وكان فى تلك الساعة يجول نظره فى جميع الأدوات المعده لتعذيبه كما كان يسمع كلمة الشعب ناكر الجميل يصرخ “اصلبه”. كذلك كان يرى الحيلة التى دبرها يهوذا مع اليهود على إهلاكه. وكان ينزل بنظره إلى جهنم فيرى الأبالسة مهتمين بتهييج رؤساء الكهنة والشعب، كما كان يرفع نظره إلى السماء فيرى الآب وقد رضى بتضحيته لأنه هو نفسه قد رضى بخلاص البشر.

ولكن كانت العلة الأصلية فى حزن نفسه فى البستان هى أنه وهو يصير خطية لأجلنا كقول الكتاب “كلنا كغنم ضللنا . ملنا كل واحد إلى طريقه . والرب وضع عليه إثم جميعنا” (إش51: 6) فيخيل لنا أن يسوع فى تلك الساعة نظر آثام القرون العابرة وآثام القرون القادمة وخطايا كافة البشر. ذنوب الشيوخ والأحداث والجرائم الأصلية الموروثة والجرائم الفعلية، وكلها قد تجمعت كسحب سوداء التقت فى نقطة واحدة وأتت عاصفة شديدة عظيمة ودفعتها لتنحدر زوبعة هائلة على شخصه المبارك. فكان قلبه كبحيرة عميقة فائضة انسكبت فيها ألوف الجداول التي تحاكي آثامنا ومعاصينا التى كلف بوفاء دينها وهو الخالى من كل عيب “أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن فى فمه غش” (إش53: 9) حقاً إن “الله جعل الذى لم يعرف خطيئة خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه” (2كو5: 21) فإن شهادة الله للمسيح هو أنه كان قدوساً بريئاً من الخطية، وهذا يطابق قول المسيح لليهود “من منكم يبكتنى على خطية” (يو8: 46) وقوله “إن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شىء” (يو 14: 30) وقول الرسول عنه “إنه مجرب فى كل شىء مثلنا بلا خطية، وأنه رئيس كهنة… بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وأنه بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب” (عب4: 15 ، 7: 26 ، 9: 14) .

 

فكون المسيح خاليا من الخطية شرط ضرورى للتكفير عن الخطاة، وسر الفداء أن الله الذى لا يعرف الخطية صار خطية، أى نسب إليه خطية غيره وعامله معاملة خاطىء، فوضعت أثقال جميع البشر على المسيح كحمل وضع على ظهر إنسان، وقد وضعت على رأسه كما كان يضع رئيس الكهنة فى القديم على رأس الذبيحة خطية الشعب المحبوب فى شخصه (لا 16) .

فلماذا هذا الحزن الثقيل الذى تكبده يسوع. والضيق والمر الذى قاساه، والأوجاع الشديدة التى تحملها بصبر حتى فتت أحشاءه إيلاماً ومزقت قلبه احتراقاً؟ إنما هو لكى يحمل أحزاننا ويرفع أوجاعنا، لذلك سلم ذاته لحزن مفرط طوعاً واختياراً بل تفضلاً وحنواً لكى ينقلنا من حزن أبدي وأوجاع خالدة إلى حياة سعيدة باقية .

كان مخلصنا يحزن ويتأوه “من ثقل خطايا العالم” الذى وضع عليه ، وما أثقل هذا الحمل، فلا توازيه الرمال ولا التلال ولا الجبال.

لما ذكر عزرا خطايا الشعب الاسرائيلي عبَّر عنها أنها ثقيلة وجسيمة (عز 9: 6) فكم تكون ثقيلة خطايا العالم أجمع التى تحملها ابن الله، كما قرر يوحنا عنه أنه “يرفع خطايا العالم” (يو1: 29)، وإذا كانت خطية فرد واحد لا تحتمل كما قال قايين “ذنبى أعظم من أن يحتمل ” (تك4 :13) وكما قال داود فى (مز38: 4) فكم بالحرى الذى حمل ثقل خطايا البشر كافة “الذى حمل هو نفسه خطايانا فى جسده” (1بط2: 24) وقد قال الرسول “هو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم  أيضاً” (1يو2:2).

إن أصغر خطية ترتكب هى إهانة غير متناهية لجلال الله، وهذه الإهانة تستحق عقابا غير متناه. فكم بالحري تعدد خطايا كل العالم. وكيف يترك يسوع الكفيل الذى يغار علي مجد أبيه خطايا لايحصى عددهامن غير أن يفي عنها؟.. نعم..لقد اقتضى أن يتكبدعقوبات متنوعة مختلفة غير محصاة فإنه لما أخذ على نفسه القيام بوفاء ما علينا من الديون صار مسئولاً أمام أبيه عن كل الخطايا وأضحى مطالباً بالتعويض عن جميعها. فيا لعظم الأوجاع التى اضطر ابن الله أن يحملها ليهدىء غضب أبيه المهان من الخطية يبغضها بغضا شديداً.

قال ناثان النبي لداود “الرب أيضا قد نقل عنك خطيتك” (2صم12: 13) فافرحوا وتهللوا أيها الخطاة لأن خطايا البشر نقلت من على ظهوركم كي توضع على منكبي المسيح.

فتأملي يا نفسي فى آثامك التى أحزنت نفس سيدك لا سيما عصيانك، الذى تجلى فى إنكارك آلامه من أجلك، وتجديفك وكفرك وانغماسك فى شهواتك وظلمك. من أجل ذلك سال عرق ابن الله كقطرات الدم، ولا تعجب لذلك، فإن الوالدين إذا توفى ولد وحيد لهما يفقدان كل تعزية، فما عساه يكون حزن المسيح على عدد لا يحصى من النفوس التى تهلك فى النيران الأبدية كل يوم .

حقا إن رضاء الابن بالموت من أجل الخطاة لهو أعظم غلبة، فبستان جثسيماني كان موضعاً لأعظم معركة شهدها التاريخ ولو أنها معركة داخلية. فيها نرى مصارعة بين طريقين كالمصارعة بين النور والظلمة. فإما أن يقرر المسيح أن ينتحى عن الصليب، ومن ثم تنتصر قوات الشر وينهزم هو، وإما أن يقرر خلاص البشر مهما كلفه من مشقة لذلك فتح المخلص باب الحياة حينما قال “لتكن لا إرادتي بل إرادتك” وحينئذ أخذ يسير نحو غرضه بهدوء مقرون بالجلال، فقد عبر الألم وعبر إلى الأبد، ولم يكن ظلام البستان إلا ظل جناحي الله، وقد سبق أن دخل يعقوب ذات الظلمة المخيفة وصارع مع الملاك وخرج من المصارعة باسم جديد وطبيعة جديدة، هكذا خرج ابن الله منتصراً فى البستان منذ قرر فى نفسه الموت لخلاص العالم. نعم لقد قبل يسوع شرب الكأس المملوء غضباً ليمنحنا كأس الخلاص المروي، وقبل مقاساة ساعات الدينونة المتقدة لهيباً ليقينا من دينونة جهنم .

فهيا يا نفسي انطلقي إلى بستان جثسيماني وتأملي فى إلهك الذى قال “نفسي حزينة جداً حتى الموت” وقولى له: لماذا تتألم ولماذا تبكي؟ أتخاف وأنت الذى شجعت كثيرين من الشهداء على احتماله؟ نعم لقد تشجع الشهداء مما أخذوه منك وخشيت أنت مما أخذته منا. فليس لك إلا الخير، وليس لنا إلا الشر. فإذاً الخوف هو لى والقوة هى لك، إن عارك هو لي، ومجدي وفخري هما لك دائماً.

انتبهي يا نفسي واعلمي أن يسوع وهو فى البستان كان منهمكاً فى وفاء ثمن ديننا، وأن علة حزنه هى الخطية فخافى لئلا تصيري إحدى النفوس التى أحزنت يسوع وسببت له الانزعاج العظيم. إذا كنت خاطئة كيف ترفعين عينيك إلى مخلصك ولا تذوبين خزياً وخجلاً عندما تشاهدينه يحزن عليك، فإن كان قلبك قاسياً حتى أن حزن سيدك لا يؤثر فيك فلا أقل من أن تحزني على خطاياك التى سببت له الأحزان. وإنه لمن أشد دواعي حزن يسوع مشاهدته الناس ينكرون جميله، فهل أنت ممن كان يبكي عليهم يسوع فى البستان؟ أحذري يا نفسي واذكري فضله ولا تدعيه يذرف عليك دمعة أخرى وكفى ما قد ذرفه من دموع سخية غزيرة.

 

 

العظة الخامسة لآباء معاصرين – ليلة الجمعة العظيمة

ليلة الجمعة العظيمة (سنة 1978)لأبونا بيشوي كامل[49]

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

أحداث هذا اليوم العظيم يا أحبائي أعظم وأكبر بكثير جداً من أن تسجلها كل الكتب المكتوبة في العالم، ولكننا أردنا أن نركز انتباهنا بنعمة الروح القدس ليس على الأحداث الكثيرة التي لا نهاية لها، التي تمت في هذا اليوم، ولكن أردنا أن نركز أنظارنا لشخص الرب يسوع، وماذا قدمه لنا بقدر ما تكشف لينا النعمة؟ لأن من يستطيع أن يدخل إلى أعماق قلب الله، من يستطيع أن يعرف أن يدخل إلى أعماق مشاعر المُخلص، والإنجيل يتحدث عنه إنه كان يَدهش، ويكتئب وينزعج، ويصلي، وكانت قطرات العرق تتساقط كقطرات دم على الأرض .

من منا يستطيع أن يحس بإحساساته.. صعب علينا جداً، مين يقدر يحس بإحساسات ربنا يسوع المسيح.. وبطرس بيلعنه وبيسبه، ونظر إليه يسوع وأنقذه، من يستطيع أن يحس بإحساسات معلمنا مُخلصنا والغاش الخائن يأتي لكي يقبله بفمه لم يجد علامة أخرى يعطيها لرؤساء الكهنة والكتبة التي كانت ملازمة ليهم إلا القبلة الغاشة، الكتاب المقدس يقول إن ربنا يسوع قال له “أبقبلة تسلم ابن الانسان”، ومرة أخري من يقدر أن يدخل إلى مشاعر قلب يسوع وهو يُلطم علي وجهه ويبصق عليه ويلكمونه ويغطونه ويسألونه من الذي لطمك؟.

كل هذه الأمور لخصها ربنا يسوع المسيح في كلمات بسيطة قال “هذه ساعتكم وسلطان الظُّلمة”، في ساعة اسمها سلطان الظُّلمة، هذه ساعتكم وسلطان الظُّلمة، وكما قلت يا أحبائي نحن نريد أن نركز في شخص ربنا يسوع المسيح.. ماذا قدم لنا في هذه الساعة؟.

في الصباح رأينا تواضعه الإلهي لما الإله الذي الشاروبيم يغطون وجوههم من أجل عظمة بهاء مجده نزل عند قدمي كل واحد منا لكي يغسلها وهو يعلم بنجاسة قلوبنا ورأينا السيد هيهبنا الحياة ويقدم لينا الحب ويكسر جسده ويغسل خطايانا ويجدد دم حياتنا ويهبنا دمه المسفوك. رأيناه بالأمس طيباً مسكوباً على الصليب، يجذب إليه الجميع في حب غير محدود عبرت عنه المرأة بالطيب.. هذه الليلة يا أحبائي الأناجيل الأربعة سجلت لينا إن هو خرج إلى الجبل بعد العشاء سبّح وخرج إلى جبل الزيتون وبعدين اختص يوحنا الإنجيلي بأنه سجل لينا ما لا يقدر، إنه سجل لنا تسبحته بعد العشاء في الإصحاحات الـ (١4،١٥،١٦،17) . وهذه الإصحاحات الأربعة هي كنز لا نهاية له للكنيسة عبر الأجيال، إن كان ربنا يسوع قدم لينا صومه أربعين يوم على الجبل، وقدم لينا ذاته على الصليب، فالليلة دية قدم لينا صلاته. ولا أريد أن أنظر إلى صلاة يسوع إنه كان محتاج إلى صلاة. لأنه لم يفعل خطية، ولا وجد في فمه غش، وهو الذي قال لبطرس أنا اللي أقدر أطلب اثني عشر جيش من الملائكة، ورجع السيف لغمده. ولكن صلاة يسوع الليلة بعد تسبحته تضم إلى صلاة الكنيسة في كل جهاد، وفِي كل تعب تتعبه الكنيسة عبر الأجيال كلها، زي ما أحنا بنعتبر إن صوم ربنا يسوع المسيح بيضم للصوم بتاعنا، ونقول المسيح صام عنا.. فالمسيح الليلة دية صلى من أجلنا، صلى من اجلنا جات الساعة، ساعة سلطان الظُّلمة، فأخذ تلاميذه بطرس ويعقوب ويوحنا وخرج إلى ضيعة او إلى حقل بعد ما سبح اسمه جثسيماني، ووقف يصلي وكان يجاهد في الصلاة. وبعدين يرجع الكتاب يقول: وكان يصلي بأكثر اشتياق أو بأشد حرارة، الصلاة أتابيها بتاعة المسيح اللي قدمها لنا تبتدي هادئة وتزداد تشتد حرارة، ولم تكن صلوات طويلة التي سجلها عكس التسبحة اللي اتسجلت في الأربع إصحاحات، لكن كانت الصلاة مركزة جداً، كان الكأس قدامه كان سلطان الظُّلمة.. كانت ساعة الظُّلمة جات.. كانت لسة طبعاً مسلمهوش، ولا لِسَّه اتشتم ولا انبصق في وجهه، ولا اتعمل حاجات من دي. لكن رب المجد كل ده مكشوف أمامه علشان كدة قال: قد أتت الساعة.  فالساعة كانت كلها كانت قدّامه وبعدين هو بقي شاف حاجة قال أنا قدامي كمان كأس صعب جداً، كأس إيه؟ كأس سم وأكثر من السم .

زمان يا أحبائي في العهد القديم لما الشعب عصي ربنا فبعث لهم حيات فكل حية لدغت واحد وحطت له شوية سم في جسمه، وتو ما السم دخل جسم أي واحد على طول تتحول حياته ينتقل للموت. المسيح في الليلة دية شاف الكأس زمان قال لهم أعملوا حية نحاسية على مثال الصليب، واللي ينظر لها تستطيع هذه الحية النحاسية أن تمتص السم من جسمه، إيه الكأس اللي كان موجود قدام المسيح؟ ده الكأس وكان فيه سم خطايانا كلنا.. سم خطايا البشرية، تقول لي ليه بتسميه سم؟ لأن أجرة الخطية موت، وإذا كان السم بتاع الحية في العهد القديم بيقتل الناس، فالخطية أيضاً تقتل النَّفس، فربنا شاف خطايا الأجيال كلها السابقة واللاحقة في كأس موضوع قدّامه، وشاف كمان قدّامه ساعة سلطان الظُّلمة، كل ده اتحط قدام يسوع .

