يوم الخميس من البصخة المُقدَّسة

 

“فحممتك بالماء، وغسلت عنك دماءك، ومسحتك بالزيت” (حز 16: 9).

[وعند إصعاد الذبيحة على مذبحك تضمحل الخطية من أعضائنا بنعمتك، عند نزول مجدك على أسرارك ترفع عقولنا لمشاهدة جلالك، عند إستحالة الخبز والخمر إلى جسدك ودمك تتحول نفوسنا إلى مشاركة مجدك وتتحد نفوسنا بألوهيتك] (قسمة للقديس كيرلس).

[تعال أيها الرب يسوع، ولتخلع ثيابك، هذه التي لبستها من أجلي.

لتصر عاريًا لكي تكسوني برحمتك.

لتتزر من أجلنا بمنشفة، لكي تجعلنا نتزر بعطية الخلود.

لتسكب ماءً في مغسل، فلا تغسل أقدامنا فحسب بل ورأسنا، ليس فقط لأجسادنا بل ولخطوات نفوسنا. أود أن تنزع كل دنسٍ لضعفنا..

يا لعظمة سموك! كخادمٍ تغسل أقدام تلاميذك، وكإله ترسل ندى من السماء.

ليس فقط تغسل الأقدام، وإنما تدعونا أيضًا أن نجلس معك، وبمثال كرامتك تحثنا قائلًا: “أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا، وحسنًا تقولون لأني أنا كذلك، فإن كنت أنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض”.

إذن أود أنا نفسي أن أغسل أقدام إخوتي؛ أود أن أكمل وصية ربي، فإني لا أخجل من نفسي، ولا أستخف بما فعله ذاك أولًا.

سرّ عظيم وحسن لا يفهمه أحد] (القديس أمبروسيوس)[1]

 

 

موضوع اليوم

اليوم هو أيقونة المسيحية.. منهج الحياة وروح الخدمة.. الطريق الوحيد للاتحاد بالمسيح له المجد.. النزول للأقدام للصعود للسماويات.. شكل وروح المحبّة.. سُلَّم العظمة في حياتنا اليومية.. آثار أقدام مُخلِّصنا وآثار يديه.. باب المجد.

اليوم الذي نزل فيه الرب له كل المجد عند أقدام البشر بكل ضعفاتهم ونجاساتهم ليغسل الضعف والقذارة ويجعلنا أطهاراً بل وقديسين

اليوم الذي لم يختار من منهم الأفضل والأعظم فالكل تحت الضعف وفِي الموازين إلى فوق بل اختار عمل نعمته فيهم وفيض حُبَّه الإلهي لهم حتي الخائن لم يحرمه من لمسات يديه الطاهرتين الطوباويتين اللتين بلا عيب ولا دنس.

اليوم الذي صار لنا حياةً وطقساً ومنهجاً وطريق لكل من يريد أن يدرك سرّ الخدمة في المسيح..

فلا خدمة بلا غسل أقدام، وإذا كان الإله العظيم في مجده القدّوس الديّان الذي ترهبة جيوش الملائكة ورؤساء الملائكة اختار أن يكون عند أقدام خليقته، فماذا عسانا أن نقول أو حتي نفتكر في دواخلنا مع أي شكل من أشكال الاتضاع، وهل بعد هذا يمكن أن نُسمِّي ما نفعله للآخرين اتضاع، أم أننا نحاول أن نقترب من سرّ اتضاعه ونجتهد أن نأخذ من وميض مجد تنازله العجيب.

فهل بعد هذا معني آخر للخدمة، وكيف نتعلم من سيدنا العظيم معني السيادة في الكنيسة ورسم التعليم وزينته في المسيح.

فالخدمة صارت قبولاً واعيا للنزول عند أقدام الآخرين لا في خنوع أو خوف أو مظاهر زائفة أو صورا فوتوغرافية جميلة، بل أصبحت قراراً ومصيراً لكل حياتنا أن نتحمّل مسؤولية قذارة الآخرين وخطاياهم، ونتعهد أمام الله أن نغسلها، ليس نحن بأيدينا، لكن عندما تنحني كرامتنا المزعومة ونتنازل بإرادة واعية عن مكانتنا لأجل رسالتنا، ونقبل أن نغسل الأقدام، عندئذ تتقابل أيدينا عند أقدام الآخرين مع يديه الإلهية ونكتشف غنى عمله في الخادم والمخدوم، وأننا لم نعد نغسل أقدام أحد، بل يديه هي التي تغسلنا جميعا وتطهرنا وتنقينا وتقدسنا، ونجد أن سر المسيح موجودا في خدمة الآخرين حتي الأقدام، ومُسْتَعْلَناً فيها مثل ما هو في ساعات الصلاة ونسك الصوم إن لم يكن أكثر، وأنها حبات البخور التي رغم قِلَّتْها مع حرق الفحم الذي هو أصوامنا وصلواتنا يشرق برائحة بخور تملأ جو الخدمة بهواء النعمة المغيرة، ويصير الجميع تحت سلطان وقوّة غني عمل النعمة عندما يغسل بعضنا أرجل بعض.

فلنفرح اليوم بأيقونة تواضعنا رب المجد، ولنجعل اليوم هو حياتنا ومصيرنا ومجدنا الوحيد الذي نريده وكياننا الفريد في المسيح، ولا ننسى أن يديه الطاهرتين لا تمسك فقط جسده الطاهر على المذبح، بل أيضا ما زالت موجودة عند أقدام الآخرين وعند خدمتهم واحتياجهم وضعفهم، فعندما نمسك الخبز ونقول أخذ خبزاً علي يديه الطاهرتين، ونؤمن بأن أيدينا لم تعد عاملة في السر، فهكذا أيضا في الخدمة عندما تتلامس أيدينا مع ضعف الآخرين وتعبهم نكون قد تلامسنا مع يديه، ونكتشف إفخارستيا أخرى وجانب آخر من كهنوتنا في المسيح يحوّل الإنسان الذي أمامنا بالحب الإلهي إلى إنسان جديد.

وصارت أيدي ابن الله على مذبحه الُمقدَّس، وصارت أيضاً عند أرجل البشر تحمل أوجاعهم، فطوبى لكل نفس تقترب إلى مذبح الله لتتحد بابن الله، وطوبى لكل نفس تنحني بوعي واتضاع أمام احتياجات البشر لترفع عنهم آلامهم وتحيا على الدوام خميس عهد الاتضاع والحب.

فلنقترب إلى هذا السر بكل خشوع ضارعين لمراحمه الإلهية أن يقبل أيدينا مع أيديه، ويعلمنا سر اتضاعه العجيب، لنؤهل للاتحاد به في الإفخارستيا، وتعلن حياتنا وخدمتنا وشركتنا خميس عهد الحب والاتضاع والشركة المُقدَّسة.

 

❖ شرح القراءات

تأتي قراءات هذا اليوم لتُعلن عن فصح العهد الجديد والذي فيه يكشف الرب عن ثلاثة أسرار إلهية من أسرار خلاصنا:

  • سر إتمام النبوّات وإبطال الرموز باستعلان المرموز إليه ومجيء فصح البشرية ورجاء إسرائيل وكل الشعوب.
  • وسر الشركة والخدمة في الكنيسة وتبنِّي خلاص الآخرين في غسل الأرجل (الحب الذي نزل إلى هبوطنا).
  • وسر الحب الإلهي وشهوة ابن الله في الاتحاد بكل نفس في الإفخارستيا (النعمة التي تصعدنا إلى عُلُّوه).
  • ونجد استعلان فصح العهد الجديد في قراءات ساعات يوم الخميس.
  • وسر الكنيسة والخدمة في قراءات لقان يوم الخميس.

فما أجمل أن تسير بنا ومعنا قراءات اليوم لتكشف لنا:

  • عن فصحنا. (قراءات يوم الخميس).
  • وعن مكانتنا ورسالتنا. (قراءات اللقان).
  • وعن مجدنا وكنزنا. (قراءات القداس).

قراءات يوم الخميس (فصح العهد الجديد)

  • [دُعي خميس العهد لأنه اليوم الأول للشريعة الجديدة] (الأرشيدياكون بانوب عبده)[2]
  • تشرح قراءات هذا اليوم رموز وظلال الفصح في العهد القديم (النبوَّات).
  • وكيف لم يفهم الرؤساء ومعهم يهوذا مجيء فصحهم بل قاوموه (المزامير).
  • وترتيب الفصح وإعداده (الأناجيل).

 

النبوَّات:

تتكلّم النبوّات عن ارتباط الفصح بالصليب في العهد القديم (باكر).

ومعني الفصح وشفاعة ابن الله (الثالثة).

وإستعداد البشرية لقبول الفصح (السادسة).

ومجئ الفصح ومجد مجيئه (التاسعة).

 

باكر يوم الخميس

تتكلّم قراءات هذه الساعة عن:

إرتباط الفصح بالصليب. (النبوَّات).

وخيانة يهوذا. (المزمور).

وإرسالية بطرس ويوحنا لإعداد الفصح. (الإنجيل).

 

النبوَّات

سفر الخروج (خر 17: 8- 16)

تشرح هذه الحادثة ارتباط الفصح والخلاص بالصليب، وكما رفع موسى يديه على رأس الجبل فيغلب إسرائيل هكذا رفع ابن الله يديه على الصليب على جبل الجلجثة لأجل خلاص البشرية.

ولكن الفرق هنا أن موسي لم يستطع أن يفعل هذا بمفرده، ولذلك خفضت يداه في وقت معين من التعب، واحتياجه لهرون وحور ليسنداه، أما ابن الله فتسمَّرت يديه ولم يحتاج إلى معين، بل حمل وحده قضية خلاصنا.

“ففعل يشوع كما قال له موسى وخرج فحارب عماليق وصعد موسى وهرون وحور على قمة الجبل فكان إذا رفع موسي يديه يغلب بنو إسرائيل وإذا خفض يديه يغلب عماليق فلما كلت يدا موسى أخذا حجراً ووضعاه تحته وجلس عليه ودعم هرون وحور يديه أحدهما من هنا والآخر من هناك فكانت يدا موسي ثابتتين إلى غروب الشمس فقتل يشوع عماليق”.

وفي هذا يقول العلاّمة ترتليان:

[مندهش أنه في الوقت الذي كان فيه يشوع يحارب مع عماليق، كان موسى يصلي جالسًا بيدين منبسطتين مع أنه كان في ظروف حرجة وكان بالحرى يلزمه أن يُصلي بركب منحنية، ويدين تقرعان على الصدر، ووجه منبطح على الأرض.. لكنه كان ضروريًا أن يحمل رمز الصليب حتى يغلب يشوع المعركة بالصليب][3]

وأيضاً العلامة أوريجانوس يقول:

[إن ما أتعجّبُ له هو لماذا اكتفى موسى بمجرّد الصلاة جالساً ويداه مبسوطتان عندما كان يشوع يحارب عماليق؟! بينما كان بالأولى جدا، في ظروف شديدة الخطورة كهذه، أن يعضّد صلاته بثني الركب وقرع الصدر واحناء الرأس إلى الأرض! سوى أنه كان هناك اسم الرب يسوع (= يشوع) هدف هذا الحديث، الذي كان معينا أن يدخل الميدان وحده يوما ما ضد إبليس، فكان مثال الصليب ضروريا، هذا الذي بواسطته ظفر المسيح بالغلبة على العدو؟!][4]

ويقول القديس غريغوريوس النزينزي:

[ما هو هذا الذي كان يجب على موسى أن يهزمه ببسط يديه فوق الجبل؟ إلا لكي يظهر الصليب ويفوز به مصوّراً ومُمَثلاً قبل زمانه؟][5]

سفر الخروج (خر 15: 23- 27؛ 16: 1- 3)

وتشرح هذه النبوَّة كيف صار الصليب مصدر الشفاء والحياة.

عندما عطش الشعب جداً وتعرَّضوا لخطر الموت عطشاً وصرخ موسى النبي إلى الرب فأراه عوداً فطرحه في الماء إشارة إلى الصليب فصار الماء عذباً، وشرب الشعب وأعطي الرب وعداً بشفائهم من أي مرض من أمراض المصريين (إشارة إلى أوجاع العبودية).

“وساروا ثلاثة أيام في البرية ولم يجدوا ماء للشرب فجاءوا إلى مارة ولم يقدروا أن يشربوا ماء من مارة لأنه مُرّ… فصرخ موسى إلى الرب فأراه الرب عوداً فطرحه في الماء فصار الماء عذباً… فكل مرض أتيت به على المصريين لا أجلبه عليك لأني أنا الرب الذي يشفيك”.

ويورد الأب يوحنا المقاري هنا كيف ربط الآباء بين الشجرة والصليب[6]:

العلامة ترتليان:

[تجدّدت المياه من عيب مرارتها إلى نعمة حلاوتها الأصلية بواسطة الشجرة التي طرحها فيها موسى. تلك الشجرة هي المسيح؛ شاهدة لذاك لذي جدّد عروق الحياة التي تسمّمت حيناً، فحولتها من الطبيعة المرة إلى مياه الخلاص التي للمعمودية].

ولكن الشجرة أيضا تشير إلى صليب المسيح: “الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة (الشجرة) لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر” (1بط ٢: ٢٤).

وقد رأى كثير من آباء الكنيسة في هذه الشجرة التي شفت المياه رمزاً للصليب الذي برشمه على ماء المعمودية يصير فيه قوة الولادة الجديدة التي تحوّل حياتنا من المرارة إلى العذوبة ومن عبودية الخطية إلى حرية مجد أولاد الله.

القديس أمبروسيوس:

[كانت مارة نبع ماء بالغ المرارة، فلمًا طرح فيها موسى الشجرة صارت حلوة. لأن المياه بدون الكرازة بصليب الرب لا منفعة منها للخلاص العتيد، ولكنها بعد أن تتقدس بسر صليب الخلاص تصير لائقة لاستخدامها في جرن (المعمودية) الروحي، وفي كأس الخلاص].

القديس غريغوريوس النيصيً:

[إن مَنْ ترك خلفه مسرّات مصر، تلك التي كان لها عبداً قبل عبوره البحر، يجد الحياة في البداية شاقة وغير مقبولة لتجرّدها من كل ما كان يجده فيها من متع وملذات. ولكن إذا طرحت الخشبة في المياه، أعني بذلك إذا اتحد الإنسان بسر القيامة المؤسس على الخشبة – حيث يتضح أن الخشبة هي الصليب – عندئذ تصير الحياة الفاضلة أكثر عذوبة من كل العذوبة التي تتمتع بها الحواس خلال الملذات].

العلامة أوريجانوس:

[فما هي هذه الخشبة التي أشار بها الرب؟ يعلمنا سليمان عنها عندما تكلم عن الحكمة قائلاً: “هي شجرة حياة لممسكيها، والمتمسّك بها مغبوط” (أم 3: 18). فإذا طرحت خشبة حكمة المسيح في الناموس… فإن مرارة الحرف الذي للناموس تتحول إلى حلاوة الفهم الروحي، وهكذا يستطيع شعب الله أن يشرب…

يتضح من هذا أنه إذا أراد أحد أن يشرب من حرفية الناموس بدون شجرة الحياة، – بمعرفة سر الصليب، بدون الإيمان بالمسيح، وبدون الفهم الروحي، فإنه يهلك من شدة المرارة.

لقد أدرك ذلك الرسول بولس فقال: “الحرف يقتل” (2كو 36:)، أي أن مياه مارة تقتل إن شربت كما هي دون أن تتحوّل إلى العذوبة].

العلامة ترتليان:

[إنه لا يكفي إذن أن يشرب شعب الله من مياه مارة، مع أنها بفضل “شجرة الحياة” وسرّ الصليب قد تغيّر مذاقها إلى الحلاوة وفقدت كل مرارة الحرف. فلا يكفى العهد القديم وحده للشرب منه، وإنما يلزم علاوة على ذلك أن نأتي إلى العهد الجديد لنشرب منه بلا هم، وبلا أي صعوبة نرتوي منه] (العلامة ترتليان – في رده على اليهود).

 

سفر إشعياء (إش 58: 1- 9)

وتربط هذه النبوَّة بين فصحنا (أو خلاصنا) وخلاص الآخرين وأن جوهر الخلاص في العبادة يَكْمُن في سرّ الآخر وفِي انشغالنا بخلاص إخوتنا فيُسْتَعلن لنا مجد خلاصه في كل عبادة أو عمل نقوم به:

“ليس هذا الصوم الذي أنا اخترته قال الرب لكن حل كل رباط الظلم فك كل عقد المعاملات الإقتسارية أرسل للمنكسرين بالتخلية وخرق كل مكتوب ظالم إكسر خبزك للجائع أدخل المساكين الذين لا مأوى لهم إلى بيتك… ”

والعجيب هنا الربط بين الصراخ إلى الله والشفاء للنفس والخلاص في هذه النبوَّة والنبوة السابقة لها.

وكما صرخ موسى إلى الرب عند مارّة يقول هنا أن الإنسان يصرخ ويستجيب الرب ويُحقِّق هنا وعد الشفاء الذي وعد به موسى والشعب في النبوَّة السابقة لها.

“حينئذ ينفجر نورك مثل الصبح وأشفيتك تشرق سريعاً … حينئذ تصرخ والله يسمعك وإذ تتكلّم يقول: هأنذا…”.

 

سفر حزقيال (حز 18: 20- 32)

تُخْتَم النبوّات بهذه النبوَّة التي تُعْلِن كيف نقبل خلاصنا بالتوبة وتجديد القلب وأن مسرَّة الله هي خلاصنا:

“لأنني لا أريد موت الخاطئ يقول الرب مثل ما يرجع عن طريقه الردية ويحيا … والآن ارجعوا وابتعدوا عن معاصيكم فلا تكون لكم عذاب ظلم وانبذوا عنكم جميع معاصيكم التي صنعتموها ضدي واقتنوا لكم قلباً جديداً”.

 

الإبركسيس (أع 1: 15- 20)

موضوع قراءة الإبركسيس هو خيانة يهوذا الإسخريوطي، وهو موضوع قراءات ليلة خميس البصخة، لذلك تَكْمُل قصة الخيانة التي ذكرتها الأناجيل في ليلة الخميس بما قاله القديس بطرس للمجتمعين (١٢٠) بعد صعود الرب بالجسد للسماء في الإصحاح الأوَّل من سفر الأعمال في الإبركسيس في باكر خميس البصخة.

لذلك ورغم أن خيانة يهوذا اكتملت بتسليمه مساء الخميس (ليلة الجمعة)، إلَّا أن الكنيسة جعلت موضوع الخيانة يأتي في قراءة باكر خميس البصخة لأكثر من سبب:[7]

بدأت الخيانة قبل الخميس في الاتفاق مع رؤساء الكهنة وقبض الثمن، وقراءات ليلة الخميس تتركَّز حول هذا الموضوع.

إعطاء الفرصة والتركيز الكامل على قراءات غسل الأرجل (اللقان)، وتأسيس سر الإفخارستيا (القدَّاس).

لن تأتي قراءة الإبركسيس مرَّة أخري في قراءات ليلة الخميس ويوم الجمعة وليلة سبت الفرح.

تتكلّم هذه القراءة عن اجتماع الكنيسة معاً بعد صعود الرب بالجسد للسماء واختيار بديل ليهوذا، وشرح القديس بطرس أن خيانته تحدثت عنها النبوّات تأكيداً على سابق علم الله عن ما كان مُزمع يهوذا بإرادته الحرَّة أن يفعله، وأيضاً لماذا اجتمع مئة وعشرين.

 

وهذا ما يشرحه أبونا أنطونيوس فكري:[8]

[كان اليهود يحددوا رقم ١٢٠ كأصغر رقم لا بُد أن يتوفر لأي جماعة يهودية لتأخذ صفتها الجماعية ويكون لها الحق في تدبير ذاتها، وكان هذا تقليد يهودي.

وبطرس يشير للنبوات التي تنبأت عن يهوذا ليشرح أن خيانة يهوذا ليست حدثًا عارضًا إنما قصة لها جذورها العميقة وبمشورة الله الأزلية. وواضح هنا دور بطرس القيادي ربما لسنه أو لغيرته. ونفهم أنه طالما أن الرب اختار يهوذا فهو إذًا كان صالحًا وقت اختياره لكنه انحرف فيما بعد لذلك ينبه بولس الرسول “إذًا من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط” (١كو ١٠: ١٢)

كما يشرح أيضاً أن النبوَّة المذكورة هنا عن خراب دار الخائن ليست فقط عن يهوذا بل أيضاً عن رؤساء اليهود:

المزمور هو ( ٦٩: ٢٥، ٢٨؛ ١٠٩: ٨ ، ١٦، ١٧). وبطرس هنا يفكر في شخص يتحمل مسئولية الكرازة. فهو اعتبر أن الرب اختار 12. إذًا هو يريدهم ١٢. وفي (٦٩: ٢٥) نجد الآية لتصر دارهم خراباً. فالكلام ليس عن يهوذا فقط بل عن رؤساء الكهنة الذين صلبوا المسيح. وهذا تم بالفعل إذ خَرِبَ الهيكل وأوقف الكهنوت سنة ٧٠ م. بل أن تيطس قتل وذبح وأحرق الكهنة مع رؤسائهم].

 

وربما يجئ هنا أكثر من تساؤل:[9]

لماذا لم يختار الرب لهم بديل يهوذا وقت الأربعين يوماً بعد قيامته المُقدَّسة؟

يجيب علي هذا السؤال القديس يوحنا ذهبي الفم:

[لماذا لم يسألوا المسيح (قبل صعوده) ليقدم لهم شخصًا يحل محل يهوذا؟ ما قد حدث كان حسنًا، لأنهم كانوا مشغولين في أمورٍ أخرى. ثانيًا فإن حضور المسيح معهم هو أعظم برهان أنهم يستطيعون أن ينالوا هذا، كما اختار التلاميذ حين كان في وسطهم (أثناء خدمته على الأرض)، فإنه لا يزال يعمل أيضًا وهو غائب عنهم (بالجسد). هذا ليس بالأمر الهين في تقديم تعزية لهم].

 

وأيضاً لماذا لم يُدِن الرب يهوذا لحظات خيانته؟

يجيب علي هذا السؤال القديس أغسطينوس:

[ويرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح اختاره ولم يدنه حتى لحظات الخيانة العملية ليعطي للكنيسة درسًا ألا تنشغل كثيرًا بالمحاكمات، بل بالعمل الإيجابي للكرازة والخدمة وإعلان الحب، لتعطي الفرصة حتى للخونة أن يرجعوا إلى الله بالتوبة إن أرادوا].

ولعلَّ أجمل ما نراه هنا هو مُبادِرة القديس بطرس في الكلام وصمت القديس يعقوب رغم رئاسته كنيسة أورشليم كما قال ذهبي الفم:

[تطلعوا إلى وداعة يعقوب، فمع استلامه أسقفية أورشليم لم ينطق هنا بشيء. أيضًا لاحظوا وداعة الرسل الآخرين العظيمة، كيف أنهم خولوا له الكرسي، ولم يحاور الواحد الآخر، فقد كانت الكنيسة كما في السماء، لا تمارس شيئًا من أعمال العالم هذه، ولم تكن متألقة بالأسوار، ولا بالأعداد، بل بغيرتهم التي شكلت اجتماعهم، قيل أنهم كانوا نحو مائة وعشرين. السبعون شخصًا الذين اختارهم المسيح نفسه وآخرون من التلاميذ المتقدي الذهن جدًا مثل يوسف ومتياس . وبينهم نساء كثيرات كما قيل عن اللواتي تبعنه (مر ١٥ : ٤١ )].[10]

 

المزمور (مز 54: 18، 10)

“كلامه ألين من الزيت وهو نصال فلو كان العدو عيرني إذاً لاحتملت ولو أن مبغضي عَظّم عليَّ الكلام لاختفيت منه”.

والكلام هنا ليس فقط عن يهوذا الخائن بل أيضاً عن مُقاومة رؤساء اليهود كما يقول القديس كيرلس الكبير والقديس أنثيموس الأورشليمي.[11]

[اقتربوا إليه يجربونه (لو ٢: ١٩- ٢٦)، يخفون عنه هدفهم المخادع. كانوا يخاطبونه بكلمات لينة، وهم مثل وحوشٍ شرسةٍ في ثياب حملانٍ. مثل هؤلاء وبخهم المرتل أيضًا قائلًا: “ألْين من الزيت كلماتهم، لكنها سهام مسنونة] (القديس كيرلس الكبير).

[كانت أقوالهم ناعمة مثل الزيت، هؤلاء الذين بتملقٍ كانوا يقولون: “يا معلم أنت بالحق تعلم طريق الله”، وأقوال كثيرة مثل هذه، لكنهم بالحقيقة كانوا مثل السيوف المسنونة، يجرحوننا ويميتوننا] (القديس أنثيموس الأورشليمي).

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[12]

كلامه ألين من الدهن وهو نصال (سكاكين)

يتكلم الأنجيل عن ذبح الفصح في هذا اليوم، إذ كان الرب مزمعاً أن يقدم نفسه ذبيحة ويكسر جسده للتلاميذ في هذا اليوم.

والمزمور يتكلم عن عملية ذبح أخرى خفية جازها السيد المسيح بنصال قاتلة. لقد جاز الرب آلام ذبح خفية بسبب خيانة تلميذ محسوب من جملة التلاميذ، وكان كلامه اللين أمام السيد المخلص أقسى من السكاكين عملاً في النفس. إن الآلام التي سببتها خيانة التلميذ أقسى بكثير من آلام السيد المحسوسة.

فلو كان العدو عيرني إذاً لاحتملت…

إن يهوذا كان محسوباً من التلاميذ المحبوبين حتى تلك الساعة، لأن الرب يقول: “أين مكان راحتي لآكل الفصح مع تلاميذي”.

ولنا أن نتصور يسوع المسيح وهو يغسل رجلي يهوذا الخائن، وهو يعلم سر ذلك الإنسان الرهيب، ويعلم أين سعت تلك القدمان في الليلة الفائتة… وكل ما فعله السيد في هذه اللحظة أن وجه للخائن إنذاراً لعله يرجع قبل أن يتخذ خطواته الأخيرة، إذ قال لهم بعد غسل أرجلهم: “وأنتم طاهرون ولكن ليس كلكم” فيهوذا كان له في قلب السيد، أنه كان محسوباً عدواً لكان الجرح أقل ألماً.

لو أنه مبغضي عظم عليّ الكلام لاختفيت منه

قلب يسوع كان مكشوفاً أمام التلاميذ وضمنهم يهوذا… والسيد لم يخف شيئاً عنهم ولم يعمل شيئاً بعيداً عن ذلك التلميذ الخائن. فالسيد يعد الفصح ويرسل التلاميذ إلى المدينة… أكانت هذه المعاملة من الرب فرصة أخرى للتوبة أم لكمال الدينونة وشهادة على يهوذا ؟.

والرب لا يحزن لأجل أن يهوذا سيسلمه، ولكنه يحزن لأن يهوذا أحب العالم أكثر من المسيح، ورفض المسيح لأجل إله آخر.

 

الإنجيل (لو 22: 7- 13)

يختم الإنجيل بإرسالية الرب للقديس بطرس والقديس يوحنا لإعداد الفصح وإستجابة الشخص الحامل جرَّة الماء (في الغالب مرقس الرسول) لكلام الرب وإعداده لعُلِّية كبيرة لأجل الفصح:

“وجاء يوم الفطير الذي ينبغي أن يُذبح فيه الفصح فأرسل بطرس ويوحنا… فقال لهما: إذا دخلتما المدينة يلقاكما رجل حامل جرة ماء… فذاك يريكما علية كبيرة مفروشة فأعدا هناك ”

وما أجمل قول الرب وسؤاله “المعلم يقول لك أين موضع راحتي”

وهذا ما علَّق عليه العلامة أوريجانوس:

[لنصعد مع الرب، متحدين معه، إلى العُليّة…

لتكن عُليّة بيوتنا متّسعة لتستقبل في داخلها يسوع كلمة الله، الذي لا يُدرَك إلا بواسطة من لهم الفهم العظيم…

لتُعد هذه العُليّة بواسطة صاحب البيت الصالح ليأتي فيها ابن الله فيجدها مغسولة ونقية من كل خبث.

… يلزمنا أن ندرك أنه لا يرتفع أحد إلى العُليّة ممن يهتم بالولائم والاهتمامات الزمنية، ولا يكون له مع يسوع نصيب في حفظ الفصح] (العلامة أوريجانوس)[13].

 

الساعة الثالثة من يوم الخميس

تتكلّم قراءات هذه الساعة عن:

ارتباط الفصح بالشفاعة لدي الآب (النبوَّات).

ومؤامرة الرؤساء (المزمور).

وإرسالية الرب لأثنين من التلاميذ لإعداد الفصح (الإنجيل).

 

النبوَّات

سفر الخروج (خر 32: 30– 35؛ 33: 1- 5)

تتكلّم هذه النبوَّة عن شفاعة موسى النبي عن شعب الله وصلاته وصراخه الذي أنقذ الشعب من الفناء كمثال لصلاة الرب في جثسيماني وصراخه على الصليب لأجل الغفران للمُقاومين، كما تكشف النبوَّة عن مشاعر موسى النبي والتي فيها يجعل مصيره مرتبط بمصير كل الشعب.

“قال موسى للشعب: أنتم قد أخطأتم خطيّة عظيمة، فأصعد الآن إلى الله لعلي أكفر عن خطيتكم، فرجع موسى إلى الرب وقال: أتضرع إليك يا رب قد خطئ هذا الشعب خطيّة عظيمة وصنعوا لهم آلهة من ذهب والآن إن كنت تغفر لهم خطيتهم فاغفر وإلّا فأمحني من سفرك الذي كتبتني فيه”.

ويُعبِّر القديس أغسطينوس عن هذه الثقة بقوله:

[إذ عرف أنه يفعل ذلك أمام الرحيم الذي لن يمحِ اسمه قط إنما يغفر لهم من أجله].

ويكشف القديس أمبروسيوس عن المكافأة التي نالها هذا النبي:

[لم يمحِ الله اسمه، بل فاضت عليه النعمة، إذ لم يوجد فيه شر].

كما يتكلَّم القديسان ذهبي الفم وجيروم عن قيمة وفاعلية شفاعة القديسين في هذا الموقف:

القديس يوحنا ذهبي الفم:

[حقًا إن صلوات القديسين لها قوتها العظيمة بشرط توبتنا وإصلاحنا لنفوسنا. فإنه حتى موسى الذي أنقذ أخاه وستمائة ألف رجل من غضب الله لم يستطيع أن يخلص أخته].

 

وفي حديث القديس جيروم عن شفاعة القديسين يقول:

[إن كان رجل واحد أي موسى كسب صفحًا من الله عن ستمائة ألف رجل حرب، واستفانوس الشهيد المسيحي توسل طالبًا المغفرة عن مضطهديه، فهل عندما يدخل هؤلاء بحياتهم إلى المسيح تكون قوتهم أقل من هذا؟][14]

كما تتجلَّي في هذه النبوَّة وحدة المصير للراعي وشعبه، وكيف يشتهي خلاصهم مهما كانت قساوتهم، ولعلَّ هذا الموقف يُذكِّرنا بصموئيل النبي وبولس الرسول:

عندما أخطأ شاول الملك وانحرف قضى النبي الليل كلّه في الصلاة لأجله (١صم ١٥: ١١ ، ١٦: ١)، وعندما تكلَّم صموئيل النبي مع الشعب اعتبر أنه سيخطئ إلى الله لو توقَّف عن الصلاة لأجلهم (١صم ١٢: ٢٣).

وبولس الرسول كان على استعداد أن يكون محروماً من المسيح لأجل إخوته أنسبائه حسب الجسد (رو ٩: ١-٣).

لذلك عندما تكلَّم الرب في سفر إرميا عن هؤلاء الرعاة والتصاقهم بشعبهم ووحدة مصيرهم معاً ذكر موسى وصموئيل.

“ثم قال الرب لي: وإن وقف موسى وصموئيل أمامي لا تكون نفسي نحو هذا الشعب. اطرحهم من أمامي فيخرجوا” (أر ١٥: ١).

 

يشوع بن سيراخ (سي 24: 1- 15)

تتكلّم هذه النبوَّة عن شخص ابن الله وحكمة الله المولود من الآب والحال في كل مكان وسيجد راحته في البشر.

ويعقد أبونا تادرس يعقوب ملطي مقارنة دقيقة وجميلة بين ما جاء في هذه النبوَّة عن ابن الله وما جاء عنه في العهد الجديد:[15]

أ. “إني خرجت من فم الله”؛ “من عند الله خرجت” (يو ١٦: ٢٧؛ ١٧: ٨)

ب. “كالبخار غطيت الأرض”؛ “هكذا أحب الله العالم… لكي لا يهلك كل من يؤمن به” (يو ٣: ١٦).

ج. “نصبت خيمتي في الأعالي”؛ “أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق” (يو ٨: ٢٣).

د. “التمست موضع راحة”؛ “أما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه” (مت ٨: ٢٠).

هـ. “جعلت راحتي في المدينة وسلطنتي في أورشليم”؛ “ملكوت الله في داخلكم” (لو ١٧: ٢١)، أي في قلب المؤمن مسكن الله.

ولعل ما جاء في ختام هذه النبوَّة عن راحة الله في نفوس أولاده يُطابق ما جاء أيضاً في ختام إنجيل الساعة الأولي “المعلم يقول لك أين موضع راحتي”.

 

زكريا النبي (زك 9: 11- 15)

تتكلّم هذه النبوَّة عن شفاعة دم الحمل فصح العهد الجديد في تحرير النفوس من الجحيم ومن أسر الشيطان:

“وبدم عهدك أنت أيضاً أطلق أسراك من الجب الذي ليس فيه ماء ارجعوا إلى الحصن يا أسرى الرجاء … وأقويك كسيف محارب”.

وليس هذا فقط بل يجعل أولاده سيوف تقتحم معاقل الخطية وتفنيها بقوة دم ابن الله وتهب النفس نعمة الاستنارة الداخلية وانفتاح أعين القلب كما يقول القديس ديديموس الضرير:

[القدس هو يهوذا… إذ يخرج منه السهم الإلهي كالبرق يستنير الإنسان الداخلي وتستنير عيون القلب].[16]

ويشرح هذه النبوَّة أبونا أنطونيوس فكري بشيء من التفصيل:

[بدم عهدك أطلقت أسراك = في العهد القديم كان الدم هو دم الذبائح الحيوانية، وهذا لم ينقذ أحد من الجحيم، ولكن في العهد الجديد فإن دم المسيح أطلقنا من أسر إبليس من الجب الذي ليس فيه ماء = لذلك طلب الغني من إبراهيم أن يرسل له لعازر ليبلل شفتيه بالماء. أما السماء فهي مكان نهر صافي من ماء الحياة (رؤ ٢٢: ١).

وفي (١٢) كانوا في الجب وذلك في العهد القديم، لكن كان لهم رجاء فهم أسرى الرجاء، وهؤلاء أطلقهم المسيح. وهنا دعوة لهؤلاء المفديين أن يرجعوا إلى الحصن، ومن هو الحصن الذي نلجأ إليه ونحتمي سوى المسيح.

ومن يثبت فيه فله مكافأة ضعفين = والضعفين هي إشارة لنصيب البكر (الأبكار خلصوا بدم خروف الفصح) ونحن في المسيح فصحنا صرنا أبكاراً مُخَالَّصين، لنا ميراث السماء. وأيوب استرد ما فقده مضاعفاً، فهو في آلامه كان رمزاً للمسيح.

ولكن لماذا أتت هذه الآيات بعد الأخبار المفرحة السابقة والتي تحدثت عن الخلاص؟..

والسبب بسيط أنه بالصليب لم تنتهي المعركة مع إبليس، فما زال إبليس يحارب شعب الله ولذلك قيل عن المسيح أنه خرج غالبًا ولكي يغلب (رؤ ٦: ٢) وهو يغلب بواسطتنا، فنحن في يده، كقوس وسهام، أوترنا لنفسه ليضرب بنا الشيطان. نحن الآن كسيف في يد المسيح الجبار ضد إبليس، وكفرس يقوده المسيح (نش ١: ٩)].[17]

 

أمثال سليمان (أم 29: 27؛ 30: 1)

تُخْتَم النبوّات بهذه النبوَّة الرائعة والتي تكشف عن شخص ابن الله بصورة واضحة جداً، ويُقال أنه كان اليهود يقرأون هذه النبوَّة على هيئة حوار بين شخصين أو مجموعتين ويقول أحدهما:

من الذي جمع الرياح في حضنه؟.. ويردّ الآخر يهوه العظيم.

ومن الذي صر المياه في ثوبه؟.. فيردّ أيضاً يهوه العظيم.

ومن الذي تسلط علي أقطار الأرض؟.. ويردّ يهوه العظيم.

ثم يسأل: من هو اسمه؟.. فيجيب: يهوه العظيم.

وعندما يسأل: ما اسم ابنه (ويكمل إن عرفت)؟.. فيجيب قائلاً: هذا سر يفوق العقول!.

كما تُخْتَمْ النبوَّة بنصرة وخلاص ونجاة الابن لخائفيه “وهو ذاته ينصر الذين يخافونه”.

 

المزمور (مز 93: 13، 15)

“يتصيدون على نفس الصديق ويلقون إلى الحكم دماً زكياً وسيكافئهم بإثمهم وشرهم ويبيدهم الرب إلهي”.

يتكلَّم المزمور على تحالف التلميذ الخائن مع رؤساء اليهود والدم الزكي هنا هو دم ابن الله.

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[18]

يتصيدون على نفس الصديق

يا للمفارقات العجيبة فبينما نجد أن الرب يهتم بخلاص الإنسان، وقد أضمر في قلبه أن يبذل نفسه عنه، ويقدم جسده مكسوراً ودمه مبذولاً عن خطايا الإنسان، نرى الإنسان في حالة عجيبة من الخيانة يكشفها المزمور.

ويلقون إلى الحكم دماً زكياً

الرب بذل نفسه ومات عن العالم قبل أن يصلبه العالم. فهم في مؤامراتهم يحكمون على الدم الزكي وهو بإرادته سفك دمه قبل أن يسفك على الصليب بأيدي الصالبين.

وسيكافئهم بإثمهم وشرهم ، ويبيدهم الرب إلهى…

حقاً لقد أخذ المتجاسر الفضة ودخله الشيطان وأفرزه من التلاميذ. فماذا تنفع هذه الفضة؟ لقد اشترى بها حبلاً، لأن الذى باع السيد الممجد سقط في المشنقة… هكذا نال القصاص الرهيب جزاء إثمه وشره.

 

الإنجيل (مت 26: 17- 19)

يسأل التلاميذ هنا الرب قائلين: أين تريد أن نُعد الفصح لتأكله؟.

وربما يعكس هذا عدم وجود بيت إقامة للرب ولتلاميذه، كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[من هذا يتَّضح أنه لم يكن له بيت ولا مكان للإقامة، كما يُفترض أنهم هم أيضًا كانوا هكذا، وإلا لتوسَّلوا إليه أن يذهب هناك].[19]

 

الساعة السادسة من يوم الخميس

قراءات هذه الساعة تتكلم عن:

الاستعداد الروحي للفصح، وكيف تُعيِّد النفوس بالفصح الحقيقي بعيداً عن شكلية العبادة والحياة. (النبوَّة).

وخطورة انحراف الهدف والحياة. (المزمور).

ومكافأة النفس في نقاوة استعدادها. (الإنجيل).

 

النبوَّات

إرميا النبي (إر ٧: ٢- ١٥)

[غالباً الإصحاحات (٧- ١٠) هي عظة واحدة قالها إرمياء النبي في الهيكل في مناسبة عيد حيث يجتمع كثيرين من الشعب. وهو بأقواله هنا سوف يثير الكهنة، ولكن عليه أن لا يخافهم. ولنلاحظ أن في قولهم هيكل الرب حماية لنا، نوع من الاستخفاف، فهل الله القدوس يرضى بالخطية!]. (ابونا أنطونيوس فهمي)[20]

ورغم جمال معمار الهيكل إلَّا أن الرب دعاه مغارة لصوص لغياب الحق والعدل وسُلِّم للأمم كقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

[كان هذا الهيكل جميلًا وعجيبًا مقدسًا، لكن حين فسد الذين يستعملونه صار محتقرًا ومرذولًا ودنسًا، حتى دُعي قبل السبي “مغارة لصوص”… وسُلم بعد ذلك في أيدي البرابرة الفاسدين النجسين].

كما يُحذِّر من خطورة الافتخار بالشكل قائلين “هذا هو هيكل الرب” كما أشار إلى هذا القديس جيروم:

[يليق بالذين يقولون: “هيكل الرب، هيكل الرب” (٧: ٤) أن يصغوا إلى كلمات الرسول: “أنتم هيكل الرب” (٢كو ٦: ١٦)، والروح القدس”ساكن فيكم” (رو ٨: ١١). الوصول إلى البلاط السماوي سهل سواء من بريطانيا أو أورشليم، لأن “ملكوت الله داخلكم” (لو ١٧: ٢١). أنطونيوس وطغمة الرهبان الذين في مصر ومصيصة وبنتس وكبادوكية وارمنيا لم يروا أورشليم قط، لكن انفتح لهم باب الفردوس. الطوباوي هيلاريون، مع أنه مواطن فلسطيني وقاطن هناك، لم يرَ أورشليم إلا يومًا واحدًا. إذ كان قريبًا من الأماكن المقدسة لم يشأ أن يهمل رؤيتها، وفي نفس الوقت لم يرد أن يحد الله بأماكن محدودة].[21]

والعجيب أن الرب يعتبر نقاوة بيته في أنه لم يُسفك فيه “دماً ذكياً ” كما جاء في هذه النبوَّة وهو نفس سبب توبيخ مزمور الساعة الثالثة لمن سلَّموا ابن الله للموت “ويلقون إلى الحكم دماً ذكياً”.

وما هو أكثر عجباً أن إنجيل الساعة الأولى والسادسة أيضاً يسأل فيه الرب “المعلم يقول أين موضع الراحة” ولا يجد في بيته الراحة، بل ويعتبره مغارة لصوص، فما أصعب أن لا يجد الرب راحته في بيته ويجدها في بيوت أحباؤه!!.

 

حزقيال (٢٠: ٣٩- ٤٤)

هنا يقبل الله القرابين والباكورات ورائحة البخور متي اقترنت بالتوبة والتغيير وتقديس الحياة ويمنحنا خلاصه المجاني.

[بعد أن قدم صورة لانحراف إسرائيل نحو الوثنية، بكونه انحرافًا قديمًا وعنيفًا ومهلكًا في نتائجه، وبالرغم من الماضي المظلم الشرير لكنه يشرق عليهم في نفس الإصحاح بمستقبل مملوء رجاءً بعودتهم من السبي وإصلاحهم كرمز إلى عودة الإنسان من سبي الخطيئة وإصلاح طبيعته الفاسدة. إنه يدخل بنا إلى “جبل قدسه”، إلى مقدساته، الجبل العالي، أي إلى كنيسة المسيح حيث تتعبد لله في المسيح يسوع، فيًشْتَمّ الله تقدماتنا رائحة سرور ويرضى عنا. إنه خلاص لا عن استحقاقاتنا الذاتية، إنما من خلال النعمة المجانية إذ يقول: “لا كطرقكم الشريرة ولا كأعمالكم الفاسدة يا بيت إسرائيل يقول السيد الرب”] (القمص تادرس يعقوب ملطي)[22]

 

يشوع بن سيراخ (سي ١٢ :١٣- الخ؛ ١٣: ١)

تتكلّم هذه النبوَّة عن الخيانة خاصة ممن يكونون قريبين من الإنسان، وما أصعب وأقسى قول النبي: “يتملق بشفتيه ويفكر في قلبه يأتمر ليسقطك في الحفرة حفرة العدو وتدمع عيناه”.

فما أصعب أن يحاول إنسان خائن أن يُسقط صديقه في حفرة في الوقت الذي يراه صديقه وكأن عيناه تدمع عليه، وهذه إشارة واضحة للتلميذ الخائن الذي اقترب من ابن الإنسان بقبلة!.

 

المزمور (مز ٣٠: ١٣، ١٨)

“ولتصر خرساء الشفاة الغاشة المتكلمة على الصدِّيق بالإثم لأني سمعت المذمة من كثيرين يسكنون حولي حين اجتمعوا عليّ جميعاً تآمروا على أخذ نفسي”.

هذا المزمور هو الذي قيل فيه: “يا أبتاه في يديك أستودع روحي”

هو مزمور الضيقة الشديدة ومزمور مؤامرات البشر والافتراء الكاذب وهو الذي حدث مع الرب قبل الصليب.

[كما أن افتتاحية المزمور تبدأ بكلمة “حتى النهاية، مزمور لداود في حالة دهش”. “حتى النهاية” كعلامة عن السيد المسيح بكونه نهاية وكمال الناموس والأنبياء.]. (القمص تادرس يعقوب ملطي)[23]

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[24]

لتصر خرساء الشفاه الغاشة

عندما تواجه النفس الخائنة التي باعت الرب من أجل محبة العالم، تواجه محبة الله المتناهية في كسر جسده.. ماذا تقول؟.

وعندما تواجه السيد يسفك دمه عن الخطاة.. بماذا تتكلم ؟

وعندما تواجه النفس الجاحدة لطف المسيح فإنها تخرس ولا تتكلم “ما أنت فاعله فافعله بأكثر سرعة”.

لأني سمعت المذمة من كثيرين…

ما أكثر ما سمع الرب من كلمات معيبة… ولكن من أجل هذا نزل إلى العالم لكى يحمل خطيئة الكثيرين… سمع المذمة من كثيرين وشفع في المذنبين لأن طبيعته المقدسة ما كانت تتناسب مع الشر.

يسكنون حولي..

كثيرون يسكنون حول المسيح ولكنهم أبعد ما يكونون عن معرفته، وكثيرون يتبعون يسوع ولكن قليلين هم الذين يلمسون قوته للشفاء “قد لمسنى واحد لأن قوة خرجت مني. الرب لا يكفيه أن نسكن حوله بل يريد منا أن يكون لنا فكره “أما نحن فلنا فكر المسيح” (١كو ٢: ١٦). ويريد منا أيضاً أن “نمتلئ إلى كل ملء الله” (أف ٣: ٩). “لأننا أعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه” (أف ٥: ٣٠) “لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غلا ٣: ٢٧).

 

الإنجيل (مر ١٤: ١٢– ١٦)

يُشير الإنجيل إلى مُكافأة الرب لمن استعدَّوا بقلوبهم للفصح فاستحقوا مجيء الرب إليهم وأن يجد راحته في قلوبهم كما يقول القديس أمبروسيوس:

[العلية المفروشة تشير إلى عظم استحقاق صاحبها، حتى أن الرب نفسه مع تلاميذه يستطيعون أن يستريحوا فيها، أو تشير إلى زينة فضائله العالية].[25]

ويشرح لنا الأب ثيؤفلاكتيوس كيف تصير قلوبنا وحياتنا عُلّية مفروشة مُعدَّة للرب:

[رب البيت هو العقل الذي يشير إلى العلية الكبيرة أي إلى الأفكار العلوية، التي بالرغم من علوها لكنها لا تحمل كبرياءً ولا مجدًا باطلًا، بل تعد وتُهيأ خلال التواضع. هناك، في فكر كهذا يُعد فصح المسيح بواسطة بطرس ويوحنا أي خلال العمل والتأمل].25

 

الساعة التاسعة من يوم الخميس

تتكلّم هذه القراءة عن:

إحدى رموز الفصح في قصة تقديم إبراهيم لإسحق ذبيحة. (تك ٢٢: ١- ١٩).

نبوّة عن الممسوح لخلاصنا. (إش ٦١: ١- ١٦).

كهنوت فصح العهد الجديد والذي كان ملكي صادق رمزاً له. (تك ١٤: ١٧- ٢٠).

عاقبة الذين يرفضون فصحنا ورئيس خلاصنا. (أي ٢٨: ٧- ١٠).

ومُكافأة ومجد وغنى من يعيشون في فصح العهد الجديد. (المزمور والإنجيل).

 

النبوَّات

سفر التكوين (تك ٢٢: ١- ١٩)

ما أجمل أن تختار الكنيسة دعوة الله لأبونا إبراهيم لتقديم إسحق ابنه ذبيحة وكيف صارت من أعظم رموز الصليب والفداء كقول القديس أغسطينوس والأب قيصريوس:[26]

يقول القديس أغسطينوس:

[حمل إسحق الخشب الذي يقدم عليه محرقة إلى موضع الذبيحة كما حمل المسيح صليبه].

يقول الأب قيصريوس:

[عندما حمل إسحق الخشب للمحرقة كان يرمز للمسيح ربنا الذي حمل خشبه الصليب إلى موضع آلامه. هذا السر سبق فأعلنه الأنبياء، كالقول: “وتكون الرئاسة على كتفيه” (إش ٩: ٥ ، ٦ ). فقد كانت رئاسة المسيح على كتفيه بحمله الصليب في اتضاع عجيب. إنه ليس بأمر غير لائق أن يعني بالرئاسة صليب المسيح، إذ به غلب الشيطان، ودعى العالم كله لمعرفة المسيح والتمتع بنعمته].

لذلك اعتادت الكنيسة من خلال آبائها أن تُصلِّي قسمة ذبح إسحق يوم خميس العهد ويُمْكِن أن تري في هذه القسمة كيف يتطابق الرمز علي المرموز إليه.

ويُمْكِن أن نري أيضاً كما قال أبونا أنطونيوس فكري (بالإضافة لما جاء في القسمة):

[إسحق كان شابًا ويقدر البعض عمره بـ ٢٥ سنة لذلك وضع إبراهيم عليه الحطب رمزًا لحمل المسيح لخشبة صليبه. “وتكون الرئاسة على كتفيه” (إش ٩: ٥-٦).

فذهبا كلاهما معًا: قدم إبراهيم ابنه الوحيد خلال الحب الفائق وقدم إسحق نفسه في طاعة كاملة فحسبت الذبيحة لحساب الاثنين معًا. وهكذا فذبيحة المسيح هي ذبيحة الآب الذي قدم ابنه فدية عنا وهي ذبيحة الابن الذي أطاع حتى الموت موت الصليب (يو ٣: ١٦) (رو ٨: ٣٢)؛ (في ٢: ٨) فقوله ذهبا كلاهما معًا يشير إلى انطلاق الآب والابن إلى الصليب ليقدما ذبيحة الصليب، فالابن في الآب والآب في الابن.

ممسكًا في الغابة بقرنيه: قرون الكبش هي علامة قوته وهنا هو موثق من قرنيه إشارة للمسيح الذي أخلى ذاته بإرادته وسلطانه (يو ١٠: ١٧، ١٨). المسيح أوثق قوته أو تنازل عنها حتى يصلب. والغابة شجرة. والمعنى أن المسيح كان موثقًا على الصليب. وسر ذبيحة المسيح نراها في إسحق والكبش معًا. الكبش يمثل المسيح في موته فعلًا وإسحق يمثل المسيح في حمله للصليب ثم في قيامته. ولنلاحظ أيضًا أن الكبش فدى إسحق (ابن الحرة) والمسيح فدى كنيسته الحرة التي حررها].[27]

ولكن يأتي سؤال هنا :

كيف قَبِلَ أبونا إبراهيم طلب الله منه بأن يُقدِّم ابنه إسحق ذبيحة؟

يُجيب علي هذا السؤال القديس بولس الرسول في رسالته إلي العبرانيين قائلاً:

“بالإيمان قدم ابراهيم اسحق وهو مجرب، قدم الذي قبل المواعيد وحيده الذي قيل له انه بإسحق يُدعي لك نسل اذ حسب ان الله قادر على الإقامة من الاموات أيضاً الذين منهم أخذه أيضاً في مثال” (عب ١١: ١٧- ١٩)

أي أن أبونا إبراهيم كان يعرف جيداً أن وعود الله بالنسل الذي سيكون مثل نجوم السماء ورمل البحر هي وعود مُرتبطة بإسحق (ابن الموعد)، وليس بإسماعيل، لذلك كان إيمان أبونا إبراهيم أنه بعد ذبح إسحق سيُقيمه الله من الأموات “إذ حسب ان الله قادر على الإقامة من الأموات أيضاً”.

وما فعله أبوينا الأوَّليْن إبراهيم وإسحق من الخضوع الكامل لمشيئة الآب، والذهاب إلي جبل التقدمة (تك ٢٢: ٢) بإرادة كاملة من أبونا إبراهيم، وطاعة كاملة من الابن لأبيه حاملاً حطب المحرقة، والتَطَلُّعْ لقيامة الابن بعد موته، والرجوع بالابن حياً في اليوم الثالث (تك ٢٢: ٤)، كُلَّ هذا فعله ابن الله في صليبه إذ أتى إلى الذبح مثل حَمَلٍ حتي إلى الصليب، ووضع ذاته بإرادته، وأطاع حتي الموت موت الصليب (في ٢: ٨ )، وفِي الوقت ذاته قدَّم صراخ شديد (عب ٥: ٧) ودموع وطلبات وتضرعات للقادر أن يُخلِّصه من الموت [أي القيامة، أي لا يعتري الطبيعة البشرية التي أخذها فساد الموت – كما يقول القديس أثناسيوس الرسولي في شرح هذه الآية في رسالته إلى الأريوسيين] وسُمِعَ له من أجل تقواه فصار في اليوم الثالث باكورة الراقدين (١كو ١٥: ٢٠).

ولعلَّه يأتي سؤال آخر هنا:

ما الذي جعل الله يطلب من أبونا إبراهيم هذا الطلب الغريب (تقديم ابنه ذبيحة)؟ مع أن الله غضب على شعبه عندما كانوا يُقدِّمون أولادهم ذبائح بشرية (٢مل ١٦: ٣)؟

رُبَّما يكون السبب هو أن الله كان يعرف مدى عُمق وعظمة إيمان إبراهيم والتي لا يُمْكِن أن يُدركها العالم وكل الأجيال بدون هذا الامتحان، لذلك جاء هذا الاختبار الإلهي ليُخْرِج هذه اللؤلؤة الكثيرة الثمن منارة لكل المؤمنين.

ورُبَّما أيضاً بذات المعنى نرى تجربة وامتحان أيوب وجوهرة صبره واحتماله والتي لا يُمْكِن أن تراها البشرية إلَّا من خلال امتحان كبير يُخرج هذه الجوهرة للنور لتكون سنداً ورجاءً لكل الذين في التجارب (يع ٥: ١١).

وربما هذا يوافق ما جاء في سفر طوبيا :

“وإنما أذن الرب أن تعرض له هذه التجربة لتكون لمن بعده قدوة صبره كأيوب الصديق. فإنه إذ كان لم ينفك عن تقوى الله منذ صغره وحافظًا لوصاياه” (طو ٢: ١٢، ١٣).

أي أن تجربة طوبيا (وأيوب أيضاً) لم يكن سببها أعماله، بل تدبير الله له بأن يكون “قدوة صبر” لجميع الأجيال، وربَّما بنفس المعنى أن يكون أيضاً أبونا إبراهيم “قدوة إيمان”.

لذلك أراد الله أن يُظْهِر الإيمان العظيم لإبراهيم والصبر العظيم لأيّوب للبشرية كُلَّها من خلال امتحان صعب رُبَّما لا يُشير إلى الإنسان في استحقاقه من عدمه قدر ما يُشير إلى تدبير الله في حياة أولاده في أن يجعل مجده عليهم يُرى (إش ٦٠: ٢).

وأيضاً بنفس المعنى (مع الفارق في التشبيه) كيف أدركنا محبة الله الآب إلَّا من خلال الصليب، ولولاه ما كُنَّا سنرى ونفهم ونختبر معنى “هكذا أحب الله العالم …” (يو ٣: ٦١).

 

إشعياء النبي (إش ٦١: ١- ٦)

[هذا هو الجزء الذي دُفِع للمسيح ليقرأه في الهيكل (لو ٤: ١٦- ٢١) فقرأ ووقف عند كلمة بسنة مقبولة للرب. ولم يكمل بعدها، لأن ما قبلها يشير للمجيء الأول، السنة المقبولة، وحتى الآن فنحن في السنة المقبولة، وكل من يتوب يُقبَل. وما بعدها.. وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا = هذا سيكون في المجيء الثاني، والمسيح لم يقرأه فالوقت لم يحن بعد] (القمص أنطونيوس فهمي).[28]

ونرى في هذا الجزء من هو الممسوح لأجل خلاصنا، والذي فيه وبخلاصه تم كل المكتوب، وتشرح القراءة عطايا خلاصه لنا:

البشارة المُفرحة لمساكين الله (المساكين بالروح).

شفاء مُنكسري القلوب من الخطية.

تحرير النفوس من سبي الخطية وتوابعها من حزن وخوف ويأس.

استنارة النفس لتُدرك نصيبها وغناها في المسيح.

تعزية النائحين.

ملء الفرح وغنى المجد عوضاً عن كآبة القلب.

تبريرهم وغرسهم كأغصان مجد.

تجديدهم وتعويضهم عمَّا خُرِّب منذ القدم.

 

سفر التكوين (تك ١٤: ١٧- ٢٠)

تُقدِّم هذه القصَّة وهذا اللقاء بين أبونا إبراهيم وبين ملكي صادق رمزاً قوياً لفصح العهد الجديد ربنا يسوع المسيح كما شرح آباء الكنيسة:[29]

[من هو كاهن الله العلي أكثر من ربنا يسوع المسيح الذي قدم ذبيحة لله الآب، مقدمًا ذات الأمور التي قدمها ملكي صادق، الخبز والخمر، أي جسده ودمه؟! أما بخصوص إبراهيم فالبركة التي نالها إنما تخص شعبه] (القديس كبريانوس).

[هذا هو ملكي صادقنا الذي قدم الذبيحة المقدسة التي لنا. إنه هو القائل: “من يأكل جسدي ويشرب دمي” (يو ٦: ٥٥ )، معطيًا إيانا سره هذا على رتبة ملكي صادق] (القديس چيروم).

هذا وقد أوضح القديس أمبروسيوس أن ملكي صادق كان إنسانًا مقدسًا وكاهنًا لله يرمز لربنا يسوع المسيح، ولم يكن ملاكًا كما ادعى بعض اليهود.

وشخصية ملكي صادق اختلف حولها اليهود وكشف لغزها القديس بولس الرسول في رسالة العبرانيين ،كما يقول أبونا أنطونيوس فكري:

[قصة لقاء إبراهيم مع ملكي صادق تمثل لغزًا عند اليهود لا يعرفون له تفسيرًا (عب ٥: ١١) وقالوا أنه عسر التفسير. إذ كيف يقدم إبراهيم أب الآباء الذي في صلبه كهنوت لاوي العشور لرجل غريب، ولماذا ظهر هذا الرجل في الكتاب فجأة واختفي فجأة ولا يعرف أحد أباه أو أمه أو نسبه، ولماذا لم يقدم ذبيحة دموية كما كانت عادة ذلك الزمان. وقد قال اليهود كمحاولة للتفسير أن ملكي صادق هو سام ابن نوح؟!! لكن ما الذي غير اسمه وماذا أتى به إلى كنعان!! هناك أسئلة كثيرة لا يجد لها اليهود حلًا. وقد كشف السر بولس الرسول في رسالة العبرانيين وقال إن ملكي صادق هو رمز للسيد المسيح. ونجد هنا لفظ كاهن ولفظ الله العلي لأول مرة في الكتاب، فالمسيح هو العلي الذي سيقدم نفسه ذبيحة ككاهن.

ومُوضِّحاً أيضاً أوجه الشبه بين الشخصيتين:

ملكي صادق تعني ملك البر (رو ٣: ٢٤) هذا من جهة الاسم.

ملك ساليم تعني ملك السلام (يو ١٦: ٣٣) من جهة العمل (وساليم غالبًا هي أورشليم).

كان ملكًا وكاهنًا في نفس الوقت وهذا لا يتحقق عند اليهود فالملوك من سبط والكهنة من سبط آخر. فداود من سبط يهوذا والكهنة من سبط لاوي.

قدم خبزًا وخمرًا وهكذا قدم المسيح جسده ودمه على هذه الصورة في الإفخارستيا.

لم نعرف شيئًا عن أبيه وأمه وهو لا بداية لملكه ولا نهاية مذكورة، إشارة إلى السيد المسيح الذي بلا أب جسدي وبلا أم من جهة اللاهوت، بلا بداية أيام، أبدي.

جاء السيد المسيح كاهنًا على رتبة ملكي صادق. وكأن الكهنوت اللاوي قد انتهى ليقوم كهنوت جديد يقدم خبزًا وخمرًا.

إبراهيم الذي من صلبه الكهنوت اللاوي يجمع العشور، هو نفسه يقدم العشور لملكي صادق فمن يكون هذا الذي يقبل العشور من إبراهيم سوى الله نفسه أو من يرمز إليه].[30]

 

سفر أيوب (أي ٢٨: ٧- ١٠)

تتكلّم هذه النبوَّة عن:

مقاومة الرؤساء ومصيرهم:

“ولست أعرف أني فعلت شيئاً من الشر أو الظلم بل أعدائي يصيرون مثل سقوط المنافقين والقائمون عليّ مثل هلاك مخالفي الناموس”.

خيانة يهوذا:

“هوذا كلكم تعلمون أنه باطل هو نصيب الرجل المنافق من قبل الرب وخزي الأقوياء يأتي عليه … بيته صار مثل العثة ومثل العنكبوت”.

مجد ابن الله في أولاده:

“يمد يده ويهدم الجبال من أساساتها ويقلب قوة الأنهار وأظهر لهم كل فعل جليل رأته أعينهم وكشف قوته نوراً”.

 

المزمور (مز ٢٢: ١)

“الرب يرعاني فلا يعوزني شيء في مكان خضرة أسكنني علي ماء الراحة رباني”.

يأتي هذا المزمور بعد مزمور ٢٢ الذي يحكي آلام الصليب ويبدأ بآية الصليب “إلهي إلهي لماذا تركتني” وكأن هذا المزمور هو الدخول إلى أمجاد كنيسة العهد الجديد مكان الخضرة وماء الراحة، كما يقول أبونا تادرس يعقوب ملطي:

[في المزمور السابق نرى صورة رائعة للراعي المتألم، وهنا نجد صورة مبهجة للقطيع المملوء فرحًا وشَبَعًا.

في المزمور السابق نرى الراعي وقد عُلّق على الشجرة لكي يحمل أتعاب شعبه، ويَعْبر بهم خلال صليبه إلى الأمجاد… هنا يتقدم الراعي قطيعه ليدخل بهم في استحقاقات دمه إلى مراعٍ خضراء، هي فردوسه المشبع للروح، يدخل بهم إلى جداول مياه مُنسابة وسط المراعي، هي جداول روحه القدوس المروي للأعماق الداخلية.

ما كان يمكننا أن نتمتع بهذا المزمور “جوهرة المزامير” ما لم نَتقبَّل عمل المسيح الخلاصي وندخل إلى المزمور السابق بكونه “قدس الأقداس”. ما كنا نختبر عذوبة رعاية المسيح ما لم نتعرف على دمه المهراق لأجلنا.

لا يمكن للنفس أن تترنم “مسكني في بيت الرب طول الأيام”. ما لم يصرخ المخلص: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟!” (مز ٢٢: ١). صار متروكًا حتى كما من الآب وهو واحد معه في الجوهر ومساوٍ له، لا ينفصل عنه لكي نصير نحن غير متروكين منه أبديًا.

ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص:

إننا في هذه المياه نجد راحتنا، بدفننا مع المسيح في شِبه موته، لكننا لا ندخل إلى الموت بل إلى ظلّه كقول المرتل][31]

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[32]

الرب يراعاني فلا يعوزني شيء..

يتكلم المزمور بلسان التلاميذ الذين اجتمعوا في العلية مع المخلص ليأكلوا الفصح. لقد صارت العلية مهيأة بخروف الفصح المذبوح وبالأعشاب المُرَّة وبعصير الكرمة.

وعندما يدخل الراعي الصالح مع التلاميذ إلى هذه العلية التي صارت كنيسة المسيح وحظيرة الخراف، فإن الخراف ستكتشف أن الرب الذى اقتادها إلى هذه العلية في هذه الساعة هو ما كتب عنه المزمور بالحرف الواحد.

الرب يرعاني

فهو اقتاد التلاميذ إلى العلية حسب قصده وقال عنها : “مكان راحتي”، ذلك لأن الراعي يرتاح في بذل وذبح ذاته وتتميم إرادة الآب، ويرتاح عندما يتحد بأولاده ويسكن فيهم عندما يتناولون جسده المقدس ويشربون دمه الكريم. وهكذا كل مرة نتناول فيها جسد الرب ودمه نشعر بأننا أغنياء بالمسيح ولا يعوزنا شيء من أباطيل العالم بل نحسب كل شيء نفاية.

في مكان خضرة أسكننى

فالعلية مهيأة بالأعشاب المُرَّة مع خروف الفصح، ومع أن طريق السائرين مع المسيح لا يخلو من الآلام، ولكنها مكان الخضرة لنمو الخراف “وجميع الذين يريدون أن يعيشون بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون” (٢تي ٣: ١٢).

على ماء الراحة رباني..

لقد حفر الرب ينبوعاً في جنبه للخراف قبل أن يطعنه الجندى بالحربة، وروى منه ظمأ تلاميذه وهو ماء الراحة يخرج من ينبوع مبارك تشرب منه جميع الخليقة فتجد فيه سلاماً وارتواء.

 

الإنجيل (مت ٢٦: ١٧- ١٩).

ما أعظمها مجازاة ومُكافأة تلك التي أعطاها الرب لصاحب العلية.

“وعندك أصنع فصحي مع تلاميذي”.

 

 

لقان خميس العهد

تتكلّم قراءات اللقان عن:

الاغتسال والتطهير كضرورة للخلاص، وعلامته.

لذلك:

نرى في قراءات اللقان كيف يغسلنا مُخلِّصنا بماء الروح.

ونرى رموز هذا الاغتسال في النبوّات وقراءات العهد القديم.

ونرى أيضاً الرب يرسم لنا طريقاً ومنهجاً لكي نغسل أقدام الآخرين، ونتبنَّى خلاصهم، كما غسل الرب أقذارنا عندما انحنى أمام أرجل تلاميذه وأظهر برّ الاتضاع ومجد الحب.

أي أن جوهر قراءات اليوم هو ما يفعله الرب فينا وما نفعله نحن تجاه إخوتنا لكي نعيش اغتسال دائم ومُتجدِّد من الله ونخدم اغتسال الآخرين في ضعفهم.

 

النبوَّات

تأتي في قراءات اللقان ثمانية نبوّات يُمْكِن تقسيمها إلى أربعة في أثنين:

أوَّل نبوَّتين يحكيان:

استعلان ابن الله في الخدمة وغسل الأقدام (النبوَّة الأولى).

وفِي الكنيسة ومذبحها ومائدة الحياة فيها (النبوَّة الثانية).

ثاني نبوتين يحكيان:

فعل المعمودية كخلاص ونجاة من سلطان إبليس (النبوَّة الثالثة).

وكدخول إلى الحياة الجديدة (النبوَّة الرابعة).

ثالث نبوَّتين يحكيان:

عمل الله في اغتسال وتطهير الإنسان في ملء الزمان (النبوَّة الخامسة).

وقبول الإنسان لهذا العمل الإلهي (النبوَّة السادسة).

رابع نبوتين يشرحان:

نضح الماء للتطهير (النبوَّة السابعة).

وفيض الماء للملء (النبوَّة الثامنة).

 

سفر التكوين (تك ١٨: ١- ٢٢)

تبدأ قراءات اللقان بأبونا إبراهيم ولقاءه مع الرب عندما استضاف الغرباء وغسل أرجلهم.

فما فعله أبونا إبراهيم يجب أن نقف عنده قليلاً لنرى كيف يخدم إنسان الآخرون (الذين لم يكن يعرفهم)؟.. وكيف يحدث الاغتسال؟.

“فقبلهم باتضاع وسجد أمامهم وسألهم أن يقبلوا ضيافته إن كان قد وجد نعمة في أعينهم (أي أن يكون مُستحقِّاً خدمتهم) وغسل أرجلهم وأسرع إلى الخيمة وقال لسارة أسرعي وأعجني وركض إلى أبقاره واختار أفضلهم (علامة فرحه بخدمته وإعلاء قيمة من يخدمهم) وعندما قدَّم لهم الأكل صار واقفاً عند الشجرة”.

فماذا أخذ من غسل أقدام الآخرين بهذا الاتضاع وأظهر ملء محبّته لهم؟.

نال قيامة الأموات، ونال الاستنارة ومجد إدراك التدبير الإلهي:

عندما أعطاه الرب وعداً بنسل من مُماتيّة مُستودع سارة (رو ٤: ١٩) كان قد أخذ قوة القيامة أن ينال حياة من موت وكائن حي وطفل من مستودع (رحم) ميت أي أن الوعد هنا بولادة إسحق هو وعد بحياة من الموت.

ونال أيضاً نعمة إدراك ومعرفة تدبير الله عندما أعلن الله له ذلك

“فقال الرب: هل أخفي ما أنا فاعله عن عبدي إبراهيم، وإبراهيم يكون أمة عظيمة وكثيرة وتتبارك به جميع أمم الأرض؟!”.

وفي هذا المعني يتكلَّم آباؤنا القديسين مثل العلامة أوريجانوس والقديس أمبروسيوس:[33]

يقول العلامة أوريجانوس:

[لقد عرف أن أسرار الرب لا يمكن أن تجد كمالها إلاّ إن كنا على الأقل نغسل الأقدام].

ويقول القديس أمبروسيوس:

[حسن هو سر الاتضاع فإنني إذ أغسل أدناس الآخرين أغسل أدناسي].

 

سفر الأمثال (أم ٩: ١- ١١)

تشرح هذه النبوَّة:

كيف يغسلنا الله من خلال كنيسته وعبادتها وأسرارها المُقدَّسة.

وكيف يفيض علينا فيها بملء وغنى نعمته ومحبته مجاناً.

“الحكمة (ابن الله) بنت لها بيتاً ودعمته بسبعة عمدان وذبحت ذبائحها ومزجت خمرها في البواطي وهيأت مائدتها … فأقول لهم تعالوا إليّ وكُلُوا من خبزي واشربوا من خمري التي مزجتها لكم”.

والبيت الذي بنته الحكمة هو جسده في ملء الزمان وكنيسته المُقدَّسة ومائدة الحياة التي فيها.

وهذا المعني أيضاً يُشير إليه تعليم آباؤنا القديسين:[34]

[لكننا نقول إنه في الجزء الأول من الكتاب حيث يقول “الحكمة بنت بيتها” يُشير بطريقة غامضة خلال هذه الكلمات إلى إعداد جسد الرب، فإن الحكمة الفائقة لم تسكن في مسكن لآخر، بل بنت لنفسها مسكنًا من جسد العذراء… هكذا يمكننا أن نرى في هذه العبارة سليمان يتحرك بروح النبوة ويسلم لنا فيها كمال سرّ التجسد] (القديس غريغوريوس أسقف نيصص).

[هنا بالتأكيد ندرك أن حكمة اللَّه، أي الكلمة الشريك مع الآب في الأزلية قد بنى لنفسه بيتًا، أي جسدًا بشريًا في أحشاء البتول، وأخضع الكنيسة له كأعضاء للرأس، وقد ذبح الشهداء كذبائح، وأعد مائدةً بالخبز والخمر، حيث أبرز الكهنوت على رتبة ملكي صادق، ودعى البسطاء والذين ينقصهم الحس، وكما يقول الرسول: “اختار اللَّه ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء” (١كو ١: ٢٨)] (القديس أغسطينوس).

[المائدة السرائرية هي جسد الرب الذي يعضدنا قبالة شهواتنا وضد الشيطان.

حقًا يرتعد الشيطان من الذين يشتركون في هذه الأسرار بوقار] (القديس كيرلس الكبير).

 

سفر الخروج (خر١٤: ٢٩؛ ١٥: ١)

تتكلّم هذه النبوَّة عن خلاص الكنيسة بالمعمودية، والتي كان عبور شعب الله البحر الأحمر ونجاته من فرعون الذي هو الشيطان رمزاً واضحاً لمعمودية العهد الجديد وخلاصنا في المسيح كما أوضح ذلك القديس بولس (١كو ١٠: ١- ٤).

وكما شرح أيضاً القديس أغسطينوس:

[تحرر شعب الله من مصر (رمزيًا محبة العالم) بعظمتها واتساعها واُقتيد إلى البحر الأحمر، لكي تكون فيها نهاية أعدائهم (الشياطين) في المعمودية لأنه بهذا السر – كما في البحر الأحمر – يتقدسون بدم المسيح بينما تهلك الخطايا المقتفية آثارهم..].[35]

 

سفر يشوع (يش ١: ١- ٣: ١٧)

كما تسير هذه النبوَّة أيضاً في إعلان خلاص الكنيسة من خلال عبور الماء، ولكن هنا دخول أرض الموعد، فالنبوة السابقة من سفر الخروج تحكي معمودية الخلاص والنجاة، وهذه النبوَّة تحكي مجد المعمودية دخول الحياة الجديدة (رو ٦: ٤) فالمعمودية السابقة هي معمودية موسى مع الشعب للخلاص، وهذه المعمودية مع يشوع للمجد، وهما اللذان معاً تحققا في معمودية العهد الجديد.

 

سفر إشعياء (إش ٤: ١- ٤)

تُشير هذه النبوَّة إلى ما سيحدث في ملء الزمان واغتسال كل المؤمنين من خلال خلاص ابن الله.

“في ذلك اليوم ينير الله بالمشورة والمجد علي الأرض ليرتفع ويتمجد كل من يبقي من إسرائيل ويكون كل من يبقي في صهيون وبقية أورشليم يدعون أطهاراً يكتب للحياة كل من في أورشليم لأن الرب يغسل أعمال بني البشر وأولاد صهيون”

 

سفر إشعياء (إش 55: 1- 13؛ 56: 1)

وتُكمِّل هذه النبوَّة سابقتها من إشعياء،

فالنبوة السابقة تكلمت عن عمل الله في أولاده، وفعل نعمته فيهم في الخلاص،

وهذه النبوَّة بعد ما أكمل الله تدبير خلاصه، يوجِّه الدعوة لكل إنسان، لكي يأتي إلى مياه الروح وغنى النعمة، ويقبل عهد الحب الأبدي الذي أظهر الله الآب من خلال خلاص ابنه مراحمه الصادقة والفائقة.

“أيها العطاش اذهبوا إلى المياه ويا من ليس لهم فضة اذهبوا واشتروا لتأكلوا وتشربوا بلا فضة وبلا ثمن خبزاً ولبناً وشحماً…. أميلوا آذانكم وهلموا إليّ أطيعوني فتحيا نفوسكم بالخيرات وأقطع لكم عهداً أبدياً مراحم داود الصادقة”.

أي أنها دعوة لمياه العهد الجديد (المعمودية) لقبول مجد الثالوث كما يقول القديس غريغوريوس النزينزي عن عطية العماد:

[لا تتردد مهما كانت الرحلة طويلة، إن كانت بالبحر أو بالبر مادامت العطية مُقدمة لك، مهما كانت العوائق كثيرة أو قليلة فإن إشعياء يدعوك: “أيها العطاش جميعا هلموا…” يا لسرعة مراحم الله، يا لسهولة العهد! إنك تنال هذه البركة بمجرد أن تُريدها. أنه يقبل رغبتك ذاتها كثمن عظيم. أنه يتعطّش إلى عطشك، ويروي كل الراغبين في السرّ. يقدم لطفًا لكل السائلين لطفًا. إنه مستعد للعطاء بسخاء، يفرح بالعطاء أكثر من فرح نائليه].[36]

 

سفر حزقيال (حز 36: 25- 28)

هذه النبوَّة تحكي ماء التطهير والتجديد وفعل الروح ومتي قبل الإنسان عطيّة الله وحفظ وصيته يعيش التجديد والتطهير الدائم:

“إني سأنضح عليكم ماءاً مختاراً فتطهرون من جميع خطاياكم.. وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل في داخلكم روحاً جديداً وأنزع القلب الحجري من أجسادكم وأصيِّر روحي داخلكم… وتكونون لي شعباً وأنا أيضاً أكون لكم إلهاً”.

 

سفر حزقيال (حز 47: 1- 9)

والعجيب أيضاً في هذه القراءة أنها مُكمِّلة لسابقتها من حزقيال.

القراءة السابقة تحكي ماء التطهير والتجديد والتنقية، وهذه النبوَّة تحكي ماء الملء والفيض، وكأن القراءتين تشرحان عمل الروح القدس في المؤمنين من تطهير وتجديد وتنقية دائمة لحافظي الوصيّة (النبوَّة السابقة) وملء وغنى وفيض لمن يعبرون ويدخلون إلى أعماق الحب الإلهي.

كما أن هذه النبوَّة يُمْكِن أن تحكي مراحل ودرجات ملء الروح في قلوب المؤمنين:

مصدر الملء:

“وكان الماء منحدراً من الجانب الأيمن للبيت عن جنوبي المذبح”.

أي الكنيسة وأسرارها وعبادتها وشركتها وخدمتها.

والمياه إلى الكعبين:

بداية الملء حفظ الوصيّة والسلوك حسب وصيته وكلمته المُقدَّسة.

كما قال داود النبي “سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي” (مز ١١٩: ١٠٥)؛ (مز ١٧: ٥)؛ (٢صم ٢٢: ٣٧).

وكان الماء إلى الركبة:

“إشارة إلى حياة الصلاة والحديث الدائم مع الله (١تس ٥: ١٧، ١٩)،

لأن الركبة تأتي في الكتاب المقدس بمعني عمق ولجاجة الصلاة (٢أي ٦: ١3)؛  (دا ٦: ١٠)؛ (لو ٢٢: ٤١)؛  (أع ٩: ٤٠)؛ (أع٢٠: ٣٦)؛ (أف ٣: ١٤).

فكان الماء إلى الحقوين:

إشارة إلى قوّة الشهادة للحق والكرازة (١مل ١٨: ٤٦)؛ (إر ١: ١٧)؛ (أم٣١: ١٧)؛ (نا ٢: ١)؛ (أف ٦: ١٤)؛ (أع ٤: ٨).

أن المياه طمت كمياه في واد منحدر لا يُعبر:

إشارة للامتلاء من الروح (أع ٤: ٣١).

“وإذا عند رجوعي أشجار كثيرة جداً على شاطئ النهر من هنا ومن هناك”

إشارة إلى مواهب وثمار الروح (١كو ٧:١)؛ (غل ٥: ٢٢).

 

البولس (1تي 4: 9- 16؛ 5: 1- 10)

يتكلَّم البولس عن الخلاص رجاء الرعاة في تعبهم والهدف الواضح لخدمتهم:

“لأننا من أجل هذا نتعب ونعير لأننا توكلنا على الإله الحي الذي هو مُخلِّص كافة الناس ولا سيما المؤمنين… احتفظ بنفسك وبالتعليم وداوم عليهما لأنك إن فعلت هذا تخلص نفسك والذين يسمعونك”.

كما يعقد مُقارنة بين خادم لا يعتني بأهل بيته (ويُقْصَد بها هنا الإعالة والرعاية) وهي تجعله أشرّ من غير المؤمن، وبين أرملة تخدم إحتياجات الآخرين باتضاع.

“وإن كان أحد لا يهتم خصوصاً بأهل بيته فقد أنكر الإيمان وهو أشر من غير المؤمن … وتكون قد ربت الأولاد وأضافت الغرباء وغسلت أرجل القديسين”.

 

المزمور (مز ٥٠: ٧- ١٠)

“تنضح عليّ بزوفاك فأطهر وتغسلني فأبيض أفضل من الثلج قلباً نقياً تخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في أحشائي”.

يوضّح المزمور هنا اغتسال التوبة، ومدي عمل دم المسيح في تطهير الإنسان.

والزوفا هنا هي النبات الذي يُغْمَس في الدم ويُرشّ علي البيوت والأمتعة وعلي الناس لأجل التطهير من النجاسة (خر ٢٢:١٢)، (لا ٤:١٤- ٦)، (عد ١٨:١٩).

[ويرى القديس كيرلس أن صرخات المرتل نحو الله طالبًا غسل قلبه وضميره تشير بالغسل إلى المعمودية.

ويقول القديس باسيليوس الكبير: يوجد تطهير للنفس من الدنس الذي تراكم عليها من الفكر الجسداني، وكما هو مكتوب: “تغسلني فأبيض أكثر من الثلج”. إننا لا نغتسل حسب الطقس اليهودي، كلما حلَّ بنا دنس، وإنما نلنا المعمودية للخلاص.

ويشرحه القديس أمبروسيوس بتفصيل أكثر: بعد ذلك أُعطيت لكم ملابس بيضاء علامة أنكم قد خلعتم ثوب الخطايا، ولبستم ثوب الطهارة والبراءة، الذي تحدث عنه النبي قائلًا: “تنضح عليَّ بزوفاك فأطهر، وتغسلني فأبيض أكثر من الثلج” (مز ٥١: ٩). لأن من يعتمد يصير طاهرًا حسب الناموس والإنجيل كليهما. حسب الناموس، لأن موسى رش دم الحمل بباقة من الزوفا (خر ١٢: ٢٢). وحسب الإنجيل، لأن ثياب المسيح كانت بيضاء كالثلج عندما أظهر مجد قيامته في الإنجيل. إذن فذاك الذي يُغفر إثمه يبيض أكثر من الثلج، لهذا قال الله بإشعياء: “إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيضُّ كالثلج” (إش١: ١٨)].[37]

 

الإنجيل (يو 13: 1- 17)

جاءت قصة غسل أرجل التلاميذ في إنجيل يوحنا فقط وجاءت بعد المشاجرة التي حدثت بين التلاميذ عن من هو الأعظم؟ لذلك قدَّم الرب الرد العملي لمعنى العظمة ومن يُمْكِن أن يكون الأكبر فيهم، الموقف الذي لم يحتمله القديس بطرس وحاول الاعتذار عنه، لكن حسم الرب للموقف أوضح أمام التلاميذ كيف يخدمون الآخرين:

“قام عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منديلاً واتزر به ثم صب ماء في مغسل وابتدأ يغسل أرجل تلاميذه ويمسحهما بالمنشفة التي كان مؤتزراً بها … قال له بطرس: لن تغسل رجليّ أبداً فأجابه يسوع وقال له: الحق الحق أقول لك إن لم أغسل قدميك فليس لك معي نصيب”.

كما أنه رفع من كرامة العبيد كما يقول القمص أنطونيوس فكري:

[كانت العادة أن يقوم أحد العبيد بغسل الأقدام، وإذ لم يوجد بينهم عبد ربما توقع الكل أن أقلهم سنًا أو مركزًا يقوم بهذا العمل، لكن السيد قام بنفسه بهذا الدور. وهو بهذا يرفع من كرامة العبيد، إذ هم يمارسون هذا العمل قسرًا بحكم وضعهم الاجتماعي، أما السيد فقام به بكامل حريته بمسرة، خلال تواضعه وحبه. هكذا لا يعود يأنف العبد من ممارسة أي عمل، يمارسه من أجل الرب، لا خوفًا من الناس. وكما يوصيهم القديس بولس: “أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوفٍ ورعدةٍ في بساطة قلوبكم كما للمسيح، لا بخدمة العين كمن يرضي الناس بل كعبيد المسيح.].[38]

كما أوضح هذا الموقف الفرق بين اغتسال المعمودية، واغتسال التوبة الدائم:

“الذي قد اغتسل ليس له حاجة إلَّا إلى غسل رجليه”.

أمَّا هل غسل الرب قدمي يهوذا أم لا:[39]

فنجد رأيين مُختلفين للعلامة أوريجانوس والقديس يوحنا ذهبي الفم:

يرى العلامة أوريجينوس أن السيد المسيح لم يغسل قدمي يهوذا، إذ ليس له نصيب معه بسبب إصراره على شره.