 

ماذا يصنع يسوع؟ وقف يصلي وكانت الصلاة كقطرات العرق نازل كقطرات دم، فابتدأ يكتئب ويدهش وقال الكلمات دي: “إن شئت أن تعبر عني هذه الكأس ولكن لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك”، فالكأس كانت كأس مرة جداً اللي يسوع بيشيلها النهاردة، ولكن رجع علي طول وراها.. “ولكن أيها الآب من أجل هذه الكأس قد أتيت”، طب ليه أنت طلبت أن تتشال الكأس؟ أنا لم أطلب أن ترفع الكأس ولكنني أردت أن أكشف ليكم أن هذه الكأس لا تحتمل، ولولا إن أنا إله ولو كان انسان أو أي مخلوق في الوجود شاف الكأس دية وشاف السم اللي موجود فيه ما كان ممكن أبداً يستطيع أن يعيش لحظة واحدة، ولكن المسيح رب المجد شاف الكأس دي وحب يكشف لنا إيه اللي فيها، تعرف إن الكأس دي لا تقل أبداً عن الكأس بتاعة الصليب، بل هي عينها كأس الصليب لأن علي الصليب اتسفك دمه، لما دقوا المسامير في رجليه، وزي ما قلنا النهاردة إن هو قدم جسده بملء حريته واختياره. فهو النهاردة عرقه نزل كقطرات دم، فالدم طلع من جسمه نزف من جسمه بملء حريته من أجل الكأس اللي موجودة قدّامه، الكأس اللي موجودة قدّامه هي خطيتي وخطيتك، لا يمكن أن تقابل إلا بدم المسيح وبعرقه وبصلاته وبدموعه، لأجل هذا يا حبيبي الليلة دموع المسيح وعرقه ودمه هو نصيبنا في صلاة المسيح الأخيرة، هو ده الذي يضم إلى كل عرق في الصلاة وإلى كل دموع في الصلاة وإلى كل تعب تؤديها الكنيسة في عبادتها. فالمسيح قدم كل ده.. هو ده، نصيبنا فيه الليلة، هو ده متعتنا هو ده المسيح بتاعنا.. اللي في ساعة الظُّلمة ما سابناش لوحدينا، لكن يقدم عرقه ودمه وصلاته ودموعه، صلى وقال لبطرس وتلاميذه صلوا معايا، قالوا له إحنا كابس علينا النوم، قال لهم تفتكروا وأنا باصلي علشان نفسي؟ أنا بصلي من أجلكم، يا بطرس أنا صليت لكيلا يفني إيمانك، هذه ساعة سلطان الظُّلمة اسهروا معي ساعة واحدة، أنا صلاتي دي ليست من أجلي، لكنها من أجلكم، يا أحبائي إحنا بنغلط كثير إن أحنا بنفكر إن أحنا بنقدم للمسيح شيء، وبنقدم ليه صلاة أو بنقدم ليه عبادة، ولكن حقيقة الصلاة هي من أجلنا لكي نجتاز ساعة الظُّلمة وتؤازرنا صلاة المسيح. وما من واحد منا وقف يصلي بعرق وبدموع أمام المسيح إلا والمسيح يجي في ريحه وينزل عرقه كقطرات الدَّم .

ورَّانا المسيح إن فيه ساعة إسمها ساعة الظُّلمة، وإحنا الكنيسة بتاعتنا بتمر بتجارب كثير ويقول لك الحق في مين معرفش مين الولد ده هيغير ينكر مسيحه والولد ده هيعمل كذا أو حيحصل كذا والتجربة الفلانية دية وحاجات كثيرة، ومشاكلنا العائلية وفتورنا الروحي وشبابنا وبناتنا وأولادنا وحاجات كثيرة خالص هذه كلها يا أحبائي ساعات الظُّلمة، بماذا نقاومها؟ كيف نقاومها؟ في رأي عن إحنا نقاومها بالسيف، سيف بطرس.. سيف بطرس عمل له إيه؟ سيف بطرس وقف قدام الجارية عمل حاجة؟ آدي سيف بطرس شفت الفضيحة سيف بطرس قدام الجارية راح فين؟ شجاعة بطرس قدام الجارية راحت فين؟ سيف بطرس لا يتعدي الجارية، يعني الجارية أقوي من سيف بطرس جارية تهزأ بطرس وتكشفه خالص ولا السيف ينفعه حاجة يبقي ما قيمة السيف في ساعة سلطان الظُّلمة؟

لابد ان ننتبه يا أحبائي إن ساعة سلطان الظُّلمة هي من صنع الشيطان ، والشيطان لا يحارب بسيف، الشيطان يحرك بيلاطس يحرك هيرودس يحرك رؤساء الكهنة، ويحرك الكتبة، ويحرك الشعب، مكنش خطة بشرية، الدليل على ذلك أن المسيح كان لسة طفل في المزود، وهيرودس هاج وثار، وقتل كل أطفال بيت لحم، وعمل مجزرة. إيه اللي عمله المسيح فيه؟ ولا كان حد لسة حتي يعرف عن المسيح شيء، لكنه والشيطان، في ساعة سلطان الظُّلمة. ساعة سلطان الظلمة يا عزيزي لا تقاوم أبداً بالسيف، وساعة سلطان الظُّلمة نحن نجتازها في غربة هذا العالم، بتجتازها أنت في تجربتك، وبتجتازها في طريقك بتجتازها في عملك، وساعة سلطان الظُّلمة فيها ظلم وفيها شر، وفيها إغراء وفيها دنس، وفيها حرب من الشيطان، مين مننا مش بيمر بالساعة دي؟ مين مننا ما بيمرش بساعة سلطان الظُّلمة اللي يتبهدل أحسن حد .

يا بطرس أنا صليت لأجلك كي لا يفني إيمانك، طب إزاي يا ربي نواجه ساعة سلطان الظُّلمة؟ قال بالصلاة وأنا في الصلاة بتاعتي دي يخليها ذخيرة محفوظة ليكم في الكنيسة كل واحد منكم في ساعة سلطان الظُّلمة أنا واقف معاه، كل واحد يعرق أنا أعرق معاه، كويس مفيش حاجة ثانية، وحكاية السيف قال بقي رجعوه بقي أرموه، أمال أنت كنت قلت اللي عنده ثوب يبيعه ويشتري سيف.. قال كنت باضحك عليهم كده عشان أشوف يعني استعدادهم إيه؟ فقالوا هنا سيفين إثنين، فقلت لهم هذا يكفي، يعني كفاية بقي.. كفاية كفاية تفكيركم السطحي ده، سيفين قدام كتيبة جاية بأسلحتها. ساعة سلطان الظُّلمة يا احبائي لا تقاوم إلا بالصلاة، ويسوع جوارنا وبعدين يقول إيه؟ فجاء ملاك من السماء ليقويه. أنا عاوز أسأل سؤال دلوقت صلاة المسيح دي شالت الكأس؟ يعني غلبت الناس بتوع سلطان الظُّلمة؟ أبداً سابتهم زي ما هم، أمّال أيه اللي حصل؟ اللي حصل كدة.. اللي حصل إيه الملاك جه يقوي المسيح، وطبعاً المسيح مش محتاج لقوة لكن، أراد ان هو يعلن لينا أن صلواتنا ودموعنا وعرقنا ما وقتعش على الأرض، لكن بتيجي الملائكة تقوينا، طب ولما الملائكة تقوينا يحصل إيه؟ قال اللي يحصل إن أحنا مبنلغيش ساعة سلطان الظُّلمة ولكننا نجتازها بملء السلام، بطرس بعديها زي الشعرة من العجينة، بطرس طلع إزاي؟ ده وقع في فخ سب ولعن وبقي في حرج شديد، فنظر إليه يسوع وجاب له الديك فكره وطلع بطرس برة وبكي بكاء مراً واجتاز ساعة سلطان الظُّلمة، ولم يحدث له أي شيء بالمرة، ورجع بتوبة صادقة قوية جداً، ساعة سلطان الظُّلمة يا أحبائي صلواتنا مش معناها إن أحنا نلغيها، ولكن معناها إن الملاك يجي من السماء يقوينا، والمسيح يقف بجانبنا يؤازرنا ونجتاز أحلك ساعات الظُّلمة في تاريخ الكنيسة وتخرج الكنيسة بنعمة المسيح مكللة بالمجد والعظمة وتبقي قوية زي ما بيقول عنها سفر نشيد الأنشاد “من هذه الطالعة من البرية المستندة على حبيبها” شوف هي واقفة فين؟ مستندة على حبيبها، الطاهرة كالشمس.. المشرقة كالصباح، الجميلة كالقمر، من هذه الطالعة من البرية المعطرة بالمر طالعة من البرية ومعطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر، من هذه الطالعة من البرية كجيش بألوية.. مرهبة كجيش بألوية.. هذه هي الكنيسة، شوف يا عزيزي مار جرجس اجتاز ساعة سلطان الظُّلمة دخل في أوضة وبعدين لاقوه شاب بتاع عشرين سنة، قالوا بس وقع في الفخ، شاوروا على دقلديانوس شورة شيطانية قالوا نجيب له بنت خليعة جداً وعلى ما يجي الصبح يكون انتهي مار جرجس، لكن لأن قوته في قداسته وطهارته وروح ربنا اللي ساكن فيه وقف مار جرجس يصلي بعرق وبدموع والمسيح بجانبه والملاك يقويه، وجت البنت كده قربت منه وقالت له جابوني عشان يسقطوك بسحر خلاعتي، وانت أثرتني بسحر طهارتك، وثاني يوم نالت إكليل الشهادة واجتاز مار جرجس سلطان ساعة الظُّلمة.

سلطان ساعة الظُّلمة يا أحبائي.. لا تعني إن صلواتنا تلغيها، ولكن تعني إن الرب يجتازها معنا، وإننا نستند على صدره ونخرج مشرقين كالشمس، مشرقين كالصبح، وأطهار كالشمس ونخرج مرهبين كجيش بألوية ونخرج معطرين بالمر واللبان .

 

هذا هو كنزنا الذي أخذناه من صلاة ربنا يسوع المسيح في هذه الليلة لكي يضم إلى كل جهاد الكنيسة عبر الأجيال كلها لكي ندرك يا أحبائي عمق تسبحة الرب يسوع في هذه الليلة وعمق صلاته وده ختام الأمر كله، الجالس علي الشاروبيم الذي ركب علي جحش ابن اتان، الذي ولد في المزود الحقير، الذي صام عنا أربعين يوماً وأربعين ليلة، الذي جرب من الشيطان الخبيث، والذي تقدم وغسل أرجل يهوذا في هذا الصباح، والذي كسر جسده وأعطانا حبه ووهبنا الحياة الأبدية.. ماذا يقول في صلاته الوداعية؟ أريد يا أحبائي أن نقرأ هذه الكلمات من الإصحاح الأخير من الجزء الأخير من الإصحاح الـ ١٧ من إنجيل معلمنا يوحنا الحبيب “لست أسأل من أجل هؤلاء فقط بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم ليكونوا الجميع واحد، كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا” . بيقول له زي ما أنا واحد فيك أنا عاوز دول كمان يكونوا واحد فيّ ليؤمن العالم أنك أرسلتني وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكملين إلى واحد، وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني أيها الآب أريد أن هؤلاء الذي أعطيتني يكونون معي حيث ما أكون. لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم، أيها الآب البار إن العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أرسلتني وعرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم .

هل كنت تتوقع يا عزيزي أن نهاية جهاد المسيح على الأرض وصلواته وطلباته وكل الأعمال التي عشنا فيها في الأيام دي هل كنت تتوقع أن نصيبنا هيكون الوحدانية مع الله، ماذا يطلب المسيح في صلاته الوداعية أو في تسبحته الأخيرة، يقول أيها الآب أريد أن هؤلاء يكونوا واحداً فيّ كما أنا واحد فيك.. هل تتخيل مركزك الذي ستصل إليه بعد هذا الجهاد وبعد ما قدمه المسيح ليك؟ ماذا قدم لينا المسيح الليلة؟ ليس صلاة فقط، ولكن كشف سر جديد في حياتنا إننا صرنا أعضاء في جسم المسيح، وفِي حديثه أيضاً في إنجيل الباراقليط في هذا المساء يقول “أنا هو الكرمة وأنتم الأغصان أثبتوا فيّ كما أنا ثابت في الآب، أثبتوا أنتم أيضاً فيّ” “كل غصن لا يثبت فيّ ولا يأتي بثمريقطع، واللي يثبت فيّ ينقيه ويأتي بثمر كما أن الغصن لا يأتي بثمر من ذاته إلا إذا كان ثابت في الأصل، هكذا أنتم أيضاً “.

خلاصة القول يا أحبائي أنتم بالنعمة السماوية مدعويين لتكونوا أعضاء في جسم المسيح ومعنى هذا أنكم ستتمتعون بالمجد الذي له، الذي له كقول معلمنا بولس الرسول حتي عندما أظهر المسيح حياتنا تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد، من أجل هذا يا أحبائي اعرفوا قيمتكم الكبيرة اللي كشفها لنا المسيح في صلاته الأخيرة. أريد أن يكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم، المسيح النهاردة ملأ قلبنا بالحب، ليس من أي نوع من أنواع الحب اللي في العالم ولا حتي من الحب بتاع المرأة اللي سكبت الطيب ده يقول يكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم الحب الإلهي أنسكب في قلب الإنسان، يا للعجب يا للمجد، يا للعظمة التي وهبت لينا في هذه الليلة، يا للفرح، يا للسعادة!! إنه ليس أسبوع ألام إنه اسبوع مجد، إنه اسبوع فرحنا ، إن الحب الإلهي انسكب في قلبنا الحب الذي للآب في الابن قد انسكب في قلوبنا بالروح القدس .

يا أحبائي أريد أن هؤلاء يكونون واحداً فيّ، هل كنت تتصور إن الإنسان التافه النَّجس الساقط المعرض للخيانة والشر والدنس والإنكار يكون واحداً في المسيح؟ ألم يقل بولس الرسول لتكن حياتنا مستترة مع المسيح في الله هل كنت تتوقع أن تكون واحداً مع المسيح يسوع . “أنت تأكل جسده ودمه من يأكلني يحيا إلي الأبد ويكون واحداً فيّ” هذه هي طلبة المسيح الأخيرة أن الآب يجعلنا واحداً فيه، هل كنت تتوقع يا عزيزي أن يكون لك المجد الذي للمسيح؟ لأنك عضو في جسده لذلك يقول “اريد أيها الآب أن هؤلاء يكونون معي لكي يروا مجدي الذي أعددته لي قبل كون العالم هذه هي صلاة المسيح من اجلنا، في هذه الليلة صلى ربنا يسوع وقال الذين أعطيتني لم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك، أيها الآب قدسهم في حقك، من أجلهم أنا أقدس ذاتي، رب المجد يسوع القدوس يقول من أجلهم أنا أكرس ذاتي أقدس هنا بمعنى أكرس أو أخصص ذاتي ليهم، هل كنت تتوقع أن ذات المسيح كلها مكرسة من أجلك أنت أيها العزيز مهما كانت حالتك؟ بدأت تفهم كل ما كتب في الإنجيل.. كلمة كلمة، من بدايته إلي آخره أن النهاية أن تكون واحد في الآب وأن المسيح معك لكي تكون عضو فيه تجتاز معه ساعة سلطان الظُّلمة، لكي ينقلنا إلى مجده، لكي يكون فينا الحب الذي فيه مع الآب لكي نكون واحداً كلنا فيه.

من أجل هذا يا أحبائي نحن نمجده ونرفع اسمه لأنه صنع معنا رحمة كعظيم رحمته ونحن نسبح هذه التسبحة في هذه الليلة ونقول قوتي وتسبحتي هو الرب قد صار لي خلاصاً مقدساً .

لإلهنا المجد الدائم أبدياً آمين .

 

 

العظة السادسة لآباء معاصرين – ليلة الجمعة العظيمة

بطرس الرسول (غسل الأرجل والسهر والإنكار ) – للقمص إشعياء ميخائيل[50]

الرب يغسل رجلي بطرس !!.

لماذا لا أقدر أن أتبعك؟.

يا سمعان أنت نائم !!.

السيف.

فأنكر.

طلبت لأجلك.

أولاً: الرب يغسل رجلي بطرس (يو١٣: ٣– ١٥)

إن الرب يسوع هو الله الذي ظهر في الجسد، “لكنهُ أخلَى نَفسَهُ، آخِذًا صورَةَ عَبدٍ، صائرًا في شِبهِ الناسِ” (في٢: ٧). وهكذا فان الرب يسوع تمم كل واجبات العبد وتمت فيه نبوه العبد أيضاً (إش٥٣)، ولذلك كان على الرب أن يغسل أقدام التلاميذ قبل الصليب مباشرة ليعلن أنه هو العبد. وإذ بيع الرب بثلاثين من الفضة، كان هذا هو ثمن بيع العبد. أيضاً لقد “قامَ عن العَشاءِ، وخَلَعَ ثيابَهُ، وأخَذَ مِنشَفَةً واتَّزَرَ بها، ثُمَّ صَبَّ ماءً في مِغسَلٍ، وابتَدأَ يَغسِلُ أرجُلَ التلاميذِ ويَمسَحُها بالمِنشَفَةِ التي كانَ مُتَّزِرًا بها” (يو13: 4، 5).

ولقد انفرد القديس يوحنا بسرد رواية غسل أرجل التلاميذ دون البشيرين الثلاثة. أولاً لأنه كان مهتماً بإبراز لاهوت المسيح، وأن الرب يسوع المسيح هو الله الذى ظهر في الجسد. وثانياً لأنه كان يسرد ما سكت البشيرون الثلاثة عن سرده.

وحين جاء دور بطرس الرسول في غسل رجليه تعجب وحاول أن يمنع الرب عن ذلك وقال “أنتَ تغسِلُ رِجلَيَّ!”، ولكن الرب قال له “لستَ تعلَمُ أنتَ الآنَ ما أنا أصنَعُ، ولكنكَ ستَفهَمُ فيما بَعدُ”. متى سيفهم بطرس الرسول؟ بعد أن يحل عليه الروح القدس يوم الخمسين ويفهم أن الرب تمم عمل العبد لأنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد. لقد تجاسر بطرس وقال للرب “لن تغسِلَ رِجلَيَّ أبدًا!”، ولكن الرب يسوع قال له “إنْ كُنتُ لا أغسِلُكَ فليس لكَ مَعي نَصيبٌ”. وعندئذ لكى يكون لبطرس نصيب قال له “ليس رِجلَيَّ فقط بل أيضًا يَدَيَّ ورأسي”، ولكن الرب قال له “الذي قد اغتَسَلَ (في المعمودية) ليس لهُ حاجَةٌ إلا إلَى غَسلِ رِجلَيهِ”.

ثم أمر الرب التلاميذ أن يفعلوا كما فعل هو معهم “فإنْ كُنتُ وأنا السَّيِّدُ والمُعَلِّمُ قد غَسَلتُ أرجُلكُمْ، فأنتُمْ يَجِبُ علَيكُمْ أنْ يَغسِلَ بَعضُكُمْ أرجُلَ بَعضٍ، لأنِّي أعطَيتُكُمْ مِثالاً، حتَّى كما صَنَعتُ أنا بكُمْ تصنَعونَ أنتُمْ أيضًا”.

وفى غسل الرب أرجل التلاميذ دروس كثيرة نتعلم منها العديد من الممارسات الروحية:

بدون الاتضاع يستحيل أن يكون لي نصيب في الخدمة. والرب يسوع نراه دائماً في آخر الصفوف يقول “تعَلَّموا مِنِّي، لأنِّي وديعٌ ومُتَواضِعُ القَلبِ”. وهو يعلمنا الاتضاع ليس بالكلام والوعظ، ولكن بالعمل والممارسة .

إن انحناء الرب وغسل أرجل التلاميذ هو إشارة لعمل سر التوبة الذى يغسلنا من أفعالنا وسلوكنا، الأرجل تستخدم في المشي والسير ونحن نتسخ في مشينا وسلوكنا ومسيرتنا، ولذلك نحن نقدم توبة، والرب يغسلنا من خطايا سلوكنا.

إن غسل الرأس والأيدي والأرجل يتم في المعمودية حيث نغسل من خطية أبونا آدم التي ورثناها. أما غسل الأرجل فقط وهو الاغتسال في التوبة من خطايانا بعد المعمودية.

مطالبة الرب لنا ان نصنع كما صنع هو معناه :

احتمال ضعفات الآخرين وعدم التأفف منهم .

اختيار الخدمات البسيطة والحقيرة، وعدم السعي نحو خدمة الكرامة والمديح .

ان القدم المتسخ يشير إلى الأعضاء الحقيرة في الجسد، وربما تكون هذه الأعضاء هي نفوس الخطاة أو نفوس الفقراء. ولكن يجب أن ننحني لهم ونحاول أن نغسلهم بالحب والاتضاع .

إن اليد التي غسلت أقدام الرسل هي تلك اليد التي لها هذه الصفات :

الطاهرتين: لا تعرفان طريق النجاسة.

اللتين بلا عيب: لم ترتكبا أي إثم.

ولا دنس: لم تتدنسا بأي خطية أخرى (أي عمل يغضب الله).

الطوباويتين: في عمل الخير الدائم.

المحييتين: دائماً مرفوعتان لعمل الصلاة الدائمة.

وهكذا إذ يكون لنا يدان مثل يدى السيد نستطيع بهما أن نغسل أقدام الآخرين. ولكن إن لم تكن يدانا مثل يديّ الرب طاهرتين وبلا عيب ولا دنس وطوباويتين محييتين فلا نحاول أن نعمل شيئاً قبل أن نتطهر أولاً.

 

ثانياً: لماذا لا أقدر أن أتبعك

تحدث الرب يسوع المسيح عن الصليب واحداثه فقال للتلاميذ أثناء جلوسهم حول الرب يتناولون من آخر فصح يصنعه الرب معهم. قال لهم أولاً “الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنَّ واحِدًا مِنكُمْ سيُسَلِّمُني!”، ثم أومأ سمعان بطرس ليوحنا الذى كان متكئاً في حضن يسوع يسأله ثم “أجابَ يَسوعُ: هو ذاكَ الذي أغمِسُ أنا اللُّقمَةَ وأُعطيهِ!. فغَمَسَ اللُّقمَةَ وأعطاها ليَهوذا سِمعانَ الإسخَريوطيِّ” (يو١٣: ٢١– ٢٦).

ثم استطرد الرب يقول لبقية التلاميذ بعد خروج يهوذا من وسطهم “يا أولادي، أنا معكُمْ زَمانًا قَليلاً بَعدُ. ستَطلُبونَني، وكما قُلتُ لليَهودِ: حَيثُ أذهَبُ أنا لا تقدِرونَ أنتُمْ أنْ تأتوا، أقولُ لكُمْ أنتُمُ الآنَ” (يو١٣: ٣٣) . ثم حدثهم بعد ذلك عن وصية المحبة التي شدد عليها جداً وقال لهم “بهذا يَعرِفُ الجميعُ أنَّكُمْ تلاميذي: إنْ كانَ لكُمْ حُبٌّ بَعضًا لبَعضٍ” ( يو ١٣ : ٣٥ ). تم دخل بطرس في نقاش شخصي وحوار فردي مع الرب المعلم، لقد كان بطرس يتميز بالجرأة والصراحة في التعبير والاندفاع في الحديث، ولكن الرب كان يفرح جداً بحديث بطرس حتى لو كان مقروناً بالجرأة والاندفاع. لقد سأل بطرس الرب قائلاً له “إلَى أين تذهَبُ؟” (يو١٣: ٣٦)، لقد نسى بطرس ما قاله الرب مراراً وتكراراً عن الصليب والموت اللذين سوف يكملهما ولكن ما أصعب على الرب أن يرانا ننسى كلامه ووصاياه فقال له الرب “حَيثُ أذهَبُ (لأصلب) لا تقدِرُ الآنَ أنْ تتبَعَني، ولكنكَ ستَتبَعُني أخيرًا (بعد حلول الروح القدس)” (يو١٣: ٣٦). ولم يقدر بطرس أن يقف في موقف التلميذ المدان والأبن المقصر بل سأل الرب قائلاً: لماذا لا أقدِرُ أنْ أتبَعَكَ الآنَ؟ (يو١٣: ٣٧).

وها نحن نسأل الرب مع بطرس، لماذا لا نقدر أن نتبعك الآن يا رب؟.

ففي هدوء يهمس الرب في آذاننا عن سبب عدم قدرتنا على تبعية الرب :

الذات :

هي سبب يعيق تبعيتنا للرب. ولذلك يقول لكل منا أن من يريد أن يتبع الرب لا بد أولاً أن ينكر ذاته، ويعني أنكار الذات أن يترك الإنسان كل ما يدعى أنه حق من حقوقه سواء كان كرامة أو مديحاً، وألا يتكل الإنسان على قدراته الشخصية وذكائه وفهمه وهكذا نحن لا نقدر أن نتبع الرب لأن ذواتنا لها المكانة الأولى .

رفض الصليب :

هكذا طلب الرب من الذين يريدون أن يتبعوه أن ينكروا ذواتهم وأن يحملوا الصليب كشرط لتبعية الرب. ان حمل الصليب هو قبول كل ألم من أجل الرب. ان الحياة بطولها وعرضها لا تتعدى أن تكون صليباً نحمله، والخدمة بكل صورها واشكالها ليست أكثر من صليب نفرح بحمله. لقد رفض بطرس فكرة الصليب، بل وانتهر الرب وقال له (حاشاك) ولذلك لا يقدر أن يتبع الرب.

الخطية :

بكل صورها وأشكالها وشهواتها وأتعابها وأفكارها تعتبر عائقاً كبير يمنع من تبعية الرب. ان الرب هو نور والخطية هي ظلمة ولا يمكن أن يتلاقى النور مع الظلمة. لذلك أن أردنا أن نتبع الرب فيجب أن نترك كل ظلمة في حياتنا “النّورُ معكُمْ زَمانًا قَليلاً بَعدُ، فسيروا ما دامَ لكُمُ النّورُ لِئلا يُدرِكَكُمُ الظَّلامُ. والذي يَسيرُ في الظَّلامِ لا يَعلَمُ إلَى أين يَذهَبُ. ما دامَ لكُمُ النّورُ آمِنوا بالنّورِ لتصيروا أبناءَ النّورِ” (يو١٢: ٣٥، ٣٦).

الغرباء :

هناك من لا يقدر أن يتبع الرب، لأنه يتبع الغرباء. وأيا كان هؤلاء الغرباء قد يكونوا أشخاصاً وقد يكونوا أفكاراً أو نظريات. أو تعاليم غريبة. هكذا يوصينا الرب ألا نتبع الغريب. والغريب هو كل ما هو مخالف للرب “وأمّا الغَريبُ فلا تتبَعُهُ بل تهرُبُ مِنهُ، لأنَّها لا تعرِفُ صوت الغُرَباءِ” (يو١٠: ٥)، ولكن نحن كثيراً ما نترك الرب ونتبع الغرباء .

الثعالب الصغيرة:

هكذا يوصينا الحكيم سليمان “احذروا الثعالب الصغيرة المفسدة للكروم” نحن كثيراً ما نهمل الثعالب الصغيرة التي تفسد تبعيتنا للرب شيئاً فشيئاً. إن الانحراف الصغير والبسيط يقود إلى انحراف أكبر وأوسع، ثم نكتشف أننا بعيدين عن تبعية الرب. لذلك نحن لا نقدر أن نتبع الرب حيث تكون هناك ثعالب صغيرة في حياتنا تفسد كرومنا.

الناس :

وسط زحام الناس والحديث والأنشغال بهم والأهتمام بفكرتهم عنا أحياناً نصل إلى نوع من العبودية قال عنه الرسول بولس “لو كُنتُ بَعدُ أُرضي الناسَ، لم أكُنْ عَبدًا للمَسيحِ” (غل١: ١٠)، إن ارضاء الناس على حساب المسيح وعلى حساب وصية الرب تحرمنا من تبعية الرب .

الروح القدس :

لقد قال الرب لبطرس “ولكنكَ ستَتبَعُني أخيرًا” (يو١٣: ٣٦). متى تبع بطرس الرب تماماً ؟ بعد حلول الروح القدس عليه وتشكيل وخلق شخصيته من جديد، وهكذا طالما نحن بعيدون عن شركة الروح القدس فإننا لا نقدر أن نتبع الرب، إن  الروح القدس هو الذى يقودنا في تبعية الرب كما كانت السحابة تقود شعب بنى إسرائيل .

لقد قال بطرس للرب “إنِّي أضَعُ نَفسي عنكَ!” وكأن بطرس يريد أن يفدى الرب ولا يذوق الصليب. فكشف الرب لبطرس امكانياته الضعيفة وقال له: “أجابَهُ يَسوعُ: أتَضَعُ نَفسَكَ عَنِّي؟ الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكَ: لا يَصيحُ الدِّيكُ حتَّى تُنكِرَني ثَلاثَ مَرّاتٍ” (يو١٣: ٣٧، ٣٨).

 

ثالثاً: يا سمعان انت نائم:

في بستان جثسيماني اعتزل يسوع عن الجموع واعتزل عن الضوضاء حتى يهيئ نفسه للصليب من خلال الصلاة وتأكيد الشركة والاتحاد  مع الآب. فلا توجد وسيلة نجتاز بها الصليب غير الصلاة. فالصلاة هي سر من أسرار عبور الصليب “وإذ كانَ في جِهادٍ كانَ يُصَلِّي بأشَدِّ لَجاجَةٍ، وصارَ عَرَقُهُ كقَطَراتِ دَمٍ نازِلَةٍ علَى الأرضِ” (لو٢٢: ٤٤). ولكن أخذ الرب بطرس ويعقوب ويوحنا لكى يعلمهم ويعطيهم من بركات الصلاة وأسرار الصليب .

لقد نام الثلاثة  أثناء السهر والصلاة. ان النوم وقت الصلاة والجهاد هو ضياع للفرص الروحية التي يجب استغلالها. كم من فرص روحية يحاول الشيطان أن يضيعها علينا. لقد قال الرب لهؤلاء الثلاثة “أهكذا ما قَدَرتُمْ أنْ تسهَروا مَعي ساعَةً واحِدَةً؟” (مت ٢٦: ٤٠)، إن الرب لم يطلب أكثر من ساعة واحدة فقط !! وهل ساعة واحده تعتبر سهراً؟ نعم في وقت الشدة والضيق والصليب نحتاج لهذه الساعة حيث نهرب من الناس ومن المنافشات والمجادلات ونقدم للرب أوجاعنا وهمومنا والصليب الذى تشرفنا بحمله يكون “خَلاصَنا أيضًا في وقتِ الشِّدَّةِ” (إش٣٣: ٢) ، ويجب أن نستغل ذلك الوقت لكى نتقوى ونتشدد. ولا ننسى قط أنه حين كان يوجد تراخ وكسل وخطأ وتقصير في حياة بطرس كان الرب يناديه “يا سمعان” وكأن سمعان هو الإنسان العتيق حيث يطلب الرب منه “إذ خَلَعتُمُ الإنسانَ العتيقَ مع أعمالِهِ، ولَبِستُمُ الجديدَ الذي يتجَدَّدُ للمَعرِفَةِ حَسَبَ صورَةِ خالِقِهِ” (كو٣: ٩، ١٠).

إن النوم له معان كثيرة يجب أن نتذكرها لكى نتوب عن سلبياتها ونستفيد من الجديد لنأخذ نعمة السهر والشركة الدائمة :

النوم معناه عدم العمل: حيث أن الإنسان النائم لا يعمل قط. ولذلك يحذرنا الرب من عدم العمل حينما يحثنا قائلاً “أنْ تُحِبّوا الرَّبَّ إلَهَكُمْ، وتسيروا في كُلِّ طُرُقِهِ، وتحفَظوا وصاياهُ، وتلصَقوا بهِ وتعبُدوهُ بكُلِّ قَلبِكُمْ وبكُلِّ نَفسِكُمْ” (يش٢٢: ٥) ولذلك يقول الرسول بولس “فلا نَنَمْ إذًا كالباقينَ، بل لنَسهَرْ ونَصحُ” (1تس٥: ٦).