بينما يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد بدأ بغسل قدمي يهوذا أولًا ليقدم له كل عمل محبة حتى اللحظات الأخيرة قبل قيامه بالخيانة، لعله يراجع نفسه ويتراجع عن شره:

يبدو لي أنه غسل قدمي الخائن أولًا بقوله: “وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ”.

انظر كيف أظهر السيد المسيح طريق التواضع، ليس بغسل أقدامهم فقط، لكنه أوضحه بطبيعة أخرى إذ نهض بعد اتكاءهم كلهم. ثم لم يغسل أرجلهم على بسيط الحال، لكنه غسلها بعد خلع ثيابه. ولم يقف عند هذا الحد، لكنه اتزر بإزار، ولم يكتفِ بهذا لكنه ملأ المغسل بنفسه، ولم يأمر آخر أن يملأه. مارس أعمال الغسل بنفسه كلها ليرينا أن نمارس أعمالنا لا في شكليات بل بكل نشاطنا.

ولا يستغرب القديس أغسطينوس ما فعله الرب في غسل الأرجل مُقارنةً بما قدمه بصليبه:

[ما العجب في أن يصب ماءً في مغسلٍ ليغسل أقدام تلاميذه ذاك الذي سكب دمه على الأرض لكي يغسل دنس خطاياهم؟..

ما العجب في أنه مسح بالمنشفة التي اتزر بها الأقدام التي غسلها هذا الذي بجسده نفسه الذي التحف به أقام ممرًا ثابتًا لخطوات الإنجيليين الذين له؟

لكي يتزر بالمنشفة ألقى بثيابه التي كان يرتديها جانبًا، ولكنه حين أخلى ذاته (من مجد لاهوته) لكي يأخذ شكل العبد لم يلقِ بما هو لديه بل قبل ما هو ليس لديه قبلًا] (القديس أغسطينوس).

 

قداس خميس العهد

تتجه قراءات القدَّاس نحو تأكيد حقيقة سر الإفخارستيا وتأسيس الرب له، وحياة الكنيسة به، وابتعاد نصوص الكتاب عن أي رمزية أو تذكار تاريخي لما فعله الرب مع التلاميذ.

لذلك تتكلّم القراءات عن أن سر الإفخارستيا هو:

تسليم رسولي (البولس).

ومائدة الحياة (المزمور).

وغفران الخطايا واستعلان الملكوت (الإنجيل).

 

البولس (1كو11: 23-الخ)

يتكلَّم البولس عن التسليم الرسولي من الرب للقديس بولس شخصياً، وكما نعرف أن الرب عند ظهوره لشاول في الطريق إلى دمشق وافتقاده وإرساله إلى حنانيا لكي يقبل الخلاص ويعتمد ويشرح له الإيمان (أع ٩: ١٠) وبعدها يتعهَّده برنابا الرسول (أع ٩: ٢٧) ثم يذهب للآباء الرسل (غل١: ١٨، ١٩) ورغم كل هذا نرى أن الرب بنفسه يُسلِّم إليه سر الإفخارستيا كحقيقة وممارسة حياتيَّة وصُلْب الإيمان، ويعتبر القديس بولس أن هذا التسليم من الرب له شخصياً أمانة ومسؤولية وواجب رسولي أن يُسلِّمه هو الآخر لكل من يُبشِّرهم بطريق الحياة الأبديّة:

“لأني تسلمت من الرب ما قد سلمته إليكم أن الرب يسوع في الليلة التي أُسْلِم فيها أخذ خبزاً وشكر وكسر وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يقسم عنكم هذا اصنعوه لذكري”.

وهذا هو ما أكَّده تعليم الآباء القديسين:[40]

[إذ نعلن الموت حسب الجسد لابن اللَّه الوحيد، أي يسوع المسيح، ونعترف بقيامته من الأموات وصعوده إلى السماوات، نحتفل بالذبيحة غير الدموية في الكنائس. هكذا نقترب من البركات الروحية ونصير قديسين، شركاء في الجسد المقدس والدم الثمين للمسيح مخلصنا جميعًا[ (القديس كيرلس الكبير)

[كيف يقول: “لأنني تسلمت من الرب” مع أنه لم يكن حاضرا في ذلك الوقت، إنما كان واحدًا من المضطهدين. قال هذا لكي تعرف أن المائدة الأولى لا تزيد عن تلك التي جاءت بعد ذلك. فإنها حتى اليوم الذي يفعلها (السيد المسيح نفسه) ويسلمها كما فعل في ذلك الحين] (القديس يوحنا الذهبي الفم)

وكيف يقول البعض أن سر الإفخارستيا مجرد ذكري تاريخية وليس جسداً حقيقياً للرب في الوقت الذي يُحذِّر القديس بولس المؤمنين تحذيراً شديد اللهجة بأن من يتناوله بغير استحقاق يكون مجرمًا في جسد الرب ودمه؟!، ولاحظ كيف يقول في جسد الرب ودمه.

وكيف يكون شيء ليس حقيقياً ويتعرض الإنسان بسببه للمرض والضعف والموت إذا استهان به ؟!.

“فليمتحن الإنسان نفسه وهكذا فليأكل من هذا الخبز ويشرب من هذه الكأس لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق فإنما يأكل ويشرب دينونة لنفسه إذ أنه لم يميز جسد الرب ومن أجل ذلك كثر فيكم المرضي والسقماء وكثيرون يرقدون”.

كما أن كلمة “ذكرى” تحمل معني الذكرى الحيَّة، كما قال الرب مرَّة واحدة في بدء الخليقة للإنسان “اثمروا وأكثروا وإملأوا الأرض” (تك١: ٢٨)، ولم يحتاج أن يقولها كل مرَّة عند إنجاب طفل جديد، بل قوة كلمته الإلهية امتد فعلها إلى الآن لكل البشر.

ويشرح أيضاً أبونا أنطونيوس معنى كلمة “لذكري”:

[لِذِكْرِي = باليونانية هي “أنا منسيس” وتترجم بالإنجليزية RECALLING وليس  REMEMBERANCE ومعنى الكلمة دخول حقيقي واستعادة حقيقية لما نتذكره، بدخول حقيقي في كل مقدراته وملابساته. فهي لا تعني مجرد ذكرى لأمر نتطلع إليه غائباً عنا، إنما ليتحقق حضور الله الحي العامل في حياة المؤمنين، حضور ما نصنع له الذكرى.

الإفخارستيا إذن هي ذبيحة حقة حاضرة وعاملة، هي ذكرى فعالة، هي كرازة عملية بموت الرب الذي به وحده الخلاص.

وكمثال على ذلك من العهد القديم حينما حفظ موسى جزء من المن ليريه لبني إسرائيل، فالمن ذكرى عينية أي من نفس الشيء الذي يشار إليه بالذكرى، أي أن الخبز هنا هو نفس جسد المسيح والخمر هنا هو نفس دم المسيح.

ولا محل للاعتقاد البروتستانتي بأن الخبز والخمر هما مجرد ذكرى أو هما رمز للجسد والدم. فالذكرى هنا ليست مجردة بل تذكر حقيقي بكل مفاعيله. ولو كان الأمر مجرد ذكرى لما غضب الرسول من إهمالهم، ولما استدعى الأمر أن يكون غير المستحق مجرما ويمرض ويموت. والكلام الآن موجه لشعب كورنثوس … هل في شقاقكم ومنازعتكم وأكلكم بشراهة تذكرون وتخبرون بموت الرب وصليبه].[41]

 

المزمور (مز٢٢: ٤، ٥؛ مز ٤٠: ٨)

“هيأت قدامي مائدة مقابل الذين يضايقونني الذي أكل خبزي رفع عليّ عقبه”

معروف أن مزمور ٢٢ (أو ٢٣) هو مزمور الكنيسة وأسرارها المُقدَّسة، وبالأخص الإفخارستيا، فهو يتكلَّم هنا عن المائدة التي هيَّأها الله لأولاده،

وأيضاً يتكلَّم مزمور٤٠ (أو41) عن التلميذ الخائن الذي أخذ اللقمة وخرج إلى خارج حيث قوات الظلمة وسلطانها لذلك هلك.

وكما يقول القديس أغسطينوس:

[“وأن إنسان سلامتي الذي وثقت به. الذي أكل خبزي رفع عليّ عقبه”.. من هو إنسان سلامته؟.. يهوذا.. لقد خانه بقبلة غاشة (يو6: 70)، ليُظهر ما قيل عنه: “رجل سلامتي”][42]

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[43]

هيأت قدامى مائدة. مقابل الذين يضايقونني

في إنجيل القداس نرى كيف كسر الرب جسده وأعطى دمه للتلاميذ وهم حوله. وهكذا صار جسد الرب المكسور على المائدة ودمه المسفوك مقابل كل الذين يضايقونني.. مقابل أتعاب العالم ونجاساته التي تقف مقابلي وتغريني وتحول جذبي. صارت مائدة جسد الرب قدامي تحول بيني وبين الخطية. وصارت مائدة الرب قوة الكنيسة وذخيرتها قبال المضايقين في كل زمان ومكان .

الذى أكل خبزي رفع علي عقبه

إن خبز الرب هو جسده الذى أعطاه ليهوذا الخائن كفرصة أخيرة للتوبة والرجوع، ولكنه صار مجرماً في جسد الرب إذ تناول بدون استحقاق فتغير قلبه وحل فيه الشيطان وذهبت عنه النعمة.

 

الإنجيل (مت 26: 20- 29)

أسَّس الرب اليوم سر الإفخارستيا خبز الدهر الآتي ، ليغرس فينا العطش والاشتياق الدائم والمُتجدِّد للملكوت:

هناك قول جميل لساويرس بن المقفع ، وهو من الكلمات النادرة في العصر العربي التي لها معني روحي عالي، فيه يشبه الإفخارستيا بعنقود العنب الذي أحضره يشوع بن نون وكالب بن يفنه من أرض الموعد لكي يشوقوا الشعب ويشجعوه للدخول إليها:

[وكما أن الجواسيس الذين أرسلوا إلى أرض كنعان أتوا إلى بني إسرائيل بثمار الأرض، كذلك الكهنة الذي تعلموا علم المسيح الملك السمائي، يأتون إلى المؤمنين بثمار ملك السموات، أي جسد المسيح ودمه،

لأن ذلك الثمر الطيب الذي أتي به الجواسيس هو يسير من نعم الأرض، ليُروه لبني إسرائيل فيذوقوه ويعرفوا طيبه، فيشتاقون إلى ملك الأرض ليتنعموا بكثرته، كذلك الكهنة يأتون إلى شعب المؤمنين بجسد المسيح ودمه ليُروهم ويذوّقوهم إياهما، فيشتاقون إلى ملكوت السموات حيث يعيشون حياة مؤبدة..  فالقربان هو عربون ثمار ملكوت السموات التي يحيا بها المؤمن هناك].[44]

وأيضاً يتكلَّم الإنجيل عن خيانة يهوذا، رغم تحذيرات الرب المُتكرِّرة والمملوءة من محبّته له، ولكن بسبب تكرار خيانته وقساوة قلبه وإغلاقه عن قبول كلمات الحب الإلهي، أسلم نفسه للشيطان:

“وإن البشر ماضي كما هو مكتوب عنه فويل لذلك الرجل الذي به يُسلّم ابن الإنسان قد كان خير لذلك الإنسان لو لم يولد”.

كما يُعْلِن الرب حقيقة جسده ودمه بكلمات واضحة جداً لا تحتمل أي شك:

“أخذ يسوع خبزاً وباركه وقسمه وأعطي تلاميذه وقال: خذوا كلوا فإن هذا هو جسدي… اشربوا من هذه الكأس كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد”.

 

الساعة الحادية عشر من يوم الخميس

تتكلّم قراءات هذه الساعة عن:

حمل الله وتدبير الآب في الآلام الخلاصية (إش ٥٢).

ومذبح الله في العهد الجديد وبركات الخلاص (إش ١٩).

وآلام وجروح الصليب وبداية عهد جديد (زكريا).

وتحقيق النبوّات في خيانة التلميذ (المزمور والإنجيل).

 

النبوَّات

إشعياء النبي (إش 52: 13)- الخ؛ 53: 1- 12)

من أقوي وأوضح نبوّات الصليب، وهي التي كان يقرأها الخصي الحبشي فبشَّره القديس فيلبس ببشارة الخلاص، فآمن وطلب أن يعتمد (أع ٨: ٣٦-٣٩).

ووضوح النبوَّة يظهر في أنه:

يسمو على البشر: “هوذا فتاي يفهم ويتعالى ويتمجد جداً” (راجع مت 12: 18).

يحمل خطايا الجميع: “هذا الذي حمل خطايانا”.

آلامه بسبب خطايانا: “وهو قد جُرح لأجل معاصينا وسُحق لأجل آثامنا”.. من أجل آثام الشعب جاء للموت.

آلامه طريق شفائنا: “تأديب سلامنا عليه وبجراحاته شُفينا”.

آلامه بتدبير الآب ليتألم عوضاً عنَّا: “كلنا كغنم ضللنا مثل رجل يضل في طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا”.

احتمل الآلام بصمت كامل وصبر عجيب: “مثل خروف سيق إلى الذبح. وحمل صامت أمام الذي يجزه”.

بلا عيب وبلا خطيّة “لأنه لم يصنع إثماً ولم يوجد في فمه غش”.

قَبِلَ الصليب بإرادته الخاصة: “حيث أسلم نفسه للموت مع الأثمة”.

وما أجمل قول النبوَّة: “أما الرب فشاء أن يشفيه من الجراح” (حسب الترجمة القبطية)، والتي مُترجمة للأسف في النسخة البيروتية: “أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن”، وما أصعب وأعظم الفارق بين أن تكون مسرَّة الآب السحق أو أن تكون الشفاء!!..

كما أن لقب فتاي أو عبدي كان يشير للمسيا حسب الاعتقاد اليهودي (يمكن مُقارنة (إش٤٢: ١، ٥٢: ١) (مت ١٢: ١٨).

[لا شك في أن عبد الرب هنا هو المسيح، وهكذا فسره اليهود حتى القرن 12 لكن نتيجة جدالهم مع المسيحيين اضطروا أن يفتشوا عن تفسير آخر. فقال بعضهم أن عبد الرب هو شعب اليهود والبعض قالوا إنه إرميا والبعض يوشيا. ولقد آمن كثيرون من اليهود بالمسيح بمطالعتهم لهذا الفصل ومقابلته بالعهد الجديد، وفي الأيام الحديثة أسقط اليهود هذا الفصل (52: 13– 53: 12) من القراءات المنتخبة للقراءة الأسبوعية، فهو نبوءة كاملة عن آلام المسيح قبل المسيح بحوالي 700 سنة. وهذه الآلام كانت حتى يفدى شعبه، لقد جعل نفسه ذبيحة إثم (53: 10) وبهذه النبوة نقترب إلى الله وننظر إلى سر الفداء] (القمص أنطونيوس فكري)[45]

والذي يراه البشر مُحتقر بالصليب يُسْتَعلن فيه المجد الإلهي كقول القديس أغسطينوس:

[ذاك الذي هو أبرع جمالًا من بني البشر رآه البشر على الصليب بلا شكل ولا جمال؛ كان وجهه منكسًا، ووضعه غير لائق. مع هذا فإن عدم الجمال هذا الذي لمخلصك أفاض ثمنًا لجمالك الذي في الداخل، فإن مجد ابنه الملك من داخل (مز 45: 2)] (القديس أغسطينوس)[46]

ملحوظة هامة: انتشرت في السنين الأخيرة طبعات للقطمارسات القبطية للأسف حسب الترجمة البيروتية (قص ولزق من الإنجيل) في كتب، أو نسخ إليكترونية، وهو ما يهدد سلامة الحفاظ على التراث القبطي الأرثوذكسي، وإذا استمر الوضع هكذا ستضيع الترجمة القبطية وهي التي تتوافق مع الترجمة التي استخدمها آباء الكنيسة في القرون الأولى!!.

 

إشعياء النبي (إش 19: 19- 25)

جاءت كلمة “في ذلك اليوم” في هذه النبوَّة أربع مرّات:

في المرة الأولي والثانية: تُشير إلى ملء الزمان، وتحقيق الخلاص بالصليب، وإيمان الأمم، ووجود مذبح للرب في وسط أرض مصر، ويُعرف الرب في مصر.

والمرَّة الثالثة والرابعة رُبَّما تُشير إلى افتقاد الله للشعوب في نهاية الأيام، ووحدة الإيمان بين المصريين والأشوريين واليهود.

ويقول أبونا أنطونيوس فكري :

[ولكن هذه الآية تدل على إيمان قوى يصل إلى حدود مصر في الأيام الأخيرة ليكشف حقيقة الوحش، الذي هو ضد المسيح والذي يتواجد في أورشليم في نهاية الأيام (راجع سفر الرؤيا إصحاحيّ 11، 13). ولقد نشر كتاب في أوروبا سنة 1992 ذكر فيه أن عدد اليهود الذين آمنوا بالمسيح وتوجهوا إلى إسرائيل واعتمدوا في نهر الأردن كانوا 60000 شخص أطلقوا على أنفسهم اليهود الماسيانيين (وحاليا سنة 2016 وصل العدد إلى 350000). هؤلاء هم مَنْ يحتاجوا لدعم من الكنيسة القوية التي يؤسسها المسيح الآن في مصر فتصير عمود للرب = عمود للرب عند تخمها. التخم يعني الحدود ما بين مصر وإسرائيل. والمذبح هنا لا يعني سوي مذبح يقدم عليه ذبيحة الإفخارستيا (جسد ودم المسيح)][47]

نبوة زكريا (زك 12: 11- الخ؛ 14: 1- 3، 6- 9)

يشرح أبونا أنطونيوس فكري علاقة هذه النبوَّة بالصليب:

[بقعة مجدون = حيث قتل يوشيا الملك الصالح، فحزن عليه الشعب، إذ قيل لهم أنه مات بسبب خطاياهم، وصرخوا “سقط إكليل رأسنا. ويل لنا لأننا قد أخطأنا” (مراثي16:5). وكان حزنهم شديدًا لم يكن مثله منذ قيام إسرائيل حينما حملت المركبة الملكية جثة يوشيا في شوارع أورشليم، ورثاه المرنمون والمرنمات، وكان يوشيا الملك إشارة للمسيح الذي مات فناح عليه الجميع، وهو فعلًا مات لأجل خطايا الجميع. وكل مؤمن يتأمل في صورة المسيح المصلوب فليبكي على خطاياه التي سببت هذا للمسيح. وقد يكون هذا البكاء هو بكاء البقية التي آمنت بالمسيح على ما فعله الآباء بصلب المسيح، وعدم إيمانهم السابق.

ولقد رأى البعض في الأسماء المذكورة أنها تمثل قيادات إسرائيل.

بيت داود = يمثل القيادات، أي الفئات القيادية في الأمة.

عشيرة بيت ناثان = يمثلون النسل الملكي أو الأنبياء، فناثان كان النبي أيام داود الملك (2صم1:12).

ولكن هنا يتكلم عن الأنبياء الكذبة الذين يضللون (لاحظ أن اليهود سيقبلون ضد المسيح في آخر الأيام وهلاك هذا الكذاب) (رؤ20: 10؛ 1: 19).

بيت لاوي = هم الكهنة ورجال الدين.

عشيرة شمعي (شمعون) = وهؤلاء خرج منهم الكتبة والمعلمون.

وبهذا يكون كل المذكورين هم القادة الذين يوجهون الأمة، وهؤلاء كانوا سببًا في ضلال أمة اليهود، فهؤلاء هم الذين أشاروا بصلب المسيح…

أنا جرحت في بيت أحبائي = أي سوف ينكرون جرحهم أثناء ممارساتهم في عبادة الأوثان.

ولاحظ أن هذه الآية وردت مباشرة بعد موضوع الطعن، لذلك فهي إشارة لجرح المسيح في بيت أحبائه.

ولاحظ أن الكلام عن الأنبياء الكذبة، وهذا لأن المسيح قد اعتبره رؤساء الكهنة مضللًا وهكذا دعوه، بينما هو سُرَّ أن يدعوهم أحباؤه. ثم يكمل الكلام عن الراعي المجروح.

لا يكون نور. الدراري تنقبض. لا نهار ولا ليل.. وقت المساء يكون نور = وهذا حدث يوم الصليب حيث صارت ظلمة على الأرض، وانطفأت أنوار الدراري (أي النيرات وهي الشمس والقمر).

فلم يكن هناك نهار لأن ظلمة كالليل جاءت، ولم يكن ليل فهو وقت نهار. وبالصليب انتهى العهد القديم المشار له بالمساء، فظلمة العهد القديم انقشعت بالصليب فكان نور العهد الجديد…

أما بالنسبة للحياة الأبدية فهناك صورة يرسمها يوحنا الرائي لنهر صافي من ماء حياة ليعطي حياة للمؤمنين (رؤ1:22). في الصيف والخريف = وفي الإنجليزية “في الصيف والشتاء” ففي الشتاء يجمد الماء، وفي الصيف تجف مجاري المياه، ولكن في الكنيسة فالروح القدس يفيض دائماً بلا عائق (رؤ16:7، 17)].[48]

 

المزمور (مز 49: 14)

“وأنت قد أبغضت أدبي وألقيت كلامي إلى خلفك إذا رأيت سارقاً سعيت معه مع الفسقة جعلت نصيبك”.

في هذا المزمور إشارة واضحة ليهوذا الخائن.

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[49]

وأنت قد أبغضت أدبى

يتكلم المزمور بلسان المخلص موجهاً كلامه ليهوذا الخائن. ذلك أن الرب عندما قال للتلاميذ واحد منكم يسلمني. سأل يهوذا المخلص قائلاً “أنا يا رب”؟. أجابه المخلص: أنت تقول…، عساه يرجع عن خيانته، ولكن يهوذا لم يلتفت لتأديب الرب ولا لكلامه. حينئذ قال له الرب: “لأنك أبغضت أدبي” “فما أنت فاعله فافعله بأكثر سرعة”.

وألقيت كلامي خلفك

وصية الرب محبوبة من أولاده، محتقرة من الهالكين، وعندما تكلم الرب بكلامه في سفر التثنية قال: “لتكن هذه الكلمات على قلبك” وكمسمع يهوذا من تعاليم المخلص. ولكن كلام السيد لم يكن له موضع في قلبه.

إذا رأيت سارقاً سعيت معه، مع الفسقة جعلت نصيبك

يالتعاسة النفس الممزقة التي تريد أن تكون مع المسيح ومع السارق والفاسق في آن واحد… تريد أن تأخذ جسد المسيح وفى نفس الوقت تطلب نصيباً مع الفسقة قائلة: “ماذا تعطوني وأنا أسلمه”.

مسكينة وشقية تلك النفس التي تريد أن تكون في صحبة المسيح والتلاميذ والرسل على مائدة الرب (في الكنيسة) وأيضاً تسعى لكى تكون مع السارقين والفسقة (في العالم).

قيل في تطويب الرجل إنه “في مشورة المنافقين لم يسلك وفى مجلس المستهزئين لم يجلس”. أما يهوذا فما أحقر النصيب الذى اختاره… لقد أعطوه ثمن المشنقة وحقل الدم بعد أن فقد محبة الرب وخسر أكليله.

 

الإنجيل (يو 13: 21- 30)

نرى في هذا الإنجيل عدم توقُّف الله عن تقديم الحب للخائن حتى آخر لحظة، واستمرار تهاون الإنسان وخيانته حتى النهاية.

وما أوضح الترجمة القبطية للآية التي تُعْلِن خيانة يهوذا “وبعد العشاء إذ بإبليس كان قد فرغ مما ألقي في قلب الذي يسلمه الذي هو يهوذا سمعان الإسخريوطي” (يو ١٣: ١ – ١٧)

ويتضّح من هذه الآية أن خيانة يهوذا لم تكن ضعف أو موقف بل حياة وخيانات مُتعدِّدة ومُستمرِّة حتي النهاية (راجع الشرح بالتفصيل في إنجيل لقان يوم خميس العهد).

 

 

من وحي قراءات يوم خميس العهد

“هذا هو جسدي… هذا هو دمي” (إنجيل قدّاس خميس العهد)

جواهر الله

عندما يصرخ الكاهن “القدسات للقديسين” يقصد بالقدسات الجواهر الصغيرة من جسد المسيح له المجد في الصينيّة، والتي يتناولها المؤمنين، أمَّا القديسين هم الشعب الذي يتقدم بخشوع للمائدة الإلهية.

وفي بداية كهنوتي كنت (ومازالت) حريصاً جداً على الجواهر من الجسد، وعلى قطرات دم المسيح، له المجد لئلا تقع على الأرض.

ولكن مع الوقت ومرور السنين فتح الله عيني على جواهر أخرى لا أعطيها نفس الاهتمام والتدقيق، وهي جواهر أولاده والنفوس التي افتداها بدمه الطاهر.

وبينما يستغرق كل تفكيري وتركيزي في القدّاس الإلهي سلامة جسده ودمه وخلوّ الصينية والكأس من أي جواهر لئلا تقع أو تضيع… لا يشغل تفكيري وتركيزي بنفس القدر الجواهر البشريّة التي أقابلها بعد القداس، سواء التي داخل السور الكنسي، أو من هم خارج الأسوار، أو الجواهر التي في الكور البعيدة.

لا أحزن على ضياعها ووقوعها نفس حزني داخل القداس على جواهر الجسد والدم. !!

وبينما يحيط بي كل يوم جواهر ضائعة وجواهر ساقطة أكتفي بضمير راضٍ بالصينية والكأس اللذان حفظت جواهرهما.

متي تفتح عينيّ يا روح الله القدّوس بالأكثر على الجواهر التي أهملتها، والجواهر التي إنتهرتها، والجواهر التي وَطَئَتْها كرامتي المزعومة.

يا خدّام الله لقد إئتمنكم العليّ على جواهره البشريّة، ويا آباء وأمهات لقد أعطاكم القدير جواهره في بيوتكم.

فلتكن جواهره موضع إهتمامنا وتكريمنا مثل كرامة جسده المقدَّس ودمه الكريم، ولتكن حياتنا قدّاس دائم ومن نخدمهم ذبيحة مقدّسة.

فالكأس بين أيدينا في كل من نقابله، والصينية نحملها في محبتنا لكل نفس ضعيفة حائرة “وأما أنتم فجسد المسيح” (١كو ١٢: ٢٧).

[أنتم فوق المائدة! أنتم داخل الكأس.!] (القديس أغسطينوس)[50]

 

 

أفكار مقترحة لعظات يوم خميس العهد

حياتنا في المسيح (غسل الأقدام – إفخارستيا – جهاد الصلاة)..

يُمْكِن أن يُلْقَي الضوء على ما حدث في هذه اليوم عندما غسل الرب أرجل تلاميذه الأطهار وأعطاهم جسده المقدس ودمه الكريم، وكان في جهاد الصلاة ليوحِّد إرادتنا مع إرادة الآب.

ونرى في غسل الأقدام ← سر الآخر.

وفِي الإفخارستــــــــيا ← سر الحياة الأبديّة.

وفِي جهاد الصـــــلاة ← سر إرادة الآب لخلاصنا.

وكيف نسعى إلى خلاص الآخرين بغسل أقدامهم واحتمال واحتواء ضعفاتهم، كما يغسل الرب كل يوم أقذارنا بروحه القدّوس (أش٤: ٤) هكذا يجب علينا أن نحتمل أضعاف الضعفاء (رو١٥: ١).

وكيف نأخذ قوة الحياة وترياق عدم الفساد ودواء الخلود في الإفخارستيا (يو ٦: ٥٤ -٥٦)

وكيف تنفتح أعيننا على مقاصد الآب وتدبيره الإلهي في جهاد الصلاة (في ٤: ٦- ٧)؛ (كو ٤: ١٢).

 

الإفخارستيا:

يمكن أيضاً الكلام عن الإفخارستيا (حياتنا في المسيح) وليس مجرد ممارسة.

وكيف تُعِدّ الكنيسة أنفسنا للاتحاد بالمسيح في التوبة، وحياة الصلاة، وغني الكلمة، ومجد الشركة:

 

التوبة:

تربط الكنيسة بين حياة التوبة وبين اتحادنا به، لذلك تدعونا الكنيسة للتوبة الدائمة لنكون مُستحقين في المسيح أن نتحد به، ولذلك غسل أقدام تلاميذه ليجعلهم أطهار فيستحقِّون خبز الحياة، وهكذا ترتبط الإفخارستيا بالتوبة والاعتراف ارتباط حياة بحياة، وليس ارتباط مُمارسة بممارسة:

لذلك تمتلئ صلوات الكنيسة اليومية من الدعوة للتوبة المُستمرِّة:

لك وحدك أخطأت .. إمنحني بهجة خلاصك (المزمور الخمسون).

لكني أتكل على غنى رحمتك ومحبتك للبشرية، صارِخًا قائلًا: اللهم اغفر لي أنا الخاطئ وارحمني (قطع صلاة الغروب).

بل انهضي من رقاد الكسل وتضرعي إلى المخلص بالتوبة قائلة: اللهم ارحمني وخلصني (قطع صلاة النوم).

بعين مُتحنِّنة يا رب أنظر إلى ضعفي فعما قليل تفني حياتي (قطع الخدمة الثالثة من صلاة نصف الليل).

وأيضاً لا تكُفّ صلوات القدَّاس الإلهي عن طلب الرحمة والغفران (ليغفر لنا خطايانا- يا رب ارحم).

 

حياة الصلاة

ما أجمل ترتيب الكنيسة المُقدَّسة في إعداد شعبها بصلوات كثيرة من صلوات أجبية ورفع بخور وتسبحة وتقديم الحمل وقدّاس الموعوظين والمؤمنين، وذلك لنغتني من حضور الله والوجود الدائم معه، وكأن مذبح قلبنا نفرشه بالصلاة قبل حضور الحمل فيه، وكأن أيضاً كل قدّاس امتداد لتجسُّد الكلمة، فنحتاج أن يحل الروح القدس علينا (نمتلئ به بالصلاة – هلم تفضَّل وحل فينا) وأن تُظلِّلنا قوة العلي (أي نعيش في حضوره الإلهي ومخافته) فتكون حياتنا إعلان عن تجسُّده وحضوره (يو٣: ٢١ ؛ ١٢: ٣٦).

 

غني الكلمة:

كنيستنا كتابية إنجيلية، مغموس طقسها بروح الكتاب، ومملوءة ليتورجياتها بمجد الكلمة.

لذلك توجد تسع قراءات من الكتاب المقدس في كل قدّاس، بالإضافة لأناجيل صلوات الأجبية التي نُصلِّيها، والأجزاء المُقْتَبسة من الكتاب في التسبحة (الهوسات الأربعة) وذلك لكي تجعل الكنيسة قلبنا مُلْتَهِباً فينا عندما نُنصت إلى مَنْ يُكلِّمنا (لو ٢٤: ٣٢) فتتفتح أعين قلوبنا على معرفته (لو ٢٤: ٣٥) بعد التناول من أسراره المُقدَّسة.

 

مجد الشركة:

تقريباً كل صلوات الكنيسة وخاصَّة القدَّاس الإلهي إمَّا بلغة الجمع (نحن) أو من أجلي ومن أجل الآخرين، لذلك نُصلِّي كجسد واحد حتى في صلواتنا الخاصة (فلنشكر صانع الخيرات .. لأنه سترنا – ارحمنا يا الله ثم ارحمنا) هذا بالإضافة إلى الأواشي (المرضي والمُسافرين).. وأيضاً لأجل كل الرتب الكنسية وكل الشعب وخلاص العالم.

 

الخلاص في القداس الإلهي

يُقدِّم لنا القداس الإلهي الخلاص العظيم بحسب تعليم وعبادة كنيستنا المقدسة في ثلاث مراحل :

قصة الخلاص – تعليم الخلاص – حياة الخلاص

 

طقس تقديم الحمل

وهو الذي يُعْلِن لنا قصة الخلاص، أي ما تمَّمه ربنا يسوع في صلبه وموته وقيامته.

نرى هذا في صلاة المزامير بشرط وجود الحمل حاضراً الصلاة، للإعلان عن تدبير الخلاص منذ البدء، وكيف كان هو موضوع النبوات.

ونرى إختيار الحمل بلا عيب إشارة لجسد الرب الذي كان بلا خطية.

وتلامس الحمل المختار مع باقي القربان للإشارة إلي أن الخلاص كان موضوع ذبائح العهد القديم

ووضع الصليب على الحمل إشارة إلى حمل الرب صليبه لأجل خلاصنا.

ودورة الحمل حول المذبح للإشارة إلى الخلاص المُقدَّم للعالم كله.

ووضع الحمل في الصينية، والخمر في الكأس، وتغطيته بالإبروسفارين إشارة إلى دفنه في القبر.

 

طقس قدَّاس الموعوظين

وهو الذي يُقدِّم لنا تعليم الخلاص، أي كيف نفهم خلاصنا كما أعلنته كنيستنا المُقدَّسة.

نرى البولس يتكلَّم عن النعمة [لذلك يختم بنعمة الله الآب تحل علي جميعنا آمين]، أي مجَّانية الخلاص (٢تي١: ٩)، فكل عطايا العهد الجديد، وكل بركات الخلاص أخذناها ببر الله ومحبته رغم ضعفنا وعدم إستحقاقنا.

ونرى الكاثوليكون يتكلَّم عن دور الإنسان [لذلك يختم بلا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم]، أي مسؤولية الخلاص (عب٢: ٣)، لأن النعمة ينالها من يعطش إليها بإجتهاد (٢تي٢: ١)، ونمو (٢بط٣: ١٨)، وعدم تكاسل (٢بط١: ٨).

ونرى الإبركسيس يتكلَّم عن وسائط النعمة، أي الكنيسة [لذلك يختم بلم تزل كلمة الرب تنمو في هذه البيعة وكل بيعة]، أي سرائرية الخلاص، فالكنيسة هي التي تُقدِّم لنا في أسرارها المقدسة كل ما نحتاجه لخلاصنا (أف٣: ١٠).

ونقرأ السنكسار لنعاين أيقونات الخلاص، أي القديسين، فخلاصنا كما نقول مشروحاً بالآباء ومعاشاً في القديسين، وهم آثار الغنم التي نخرج عليها (نش١: ٨)، وسحابة الشهود التي تؤازرنا (عب ١٢: ١)، وعائلتنا وعزوتنا (أف ٢: ١٩).

ويأتي مزمور وإنجيل القدَّاس معلناً إنجيل خلاصنا (أف١: ١٣)، موضوع الكتاب بعهديه القديم والجديد (٢تي٣: ١٦).

ويُختم بقانون الإيمان، الذي يجمع في كلماته كل ما يُمكن أن ندركه عن تعليم الخلاص.

 

طقس قدَّاس المؤمنين

وهو الذي يُقدِّم لنا حياة الخلاص، أي كيف نعيش الخلاص في حياتنا اليومية.

يبدأ بصلاة الصلح، والصلح هنا بيننا وبين الله، أي التوبة [طهرنا من كل دنس ومن كل غش ومن كل رياء..]، والصلح بيننا وبين الآخرين، أي المحبة [إجعلنا مستحقين أن نقبل بعضنا بعضاً بقبلة مقدسة].

ونعيش الخلاص بمشاركة السمائيين في التسبيح [يسبحونك على الدوام بغير سكوت..]، وكما يقول الأنبا أنطونيوس: الشكر المُقدَّم لله هو خلاص الإنسان.

ثم يأتي التقديس، ورشومات آجيوس، لنعرف أن المكرسين هم المخلصين، والذين قدسوا وكرسوا حياتهم لأجل عمل الروح فيهم بفيض [ليحل روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين..].

ونُعبِّر عن خلاصنا بشركتنا وصلواتنا لأجل الكنيسة العالم [أوشية سلامة الكنيسة، والآباء، والموضع، والزروع والعشب]، وشركتنا مع السمائيين [المجمع].

وأيضاً شركتنا في الألم، مع المسيح الحمل المكسور لأجلنا، في صلاة القسمة [التي نتذكَّر فيها كل ما فعله الرب لأجل خلاصنا].

ويختم بالإعتراف والشهادة، أي أن نُعلن للعالم فرح المسيح وسلامه ورجاؤه وخلاصه [الإعتراف الأخير].

 

أي أننا نعيش الخلاص عندما نكون في حالة:

توبة دائمة،

ومحبة كاملة،

وشكر لا ينقطع،

وتكريس حياتنا له،

وشركتنا مع الكون في الصلاة،

وشركتنا مع المسيح في آلامه فينا،

وشهادتنا للعالم بالخلاص والغفران والحياة الأبدية.

 

 

عظات آبائية ليوم خميس العهد من البصخة المقدسة

العظة الأولى

المسيح فصحنا – للقديس كيرلس الكبير[51]

ليس بأحد غيره الخلاص

يستطيع المرء أن يعرف بطرق كثيرة أننا ننجو من قوة الموت بواسطة المسيح وحده، وهذا ما يؤكده لنا التلميذ الحكيم بقوله: “ليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطى بين الناس به ينبغي أن نخلص” (أع ٤:١٢). كما أن هناك آلاف من الصور المتآلفة في الكتاب المقدس تقدم لنا هذا السر بكل وضوح.

اطلق شعبي

إذن فلنمض لنجمع هذه الشواهد التي تخدم هدفنا، حتى نظهر هذا السر شارحين إياها في حديثنا هذا.

يقول الكتاب: “دخل موسى وهارون وقالا لفرعون هكذا يقول الرب إله اسرائيل اطلق شعبي ليعيدوا لي في البرية. فقال فرعون من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل. لا أعرف الرب وإسرائيل لا أطلقه. فقالا: إله العبرانيين قد التقانا. فنذهب سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا لئلا يصيبنا بالوباء أو بالسيف. فقال لهما ملك مصر لماذا يا موسى وهرون تبطلان الشعب من أعماله. أذهبا إلى أثقالكما” (خر٥: ١- ٤).

إله العبرانيين يؤيد شعبه بالمعجزات :

يقول فرعون المغتاظ وهو ملئ بالغباء الشيطاني إنه لا يعرف من هو إله العبرانيين. لكن عندما بدأت الضربات على مصر بجروح مستمرة ومخيفة، وأصابها التدمير تدريجياً، مرة بتحول المياه إلى دم، ومرة أخرى بغمر الأرض بالجراد والبرد، وبظهور البعوض والضفادع، وأيضاً بحلول ظلام لثلاثة أيام، كانت النتيجة أن فرعون أعطى وعداً مباشراً. ضد إرادته بترك العبرانيين أحراراً، وبرغم ذلك فإن قلب فرعون قد تقسى وأصبح أكثر صلادة وتجبر ورهبة بل ورفض تحرير الإسرائيليين من العبودية الطويلة.

ثم بعد ذلك أراد الله أن يرسل الملاك المهلك إلى أبكار المصريين، ولكن لأنه لا ينبغي أن يهلك المختارون مع الغرباء الدنسين، فإن الله قد وضع شريعة الفصح، محبة  للآباء. وأمر أن يحتفل بالفصح الذى يشير إلى سر المسيح قبل إعلان غضبه على أبكار المصريين. ومن هذا الأمر نستطيع أن نفهم أنه كان من المستحيل أن يبطل الموت بواسطة موسى والناموس. بل دم المسيح الكريم وحده هو الذى يبعد المهلك ويحرر المقدسين من هلاك الموت. لأن المسيح هو الحياة من الحياة، وهو إله الكل، إذ أنه إله من إله.

التفسير الروحي لذبيحة الفصح

هذا إذن ما يقوله الكتاب المقدس، ونحن إذ نفحص هذه الأقوال، نضيف إليها شرحاً وافياً يوضح، بأكثر من طريقة، أهمية كل قول على حدة، في الإشارة لسر المسيح.

المسيح قدّس الكل من البداية

لقد تحدد وقت عمل التقديس في أثناء الشهر الأول من بداية العام، لأن بداية الكل هو المسيح (راجع (كو ١: ١٨)، لأن المسيح الكلمة والابن المتجسد لم يكن حديث العهد، بل هو نفسه المولود قبل كل الدهور من الآب، وقد قدَّس كل الأزمنة التي صارت من البداية وحتى النهاية، أيضاً يقول إن الاحتفال حُدَّد في بداية العام الجديد، وهذا يشير أنه “بالمسيح الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكلُ قد صار جديداً” وفقاً لكلام بولس الطوباوي (٢كو ٥: ١٧)، (إش٤٣: ١٩)، لقد أزهرت بالفعل طبيعة الإنسان ثانيةً بالمسيح والكل صار جديداً .

المسيح هو المُحرِّر

لقد أمر الله بكل هذا، في حين كان الإسرائيليون مازالوا عبيداً يرزحون تحت سلطة المصريين، معبَّراً بذلك بطريقة رمزية عن أن نفس الإنسان لا يمكنها أن تنطلق تجاه التحرر من الخطية، أو الهرب من شهوة إبليس والانفصال عن العالم، وصولاً إلى المدينة السماوية، إلاَّ بمحبة المسيح فقط للبشر وهذا هو ما قاله المسيح نفسه لليهود الحمقى: “الحقَّ الحقَّ أقول لكم إن كلَ مَنْ يعمل الخطية هو عبدٌ للخطيَّة. والعبد لا يبقي في البيت إلى الأبد. أمَّا الابن فيبقي إلى الأبد. فإن حرَّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً” (يو ٨: ٣٤-٣٦)، كما قال أيضاً: “الحقَّ الحقَّ أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم” (يو ٦: ٥٣)، ولا شك أن الصورة الرمزية لهذا الأمر يمكن أن نجدها في أرض الميعاد، تلك التي كان الإسرائيليون يسيرون إليها .

” ويكون عندكم تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر” (خر ١٢: ٦).