النوم معناه عدم الإحساس والرؤية: لقد نام الثلاثة تلاميذ بينما كان الرب متجلياً في بستان جثسيماني أكثر بكثير من التجلي على جبل طابور، ولكن حرم بطرس ومن معه من رؤية الرب يسوع المسيح في أقصى حالات المجد حيث أعلن شركة الاتحاد مع الثالوث القدوس حيث صلى الرب قائلاً “ليَكُنْ لا ما أُريدُ أنا، بل ما تُريدُ أنتَ” (مر١٤: ٣٦)، ولذلك يقول الرسول بولس “أنَّها الآنَ ساعَةٌ لنَستَيقِظَ مِنَ النَّوْمِ، فإنَّ خَلاصَنا الآنَ أقرَبُ مِمّا كانَ حينَ آمَنّا” (رو١٣: ١١).

النوم هو ضياع لفرصة روحية لن تتكرر: لذلك يقول الرب “لا تُعطِ عَينَيكَ نَوْمًا، ولا أجفانَكَ نُعاسًا” (أم٦: ٤). لقد صلى الرب يسوع في بستان جثسيماني ثلاث مرات قبل أن يأتي يهوذا ومن معه من الجموع، وفى الفرص الثلاث كان التلاميذ الثلاثة نائمين. لقد ضاعت منهم بسبب النوم لا فرصة ولا اثنتين بل ثلاث فرص. ضاعت كل الفرص ليسهروا مع الرب وأن يصلوا مع الرب وأن يروا مجد الأبن المتحد بالآب. لقد أعلن سر الثالوث في البستان حيث الأبن يتحدث مع الآب والروح القدس حاضر خلال عمل الصلاة والشركة.

إن الرب ينصحنا على فم الرسول بولس “مُفتَدينَ الوَقتَ” (أف5: 16؛ كو4: 5) ولذلك يوبخنا الرب قائلاً “إلَى مَتَى تنامُ أيُّها الكَسلانُ؟ مَتَى تنهَضُ مِنْ نَوْمِكَ؟” (أم ٦: ٩).

إن النوم معناه ضعف الجسد بالنسبة إلى الروح: “أمّا الرّوحُ فنَشيطٌ، وأمّا الجَسَدُ فضَعيفٌ” (مر١٤: ٣٨). إن قوة الجسد هي في اشتراكه في العمل الروحي ومشاركته للروح في عملها.

إن النوم هو راحة الجسد والراحة كثيراً ما تحرمنا من الراحة الحقيقية. ألم يقل الرب للرجل الغنى “أنَّكَ استَوْفَيتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ” (لو١٦: ٢٥)، لذلك لا يجب أن نسعى لراحة الجسد ورفاهيته. ولقد طلب السيد منا أن نسهر، وفى السهر دروس وعظات :

السهر هو الاستعداد: “اِسهَروا إذًا لأنَّكُمْ لا تعلَمونَ في أيَّةِ ساعَةٍ يأتي رَبُّكُمْ…. لذلكَ كونوا أنتُمْ أيضًا مُستَعِدِّينَ، لأنَّهُ في ساعَةٍ لا تظُنّونَ يأتي ابنُ الإنسانِ” (مت٢٤: ٤٢، ٤٤).

السهر هو جهاد: “وكانَ في النَّهارِ يُعَلِّمُ في الهيكلِ، وفي اللَّيلِ يَخرُجُ ويَبيتُ في الجَبَلِ الذي يُدعَى جَبَلَ الزَّيتونِ” (لو٢١: ٣٧)، ولذلك “إذ كانَ في جِهادٍ كانَ يُصَلِّي بأشَدِّ لَجاجَةٍ، وصارَ عَرَقُهُ كقَطَراتِ دَمٍ نازِلَةٍ علَى الأرضِ” (لو٢٢: ٤٤). لذلك فإن السهر هو جهاد الصلاة “اِسهَروا وصَلّوا” (مت 26: 41؛ مر14: 38) ولذلك يجب تدريب أنفسنا ولو مرة كل أسبوع إن لم يكن كل يوم على صلاة نصف الليل من الأجبية حيث أنها تعطى قوة وبركة ومعونة. أليس هذا هو ما قاله رئيس النوتية ليونان النائم “ما لكَ نائمًا؟ قُمِ اصرُخْ إلَى إلَهِكَ عَسَى أنْ يَفتَكِرَ الإلَهُ فينا فلا نَهلِكَ” (يون١: ٦).

السهر هو جلوس تحت قدمي الرب لسماع كلمته “في ناموسِهِ يَلهَجُ نهارًا وليلاً” (مز١: ٢). وهكذا كانت وصية الرب ليشوع بن نون “لا يَبرَحْ سِفرُ هذِهِ الشَّريعَةِ مِنْ فمِكَ، بل تلهَجُ فيهِ نهارًا وليلاً” (يش١: ٨).

وهكذا كان السر هو للقراءة في الكتاب المقدس والتأمل الدائم فيه .

السهر هو اليقظة والانتباه لخلاص نفوسنا “وأمّا نَحنُ الذينَ مِنْ نهارٍ، فلنَصحُ لابِسينَ دِرعَ الإيمانِ والمَحَبَّةِ، وخوذَةً هي رَجاءُ الخَلاصِ” (1تس٥: ٨).

 

رابعاً: السيف

“ثُمَّ إنَّ سِمعانَ بُطرُسَ كانَ معهُ سيفٌ، فاستَلَّهُ وضَرَبَ عَبدَ رَئيسِ الكهنةِ، فقَطَعَ أُذنَهُ اليُمنَى. وكانَ اسمُ العَبدِ مَلخُسَ. فقالَ يَسوعُ لبُطرُسَ: اجعَلْ سيفَكَ في الغِمدِ! الكأسُ التي أعطاني الآبُ ألا أشرَبُها؟” (يو١٨: ١٠– ١١).

“فأجابَ يَسوعُ وقالَ: دَعوا إلَى هذا!. ولَمَسَ أُذنَهُ وأبرأها” (لو٢٢: ٥١).

في وقت التجارب والمحن والشدائد يظهر الإنسان على سجيته، فالإنسان الذى له شركة مع الله حالاً يلتجئ إلى الله حيث يرى في تلك الشدة اختبار لمدى تمسكه بالله.

أما الإنسان الذى دائماً يفكر بطريقة بشرية وتحتل ذاته مكاناً، فإنه حالاً ينفعل وبأعصابه يفكر ويتصرف. ولكن أيا كان الأمر فإن الرب قد رسم لنا طريقاً وقانوناً وهو عدم الالتجاء للعنف وعدم الأخذ بالثأر وإن الخطأ لا يرد الخطأ قط.

وليس معنى الظلم الواقع على الرب هو التجاء بطرس لقطع أذن عبد قائد المئة، لقد أعلن الرب لبطرس أن “الذينَ يأخُذونَ السَّيفَ بالسَّيفِ يَهلِكونَ!” (مت٢٦: ٥٢). وهكذا كان أسلوب العنف والانتقام أسلوباً مرفوضاً من الرب، والانفعال والعصبية ليسا هما الأسلوب الصحيح لمعالجة الأمور.

في انفعال بطرس قطع أذن عبد رئيس الكهنة، ولكن الرب قد اصلح ما أفسده بطرس.

مبارك هو الرب المملوء بالرحمة والحنان ويداه مقيدتان ينحني ويمسك بالأذن المقطوعة ويضعها في مكانها فتلتحم الأعصاب وتثبت وكأن شيئاً لم يكن!! أليس يسوع المسيح هو الرب الذى خلق الأذن ويعيدها إلى مكانها.

لقت عميت الأبصار وحجبت الظلمة قلوب الواقفين والناظرين ليؤمنوا أن هذا هو ابن الله .

ولكن عبد رئيس الكهنة الذى شفيت أذنه بيد الرب نظر إلى الرب نظرة حب وحنان. ولم يسجل التاريخ شيئاً، ولكن لا نستبعد أن ذلك العبد الذى لمسته يد الرب وذاق حب الرب وحنانه أن يكون قد آمن بالرب وبالصليب.

وهكذا قد تعلمنا أن السيف غريب عن المسيحية، مثل غياب الكراهية والحقد من قلب الرب. وأن من يستخدم السيف بالسيف يُبَاد.

ولكن يبقى السؤال: لماذا أمسك بطرس بالسيف؟

هل لكى يدافع عن الرب، أم لكى يدافع عن نفسه؟ ولكن الرب رفض استخدام السيف لا في الدفاع عن شخصه ولا في الدفاع عن أنفسنا. والسيف هنا إشارة إلى كل عنف وكل انفعال وكل سلطة بشرية وكل وسيلة بشرية.

 

خامساً: فأنكر

“فأنكَرَ قائلاً: إنِّي لا أعرِفُ هذا الرَّجُلَ” (مر١٤: 68،٧١). إن آلام الرب على الصليب لم تكن هي آلام الجسد فقط، بل هناك آلاماً أقسى ألا وهى آلام الخيانة والإنكار والجحود التي سقط فيها أقرب المقربين للرب لدرجة أنه قال “جُرِحتُ في بَيتِ أحِبّائي” (زك١٣: ٦). إن جرح الرب في بيت أحبائه هو أقسى وأشد من جراحه في بيت مبغضيه والحاقدين عليه. ولذلك لو تم هذا الإنكار من الكتبة أو الفريسيين أو رؤساء الكهنة لكان الأمر مقبولاً وعادياً، ولكن لكون هذا الإنكار يتم من بطرس الحبيب الذى نال الكثير من اهتمام الرب فهو أمر يستحق التأمل ليكون عظة لنفوسنا.

إن إنكار بطرس هو إنكارنا نحن لأننا مع الكثيرين الذين “يَعتَرِفونَ بأنَّهُمْ يَعرِفونَ اللهَ، ولكنهُمْ بالأعمالِ يُنكِرونَهُ” (تي١: ١٦). إن الإنكار يفوق النسيان، ويفوق الاهمال والكسل لأن فيه جحود وعدم وفاء، ولذلك كان حكم الرب على الذين ينكرونه هو ما يلى “مَنْ يُنكِرُني قُدّامَ الناسِ أُنكِرُهُ أنا أيضًا قُدّامَ أبي الذي في السماواتِ” (مت١٠: ٣٣).

ولكن هناك أموراً سبقت هذا الإنكار نستطيع أن نلخصها فيما يلى:

حينما تحدث الرب عن الصليب قائلاً “أنَّهُ يَنبَغي أنْ يَذهَبَ إلَى أورُشَليمَ ويتألَّمَ كثيرًا مِنَ الشُّيوخِ ورؤَساءِ الكهنةِ والكتبةِ، ويُقتَلَ، وفي اليومِ الثّالِثِ يَقومَ” (مت١٦: ٢١). لم يتقبل بطرس الصليب ، وبالتالي لم يتقبل الشركة في الصليب. ولذلك يقول الكتاب “فأخَذَهُ بُطرُسُ إليهِ وابتَدأَ يَنتَهِرُهُ قائلاً: حاشاكَ يا رَبُّ! لا يكونُ لكَ هذا!” (مت١٦: ٢٢)، هنا رفض الصليب بمثابة بداية الإنكار، لأن قبول الصليب معناه الاستعداد للموت عن الرب، أما الإنكار فهو الهروب من الصليب.

لما قرب الصليب وصنع الرب الفصح مع تلاميذه – وبالطبع كان بطرس أحد الحاضرين – ولما تحدث الرب عن الصليب قائلاً لهم “أنا معكُمْ زَمانًا قَليلاً بَعدُ (الوقت الباقي على الصليب) ستَطلُبونَني… ولا تقدِرونَ أنتُمْ أنْ تأتوا” (يو١٣: ٣٣)، كان سر الصليب مختفياً عن بطرس، ولم يحاول أن يفهم كلام الرب الذى لا يحتاج إلى تفسير بل راح يسأل الرب “قالَ لهُ سِمعانُ بُطرُسُ: يا سيِّدُ، إلَى أين تذهَبُ؟. أجابَهُ يَسوعُ: حَيثُ أذهَبُ (لأصلب) لا تقدِرُ الآنَ أنْ تتبَعَني (لأنك سوف تنكرني وتهرب)، ولكنكَ ستَتبَعُني أخيرًا (بعد حلول الروح القدس)”. ولكن بطرس لم يحاول أن يفهم أو يدخل إلى ذاته، بل راح يسأل السيد صراحة “لماذا لا أقدِرُ أنْ أتبَعَكَ الآنَ؟” ولقد ظن بطرس أن الأمر هو استعراض عضلات أو قدرات خاصة، فقال للرب “إنِّي أضَعُ نَفسي عنكَ!”. وعندئذ كشف الرب لبطرس ما سوف يحدث منه وقت الصليب وقال له “أتَضَعُ نَفسَكَ عَنِّي؟!!! الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكَ: لا يَصيحُ الدِّيكُ (مرتين) حتَّى تُنكِرَني ثَلاثَ مَرّاتٍ”!!! (يو١٣: ٣٦– ٣٨). هنا نقول أن الشركة مع الصليب هي نعمة تُعطى من الرب على قدر حبنا وإخلاصنا.

ثلاث مرات وبطرس ينكر الرب بل ويصر على الإنكار !!! لماذا :

لأنه اتكل على ذاته “إنِّي أضَعُ نَفسي عنكَ!”.

لأنه رفض الصليب “حاشاكَ يا رَبُّ!”.

لأنه نظر إلى الصليب بدون قيامة، “كان ينظر إلى النهاية”.

لأنه كان في راحة وقت الصليب والجهاد “رأتْ بُطرُسَ يَستَدفِئُ”.

لقد ابتدأ بطرس “يَلعَنُ ويَحلِفُ” مع الإنكار أنه لا يعرف الرجل ، ومعنى هذا أنه كان يظن أن الرب لا يرى ولا يعرف ما يقال بعيداً عنه.

إن إنكار الرب ثلاث مرات هو بسبب نسيان لكل ما صنعه الرب مع بطرس من وقفات.

إن “ضعف الرب” أو تأخر القيامة لثلاثة أيام بعد الصلب هو الذى كثيراً ما يحركنا لإنكار الرب.

قد سجل الكتاب عن بطرس أنه “تبِعَهُ مِنْ بَعيدٍ” (لو٢2: ٥٤)، ومعنى انه تبعه من بعيد أنه تم فيه قول إشعياء النبي “هذا الشَّعبَ قد اقتَرَبَ إلَيَّ بفَمِهِ وأكرَمَني بشَفَتَيهِ، وأمّا قَلبُهُ فأبعَدَهُ عَنِّي” (إش٢٩: ١٣).

ان تبعية الرب من بعيد معناها أننا مازلنا نحتفظ بأشياء لم نتخل عنها بعد، أي أننا لم نترك كل شيء وذواتنا مازالت لها المكان الأول قبل الرب .

لقد أحب بطرس التجلي أكثر من الصليب فقال له “حاشاكَ يا رَبُّ!”، ونحن نحب المجد الذى بلا ألم ولكن ها هو القانون الإلهي، “إنْ كُنّا نَتألَّمُ معهُ لكَيْ نتمَجَّدَ أيضًا معهُ”، وكذلك “إنْ كُنّا قد مُتنا معهُ فسَنَحيا أيضًا معهُ” (رو٨: ١٧، ٢تي٢: ١١).

لقد صاح الديك لكى يذكر بطرس بإنذار الرب، وها هي أمور كثيرة تحذرنا من تنفيذ دينونة الرب العادلة، ها هي الكوارث والأمراض والحوادث وموت الأحباء بمثابة صياح الديك لكى ينبهنا أننا قد أنكرنا الرب، ومن المؤسف حقاً أنه عندما يصيح الديك فإن البعض لا يسمع والبعض لا يفهم، ولكن إن لم نسمع لصوت الديك ونفهم معنى صياحه فسوف يتم فينا حكم الله العادل. إن الديك لا يصيح مرة واحدة، بل مرتين لكى ينبهنا وينذرنا. ومع إن إنكارنا هو ثلاث مرات أي أكثر من صياح الديك ولكن ها هي حكمة الله التي تذكرنا للرجوع حين نسمع وحين نفهم !! نسمع إنذارات الله في الطبيعة وفى الآخرين، ونفهم قصد الله في الرجوع والندم.

“فلَمّا تفَكَّرَ بهِ (أي بكلام يسوع) بَكَى” (مر١١: ٧٢) لقد تذكر بطرس كلام الرب، ويا ليتنا نتذكر كلام الرب ونحفظه ونخبئه في قلوبنا. وحين ننساه نرجع إليه حالاً مثل قول الرب على فم سليمان الحكيم “يا ابني، أصغِ إلَى كلامي. أمِلْ أُذُنَكَ إلَى أقوالي. لا تبرَحْ عن عَينَيكَ. اِحفَظها في وسطِ قَلبِكَ لأنَّها هي حياةٌ للذينَ يَجِدونَها، ودَواءٌ لكُلِّ الجَسَدِ” (أم٤: ٢٠، ٢١).

لا يجب ان نقرأ فقط في كلمة الرب، بل نتفكر فيها وبعدئذ نكتشف خطايانا فنقوم ونبكى .

إن البكاء رجوع إلى الله من خلال كلمته التي تحثنا وتدعونا “اجتَمَعَ بَنو إسرائيلَ بالصَّوْمِ، وعلَيهِمْ مُسوحٌ وتُرابٌ. وانفَصَلَ نَسلُ إسرائيلَ مِنْ جميعِ بَني الغُرَباءِ، ووَقَفوا واعتَرَفوا بخطاياهُمْ وذُنوبِ آبائهِمْ. وأقاموا في مَكانِهِمْ وقَرأوا في سِفرِ شَريعَةِ الرَّبِّ إلَهِهِمْ رُبعَ النَّهارِ، وفي الرُّبعِ الآخَرِ كانوا يَحمَدونَ ويَسجُدونَ للرَّبِّ إلَهِهِمْ” (نح٩: 1- ٣). إن بكاء التوبة يحنن قلب الله ويفتح لنا أحضانه ويقول لنا “حَوِّلي عَنِّي عَينَيكِ فإنَّهُما قد غَلَبَتاني” (نش٦: ٥).

 

سادساً: طلبت من أجلك

“وقالَ الرَّبُّ: سِمعانُ، سِمعانُ، هوذا الشَّيطانُ طَلَبَكُمْ لكَيْ يُغَربِلكُمْ كالحِنطَةِ! ولكني طَلَبتُ مِنْ أجلِكَ لكَيْ لا يَفنَى إيمانُكَ. وأنتَ مَتَى رَجَعتَ ثَبِّتْ إخوَتَكَ. فقالَ لهُ: يا رَبُّ، إنِّي مُستَعِدٌّ أنْ أمضيَ معكَ حتَّى إلَى السِّجنِ وإلَى الموتِ!. فقالَ: أقولُ لكَ يا بُطرُسُ: لا يَصيحُ الدِّيكُ اليومَ قَبلَ أنْ تُنكِرَ ثَلاثَ مَرّاتٍ أنَّكَ تعرِفُني” (لو٢٢: ٣١– ٣٤).

أن كلمة الرب تمنح رجاء لنفوسنا في وقت السقوط والانزلاق، إن الرب يضع أمامنا كلمات مملوءة بالتشجيع والأمل حتى لا نسقط في اليأس. ما أجمل قول المزمور “إنْ كُنتَ تُراقِبُ الآثَامَ يارَبُّ، يا سيِّدُ، فمَنْ يَقِفُ؟” (مز١٣٠: ٣). ولكن ها هو الرب نفسه يقول لسمعان أنه طلب من أجله أي رفع صلاة من أجله، ترى ما هي هذه الصلاة وما هي نوعها وما هي مضمونها؟ نستطيع ان نستوحيها من صلاة يسوع الشفاعية التي سبقت الصليب حيث صلى الرب قائلاً:

مِنْ أجلِهِمْ أنا أسألُ..

“لستُ أسألُ مِنْ أجلِ العالَمِ (الرافض النعمة) بل مِنْ أجلِ الذينَ أعطَيتَني لأنَّهُمْ لكَ” (يو١٧: ٩).

“أيُّها الآبُ القُدّوسُ، احفَظهُمْ في اسمِكَ” (يو١٧: ١١).

“الذينَ أعطَيتَني حَفِظتُهُمْ، ولم يَهلِكْ مِنهُمْ أحَدٌ إلا ابنُ الهَلاكِ” (يو١٧: ١2).

“لستُ أسألُ أنْ تأخُذَهُمْ مِنَ العالَمِ بل أنْ تحفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ” (يو١٧: ١٥).

“قَدِّسهُمْ في حَقِّكَ” (يو١٧: ١٧).

“أيُّها الآبُ أُريدُ أنَّ هؤُلاءِ الذينَ أعطَيتَني يكونونَ مَعي حَيثُ أكونُ أنا، ليَنظُروا مَجدي” (يو١٧: ٢٤).

إن الرب الذى طلب هو الرب الذى أعطى، ولكنه فقط يريد أن يكشف لبطرس مقدار الحب ومكانة الإنسان حتى في سقوطه وإنكاره للرب .

إن الشيطان طلب أن “يَضرِبُ الرّاعيَ فتتَبَدَّدُ خِرافُ الرَّعيَّةِ” (مت٢٦: ٣١)، ولكن ها هو وعد الرب “وأنا إنِ ارتَفَعتُ عن الأرضِ أجذِبُ إلَيَّ الجميعَ” (يو١٢: ٣٢)، وإن حبة الحنطة “إنْ لم تقَعْ حَبَّةُ الحِنطَةِ في الأرضِ وتمُتْ فهي تبقَى وحدَها. ولكن إنْ ماتَتْ تأتي بثَمَرٍ كثيرٍ” (يو١٢: ٢٤).

إن الرب طلب من أجل بطرس لكى لا يفنى إيمانه:

الايمان بحب الرب الذى لا حدود له الذى يقبل كل الراجعين إليه ..

الإيمان بقدرة الرب على الانتصار خلال حروب الشيطان معنا ..

الإيمان بوعد الرب بالغفران مهما كانت الخطية التي سقطنا فيها ..

الإيمان بنسيان الرب لخطايانا إن كنا نعترف ونتوب عنها فهو يطرحها في بحر النسيان .

ولكن يا ترى هل طلب الرب من أجل يهوذا أيضاً؟ نعم ان الصلاة كانت من أجل الجميع مهما كانت صور الخطية، هكذا طلب الرب على الصليب “يا أبَتاهُ، اغفِرْ لهُمْ، لأنَّهُمْ لا يَعلَمونَ ماذا يَفعَلونَ” (لو٢٣: 3٤). نعم هذا الطلب وهذا الغفران كان من أجل بطرس وإنكاره، ومن أجل يهوذا وخيانته، ومن أجل توما وشكه، ومن أجل مرقس وهروبه. ولكن قد فقد يهوذا الرجاء في الخلاص، وفقد الإيمان بقدرة الرب على الغفران، فذهب وخنق نفسه، أما كلمة الرب لبطرس “مَتَى رَجَعتَ ثَبِّتْ إخوَتَكَ” فإنها لا تحمل أي ميزة أو رئاسة على الآخرين، لأن الرجوع هو رجوع الخاطئ التائب، ولا يأخذ الخاطئ التائب أكثر من غفران خطيته. أما تكليفه بأن يثبت أخوته فهو لكى يحدث بمراحم الرب وغفرانه. ولقد تحدث الرب بعد ذلك مباشرة لبطرس أنه سوف ينكره ثلاث مرات فكيف يعطيه رئاسة على أخوته وهو يحذره من السقوط في خطية الإنكار. إن تثبيت أخوته هو نبوة لقبول الرب له بعد سقوطه وتكليفه مرة ثانية بالخدمة والرعاية. ونقول مرة ثانية أن الشيطان الذى طلب من الرب أن يغربل التلاميذ مثل الحنطة لم يأخذ هذا الحق وهذه الفرصة لأن الرب طلب من أجل بطرس ومن أجل كل الساقطين حتى لا يفنى إيمانهم .

ان الرب مازال يقف يشجع كل خاطئ مهما كانت خطيته ويقول له لقد “طَلَبتُ مِنْ أجلِكَ” بكلمات الرب الحلوة المشجعة التي صلاها وسجلها الوحى الإلهي “الذينَ أعطَيتَني حَفِظتُهُمْ، ولم يَهلِكْ مِنهُمْ أحَدٌ إلا ابنُ الهَلاكِ ليَتِمَّ الكِتابُ” (يو١٧: ١٢).

 

 

العظة السابعة لآباء معاصرين – ليلة الجمعة العظيمة

في جثسيماني – للمتنيح القمص لوقا سيداروس[51]

لما فرغنا من التسبیح خرجنا نتبعه، كان يسير أمامنا.. لم نره هكذا من قبل كان كمن حمل أحمال العالم كله.. كانت ملامحه تصرخ بهذا ولكن لم يكن أحد يرى أو يدرك.

قادنا إلى جثسيماني.. البستان واسع ومظلم، ولكن وجه يسوع کان ينير طريقنا.. كان القمر قارب أن يكون بدراً. وفي وسط البستان في بقعة محاطة بالأشجار. قال لنا.. أمكثوا أنتم هنا.. وابتعد هو نحو رمية حجر.. كنا نراه كخیال من نور. ظللت أرقبه ولكن غلبني الحزن وقهرني التعب ابتدأت عيناي تغمضان.. ويحي.. رأسي ثقيل.. جسمي مهدل.

استيقظت على لمسه.. كانت يده توقظني.. يا سمعان.. قلت وأنا متثاقل في نومي: نعم يا سيدي.. ” صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة: قلت في ذهني.. أية تجربة تقصد.. ألسنا في تجربة..

ذهب أيضاً إلى مكانه الذي اختاره ليسكب فيه نفسه متضرعاً بصراخ ودموع وعرق يتصبب كقطرات الدم.. من أجل كل واحد.. وعوضاً عن كل واحد محكوم عليه بالموت.

كانت شجاعتي قد ذهبت عني. أين الكلام الذي قلته من ساعات إنني أضع نفسي عنه.

الكلام سهل يا سيدي. ولكنك جزت المعصرة وحدك كما هو مكتوب.

كان قد حذرني من الإنكار وأنبأني بما سيكون مني.

لقد قال لي الرب: “سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم  كالحنطة!”.. ويا لحلاوة حبك يا سيدي .. لقد طلب من الآب أن لا يسلمني إلى التمام في يد الشيطان، بل يحفظ إيماني لكي لا يفنى.. طلبتك تسندني فلا أهلك.

آه لو تركتني ولو إلى لحظة.. لو لم تكن صلاتك سندي لانهارت قواي إلى الموت. جاءني ثانية.. ياسمعان:” أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ “.. سامحني يا سيدي ..جسدي.. جسدي. قال: “أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف”.

 

ويا لقمة الشفقة والحنان على الخليقة الضعيفة التي علم أبعاد ضعفها إذ اتخذ له جسد البشرية واتحد به… “ناموا الآن واستريحوا “..

أنت يا سيدي .. نفسك تعتصر من الألم بسبب حمل خطايا العالم وأنت تجثو على الأرض العراء وتسجد بوجهك إلى الأرض.. تجاهد جهادي.. تحارب حربي.. وتجعلني أنام وأرتاح.

لا راحة لي إلا فيك يا سيدي .. أنت بحق مريح التعابي والخطاة..  أنت حامل خطيتي لكي لا أحملها فأموت.

ثم قال: “قوموا ننطلق! هوذا الذي يسلمني قد اقترب!”.. ذهب ليقابل مسلمه حسب الخطة المرسومة لا من الناس، بل في تدبيره الإلهي قبل الأزمنة.

لو كان كباقي الناس لهرب، ولكنه صنع العكس، ذهب هو إليه!!.. أضاءت طرق البستان المشاعل والمصابيح الكثيرة. آه يا ربي جمع كثير.. جند الهيكل وجند رؤساء الكهنة وبعض عساكر الرومان

وجمهور من الرجال. لماذا كل هذا؟!

شيء مزعج مخيف.. غوغاء وقوي يحركها الشيطان قتال الناس.

أصابنا خوف شديد. كغنم تفقد راعيها فتنزعج لتسير نحو المجهول من الخوف في كل اتجاه.. رعبة شديدة وقعت على جميعنا. تقدم هو وواجه هؤلاء جميعاً وقال لهم: “من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري قال لهم أنا هو”.. يا إلهي: “رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض”. كمن يسجد،  ليس كعبادة، ولكن رعبة وخوف.

قاموا بعد أن أفاقوا من الصدمة. كرر عبارته وتكرر سقوطهم. فلما استفاقوا ووقفوا أمامه قال لهم يسوع: “قد قلت لكم إني أنا هو”.

ولكنه جعل شرطاً عجيباً لتسليم نفسه بإرادته “فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون”. حقاً إنه هو المخلص والملك الذي فدى رعيته بحياته.

 

لم يكونوا يقصدون في ذلك الوقت سواه هو شخصياً. ولم يزل الشيطان يشتكي على المسيح في أولاده وتابعيه. ولكنه كان لا بد أن يكمل آلامه وحده لا يشاركه فيها أحد إلى أن يقهر الموت بالقيامة.

ثم بعد ذلك أنعم بشركة الآلام الممجدة لخواصه الشهداء القديسين.

لم يكن معظم الجمع يعرفه لا سيما الجنود. وفجأة وقعت عيني على يهوذا يتقدم من وسط الغوغاء. “تقدم إلى يسوع وقال السلام يا سيدي! وقبله “.

أي سلام يا قاتل السلام!!

أي سلام يا خائن العهد!!

وأي قبلة يا عدو الحب الحقيقي!!

وأي معلم وأنت لم تتعلم منه شيئاً !!

ويا للطف يسوع العجيب حتى في أحلك الساعات. إن طبعه اللطيف لا تغلبه أشر الخطايا حتى الخيانة. قال له: ” يا صاحب، لماذا جئت؟”.. يا للعجب يا سيدي لقد صار عدو وخائن، ألا زلت تدعوه بهذا اللقب؟!! “يا يهوذا، أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟ ”

القبلة علامة المصالحة وعنوان الحب. كيف جسرت أن تعملها ساعة الخيانة؟!

 

اقشعري أيتها السموات وانشقي أيتها الأرض أمام هذا المنظر !!

انزعجت نفسي عندما رأيتهم يلقون عليه الأيادي الخشنة التي لا تعرف سوى العنف والقسوة وهو الحمل الوديع. غلى الدم في رأسي، اندفعت لكي أدافع عنه.. أعمل أي شيء .. استليت سيفاً كان معي.. تفکرت أن أضرب به لعلهم يخافون. فکر ساذج هذا الذي راودني.

ولكني في اندفاع عملت.. ضربت.. جاءت الضربة في الرجل الذي كان يقف تجاهي. لم يكن قائداً ولا جندياً ولا أحداً من الكبار، ولكنه عبد رئيس الكهنة، إنسان لا حول له ولا قوة. هو مرافق متفرج لا أكثر، لا سلاح له ولا عصا في يده. صرخ لما أطاح السيف بأذنه فقطعها وألقاها على الأرض واندفع الدم. وضع الرجل يده وصاح من الألم ومن الخوف..