المسيح أتى في الأزمنة الأخيرة

ونلاحظ أنَّ الخروف كان يوضع تحت الحفظ من اليوم العاشر للشهر حتى اليوم الرابع عشر منه لكي يُذبَح في المساء. وإذا تساءلنا عن سبب ذلك، وجدنا أن هناك دلالهً هامة لتلك الأمور. وربما يسأل المرء ما المشكلة لو أُخِذَ الخروف في اليوم الأول من الشهر؟ وما هو الهدف الذي شَرَّع الله لأجله أن يُحفظ الخروف لمدة خمسة أيام، ومن ثم يُذبَحُ في المساء؟ ولماذا بدأنا العدُّ من اليوم العاشر حتي الرابع عشر، حتى يكون مدة حفظ الحمل هي خمسة أيام؟

أما من جهة أنَّه لا يجب أن يُؤخذ الخروف للحفظ من اليوم الأول للشهر، فهذا يدُل رمزياً علي أنَّ زمننا هذا، قد أتى بعد أن كانت قد مرَّت قبلنا أزمنةٌ كثيرة وأجيالٌ طويلة، لم تكن خالية أبداً من وجود الله. لأن فترة الخمسة أيام التي سبق أن أُشير إليها قُسِّمت بعد ذلك إلى خمس فترات زمنية. وهذا هو الأمر الذي اتضح من المثل الذي قاله المخلِّص: “فإن ملكوت الله يشبه رجلاً ربَ بيتٍ خرج مع الصبح ليستأجر فعلةً لكرمه. فاتفق مع الفعلة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه. ثم خرج نحو الساعة الثالثة ورأى آخرين قياماً في السوق بطالين، فقال لهم اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فأعطيكم ما يحق لكم، فمضوا وخرج أيضاً نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك. ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قياماً بطالين، فقال لهم لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطالين، قالوا له لأنه لم يستأجرنا أَحدٌ، قال لهم اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فتأخذوا ما يحق لكم” (مت٢٠: 1- ٧) .

هل اتضح لك من هذه الأقوال أن زمننا هذا قُسِّم إلى خمس فترات؟:

الفترة الأولي هي التي عاش فيها آدم، الأب الأول في الفردوس.

والفترة الثانية كمثل “الساعة الثالثة”، ويقصد بها الزمن الذي عاش فيه نوح والذين كانوا معه.

والفترة الثالثة هي مثل “الساعة السادسة” في المَثَل وهي تُشير إلى الفترة الزمنية التي تبدأ بدعوة إبراهيم لكي يعرف الإله الحقيقي.

والفترة الرابعة هي أيضاً مثل “الساعة التاسعة”، ويُقصد بها الفترة التي عاش فيها موسى والأنبياء.

أمَّا الفترة الخامسة أي “نحو الساعة الحادية عشر”، أي التي فيها ينتهي اليوم، ويصل الزمن الحاضر إلى نهايته، في هذه الفترة استأجر السيد المسيح الأمم الذين لم يكونوا قد دُعوا بعد من أي أحد آخر أثناء الفترات السابقة. لذلك أجاب هؤلاء الآخرون قائلين: “لم يستأجرنا أحد”.

هكذا يؤخذ الخروف للحفظ في اليوم الأول من تلك الخمسة أيام، أي اليوم العاشر الذي يشير إلى بداية الزمن، ويُحفظ لآخِر الوقت، أي اليوم الرابع عشر ويُذبح في المساء، وهذا يجعلك تدرك أيضاً أن سر المسيح ليس أمراً مستحدثاً، لكنه كان محفوظاً في علم الآب السابق من قبل خلق العالم (راجع (أف ٣: ٩)، غير أنه مات لأجلنا في الأزمنة الأخيرة.

” ثم يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل في العشية” (خر١٢: ٦).

 

المسيح هو نور العالم

ولَمَا كان النور الإلهي لم يكن قد أشرق بعد؛ لأن الأرض كانت ما تزال غارقةٌ في ظلام الجهل، وقد لوَّث رؤساء هذا الظلام قلوب الجميع، لذلك عندما أتى المخلِّص قال: “أنا هو نور العالم” (يو ٨: ١٢، ٩: ٥)، وبما أن القديسون يُعتَبرون بمثابة مصابيح العالم التي تشع بكلمة الحياة، لذا كانوا جديرين أن يسمعوا قول المخلِّص: “أنتم نور العالم” (مت ٥: ١٤)، حتى يمكنهم أن ينيروا الذين في الظلمة .

ولسوف تندهش أيضاً عندما يتبين لك أن هذه الأقوال إنما تُشير إلى عملٍ سريٍ آخر، لأنه في اليوم الرابع عشر من الشهر يُذبَحُ الخروف، هذا اليوم يكون فيه القمر مُكتَملُ البهاء، وينير كل المسكونة بنورٍ خافت يأخذ في الأُفول تدريجياً، إذ أن هناك تلاشياً اضطرارياً لكل مجد أرضي، يمكننا أن نفهم هذه الأمور رمزياً من كون الشيطان باعتباره رئيس الليل (المساء)، والمُمجَّد في كل المسكونة (بالمجد العالمي)، على مثال القمر  (لأن القمر خُلِقَ ليسود على الظلام – (تك١: ١٦)، وهكذا يضع الشيطان حكمته الزائفة كمثل نورٍ كاذب في قلوب المُضَللَّين، موهماً إياهم أن لمعان ذاته كامل،

أما المسيح الذي مات لأجلنا ولأجل خلاصنا، فهو الحَمَل الحقيقي الذي رفع خطايا العالم (يو١: ٢٩)، وأبطل مجد الشيطان الزائف، هذا المجد (الشيطاني) لابد وأن يتلاشى رويداً رويداً عندما تسير جموع الأمم صاعدةً نحو محبة الله وسلامه بإيمانهم بهذا العمل (السري) الخلاصي .

وقد تغني سفر المزامير بهذا الأمر عندما قال عن المسيح: “يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلام الى أن يضمحل القمر” (مز٧:٧٢). فبتجسد المسيح أشرق البر حقاً بواسطة الإيمان والسلام الوافر بالرجوع الى الله. ثم ابطل رئيس الليل، أي الشيطان.

لكن عليك أن تلاحظ أنه لم يقل ببساطة إن القمر سيضمحل من ذاته، لكنه سيضمحل بواسطة آخر، لأن الواضح أن الشيطان كان قد فعل نفس الأمر قديمًا وحاول اخفاء بهاء مجد الإنسان.

“كلما كل جماعة إسرائيل قائلين: في العاشر من هذا الشهر يأخذون لهم كل واحد شاة بحسب بيوت الآباء، شاة للبيت. وإن كان البيت صغيرا عن أن يكون كفوا لشاة، يأخذ هو وجاره القريب من بيته بحسب عدد النفوس. كل واحد على حسب أكله تحسبون للشاة.” (خر ١٢: ٣-٤).

 

المسيح واحد ولا يقبل الانقسام:                       

مكتوب ايضاً: “يأخذون لهم كل واحد شاة بحسب بيوت الآباء” (خر٣:١٢)، لأن المسيح هو كامل، حسب ايمان كل واحد منا، عندما تكون له شركة الروح القدس، والمسيح لا يقسم كما يقول الرسول بولس (راجع١كو ٤:١٢). وان كان هناك بيت عدد افراده قليلون، ولا يستطيعون ان يأكلوا خروفاً، فليأخذ كل واحد معه جاره الموجود بالقرب منه. أي أن اولئك الذين لا يمكنهم بمفردهم إدراك سر المسيح تماماً، أو لا يستطيعون استيعاب سمو المسيح لضعف عقولهم، عليهم أن يأخذوا جيرانهم كمعاونين ومساعدين لهم في الإيمان. لأن ما يتجاوز قدراتنا الذهنية، يمكننا أحيانا أن نفهمه بواسطة ارشاد الآخرين. وذلك مثلما فعل الخصي الحكيم الذي سأل فيلبس ليرشده عن النبوة التي كانت تشير الى المسيح “مثل شاة سيق الى الذبح” فقال: “اطلب اليك عن من يقول النبي هذا عن نفسه أم عن واحد آخر” (اع٨ :٣٢-٣٤).

أرأيت كيف أنه أخذ رأي جاره. لأن كل واحد منا هو جار للآخر، إذ أن كلمة الإيمان مشتركة، ونحن جميعاً نؤمن بالواحد. وعندما بحث الخصي عن الحقيقة بعمق، صار مشاركاً في الإيمان “بالحمل”، إذ طلب أن يعتمد مباشرة وقد اعتمد فعلاً.

ويقول الكتاب عن “الشاة” انها: “تكون صحيحة” أي كاملة. حيث أن المسيح هو كامل إذ هو الله. كما أعلن المشرع أن تكون الشاة ذكراً، لأنه هو الزارع الذي يزرع بذور معرفة الله داخلنا وكأنها أرض يفلحها، مثل كلام الأنبياء الذي أعد البشرية لقبول المخلص الذي بشر به الإنجيليون.

وبالإضافة لكل هذه التعليمات، لابد وأن يكون عمر الخروف عاماً لا أقل، حتي لا يكون ناقصاً، ومن جهة أخرى فانهم سوف يتممون الاحتفال بالفصح اللائق بالله بعدما يمر عاماً كاملاً على احتفالهم السابق، عندئذ يجنون ثمار خيرات الآلام محتفلين بالفصح.

 

المسيح هو الذبيحة التي بلا عيب:

مكتوب أيضاً يأخذون الشاة من الخراف أو الماعز ، والخروف بسبب أنه طاهر وبري يعتبر ذبيحة بحسب الناموس، بينما يقدم الماعز على المذبح لأجل خطايانا. وهذا هو ما سوف تجده بالتأكيد في المسيح، فهو نفسه كان ذبيحة بلا عيب إذ قدم ذاته لله أبيه كرائحة ذكية، وكشاة، ذبح بسبب خطايانا.

“ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا في البيوت التي يأكلونه فيها” (خر ١٢: ٧).

فاعلية دم المسيح:

كما أمر المشرع أن يدهنوا القائمتين والعتبة العليا للمنازل بدم الحمل، قاصدًا بذلك الإشارة إلى أنه بدم المسيح المقدس والكريم نؤمن مسكننا الأرضي، أي الجسد، طاردين منه الموت الذي هو نتيجة العصيان، بالحياة التي تشترك فيها، وفي نفس الوقت تسبب الاضطراب للشيطان المهلك، إذ بمسحة الدم نطرد بعيدا الشيطان الذي يريد بنا شرًا طارحين بعيدا الشهوات والأهواء الجسدية .

أما “أبواب” بيوتنا، فهي حواسنا التي من خلالها نراقب نوعية الأمور التي تدخل قلوبنا، إذ يتسلل داخلنا من خلالها عدد لا يحصى من الرغبات.

فلقد دعا النبي يوئيل الحواس أبوابًا قائلاً: يتراكضون في المدينة، يجرون على السور، يصعدون الى البيوت، يدخلون من الكوی کاللص” (يؤ٢: ٩)؛ في نبوة عن تلك الأبواب التي لم تدهن بدم المسيح .

 

التناول من جسد المسيح ودمه والتبشير بموت المسيح وقيامته:

كما أمر الكتاب أن تؤكل الذبائح في ذات الليلة، أي هنا في الحياة الحاضرة. لأن بولس قد وصف هذه الحياة هكذا قائلًا: “قد تناهي الليل وتقارب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور” ( رو ١٣: ١٢)، داعيا بوضوح لهذه الحياة التي ينيرها المسيح نفسه. هكذا يوصي أن نأكل الذبائح أثناء فترة حياتنا في هذا الدهر؛ لأنه بقدر ما نصير مشاركين المسيح بطريقة روحية ومحسوسة  أثناء وجودنا في هذا العالم بتناول الجسد المقدس والدم الثمين، بقدر ما نصل إلى يوم قوته كما هو مكتوب (مز ١١٠: ٣)، وبقدر ما نصعد إلى بهاء القديسين، نتقدس أيضا بطريقة يعرفها معطي الخيرات العتيدة ومانحها .

ومن ناحية أخرى، فإن التناول من جسده المقدس، ومن دمه الكريم، يعني الاعتراف بآلام المسيح وموته الذي صار لأجلنا بالتدبير. لأنه هو نفسه قال لعارفيه حين حد نظام السر: “فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز ،وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء” (١كو ١١: ٢٦).

وباشتراكنا في الأمور التي أشرت إليها توًا. أثناء هذه الحياة الحاضرة فإننا بالفعل نکرز بموت الرب، لكن عندما يأتي بمجد الآب، عندئذ لا نقدم له اعترافنا بموته، بل سوف نعرف الله بكل وضوح “وجها لوجه” كما يقول الرسول بولس راجع (١كو ١٣: ١٢). إذ يقول: “عالمين أن المسيح بعد ما أقيم من الأموات لا يموت أيضا. لا يسود عليه الموت بعد” (رو ٦: ٩)، كما يقول أيضا: “اذا نحن من الآن لا نعرف أحداً حسب الجسد. وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد” (٢كو ٥: ١٦) . لأننا عندئذ سوف نعرفه بأكثر وضوح، ليس من جهة أنه أخلى ذاته عندما صار إنسانا، لكن إذ هو إله حقيقي أتم تدبير الله الخلاصي عند ذلك ستكون الأقوال بالأكثر هي عن المعرفة الأسمى، إذ يشرق علينا بمعرفة الخلاص الإلهية من جانبه، تلك التي يعبر عنها بواسطة مجده الفائق.

“ويأكلون اللحم تلك الليلة مشويا بالنار مع فطير على أعشاب مرة يأكلونه” (خر ١٢: ٨).

 

ضرورة أن نكون حارين بالروح سالكين بنقاوة القلب :

نقرأ أيضا أن الخروف يؤكل مشويا بالنار؛ لأن أولئك الذين يشرعون في فهم سر المسيح، يجب أن يكونوا حارين روحيا، ولذلك ينصحنا الرسول أن نكون هكذا (راجع (رو ١٢: ١١) .

كما يأمرهم أيضا أن يأكلوا فطيراً (خبز بلا خمير) على أعشاب مرة معلنًا بطريقة رمزية أن الذين صاروا مشاركين للمسيح، عليهم أن يتغذوا على إشتياقات نقية لا خمير فيها، وأن يعتادوا على السلوك بنقاوة القلب الخالي من الشر، غير هاربين من التجارب المؤلمة وفق المكتوب: “يا بني، أن أقبلت لخدمة الرب فأعدد نفسك للتجربة. أرشد قلبك وأصبر ولا تكن قلقا في وقت الشدة” (حكمة يشوع بن سيراخ ٢ :٢،١).

“لا تأكلوا منه نيئا أو طبيخا مطبوخا بالماء، بل مشويا بالنار” (خر ١٢: ٩).

 

الإيمان المستقيم بالمسيح

ويقول أيضاً :” لا تأكلوا منه نيئاً ” (خر١٢: ٩) ماذا يعني بقوله هذا؟

الأكل النيئ لا يمضغ ولا يهضم، وهو يشير إلى الذين لا يفحصون الكلمة بتدقيق ليجدوا المسيح. أمَّا أولئك الذين يبحثون بتدقيق، فإنهم “يطهون” الكلمة ويتذوقونها وفق ما قاله داوود النبي “عند لهجي بكلامك اشتعلت النار” (مز٣٩: ٣).

كذلك منعهم من أن يأكلوا اللحم مطبوخاً في الماء، معلنًا بذلك أن الفكر الكاذب والمنحل عن المسيح لا يعتبر غذاءً مناسباً لعقول المؤمنين. وما هو الاعتقاد الكاذب عن المسيح، إلاَّ عدم الإيمان بأنه هو الله بطبيعته، أو أن يحسبوا المسيح ضمن المخلوقات، وهو الأمر الذي لم يتردد البعض في القول به نتيجة جهلهم. وبينما يجمعون ويحرّفون تفسير الشواهد التي قيلت بحسب التدبير عن تأنُّسه، يجعلونها غذاءً لكفرهم الذي يسكن في داخلهم .

ومعنى قوله: “لا تأكلوا منه نيئاً أو طبيخاً مطبوخاً بالماء، بل مشوياً بالنار” (خر١٢: ٩)، هو أن الكلام عن ألوهيته كلامٌ حارٌ، وليس فيه شيء بارد أو كاذب وفق قول المزمور :”كلمتك ممُحصة جداً وعبدك أحبها” (مز١١٩: ١٤) .

” رأسه مع أكارعه وجوفه” (خر ١٢: ٩)

 

أن يؤكل رأسه مع أكارعه وجوفه

الأستنارة بمعرفة المسيح الكاملة

كما أمر أيضاً أنْ يؤكَل رأسه مع أكارعه وجوفه، مريداً لهم أن يحتووا داخلهم المعرفة الكاملة لسره .

لأنه ينبغي قبل كل شيء أن يعرفوا أن الكلمة كان في الآب ومع الآب منذ البدء إذ أنه هو الله بالفعل، أي كان هو بداية كل سر كالرأس وثانياً وبما أنه الله، فإنه سوف يأتي ثانيةّ كديّان لكي يضع نهاية لخطة خلاصه (أي ليتمم خلاصنا)، وهذا هو ما تشير إليه الأرجل التي هي في نهاية الجسد أمَّا الجوف، فيشير إلى الكلمة المتأنِّس المختفي فينا (داخلنا). إذن هذه الأقوال تُصَّور الإيمان كله، وبهذه المعرفة يتصَّور المسيح فينا كاملاً، عندئذ يمكنني أن أؤمن بما يقوله يوحنا: “الكائن والذي كان والذي يأتي القادر على كل شيء” (رؤ١: ٨) .

“ولا تبقوا منه إلى الصباح” (خر ١٢: ١٠)

 

الحث علي عدم التباطؤ عن الاستنارة بالروح القدس

ومن ثمَّ ، يأمر المُشرَّع قائلاً: “ولا تبقوا منه حتي الصباح” (خر ١٢: ١٠)، مبطلاً بهذا كما يبدو بطريقة رمزيةٍ محاولات التأجيل غير الصالحة التي تُسهم في عدم فهم السر كما يجب من جانب البعض. لأنه يقول لا تؤجَّل المعرفة الحقيقية والتامة عن المسيح، ولا يجب أن يتباطأ البعض في المشاركة التامة في فرح نهاية الأزمنة، فطالما آمنوا فليكملوا شركتهم وهذا هو ما كان يفعله البعض من أولئك الذين كانوا قد قبلوا كلمة الوعظ وتعليم المسيح، لكنهم كانوا يتكاسلون من جهة نوال الروح القدس ونعمة المعمودية مؤجلين ذلك حتي يكبروا في السن غير عارفين أن هذا التأجيل يمكن أن يجلب عليهم ضرراً كبيراً غير متوقع، خاصةً لو نجح المرء منهم في تحقيق هذه الرغبة (أي تأجيل المعمودية حتي الأيام الأخيرة لحياته)، فإن رجاءه سيكون غير آمن. إذن فمن يأكل حتي النهاية يتقدَّس بالتأكيد، وينال أيضاً غفراناً لخطاياه، ويقدَّم لسيده الوزنة التي أُعطيت له دون أي لوم .

“ولا يُكسرُ له عظم” (خر ١٢: ١٠).

ويقول: “والباقي منه إلى الصباح تحرقونه بالنار ولا يُكسرُ له عظم” (خر١٢: ١٠)، لأن العظم لا يؤكل بأسناننا، وشيءٌ مثل هذا يذكِّر أذهان البشر بالكلمة الأزلي إنه الابن، وهو الابنُ بالطبيعة، وقد وُلِدَ من الله الآب، ونحن نؤمن به، دون أن نفتش أو نتشكك فيه وذلك وفقاً لكلام النبي القدِّيس “لأن من يعرف طريقة ولادته؟ من يصف مولده؟” هكذا صرخ النبي (إش ٥٣: ٨) .

إذن، عدم كسر العظام، يُشير إلى ثبات العقائد التي تفوق العقل فهذه العقائد (العظام) يحرِّم المِشرِّع سحقها، لكن الهراطقة، أولئك الذين يحرِّفون الحق قد سحقوها تماماً في ذواتهم، لأنهم إذ يعانون من طيش التفكير وعدم البصيرة مصممون على الانشغال بطريقة الولادة الإلهية غير الموصوفة، ولا يقبلون عقلياً ما كُتِبَ: “من الذي يحصي رمل البحر وقطرات المطر وأيام الأبد؟” (حكمة سيراخ ١: ٢). هذا ما نتجنبه نحن بحكمة رافضين كسر عظام الخروف، بل نقبل بالإيمان، تلك التعاليم التي هي اسمى واعظم من قدراتنا ومن الأهمية بمكان أن نتذكر أن هذا المكتوب قد طبق حرفياً على مخلصنا، حيث أن جنود بيلاطس لم يكسروا عظامه وفق ماكتبه يوحنا (راجع (يو ١٩: ٣٣-٣٦).

” والباقي منه إلى الصباح، تحرقونه بالنار” (خر ١٢: ١٠).

 

 

استنارة الدهر الآتي:

ويقول: “والباقي منه الى الصباح تحرقونه بالنار”، فالصباح يشير الى استنارة الدهر الآتي، وقتذاك سنرى وجهاً لوجه ملكنا والهنا، ليس مثلما هو الآن في “الحياة الحاضرة” من خلال الرمز والظلال والمرآة كما يقول بولس (راجع (١كو ١٢:١٣). اذن، فحرق ما تبقي من الخروف الى الصباح، يشير الى تواري وانزواء الطريقة الرمزية والتصويرية بسبب سطوع المعرفة الأكثر لمعانًا.

كذلك أمرهم قائلاً لتكن: “احقاؤكم مشدودة واحذيتكم في ارجلكم، وعصيكم في ايديكم، وتأكلونه بعجلة. هو فصح للرب” (خر١١:١٢).

وكونهم يلبسون حزاماً على وسطهم، يرمز الى سرعة التصرف والحيوية، وذلك مثل ما قاله الله لأيوب البار: “اشدد الأن حقويك كرجل” (أيوب٣:٣٨)، وكما قال لنبي آخر: “ويكون البر حزام حقويه والأمانة حزام خصره” (إش ٥:١١)، أي ليكون سريعاً وشجاعاً تجاه البر.

ويرمز الحذاء الي استعداد الارادة للسير بدون ابطاء تجاه ما يريده الله. لأن بولس بنفس الروح قال: “حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام” (أف ١٥:٦). كذلك يقول الله: “فالان يا إسرائيل ماذا يطلب منك الرب الهك إلا أن تتقي الرب الهك لتسلك في كل طرقه وتحبه وتعبد الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك” (تث١٢:١٠).

والعصي في الايدي ترمز الى الرجاء الذي يعضدنا، وتعطينا الصبر طبقاً لما نجده عند الأنبياء: “فليتكل على اسم الرب ويستند الى الهه” (إش١٠:٥).

” وتأكلونه بعجلة” (خر ١٢: ١١).

ويأمر المشرع أيضاً أن يؤكل اللحم بعجلة، وهذه اشارة واضحة الى أن الذي يتبع المسيح لا يجب أن يكون كسولاً، أو عنده لامبالاة من جهة الأعمال الصالحة، لكن عليه أن يكون قوياً وحاراً من جهة استعداده للأعمال المفيدة والصالحة. تأمل من فضلك. مايقوله بولس الطوباوي: “ألستم تعلمون أن الذين يركضون في الميدان جميعهم يركضون، ولكن واحد يأخذ الجعالة. هكذا أركضوا لكي تنالوا. وكل من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء أما اولئك فلكي يأخذوا اكليلاً يفني وأما نحن فإكليلا لا يفني” (١كو٦ :٢٤-٢٥). وإني أنتهز هذه الفرصة لأقول أن الانسان الذي تقدس بواسطة المسيح، يجب أن يكون نشيطاً  لا خاملاً أو غير مبال، بل عليه أن يلبس ملابس الرحالة، وبذلك يشير إلى أمرين:

الأول، هو أن هذه الملابس تشير إلى أن الذي يتبع المسيح عليه أن يسرع اتجاه الحق.

والثاني هو الإشارة إلى أنه يجب عليه أن يسرع إلى عمل الخير والصلاح وممارسة الفضيلة تاركاً ملذات العالم الشريرة.

“هو فصح للرب” (خر ١٢: ١١)

ويسمي المشرع كل ما قاله بشأن ذبيحة الحمل: “انه فصح للرب” (خر ١١:١٢)، أي العبور من الحياة الحاضرة إلى المدينة التي يسر بها الله. ويظهر لهم الفائدة العظيمة التي سوف ينالونها عند اتمام هذه الذبيحة وهي الوعد بأن بحميهم من الهلاك، بينما يهلك كل بكر من المصريين. وفي الوقت الذي يأكلون فيه الحمل، يكون دمه علامة يحتمون فيه من الضربات التي ستحل في أرض مصر. لأن الله يعاقب العنيد والعاصي وكل من لا يشتاق لحياة القداسة التي يمنحها المسيح، بينما يجعل الممسوحين بدم الحمل الحقيقي مستحقين للعناية الصالحة من جانبه، لذا هو لا يدع المؤمنين المقدسين أن يهلكوا مع غير المؤمنين، بل يمنحهم نعمة فائقة.

“سبعة أيام تأكلون فطيرا. اليوم الأول تعزلون الخمير من بيوتكم، فإن كل من أكل خميراً من اليوم الأول إلى اليوم السابع تقطع تلك النفس من إسرائيل” (خر ١٢: ١٥).

 

حياة النقاوة:

أخيراً يأمر اولئك الذين أكلوا الحمل المقدس، أن يغتذوا لمدة سبعة أيام بفطير، (أي خبزاً غير مختمر)، مشيراً بذلك كما يبدو إلى أن الذين تقدسوا بواسطة المسيح سوف يتغذون على رغبات طاهرة ويبتعدون عن أي شر. ويقول: “ويكون لكم في اليوم الأول محفل مقدس وفي اليوم السابع محفل مقدس” (خر ٢١:١٢)، لأن زمن الخلق في البداية (قبل السقوط) كان مقدساً، لأن آدم الأب الأول لم يكن قد ابتعد بعد عن الفردوس بسبب عصيانه، لكنه كان يعيش الفردوس في داخله، وقد طبق الوصية التي أعطيت له. وزمن الأيام الأخيرة هو أيضاً زمن التقديس، لأن المسيح يبرر. في ذلك الزمن. اولئك الذين يأتون اليه بالإيمان، ويحضرهم مرة ثانية هناك إلى ما كان عليه في بداية الخليقة أي في ذلك الزمن المقدس.

إذن لقد أشارت كل هذه الأقوال مسبقاً لسر مخلصنا يسوع المسيح.

لذلك قال المسيح نفسه لليهود: “لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني” (يو٤٦:٥).

 

العظة الآبائية الثانية – يوم الخميس خروف الفصح (الرمز والحقيقة)للقديس مقاريوس الكبير[52]

عبودية مصر:

لقد أنبأ الله ابراهيم بما سيحدث قائلاً : “أعلم يقيناً أن نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم ويستعبدون لهم فيذلونهم أربع مئة سنة” (تك ١٥: ١٣)، وقد تحققت هذه النبوة تماماً، لأن الشعب تغرب واستعبد للمصريين الذين “مرروا حياتهم في الطين واللبن” (خر ١: ١٤) وقد جعل فرعون عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم ويسرقوهم قسراً ، وحينما تنهد بنو اسرائيل إلى الله من العبودية (خر ٢: ٢٣) فإن الله نظر إليهم وافتقدهم بواسطة موسى (خر ٢: ٢٥) وبعد أن ضرب المصريين ضربات كثيرة، اخرج بني اسرائيل من مصر في شهر الزهور عند بزوغ فصل البهجة، أي فصل الربيع وبعد انتهاء ظلمة الشتاء .

دم الحمل علي الأبواب:

وقد أمر الرب موسي أن يأخذ حملاً بلا عيب، ويذبحه ويرش دمه على القائمتين والعتبة العليا “لئلا يمسهم الذي أهلك أبكار المصريين” (عب١١: ٢٨) وعندما رأى الملاك الذي أرسل، علامة الدم من بعيد عبر “عن تلك البيوت”، ولكنه دخل إلى البيوت التي ليست عليها علامة الدم وأهلك الأبكار.

نزع الخمير وأكل خروف الفصح :

وأمرهم الله أيضاً ينزعوا الخمير، من كل بيت، ويأكلوا خروف الفصح المذبوح مع فطير، على أعشاب مرة، ويأكلوه واحقاؤهم مشدودة واحذيتهم في أرجلهم وعصيهم في ايديهم، وهكذا أمرهم أن يأكلوا فصح الرب بكل عجلة في المساء، وأن لا يكسروا عظماً منه .

“واخرجهم بفضة وذهب”  (مز ١٠٥: ٣٧)، إذ أمرهم أن يستعير كل منهم من جاره المصري أواني ذهب وفضة، وخرجوا من مصر بينما كان المصريين يدفنون أبكارهم، وخرجوا فرحين بتحررهم من العبودية القاسية، أما الحزن والبكاء فكانا من نصيب المصريين بسبب هلاك أبكارهم، ولذلك قال موسى: “هذه الليلة هي للرب” (خر ١٢: ٤٢) التي وعد أن يفتديهم فيها .

فكل هذه الأشياء إنما هي النفس التي افتديت بمجيء المسيح، لأن كلمة “اسرائيل” تفسر بمعني: العقل الذي يعاين الله – فانه يتحرر من عبودية الظلمة أي من المصريين روحياً .

فإنه منذ أن مات الإنسان بالمعصية ذلك الموت الخطير، ونال لعنة فوق لعنة “شوكاً وحسكاً تنبت لك الأرض” (تك ٣: ١٨) وأيضاً “متي عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها” (تك ٤: ١٢) فمنذ ذلك الوقت نبت الشوك والحسك وظهرا في أرض القلب، وجرده اعداؤه من مجده بالخديعة وألبسوه العار والخزي … نزعوا عنه نوره وألبسوه لباس الظلمة، وقتلوا نفسه وشتتوا أفكاره وقسموها، واحدروا عقله من الأعالي حتي صار الإنسان -اسرائيل- عبداً لفرعون الحقيقي فجعل عليه مسخرين ليعمل أعماله الشريرة وليكمل بناء الطين واللبن .

وهذه الأرواح الشريرة أبعدته عن حالة حكمته السماوية، وهبطت به إلى الأعمال المادية الأرضية في الطين أي أعمال الشر والى الكلمات والرغبات والتصورات الباطلة الشريرة، لأن الإنسان لما سقط من علوه، وجد نفسه في مملكة معادية تكره الانسان، وفي هذه المملكة يغصبه حكامها على أن يبني لهم مدنًا شريرة للخطية .

 

الصراخ إلى الله، ودم الخروف:

ولكن إذا صرخ الإنسان وتنهد إلى الله، فإنه يرسل إليه موسى الروحاني الذي يخلصه من عبودية المصريين، ولكن ينبغي على النفس أن تصرخ أولاً وبعد ذلك تبتدئ أن تحصل على الفداء والتحرر، وهي ايضاً تتحرر في شهر الزهور الجديدة، في الربيع حينما تستطيع أرض النَّفس أن تنبت أغصان البر الجميلة المزهرة وحين تكون عواصف شتاء جهالة الظلمة قد انتهت وقد تلاشى العمى الخطير الناشئ عن الخطايا والآمال الشريرة، وحينئذ يأمر الرب ايضاً بنزع كل خميرة “عتيقة” (١كو ٥: ٧) من كل بيت أي بطرد كل أعمال وأفكار “الإنسان العتيق الفاسد” (أف ٤: ٢٢) وكل أفكاره الشريرة ورغباته الدنيئة .

ثم أن الخروف كان ينبغي ذبحه وتضحيته وأن ترش الأبواب بدمه، لأن المسيح الحمل الصالح الذي بلا عيب قد ذبح لأجلنا، وبدمه رشت أبواب القلب، حتي أن دم المسيح المسفوك على الصليب يصير حياة وفداء للنفس وأما للشياطين فإنه يصير حزناً وموتاً .

لأن دم الحمل الذي بلا عيب هو في الحقيقة حزن لهم أما للنفس فهو فرح وبهجة.

الأعشاب المرة والأحقاء المشدودة

وبعد رش الدم يأمر الرب بأكل الحمل مساء مع فطير وأعشاب مرة وبأحقاء مشدودة والأحذية في الأرجل والعصي في الأيدي- لأنه أن لم تستعد النفس من كل ناحية أن تمارس الأعمال الصالحة بأقصى ما تستطيع من قوة “فانه لا يعطي لها أن تأكل من الحمل، ورغم أن الحمل لذيذ وحلو والفطير حسن المذاق إلا أن الأعشاب مرة وخشنة فانه بتعب كثير ومرارة تأكل النفس من الفطير الصالح، لأن الخطية التي تسكن فيها تسبب لها ضيقاً ومرارة .

أكل الفصح مساء

ويقول الكتاب أيضاً أن الرب أمرهم أن يأكلوا خروف الفصح في المساء، وهي الفترة المتوسطة بين النور والظلمة، هكذا النَّفس أيضاً حينما تقترب من الفداء والتحرر فإنها توجد بين النور والظلمة، وفي هذه الأثناء تقف قوة الله بجوارها وتسندها، ولا تسمح للظلمة أن تدخل إلى النفس وتبتلعها .

وكما أن موسى قال: هذه هي ليلة موعد الله، هكذا المسيح أيضاً حين دفع إليه الكتاب في المجمع – كما هو مكتوب في الانجيل – دعا تلك السنة “سنة الرب المقبولة” ويوم الفداء، فهناك في (العهد القديم) كانت الليلة، ليلة عقاب، وأما هنا فاليوم هو نهار فداء، وهكذا هو الأمر بالحقيقة لأن كل تلك الأشياء كانت رمزاً وظلاً للحق، وكانت ترسم – بطريقة سرية صورة الخلاص الحقيقي للنفس التي كانت مغلقاً عليها في الظلام، مقيدة “في الجب الأسفل” (مز ٨٨: ٦) ومحبوسة وراء “مصاريع نحاس” (مز ١٠٧: ١٦) ولم يكن لها القدرة على أن تنطلق حرة بدون فداء المسيح .

المسيح يخرج النفس من العبودية:

فإنه يخرج النفس من مصر – من العبودية التي فيها، ويقتل أبكار مصر عند الخروج، فان جزءاً من قوة فرعون الحقيقي قد سقطت واستولى الحزن على المصريين – لأنهم كانوا يئنون حزنا على انفلات الأسرى من بين ايديهم، وقد أمر الرب الشعب أن يستعيروا أواني ذهب وفضة من المصريين، وأن يأخذوها معهم عند خروجهم، لأن النفس عند خروجها من الظلمة فإنها تسترد أواني الفضة والذهب، وأعني بها أفكارها الصالحة “مطهرة سبع مرات في النار” (مز ١٢: ٦) وهذه هي الأفكار التي تقدم بها العبادة لله وفيها يجد مسرته، لأن الشياطين الذين كانوا قبلاً جيراناً للنفس، قد شتتوا أفكارها واستولوا عليها وخربوها، فطوبى للنفس التي تفتدى من الظلمة، وويل للنفس التي لا تصرخ وتئن إلى الله الذي يستطيع وحده أن يخلصها من اولئك الولاة القساة الظالمين .

 

بدء التحرك بعد أكل الفصح:

لقد بدأ بنو اسرائيل يتحركون بعد أن صنعوا الفصح، وهكذا فان النفس تتحرك إلى الأمام حينما تنال حياة الروح القدس، وتأكل من الحمل، وتكون قد مسحت بدمه، وأكلت الخبز الحقيقي، الكلمة الحي .

عمود النار وعمود السحاب:

وكما أن عمود النار وعمود السحاب كانا يسيران أمام بني اسرائيل ليحفظانهم، هكذا فان الروح القدس يشدد المؤمنين الآن ويقويهم، ويشعلهم، ويرشد النفس بطريقة ملموس.

 

العظة الآبائية الثالثة – يوم خميس العهد بين الفصح القديم والفصح الجديد – للقديس أثناسيوس الرسولي[53]

ليس كلامي فقط هو الذي يوضح هذه الأمور، بل قد سبق النبي فأنبأ بذلك صارخًا: “هوذا على الجبال قدما مبشر منادِ بالسلام” (نا١: ١٥). وما هي رسالته التي بشر بها إلا التي أخذ يعلنها لهم، قائلًا: “عيدي يا يهوذا أعيادك، أوفي للرب نذورك. فإنهم لا يعودوا إلى ما هوقديم. قد انتهى؛ لقد انقرض كله. لقد ارتفع ذاك الذي نفخ على الوجه وخلصك من الغم” (نا١: ١٥، ٢: ١). والآن: من هو هذا الذي ارتفع…؟ إن أردتم معرفة الحقيقة والتخلص من ادعاءات اليهود، تطلعوا إلى مخلصنا الذي ارتفع ونفخ في وجه تلاميذه قائلًا: “اقبلوا الروح القدس” (يو ٢٠: ٢٢). فبمجرد أن كمل هذا (الصلب) انتهت الأمور العتيقة، فانشق حجاب الهيكل (مت ٢٧: ٥١)، وتحطم المذبح (اليهودي)، ومع أن المدينة لم تكن بعد قد خربت، إلا أن رجسة الخراب (مت٢٤: ١٥) كانت تستعد للجلوس في وسط الهيكل، فتتلقى أورشليم وكل تلك الفرائض العتيقة نهايتها.

لقد اقترب منا يوم العيد مرة أخرى، الذي أن صمتنا فيه نجعله غير مقدس، إنما يلزم أن يكون مكرسًا للصلاة أكثر من كل الأيام، وفيه نحفظ الوصايا. لأنه وإن كنا في ضيق من أولئك الذين يحزنوننا، وبسببهم سوف لا نخبركم عن هذا الموسم (إذ لا يكون بين شعبه)، لكن شكرًا لله الذي يعزي الحزانى، حتى لا ننهزم بشرور أولئك الذين يتهموننا فنصمت، ففي طاعتنا لصوت الحق نصرخ معكم عاليًا في يوم العيد، لأن إله الكل قال بأن يتكلما (موسى وهارون) مع الشعب لحفظ الفصح، ويعلن الروح في المزامير قائلًا: “انفخوا في رأس الشهر بالبوق عيد الهلال كيوم عيدنا”. ويصرخ النبي قائلًا: “عيدي يا يهوذا أعيادك” (نا ١: ١٥).

وأنا لا أرسل إليكم الكلمة كأنكم جاهلون، بل أعلنها للذين يعرفونها، حتى يدركوا بأنه وإن كان بعض البعض يفرقنا، لكن الله يجمعنا، فإننا نعيد بنفس العيد، ونتعبد لنفس الإله على الدوام.

ونحن لسنا نعيد كمتفرجين، عالمين أن الرسول يوبخ أمثال أولئك قائلًا: “أتحفظون أيامًا وشهورًا وأوقاتًا وسنين” (غل ٤: ١٠)، بل بالحرينكرم هذا اليوم العظيم من أجل العيد، حتى نرضي الله -نحن جميعًا الذين نخدم الله في كل مكان- وذلك بصلواتنا الجماعية. وقد أعلن بولس الطوباوي عن قرب سرور كهذا، وهو في هذا لم يعلن عن أيامٍ بل عن الرب الذي من أجله نحفظ العيد، إذ يقول “المسيح قد ذبح لأجلنا” (١كو٥: ٧)، فإذ نتأمل أبدية الكلمة نقترب منه لخدمته.

أحبائي الأعزاء لقد جاء بنا الله مرة أخرى إلى فصل الفصح، وخلال محبته المترفقة جمعنا معًا للتعييد. لأن الله الذي أخرج إسرائيل من مصر لا يزال حتى الآن يدعونا الآن للفصح، قائلًا على لسان موسى: “احفظ شهر الثمار الجديدة، واعمل فصحًا للرب إلهك” (تث١٦: ١٠)، ويقول على لسان النبي: “عيدي يا يهوذا أعيادك أوفي نذورك” (نا١: ١٥).

فإن كان الله نفسه يحب العيد ويدعونا إليه، فليس من الصواب يا إخوتي أن نؤجله أو نمارسه بتراخٍ، إنما يلزمنا أن نأتي إليه بغيرةٍ وسرورٍ،حتى إذ نبدأ هنا بالفرح تشتاق نفوسنا إلى العيد السماوي.

إن عيدنا هنا بنشاط، فإننا بلا شك نتقبل الفرح الكامل الذي في السماء، وكما يقول الرب: “شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم. لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد حتى يكمل في ملكوت الله” (لو ٢٢: ١٥-١٦).

فنحن نأكل منه الآن أن كان يفهمنا سبب العيد وبمعرفتنا للمخلص، نسلك حسب نعمته كقول بولس: “إذًا لنعيد ليس بخميرة عتيقة، ولابخميرة الشر والخبث، بل بفطير الإخلاص والحق” (١كو ٥ : ٧). لأنه في هذه الأيام مات الرب، كي لا نعود نشتاق إلى أعمال الموت! لقد بذل حياته، حتى نحفظ حياتنا من شباك الشيطان!

 

 

العظة الآبائية الرابعة – يوم خميس العهد غسل الأرجل – للقديس كيرلس الإسكندري[54]

(يو ١٣: ٢- ٥)

“فحين كان العشاء ، وقد ألقي الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يُسلمه، يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه، وأنه من عند الله خرج، وإلى الله يمضي، قام عن العشاء، وخلع ثيابه، وأخذ منشفة واتزر بها، ثم صب ماء في مغسل، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان متزراً بها”.

يسعي المخلص أن يستأصل رذيلة الكبرياء تماماً من أفكارنا، التي هي أردأ كل الضعفات البشرية، والتي تستحق مقتاً كاملاً وشديداً من الجميع،

فالرب يعرف أنه لا يوجد ما يؤذي نفس الإنسان ويجرحها مثل هذا المرض البغيض والكريه، والذي يقاومه الرب نفسه بعدل مقاومة شديدة باعتباره عدواً واضحاً، لأن “الرب يقاوم المتكبرين” بحسب قول سليمان (أم ٣: ٣٤س).

لذلك كان التلاميذ القديسون في حاجة إلى طبع رزين وخاضع، وإلى ذهن يعتبر المجد الفارغ أمراً لا ينبغي لأحد أن يشتهيه، فقد كانوا يملكون بذور هذا الضعف المحزن بدرجة غير قليلة، وكان يمكن أن ينزلقوا بسهولة إلى الخضوع له، لو لم ينالوا معونة كبيرة،

فذلك المجد الباطل الخبيث، يوجه دائماً ضرباته ضد أولئك الذين يشغلون أي مركز بارز، فأي مركز يمكن أن يكون أكثر تألقًا من مركز الرسل القديسين؟ أو ما الذي يجذب الانتباه أكثر من صداقتهم مع الله؟.

فالإنسان الذي له وضع صغير في الحياة، ليس من المحتمل عادة أن يتعرض لهذا المرض.

لأن هذا المرض يتحاشى دائماً الإنسان الذي لا يملك شيئاً يمكن أن يحسده عليه الآخرون، ولا يملك ما هو غير متيسر لذوي النصيب الذي لا يعتد به في هذا العالم، لأن كيف يمكن لمثل هذا الإنسان أن يعاني من المجد الباطل بسبب أي أمر مهما كان؟

 

ولكن الكبرياء عادة يكون قريبًا من الإنسان حينما يكون في مركز يحسد عليه، وحينما يظن، لهذا السبب أنه أفضل من غيره، ويفترض بغباء أنه يختلف بدرجة كبيرة عن بقية البشر، لأنه وصل إلى درجة خاصة وفائقة من الرفعة، أو لأنه اتبع طريقاً غير مألوف لبقية الناس ولم يطرقه أحد منهم ، ولأنه قد صار أمراً يميز كل الذين يشغلون مراكز ممتازة أن يكونوا معرضين لهجمات ضعف الكبرياء،

لذلك كان الرُّسُل القديسون في حاجة أكيدة أن يجدوا في المسيح نموذجاً لطبع متواضع، وعندما يكون رب الكل مثالاً وصورة لهم، فيمكنهم هم أنفسهم أيضاً أن يشكلوا قلوبهم بحسب المشيئة الإلهية،

لذلك كما يبدو، أنه لا يستطيع أن يحررهم من هذا الضعف بأية طريقة أخرى، سوى بأن يعلَّمهم بوضوح أن كل واحد ينبغي أن يعتبر نفسه أقل في الكرامة من الباقين، لدرجة أنه يشعر بالتزامه أن يقوم بدور خادم، دون أن ينفر من ممارسة أوضع الأعمال، وقد علَّمهم هذا، بغسل أقدام الإخوة، وباتزاره بمنشفة لكي يمارس هذا العمل، فكم هو وضع حقير جداً، بحسب طريقة العالم في التفكير وبحسب المظهر الخارجي،

لذلك قد صار المسيح نموذجاً للطبع المتواضع وغير المدَّعي لكل الناس، لأننا لا يجب أن نفترض أن التعليم موّجه للتلاميذ وحدهم ولذلك فإن بولس المُلهم أيضاً، يتخذ المسيح كمثال، ويحث المؤمنين في هذا الاتجاه قائلاً : “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع” (في ٢: ٥)، وأيضاً : “بل بتواضع حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم” (في ٢: ٣).

لأن الطبع المتواضع هو الأساس الذي تُبنى عليه المحبة الثابتة والخضوع لإرادة الآخرين.

وإضافة إلى ذلك، فلكي يمدح دلالة ما عمله الرب، ولكي يمنعنا من الظن بأن عمل المسيح هذا كان عملاً مألوفاً وعادياً، فإن البشير المُلهم لا يخفي دهشته وهو يفكر في مجد المسيح وقدرته، ورفعته فوق الكل، ويبين هذا بقوله: “يسوع وهو عالم أن الأب قد دفع كل شيء إلى يديه” (يو ١٣: ٣) فهو يقول، إنه رغم أن المسيح لم يكن يجهل أنه يملك السلطان على الكل، “وأنه من الله خرج”، أي أنه وُلد من جوهر الله الآب، وأنه “إلى الله يمضي”، أي، يرجع ثانية إلى السماء، ويجلس هناك عن يمين أبيه، مع ذلك، فإن التواضع الذي مارسه كان عظيماً جداً، لدرجة أنه إتزر بمنشفة وغسل أرجل تلاميذه.

وإذ لنا في عمل المسيح هذا مثال ممتاز جداً للعناية المملؤة حباً، وصورة واضحة جداً لنتمثل به في محبة بعضنا البعض، فلنكن متضعين في أفكارنا، أيها الأحباء، ولنعتبر أنه مهما كان مقدار صلاحنا، فإن إخوتنا قد بلغوا إلى فضائل ممتازة أكثر من تلك الموجودة فينا، فإن رغبة ذاك الذي هو نموذجنا العظيم، هي أن نفكر وأن نرغب في التفكير بهذه الطريقة .

 

العظة الآبائية الخامسة – يوم خميس العهد

غسل الأرجل – في فكر العلامة أوريجانوس والقديسين: ذهبي الفم و أغسطينوس[55]

العلامة أوريجانوس

لم يأخذ إبراهيم بنفسه ماءً، ولا قام بنفسه بغسل أقدامهم كغرباء جاءوا إليه، بل قال: “ليؤخذ ماء ويغسلوا أرجلكم” (راجع تك١٨: ٤).

كما لم يحضر يوسف ماءً ليغسل أقدام إخوته الإحدى عشر، إنما الرجل الذي على بيت يوسف أحضر إليهم شمعون وجاء بماء ليغسل أقدامهم (تك ٤٣: ٢٣، ٢٤). أما ذاك الذي قال: “جئت ليس كمن يتكئ على مائدة بل كمن يخدم” (راجع لو ٢٢: ٢٧) وبحق يقول: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت ١١: ٢٩)، هو بنفسه صب ماءً في مغسل. فإنه قد عرف أنه لا يستطيع أحد أن يغسل أرجل التلاميذ مثله بطريقة بها يكون لهم نصيب معه.

الماء في رأيي هو الكلمة الذي يغسل أقدام التلاميذ عندما جاءوا إلى المغسل وجلس يسوع أمامهم.

بالنسبة لي غسل أقدامكم هو رمز لأساسات نفوسكم التي تتطهر، لكي تتجمل بالتبشير بالصالحات (رو ١٠: ١٥؛ إش ٥٢: ٧)، وتقتربون إلى نفوس البشر بأرجلكم الطاهرة. لكنكم الآن لا تعرفون هذا السرّ، إذ ليس لكم بعد المعرفة الخاصة به… عندئذٍ تفهمون هذا السرّ، وتستنيرون بمعرفة أمور ليست وضيعة ولا تافهة.

واضح أنه وإن كان قد قال هذا للمعلم بنية صادقة وقورة، لكنه تكلم بما يضر نفسه. الآن الحياة مملوءة بأخطاء من هذا النوع، من أناسٍ يعتقدون بما يظنونه أنه الأفضل ولكن في جهالة يتكلمون أو يعملون أمورًا تقودهم إلى اتجاه مضاد.

 

كما أن بطرس القائل: “لن تغسل رجلي أبدًا” مُنع من أن يستمر فيما زعمه حتى يكون له نصيب مع يسوع، هكذا أنتم يا من تخطئون بحكمٍ متسرع وتعدون بهذا وذاك في تهورٍ يكون الأفضل لكم أن تكفوا عن الاستمرار في قراركم الخاطئ وتفعلون هكذا أو ذاك بأكثر تعقل.

إن لم نفعل هذا (تقديم أقدامنا للسيد المسيح لغسلها) لا يكون لنا نصيب معه، ولا تكون أقدامنا جميلة. هذا على وجه الخصوص أمر مهم، متطلعين إلى أننا غيورون لنوال المواهب الأعظم (١كو ١٢: ٣١)، ونرغب أن ننضم إلى الذين يبشرون بالصالحات.

أتجاسر فأقول، بما يتناغم مع العبارة: “إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب”، أنه لم يغسل قدمي يهوذا، لأنه قد وضع بالفعل في قلبه أن يخون معلمه وربه. لقد وجده الشيطان غير مرتدٍ سلاح الله الكامل، وليس له درع الإيمان الذي به يطفئ سهام الشريرة الملتهبة نارًا (أف ٦: ١٣- ١٦).

الإحدى عشر الذين اغتسلوا وصاروا طاهرين، صاروا أكثر طهارة عندما غسل يسوع أقدامهم،

أما يهوذا الذي صار بالفعل نجسًا -إذ قيل: من هو نجس فليتنجس بعد(رؤ 22: 11) صار أكثر نجاسة وعدم طهارة عندما دخله الشيطان بعد اللقمة (يو ١٣: ٢٧).

“الذي عنده يُعطى ويزداد”(مت25 : 29). وحيث كان التلاميذ طاهرين أضاف يسوع إلى طهارتهم غسل أقدامهم. إنه لا يود أن يغسل الذين لم يغتسلوا، ولا الذين لم يكونوا طاهرين كلهم. وإنما يتحدث عن الذين هم طاهرين بهذه الطريقة، فإنه إن وُجد بين بني البشر من هو كامل إن لم يتمتع بالغسل الذي من يسوع فلا يحسب طاهرًا…

لقد غسل أرجلهم لأنهم طاهرون حسبما هم بشر، ولكن ليس حسب الله، فإنه بدون يسوع لا يكون أحد طاهرًا عند الله حتى وإن سبق فظن أنه قد اغتسل باجتهادٍ معين.

 

الروح القدس وقوة العلي يمكن أن يقطنا في أولئك الذين قد صاروا بالفعل طاهرين كما عند الناس، وكأنهم ثوب وقد اغتسلوا خلال عماد يسوع، واغتسلت أرجلهم بواسطته.

إن كان قد جعل أرجل تلاميذه جميلة بغسلها، فماذا نقول عن الجمال الحقيقي الذي يظهر في كل الذين يعتمدون بالروح القدس ونار بواسطة يسوع (مت ٣: ١١).

الآن صارت أقدام الذين يكرزون بالأخبار الصالحة جميلة، حتى أنهم إذ اغتسلوا وتطهروا ومسحوا بيدي يسوع صاروا قادرين على السير في الطريق المقدس، والعبور إلى ذاك القائل: “أنا هو الطريق” (يو ١٤: ٦) فإنه هو وحده، وكل من غُسلت قدماه بيسوع يرحل في هذا الطريق الذي هو حي، ويُحضر إلى الآب. هذا الطريق لن يضم قدمًا دنسًا وغير طاهر. لهذا خلع موسى نعليه من قدميه حيث كان المكان القادم إليه والذي يقف عليه أرضًا مقدسة (خر 3: 5). نفس الأمر بالنسبة ليشوع بن نون (يش ٥: ١٥).

أما بالنسبة لتلاميذ يسوع فلكي يسيروا في الطريق الحي المفعم بالنشاط، لا يكفيهم أن يكونوا بلا أحذية في رحلتهم كما أمر يسوع تلاميذه (مت١٠: 10)، بل بالحقيقة يلزم أن تغتسل أقدامهم بواسطة يسوع عندما يضع ثيابه جانبًا. ربما من جانبٍ يجعل أقدامهم الطاهرة أكثر طهرًا. ومن الجانب الآخر ربما لكي يحمل الدنس الذي في أقدام تلاميذه في جسده بواسطة المئزرة التي اتزر بها وحده (يو ١٣: ٤)، إذ هو وحده يحمل ضعفاتنا (مت ٨: ١٧)؛ (إش ٥٣: 4).

لاحظوا أنه إذ أراد أن يغسل أقدام التلاميذ لم يختر وقتا آخر سوى عندما دخل الشيطان في قلب يهوذا الاسخريوطي بن سمعان ليسلمه (يو ١٣: ٢) عند تحقيق التدبير (الآلام) من أجل البشر. فإنه قبل هذا لم يكن الوقت مناسبًا ليسوع أن يغسل أقدام التلاميذ، فإن من يود أن يغسل أقدامهم في الفترة الفاصلة حتى وقت الآلام؟ لم يكن الوقت مناسبًا… صار الوقت مناسبًا بعد تحقيق التدبير (الآلام)، فإنها ساعة الروح القدس الذي افتقد التلاميذ الذين صاروا طاهرين وقد غُسلت أقدامهم، ففي ذلك الوقت أُعدت أقدامهم وصارت جميلة لكي تبشر بالصالحات بالروح (رو ١٠: ١٥)؛ (إش ٥٢ : ٧).

 

غسل يسوع أقدام التلاميذ بكونه معملهم، وأقدام الخدم بكونه سيدهم. فإن تراب الأرض الصادر عن العالم يُنظَف بالتعليم، حيث لا يبلغ الأجزاء الدنيا المتطرفة في التلاميذ. لكن الأمور التي تدنس الأقدام تنزع بربوبية (سيادة) الحاكم، إذ له سلطان على الذين لا يزالوا يتقبلون دنسًا عامًا، إذ هم لا يزالون يحملون روح العبودية (رو ٨: ١٥).

بخصوص المخلص وهو الرب (السيد) يمكن أن ترى فيه أمرًا يفوق السادة الآخرين الذين لا يرغبون في العبد أن يكون كسيده.

غسل الأقدام هو من تخصص السيد المسيح الذي يغسل أعماق النفس ويغفر الخطايا. فمن بالحب والتواضع يغفر لمن يخطئ إليه إنما يشترك في إحدى سمات المسيح العظمى، ويُحسب متمتعًا بالحياة الجديدة المطوبة في المسيح يسوع. قول السيد: “طوباكم” إنما يكشف عن المجد السماوي والحياة السماوية التي نختبرها بممارستنا لهذا العمل.

القديس يوحنا ذهبي الفم

يبدو لي أنه غسل قدمي الخائن أولًا بقوله: “وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ“.

انظر كيف أظهر السيد المسيح طريق التواضع، ليس بغسل أقدامهم فقط، لكنه أوضحه بطبيعة أخرى إذ نهض بعد اتكائهم كلهم. ثم لم يغسل أرجلهم على بسيط الحال، لكنه غسلها بعد خلع ثيابه. ولم يقف عند هذا الحد، لكنه اتزر بإزار، ولم يكتفِ بهذا لكنه ملأ المغسل بنفسه، ولم يأمر آخر أن يملأه. مارس أعمال الغسل بنفسه كلها ليرينا أن نمارس أعمالنا لا في شكليات بل بكل نشاطنا.

كأنه يقول: هل بهاتين اليدين اللتين بهما فتحت العيون وطهرت البرص وأنهضت أمواتًا، تغسل بهما رجلي؟!، ولذلك لم يتضرع إليه بقول أكثر من قوله: “أنت تغسل رجلي” لأن هذا القول كان كافيًا وحده توضيح كافة ما في ذهنه.

 

ماذا يعني: “ستفهم فيما بعد”؟ متى؟ عندما تخرج شياطين باسمي، عندما تراني مرتفعًا إلى السماوات، عندما تعرف بالروح إني أجلس عن اليمين، عندئذٍ تفهم ما يحدث.

معنى هذا أنك ستعرف أي ربح عظيم تجنيه من هذا، ربح الدرس الذي تتعلمه كيف أن هذا يقودنا إلى كل تواضعٍ.

كان بطرس الرسول شديد التسرع في استعفائه من غسل رجليه، وأشد تسرعًا من ذلك في طلبه غسل يديه ورأسه، وكلا الأمران كانا من حبه الخالص للسيد المسيح… لماذا لم يقل له أن يتمثل به بدلًا من تهديده؟ لأنه ما كان لبطرس أن يقتدي به. فلو قال له: “اسمح الآن، فإنني بهذا أحثك على التواضع”، لوعده بطرس ربوات المرات بذلك حتى لا يقوم سيده بهذا العمل. لقد نطق السيد بما يرعب بطرس ويخيفه، أن يصير منفصلًا عنه. فإنه هو الذي كان على الدوام يسأله: “أين تذهب؟”. كما قال: “إني أضع حياتي من أجلك”.

إن كانوا أطهارًا، فلماذا غسل أقدامهم؟ لكي نتعلم أن نكون متواضعين. فإنه لهذا جاء، ليس لأي عضو في الجسد، بل ما يُحسب أكثر احتقارًا عن بقية الأعضاء.

إنه يأتي إلى أعضاء الجسد التي يظن أنها الأكثر كرامة. هل كان التلاميذ أطهارًا الذين لم يكونوا بعد قد خلصوا من خطاياهم، ولا نالوا الروح، حيث لازالت الخطية تسود… ولا قدمت الذبيحة؟ كيف إذن يدعوهم أطهارًا؟ لكي لا تظن أنهم أطهار وقد خلصوا من خطاياهم أضاف: “أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به” ( راجع يو ١٥: ٣). بمعنى “بهذه الكيفية أنتم أنقياء؛ لقد قبلتم النور، لقد تخلصتم من خطأ يهوذا”… هؤلاء قد طردوا كل شر من نفوسهم واصطحبوه بذهنٍ خالصٍ

فإن استخبرت: إن كان التلاميذ طاهرين فلِمَ غسل السيد المسيح أرجلهم؟ فأجيبك: إنما فعل ذلك ليعلمنا أن نتواضع.

قول السيد المسيح لتلاميذه: “أتفهمون ما قد صنعت بكم؟” لا يوجه خطابه هذا إلى بطرس فقط لكنه يخاطب جماعتهم.

هذا اللقب المزدوج “معلم وسيد” يقابل “رابي rabbi وسيد lord”، كان شائعًا بين معلمي اليهود المعتمدين.

غسل الجالس على الشاروبيم أرجل تلاميذه، وأنت يا إنسان أرضي، رماد وغبار وتراب، أتتعالى وتترفع ترفعًا عظيمًا؟.

إلاَّ أنه ليس الأمر متشابه، لأنه هو الرب والسيد وأما أنتم فعبيد رفقاء لبعضكم البعض. ماذا إذن يعني “حتى كما” أي بذات الغيرة. لهذا فقد قدم أمثلة لأعمال عظيمة لعلنا نتمم ما هو أقل. هكذا يقوم المعلمون في المدارس بكتابة الحروف للأطفال بطريقة جميلة جدًا حتى يقلدهم الأطفال وإن كان بطريقة أقل.. أين إذن أولئك الذين ينشقون عن زملائهم؟ أين هم أولئك الذين يطلبون كرامات؟ لقد غسل المسيح قدمي الخائن المدنس للمقدسات، اللص، والذي اقترب جدًا لوقت الخيانة، حالته لا يُرجى منها الشفاء، ومع ذلك جعله شريكًا معه على المائدة، فهل تتكبرون وتتغامزون؟ يقول قائل: “لنغسل أقدام بعضنا البعض”. هل هو أمر عظيم أن نغسل أقدام خدامنا؟ بالنسبة لنا “عبد” و “حر” كلمتان مختلفتان، لكن توجد حقيقة واقعية. فإنه بحسب الطبيعة هو الرب ونحن خدم، ومع ذلك لم يرفض أن يفعل ذلك… لقد جعلنا الله مدينين لبعضنا البعض، إذ قام هو أولًا بالعمل، فجعلنا مدينين بممارسة ما هو أقل.

كونوا متمثلين بي كما أنا أيضًا بالمسيح (١كو ١١: ١). من أجل هذا أخذ جسدًا من جبلتنا حتى يعلمنا به الفضيلة. إذ أرسل الله ابنه في شبه جسدنا الخاطئ حتى تُدان الخطية في جسد الخطية (رو ١٨: ٣). كذلك يقول المسيح نفسه: “تعلموا مني، فإني وديع ومتواضع القلب” (مت ١١: ٢٩). هذا علمنا إياه لا بالكلمات وحدها وإنما بالأعمال أيضًا.

لقد دعوه سامريًا وبه شيطان ومخادعًا كما ألقوه بالحجارة، وأرسل إليه الفريسيون خدامًا ليمسكوه، ومرة أخرى لكي يجربوه، وكانوا يشتمونه، وإذ لم يجدوا فيه خطأ كان يقدم لهم خبزًا بالكلمات كما بالأعمال…

نتطلع إلى ما يفعله الآن مع التلاميذ، وأية أعمال يظهرها نحو الخائن. لقد اختاره تلميذًا، وأشركه في المائدة والملح (الذي يمنع الفساد)، ورأى معجزات تستحق كل تقدير، ومع هذا صنع معه أمرًا أخطر من كل شيء، ليس برجمه أو سبه وإنما بالخيانة، ومع استحقاقه الكراهية عامله السيد بصداقة وغسل قدميه، إذ أراد بهذا أن يمنعه من الشر.

كان في سلطانه -لو أراد- أن يجعله يابسًا كشجرة التين، وأن يشقه إلى نصفين كما تشققت الصخور، وأن يمزقه كما انشق الحجاب، لكنه لم يرد أن يمنعه عن تحقيق خطته قهرًا إنما اختيارًا. لذلك غسل قدميه، ومع هذا لم يخجل هذا الشرير البائس.

أن تعلموا” (تعرفوا) فهذا يخص الكل، أما “أن تعملوا” فهذا ليس للكل. لهذا يقول: “طوباكم إن عملتموه“. ولهذا السبب أقول دومًا وأكرر نفس الشيء مع أنكم تعرفونه، حتى أضعكم في موضع العمل. فإنه حتى اليهود “يعرفون” لكنهم ليسوا مُطَوَّبِين، لأنهم لا يعملون ما يعرفون.

القديس أغسطينوس

ما العجب في أن يصب ماءً في مغسلٍ ليغسل أقدام تلاميذه ذاك الذي سكب دمه على الأرض لكي يغسل دنس خطاياهم؟.

ما العجب في أنه مسح بالمنشفة التي اتزر بها الأقدام التي غسلها هذا الذي بجسده نفسه الذي التحف به أقام ممرًا ثابتًا لخطوات الإنجيليين الذين له؟.

لكي يتزر بالمنشفة ألقى بثيابه التي كان يرتديها جانبًا، ولكنه حين أخلى ذاته (من مجد لاهوته) لكي يأخذ شكل العبد لم يلقِ بما هو لديه بل قبل ما هو ليس لديه قبلًا.

واضح من قوله “فجاء إلى سمعان بطرس” أنه لم يبدأ غسل الأقدام به مما يؤكد أنه لم يكن في ذهن السيد المسيح أن يُوجد أحد رئيسًا على التلاميذ.

ماذا تظنون في هذا يا اخوتي؟ إلاَّ أنه في المعمودية المقدسة يغتسل الإنسان بكليته، كل ذرة فيه. ومع هذا فإنه إذ يعيش في هذه الحياة البشرية لن يتوقف عن السير على الأرض بقدميه. هكذا فإن مشاعرنا البشرية ذاتها، التي لن تنفصل عن حياتنا المائتة على الأرض، تشبه القدمين اللتين بهما نصير في تلاقٍ ملموس بالأعمال البشرية، وهكذا يمكننا القول أننا إن قلنا أننا بلا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا (1يو 1: 8).

ففي كل يوم ذاك الذي يشفع فينا (رو 8: 34) يغسل أقدامنا، فإننا في حاجة إلى غسلٍ يوميٍ لأقدامنا، أي تدبير طريق خطواتنا باستقامة. نعرف ذلك في الصلاة الربانية حيث نقول: “اغفر لنا ما علينا، كما نغفر من عليهم”، وكما هو مكتوب: “إن اعترفنا بخطايانا”، فإنه بالحقيقة ذاك الذي غسل أقدام تلاميذه “هو أمين وعادل أن يغفر لنا خطايانا، ويطهرنا من كل إثم” (1يو1 : 9) ، بمعنى يغسل أقدامنا التي نسير بها على الأرض.

الكنيسة وهي في طريقها إلى المسيح قد تكون خائفة من تدنيس قدميها التي غسلتهما في مياه المعمودية.

عندما ينحني عند قدمي أخيه، فإن الشعور بالتواضع يستيقظ في القلب أو يتقوى إن كان بالفعل موجودًا.

ليغفر كل واحد لأخيه أخطاءه ويصلي من أجل أخطاء الآخر، بهذا يغسل الواحد قدمي الآخر.

قال هذا لأنه غسل أقدام التلاميذ بالكلمة والمثال كسيد للتواضع. لكن يمكننا بعونه أن نمارس ما يحتاج إلى ممارسة دقيقة جدًا، إن كنا لا نتباطأ فيما هو واضح بكمالٍ.

 

 

العظة الآبائية السادسة – يوم خميس العهد غسل الأرجل – عند القديس غريغوريوس النيسي[56]

يغسل الرب أقدام كل الذين يسلكون في الطريق، ويمسحها بالمئزرة التي يتزر بها. بالحق إن طوق الرب له القوة أن يطهر من الخطية.

دخلت العروس هذا الطريق حيث غسل السيد المسيح قدميها، وجففهما بقماش الكتان الذي كان متمنطقًا به. تنظف قوة هذا القماش الذي كان متمنطقًا به السيد المسيح من الخطايا. “الرب قد ملك. لبس الجلال. لبس الرب القدرة. ائتزر بها” (مز 1:93).

ابتدأت العروس تراقب نفسها عندما وضعت قدميها على الطريق الملكي فلا تحيد عنه إلى اليمين أو اليسار، ولم تلوث قدميها بالطين  بالسير خارج الطريق.

أنت تعلم بالتأكيد معنى هذه الكلمات: خلعت العروس حذاءها نهائيا بالعماد (لأن عمل من يُعمد يشمل فك سيور الحذاء، كما شهد بذلك يوحنا، عندما لم يتمكن من فك سيور حذاء السيد المسيح. إذ كيف يتمكن يوحنا من فك سيور حذاء ذاك الذي لم يرتبط برباط الخطية؟)

حفظت العروس قدميها بدون تلوث على الطريق المرصوف مثل ما عمل داود بوضع قدميه على صخرة بعد ما غسلها من الطين ، حيث قال: “أصعدني من جب الهلاك من طين الحمأة، وأقام على صخرة رجلي. ثبت خطواتي” (مز 2:40).

نحن نفهم أن هذه الصخرة هي السيد المسيح، فهو النور والحق وعدم الفساد والبرّ الذي يصف الطريق الروحية. وعندما نحفظ خطواتنا على هذا الطريق دون أن نبتعد عنه إلى الجانبين، تبقى حياتنا غير ملوثة بالقاذورات.

هذه هي الطريقة التي حفظت بها العروس بابها مفتوحًا للسيد المسيح. ولقد وعدت أن لا تعود مرة أخرى للقاذورات المرفوضة، أو تستقبل أي ملوثات أرضية على طريق هذه الحياة، لذلك أصبحت روحها مستعدة لكي تكون مقدسة. المسيح نفسه هو هذه القداسة (1كو 30:1).

وهكذا قد أكملنا فحص معنى هذه الكلمات.

 

العظة الآبائية السابعة – ليوم خميس العهد

الإفخارستيا في فكر آباء الكنيسة

 

أولاً: من تعليم الآباء الرسوليين عن الإفخارستيا[57]

القديس أغناطيوس الأنطاكي

فلتراقبوا جيداً الذين يتمسكون بآراء هرطوقية عن نعمة يسوع المسيح التي وهبها لنا، واعلموا كم يناقضون فكر الله، لا تعنيهم المحبة في شيء، ولا للأرملة، ولا لليتيم، ولا للمقهور، ولا للسجين، ولا لمن تحرر من الأسر، ولا للجائع ولا للعطشان،

يمتنعون عن الإفخارستيا والصلاة لأنهم يرفضون الإقرار: إن الإفخارستَّيا جسد مخلصنا يسوع المسيح الذي تألم لأجل خطايانا وأقامه الآب بصلاحه من الموت، هؤلاء الذين يرفضون عطية الله يموتون في مجادلاتهم .

لست أبتهج بطعام فاسد، ولا بملذات هذه الحياة، لكنني أُريد خبز الله، الخُبز السماوي، خبز الحياة، الذي هو جسد يسوع المسيح، ابن الله، الذي صار من نسل داود وإبراهيم، كما أريد شراب الله، أي دمه الذي هو محبة غير فاسدة وحياة أبدية.

 

القديس يوستينوس

ونحن لا نشترك فيه كخبز وشراب عاديين، بل كما أنه بتجسد كلمة الله مخلصنا يسوع المسيح متخذاً لنفسه جسداً ودماً لأجل خلاصنا، فإن هذا الطعام الذي تقدس بواسطة كلمات الصلاة التي قالها المسيح، يغذي جسدنا ودمنا إذ هو جسد ودم يسوع المتجسد كما تعلمنا.

حينئذ نحضر خبزاً وكأساً ممزوجاً بالماء إلى رئيس الأساقفة، فيأخذهم ويقدم الحمد والتمجيد لله، أب الخليقة، باسم الابن والروح القدس، ويقدم شكراً طويلاً لأجل أننا حسبنا مستحقين أن ننال هذه العطايا من يديه، وعندما تنتهي الصلوات والتشكرات، يعلن كل الشعب الحاضرين قبولهم بكلمة أمين، كلمة أمين هذه في اللغة العبرية تعني أي “ليكن هذا”. فبعد أن قدم رئيس الأساقفة الشكر وكل الشعب أعلنوا إيمانهم – من خلال هؤلاء الذين نسميهم شمامسة- يقدم لكل هؤلاء ليتناولوا من الخُبز والخمر الممزوج بالماء اللذان تم تقديم الشكر عليهم (تم تقديسهم).

في هذا اليوم الذي يدعي الأحد، يجتمع كل الذين يعيشون في المدن والقرى في مكان واحد وتبدأ الليتورجيا بقراءات من الأناجيل القانونية، وكانت تسمي مذكرات الرُّسُل، أو كتب الأنبياء، على قدر ما يسمح الوقت، ثم نقف جميعاً ونرفع صلواتنا من أجل المسيحيين ومن أجل البشر في العالم أجمع. وعندما ننتهي من الصلوات، يُقبِّل كل منا الأخ بقبلة السلام، ثم يصلي الكاهن صلاة التقديس على الخبز والخمر، ثم يتقدم الجميع ويتناولون من الجسد والدم، ونرسل للغائبين أيضاً مع الشمامسة (كانت هذه هي العادة المتبعة).

وأيضاً أيها السادة تقدمة الدقيق التي كان لابد أن تقدم لأجل الذين طهروا من البرص كانت رمزاً لخبز الإفخارستيا الذي أمرنا الرب يسوع المسيح أن نُقدمه تذكاراً للآلام التي تحملها لأجل نفوس جميع الذين تطهَّروا من الخطية وأيضاً لنشكر الله لأنه خلق العالم وكل ما فيه لأجل البشر ولأنه خلصنا من الخطية التي وُلدنا بها، ولإبطال قوى الشر بالمسيح الذي تألم بإرادته. هكذا -كما قلنا قبلاً- تكلم الله بفم ملاخي أحد الأنبياء الاثني عشر بخصوص الذبائح التي كنتم تقدمونها له فقال: “ليستْ لي مَسَّرَةٌ بكُمْ، قالَ رَبُّ الجُنودِ، ولا أقبَلُ تقدِمَةً مِنْ يَدِكُمْ. لأنَّهُ مِنْ مَشرِقِ الشَّمسِ إلَى مَغرِبِها اسمي عظيمٌ بَينَ الأُمَمِ، وفي كُلِّ مَكانٍ يُقَرَّبُ لاسمي بَخورٌ وتقدِمَةٌ طاهِرَةٌ، لأنَّ اسمي عظيمٌ بَينَ الأُمَمِ، قالَ رَبُّ الجُنودِ. أمّا أنتُمْ فمُنَجِّسوهُ، بقَوْلِكُمْ: إنَّ مائدَةَ الرَّبِّ تنَجَّسَتْ، وثَمَرَتَها مُحتَقَرٌ طَعامُها.” (ملا١: ١٠-١٢). وبالإشارة إلي الذبائح التي نقدمها نحن الأمم إليه في كل مكان، أي خبز وخمر الإفخارستيا.

 

القديس إيرينيئوس

لذلك ، حينما يحصل الكأس الممزوجة بالماء، والخبز المصنوع علي كلمة الله، وتصير الإفخارستَّيا جسد المسيح ودمه، هذه التي تنمي جسدنا وتسنده، فكيف يمكنهم أن يؤكدوا أن الجسد غير مهيأ لنوال موهبة الله، التي هي الحياة الأبدية، جسدنا هذا الذي يتغذى من جسد الرب ودمه، والذي هو عضو له، ذلك الجسد الذي يغتذي بالكأس التي هي دمه، وينال إزدياداً من الخبز الذي هو جسده، وكما أن الفرع المأخوذ من الكرمة عندما يُغرس في أوانه، أو كما أن حبة الحنطة التي تسقط في الأرض وتموت وتتحلل، تقوم بازدياد بأنواع كثيرة بقوة روح الله، وتصير هي الإفخارستَّيا التي هي جسد المسيح ودمه، هكذا أجسادنا أيضاً، إذ تتغذى منها، فإنها عندما توضع في الأرض، وتتحلل وتموت، فإنها سوف تقوم في وقتها المعين لها.

وإذ أعطى (الرب) توجيهات لتلاميذه أن يقدموا باكورات من كل الأشياء المخلوقة التي له – ليس كمن هو في احتياج اليها، بل لكي لا يكونوا هم أنفسهم غير مثمرين، ولا غير شاكرين – لذلك أخذ ذلك الشيء المخلوق، أي الخبز، وشكر، وقال: “هذا هو جسدي” وكذلك الكأس بالمثل، التي هي جزء من تلك الخليقة التي ننتمي نحن إليها، هذه الخمر اعترف بأنها دمه، وعلّم عن القربان الجديد الَّذِي للعهد الجديد، والذي تقدمه الكنيسة لله في كل العالم كما استلمته من الرُّسُل، وهي تقدمه لذاك الذي يعطينا باكورة عطاياه للعهد الجديد كوسيلة للبقاء والوجود، تلك التقدمة التي تنبأ عنها ملاخي أحد الأنبياء الإثنى عشر قائلاً: “ليستْ لي مَسَّرَةٌ بكُمْ، قالَ رَبُّ الجُنودِ، ولا أقبَلُ تقدِمَةً مِنْ يَدِكُمْ. لأنَّهُ مِنْ مَشرِقِ الشَّمسِ إلَى مَغرِبِها اسمي عظيمٌ بَينَ الأُمَمِ، وفي كُلِّ مَكانٍ يُقَرَّبُ لاسمي بَخورٌ وتقدِمَةٌ طاهِرَةٌ، لأنَّ اسمي عظيمٌ بَينَ الأُمَمِ، قالَ رَبُّ الجُنودِ.” (ملا ١: ١٠-١١).

لكن كيف يمكن أن يكونوا (اليهود) متوافقين مع أنفسهم إذا قالوا إن الخبز الذي شكر عليه وأعطاه هو جسد ربهم، والكأس هي دمه، إذ هم لم يقروا أنه هو نفسه ابن الله خالق العالم.

وعندما نستكمل تقديم الصعيدة، نستدعي الروح القدس لكي يُظهر هذه الذبيحة، الخبز جسداً للمسيح، والكأس دماً للمسيح، حتى لكي يحصل المتناولون منها على مغفرة الخطايا، والحياة الأبدية.

كذلك الكلمة أعطى الإنسان هذا المبدأ الهام لتقديم القرابين، بالرغم من إنه ذاته ليس في حاجة اليها، ولكن لكي يتعلموا خدمة الله، هكذا هي إرادته (إرادة الله) أن نقدم القرابين على المذبح باستمرار وبدون انقطاع، أمَّا المذبح فهو السماء، والهيكل أيضاً على نفس النمط، كما يقول يوحنا الرائي “وانفَتَحَ هيكلُ اللهِ في السماءِ” (رؤ ١١: ١٩).

الكنيسة هي الوحيدة التي تقدم التقدمة الطاهرة إلى الله الخالق، تقدمها اليه، مع تقديم الشكر بلسان خليقته.

 

 

ثانياً: من تعليم آباء مدرسة الأسكندرية عن الإفخارستيا[58]

القديس إكليمندس السكندري

توجد أم واحدة وهي عذراء، هذا هو وصفي المفضل للكنيسة.

هذه الأم هي وحدها التي فيها لبن، حيث أنها أم وعذراء في نفس الوقت، طاهرة كعذراء ومحبوبة كأم. وتستدعي هذه الأم أبناءها وتغذيهم بلبن مقدس، بالكلمة التي تناسب الأطفال. إنها لا تملك لبناً من ذاتها. لأن اللبن هو طفلها الإلهي المحبوب، جسد المسيح.

إنها تغذي بالكلمة الإلهي الشعب الجديد الذي قمطه الرب نفسه بأقماط دمه الثمين.

يا للميلاد المقدس! يا للأقماط المقدسة! فالكلمة هو كل شيء للطفل: أب، أم، ومعلم، ومغذي، إنه يقول: “كلوا جسدي، واشربوا دمي”. فهو يزودنا بهما كأعظم طعام، مخصص وملائم لنا.

إنه يقدم جسده ويسكب دمه، فلا يعوز الاطفال شيء لنموهم. يا للسر! إنه يوصينا أن نخلع العتيق، أيضًا لنشارك في آخر، طريقة حياة جديدة تلك التي للمسيح، لنتقبله ونذخره في نفوسنا.

فنضع المخلص في قلوبنا، لكي نبيد شهوات الجسد…

مزيج الجسد والدم هو الرب. إنه طعام أطفاله، والطعام الذي هو الرب يسوع، أي كلمة الله الذي صار جسداً هو الجسد السماوي المقدس.

 

 

ثالثاً: من تعليم آباء القرن الرابع عن الإفخارستيا[59]

القديس أثناسيوس الرسولي

لنكن أنقياء بالكلية حتي يمكننا أن نتناول من الكلمة (اللوغوس).

لنأت الآن إلى صلوات تكميل الأسرار: فطالما أن الصلوات والتوسلات لم تبدأ فهذا الخبز وهذا الخمر هما ساذجان. ولكن بعد ان ترفع الصلوات الكبيرة والتوسلات المقدسة، ينزل الكلمة (اللوغوس) في الخبز والخمر، فيصيران جسده.

وأيضاً نؤمن بالقربان المقدس الجسد والدم المحي الذي للرب يسوع المسيح، الذي هو من قبل أن يقدسه الكاهن خبزاً وخمراً، فإذا قدسه الكاهن نزل عليه الروح القدس وبَطُلَ أن يكون خبزاً وصار بالحقيقة جسد الله الكلمة، وكذلك الكأس زال أن تكون خمراً وصارت دماً لإلهنا ابن الله بذاته، وهو متحد بجسده.

أما هم (اليهود)، فكانوا يحفظون العيد بأن يمتلئوا بلحم خروف أخرس، وبأن يمسحوا قائمتي الباب بالدم، طالبين بذلك معونة ضد المُهلك.

أما إننا حينما نأكل من “جسد” كلمة الآب، وندهن قلوبنا بدم العهد الجديد، إننا بذلك  نعترف بنعمة مخلصنا علينا.

“أَنَا فِيهِمْ وأَنتَ فيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إلَى وَاحِدٍ” (يو ١٧: ٢٣).

وقوله: “أنتَ أيُّها الآبُ فيَّ” يعني به: لأني أنا كَلِمَتُكَ، فحيث إنك أنت فيَّ لكوني كَلِمَتُكَ، وحيث إني أنا فيهم بسبب الجسد، … فلهذا أسأل أن يصيروا هم أيضاً واحدًا بحسب الجسد الذي فيَّ وبحسب كماله، وأن يصيروا هم أيضاً كاملين إذ يتحدون بهذا الجسد بل يكونون واحداً فيه، وكأن الجميع صاروا محمولين فيَّ فيكونون جميعًا جسداً واحداً ورحاً واحداً ويؤولون إلى إنسان كامل.

لأننا حينما نتناول نحن جميعاً منه هو بعينه نصير جميعنا جسداً واحداً إذ يكون الرب الواحد فينا. ونحن نتأله (نحيا به) ليس باشتراكنا في جسد إنسان ما بل بتناولنا من جسد الكلمة نفسه.

يا إخوتي، إن هذا الخبز لا يكون ههنا فقط طعاماً للأبرار، فليس القديسون على الأرض فقط يتذوقون هذا الخبز وهذا الدم. إننا سنتناولهما أيضاً في السماء حيث يكون الرب نفسه هو طعام الأرواح العُليا والملائكة. فهو الفرح الحقيقي لجميع الأرواح السمائية… فمنذ الآن قد أعطانا الرب “خُبْزَ الْمَلائِكَةِ” (مز ٧٨: ٢٥).

 

 

العظة الآبائية الثامنة – ليوم خميس العهد

التعليم الإفخارستي يتأسس على التعليم الخريستولوجي – عند القديس كيرلس الإسكندري[60]

(ملخص إجمالي مما كتبه كونستانتين دراتسيللاس، عن تعليم القديس كيرلس عن الإفخارستيا)

يقول الدكتور موريس تاوضروس أن القديس كيرلس يبني تعليمه عن الإفخارستيا على أساس التعليم الخريستولوجي، و يرى القديس كيرلس أن فصل اللاهوت عن الناسوت يهدم سر الإفخارستيا. وفي ذلك يقول:

إذا لم يكن الجسد قد اتحد بالكلمة بشكل لا يدركه العقل ويعلو على قواعد النطق، فكيف يمكن أن نعتقد بأن هذا الجسد هو الجسد المحي. لقد قال الرب: “أنا هو خبز الحياة النازل من السماء والواهب الحياة للعالم.. كل من يأكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد.. والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله عن حياة العالم” (يو ٦: ٣٥، ٤٨، ٥١). أما اذا كان هذا الجسد هو جسد ابن آخر غير الأبن الوحيد، فكيف يمكن لجسد آخر غير جسد الكلمة الابن الوحيد، أن يهب الحياة للعالم، ما لم يكن هو جسد الحياة أي الكلمة الذي من الله الآب والذي قال عنه القديس يوحنا: “إن ابن الله جاء وأعطانا حياة أبدية. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية” (١يو ٥: ٢٠)

ولم يكن مستطاعًا أن يصبح الجسد واهبًا للحياة، لأنه بالطبيعة خاضع لضرورة الفساد، إلا إذا صار هو الجسد الذاتي للكلمة الذي يحيي كل شيء، لأنه في هذه الحالة وحدها يمنح الجسد ما فيه من حياة ويصبح فعلاً واهب الحياة. ولا عجب في ذلك، لأنه إذا اتحدت النار بالمعدن، جعلته ساخناً، مع أن المعدن بطبيعته بارد، لكن النار تجعل قوتها في المعدن وتهبه الحرارة اللازمة. فكيف لا يجعل الله الكلمة الذي هو الحياة وواهب الحياة، قوته وقدرته في جسده، طالما أنه اتحد به بدون اختلاط ولا تغيير وجعله جسده الخاص بسر معروف له هو وحده.