التفت يسوع من وسط المعمعة وقال لي: “اجعل سيفك في الغمد لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون”. هل علمتك أن تقاوم الشر بالشر؟ هل دعوتي لك وإرسالك للعالم كان بسيف ورمح؟ ألم أجردك حتى من عصا الطريق لكي لا تحمل عصا للدفاع عن  النفس؟! مالك والسيف؟ الروح الذي فيك روح سلام وليس روح السيف. لم آت بسيف ولو أردت الدفاع عن نفسي لطلبت ذلك من أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة؟ ” في الحال تدافع عني. ملاك واحد كفيل بأن يقتل ١٨٥ ألفاً في ليلة، فمن تكون هذه الشرذمة. ولكني أسلم نفسي بإرادتي.

انحنى السيد علي الأرض ورغم الظلام التقط الأذن المقطوعة ولصقها في وجه ملخس العبد. يا للعجب قد عادت الأذن إلى حالها الأول كأن شيئاً لم يحدث. عاد الرجل صحيحاً.

یا لقساوة القلوب وعمي الأعين.. ألا يبصرون.. كيف صاروا كأحجار الوادي.. لم يدرك أحد عظم هذه المعجزة ولا أعاروها انتباهاً .

كانت أوامر رؤساء الكهنة قد أعمت عيونهم عن أن يروا وصمت أذانهم عن السماع.

عدت إلى صوابي.. لقد أزال المسيح عني رعونة عملي وتهوري..

أنا أفسدت وعوجت الطريق وهو أصلح آثار خطيتي وجرمي. ما هذا الذي فعلته؟ إنه شروع في قتل.. هذه خطية عظيمة.

ثم بعد أن صنع بي يسوع هكذا. وبعد الأيام والسنين عدت إلى نفسي أقول حتى آثار الخطية محاها.. فلا يستطيع أحد أن يشتكي علي.

فإن اشتكى ملخس أمام محاكم الدنيا إنني قطعت أذنه فلا يوجد دليل مادي فأذناه الاثنتين في رأسه.. كم حمدت المسيح ومعروفه وجميلة صار يطوق عنقي ما دمت حياً وإلى الأبد.

قبضوا عليه :

انخلع قلبي عندما رأيته في قبضتهم ولكن عبارة قالها: “هذه ساعتكم وسلطان الظلمة”.. إذاً هو يعلم أنها ساعة وإن سلطان الظلمة له نهاية..

كانت هذه بداية النهاية لسلطان الظلمة. كانوا يجرونه بعنف، وكثيرمنهم يتشفى. وجدوها فرصتهم ففعلوا بغير حياء .

 

قلت في نفسي: إنه لم يفعل شراً بأحد.. فلماذا هذا؟! لم أجد جواباً ..كتمت غيظي داخلي وتذكرت ملخس وما جرى له.

تفرقنا.. نظرت حولي فلم أجد معظم إخوتي التلاميذ.. رأيت واحداً يجري، ثم جرى وراءه بعض الرجال.. أمسكوه .. فترك لهم ثوبه وهرب عرياناً.

تبعت من بعيد، كان الخوف قد امتلكني.. تذكرت كلامه يرن في أعماقي “لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون باليابس “.

إلى أين هم ذاهبون؟ وصلوا إلى دار رئيس الكهنة. فتح الباب اندفعوا بسرعة بمصابيحهم وسيوفهم وعصيهم.. كان البوابون يفرزون الداخلين.. كلهم معروفون. وقفت من بعيد حتى دخلوا وفي آخر الكل اقتربت إلى الباب لأدخل.. منعتني بوابه من الدخول. من أنت؟ وإلى أين أنت ذاهب؟ لم أرد.. ابتعدت قليلاً ووقفت خارجاً.

لفتني دوامات ودوامات وعواصف الأفكار. نفسي صارت مضطربة كقارب صغير في بحر هائج. تضربني الأمواج من كل جانب. شعرت بمسكنة وخوف واضطراب غير عادي.

وبينما أنا كذلك انفتح باب دار رئيس الكهنة وخرج واحد، إنه يوحنا.. حبيب يسوع وحبيبي.. بادرني قائلاً.. لماذا تقف في الخارج؟ لم أرد .

اصطحبني إلى البوابة متأبطاً ذراعي. ودخل بي إلى الدار.. لقد كان يوحنا معروفاً عند دار رئيس الكهنة. امتعضت البوابة لما رأتني ولكن يوحنا أشار إليها إنني معه. فلم تتكلم. دخلت الدار.. أصابني دوار .. كاد يغمى علي من فرط الأفكار التي تزحم رأسي والمشاعر المختلطة التي  تغلي في داخلي.

لم أعلم إلى أين أذهب. وجدت زمرة من الخدم جالسين جانباً. شعرت بالبرد القارس. كان الخدام قد أضرموا ناراً وجلسوا يصطلون.

ساقتني قدماي إلى هناك وفي طرف الجماعة وقفت كأني أسرق قليلاً من الدفء. عيناي كانت نحو البهو الكبير حيث رؤساء الكهنة والكتبة وجمع كبير حول يسوع. يشتكون عليه ويحاكمونه. أذني كانت تسترق السمع لعلي أعلم شيئاً. كل ما كان يصل إلى مسمعي صياح ولطمات.. صياح من رؤساء الكهنة، ثم سكوت ثم اختلاط أصوات.. لم أسمع صوت حبيبي … أعتقد أنه كان صامتاً لا يفتح فاه.. تذكرت قول إشعياء فاعتصر قلبي بالألم.

من الناحية الأخرى كان الخدم يتكلمون فيما لهم.. معرفتهم قليلة معظمها إشاعات أو بحسب ما تسرب لهم من معلومات من رؤساء الكهنة. هكذا يعيش خدام القصور على ما يلتقطون من فتات المعرفة وتناثر الأخبار يتناقلونها كأصحاب معرفة. ولهم جوهم الخاص واهتماماتهم التي لا تعدو لقمة العيش ثم المشاحنات التي تدور بينهم. جو لم ألفه ولا دراية  لي به. ولكنها الظروف التي حتمت على الجلوس في مثل هذا الوسط الخانق.

وفي ضوء وهج النار التي أضرموها نظر أحدهم واستدرك وجودي وصاح في خشونة بالغة وملامح قاسية.. ألست أنت تابع ليسوع الناصري؟ دخلني خوف شديد وأجبت بلا تفكير..”يا إنسان، لست أنا!”. لعل أحداً منهم رآني حينما قطعت أذن العبد ملخس؟ أليس هو واحد منهم ورفيقهم؟ يا خوفي مما قد يحدث! من ينقذني من هذه الورطة؟!

ثم أن البوابة مرت بي. لست أدري ماذا كانت تصنع. فتفرست في وقالت: “أنت منهم، لأنك جليلي” أما رأيتك عند الباب. أنت تبع يسوع. قلت: يا امرأة “لست أدري ولا أفهم ما تقولين”. قال بعض الخدم وقد اجتمعت نظراتهم مركزة علي بسبب كلام المرأة البوابة: ماذا تقول يا رجل إن لغتك ولهجة كلامك تظهر أنك بالحقيقة من تلاميذ يسوع.

ويحي.. ويحي.. بدأت أخرج عن وعيي. شعرت كأن ظلمة مدلهمة اكتنفتني ودفعتني قسراً. صرت كمن ارتمى على الأرض من صدمة تلقاها من شيطان قوي. انفتح فمي بكلام شتائم وكلمات تسبب لي حزناً دفیناً كلما تذكرتها. لا أريد أن أذكرها ..صرت كألعوبة في يد الشيطان وأعوانه هؤلاء الخدم المساكين.

 

أنقذني من هذا المأزق المؤدي إلى الموت صوت الجمهرة من رؤساء الكهنة والمجتمعين حول يسوع وهم يخرجون به من البهو إلى الدهليز.

انتفض الخدم واقفين ووجدت نفسي وحدي. وإذا عيني يسوع تقع علي..

هالني منظره.. لم أر وجهه منذ كنا في البستان. كان وجهه قد شبع لطماً.. يا لحزني.

كان صدي كلمات التجديف والشتائم لم يزل يرن في أذني.. أين أنا أو من أنا.. لقد فقدت هويتي، بل فقدت كياني. أين تاريخ حبي وتبعيتي.. أين ما أخذته في سنين فرحي ودخولي وخروجي معه.

أين معرفتي به وشهادتي له وغيرتي نحوه. هل فقدت كل ذلك في لحظة ؟

مرت علي هذه اللحظات رهيبة كعاصف الموت وشدائد الجحيم.

نظرت إليه.. عيناه تنظران نحوي.. لا أستطيع أن اقترب إليه وليس وقت للكلام أو العتاب أو أي شيء. قرأت ما في عينيه نحوي. كأن قوة الحياة دبت في قلبي المائت. كانت في عينيه كلمة واحدة صارخة. ولغة العيون تخطيء وتصيب إلا عيني يسوع حين ينظر فليس فيهما احتمالات لأنه هو الحق ذاته. كانت عينيه تقول لي وبكل تأكيد: “يا بطرس أنا أحبك “.

كمثل الثلج إذا أطلقت عليه ناراً هائلة.. ذابت نفسي.. ذابت بكل المقاييس. أحسست بفيضان من أثر ذوبان الثلج. نهر جارف صار في أعماقي.

وصاح الديك !صياحه أطن في أذني كأعظم انفجار تسمعه أذن إنسان، ثم صاح ثانية فتعالى الصياح داخلي مع هدير الفيضان الذي أحدثته نار محبة عيني يسوع في برودة نفسي من الداخل. فخرجت خارج هذا الدارالكئيب لأنتحي وأنتحب وأطلق العنان لهدير المياه في داخل بوابات عيني لأبكي بكاءاً مراً.

” يا ليت رأسي ماء، وعيني ينبوع دموع ” لأشفي نفسي المكسورة وقلبي الجريح. شبعت من البكاء ورغم أنه كان بكاءاً مراً لم اختبره قط في حياتي ولكني شعرت في نفسي كأن سحب الكآبة عبرت عني

وكأن الشمس عادت وأشرقت داخل قلبي.

 

 

العظة الثامنة لآباء معاصرين – ليلة الجمعة العظيمة

المدلولات اللاهوتية لما جاء اناجيل الساعات – للمتنيح الدكتور موريس تواضروس[52]

عدد 30: سبَحوا (Umnysantes) “سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون”

قد تكون التسابيح المشار إليها هنا مستقاة من المزامير 115 .116 . 117. 118 . ويشار بعد ذلك أنهم خرجوا إلى جبل الزيتون، مع أننا نقرأ فى (خر12: 22)، إن الخروج كان ممنوعاً حتى الصباح “وأنتم لا يخرج أحد منكم من باب خيمته حتى الصباح” وذلك لأن السيد المسيح كان قد أكل الفصح مع تلاميذه قبل ميعاد الفصح اليهودي أي مساء الخميس.

عدد32: أسبقكم إلى الجليل:

ترتبط هذه العبارة مع ما قاله السيد المسيح فى العبارة السابقة “مكتوب أنى أضرب الراعى فتتبدد خراف الرعية” وإذا كان قد حدث هذا عند الصلب، فإن السيد المسيح يقول هنا أنه بعد القيامة، كراع سوف يسبقهم إلى الجليل كما يسبق الراعى خرافه. وقد أوضح السيد المسيح هذه العلاقة بينه (كراع، وبين رعيته (كخراف)، فقال “والخراف تسمع صوته …” (يو10: 4-5).

واحد من الاثنى عشر: ذكرت هذه العبارة فى الأناجيل الثلاثة سواء فى واقعة الخيانة أو فى القبض على السيد المسيح وفى الوقت الذى كتب فيه القديس متى انجيله صارت هذه العبارة دليلاً على من قبض على السيد المسيح .

ومعه جمع كثير بسيوف وعصي: إن السنهدريم  لم تكن له فرقة خاصة من الجنود، وفى (يو18: 3) نقرأ أن يهوذا أخذ جنداً من عند رؤساء الكهنة والفريسين. وبالإضافة إلى هؤلاء يمكن أن يكون هذا الجمع الكثير قد تكون من خدم بعض أعضاء السنهدريم بالإضافة إلى بعض من أفراد الشعب يستعملون العصي سلاحاً لهم.

عدد 49: وقبَّله Katephillysen “فللوقت تقدم إلى يسوع وقاله السلام يا سيدى وقبَّله”

 

الفعل فى اللغة اليونانية مركب. وهذا التركيب يشير إلى أن التحية تتم فى شىء من التباهي وتأكيد الولاء، أي يمكن القول هنا أن ما تم لم يكن مجرد قبله بل سبق ذلك معانقة واحتضان. لقد عانق يهوذا السيد المسيح واحتضنه ثم قبله، ولعله يمكن أن نقف على الجو المحيط بالقبلة مما قيل عن المرأة التي دهنت قدمي يسوع بالطيب، حيث استعمل نفس الفعل “ووقفت عند قدميه من ورائه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحها بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنها بالطيب” (لو7: 38). كذلك استعمل نفس الفعل عن الأب عندما استقبل ابنه التائب “وإذ لم يزل بعيداً رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله” (لو15: 20). وفى فيض من المشاعر استعمل أيضا هذا الفعل عند توديع الرسول بولس “وكان بكاء عظيم من الجميع ووقعوا على عنق بولس يقبلونه” (أع 20: 37).

عدد50: لماذا جئت (Eph o parel) “فقال له يسوع يا صاحب ،لماذ جئت”.

إن العبارة التى وجهها السيد المسيح ليهوذا صيغت بشكل موجز ومختصر . لقد أوجز السيد المسيح فى عباراته، بينما تضمنت العبارة فى نفس الوقت معنى أوسع وعميقاً. إن المعنى الحرفي لكلمات السيد المسيح هو: ذلك الذى من أجله جئت. ولتوضيح اسم الموصول يمكن إضافة كلمة أفعل فتكون ترجمة كلمات السيد المسيح الحرفية هي: إفعل ذلك الذى من أجله جئت. لقد احتقر السيد المسيح قبلة يهوذا وكأنه يقول له: كفى هذا الخداع، وافعل هذا الذى من أجله جئت. وفى النسخة السريانية تصاغ  كلمات السيد المسيح على هذا النحو: عال هو ديتايت. وتترجم العبارة: هل هذا هو الذى من أجله أتيت؟.[53]

عدد 51: عبد (Ton doulon) وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه.

كلمة “عبد” مسبوقة بأداة التعريف، وهذا يعني أنها تشير إلى العبد الخاص برئيس الكهنة. وأما كلمة “أذن” فهى مذكورة فى صورتها المصغرة “Wtion” وتعني (حسب الاستعمال الشعبي الذي يعبر بالتصغير عن جزء من عضو الجسم) جزءا من الأذن. وربما يعني ذلك أن بطرس قصد أن يضرب رأس العبد ولكن ضربته انحرفت فأصابت الأذن.

عدد 53: أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لى أكثر من اثني عشر جيشاً:

قارن هذا مع ما قيل فى قصة أليشع وغلامه (2مل6: 15-19).

عدد 64: أنت قلت (Su eipas) “فأجاب رئيس الكهنة وقال له: استحلفك بالله الحى أن تقول لنا، هل أنت المسيح ابن الله. قال له يسوع: أنت قلت.

 

بهذه العبارة، صادق السيد المسيح على قول رئيس الكهنة بأنه هو المسيح ابن الله، وكأنه يقول لرئيس الكهنة: أنت قلت الحق وأن ما سألتنى عنه هو الحقيقة. وهذه العبارة أجاب بها السيد المسيح على رئيس الكهنة، هى نفس العبارة التى أجاب بها على يهوذا (انظر نفس الاصحاح عدد25).

أيضا (Plyn) “وأيضا أقول لكم من الآن تبصرون ابن الانسان جالساً عن يمين القوة”

أى بغض النظر عن تأكيدي وشهادتي، فانكم سوف تتأكدون وترون بأنفسكم. فشهادة السيد المسيح لنفسه، تؤكدها بينات واضحة ظاهرة يشهد بها الجميع.