 

وهكذا (والكلام للدكتور موريس تاوضروس) يبدو لنا أن القديس كيرلس يعزو دور الجسد الاحيائي وبالتالي دور الإفخارستيا الإحيائي إلى قوة الكلمة وقدرته، أو كما رأينا في العبارة السابقة: [الله الكلمة الذي هو الحياة، جعل قوته وقدرته في جسده].

فإذا كان القديس كيرلس من ناحية الخريستولوجيا، يهمه أن يوضح أن الكلمة جعل قوته وقدرته في جسده الخاص به، فهو ينقل فكره هذا إلى الإفخارستيا المحيية.

يقول القديس كيرلس: [ولكن من الضروري أن نضيف هذا أيضاً. وإذ نكرز بموت ابن الله الوحيد حسب الجسد أي موت يسوع المسيح، ونعترف بقيامته من بين الأموات وصعوده إلى السموات، فإننا نقدم الذبيحة غير الدموية في الكنائس، وهكذا نتقبل البركات السرية ونتقدس، ونصير مشتركين في الجسد المقدس والدم الكريم للمسيح مخلصنا جميعاً، ونحن نفعل  هذا لا كأناس يتناولون جسدًا عاديًا – حاشا – ولا بالحقيقة جسد رجل متقدس ومتصل بالكلمة حسب اتحاد الكرامة، ولا كواحد حصل على حلول الهي، بل باعتباره الجسد الخاص للكلمة نفسه المعطي حياة حقاً .وبسبب أنه صار واحداً مع جسده الخاص، أعلن أن جسده معطي الحياة، لأنه حتى وإن كان يقول لنا: “الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الانسان وتشربوا دمه” فلا نستخلص من هذا أن جسده هو جسد واحد من الناس مثلنا، لأنه كيف يكون جسد انسان ما محييًا بحسب طبيعته الخاصة؟، ولكن لكونه بالحقيقة الجسد الخاص للابن الذي صار انسانًا، ودعي إنسانًا لأجلنا.

 

القوة الإلهية في جسد الكلمة

وقد وضع يديه أيضاً على كل واحد من المرضى فشفاهم من أمراضهم، موضحاً بذلك أن جسد بشريتنا المقدس الذي جعله جسداً له وملأه بالقوة الالهية، كان يمتلك الحضور الفعال لقدرة الكلمة، قاصداً بذلك أن يعلمنا أنه رغم أن كلمة الله الوحيد قد صار مثلنا، إلا أنه بالرغم من ذلك لا يزال إلهاً ويستطيع بسهولة بواسطة جسده الخاص أن يتمم كل الأشياء.

لأنه استخدم هذا الجسد كأداة لعمل المعجزات، ولا يوجد أي سبب للتعجب من هذا بل على العكس فيمكنكم أن تلاحظوا كيف أن النار عندما توضع في اناء نحاس فإنها تنقل إلى الإناء قوة انتاج تأثيرات الحرارة. هكذا أيضاً فإن كلمة الله الكلي القدرة، إذ قد وحد الهيكل الحي العاقل المأخوذ من العذراء القديسة مع نفسه اتحادًا حقيقيا فإنه ملأه بالقوة التي تظهر قدرته الالهية بصورة فعالة، لذلك فلكي يخجل اليهود فهو يقول: “إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي. ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال” (يو ١٠: ٣٨) وبشهادة الحق نفسه هذه يمكننا أن نرى أن الابن الوحيد لم يعط مجده “لإنسان” منفصل عنه وغيره هو نفسه، ويعتبر مولود المرأة. بل بالحري إذ هو الابن الوحيد مع الجسد المقدس المتحد به فإنه قد صنع المعجزات وهو يُعبَد أيضاً من خليقة الله .لقد دخل الرب إلى بيت بطرس وهناك كانت امرأة ممددة على فراش مرهقة من حمى شديدة، وبدلاً من أن يقول كإله “اتركي المرض وقومي” فإنه سلك طريقاً آخر. فإنه لكي يبين أن جسده يملك قوة الشِفّاء لكونه جسد الله، “لمس يدها” (لو٨: ١٥) ولذلك تركتها الحمى.

قوة الهية.. فلنمسك نحن به بواسطة الإفخارستيا السرية لكي يحررنا من أمراض النفس ومن هجمات الشياطين وعنفهم :

لذلك هيا بِنَا نحن أيضاً لنقبل يسوع، لأنه حينما يدخل الينا ونقبله في عقلنا وقلبنا، فإنه عندئذ يطفئ حمى اللذات غير اللائقة، ويقيمنا ويجعلنا أقوياء، حتى في الأمور الروحية. وبذلك نخدمه بأن نعمل الأمور التي ترضيه.

ولكن أرجو أن تلاحظوا ما أعظم فاعلية لمسة جسده المقدس. فإنها تطرد الأمراض من كل نوع، وتطرد جمعًا من الشياطين وتطرح قوة ابليس عنا، وتشفي جمعًا كبيرًا من الناس في لحظة من الزمان. ورغم أنه يستطيع أن يعمل المعجزات بكلمة وبمجرد ميل ارادته، إلا أنه لكي يعلمنا شيئاً نافعاً لنا فهو يضع يديه على المرضى أيضاً. لأنه كان لازماً، بل ولازماً جداً لنا أن نتعلم أن الجسد المقدس الذي جعله جسده الخاص كان مزوداً بفاعلية قوة الكلمة بأن زرع فيه قوة الهية. لذلك يمسك بِنَا، أو بالحري فلنمسك نحن به بواسطة الإفخارستيا السرية لكي يحررنا من أمراض النَّفس ومن هجمات الشياطين وعنفهم .

 

 

العظة الآبائية التاسعة – يوم خميس العهد

الإفخارستيا – عند القديسين أغسطينوس ويوحنا ذهبي الفم[61]

القديس أغسطينوس

هو نفسه “الخبز النازل من السماء“، الخبز الذي ينعش الناقصين ولا ينقص. خبز يمكن أن يُؤكل (يُستطعم) ولا يمكن أن يتبدد. هذا الخبز يشير إليه المن. فقد قيل “أعطاهم خبز السماء، أكل الإنسان خبز الملائكة” (مز ٧٧: ٢٤، 25).

من هو خبز الملائكة إلاَّ المسيح؟

ولكن لكي يأكل الإنسان خبز الملائكة، صار رب الملائكة إنسانًا. فإنه لو لم يصر إنسانًا ما كان له جسده، وإن لم يكن له جسده ما كنا نأكل خبز المذبح.

لنسرع إلى الميراث، متطلعين إلى إننا قد قبلنا عربونا عظيمًا منه.

يا إخوتي ليتنا نشتاق إلى حياة المسيح، متطلعين إلى أننا أمسكنا بعربون موت المسيح.

إلى يومنا هذا نتقبل الطعام المنظور، فالسرّ شيء، وفاعلية السرّ أمر آخر.

كم من كثيرين يتناولون من المذبح ويموتون؟ يموتون حقًا بتناولهم إيّاه! لذلك يقول الرسول: “يأكل ويشرب دينونة لنفسه” (١كو١١: ٢٩). فإنه أليس ما أخذه في فمه من الرب كان سُمًّا ليهوذا. ومع ذلك أخذه، وعندما تناوله دخله العدو، ليس لأن ما تناوله أمر شرير، وإنما لأنه هو شرير، تناول ما هو صالح بطريقة شريرة.

إذن انظروا أيها الإخوة إنكم تتناولون الخبز السماوي بمعنى روحي، قدموا طهارة للمذبح.

فمع أن خطاياكم يومية فعلى الأقل لا تسمحوا أن تكون مميتة.

قبل أن تقتربوا إلى المذبح ضعوا في اعتباركم حسنًا أن تقولوا: “اغفر لنا ما علينا، كما نغفر نحن أيضًا لمن لنا عليهم”. أنتم تغفرون فيُغفر لكم.

اقتربوا في سلام، إنه خبز لا سم.

ولكن انظروا إن كنتم تغفرون، فإنكم إن لم تغفروا تكذبون، وتكذبون على ذاك الذي لا يُخدع. يمكنك أن تكذب على اللَّه لكنك لا تقدر أن تخدعه.

لا تجعل فمك مستعدًا بل قلبك… إذ نقبله نعرف ما نفكر فيه. نقبل فقط القليل وننتعش في القلب. ما يقوتنا ليس ما نراه بل ما نؤمن به. لهذا فنحن لا نطلب ما يمس حواسنا الخارجية، ولا نقول: “ليؤمن الذين يرون بأعينهم ويلمسون بأيديهم الرب نفسه بعد قيامته إن كان ما يُقال هو حق إننا لم نلمسه، فلماذا نؤمن؟”

يعرف المؤمنون جسد المسيح إن لم يهملوا في أن يكونوا جسد المسيح. ليصيروا جسد المسيح إن أرادوا أن يعيشوا بروح المسيح.

عندما أعطانا كلًا من جسده ودمه انتعاشًا صحيًا، وباختصار حلَّ سؤال عظيم بخصوص الكمال (أي كل من الرأس المسيح والجسد الكنيسة). ليت الذين يأكلون يستمرون في الأكل، والذين يشربون أن يشربوا. ليت الجائعون والظمأى يأكلون الحياة ويشربون الحياة… فإن الأمر سيكون هكذا، أي أن جسد المسيح ودمه يكونان حياة الإنسان. إن كان ما نأخذه في السرّ هو أمر منظور فإنه في الحق نفسه يؤكل ويُشرب روحيًا.

لئلا يظنوا أن الوعد بالحياة الأبدية في هذا الطعام والشراب بطريقة بها لا يموتوا الآن جسديًا، تنازل وواجه هذا الفكر عندما قال: “من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية“، للحال أكمل: “وأنا أقيمه في اليوم الأخير. بهذا فإنه حسب الروح تكون له حياة الأبدية في الراحة التي تنالها أرواح القديسين، أما بالنسبة للجسد فإنه لا تسلب منه حياته الأبدية، إنما على العكس سينالها في قيامة الأموات في اليوم الأخير.

في هذه الأيام يطعمكم المعلمون، يطعمكم المسيح يوميًا. مائدته دائمًا معدة أمامكم.

لماذا إنكم ترون أيها السامعون المائدة ولا تأتون إلى الوليمة…؟

ما يقوله الرب يعرفه المؤمنون حسنًا. أما أنت أيها الموعوظ المدعو سامعًا فأنت أصم. فإنك تفتح أذني الجسم، متطلعا أنك تسمع الكلمات التي قيلت، لكن أذني قلبك مغلقتان، إذ لا تفهم ما يُقال…

هوذا عيد القيامة على الأبواب، قدم اسمك للعماد… لكي تفهم معني: “من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه“.

 

كيف يلزمنا أن نفهمه؟

هل تشمل هذه الكلمات “من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه” حتى أولئك الذين قال عنهم الرسول: “يأكلون ويشربون دينونة لأنفسهم” (1كو 11: 29) عندما يأكلون هذا الجسد ويشربون هذا الدم؟ هل يهوذا الذي باع سيده وخانه (مع أن لوقا الإنجيلي يعلن بكل وضوح أنه أكل وشرب مع بقية تلاميذه سرّ جسده ودمه الأول بيدي الرب) هل ثبت في المسيح والمسيح فيه؟

هل كثيرون من الذين يتناولون ذاك الجسد ويشربون ذاك الدم في رياء أو الذين بعد تناولهم من الجسد والدم يرتدون يثبتون في المسيح والمسيح فيهم؟.

إذن نحن نحيا به، بتناولنا إيّاه، أي بنوالنا الحياة الأبدية، التي ليست لنا من ذواتنا.

من جهة هو حي بالآب الذي أرسله، إذ أخلى نفسه، وأطاع حتى موت الصليب” (في ٢: ٨ )…

بقوله “أنا حيّ بالآب” يعني أنه من الآب، وليس الآب منه؛ يقال هذا دون مساس مساواته له. وأما بقوله: “من يأكلني فهو يحيا بي” لا يعني أن مساواته للآب كمساواتنا نحن له، وإنما يظهر نعمة الوسيط “هذا هو الخبز الذي نزل من السماء“.

بأكله نحيا، إذ لا نستطيع أن تكون لنا الحياة الأبدية من أنفسنا. يقول: “ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا، من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد“. لأن هؤلاء الآباء موتى، ويُفهم منه أنهم لا يعيشوا إلى الأبد (بواسطة المن). أما الذين يتناولون المسيح فبالتأكيد يموتون وقتيًا لكنهم يحيون أبديًا، لأن المسيح هو حياة أبدية.

يعطينا الرب جسده لنأكل، مع هذا إن فهمناه حسب الجسد فهذا موت، بينما يقول عن جسده أن فيه حياة أبدية. لهذا يلزمنا ألا نفهم الجسد جسدانيًا.

لننتفع أيها المحبوبون جدًا بهذا الهدف، ألا نتناول جسد المسيح ودمه في الأسرار مجردًا، كما يفعل كثير من الأشرار، بل نتناولهما بشركة الروح، فنثبت كأعضاء في جسد الرب، ونحيا بروحه، فلا نتعثر إن تناول كثيرون الآن الأسرار بطريقة زمنية، هؤلاء الذين ينالون في النهاية عقوبة أبدية. حاليًا جسد المسيح كما لو كان مختلطًا في موضع الدرس، “لكن الرب يعرف من هم له”.

القديس يوحنا ذهبي الفم

يكون للذين يشتركون فيهما (جسد الرب ودمه) رزانة النفس، غفران الخطايا، شركة الروح، بلوغ ملكوت السماء، الدالة لديه، وليس للحكم والدينونة.

يلزمنا أن نفهم الأسرار، ما هي، ولماذا أعطيت، وما النفع منها.

نصير جسدًا واحدًا، و”أعضاء جسده ومن عظامه” (اف 5: 30). ليت المتناولون يتتبعون ما أقوله. لكي ما نصير هكذا ليس بالحب وحده، بل وبالفعل ذاته، لنتحد بهذا الجسد. هذا يتحقق بالطعام الذي قدمه لنا مجانًا، مشتاقًا أن يظهر حبه لنا. لهذا مزج نفسه بنا، وعجن جسد بأجسادنا، لكي نصير واحدًا، كجسد يتحد بالرأس…

يقودنا المسيح إلى صداقة حميمة ليظهر حبه لنا. إنه يهب الذين يرغبونه ليس فقط أن يروه بل يلمسوه ويأكلوه، ويثبتوا أسنانهم في جسده، ويقبلون ويشبعون كل حبهم له.

 

ليتنا نعود من تلك المائدة كأسود تتنفس نارًا ترعب الشيطان، مفكرين في رأسنا وفي حبه الذي أظهره لنا.

غالبًا ما يقدم الآباء أبناءهم لآخرين كي يطعموهم؛ أما هو فيقول: “أما أنا فلا أفعل ذلك، أنا أطعمتكم بجسدي، مشتاقًا أن تصيروا جميعكم مولودين ميلادًا جديدًا ولكم رجاء صالح في المستقبل. فإن من يعطيكم ذاته هنا كم بالأكثر يعطيكم فيما بعد.

أردت أن أصير أخاكم، ومن أجلكم شاركتكم في اللحم والدم، وأعود فأعطيكم الجسد والدم لكي بذلك أصير قريبكم“.

هذا الدم يجعل صورة ملكنا متجددة فينا، تبعث جمالًا لا ُينطق به، ولا تدع سمو نفوسنا أن ينزع منا، بل ترويه دائما وتنعشه.

الدم الذي يستخرج من طعامنا لا يصير دمًا في الحال بل يصير شيئًا آخر، أما هذا فلا يفعل هكذا، إنما في الحال يروي نفوسنا، ويعمل فيها بقوة قديرة.

هذا الدم السري إن تناولنا بحق يطرد الشياطين، ويجعلهم بعيدين عنا، بينما يدعو الملائكة ورب الملائكة إلينا. فحالما يرون دم الرب تهرب الشياطين وتركض الملائكة معا… سفك هذا الدم وجعل السماء سهلة المنال.

بالحق مهوبة هي أسرار الكنيسة، مهوب بالحق هو المذبح. ينبوع يصعد من الفردوس، ويفيض بأنهار مادية؛ من هذه المائدة يصدر ينبوع يبعث انهارًا روحية.

الروح هو الذي يحي، وأما الجسد فلا يفيد شيئًا“. هذا هو ما يقوله: يوجد احتياج أن تستمروا في الاستمتاع روحيًا بالأمور الخاصة بي، لأن من يسمع جسدانيًا لا ينتفع شيئًا، ولا ينتفع بأي صلاح”. إنه لأمر جسداني أن تحتقروا من نزل من السماء، وتظنوه أنه ابن يوسف.

كيف يمكن لهذا أن يعطينا جسده لنأكل؟. كل هذه الأمور جسدانية، بينما يوجد احتياج لفهمهما سرائريًا وروحيًا…

الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة، بمعنى إنها كلمات إلهية روحية، ليس فيها شيء جسدي، ولا تتبع نظام الطبيعة، بل هي متحررة من مثل هذه الضرورة، وهي فوق القوانين نزلت لأجل هذا العالم، ولها أيضًا معني آخر مختلف.

الآن كما في هذه العبارة قال “روح” عوضًا عن “روحي”، لذلك عندما يتحدث عن جسد لا يقصد أمورًا جسدية بل الاستماع الجسداني، مشيرًا في نفس الوقت إليهم، لأنهم دائمًا يطلبون الجسديات عندما كان يلزمهم أن يطلبوا الروحيات. فإن من يتقبلها جسدانيًا لا ينتفع شيئًا.

ماذا إذن هل جسده ليس بجسد؟ بالتأكيد هو، فكيف يقول إذن “الجسد لا ينفع شيئًا“؟ إنه لا يتحدث عن جسده، حاشا! بل عن الذين يقبلون كلماته بطريقة جسدانية. ماذا “يفهم جسدانيًا؟ التطلع إلى ما هو أمام عيوننا مجردًا دون تصور ما هو وراءه، هذا هو الفهم الجسداني. ولكن يليق بنا ألا نحكم هكذا بالنظر بل نتطلع إلي كل الأسرار بالعيون الداخلية. هذا هو “النظر روحيًا“.

 

العظة الآبائية العاشرة – يوم خميس العهد

الإفخارستيا – للأب صفرونيوس[62]

وتدريب آخر نراه جميعاً ويقع تحت حصر حواسنا كلها ،وهو أعلى من التدريب السابق، لأننا ندخله جميعا بقلب واحد، وفكر واحد، وهو الصلاة والشركة فى الأسرار فى القداس الإلهي (حرفيا الخدمة، أو الليتوروجية الالهية). نحن جماعة متمايزة، وربما فى بعض الأحوال متصارعة ومتنافرة،

ولكننا ندخل الخدمة المقدسة لكى ننال فى المسيح البناء الالهي الذي نتغرب عنه فكرياً وقلبياً بسبب الحياة التى نحياها. هذا البناء الإلهي هو الجسد الواحد، أي جسد المسيح الذى نتغرَّب عنه بسبب ضعف حياة الشركة، وبسبب الاغتراب الفكري الذى نعانيه جميعاً. هذا الاغتراب هو الحياة داخل “سجن الأنا” هذه الحياة مهما كانت لا تقوى عليها خطايانا، وفى عهد نعمة ربنا يسوع المسيح أنها “بلا ندامة” (رو١١: ٢٩)، فالله لا يندم، ولا يسحب نعمته، وحتى الهالكين لا يفقدون نعمة الروح القدس وسكناه إلا فى يوم الدينونة.

إننا فى الخدمة الإلهية (القداس الإلهي) نشبه ملكاً عظيماً يرتدي أسمالاً حقيرة، وتحتها الثوب الملوكي، أي طبيعة ربنـا يسوع المسيح الذي أعطانا أن نكون خليقة جديدة فيه، لا يقوى عليها مـوت الخطية، حية بالروح القدس واهب الحياة الذي لا يموت.

والخدمة الإلهية مثل مرآة نرى فيها نفوسنا، ونخلع فيها أسمال البائس الحقير، آدم الأول، لكي نرى فيها ثوب ربنا يسوع المسيح، أي بره الالهى الذي وُهِبَ لنا.

وعندما نتناول من الأسرار تعـود عقولنا وفكرنا المغترب عن محبة الله، ومجد قداسته إلى عرش الملك العظيم ربنـا يسوع المسيح الذي تغربنا عنه، فكرياً، بالرغم من بقاء طبعنا الجديد الذي لا نملك أن نراه بدون المسيح، فهو ليس فينا بقوة الإرادة الإنسانية، ولا هو من صنع فكرنا، ولا هو بجهدنا، أو حتى بالنسـك، بـل هـو هبـة وعطية الله الآب في إبنـه يسـوع المسيح. من أجل هذا السبب عينه، نحن نعجز عن أن نرى الخليفة الجديدة التي فينـا بدون المسيح.

وكلما تغرَّب فكرنا عن الخليقة الجديدة، كلما أحسسنا بأننا عُدنا إلى الخليقة الأولى القديمة الميتة، ولكن علينا أن نتذكر دائماً أن الخليقة الجديدة هي شركة، وهي شركة في شركة الثالوث، أي أنها علاقةٌ، وثباتها ليـس منـَّا، ولا بواسطة أية قـوة نملكها، بل إن ثباتها هو من الله، وبواسطة نعمة الروح القدس والإلتصاق الدائم بالرب.

ولما سمعنا كلمات أبينا لابس الروح القدس، الأنبا انطونيوس التى كان يرددها دائماً: “حيٌّ هو الرب الذى أنا واقف أمامه اليوم” قال الأب ديونيسوس لنا: إن هذه العبارة هى ملخص حياة أنطونيوس كلها فقد عاش حياة التجديد دائما وكان ينسى ما حدث كل يوم، لكي يتقدَّم مع كل يوم إلى الأمام. والويل لنا إن سكنت أوجاع الخطية لفترة وظن أي منا أنه غلب أو إنتصر، لأن هذا الشعور الكاذب هو بداية الإنحدار.

لنقف كل يوم، وكل ساعة معاً بعقل جديد، لأن الخليقة الأولى القديمة، هى قائمة على الامتلاك بدون شركة، وهى لذلك تفسد دائماً بالأنانية والتسلط والخداع والقهر، وتحيا فى عذاب الخوف من فقدان وضياع ما نملك،  أما الخليقة الجديدة فهي تفرح بالشركة، وترى فى  ضياع ما نملك ترياق عدم الموت؛ لأن البذل هو علامة من علامات تذوق موت المسيح وقيامته.

 الشركة في جسد المسيح:

عندما يوزع الرب علينا جسده المقدس، وكأس محبته الأبدية، أي دمه الكريم، فإننا ننال جوهرة مقدارها ليس في حجمهـا، بـل في قوتهـا وفي فاعليتهـا، فليس بالأحجام، ولا بالشكل تقـاس الأمور الخاصة بالدهر الآتي، وبشركتنا في الله، بل بالقوة والنعمة المعطاة في الأسرار. وكل واحد منا يأخذ ميراثه، أي جسـد ودم ربنا يسوع على قدر وحسب نعمة الله. فالجوهر واحد والتوزيع متعـدد لـكـل الأشخاص، والجسد والدم واحد، ولكن المتناولين كثرة، فالتعدُّد لا يجعل الهبـة والعطية، أي الجسد والدم متعددة، بل موزعة دون أن تنقسم؛ لأن المسيح واحـد لا ينقسم. وهكذا بالشركة نتعلم حقيقة هامة عن الثالوث، وتتدرب عقولنا على قبول السر الفائق، أي سر حياة الثالوث، بواسطة سر آخر يُعطَى ويُوزَّع علينا بصورة مرئية ظاهرة، هي الجسد والدم الذي يُوزَّع علينا، كقوت وطعام نأكله لنحيا به.

ونحن نشترك في الجسد والدم لكي نحيا حسب الشركة، وهي أننـا نحيا  بالمسيح وللمسيح معاً في وحدة جسده ودمه، لنُصبِح معاً جسد الرب وأعضاؤه أفراداً (١كو١٢: ٢٧) وبذلك نستطيع بمقارنة “الروحيات بالروحيات” (١كو٢: ١٣)، أن نتعلم من سر الشكر، سر الثالوث القدوس، لأننا نشترك فى جسد واحد وكأس واحد، لنكون واحداً مع الرب، ومع كافة أعضاء جسده دون أن نفقد وجودنا وأقنوم كياننا، بل نصبح جسداً واحداً وروحاً واحداً، أي جسد المسيح. هذه الصيرورة والتحول فى علاقتنا، كل بالآخر فيها عربون تذوق الثالوث القدوس، لأننا نصبح واحداً، ونبقى الأعضاء المتعددة المتكاثرة لمجد الله، وللوحدة التامة المماثلة لوحدة جوهر الثالوث.

وتصبح الخدمة الإلهية (القداس الإلهي) هي مرآة الوجود الخاص بنا كأفراد. والوجود حسب الشركة كأعضاء في وحدةٍ واحدةٍ، هي جوهر حياتنـا الجديدة، أي جسد المسيح. فكل عضو هـو جسـد المسيح، وهو في نفس الوقت عضو متميز، وكل الجسد حياة واحدة وكياناً واحداً، وهو في نفس الوقـت شـركة أعضاء متعددة، وبذلك يتم قول المخلص: “ليكون الجميع واحداً فينا كما أننا  نحن واحدٌ” (يو۱۷: ۲۱).

وعندما نتناول الجسد المقدس والدم الكريم، فإننـا نُـدرِك أن وحدتنـا هـي عطية المسيح لنا، وليست نابعة من الطبيعة القديمة التي فينا، بل هي عطية الخليقة الجديدة.  ونصبح واحداً حسب عمـل النعمة، وليس حسب الأهـواء الإنسانية. وتجعلنا النعمة واحداً، أي جسد الرب يسوع المسيح نفسه. هذا يعني أننا ننتمي إلى ذات طبيعة جسـد الرب، أي طبيعة آدم الثاني الرب من السماء (1كو١٥: ٤٧)، فهو “بِكرٌ بين إخوةٍ كثيرين” (رو۸: ۲۹)، ووحدتنا معه هي وحدة طبيعة، أي أننا مـن ذات جوهر ناسوت الرب الذى  تكون بالروح القدس في أحشاء القديسة مريم، والذي يتكون فينا في سر العمودية المقدس، والذي مُسِح بالروح القدس، وهو ما يُمسح فينا بواسطة الرب يسوع بالروح القدس فى مسحة الميرون، ويُصلَب في حياة القداسة والسلوك حسب النعمة، أي حسب الروح، حيث ينمو بالنعمة التي وُهِبَت في المعمودية والميرون، ويتغذى بالقوت السماوي الخبز النازل من السماء الواهب الحياة الأبدية (يو٦: ٣٣) حيث يكتشف في المسيح كل يوم، في السر الإلهي الفائق، هذه الحياة الجديدة حسب نعمة الرب، تنمو في المسيح ويعمل الروح الواحد، لكي نكون للرب الواحد وللروح الواحد، أحياء في شركة الثالوث الواحد.

وتعدد الأسرار إنما هو عمل مقصود حسب تدبير الخليفة الجديدة، لأن المعمودية تُجَدِّد أصلنا، والميرون يُعطِى لنا القداسة والمواهب الروحية، والأفخارستيا تُعطي لنا الغذاء الإلهي. نحن نولد في المعمودية، لكي نكون على صورة المسيح، ونشرب من الروح القدس، لكي نبقى أعضاء في الجسد الواحد (۱كو۱۲: ۲۷)، ونتغذى بالطعام الإلهي لكي ننمو صاعدين من الحياة الترابية إلى الحياة السماوية .

نحن نكتشف سر ميلادنا، ومسحتنا في الخدمة الإلهية (القداس الإلهي)، ليس لأن ما وُهِبَ لنا يضيع بالزمان ومرور الأيام. فلا دورٌ للنسيان في ثبات النعمة، لأن النعمة ليست خاضعة لإرادة وفكر الإنسان، فالله لم يعطِ لنا نعمة إبنه الوحيد، وشركة الروح القدس حسب فكرنا وحسب إرادتنا، بل حسب صلاحه وجـوده. وتحت إهمال الفكر وتراخي الإرادة والكسل، تنام الطبيعة الجديدة، التي لا يدركها الفكر البشري إلا من خلال الشركة في المسيح وبالروح القدس .

كان شيوخ الدير عندنا يقولون لنـا إننا بـالروح القدس نستطيع أن نرى جسد القيامة، ليس في شكله الكامل، بل في صورته الغير كاملة؛ لأن الإعلان مؤجل إلى يوم الدينونة، وقال الأب زكريا الصغير إن جسـد الرب يسوع المسيح على المذبح، هو صورة جسد قيامتنا، وَشَرَحَ هذه الكلمات بقوله إنه جسدٌ واحدٌ يوزع دون أن ينقسم إلى عدة أجسادٍ، هكذا جسد قيامتنا، يكون جـسداً واحداً في الكل حسب مجد المسيح الذي يُوَزَّع على الكل حسب نعمة القيامة دون أن ينقسم، بل تظل الطبيعة الجديدة القائمة من الموت، وهو ما يجعل أجسادنا مساوية لمجـد جسـد المسيح، وهنا يمكـن أن نرى بعين الإيمان أن المسيح يُوَزَّع دون أن ينقسم؛ لأن الإنقسام هو فعل الموت، أما الوحدة فهي عمل القيامة، وكان بعض الشيوخ قـد عاينوا نور الميرون الإلهي، وختم المسحة المقدسة يشع بفيض نور المسيح على جبـل طابور في أجسادهم، فأدركوا أن الجسد النوراني، جسـد المسيح، هو فيض هذا النور الذي به نتحد في السر الإلهي (الإفخارستيا) عندما نتحد به على المذبح، لكي تكون معه ذبيحة محبة.

ومن الأسرار الإلهية، المعمودية المقدسة، والمسحة الملوكية (الميرون)، والسِّر السمائي ندخل حياة الشركة في المسيح، والتي هي تخـلِّ عـن الحياة القديمة، ودخولنا حيـاة جحـد الـذات التي لا تُقَوَّم فيهـا حياتنـا حسـب مقاييس الأهـواء والفكر، بل حسب مقياس الصليب، أي التخلِّي عن الحياة بسبب المحبة، لا بسبب الخضوع والقهر، لأن جحـد الـذات خوفاً من العقاب في الجحيم، أو بسبب الضغوط، أو شدة أب الإعتراف، تُوَلِّد نُسكا مزيفاً، كما تُقَوِّى الإرادة الإنسانية، ولكنها تجعل قوة الإرادة هذه، في العصيان الفكري، بينما قوة الإرادة في الحياة الجديدة، هي هبة المحبة في الروح القدس.

 

العظة الآبائية الحادية عشر – يوم خميس العهد

“أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي”– للعلامة أوريجانوس[63]

في شرحه لسفر اللاويين (لا10: 9- 11)

هرون يُشير إلى ربنا بكونه “رئيس كهنة الخيرات العتيدة”(عب9 : 11) … وأبناء هرون هم الرسل الذين قال لهم: “يا أولادي أنا معكم زمانًا قليلًا بعد” (يو13: 33) ، فما أمر به الناموس ألا يشرب هرون وبنوه خمرًا ولا مسكرًا حين يقتربون من الهيكل يمكن تطبيقه على الكاهن الحقيقي يسوع المسيح ربنا وعلى أبنائه الكهنة رسلنا.

لنحدد هكذا أن هذا الكاهن (هرون) مع كهنته كانوا يشربون قبل أن يقتربوا من المذبح، لكنهم متى بدأوا يقتربون منه ويدخلون خيمة الاجتماع يمتنعون عن الخمر…

الآن لنبحث كيف أن ربنا ومخلصنا الكاهن الحقيقي مع تلاميذه الكهنة الحقيقيين يشربون الخمر (روحيًا) قبل اقترابهم من المذبح، لكنهم إذ يبدأون في الاقتراب يمتنعون.

جاء المخلص إلى العالم ليقدم جسده فدية عن خطايانا (غلا 1: 4)، قبلما يقدمه كان كمن يشرب الخمر، إذ قيل عنه “أكول وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة” (مت11: 19) . لكنه إذ جاء وقت الصلب مقتربًا من المذبح ليقدم جسده فدية أخذ الكأس وباركه وأعطاه لتلاميذه، قائلًا: “خذوا اشربوا” يقول لهم: “اشربوا أنتم يا من لم تقتربوا بعد من المذبح أما أنا فلا أشرب إذا اقتربت فعلًا من المذبح”.

لهذا يقول: “وأقول لكم إنيّ من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي”(مت16 : 29)…

ماذا يعني هذا القول: إنيّ من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديدًا في ملكوت أبي؟

نجيب بأن هذا الوعد قد أُعطى للقديسين أن يتمتعوا بالخمر الجديد، إذ قيل “كأسي ريا” (مز23 : 5) .. “هوذا عبيدي يشربون وأنتم تعطشون” (اش 65: 13).

مثل هذا الخمر يذكر في الكتاب المقدس بمعنى فرح النفس وتهليلها، لهذا يجب أن نميز بين سكر الليل (1تس 5: 7) ، وسكر النهار.

لقد فهمنا السكر المقدس، إذ صار الوعد بتهليلهم، وبهذا ندرك معنى امتناع مخلصنا عن شرب الخمر إلى اليوم الذي يشربه مع قديسيه في ملكوت الله (مت26: 29)  بمعنى أن مخلصي يبكي على خطاياي، ولا يقدر أن يتذوق الفرح ما دمت أنا مستمر في المعصية، لماذا؟ لأنه هو الشفيع (المحامي) عني لدى الآب، كما يصرح بذلك صديقه الحميم يوحنا: “إن أخطأ أحد فلناَ شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا” (1يو1 : 1-2).

كيف إذن وهو شفيع من جهة خطاياي يقدر أن يشرب من خمر الفرح بينما أنا أحزنه بخطاياي؟! كيف يمكن لذاك الذي يقترب من الهيكل كفارة عني أنا الخاطئ أن يكون فرحًا بينما يصعد إليه حزن خطاياي بلا توقف…؟! إنه في حزن ما دمنا نحن مستمرين في الخطية… إن كان رسوله يقول: “أنوح على كثيرين من الذين أخطأوا من قبل ولم يتوبوا عن النجاسة والزنا والعهارة التي فعلوها” (2كو12 : 21) فماذا نقول عن ذاك الذي ندعوه “ابن محبته” (كو1: 21)، “الذي أخلى نفسه” (في2: 7) , بسبب محبته لنا؟! هذا الذي وهو مساٍو للآب لم يطلب ما لنفسه (1كو13: 5) بل ما هو لخيرنا، مخليًا نفسه لأجلنا؟! هل بعدما طلب ما هو لخيرنا يكف الآن عن البحث عنا وعن التفكير في خيرنا؟! ألا يحزن على خطايانا ويبكي على خسارتنا وجروحنا هذا الذي بكى على أورشليم، قائلًا لها: “كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا” (مت 23: 37)؟! هذا الذي حمل جراحتنا، ومن أجلنا تألم بكونه طبيب نفوسنا وأجسادها، هل يهمل الآن التهاب جراحتنا؟! يقول النبي: “قد أنتنت، قاحت حُبر ضربي من جهة حماقتي”(مز38: 5).

لهذا السبب يقف أمام وجه الآب يشفع من أجلنا (عب9: 24) ، يقف أمام الهيكل ليقدم لله فدية كفارة لخدمتنا. وإذ اقترب من الهيكل يقول: “لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي” (مت26: 29). إنه ينتظر حتى نتغير، نتمثل به ونحمل سماته، فيفرح معنا ويشرب معنا الخمر (الفرح الروحي) في ملكوت الآب. الآن إذ هو إله الرحمة والمغفرة (مز102: 8)  فبعاطفة أعظم مما لرسوله يبكي مع الباكين مشتاقًا أن يفرح مع الفرحين، فينوح أكثر من رسوله على الذين أخطأوا من قبل ولم يتوبوا بعد (2كو12: 21) ، إذ لا يليق بنا أن نظن أن بولس يحزن وينوح على فاعلي الشر بينما يكف ربنا عن البكاء عندما يقترب نحو الآب أمام المذبح مقدمًا نفسه فدية كفارة عنا. إننا نقول بأنه إذ يقترب إلى الهيكل لا يشرب خمر الفرح بل يحزن على خطايانا… فإهمالنا في حياتنا يؤجل فرحه!

إلى متى ينتظر؟ إلى أن يتمم عمله (يو17: 4).

متى يتمم عمله؟ عندما يجعلني أنا آخر الكل وأشر الخطاة كاملًا!

عمله يحسب غير كامل مادمت أنا لست بعد كاملًا، مادمت لست بعد خاضعًا للآب (1كو15: 28)، إذ يُحسب كمن هو غير خاضع للآب بسببي ويكون عمله لم يكمل بعد…

 

 

 

عظات آباء وخدام معاصرين ليوم الخميس من البصخة المقدسة

العظة الأولى

لماذا غسل الأرجل؟، والتوبة والتناول – للمتنيح البابا شنودة الثالث[64]

لماذا غسل الأرجل؟

السيد المسيح غسل أرجل تلاميذه. فلماذا غسل الأرجل بالذات؟ بالإضافة إلى ما يمكن أن نقوله عن الاتضاع في غسل الأرجل، واود أن اذكر تأملا للقديس اوغسطينوس حول قول العروس في سفر النشيد (نش 5: 3).

خلعت ثوبي، فكيف البسه؟ غسلت رجلي فكيف أوسخهما؟

قال إن الإنسان قد اغتسل بالمعمودية وتطهر وارتفع عن الماديات، غير انه طالما يحيا في الأرض، فانه يعود ويتصل بالمادة، بهذا التراب، فتتسخ قدماه بهذا التراب الذي تطوله قدماه.

لذلك فان عذراء النشيد حينما دعاها الرب لخدمته، خافت من هذه الاحتكاكات التي قد توجد في مجال الخدمة، والتي قد تشين الطهارة التي نالتها في المعمودية إذ خلعت هذا الثوب الذي هو الإنسان العتيق، فكيف تعود إلى مشاكله. وقد غسلت قدميها اللتين داستا التراب من قبل، فكيف تعود بهما إليه؟!

السيد المسيح يطمئن النفس، التي تدخل في مشاكل الناس لكي تجذبهم إليه، فيقول لها: حتى إن اتسخت قدماك، سأعود أنا واغسلهما كما غسلت أرجل التلاميذ وقلت لهم: ها انتم طاهرون.

ملاحظة أخرى نقولها في غسل الأرجل:

إن غَسْل الأرجل، تنوب عن غسل الإنسان كله.

والقديس بطرس الرسول لما طلب أن يغتسل كله، قال له الرب “الذي قد اغتسل، ليست له حاجة إلا إلى غسل رجليه، بل هو طاهر كله”(يو13: 10).

والكاهن حينما يغسل يديه قبل القداس، ويقول: [اغسل يدى بالنقاوة، واطوف بمذبحك يا رب] ليس هو في حاجة إلى غسل جسده كله. إنما عضو في الجسد ينوب عن الباقي.

كما نرشم عضوًا واحدًا في الجسد فيعتبر الإنسان كله قد نال هذا الرشم..

وغسيل الأرجل في لقان الخميس الكبير، يرمز إلى النقاوة التي يجب أن تسبق التناول. فاهتموا بهذا الأمر.

ويعجبني في هذا المجال عبارة قالها صموئيل النبي، حينما ذهب إلى بيت لحم. ودعا إلى الذبيحة بقوله:

“تقدسوا، وتعالوا معي إلى الذبيحة”(1صم16: 5)..

لأنه لا يليق أن يذهب أحد إلى الذبيحة وهو غير تائب، إنما يتقدس أولًا، يتطهر بالتوبة ، ثم يتقدم إلى التناول.

و الكنيسة تغسل أولًا أرجل الشعب، وتقول لهم: “أنتم الآن طاهرون” ثم تقدمهم للتناول.

ولكن ليس معنى هذا أن تأتى إلى الكنيسة  يوم خميس العهد، وتتقدم لغسل رجليك وأنت غير تائب. وإلا تسمع تلك العبارة المخيفة:

“أنتم (الآن) طاهرون ولكن ليس كلكم”(يو13: 10)

“ليس كلكم”؟! لا يا رب، نريد أن نكون كلنا طاهرين انضح علينا بزوفاك فنطهر، واغسلنا فنبيض أكثر من الثلج.

نعم، هذا هو هدف اللقان. الطهارة قبل التناول.

[تقدسوا، وتعالوا معي إلى الذبيحة].

أرجو لكم تناولاً مقدسًا، باستحقاق، من السرائر المقدسة في هذا اليوم العظيم، وأن تكونوا كلكم طاهرين.

إن الطهارة التي يحملها رمز الماء، توجد في الكنيسة  في كل قداس، وليس في قداس اللقان فقط.

وبعد كل قداس، قبل أن يصرف الكاهن الشعب، يرشهم بماء مقدس، فتتذكر قول الرب في سفر حزقيال النبي:

“وأرش عليكم ماء طاهرا، فتطهرون” (حز36: 25).

 

التوبة والتناول

نشكر الله، لأننا ونحن خارج المحلة حاملين عاره، فتح لنا الرب طريقا إلى قدس الأقداس، إذ فتح لنا هيكله المقدس، وأدخلنا إلى حيث مذبحه الطاهر، وأعطانا جسده ودمه الأقدسين.

إنها بركة عظيمة أن يفكر فينا السيد الرب في أسبوع آلامه، ويهتم بنا هكذا، بعد أن منحنا الطهارة اللازمة، في غسله لأرجلنا..

وهكذا في يوم الاحتفال بالفصح القديم، بكل ما يحمله من رموز، قدم لنا الفصح الذي للعهد الجديد..

الفصح الذي قال عنه القديس بولس “لأن فصحنا أيضًا، المسيح، قد ذبح لأجلنا”.. (1كو 5: 7).

وهكذا اجتمع فصحان، في يوم واحد، وعلى مائدة واحدة. الرمز، والمرموز إليه معًا. واعطى السيد المسيح هذا السر العظيم لتلاميذه القديسين، وقال لهم “اصنعوا هذا لذكري” (لو 22: 19) وها نحن نصنع هذا اليوم، حسب وصيته المقدسة.

احتفل المسيح مع تلاميذه بالعيد، وهو في عمق آلامه.

فرح معهم بالعيد، وعيد معهم، وقال لهم “شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم، قبل أن أتألم” (لو 22: 15).

وسبَّح معهم في تلك الليلة، قبل أن يخرجوا إلى جبل الزيتون (مر 14: 6؛ مت 26: 30) نعم احتفل معهم بالعيد، وفرح معهم “وهو عالم بكل ما يأتي عليه” (يو 18: 4).

حقًا ما أنبل القلب المتألم، الذي يغنى مع القلوب الفرحة.

وفي فرحة عيد الفصح، حدثهم عن جسده الذي يبذل عنهم، ودمه الذي يسفك عنهم (لو 22: 19، 20).

وبهذا أعطى للتلاميذ عيدًا جديدًا، وعهدًا جديدًا.

 

وأعطاهم فكرة أن جسده سيبذل، ودمه سيسفك، عنهم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا (مت 26: 28؛ مر 14: 24). وقال أن هذا هو الدم الذي للعهد الجديد..

لم يتركهم يفاجأون بهذا الأمر، أن يروا دمه يسفك أمامهم، إنما قال لهم قبل أن يكون، حتى إذا كان يؤمنون (يو 13: 19).

عجيب أن يتكلم أحد عن سفك دمه، بهذا الهدوء..

وأن يتكلم عن سفك دمه بطريقة موضوعية هكذا، وسط مظاهر الفرح والتسبيح، وهو يحتفل مع تلاميذه بالعيد..

ولكنه المسيح المحب الحنون، الذي يفكر في خلاص البشرية، وليس في ذاته هو أو في آلامه.

نلاحظ هنا أنه قال: دمي الذي يُسْفَك وليس الذي سُفِكَ.

وكذلك قال جسدي الذي يبذل وليس الذي بذل.. ذلك لأن دمه قد سفك يوم الجمعة، وجسده قد بذل يوم الجمعة، اليوم الذي تم فيه الخلاص..

إن حديثه يوم الخميس، كان عن الخلاص الذي سيتم يوم الجمعة والفصح الذي احتفل به يوم الخميس، كان رمزًا للفصح الحقيقي الذي للعهد الجديد الذي يذبح عنا يوم الجمعة. وكأن الرب أراد أن يقول:

إن هذا الفصح الذي تأكلونه اليوم يرمز إلى جسدي الذي يبذل عنكم غدا، والى دمى الذي يسفك عنكم غدًا.

هذين اللذين أقدمهما لكم على صورة الخبز والخمر. وعلى هذه الصورة ستصنعون هذا السر لذكرِي.

وعبارة “هذا اصنعوه لذكري” أمر يحمل استمرارية هذا السر مدى الدهور “لأنكم كلما أكلتم هذا الخبز، وشربتم هذه الكأس، تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء” (1كو 11: 26) وعبارته “إلى أن يجيء” تحمل معنى أن ممارسة هذا السر العظيم تستمر حتى مجيئه الثاني، أي إلى آخر الدهر.

 

قال إن هذا دمى الذي يسفك عن كثيرين لمغفرة الخطايا.

المقصود بالكثيرين أولئك الذين يؤمنون به، وبفدائه العظيم وفاعلية دمه لمغفرة الخطايا، وكذلك يؤمنون بأسراره المقدسة ويمارسونها. ويشترط أيضًا فيهم أن يكونوا تائبين، لأن الرب نفسه قد قال “إن لم تتوبوا، فجميعكم كذلك تهلكون” (لو 13: 5).

التوبة إذن لازمة لتناول المؤمنين، كشرط هام للاستحقاق هذا الاستحقاق للتناول الذي شرحه القديس بولس الرسول.. فقال في الإصحاح 11 من رسالته الأولى إلى كورنثوس:

“إذن أي من أكل هذا الخبز، أو شرب كاس الرب، بدون استحقاق يكون مجرما في جسد الرب ودمه..” “لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق، يأكل ويشرب دينونة لنفسه، غير مميز جسد الرب”.

“من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى، وكثيرون يرقدون” (1كو 11: 27 –30).

إذن الأمر خطير، وعقوبته خطيرة:

مَنْ يناول بدون استحقاق، يكون مجرمًا في جسد الرب ودمه، غير مميز جسد الرب، قد تصل عقوبته إلى ضربات في الجسد كالمرض والموت.. لذلك يقول الرسول:

“ولكن ليمتحن الإنسان نفسه” قبل التناول..

“لأننا لو حكمنا على أنفسنا، لما حُكِمَ علينا” (1كو 11: 28، 31).

فماذا تعني كلمة الاستحقاق إذن؟

إن تحدثنا عن الاستحقاق بمعنى مطلق، فلن يوجد أحد مستحقا..! فمن جهة هذا الاستحقاق، كان القديس العظيم الأنبا رويس -وهو صاحب معجزات- يخاف جدًا حين يتقدم للتناول من السرائر المقدسة. وكان يقول: إن الذي يتقدم للتناول، ينبغي أن يكون داخله في نقاوة أحشاء العذراء القديسة التي حملت المسيح داخلها..!

 

من أجل ذلك يقول الأب الكاهن في “صلاة الاستعداد” (وهي صلاة يقولها سرًّا قبل القداس):

[أيها الرب العارف قلب كل أحد.. أنت يا رب تعرف أنى غير مستحق ولا مستعد ولا مستوجب لهذه الخدمة المقدسة التي لك. وليس لي وجه أن اقترب وافتح فاي أمام مجدك المقدس. بل ككثرة رأفاتك، اغفر لي أنا الخاطئ، وامنحني أن أجد نعمة ورحمة في هذه الساعة].

ومن أجل هذا يليق بكل إنسان، أن يقول قبل التناول:

يا رب، ليس من أجل استحقاقي، وانما من أجل احتياجي. ليس من أجل استحقاقي، لكن من أجل علاجي.

معترفين كلنا بأننا غير مستحقين، وكأننا نقول للرب: ليست لنا الطهارة التي نتقدم بها إلى جسدك ودمك. فنحن لسنا طاهرين حتى نتقدم للتناول، إنما نحن نتقدم للتناول حتى نكون طاهرين.

نحن نتناول: “طهارة لأنفسنا وأجسادنا وارواحنا” .. كما نقول في بداية الأواشي في القداس الإلهي..

إن الطهارة النسبية التي تناسبنا، لكي نتقدم إلى التناول عملًا بقول النبي “تقدسوا وتعالوا معي إلى الذبيحة” (1صم 16: 5) تتركز في أمور هامة منها:

الإيمان، والتوبة، والصلح مع الآخرين، والطهارة الجسدية.

أما عن الإيمان، فالمقصود به الإيمان المسيحي السليم، بلا بدعة ولا هرطقة، وكذلك الإيمان بهذا السر وفاعليته، وبالشروط التي وضعها الله لإتمامه، وحفظت بالتسليم الرسولي.

أما عن التوبة، فالمقصود بها على الأقل ترك الخطية والعزم الحقيقي على عدم الرجوع، مع الاعتراف بالخطية والندم عليها.

وقد يتشكك البعض في موضوع التوبة. ونلاحظ أن البعض يمتنعون عن التناول، بحجة انهم مازالوا يخطئون بعد التناول اضمن لهؤلاء. وللرد على هؤلاء نقول:

 

إن التناول يعطى طهارة، ولا يعطى عِصمة..

ولا يوجد أحد معصومًا، مهما كان بارًا وقديسًا، ومهما اعترف وتناول. هو لا يزال تحت الضعف إلى آخر يوم في حياته، والضعف درجات تتفاوت من إنسان لآخر.

أما إكليل البر، فان الديان العادل يهبه للقديسين في ذلك اليوم (2 تى 4: 8) أي اليوم الأخير. حينئذ لا تكون خطية فيما بعد..

تناول إذن. وفي كل تناول تأخذ قوة. حتى إن أخطأت، يكون في قلبك استحياء من جهة الخطية، وندم عليها، وادانه لنفسك.

أما حالة الاستهتار فإنها تمنع من التناول. وكذلك حالة اللامبالاة، وحالة العبودية للخطية، التي يتناول فيها الإنسان وهو مصمم على الرجوع للخطية. كلها صور تدل على عدم التوبة.

أما عن الصلح مع الآخرين، فقد أشار إليه الرب بقوله:

“إن قدمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك، فاترك هناك قربانك أمام المذبح. واذهب أولًا اصطلح مع أخيك..” (مت 5: 23، 24).

إذن الصلح مع الناس لازم للتناول. لأنك لا يمكن أن تتقدم إلى “ذبيحة الحب” وأنت خال من الحب.

ولعلنا نذكر في هذا المجال أننا نصلى صلاة الصلح قبل البدء في قداس القديسين، ونقول في تلك الصلاة [اجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا، ان نقبل بعضنا بعضًا بقبلة مقدسة، لكي ننال بغير انطراح في دينونة من موهبتك غير المائتة السمائية].

إذن عدم المصالحة يطرح في دينونة، إذا تناول الإنسان.

 

فما معنى المُصالحة؟ وهل يلزم الصلح مع جميع الناس.

المُصالحة على الأقل تعني أن القلب خال من الخصام والكراهية. فان أمكن المصالحة بالفعل، وإرجاع علاقات المودة يكون هذا هو الوضع السليم والواجب. ولكننا في كل هذا، نتذكر قول الرسول:

“إن كان ممكنا، فحسب طاقتكم سالِموا جميع الناس” (رو 12: 18).

ذلك لأن هناك أنواعًا من الناس لا يمكن مسالمتهم. فالسيد المسيح لم يسالمه الكتبة والفريسيون والصدوقيون والكهنة والناموسيين ورؤساء الشعب، أو غالبية هؤلاء. ولم يسالمه أولئك الذين أسلموه حسدًا. وما كان المطلوب منه أن يذهب أولًا ويصطلح مع هؤلاء لتكون صلته صافية مع الآب.

وبولس الرسول ما كان ممكنا أن يترك قربانه قدام المذبح، ويذهب أولًا فيصطلح مع اسكندر الحداد الذي فعل به شرورا كثيرة، وقاوم كلمة الله جدًا (2تى 4: 14، 15).

لذلك قال الرسول في المصالحة ومسالمة الآخرين “إن كان ممكنا” وقال: “حسب طاقتكم” ذلك لأن هناك حالات غير ممكنة..

لا يحسب عليك إن كان عدم المصالحة راجعًا إلى الآخرين، وليس إليك أنت. أو إن كان ذلك للفائدة الروحية..

فقد تحاول أن تعيش في سلام مع البعض، ولا تستطيع، بسببهم، وليس بسببك أنت.

 

مثال ذلك الذين يحسدونك على تفوق فيك أو مواهب أعطاها الله لك، أو لشر في قلوبهم، كما حدث أن قايين حسد هابيل، ورؤساء اليهود حسدوا المسيح. وقد قال المرتل في المزمور “أكثر من شعر رأسي، الذين يبغضوني بلا سبب” (مز 69:4) فالذين يبغضونك بلا سبب، إن لم تستطع مصالحتهم فأنت معذور، ولا يمنعك هذا من تناول وكذلك الذين يضطهدونك (يو 16: 2).

كذلك هناك أناس تبتعد عنهم، مخافة العثرة، حِرصًا على روحياتك.

كأولئك الذين ذكرهم المزمور الأول “مجالس المستهزئين، وطرق الخطاة”. و “كالمعاشرات الردية التي تُفْسِد الأخلاق الجيدة” لا يلزمك أن تترك قربانك، وتذهب لتصطلح مع هؤلاء..

أما عن ترك قربانك قدام المذبح، وذهابك أولًا للصلح:

فهذا لازم في حالة من تكون قد أخطأت أنت إليه.

ولذلك يقول الرب “إن تذكرت إن لأخيك شيئًا عليك” هو له شيء عليك، أي انك أنت قد أخطأت إليه. هذا ينبغي أن تذهب وتصالحه وتطيب قلبه من جهتك قبل التناول، وتنفذ ما ورد في وصية الرب. وحتى إن كان قد أخطأ هو إليك، فاذهب وعاتبه (مت 18: 15) لإرجاع المحبة بينكما.

وعلى أية الحالات، أنت هنا واحد من اثنين: أما انك أنت المعتدى، أو معتدى عليك.

إن كنت مُعْتَدِيًا، اترك قربانك، وصالح أخاك، واصلح خطأك.

وان كنت مُعْتَدَيًا عليك، عاتب لتصالح، أو على الأقل اغفر لأن هناك أصنافا من الناس لا ينفع العتاب معهم، وقد يأتي بنتائج عكسية، أو انهم في موقف لا يمكنك فيه الذهاب إليهم لكي تعاتبهم. هؤلاء على الأقل اغفر لهم، ولا تستبق في قلبك حِقدًا عليهم أو عدواة لهم..

وتذكروا قول الكتاب “اغفروا يُغْفَر لكم” (لو 6: 37).

 

هناك طلبة واحدة في الصلاة الربانية، لم يتركها الرب تمر يدون شرح، وهي “اغفر لنا كما نحن أيضًا” فقال “فانه إن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي وان لم تغفروا للناس زلاتهم، لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاتكم” (مت 6: 14، 15).

هذا من جهة المصالحة، أما من جهة الاستعداد الجسدي..

فيلزم أولًا الاستعداد بالصوم، ولا يعفى من ذلك إلا المرضى ومن في حكمهم، الذين لهم حالة خاصة لا يمكن معها الصوم.

والكنيسة تفترض أن يكون الإنسان صائما قبل التناول مدة لا تقل عن تسع ساعات، بحيث لا يأكل شيئا بعد منتصف الليل. وان حدث استثناء ما في هذه القاعدة، لسبب ملزم، يكون ذلك عن طريق أب الاعتراف، أو بسماح من رئاسة الكهنوت..

أما عن الطهارة الجسدية، فيلزم الامتناع عن المعاشرات الجسدية، والبعد عن سيل الجسد. وهكذا يكون الإنسان طاهرا بالجسد، كما يكون طاهرا بالروح. والوصايا كثيرة في الكتاب بخصوص هذا الموضوع، ليس مجالها الآن.

 

ولا نريد أن يمتنع أحد عن التناول بحجة عدم الاستعداد أو عدم الاستحقاق، إلا لو ذلك رغمًا عنه.

فلنحاول أن نستعد بالتوبة. والتوبة في أيدينا. التوبة عمل يحدث داخل القلب، فهو بإمكاننا إذن وليس خارجًا عنا. تستطيع الآن أن تستجيب لصوت الله داخلك، ولا تقس قلبك، وترجع إلى الله، مستفيدًا من كل التأثيرات الروحية التي تقدمها لنا روحيات أسبوع الآلام. الأمر في يديك، والكتاب يقول:

“إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم” (عب 3: 15).

فليراجع كل إنسان نفسه، ويرجع إلى الله، ويشترك في بهجة هذا اليوم المقدس، الذي تعتبره الكنيسة عيدا، لكي يتناول في قداس الخميس الكبير أو خميس العهد، الذي أخذت كل قداسات السنة اصلها الأول منه.

وبكل نقاوة ممكنة، فلنحاول أن نتقدم للتناول..

لأنه ليس الجميع يستفيدون فائدة واحدة من التناول..

إنما حسب استعداد القلب من الداخل، هكذا تكون الفائدة.

إن الرسل كلهم، الذين تناولوا يوم الخميس الكبير، لم يخرجوا جميعهم بفائدة روحية واحدة. فأكثرهم حبا للرب، أعنى القديس يوحنا الحبيب، هو الوحيد الذي بعد التناول استطاع ان يتبع المسيح حتى الصليب، ويسمع كلمة منه، ويأخذ بركة..

وبطرس المتحمس، المندفع في حبه، تبع المسيح جزءا من الطريق، ولكنه لم يكمل، ثم أنكر الرب وندم.. مع أن القديس بطرس كان قد تناول من الرب كما تناول يوحنا تمامًا..

أما باقي التلاميذ، فانهم تناولوا أيضًا في نفس الوقت، ولكنهم هربوا ساعة القبض على الرب، ولم يسيروا معه ولا مرحلة من الطريق، إنما استسلموا لضعفهم.

يُذَكِّرنا هذا بالبِذار التي وقعت على ارض جيدة..

 

وأعطت كلها ثمرًا. البذار واحدة، والزارع واحد. ولكن البعض في أثماره أعطى ثلاثين، والبعض ستين والبعض مائة. ليتكم تجهزون قلوبكم، لكي تعطى هي أيضًا مائة.

وتذكروا باستمرار البركات العظيمة الناتجة عن التناول.

سواء التي وردت منها في الكتاب المقدس، أو التي وردت في صلوات القداس الإلهي. فهوذا الرب يقول في الإنجيل:

“أنا هو الخبز الحى الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد.. من يأكل جسدي ويشرب دمى، فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير.. من يأكل جسدي ويشرب دمي، يثبت في وأنا فيه” (يو 6: 5، 54، 56).

وفي القداس الإلهي: [يعطى عنا خلاصا وغفرانا للخطايا، وحياة أبدية لكل من يتناول منه]، ونقول أيضًا [نتناول من قدساتك طهارة لأنفسنا وأجسادنا وارواحنا].

لماذا إذن نقصر في التقدم إلى هذه الطهارة، وهذا الخلاص والغفران، والثبات في الرب، والحياة الأبدية.

السيد المسيح، وهو ذاهب إلى الآلام، منح الكنيسة نعمة التناول وما ينتج عن التناول من بركات عديدة.

وفي نفس الوقت أقام بهذا السر عهدًا بيننا وبينه.

نعم، لقد دخلنا بالتناول في عهد مع الرب، انه كلما أكلنا وشربنا من هذه السرائر المقدسة، أن نبشر بموته، ونعترف بقيامته، وان نذكره إلى أن يجيء.

نُبَشِّر بموته، أي بموته عنا، هذا الموت الذي نلنا به الخلاص والفداء، وأصبحنا مقدسين بدمه، وقد طهرنا هذا الدم من كل خطية (1يو 1: 7) لأنه قال: “خذوا اشربوا هذا هو دمى الذي للعهد الجديد، الذي يسفك عن كثيرين لمغفرة الخطايا” (مر 14: 26) وفي هذه الآية وضح الرب أمرين:

أن دمه لعهد جديد، لذلك نقول (خميس العهد).

أنه أمر لمغفرة الخطايا، أي للخلاص.

 

إنه حقًا أمر مُفْرِح، يليق بنا أن نبشر به، أي نعلن لكل أحد عن هذا الخلاص الذي نلناه.

فهل نحن أمناء على هذا العهد..

هل نعتبر كل يوم عيد، قائلين: هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنبتهج فيه، كما نعتبر يوم الخميس الكبير هذا عيدًا..

وهل ندرك تمامًا، كيف طهرنا الرب بهذا الدم الذي يسفك لمغفرة الخطايا، وصيرنا به قديسين، كما في القداس:

[القُدْسَات للقدسين]..

لعل عبارة “القديسين” هذه، تبكتنا من الداخل، من جهة عدم استحقاقنا، وأيضًا تدفعنا إلى قدام لكي نسلك كما يليق بأناس قد قدسهم الرب بدمه وطهرهم من كل خطية..

إذن ما اجمل أن نبشر بموته، الذي وهبنا كل هذا.

عبارة أخرى دخلنا فيها في عهد الرب هي:

 

أن نذكر الرب، إلى أن يجيء..

ما معنى كلمة “نذكره”؟ هل معناها أن يكون الرب في أذهاننا باستمرار، كما يقول المرتل “جعلت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع” أم معناها قول المرتل “محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي” أم معناها أن نذكر الرب في كل ما فعله من أجلنا: في إخلائه ذاته، وتجسده، وتعليمه، ومحبته، وآلامه، وصلبه، وقيامته، وصعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب.. بكل ما تحمله هذه الذكريات من معان ومن روحيات.

أم المقصود أن نذكر كل هذا معًا، ونظل إلى أن يجيء.

وفي عبارة “إلى أن يجيء” إيمان بالمجيء الثاني للرب.

بما تحمله هذا الإيمان من انتظار لمجيء الرب، واستعداد لهذا المجيء، وسهر دائم في هذا الاستعداد لأنه “طوبى لأولئك العبيد الذين إذ جاء سيدهم يجدهم ساهرين” (لو 12: 37).

ولا ننس أيضًا أن التناول هو شركة للمؤمنين.. يجمعهم كلهم بأيمان واحد، حول مائدة واحدة وكهنوت واحد.

فليعطنا الرب بركة هذا اليوم، وبركة هذا السر العظيم الذي لخلاصنا. آمين.

 

 

العظة الثانية لآباء وخدام معاصرون – يوم خميس العهد

الإتضاع والإنسان – لقداسة البابا تواضروس الثاني [65]

عاش التلاميذ في ثلاث مراحل مع مسيحهم :

مستمعين: إلى العظة علي الجبل مثلاً.

مشاهدين: للمعجزات والآيات …

مشاركين: في الأسرار والخدمة.

وهاهو خميس العهد يجعلهم «مشاركين» في:

مائدة خالدة = سر الافخارستيا

محبة دائمة = غسل الأرجل

والحَدَثَين هما أولاً وأخيراً «ثمرة الاتضاع الحقيقي».

مشاركين في الحدث الأول: غسل الأرجل

القدم: تحمل الإنسان ← والمسيحي يحتمل الآخرين.. “احتملوا بعضكم بعضًا”

القدم: تسند الإنسان ← والمسيحي يسند الضعفات.. “اسندوا الضعفاء”.

القدم: تتحرك بالإنسان ← والمسيحي يدفع بإيجابية الآخرين.. “شجعوا صغار النفوس”.

غسل الأرجل: عمل تطهير تمهيداً للأتحاد.

 

مشاركين في الحدث الثاني: سر الافخارستيا

المسيح هو الكائن والذبيحة.

المسيح هو العاطي والعطية.

“هذا هودمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا” (مت 28:26).

الدم هوالدليل علي الحياة…

= “كل مرة تأكلون من هذا الخبز، وتشربون من هذا الكأس، تُبشرون بموتي وتعترفون بقيامتي وتذكروني إلى أن آجئ ..” (القداس الباسيلي).

 

لماذا مادتي الخمر والخبز بالذات؟

مادة غـــــــــــذاء ← والمسيح يُشبع.

مادة تحتاج النـار ← والمسيح يتـألم.

مادة ترمزللوحدة ← والمسيح يوحد.

إن سر التناول ليس تذكار أكل بل تذكار ذبح حقيقي.

الإفخارستيا هي تذكار ذبح المسيح على الصليب وسفك دمه، وهي وليمة الملكوت. [كسر الجسد+سفك الدم].

قال السيد المسيح: “اصنعوا هذا لذكري” وهذه عبارة مانعة قاطعة. فالمسيح هو الكائن وهو الذبيحة التي قُدمت عن العالم كله.

 

عطايا العهد الثلاث

في هذا اليوم الفريد صنع المسيح له المجد: الفصح – غسل الأرجل – العشاء الرباني – الصلاة الوداعية.

خميس العهد هو عيد سيدي مُفرح وسط الآلام المحيية. وفيه يُقدم السيد المسيح أعمالاً ممزوجة بالحب والاتضاع. قدم لنا في هذا اليوم ثلاث عطايا ونعم:

اتضاعاً عجيباً: خلال هذا الأسبوع:

غسلت مريم قدمي المسيح بقارورة الطيب.

غسل المُخلص أرجل تلاميذه حين احتاروا من فيهم الأعظم؟ وغسل قدمي بطرس، يهوذا، توما،….

غسل الأرجل = التوبة المُتكررة بعد المعمودية.

عهداً جديداً: سر الافخارستيا ← الشكر

كسر الخبز + سفك الدم

المسيح هو الكائن وهوالذبيحة.

اصنعوا هذا لذكري: عبارة مانعة قاطعة.

مادة القمح + مادة العنب.

* ترمزان إلي الوحدة: المسيح يوحد

* تُمتحنان أثناء صناعتهما: المسيح يتألم.

* مادتان تغذية للإنسان: المسيح يُشبع.

وداعاً طويلاً: نسميه حديث العلية (يو14- يو17) انتهي بالصلاة الشفاعية عن العالم كله في (يو17:17).

قال: “قدسهم في حقك. كلامك هو حق”.

وفي (يو19:17) قال: “ولأجلهم أقدس أنا ذاتي, ليكونوا هم أيضاً مُقدسين في الحق”.

فهو قد كلل بالأشواك.

قصة: منذ عدة سنوات سُئلت فتاة شابة في نزعات الموت الهادئة الأخيرة، ما إذا كانت تشعر بالمعاناة الشديدة، فأجابت مشيرة إلى يدها: «نعم ولكن هنا لا يوجد مسمار، أما هو فُسمر بالمسمار وأنا أنعم بالمحبة». وضعت الفتاة يدها علي رأسها وقالت: «هنا لا توجد أشواك، وأنا أنعم بالغفران». ولمست الفتاة جنبها وقالت: «هنا لا توجد حربة، أما هو فقد طُعن بالحربة، وأنا أنعم بالسلام».

 

 ثلاثة مواكب اليوم

في هذا اليوم خمسة أحداث هامة:

  • إتمام الفصح (شريعة العهد القديم).
  • غسل الأرجل.
  • تأسيس سر الافخارستيا.
  • الصلاة الوداعية الشفاعية.
  • تسليم يهوذا لمعلمه.

 

هذا اليوم عيد سيدي مُفرح وسط أيام الآلام في أسبوع البصخة:

+ الموكب الحزين:

موكب يهوذا: الذي يدور دورة زمنية ولا يدخل الهيكل مُطلقاً. فهو موكب تحذير لأنفسنا من الفساد.

موكب الطبيعة الجاحدة: يأخذ صورة الجحود والجفاف والفتور.

+ الموكب العظيم:

موكب غسل الأرجل.

الطبيعة الخـــــــادمة.

+ الموكب البهيج (الجديد):

موكب الطبيعة الشاكرة: يُمثله يوحنا الرسول.

وهنا تتجلى قصة العهد الجديد.

العهد علاقة بين طرفين فيه حقوق والتزامات مُتبادلة مثل: عهد الأخوة – مواثيق الصداقة – عهد الزواج.

عهد سيناء: بين الله مع شعبه: العليقة – الوصايا – الفصح.

علاقة العهد بالدم.

 

كانت هناك خمسة عهود بين الإنسان والله:

مع آدم

مع نوح ← قوس قزح.

مع إبراهيم ← وصية الختان

مع موسى ← حادثة العبور.

العهد الجديد ← عهد الدم والجسد.

العهد الجديد: تأتي هذه الكلمة في مناسبة تأسيس السر.

لقد كان موت المسيح:

ذبيحة فصح ← عبور من الموت للحياة.

ذبيحة عهد ← المسيح يسكن بين البشر.

ذبيحة تكفيير ← لرفع الخطية والحصول على الغفران.

 

 

العظة الثالثة لآباء وخدام معاصرون – يوم خميس العهد

غسل الأرجل – للمتنيح أنبا أثناسيوس مطران بني سويف والبهنسا[66]

الحديث الأخير

يمكن أن يعتبر الحديث الوداعي ابتداء من الإصحاح الثالث عشر إلى نهاية السادس عشر . أربعة اصحاحات سجلت هذه الجلسة الأخيرة بين السيد وتلاميذه. فيها أوصى الرب تلاميذه الوصايا الأخيرة قبل قبوله الصلب. وكان لا بد أن يوصيهم هذه الوصايا لأنه “قد أحب خاصته الذين في العالم. أحبهم إلى المنتهى” (۱۳: ۱) فبهذا الحب الكامل حدثهم قبل أن ينتقل من هذا العالم إلى الآب.

بدأ الحديث بالجزء الخاص بعملهم في الكنيسة وهو خدمة تطهير النفوس في الإصحاح الثالث عشر، ثم حديثه عن عمله في الكنيسة في الإصحاح الرابع عشر ثم عن عمل الكنيسة في العالم في الخامس عشر، ثم ثبات الكنيسة ضد الاضطهاد في السادس عشر.

(يو ١٣: ١١٧)

قال البعض أن غسل الأرجل كان طقسا يمارسه اليهود خلال احتفالات الفصح، وكان رمزا لوصولهم أرض الميعاد من بعد رحلة الخروج. ولكن لو أن الرب كان قد مارس هذا الطقس مع تلاميذه قبل هذه السنة لما كان بطرس قد استغرب هذا الاستغراب.

تكلم الرب عن الاغتسال الكامل وغسل الأرجل، ولعله ألمح إلى العادة المتبعة في تلك الأيام بالاستحمام في الحمامات العامة، ولعله قصد أن الذي يستحم في حمام ثم يعود إلى بيته فإنه لا يحتاج إلا لغسل رجلية من تراب الطريق، ولهذا الجزء معنيان هامان:

 

أولاً: إن وظيفة الكنيسة هي أن تطهر أبناءها دائماً، فكما كان الكاهن قديمًا يقدم الذبائح عن الشعب كل يوم، وكان الناس يتقدمون دائمًا بدم ذبائح راجين تطهيرهم، هكذا على الكنيسة دائما أن تقدم أبناءها الى دم الرب لتطهيرهم، فهو الذبيحة الدائمة عن العالم أجمع التي بها يتطهر كل إنسان ومن أهملها يفقد نصيبه.

على أن التطهير نوعان:

الأول هو الاغتسال الكامل عند الإيمان، أي قبول الرب يسوع مخلصًا، به نتطهر من خطايانا وتغتسل ونصير طبيعة جديدة بالاعتماد بالسر المقدس “وليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطى بين الناس به ينبغي أن نخلص” ( أع ٤: ۱۲) وبعد الإيمان الحقيقي الكامل، لا بد للمؤمن أن يتعمد بالماء والروح إذ “الحق الحق أقول لك أن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يرى ملكوت الله” (يو٣:٣).

على أنه على المؤمن أن يحرص أشد الحرص أن يظل في روح القداسة إذ لا يجوز لمن قد تطهر أن يعود ليحيا للخطية “أم تجهلون أن كل من اعتمد ليسوع المسيح قد اعتمدنا لموته. فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما اقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضا في جدة الحياة. لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضا بقيامته عالمين هذا أن انساننا العتيق قد صلب ليبطل جسد الخطية کي لا نعود نستعبد أيضا للخطية، لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضا معه.. أحسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا” (رو ٦: ٣-١١).

على أن الحرب لاتقف عن المؤمن، فطالما كان في الجسد فهو يعاني منها. ولذا لزم عليه الجهاد الأمين الدقيق واضعًا حقيقة الحرب الروحية أمام عينيه، هاربًا من الفساد الذي في العالم بالشهوة. ولهذا عينه وأنتم باذلون كل اجتهاد قدموا في إيمانكم فضيلة وفي الفضيلة معرفة، وفي التعفف صبرًا، وفي الصبر تقوى، وفي التقوى مودة أخوية، وفي المودة الأخوية محبة.. لأن الذي ليس عنده هذه هو أعمى قصير البصر قد نسى تطهير خطاياه السالفة. (۲ بط ۱: ٤-٩) .

فعملية التطهر في دم الفادي عملية تبدأ مع الإيمان والعماد وتستمر طوال الحياة .

وعلى الكنيسة أن تظل دائمًا کارزة لأبنائها، ساعية لتطهيرهم المتجدد. ولذا أوصي السيد تلاميذه هنا “فإن كنت وأنا السيد والمعلم وقد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض.. أن علمتم هذا فطوباكم أن عملتموه” (١٤ و ۱۷) هذه هي الكنيسة وهذا هو المؤمن.

 

ثانيا: على أن المعنى الثاني ينطبق على سري العماد والاعتراف بشكل واضح. فلقد قال الرسول بطرس للرب مستنكرا “يا سيد أنت تغسل رجلي .. لن تغسل رجلي أبدًا” (٦ و ۸) خجل الرسول من أن يمد رجليه للسيد ليغسلهما. وكأنه كان يرى سلوكه غير لائق اذا قدم رجليه للرب ليغسلهما. ولكن السيد قال له: “لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع ولكنك ستفهم فيما بعد. أنا إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب” (آیة ۸).

ولما كان الأمر على هذه الدرجة من الأهمية، فإن الرسول يقدم ليس رجليه فقط بل جسده كله “ليس رجلي فقط بل أيضًا يدي ورأسي” (آیة ۹) فقال له الرب “إن الذي أغتسل صار طاهراً كله. وليس له حاجة إلا لغسل رجليه” (آیة ۱۰). فأثبت الرب الطهر الذي حصل عليه المؤمن في الاغتسال الأول، الذي هو اغتسال كامل. ولكنه محتاج حتمًا إلى غسل رجليه، وإن لم يفعل فقد نصيبه.

والاغتسال الأول هو المعمودية وهي لا تتكرر، أما الاغتسال الثاني فهو التوبة وهي تتكرر. ولذا أوصى السيد الكنيسة أن تقيمها متكررة في قوله “يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض”.

فليس الغرض من تعليم الرب هنا مجرد اعطاء التلاميذ درسًا عن التواضع فقط، لأنه قد أعطاهم دروسًا كثيرة في التواضع سابقًا، ولكنه هنا يوصيهم الوصايا الأخيرة بالمواظبة على تطهير المؤمنين من خطاياهم. هذا عمل الكنيسة الأساسي والأوحد. وهو عمله في تجسده و “ليس عبد أعظم من سيده ولا رسول أعظم من مرسله. إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه”.

ولقد جاء تسليمه اياهم هذا النظام تلك الليلة قبل تسليمه اياهم سر الجسد والدم. ولذا أهتم المؤمنون دائما بممارسة التوبة وسر الاعتراف قبل اقدامهم على تناول سر الجسد والدم.

ولذا يجب على الراعي أن يجد في قيادة المؤمنين إلى التوبة لأن عدم توبتهم تسقطهم من النعمة. واستمرارهم في حياة التوبة هو استمرار لخلاصهم. فالأمر جد خطير وعلى الراعي أن يحفظ الرعية من الهلاك “ولذا قال لهم: الذي يقبل من أرسله يقبلني والذي يقبلني يقبل الذي أرسلني” (آية٢٠).

ولعل المؤمن الذي يمكنه أن يعمل شيئا يقود أخاه إلى التوبة ملزم أيضا بعمل ذلك حسب أمر الرب هنا “كما صنعت تصنعون” أو من قبيل “من يعرف أن بعمل حسنا ولا يعمل فذلك خطية له” (یع ٤: ۱۷).

(13:  ١٨٣٠)

يبدو أن الرب والتلاميذ كانوا جالسين على وسائد مفروشة على الأرض أو على أرائك، وأن جلوسهم كان بصورة اتكاء الإنسان على جانبه، وليس جلوسه منتصبًا کما على مقعد لأن الكتاب کرر استعمال لفظ “اتكأ” في (آية ۱۲) فوصف الرب بأنه “اتكأ”. ثم في (آیة ۲۸) وصف التلاميذ بذلك. ولعل هذه كانت عادة في الجلوس في تلك الأيام. ولذا كان سهلاً على كل من المرأتين الوارد عنهما في (لو ۷، و يو ۱۲) أن تسكبا الطيب على قدمي الرب أو على رأسه. كما كان ميسوراً للرسول يوحنا أن يتكئ على صدر الرب (آیة ۲۳) .

عرف الرب أن يهوذا قد عزم على تسليمه. ولذا لما أوصاهم بممارسة خدمة التطهير للشعب قال “لست أقول عن جميعكم، الذي يأكل خبزي رفع عليّ عقبه” (آیة ۱۸).

وان كان إنجيل يوحنا لم يورد ماذا عمل الرب في عشاء الفصح أو في تسليم سر الجسد والدم، فذلك لأن الأناجيل الأخرى قد أوردت ذلك. وكانت القصة منتشرة. ولكنه أهتم هنا بما لم يرد في غيره كأمر غسل الأرجل.. وأمر الحديث بين الرسول بطرس والرسول يوحنا لكي يسأل الأخير الرب عمن هو مسلمه، وعن لحظة خروج يهوذا.

ويقول البعض أن يهوذا لم يحضر سر القربان وأن الرب سلمه اللقمة وهم يأكلون الفصح وأنه خرج لتوه. بدليل قول الرب “الذي يغمس يده في الصحفة” ولم يقل في الكأس، أي أنهم كانوا لازالوا يأكلون عشاء الفصح .

ولكن لو لاحظنا أن إنجيل لوقا بيَّن أن تساؤل التلاميذ عمن هو الخائن بينهم جاء بعد تسلم السر (لو ۲۳:۲۲) يمكننا أن نتصور يهوذا يمد يده إلى صحفة صغيرة وضع الرب فيها الخبزة وأن تلك الحركة منه كانت تطاولاً خطيراً على حق أداء هذا السر في تلك الليلة. ولم يكن بينهم من له الحق سوى الرب يسوع وحينئذ سلمه الرب الجزء الذي أخذه بدون استحقاق فصار دينونة له (۱کو ۱۱: ۲۹) .

وقد لا يدري البعض معنی اخراج انسان من رحمة الكنيسة وعزله عنها وعن أسرارها. أو قد لا يدري ما خطورة تعديه على أسرارها. أما عن التعدي فمشبه بتعدي يهوذا هنا، مثلما حدث قديمًا لقورح وجماعته الذين اعتدوا على الكهنوت وحاولوا ممارسته دون حق فنزل عليهم الحكم (عد١٦) ولذا يجب أن نحرص على أن نكون في نطاق بركة الأسرار الكنسية ونعمة الشركة مع الكنيسة المقدسة. لأن الرسول بولس أمر مرة بافراز رجل من الكنيسة، فعبر عن الحرمان من نعمة الشركة بقوله “أن يسلم مثل هذا للشيطان” (١كو٥:٥) أي أن حماية النعمة تتخلي عنه، ألا فليدم الرب رحمة الكنيسة علينا وليدم تمتعنا بالشركة المقدسة في جسد الرب الذي هو الكنيسة.

اضطرب الرب لأنه علم أن يهوذا يخرج ليرتب تسليمه بالخيانة إلى الشعب. حزن لأن تلميذا من تلاميذه يخونه ثم لما هَمَّ يهوذا بالخروج قال له الرب “ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة. فخرج يهوذا “وكان ليلاً” أي أحاطت به الظلمة” .

(١٣ :٣١٣٥)

كان الاضطراب الذي ذكر في (آیة ۲۱) بسبب الحزن على يهوذا لخيانته. وقد قال الرب عنه “ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان.كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد” (مر ١٤: ٢١) ولكن بعد أن خرج يهوذا قال الرب “الآن تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيه” تمجد ابن الإنسان باحتماله الموت عن البشر، وتمجد الله فيه ببذل ذاته عنهم.

وأوصى الرب تلاميذه الوصية المسيحية الخالدة، التي هي المحبة، التي بدونها لا تكون المسيحية.

وحين عبر الرسول بطرس عن استعداده لبذل ذاته بالتمام عن معلمه، أعلن له الرب أن الاعتماد على الذات لا يفيد شيئًا وأنه سيسقط في تلك الليلة. أما فيما بعد. فلما امتلأ الرسول بالروح القدس احتمل كل شيء، فلنعتمد على الرب فقط في كل شيء، كان الرب يسير في رحلة الاستشهاد، ولم يكن بطرس مستعدًا لها بعد.

 

 

 

العظة الرالبعة لآباء وخدام معاصرون – يوم خميس العهد

تاريخ اليوم الذى سلم فيه السيد المسيح جسده ودمه للتلاميذ عبد المسيح بشارة  (المتنيح أنبا أثناسيوس مطران بني سويف والبهنسا)[67]

تشترك الأناجيل الأربعة في أن رب المجد تقابل مع تلاميذه وأكل معهم الفصح ثم خرج وقبض عليه مساء الخميس، ثم صلب في اليوم التالي.

وحين نقرأ القصة في أناجيل متى ومرقس و يوحنا نجدها توضح أن السيد أتم الفصح في ميعـاده مع باقى اليهود إذ أنه في اليوم الأول من الفطير حين كانوا يذبحون الفصح قال له تلاميذه أين تريد أن نمضى ونعد لتأكل الفصح، (مر١٤: ١٢)، (مت٢٦: ١٧)، (لو۲۲: ۱)، وحين نقرأ في أنجيل يوحنا أن الرب يسوع أقام العشاء السري وغسل أرجل تلاميذه قبل عيد الفصح (يو۱۳: ١)، نواجه السؤال: هل أتم السيد المسيح له المجد الفصح في ميعاده أم قبل ميعاده بيوم؟..

تاريخ الفصح كما جاء في الشريعة: لقد أوصى الله موسى النبي بأن يعيد الشعب سبعة أيام ابتداء من مساء الرابع عشر إلى الواحد والعشرون من نيسان عيد الفطير فلا يأكلون في بيوتهم خبزاً مختمراً، وأن يذبحوا الفصح في المساء الأول ويعتبر اليوم التالي عيداً مقدساً لا يعملون فيه عملاً، وهكذا في اليوم الأخير أي الواحد والعشرين من نيسان “في الشهر الأول في الرابع عشر من الشهر بين العشاءين فصح للرب. وفي اليوم الخامس عشر من هذا الشهر عيد الفطير للرب: سبعة أيام تأكلون فطيراً. في اليوم الأول يكون لكم محفل مقدس. عملاً ما من الشغل لا تعملوا. وسبعة أيام تقربون وقوداً للرب. في اليوم السابع يكون محفل مقدس. عملاً ما من الشغل لا تعملون” (لا ٢٣: ٥ – ۸ )، (عد ۲۸: ١٦- ٢٥).

 

ومن دراسة الأناجيل الأربعة ظهر رأيان في تاريخ اليوم الذي أتم فيه السيد له المجد الفصح:

الرأى الأول: أن السيد أكل الفصح قبل ميعاده بيوم أي أن يوم الخميس قد وافق ١٣ نيسان. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى الحجج التالية:

أن السيد المسيح أكل مع الفصح خبزاً مما يدل على أن الخمير كان في البيوت ولم يكن قد نزع منها. لأن الخمير كان ينزع من البيوت ابتداء من ١٤ نيسان.

إننا حين ندرس أنجيل يوحنا نجده يقول إن السيد المسيح قدم الفصح وغسل أرجل تلاميذه “قبل عيد الفصح” (يو١٣: ١)، وأنه، حين غمس اللقمة وأعطى يهوذا وقال له “ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة” أن التلاميذ ظنوا أن يسوع قال له اشتر ما نحتاج إليه للعيد” (يو۱۳: ۲۹) مما يدل على أن العيد كان في وقت يلي تلك الليلة.