عدد72: الرجل (To anthrwpon) “فأنكر أيضا بقسم أنى لست أعرف الرجل”:

لقد بالغ سمعان بطرس فى انكار السيد المسيح، أنه اقسم أنه لا يعرف حتى اسم المسيح، فدعاه بالرجل.

عدد 74: يلعن (Katathematizein)، فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف أني لا أعرف الرجل:

بدأ بطرس يتمادى ويغالي فى تنكره للمسيح. فيما سبق أقسم فقط أنه لا يعرف المسيح، والآن يضيف اللعنات يصبها على نفسه اذا لم يكن الأمر كما يقول هو فعلاً.

 

 

العظة التاسعة لآباء معاصرين – ليلة الجمعة العظيمة

أرض جديدة وسماء جديدةد. وليم سليمان[54]

لقد كان مجيء المسيا هو أمل العهد القديم كله، وكانوا يؤمنون بأن الأرض في عهده ستعود فردوساً يملأه الجمال والسلام الشامل بين الكائنات جميعاً.

ولعل هدف آيات الشفاء العديدة التي صنعها يسوع هو أن يدرك الجميع أنه جاء ليرد الإنسان إلى كماله الأصيل. ولينفي من حياته ما سببته له الخطية من تشويه جسدي ونفسي وروحي، ومن مرض، وموت وشقاء.

ولقد تابع الرسل نفس عمل سيدهم “الذي جال يصنع خيراً، ويشفي” (أع10: 38) وهكذا كان شفاء الأعرج (أع3: 2- 11)، وجرت علي أيدي الرسل آيات وعجائب كثيرة في الشعب (أع5: 12) وانطلقت قوة الشفاء تلقائية منهم كما كان يحدث مع سيدهم، حتى أن الناس كانوا يحملون المرضى خارجاً في الشوارع ويضعونهم على فرش وأسرة – حتى إذا جاء بطرس يخيم ولو ظله على أحد منهم (أع5: 15، 16؛ 9: 12).

وعوض البلبلة التي صار اليها الإنسان حين حاول التشامخ وبناء برج بابل- وبعد أن كانت الأرض شعباً واحداً ولساناً واحداً لجميعهم، لم يعد أحد منهم يسمع لسان الآخر (تك11: 1- 9) عوض ذلك كله جاء معجزة التفاهم يوم الخمسين، إذ فهم الحاضرون في أورشليم ما كان يقوله الرسل “لأن كل واحد كان يسمعهم يتكلمون بلغته.. التي ولد فيها” (أع2: 5- 12).

ولتصوير الطبيعة الجديدة للجماعة التي تكونت بواسطة تجسد الكلمة، يستخدم كاتبو العهد الجديد تشبيهات يستمدونها من العالم المادي – ليوضحوا بها أنه كما جاءت خلقة الكون بالنور والامتلاء والنظام والتناسق عوض الظلمة والخواء والخراب، هكذا بالنسبة للكنيسة، أنها خليقة جديدة تملأ العالم بالنور والامتلاء بالخير والمحبة. يقول بولس الرسول: “لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح” (2كو4: 6) وهكذا يكثر استخدام تشبيه النور للدلالة على مجيء المسيح وعمله (يو1: 9، 10؛ يو8: 12؛ يو11: 46) وعلى مهمة كنيسته والمؤمنين به (مت5: 14، 16؛ أف5: 8؛ 1تس5: 5- 8؛ 1يو1: 5- 7).

وكما رأي الله ما عمل فإذا هو جميل بل وجميل جداً، هكذا كانت دعوة يسوع لتأمل الطيور والزنابق (مت6: 26، 28، 29) بل ويصحح العهد الجديد كل ما طرأ علي الخليقة من نقص، ومن التفرقة بين ما هو طاهر وما هو نجس (رو14: 14، 20؛ أع10: 15؛ 1كو10: 23).

ولقد رأينا أن العصر المسياني في أقوال الأنبياء هو عصر السلام الكوني (إش1: 6- 8) ولقد أراد المسيح أن يتحقق ذلك في كنيسته، فكانت وصيته بمحبة الأعداء (مت5: 43- 48؛ لو6: 27- الخ) التي طبقها هو نفسه على الصليب (لو23: 34) ، كما مارسها الشهيد الأول اسطفانوس (أع7: 6).

 

ولم تعد أرض كنعان وحدها هي أرض العبادة، يقدمها شعب اليهود فقط، بل يتنبأ الأنبياء بأن الأمم جميعاً يسبحون الله ويقربون له الذبيحة والبخور (ملا 1: 11؛ إش19: 19- 22) ووجد متى في هروب يسوع إلى مصر وعودته منها تحقيقاً للنبوة القائلة، من مصر دعوت ابني (هو11: 1؛ مت2: 13- 15).

أما الإنسان الذي اكتملت به الخليقة الأولى وصارت جميلة جداً، فتعاد خلقته في المسيح، ليكون “خليقة جديدة” (2كو5: 17) وبالمعمودية يولد ميلاداً ثانياً (تي3: 5).

والتسلط الذي كان للانسان الأول على الخليقة، يعود لآدم الثاني على كل مظاهر الطبيعة، وبالذات علي المرض والتشويه الجسدي، ويصل سلطانه إلى ذروته حين كان يعمل في قلوب سامعيه فيؤمنون به ويتبعونه، وهو السلطان نفسه الذي انتقل إلي جماعته ومارسته.

ولقد كان في جنة التكوين شجرتان: شجرة المعرفة، وشجرة الحياة. ورأينا أن الأكل من المعرفة بدون حياة كان سبب انفصال الإنسان عن أصله الحي.

وفي ملكوت السموات، المعرفة هي المحبة، يقول يسوع: “ليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الإبن” (يو10: 22).

لماذا هذه المعرفة المتبادلة، والمقصورة على طرفيها؟ لأن “الآب يحب الابن” (يو3: 35؛ 5يو: 20؛ يو10: 17). “لأن الله محبة” (1يو4: 8- 16).

هو المحبة المطلقة، ومن هنا المعرفة الكاملة المتبادلة بين المحب والمحبوب. إن المعرفة هي الحب.

ويواصل السيد حديثه: فيفتح العلاقة بين الآب والابن لتضم عناصر جديدة، فلا تعود المعرفة المحبة قاصرة عليهما، بل يضيف “ومن أراد الابن أن يعلن له” (لو10: 22).

كيــــف؟..

بالمحبة – هنا أيضاً في هذه العلاقة الجديدة.

“كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا. اثبتوا في محبتي، إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي، كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته” (يو15: 9، 10).

 

هكذا تنفتح العلاقة: الآب يحب الإبن، والإبن يحب الآب، والمؤمنون يحبون الإبن، فيدخلون في نطاق علاقته بالآب – علاقة المعرفة المحبة.

إن السيد يخاطب أباه: “أيها الآب البار إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك، وهؤلاء عرفوا أنك أرسلتني، وعرفتهم اسمك، وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به. وأكون أنا فيهم” (يو17: 25، 27).

فكما أن علاقة الآب والإبن هي علاقة المعرفة المحبة. كذلك بين الإبن والمؤمنين به: “كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا. اثبتوا في محبتي” (يو15: 9).

ولكن ثمة مجال آخر لا تكتمل المعرفة المحبة إلا إذًا سادت فيه – هو العلاقة بين المؤمنين وبعضهم البعض. المبدأ نفسه يسود هنا أيضاً.

“هذه هي وصيتي – أن تحبوا بعضكم بعضا كما أحببتكم.. بهذا أوصيكم حتي تحبوا بعضكم بعضاً” (يو15: 12و 17) وتصبح المحبة بين البشر هي دليل محبة الله: “أيها الأحباء – لنحب بعضنا بعضًا، لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب فقد ولد من الله، ويعرف الله، ومن لا يحب لم يعرف الله – لأن الله محبة.. الله لم ينظره أحد قط؛ إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا، ومحبته قد تكملت فينا” (1يو4: 7و 13).

وإذا كان يسوع قد قال إنه “ليس لأحد حب أعظم من هذا – أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو15: 13).

فان المبدأ نفسه ينطبق على العلاقة بين المؤمنين “بهذا قد عرفنا المحبة – أن ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة” (1يو3: 19- 19).

وتصل المعرفة المحبة المتبادلة بين الآب والإبن والبشر إلى ذروتها حين تتحقق الوحدة بينهم جميعاً، هنا تتحقق للإنسان – شخصاً وجماعة، مشاركة الطبيعة الإلهية. وهذا ما تضمنته صلاة السيد الأخيرة قبل آلامه:

“أيها الآب القدوس –

إحفظهم في إسمك، الذين أعطيتني،

ليكونوا واحداً كما نحن..

ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم.

ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك،

ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا،

ليؤمن العالم أنك أرسلتني.

 

وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد.

أنا فيهم، وأنت فيَّ، ليكونوا مكملين إلى واحد،

وليعلم العالم أنك أرسلتني، وأحببتهم كما أحببتني…” (يو17: 11- 23).

هكذا تصبح شجرة المعرفة في ملكوت ابن الله هي المحبة – الحياة.. فالمعرفة تصبح حياة:

“هذه هي الحياة الأبدية – أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته” (يو17: 3).

فماذا إذن عن شجرة الحياة التي كانت في الفردوس؟

يقول السيد: “من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية…” (يو6: 54).

هذه هي شجرة الحياة في الأرض الجديدة، التي وضعها ابن الله في ملكوته. إنها تقدم طعاماً يتجاوز ما كان للشعب الأول “آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا، هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت، أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يو6: 49- 51).

هكذا كانت نظرة المسيحيين لجماعتهم -إنها حدث جديد، ليس أقل من خليقة جديدة تتحقق فيها كل رؤى الأنبياء القدامى، فهل بهذا وصل مسار تاريخ الخلاص إلى المستقبل النهائي الذي كان يتجه إليه؟

لقد ذكرنا أن العهد القديم لا يمكن فهمه إلا على أنه واقع يجري فيه استباق الزمان، بحيث أن الآخرة دائماً تصاحب البداية وتواصل معها المسار، فالزمان الدوري الذي يتكرر بلا مخرج ولا نهاية، أو الردة إلى الماضي، أو تجميد الواقع – كل هذا مرفوض – إن التاريخ في العهد القديم منفتح دوماً على المستقبل الذي يشد الحاضر إليه، ويتغلغل فيه.

هل تقتصر هذه النظرة على العهد القديم؟

لقد كان أشعياء يبشر بأن الله سيخلق “سموات جديدة وأرضاً جديدة، فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال” (إش65: 17؛ 66: 22)

ولكن.. بعد مجيء المسيح، ما زال “الجديد” متقدماً على الإنسان، ينطبق عليه ما كان يقوله بلعام نبي موآب: “أراه ولكن ليس الآن. أبصره ولكن ليس قربياً…” (عد24: 16، 17).

كيف يحدث هذا في العهد الجديد؟

إن بطرس الرسول يستخدم نفس كلمات إشعياء ليبشر بمجيء “جديد” هو أيضاً وعد: “إننا بحسب وعده ننتظر سموات جديدة وأرضًا جديدة يسكن فيها البر” (2بط3: 13).

هذا الجديد يظل “رؤيا” يبصرها يوحنا ويسجلها في آخر أسفار الكتاب المقدس، وتصبح هذه الرؤيا بدورها من أقوال النبوة” (رؤ 1: 3؛ 19: 10؛ 22: 18، 19).

وليس من شك في أن كلمات بطرس ويوحنا هنا توضح جانباً هامًا من فكر العهد الجديد، الذي يقوم أساساً علي أنه إكمال نبوات العهد القديم، ولكن هذه الكلمات بالذات تكشف عن نظرة المسيحية إلى الزمان، وكيف أن المستقبل دائماً هو الذي يشد مساره.

يقول يوحنا الرائي: “ثم رأيت سماء جديدة وأرضًا جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا…  سمعت صوتاً عظيماً من السماء قائلاً: هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعباً، والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم، وقال الجالس على العرش ها أنا أصنع كل شيء جديداً…” (رؤ21: 1، 3- 5).. لأن الأمور الأولي قد مضت؟ هو نفسه الذي كان العهد القديم يبشر بمجيئه، الذي كان روح النبوة منه، وهو الذي عاش على الأرض، يسوع الذي من الناصرة يقدمه الرائي يحيا في الحاضر والمستقبل ويملك عليها “هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد” (عب13: 8).

المسيا، يسوع، كلمة الله – اللوغوس، ابن الإنسان ابن الله، الذَّبيحة والكاهن .

إن ذروة ما وصل إليه كاتبو العهد الجديد هو ما رآه يوحنا في وسط العرش في السماء “ورأيت فإذا في وسط العرش… خروف قائم كأنه مذبوح…” تقدم له ترنيمة جديدة: “مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة. وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وما على البحر كل ما فيها سمعتها قائلة: البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الأبدين، للجالس على العرش وللخروف، يقولون للخروف: مستحق أنت… لأنك ذبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة. وجعلتنا لإلهنا ملوكاً وكهنة، فسنملك على الأرض” (رؤ 5: 6- 11).

هذا هو “حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 1: 29) الذي رآه المعمدان في بداية ظهوره على الأرض، وقد صار في المجد، في وسط العرش بعد أن أكمل تدبير الفداء.

وتهيمن رؤيا الخروف الذبيح على العرش يقدم له التمجيد على السفر كله.

ويؤكد الرائي مرة بعد أخرى مهمة هذا الحمل في الربط بين الله وإلإنسان، وكيف أنه بصبغة دمه تكون الشركة بين الإثنين، وتكوين الكنيسة: “بعد هذا نظرت وإذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعده من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة واقفون أمام العرش وأمام الخروف، متسربلين بثياب بيض وفي أيديهم سعف النخل، وهم يصرخون بصوت عظيم قائلين: الخلاص لإلهنا الجالس على العرش وللخروف… وجميع الملائكة… خروا أمام العرش وسجدوا لله قائلين آمين. البركة والمجد والحكمة والشكر والكرامة والقدرة والقوة لإلهنا إلى الأبد.آمين”.

 

هنا نجد أن هذا التعظيم يقدم تكريماً للذبيحة، للحب، للإله الذي هو حب، وقد بذل كلمته نفسه، وصار حملاً ذبيحاً يرش دمه فتبيض ثياب المؤمنين به: “هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة وقد غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف، من أجل ذلك هم أمام عرش الله ويخدمونه ليلا ونهارًا في هيكله. والجالس على العرش يحل فوقهم، لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحر، لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية، ويمسح الله كل دمعة من عيونهم” (رؤ7: 9- 17).

هذا التمجيد للحب وللفداء تقدمه الكنيسة القبطية طوال أسبوع الآلام. ففي كل ساعة من ساعات صلوات أيام هذا الأسبوع تقتصر نصوص الصلاة على هذه التسبحة عينها التي وردت في سفر الرؤيا مقدمة لله وللحمل الذبيح، الكنيسة إذ تقوم طقسياً باستعادة الماضي – أحداث آلام الكلمة المتجسد “الحمل الذي يحمل خطايا العالم، فإنها في نفس الوقت تعبر نحو المستقبل إلى السماء عينها. وهكذا تصاحب يسوع في لحظات معاناته وتخاطبه مقدرة عمله وممجدة حبه، كي تضم إلى صورته حاملاً الصليب وقابلاً الإهانة، صورته في المجد، لتكون الصورتان معاً شخص المحبوب: الذبيح والكاهن.

بل إنه بعد انتهاء طقوس يوم الجمعة، وإذ تستعيد الكنيسة وضع المسيح في القبر، تسهر الليل حول قبره الطقسي.

ماذا تتلو الكنيسة وقتئذ، وكيف تفكر؟

أنها تقرأ سفر انتصار الحمل – سفر الرؤيا.. إنها تعلن أن لحظة الدفن في القبر التي حسبها العالم نهاية يسوع، هي بالذات لحظة انتصاره وملكه الأبدي.

هنا إيمان بسلطان الحب وفاعليته، فكلما بذل الحب وضحى، ازداد مجداً وانتصاراً، وتأكد سلطانه، وبهذا تعلن الكنيسة منهجها في السلوك وسط العالم وتضع أمام أولادها النموذج الحي والكامل لهذا المنهج: “له على ثوبه وعلى فخده اسم مكتوب: ملك الملوك ورب الأرباب” (رؤ 19: 16).

هو نفسه “يسوع المسيح الشاهد الأمين، البكر من الأموات ورئيس ملوك الأرض، الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه، وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه” (رؤ1: 5، 6).

وحين ينهض ملوك الوحش للحرب -إذ يحاربون “الخروف” فإن “الخروف يغلبهم، لأنه رب الأرباب وملك الملوك، والذين معه مدعوون ومختارون ومؤمنون” (رؤ17: 12- 14).

وسفر الرؤيا هو كتاب انتصار المسيح، والكنيسة.

إن ما حققه بدمه، صار نصيباً لجسده، ولكل عضو فيه، ومن هنا يكرر الرائي أنه جعلنا مثله “ملوكاً وكهنة” (رؤ1: 6؛ 5: 10؛ 20: 6).

ويسجل الرائي كيف رأى الوحش وملوك الأرض وأجنادهم مجتمعين ليصنعوا حرباً مع كلمة الله، ولكن الوحش يتم القبض عليه والنبي الكذاب معه. وطرح الاثنان حيين إلى بحيرة النار المتقدة بالكبريت، ثم قبض على التنين الحية القديمة الذي هو إبليس الشيطان، وقيده… وطرحه في الهاوية وأغلق عليه وختم عليه لكي لا يضل الأمم في ما بعد…” (رؤ19: 19؛ 20: 1- 3؛ 3: 21؛ 6: 20).

“وسمعت صوتاً عظيماً قائلاً في السماء: الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه لأنه قد طرح المشتكي على إخوتنا، وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم، ولم يحبوا حياتهم حتي الموت” (رؤ12: 10، 11).

ماذا يعني قيد التنين، والانتصار عليه؟ هل يعني هذا أن المؤمنين قد صاروا فعلاً إلي الراحة فلا يكون ثمة جهاد؟..

 

يجيب الرائي عن ذلك فيقول: “إن الوحش كان، وليس الآن، مع أنه كائن” (رؤ17: 7- 9).

لقد كان الشيطان منتصراً، ولكنه بدم الحمل ليس الآن في حالة انتصار. إنه مقيد، لم يسحق نهائياً، فهو كائن يشن الحرب، ولكن قيوده تمنعه من أن يحقق أي نصر، فالغلبة لمن له دم الخروف مؤكدة “هنا الذهن الذي له حكمة” (رؤ17: 9).

ولهذا فإن من بين من لا يدخلون المدينة المقدسة، بل نصيبهم الموت الثاني – الخائفين وغير المؤمنين (رؤ21: 8).

وتمتليء الرؤيا بالوعود لمن يغلب:

يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله (رؤ2: 7).

لا يؤذيه الموت الثاني (رؤ2: 11).

يأكل المن المخفي (رؤ2: 17).

سأعطيه سلطاناً على الأمم… وأعطيه كوكب الصبح (رؤ2: 26).

سيلبس ثياباً بيضا ولن أمحو إسمه من سفر الحياة وسأعترف بإسمه أمام أبي وأمام ملائكته (رؤ3: 5).

يجعله عموداً في هيكل الله ولا يعود يخرج إلى خارج ويكتب عليه اسم الله واسم مدينة الله أورشليم الجديدة النازلة من السماء (رؤ3: 12).

سأعطيه أن يجلس معي في عرشي كما غلبت أنا أيضاً وجلست مع أبي في عرشه (رؤ3: 21).

يرث كل شيء وأكون له إلهاً وهو يكون لي أبناً (رؤ21: 7).

“وسمعت كصوت جمع كثير… هللويا، فإنه قد ملك الرب الإله القادر على كل شيء” (رؤ19: 6).

وحين تتحقق الغلبة على الوحش، يرنم المنتصرون ترنيمة العبور: “ورأيت كبحر من زجاج مختلط بنار، والغالبين على الوحش وصورته وعلى سمته وعدد اسمه واقفين على البحر الزجاجي ومعهم قيثارات الله. وهم يرتلون ترنيمة موسى عبد الله وترنيمة الخروف…” هذه الترنيمة هي التي سبح بها موسى والشعب (رؤ15: 2- 4) بعد عبور البحر الأحمر (خر15): فثمة خروج ثالث، بعد الخروج من مصر، والخروج الثاني إلى بابل، إلى برية الشعوب.

 

وفي طقس الأفخارستَّيا ترتل الكنيسة القبطية في بداية الليتورجيا هذه التسبحة نفسها. لأن الكنيسة بالأفخارستيا تعبر إلى السماء، تشترك مع الغالبين في تسبيحهم وتصنع مقدماً وليمة المسيا التي وعد تلاميذه بأن يأكل منها جديداً في ملكوت السموات (لو22: 16 و18)، إنها تستبق الزمان وتأكل وتشرب على مائدة سيدها في ملكوته (لو22: 30) في عشاء عرس الحمل (رؤ19: 9).

وتمتليء الرؤيا بهؤلاء المنتصرين في ثياب بيض (رؤ3: 4و18؛ 4: 4؛ 6: 11؛ 7: 9و13و14؛ 19: 14و8) هي الثياب التي يرتديها المعمد إذ يخرج من مياه المعمودية، وهي ثياب الكاهن والشماس – كممثلين للشعب كله – في خدمة الأفخارستَّيا – تأكيداً للعبور والحياة أثناء الخدمة في الدهر الآتي:

ويبتديء يقين انتصار الله ومملكته، من يقينية وجوده في الحاضر، وعلى الخصوص من أنه سيد المستقبل، وسيجيء فيه.

“أنا هو الأول والآخر

والحي وكنت ميتاً

وها أنا حي إلي أبد الأبدين (رؤ1: 17، 18).

“أنا هو الألف والياء … البداية والنهاية

يقول الرب الكائن ، والذي كان والذي يأتي

القادر علي كل شيء” (رؤ1: 8).

أمًا الوحش، فعلى الرغم من أنه كان، إلا أنه ليس الآن، وحتى إن كان كائناً مقيداً، فبالتأكيد لن يكون في المستقبل، إنه لا يقدر في المستقبل على أي شيء، أما يسوع فإنه:

“الأول والآخر الذي كان ميتاً فعاش…” (رؤ2: 8).

“أنا الألف والياء البداية والنهاية الأول والآخر” (رؤ22: 13؛ 21: 6).

 

وتظل الصلة بين المسيح وكنيسته – جسده – كما بين المسيح وكل عضو في هذا الجسد، صلة حميمة شخصية.

فالكنيسة هي عروس المسيح، امرأة الحمل والدة من هو عتيد أن يرعى الأمم (رؤ12: 1و5؛ 14: 1و4؛ 21: 9).

“لنفرح ونتهلل ونعطيه الحمد “لأن عرس الخروف قد جاء وامرأته قد هيأت نفسها، وأعطيت أن تلبس بزاً نقياً بهياً، لأن البز هو تبريرات القديسين” (رؤ19: 7- 9؛ 21: 2).

“وهي المدينة المقدسة… مسكن الله مع الناس…” (عب11: 16؛ رؤ21: 2و10؛ 22: 19؛ 21: 9- الخ).

وهي “أورشليم الجديدة، المقدسة (رؤ21: 2و10)، يجد فيها اليهودي مدينته الأولى وقد تمجدت، وصارت إلي صورتها الأصيلة التي تتفق وإرادة الله، بريئة من القومية الزمنية ونزعات التسلط والكبرياء ويكون الله هو نفسه ملكها، إنها تلك التي من أجلها كان إبراهيم واسحق ويعقوب يعتبرون أرض الموعد التي منحت لهم، وأثناء وجودهم عليها – “كأنها غريبة” (عب11: 9) لأنهم كانوا ينتظرون “المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله” (عب11: 10) يقول الرائي: “ولم أر فيها هيكلاً لأن الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها، والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها لأن مجد الله قد أنارها والخروف سراجها”. تضم أسباط إسرائيل ورسل الخروف “وتمشي شعوب المخلصين بنورها” (رؤ21: 22- 24).

والصلة عميقة وشخصية بين رأس الجماعة – المدينة – وكل عضو فيها. “من يغلب… أعطيه حصاة بيضاء، وعلى الحصاة اسم جديد مكتوب لا يعرفه أحد غير الذي يأخذ” (رؤ2: 17).

وإذا كان أتباع الحمل الذين لهم اسم أبيه مكتوباً على جباههم يترنمون كترنيمة جديدة – لم يستطع أحد أن يتعلم الترنيمة غيرهم (رؤ14: 1- 5).

وثمة عبارة جاءت في رسالة يوحنا الرسول الأولى غامضة ولن ينكشف معناها في هذا الدهر، يقول: “أنظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله! من أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنه لا يعرفه. أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله. ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو. وكل من عنده هذا الرجاء به يطهر نفسه كما هو طاهر” (1يو3: 1- 3).

وتكتمل تماماً جميع نبوات العهد القديم “ثم قال لي: «قد تم»” (رؤ21: 6؛ 16: 17) فلقد جاء الذي من أجله كانت الرموز والطقوس والشرائع والنبوات، جاء المسيا، الحمل، الملك الحقيقي سيد العهد القديم ومكمله “ثم نظرت وإذا خروف واقف على جبل صهيون…” (رؤ14: 1).

ويصف الرائي كيف تلتئم الكنيسة ورأسها في شركة حب لا تنتهي:

“وأراني نهراً صافياً من ماء حياة لامعاً كبلور، خارجاً من عرش الله والخروف. في وسط سوقها.

وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتي عشرة ثمرة، وتعطي كل شهر ثمرها، وورق الشجرة لشفاء الأمم.

ولا تكون لعنة ما في ما بعد.

وعرش الله والخروف يكون فيها، وعبيده يخدمونه. وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم.

ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس.

لأن الرب الإله ينير عليهم.

وهم سيملكون إلي أبد الآبدين” (رؤ22: 1- 5).

لقد رأى يوحنا هذا كله في “يوم الرب” (رؤ1: 10).

والكنيسة تحيا ما أبصره الرائي، وتعبر إليه، وتطعم من شجرة الحياة نفس اليوم، يوم الرب.

إنها تختبر حضور السيد في وسطها، وتتحد به جسداً له، كذبيحة هي نفس الوقت مقبولة وممجدة.

 

 

 

المراجع

 

[1]   تفسير انجيل يوحنا – ص18- القمص تادرس يعقوب ملطي.

[2]  تفسير انجيل لوقــا – ص22 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[3]  تفسير إرميا – اصحاح 8 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[4]  تفسير مزمور 102 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[5]  تأملات في مزامير الآلام – القمص لوقا سيداروس.

[6]  كتاب تأملات في مزامير الآلام – صفحة ١٢٩ – القمص لوقا سيداروس.

[7]  آلام المسيح والقيامة – دراسة في الأناجيل الأربعة – القمص أنطونيوس فكري.

[8]  تفسير انجيل يوحنا – الإصحاحات 13- 17 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[9]   تفسير مزمور ١٠٨ – أبونا تادرس يعقوب ملطي

[10] تفسير مزمور ١٠٨ – أبونا تادرس يعقوب ملطي

[11]  تأملات في مزامير الآلام – صفحة 132 – القمص لوقا سيداروس.

[12]  تفسير سفر حزقيال – ص22 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[13]  تفسير مزمور 59 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[14]  تفسير مزمور 69 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[15]  تأملات في مزامير الآلام – صفحة 135 – القمص لوقا سيداروس.

[16]  تفسير إنجيل متي – إصحاح ٢٦ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[17]  المرجع السابق.

[18]  تفسير إنجيل لوقا إصحاح ٢٢ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[19]  تفسير إنجيل لوقا إصحاح ٢٢ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[20]  المرجع السابق.

[21]  تفسير إنجيل يوحنا – إصحاح ١٨ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[22]  المرجع السابق.

[23]  المرجع السابق.

[24]  المرجع السابق.

[25]  تأملات في مزامير الآلام – صفحة 140 – القمص لوقا سيداروس.

[26]  تفسير إنجيل يوحنا إصحاح ١٨ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[27]  مقدمات في العهد الجديد – دكتور موريس تاوضروس.

[28]  تفسير إنجيل متي إصحاح ٢٦ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[29]  تفسير أناجيل (متي ٢٦: ٥١)، (لوقا ٢٢: ٥١)، (يوحنا ١٨: ١٠) – القمص أنطونيوس فكري.

[30]  تفسير إشعياء – الإصحاح ٢٨- القمص تادرس يعقوب ملطي.

[31]  تفسير مزمور ٢ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[32]  تأملات في مزامير الآلام – صفحة 144 – القمص لوقا سيداروس.

[33]  آلام المسيح والقيامة – دراسة في الأناجيل الأربعة ـ شرح أحداث يوم الجمعة – القمص أنطونيوس فكري.

[34]  تفسير انجيل لوقا – اصحاح 22 – القمص أنطونيوس فكري.

[35]  تفسير إنجيل مرقس إصحاح ١٤ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[36] تفسير انجيل يوحنا – اصحاح 22– القمص تادرس يعقوب ملطي.

[37] المرجع السابق.

[38]  تفسير إنجيل متي – إصحاح ٢٦ – القمص أنطونيوس فكري.

[39]  كنز التفسير – ص ٥٩٧ – الشماس بشارة بولس.

[40]  كتاب ضد الأريوسيين – البابا أثناسيوس الرسولي – المقالات الثلاث – الفصل التاسع والعشرون – إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية – دكتور نصحي عبد الشهيد.

[41]  العلامة أوريجانوس – رسالة إلي الشهداء – صفحة ٦١ – ترجمة الأستاذ موسى وهبة وتقديم القس يسطس شحاتة راعي كنيسة مار جرجس خمارويه شبرا.

[42]  كتاب تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الأسكندري – عظة ١٤٦ صفحة ٧١٠ – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[43]   تفسير رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين – صفحة ١٣٩ – ترجمها عن اليونانية دكتور سعيد حكيم يعقوب.

[44]  تفسير أمثال ٢٥ ، مزمور ٥٧ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[45]  كتاب تأملات في خميس العهد – المتنيح البابا شنودة الثالث.

[46]  كتاب المنجلية القبطية الارثوذكسية  – صفحة 363 – قداسة البابا تواضروس الثاني.

[47]  كتاب تفسير إنجيل يوحنا – اصحاح 17- للمتنيح أنبا أثناسيوس مطران بني سويف والبهنسا – اصدار مطرانية بني سويف.

[48]  كتاب يسوع المصلوب – الفصل الاول – القس منسي يوحنا – مكتبة المحبة.

[49]  كتاب عظات مضيئة معاشة – صفحة 311 – إصدار مطرانية ملوي وأنصنا والأشمونيين.

[50]  كتاب صياد الجليل بطرس الرسول صفحة ٨٦ – القمص إشعياء ميخائيل – كنيسة الملاك بالظاهر.

[51]  كتاب القديس بطرس الرسول يعلمني – صفحة 72 – القمص لوقا سيداروس.

[52]  كتاب المدلولات اللاهوتية والروحية في الكتاب المقدس بحسب ما جاء في انجيل متي – الدكتور موريس تواضروس – استاذ العهد الجديد بالكلية الاكليريكية.

[53]  Lexicon to the Syriac New Testament by Jennings,Oxford 1926. P.163.

[54]  مجلة مدارس الأحد – عدد يناير لسنة ١٩٨١.