لقد سمى الكتاب «يوم الجمعة الذي تم فيه الصلب يوم “الإستعداد”» (يو۱۹: ۳۱)، “كان استعداد الفصح” (١٩: ١٤). ومن هنا يستنتجون أن يوم الجمعة كان يوم ١٤ نيسان أي الإستعداد لذبح الفصح في المساء.

أنه لما ذهب الكهنة إلى بيلاطس امتنعوا عن الدخـول إلى دار الولاية “لكيلا يتنجسوا فيأكلون الفصح” (يو۱۸: ۲۸). مما يشير أن الفصح كان تالياً لهذا الوقت.

أنه لو كان القبض قد تم مساء اليوم الرابع عشر من نيسان حين يذبح الفصح ويؤكل، لما أمكن جمع الكهنة والرؤساء في مجمع السنهدريم، ولكان كل فرد منشغلاً في الاحتفال بالفصح. وما أمكن جمع هؤلاء، وأجراء المحاكمة لأن الفصح لم يكن قد ذبح بعد.

قال الكتاب أنهم حين كانوا سائرين بالسيد إلى مكان الصلب، وجدوا سمعان القيرواني، فأمسكوه وجعلوه يحمل الصليب معه. وكان سمعان هـذا “آتياً من الحقل” (مت۲۷: ۳۲)، (مر١٥: ۲۱)، (لو٢٣: ٢٦). ولو كان اليوم هو ١٥ نيسان لما ذهب سمعان إلى الحقل كقول الوصية “في اليوم الأول يكون لكم محفل مقدس، عملاً ما من الشغل لا تعملوا” (لا ٢٣: ٧). كما أن ذهاب يوسف الرامي وشراءه كتاناً كفن به السيد (مر ١٥: ٢١) (لو ٢٣: ٢٦) يدل على أن الحوانيت كانت مفتوحة في ذلك اليوم مما يختلف أيضاً مع الوصية.

وأما بخصوص ما ورد في أناجيل متى ومرقس ولوقا من أن السيد أتم الفصح في “أول” أيام الفطير (مت٢٦: ١٧)، (مر١٤: ١٢)، (لو۲۲: ۱) فلا يدل حتماً على يوم ١٤ نيسان بل على اقترابه، و لقد وافق ذلك اليوم – الخميس – يوم ١٣ نيسان.

ويربط بعض أصحاب هذا الرأي بين ميعاد يوم الفصح و يوم الخمسين، فهم حين يجعلون الجمعة هو ١٤ نيسان والسبت ١٥ نيسان، يحسبون خمسين يوما من غد السبت فيكون يوم الخمسين موافقا ليوم أحد. كما حدث فعلاً في ذلك العام.

كما يرى أصحاب هذا الرأي أن صلب السيد المسيح، وقد تم يوم ١٤ نيسان، فقد حدث في نفس الوقت الذي كانوا يذبحون فيه الفصح. و بذلك تكون الذبيحة الحقيقية قد حلت على الرمز في كل شيء.

 

الرأى الثاني: ويقول أصحاب الرأى الثاني أن يوم الخميس كان يوافق الرابع عشر من شهر نيسان. وبذا يكون السيد المسيح قد أتم الفصح في ميعاده، وليس متقدماً عليه. وفيها یلی نورد حججهم:

ذكرت أناجيل متى ومرقس ولوقا بالتحديد أن السيد أقام الفصح “في اليوم الأول من الفطير حين كانوا يذبحون الفصح” (مر١٤: ۱۲)، (مت٢٦: ١٧)، (لو۲۲: ۱).

أن لفظ «الاستعداد» الذي ورد، لا ينصب على الاستعداد لعيد الفصح، بل يعني يوم الجمعة من الأسبوع. وقد كان يوم الجمعة دائماً يسمى «الإستعداد». مثل قول أنجيل مرقس “ولما كان المساء إذ كان الاستعداد، أي ما قبل السبت” (مر٥١: ٤٢) وقول أنجيل يوحنا “ثم إذ كان استعداد، فلكيلا تبقى الأجساد على الصليب في السبت، لأن يوم ذلك السبت كان عظماً” (يو۱۹: ۳۱). وبذا يكون معنى قول أنجيل يوحنا أن يوم الجمعة كان “استعداد الفصح” (يو١٩: ١٤)، أن ذلك اليوم كان جمعة الفصح.

أن الظن بأن ميعاد القبض على السيد المسيح يتعارض مع ميعاد أكل الفصح خاطىء. ذلك لأن الفصح كان يذبح بين العشاءين أي بين الساعة التاسعة والساعة الحادية عشرة كما يقول يوسفوس المؤرخ[68]. وإن قيل أن الكهنة كانوا ينشغلون أولاً في ذبح الفصح للشعب، فكانوا يتأخرون في أكل فصحهم الخاص، عن ذلك الميعاد، فالواقع أن ذلك التأخير كان لفترة قصيرة. و لقد ذهب السيد إلى البستان، وصلى صلاة طويلة غلب فيها النعاس التلاميذ. ثم حضر الجنود وقبضوا عليه، ثم مضوا به إلى الكهنة فاجتمعوا لمحاكمته. وهذا وقت كافٍ للكهنة لأن يأكلوا فيه فصحهم.

إن ظن التلاميذ أن يهوذا خرج ليشتري شيئاً للعيد، لم يقصد به عيد الفصح في اليوم التالي، فالتلاميذ كانوا قد أكلوا الفصح، فكيف يظنون يهوذا يخرج ليشتري لوازم للفصح؟. ويقول أصحاب هذا الرأي أن المقصود هو وليمة كانت تقام في اليوم الخامس عشر من نيسان وكان يسميها الشعب «شاجيجاه Chagigah» وقد كانت تقليداً عند الشعب.

إن قول أنجيل يوحنا أن الجمع جاء بيسوع إلى دار الولاية “ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية الكيلا يتنجسوا فيأكلون الفصح” (يو۱۸: ۲۸). يقصد به أكل الفطير طول أيام الفطير. لأن الفصح كان يطلق على الفطير، كما يقول سفر الأعمال أن هيرودس قبض على الرسول بطرس “وكانت أيام الفطير، ولما أمسكه وضعه في السجن.. ناوياً أن يقدمه بعد الفصح إلى الشعب” (أع ١٢: ٣، ٤).

أما قول الكتاب عن يوسف الرامي أنه اشترى كتانا نقياً في يوم الجمعة، والاستدلال من هذا على أن الجمعة لم يكن ١٥ نيسان، وإلا انقطعت فيه التجارة حسب الوصية “في اليوم الأول يكون لكم محفل مقدس. عملاً ما من الشغل لا تعملوا” (لا ٢٣: ۷). فليس دليلاً على أن جميع المتاجر كانت تعمل، ولعلها بعض متاجر كانت تعمل في هذه التجارة فقط، لخدمة الناس في حالة حدوث وفاة، وضرورة دفن المتوفي قبل السبت.

 

والقول بأن مجي. سمعان القيرواني من الحقل يدل على أن اليوم لم يكن ١٥ نيسان للسبب المتقدم، مردود عليه بأن الكتاب لم يقل أن سمعان كان يشتغل في الحقل في ذلك اليوم، و ليس هناك دليل على أن الحقل كان بعيداً عن أورشليم بأكثر من المسافة المسموح بقطعها في الأعياد المسماه «سفر سبت».

ويرد أصحاب هذا الرأي على قول أصحاب الرأي الأول بأن صلب السيد قد تم في نفس الوقت الذي كان الفصح يذبح فيه، أن هـذا مجرد تصور، وليس رأيا مأخوذاً من الكتاب.

أما عن استعمال الخبز في أيام الفطير، فيرد أصحاب الرأى الثاني، أن الكتاب ذكر أن السيد المسيح أخذ خبزاً، فلابد أنه فعل ذلك لقصد عنده، ونحن نقبل ما عمل في بساطة. هذا علاوة على أن الفطير لم يكن رمزاً لجسد الرب، بل أن الفطير رمز للحياة الجديدة التي للمؤمنين. بدليل قول الكتاب “إذن لنعيد ليس بخميرة عتيقة، ولا بخميرة الشر والخبث، بل بفطير الإخلاص والحق” (1کوه: ٨). والشيء الذي كان رمزاً لجسد الرب ودمه كان هو خروف الفصح، أو الخبز والخمر اللذان قدمهما ملکی صادق (تك١٤: ١٨).

هذا ولا ينبغي الربط بين ميعاد يوم الفصح وميعاد عيد الخمسين. فلم يكن الوقت بينهما دائماً خمسين يوماً، بل كانت الخمسين يوماً تحسب من غد يوم السبت الذي يلي الفصح كقوله “ثم تحسبون لكم من غد السبت من يوم إتيانكم بحزمة الترديد سبعة أسابيع تكون كاملة إلى غد السبت السابع تحسبون خمسين يوماً” (لا ٢٣: ١٥، ١٦). وليس المقصود بلفظ السبت في هذه العبارة إلا يوم السبت الذي يلى يوم الفصح. وقد كان يوم الخمسين دائماً عند اليهود، يقع يوم أحد من كل عام.

وبالجملة يرى أصحاب الرأي الثاني أنه الرأي المأخوذ من قصة الأناجيل الأربعة، مع عدم محاولة تحميل بعض الآيات معان غير معانيها الواضحة، مثلما يفعل اصحاب الرأي الأول بإزاء العبارة الواردة في (مر١٤: ۱٢) “وفي اليوم الأول من الفطير حين كانوا يذبحون الفصح” وما شابهها.

 

 

العظة الخامسة لآباء وخدام معاصرون – يوم خميس العهد

بين الفصح الرمزي والفصح الحقيقي – للمتنيح أنبا يؤانس أسقف الغربية[69]

(١)  اخترت ذبيحه الفصح شاه ذكراً

وقيل عن المسيح “كشاه تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه” (إش ٥٣ :٧)… “وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح، ولم أعلم أنهم فكروا عليَّ أفكاراً قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء فلا يذكر بعد اسمه” (إر١١: ١٩).. أما كونه ذكراً  فإشارة إلى رئاسته لكونه عريس كل المؤمنين (٢كو١١: ٢) “من له العروس فهو العريس” (يو ٣: ٢٩).

(٢) كان يشترط في خروف الفصح أن يكون بلا عيب وعمره سنة (حولياً):

وقيل عن المسيح “عالمين أنكم أفتديتم لا بأشياء تفنى… بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح” (١بط١: ١٨، ٢٩)… وكونه حوليا ابن سنة، فهذا يشير إلى أنه شاب ليس فيه ضعف الشيخوخة، ولا يعتريه القدم، بل يبقى دائماً جديداً في حياتنا.

(٣) كان خروف الفصح البريء يذبح نيابة عن مقدمه، وبهذا كان يعتبر فديه ..

ولما كان المسيح قد صلب عن البشرية، ومات وطعن في جنبه بالحربة وسال منه دم وماء، اعتبر أنه ذبح. يقول بولس الرسول “لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا” (١كو ٥ :٧)… “ليبطل الخطيئة. بذبيحة نفسه” (عب ٩: ٢٦)… وقد رأى يوحنا في رؤياه وسط العرش ” خروف قائم كأنه مذبوح” (رؤ٥: ٦). كما رأي السمائيين وهم يترنمون ترنيمه  جديده قائلين “مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه، لأنك ذبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وامة” (رؤ٥ :٩).

(٤) دم خروف الفصح المرشوش علي القائمتين والعتبة العليا لأبواب بيوت بني إسرائيل خلَّص أبكارهم من الملاك المهلك. قال الرب “فأرى الدم وأعبر عنكم”.

والمسيح دمه يطهر من كل خطيه ويخلص من الهلاك الأبدي “لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة” (عب ٩: ٢٢)… لكن لماذا على الباب وقائمتيه وعتبته العليا؟ الباب يشير الى مدخل الحياة. وكان الدم قديمًا يعتبر هو الحياة عينها (لا 17: ١١). فاذا حمل الباب الدم يكون قد حمل الحياة. من هنا نفهم كلمات المسيح “أنا هو الباب” (يو ١٠: ٩)… ولماذا على العتبة العليا والقائمتين… يقول القديس هيبوليتس الروماني: [أن الدم على العتبة العليا يشير الى الكنيسة أما القائمتين فيشيران الى اليهود والأمم]. أما القديس غريغوريوس النيسي فيرى أن رش الدم على العتبة العليا والقائمتين إنما يشير الى تقديس النفس بجوانبها الثلاثة العقلي والروحي والعاطفي… هذا ويلاحظ أن رش الدم على العتبة العليا دون السفلى حتي لا يداس بالأقدام، وفي ذلك يقول بولس الرسول “كم عقاباً أشر تظنون أن يحسب مستحقاً من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قدس به دنساً وازدرى بروح النعمة” (عب ١٠: ٢٩).

(٥) خروف الفصح كان يؤتي به في العاشر من شهر نيسان العبري ، ويظل تحت الحفظ حتى يذبح في الرابع عشر من الشهر .

والمسيح دخل مدينة أورشليم يوم أحد الشعانين الذي يوافق العاشر من نيسان، وظل يحضر يوميًا ً من بيت عنيا إلى أورشليم حتى ذبح وصلب في نفس موعد ذبح خروف الفصح… وهكذا انطبق المرموز اليه مع ما كان يشير إليه الرمز (أنظر يوحنا ١٨: ٢٨؛ ١٩: ١٣، ١٤).

واختيار اليوم العاشر من نيسان لحفظ الخروف اشاره الى مجيء المسيح بعد الناموس (الذي تشير إليه الوصايا العشر)، لكي يكمل هذا الناموس (مت ٥: ١٧). واختيار اليوم الرابع عشر من الشهر لأنه في هذا اليوم يكون القمر بدراً حيث أن الشهور العبرية شهور قمرية… وحيث أن الشمس ترمز للسيد المسيح شمس البر والقمر يرمز للكنيسة. فإنه من خلال الفصح الحقيقي تكتمل استنارة الكنيسة.

وبقاء خروف الفصح تحت الحفظ أربعة أيام قبل ذبحه من العاشر الى الرابع عشر من نيسان، إنما يشير الى الأربع فترات التي تغربتها البشرية حتي تدخل بدم الفصح الحقيقي الى السماء. وهذه العصور هي: عصر ما قبل الناموس (الشريعة المكتوبة)، وعصر الناموس ثم عصر الأنبياء وأخيراً عصر المسيح.

(٦) كان الخروف بعد ذبحه يشوى على سفودين متقاطعين (سيخين متعامدين). علي هيئة صليب .

والسيد المسيح مات على الصليب. والحق أنه لا يوجد تطابق بين الرمز والمرموز اليه أكثر من ذلك… كان يمكن أن يؤكل الخروف مشويًا على النار بأية صورة وبأي وضع. لكن كونه يشوى على سيخين متعامدين. فلابد وأن الله كان يلفت الأنظار الى الفصح الحقيقي في ملء الأزمنة. لقد أمرهم الرب بأن يأكلوا الخروف مشوياً على النار، وحذَّرهم من أكل شيء منه نيئاً أو مطبوخاً. ومعنى ذلك أن الشيّ بالنار كانت هي الطريقة الوحيدة المسموح بها .

والمسيح له المجد احتمل آلاماً مريرة في نفسه وجسده، حتي ان داود يتكلم بروح النبوة عن آلام المسيح ويقول “صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي” (مز ٢٢: ١٤). ومعلوم أن الشمع لا يذيبه سوى النار والحرارة. وهذه كلها إشارة الى شدة آلام مخلصنا التي رمز لها بالنار .

(٧) كان الأمر يقضي بأن الخروف يجب أن يؤكل صحيحاً ولا تكسر عظمة من عظامه:

والمسيح عظمة من عظامه لم تكسر. هكذا يقول داود بروح النبوة “تحفظ جميع عظامه. واحد منها لا ينكسر” (مز ٣٤: ٢٠)… يقول يوحنا “فأتى العسكر وكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات” (يو ١٩: ٣٢، ٣٣).

(٨) كان أكل الخروف يتم علي أعشاب مُرّة

والأعشاب المُرّة تشير الى مرارة عبوديتهم في مصر، والى مرارة الخطية والضيقة التي احتملها ابن الله نيابة عن البشر جميعاً… أنها خطايا كل العالم. ومن ناحية أخرى فإن أكل الخروف على أعشاب مُرّة يشير الى شركه آلامنا مع الفصح الحقيقي.

“لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهاً بموته” (في ٣: ١٠)… إنها إشارة دائمة متكررة للتذكر الدائم لمذاقة الموت الذي يقتبله المسيح نيابة عن البشر …. ومن ناحية ثالثة فإن الأعشاب المُرّة تشير الى مؤهلات إتحادنا بالفصح الحقيقي بالتوبة والندم والاعتراف بالخطية .

(٩) كان يجب ألا يبقي شيء من الخروف حتي الصباح، بل يؤكل جميعه في العشية. وهكذا أنزل المسيح عن الصليب في مساء يوم صلبه وموته…

(١٠) كانت شريعة خروف الفصح تقضي بأن الإنسان النجس لا يجوز أن يأكل منه، وإلا فإنه موتاً يموت. وفي هذا إشارة الى ان من يستهين بذبيحة المسيح الكفارية – الفصح الحقيقي – نصيبه الموت الأبدي “من خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة. فكم عقاباً أشر تظنون أنه يحسب مستحقاً من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قدس به دنساً وازدرى بروح النعمة” (عب١٠: ٢٨، ٢٩).

(11) في شريعة خروف الفصح أمر الله بني إسرائيل أن يأكلوا فطيراً دون الخبز المختمر مدة سبعة أيام. أما السبب فلأن الخمير يشير إلى الخطية والشر  (لو ١٢: ١٠، ١كو ٥: ٧، ٨)، أما عدد السبعة فإنه يشير الى الكمال. والمعنى هنا أن المؤمن الذي تقدس بدم حمل الفصح الجديد، يجب عليه أن يمتنع عن الخطية حياته كلها التي يرمز لها بالسبعة أيام…

(١٢) إن قصة خروف مرشوش على أبواب البيوت ينجي من بداخلها من هلاك محقق؟!! لو قال موسى لشعبه أن يستعدوا للحرب من أجل الخروج من مصر لكان الأمر أسهل في تصديقه، مقبولاً على مستوى العقل… لكن هذا مثالاً لجهالة الصليب!!… ماذا يقول الرسول بولس: “إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله.. نحن نكرز بالمسيح مصلوبا لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة وأما للمدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله” (١كو ١: ١٨، ٢٣، ٢٤).. ومازال كثيرين يتساءلون في سخرية، كيف أن الدم المسفوك على الصليب يخلص العالم كله ويفديه ويقدسه؟! لكن هذا يتم بالإيمان على نحو ما حدث قديمًا زمن موسى الذي قال عنه الرسول بولس “بالإيمان صنع موسى الفصح ورش الدم لئلا يمسهم الذي أهلك الأبكار” (عب ١١: ٢٨).

 

أمور لها مغزى تتصل بخروف الفصح:

(١) سبق الضربة العاشرة والأخيرة- ضربة الابكار – تسع ضربات، كان فرعون يماطل فيها ويرفض ويتقسى قلبه. لكن الضربة العاشرة كانت حاسمة، وخرج الشعب بعدها… إن الضربات التسعة إنما تشير رمزيًا الى محاولات الإنسان لتخليص نفسه وتحريرها من العبودية بجهده الخاص بدون الدم الذي اتسمت به الضربة العاشرة… لكن هذه الضربة العاشرة والاخيرة إنما تشير بغاية الوضوح إلى أنه لا خلاص الا بالدم والفداء “بدون سفك دم لا تحصل مغفرة” (عب ٩: ٢٢).

(٢) الضربة التاسعة السابقة لضربة الأبكار والمتصلة بخروف الفصح، كانت هي ضربة الظلام على كل أرض مصر “كان ظلام دامس على كل أرض مصر ثلاثة أيام لم يبصر أحد أخاه ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام” (خر١٠: ٢١- ٢٣).. والمتأمل في حالة الناس مدة ضربة الظلام هذه، يرى فيها كرمز بؤس البشرية قبل أن تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها الذي هو المسيح (ملا ٤: ٢)، والعدد ثلاثة (ثلاثة أيام الظلام) تشير إلى اكتمال الظلام…

(٣) في الضربات التسعة الأولى لم يطلب الله من الشعب الاسرائيلي أن يفعلوا شيئًا… كان موسى وهارون هما اللذان يقومان بالضربات والاتصال بفرعون. أما الضربة العاشرة فقد كان للشعب دور فيها… كان عليهم أن يختاروا الخروف ويحفظونه أربعة أيام، ثم يذبحونه ويرشون دمه ويأكلونه مشوياً… إن هذا الذي حدث يذكرنا بعبارة القديس والفيلسوف المسيحي أغسطينوس “الله الذي خلقك بدونك، لن يخلصك بدونك”….ومعنى هذا أن الله الذي خلق الانسان دون أن يكون له أي دخل أو يشترك في خلقة ذاته، حينما يخلصه، لا يخلصه إلا باشتراكه في خلاص نفسه… ونعني باشتراكه في خلاص نفسه، جهاده الروحي ضد العالم والخطية ومن أجل الحياة المقدسة.

(٤) إن ضربة الأبكار تمت في نصف الليل “إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر” (خر ١١: ٤). ان نصف الليل هو رمز لموعد مجيء الرب للدينونة الأخيرة. ولقد أشار السيد الى ذلك كثيراً في أمثاله وأحاديثه كموعد لمجيئه الثاني العتيد (أنظر مثل العشر عذارى في مت ٢٥: ٦) أضف الى ذلك أنه في ظل الليل بعيدًا عن نور النهار الواضح، يتحقق العدل في الشياطين وجرائمهم القاتمة كما يقول القديس هيبوليتس الروماني …

(٥) قال الرب لبني إسرائيل عن الفصح وموعده “هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور. هو لكم أول شهور السنة” (خر١٢: ٢).. كانت السنة اليهودية تبتدئ مع الخريف في شهر تيشري الذي يقابل أكتوبر .

لكن ابتداءً من الفصح أصبح لليهود تاريخان، أخدهما ديني والآخر مدني .

وأصبح نيسان الذي يقابل شهر أبريل حيث يذبح خروف الفصح هو أول شهور السنة الدينية عندهم… ومعنى ذلك أنه بعد الليلة التي ذبح فيها الخروف الذي خلص بني إسرائيل، يأتي اليوم الأول من سنة جديدة.

وهذه ترمز إلى تاريخ جديد وحياة جديدة، أسقط فيه زمان العبودية بمرارتها وضيقها… وهكذا يتضح المعنى أن الدم هو الأساس لحياة جديدة .

(٦) لم يكن ذبح الخروف ورش دمه على الأبواب هو كل شيء، إذ كان لابد له أن يأكلوه… والأكل هنا إشارة الى قبول الفادي المخلص الذي يتحد لحمه بلحمنا… يقول بولس الرسول “لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه” (إف ٥: ٣٠)… إن رش الدم فقط على الباب الخارجي إنما  يشير إلي الانتماء الظاهري لشعب الله. لكن المطلوب ليس الانتهاء الظاهري، بل الاتحاد بالله لنصير واحداً معه وبه. هكذا نفهم كلمات رب المجد “إن لم تأكلوا جسد ابن الانسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم” (يو ٦: ٥٣).

(٧) كان محظوراً على الغريب غير المختتن أن يأكل من الخروف… والختان كان علامة الانضمام الى جماعة الله. وفي نفس الوقت كان رمزاً للمعمودية في العهد الجديد، التي بدونها لا حق لإنسان أن يتمتع ببركات المسيح في العهد الجديد، المتمثل في الأسرار المقدس… يقول أثناسيوس الرسولي في الرسالة السادسة من رسائل القيامة [الانسان المخادع وغير النقي القلب… هذا غريب عن القديسين، ويحسب غير مستحق أن يأكل الفصح… لهذا عندما ظن يهوذا أنه حفظ الفصح، بينما كان يدبر خداعاً ضد المخلص، صار غريباً… وهكذا بينما كان يأكل نقبه الشيطان ودخل الى نفسه].

 

 

العظة السادسة لآباء وخدام معاصرون – يوم خميس العهد

معنى التناول باستحقاق – للمتنيح أنبا يؤانس أسقف الغربية[70]

كثيرون يحجمون عن التناول من جسد الرب ودمه مع وجود الرغبة لديهم، ويرجع احجامهم الى تهيبهم من السر وعدم فهمهم لمعنى الاستعداد الواجب للتقرب من الأسرار المقدَّسة، وتخيفهم وتهزهم كلمات الكاهن في بدء صلوات الأواشي قبل مجمع القديسين في القُدَّاس الباسيلي “اجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نتناول من قدساتك طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا “. وأيضاً كلماته قرب نهاية القُدَّاس “القدسات للقديسين”. ثم كلمات الشماس التي يرددها قبيل التناول مباشرة “صلوا من أجل التناول باستحقاق من هذه الاسرار المقدَّسة…” فما هو الاستعداد الواجب والتناول باستحقاق إذن؟.

هل هو تقدم الانسان بلا خطية، وتطهير حياته من كل شر وشبه شر؟.

من الامور الأولية في الايمان المسيحي أن الجهاد الشخصي لا يكمل الانسان، انما يكون ذلك من عمل النعمة الالهية دون سواها .. وفِي ذلك يقول معلمنا بولس “لأنه ان كان بالناموس بر فالمسيح اذن مات بلا سبب” (غل ٢: ٢١). واحجامنا عن التقدم للتناول حتي نتكمل، معناه أننا نريد أن نكمل أنفسنا بأنفسنا، لا أن نأتي الى الله بما فينا من نقائص وضعفات ليكملنا ونحن نعلم أن الابن الضال لم يقبل الى أبيه بعد أن خلع عنه ثيابه الرثة ولبس اللباس اللائق، بل ذهب لأبيه كما هو، وأبوه هو الذي وضع عليه الحلة الأولى، والحذاء في قدميه، والخاتم في يده !! هكذا حياتنا لا تتكمل الا باتصالها بالله .

ان الاستعداد الصحيح للتناول هو التوبة الصادقة من القلب عن اخطائنا الماضية كلها، والعزم من القلب على تسليم الحياة لله والعيشة له في قداسة وتقوى، والتخلص من كل ضعفات النَّفس المعطلة لعلاقاتنا به.

والتناول باستحقاق هو التقدم برهبة وخشوع وتقدير لعظمة هذا السر مع الشعور بعدم الاستحقاق للدنو منه، وعلي ذلك فان الانسان المسيحي يتقدم كمريض يلتمس دواء يبرأ به من سائر أوجاعه.. وفِي ذلك يقول القدِّيس يوحنا ذهبي الفم تعليقاً علي العبارة التي يقولها الكاهن “القدسات للقديسين”: “إن الكاهن يقول القدسات للقديسين، والشعب يجاوب حاشا اننا لسنا قديسين بل نحن خطاة وغير مستحقين لهذه التسمية. انما القدوس الوحيد ، بل قدوس القديسين هو يسوع الذي تجسد لأجل خلاصنا. ولهذا يصرخ الشعب واحد هو الآب القدوس، واحد هو الابن القدوس، واحد هو الروح القدس آمين “.

أما نداء الشماس فهو تحذير لمن يجرؤ على التقدم بغير مبالاة وبدون اكتراث، الأمر الذي أشار اليه معلمنا بولس بقوله “لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميز جسد الرب” (1كو١١: ٢٩). وعن نفس الأمر قال أيضاً القدِّيس بولس في الآية السابقة لهذه “لكن ليمتحن الانسان نفسه، وهكذا يأكل من الخُبز ويشرب من الكأس” (١كو ١١: ٢٨). هذا هو بيت القصيد “ليمتحن الانسان نفسه”، ويرى هل هو اعترف اعترافا أميناً.. وفِي ذلك يقول القدِّيس يوحنا ذهبي الفم أيضاً “فلا يتقدم أحد غافلاً ولا متراخياً، بل فلنبادر جميعنا بحماسة وحمية ونهضة.. ويجب أن نكون من كل جهة ساهرين لأن القصاص المعد للمشتركين بدون استحقاق ليس صغيراً. تفطن كم أنت أيضاً تتمرمر من الذي خانه والذين صلبوه. فاحترس اذن من أن تصير أنت أيضاً مجرماً في جسد المسيح ودمه” .

ويحدث أحياناً بعد العزم الكامل والدخول في العهد مع الله اننا – بسبب الضعف البشري الذي كان كثيراً ما يلحقنا – نقع في نفس الخطايا القديمة التي عقدنا العزم على التخلص منها، لا عن تعمد أو استهانة. لا تخف يا أخانا العزيز، فحتي عند حدوث ذلك لا نيأس بل لننهض متذكرين كلمات الرسول: “يا أولادي اكتب اليكم هذا لكي لا تخطئوا، وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار . وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً” (١يو ٢: ١، ٢).

 

الطهارة الجسدية اللازمة للتناول

كما أن التناول من الجسد والدم الأقدسين يتطلب استعداداً وطهارة روحية، فهو يستلزم أيضاً طهارة جسدية واجبة:

في حالة الاحتلام والفيض المنوي عند الذكور يمتنع عن التناول في نفس اليوم لأن ذلك يعتبر فطراً.

في فترات الطمث والولادة عند الأنثى يمتنع عن التناول. في حالة الولادة يمتنع مدة أربعين يوماً في حالة المولود الذكر، وثمانين يوماً في حالة المولودة الأنثى.

يمتنع الازواج والزوجات عن المعاشرة الجنسية ليلة التناول باعتبارها فطراً .

علي أنه في الحالة الأولى بشقيها – الاحتلام والفيض – اذا تكرر حدوثها في الليالي المزمع للشخص أن يتقدم فيها للتناول، يمكنه أن يكشف الأمر الى أب اعترافه، لأنه يحدث في بعض الأحيان أن تكون أمثال هذه الأشياء حرباً من عدو الخير ليحرم الانسان من التناول. وأب الاعتراف بعد استجلاء الأمر والوقوف عليه، يمكنه أن يوجههه التوجيه المناسب .

ويجب أيضاً أن يتقدم المتناول بجسد نظيف مغتسل من هذه الامور الجنسية كلها، وبثياب أيضاً غير ملوثة بأي فيض من هذا النوع .

 

علاقة الكاهن بالسر

هناك نقطة أخيرة نريد أن نطرقها قبل الفراغ من هذا الموضوع، حتي لا يكون الشيطان بما يزرعه من شكوك في أذهان بعض المؤمنين، حائلاً دون تمتعهم ببركات هذا السر الأقدس.

فبعض الناس ممن يحجمون عن التناول يعللون أحجامهم بأن الكاهن المصلي شرير، أو له نقائص وعيوب ظاهرة. ويستتبع ذلك من وجهة نظرهم – أو هكذا يدعون – شكهم في صحة هذا السر، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لهانت المشكلة، ولأمكن أن يقصدوا كاهناً آخر يرتاحون اليه والي تقواه ، لكن الأمر يتعدى الكاهن الذي أعثروا فيه الى معظم الكهنة تقريباً، مما يوضح لنا الحقيقة، ويظهر جلياً أن الشيطان وراء كل تلك الشكوك، ليحرم أمثال هؤلاء الناس من التمتع ببركات السر المجيد.

والسؤال الآن: هل لقداسة الخادم (الكاهن) علاقة بإتمام هذا السر، وهل الاستحالة من خبز وخمر بسيطين الى جسد المسيح ودمه الأقدسين لا تتم الا اذا صلى كاهن قديس؟.

الحق أن خادم الاسرار – أي الكاهن – يجب أن يكون ذا ايمان وتقوى وقداسة تليق بالخدمة وقدسيتها وجلالها.

لكن صحة الأسرار عامة لا تتوقف على ايمان الخادم أو صلاحه، وذلك لأن قوة السر والنعمة التي تمنح به لا تتعلق بخادمه، ولا تتوقف علي استحقاقه، بل هي متعلقة باستحقاق وارادة مخلصنا يسوع المسيح، واهب النعمة، وهي نتيجة الكلمة الالهية الفعالة “هذا هو جسدي ، هذا هو دمي ، اصنعوا هذا..” كما أنه تعالي قال قديماً للنور كن فكان وما يزال، وسوف يظل كائنا الى نهاية العالم، هكذا أسرار الكنيسة السبعة – ومنها التناول – لا تتعلق بتقوي الخدام أو بقوتهم، بل هي نتيجة حلول الروح القدس باستدعائهم اياه.

هكذا الخدام ليسوا سوى آلات منظورة يتمم الرب أسراره بهم، لإيصالها الى أبنائه المؤمنين باسمه، بطريقة سرية غير منظورة، والعقل البشري لا يمكن أن يصدق أن الله يجعل وصول نعمة للبشر أمراً مشروطاً بصلاح الخدام،

أضف الي هذا أنه لو كان ايمان الخادم وقداسته وصلاحه أموراً ضرورية لصحة مباشرة الأسرار وتوزيعها، لكن ذلك مثار تشويش عظيم في نفوس قابلي الأسرار، ويزيد الشكوك في كنيسة المسيح، وهذا بطبيعة الحال معطل لجني ثمار الاسرار الالهية، خلافًا للغاية السامية التي رتبها الرب لأجلها، ولوجد الانسان في ريب وقلق دائمين بشأن صحة الاسرار التي يكون قد اقتبلها، اذ لا يمكن لأحد أن يتحقق هل خادم السر علي جانب من الايمان الحقيقي والقداسة أم لا، إذ أن هذا يعرفه الله وحده فاحص القلوب و مختبر الكلى، وفضلاً عن هذا فان الكاهن الخديم قد يكون اليوم تقياً، ويصبح غداً شريراً وبالعكس تبعاً لتصرفه في حرية الارادة الممنوحة له من الله كسائر البشر، ونحن نكتفي هنا بإيراد بعض أقوال آباء الكنيسة القديسين في هذا الصدد:

 

قال القدِّيس غريغوريوس الثيئولوغوس في خطاب له عن المعمودية:

[كل واحد مستحق أن تصدقوا أنه يطهركم ويكفيه لذلك أن يكون واحداً من الذين أخذوا السلطان ليغفروا الخطايا[71] ولم يصيروا مرفوضين علانية (من الكنيسة)[72] فانظروا أنتم كيف يجب أن تفتكروا، عندي خاتمان أحدهما من ذهب والآخر من حديد، وعلي كل منهما الصورة الملكية نفسها، فأطبع بكل منهما طبعة على شمع، فبماذا تمتاز طبعة الواحد عن طبعة الآخر؟ إنها لا تمتاز بشيء، فإن كنت أنت ممتازاً بحذاقة عقلك فاحكم في طبع المعدن على الشمع، وقل لي أية صورة من هاتين الصورتين هي صورة الخاتم الذهبي، وأية هي صورة الحديدي، ولماذا الصورتان كلتاهما متشابهتان، فقابلوا على ذلك كل واحد من الكهنة الذين يعمدونكم، فالواحد يمكن أن يسمو على الآخر بالسيرة الروحانية، غير أن قوة المعمودية واحدة].

والقديس أوغسطينوس بعد أن أورد شهادة يوحنا المعمدان عن المسيح الواردة في (يو ١: ٣٣) وهي “هذا هو الذي يعمد بالروح القدس”، قابلها مع ما كتبه يوحنا الانجيلي في (يو٤: ٢) “مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه”، قال:

ن عمد بطرس فيكون هو (المسيح) المعمد، وإن عمد بولس فيكون هو المعمد، وإن عمد يهوذا فيكون هو المعمد… لأن ما أعطي لواحد لا يختلف باختلاف الخدام، بل انه متساو، فإنه قال: “هذا هو الذي يعمد”. ويؤيد ذلك ما كتبه الرسول “ليس الغارس شيئاً ولا الساقي، بل الله الذي ينمي” (١كو ٣: ٧)، لأن كل ما في السر من القوة والفاعلية إنما هو للمسيح، وليس للكاهن أي الخادم إلا الخدمة، وهو لا يقدر أن يقاوم قوة الله] (في يوحنا مقالة ٦ عدد ٧، ٨) .

وقال أيضاً في كتابه الثالث ضد كراسكونيوس رأس ٨:

[لا فرق بين أن يوزع الأسرار خدام أبرار أو خطاة، فمثلها مثل البذار التي تلقى على الأرض بيد الفلاح سواء كانت نظيفة أو قذرة ويأتي بالثمر على السواء. ولو تعلقت فاعلية الأسرار بقداسة الخادم أو عدمها لتعلق خلاصنا بحريتهم]

ونخلص من كل ذلك الى أن الخدام ما هم إلا آلات في يد الرب يتمم بهم المسيح نفسه، بفعل روحه القدوس، تقديس هذا السر كما وباقي الأسرار أيضاً، وعلي ذلك فيجب ألا يساورنا أدنى شك في صحة وفاعلية هذا السر بصرف النظر عن الخادم الذي يصلي، وعلينا أن نتقدم في ثقة وإيمان شاكرين محبة الله وحنوه ورحمته التي دبرت لنا “هذا السر العظيم الذي للتقوى”.

 

 

العظة السابعة لآباء وخدام معاصرون – يوم الخميس

كيف أتقدم للشركة المقدسة – للمطران انطوني بلوم[73]

حينما نزل موسى من على جبل سيناء بعد أن رأی مجد الله وليس الله نفسه، كان وجهه يلمع لدرجة أنه لم يستطع أحد أن يحتمل لمعانه، مما جعـل موسى يضع برقعاً على وجهه حتى يستطيع الشعب أن يقف أمامه ويسمعوا الرسالة التي أعطاها له الله.

وهذا يحدث ـ طبعا بدرجة أقل جداً جداً ـ لنا حينما يمتلىء قلبنا بفرح عظيم، حينما نصير وجهاً لوجه مع شيء يملأنا بالدهشة، وبفرح لا ينطق به، وهو ما يقودنا بطريقة ما إلى احساس العبادة.

هذا يمكن أن يحدث حينما نتقابل مع شخص ينقل الينا المحبة، شخص يكشف لنا شيئاً عن الله أو شيئاً منه لم نكن قد أدركناه من قبل. هذا يمكن أن يحدث لنا حينما نلتقى بالله في السكون، في هـدوء الطبيعة. هذا يمكن أن يحدث لنا بطرق كثيرة.. ولكن من يراه ويدركه لا يمكن أن يخطئه.

فالناس يدركون أننا قد رأينا شيئا ما بعيون قلوبنا، يدركون أن شيئاً ما قد أضاء حياتنا واخترقها، وأن هذا النور الخفي يمكن أن يُرى في عيوننا، وعلى وجهنا.

فكيف إذن يحدث أننا نأتي إلى التناول من جسد المسيح ودمه مـرة بعد الأخرى: البعض يأتون إلى التناول كل أسبوع، والبعض يتناولون مرات أقل، ومع ذلك فلا أحد يلاحظ لمعان مجد الله عـلى وجهنا، وفي عيوننا، أو في الحقيقة أن مجد الله لا يظهر في كل كلمة من كلماتنا، لا يظهر في العمق العميق الذي في الداخل، لا يظهر في كل عمل نعمله بطـريقة لائقـة بالله نفسـه؟..

وأيضاً، كيف أننا نأتي إلى التناول سنة بعد سنة ونحن نكاد لا نعي أو ندرك أي شيء عن ذلك الأمر العظيم جداً والذي يفوق الوصـف الذي قد حدث لنا.

نذكر أن القديس سمعان اللاهوتي الجديد وهو قد كان في سن الشيخوخة يقول أنه تناول من الأسرار في صباح يوم أحـد، وبعد ذلك اختلى في صومعته. وكانت صومعته عبارة عن كوخ من الطين، ولم يكن فيها شيء سوى دكة خشبية. فجلس عليها وصار ينظر إلى يديه، وينظر إلى جسده ويصيح: كم أن جسدي هذا مثير للرهبة!.. أنه ممتلىء بحضور الإله الحي … لقد أتى الله إلى العالم وسكب لاهوته في بشريتنا، والآن بتناولي الخبز والخمر، فإني اشترك في ناسوته المقدس وأيضـا في لاهوته.. هاتان اليدان، وهذه الأطراف التي شاخت جداً وصـارت ضعيفة للغاية هي أطراف الله المتجسـد!.. وهذا الكوخ الصغير جداً، والحقير جداً هو أوسع من السماء، لأن ملء الله يقيم فيه من خـلال سکناي هنـا!..

هل رأى أي واحد منا أي شيء يمكن أن يجعلنا نفهم اختباره هذا؟.. طبعا أن نختبر نفس اختباره هذا كثير جداً علينا، ولكني أقول مجـرد أن نفهم: هل حدث لنا مرة أن لمسـنا مجرد طرف هذا السر؟..

وإن كان الجواب: لا، فلماذا، لماذا؟.. أليس هذا بسبب أن الانسان يمكن أن يأتى إلى التناول بطرق عديدة؟.. فواحـد يمكن أن يأتي إلى التناول «كأمر مفروغ منه» بسبب أن اليوم عيد، أو بسبب أنه يوم أحد، أو بسبب أننا نظن أن الكلمات التي قيلت للرسل: “خذوا كلوا… اشربوا منها كلكم”. هذه الكلمات تنطبق علينا كلنا بدون تمييز، وذلك في حالة الرخاوة التي توجد فيها حياتنا المسيحية المصابة بفقر الدم.

ولكن هناك طريقة أخرى للتناول تحـدث من الاشخاص الذين يجوعون إلى الله، أشخاص يشعرون بشدة انهـم محرومون منه، وأنهم غير قادرين أن يصلوا اليه، يشعرون أنهـم غير قادرين أن يحلقوا بأرواحهم نحو الله، هؤلاء يأتون على ركبهم روحياً لينالوا من الله في الخبز والخمر اللذين جعلهما متحدين بجسد قيامته، ينالون ما لا نستطيع نحن أن نصل اليه وأعني به: انحدار الله إلينا وسكب نفسه فينا استجابة للجوع القاتل، استجابة لصرخة نفسنا وجسدنا، استجابة للصرخة، الصرخة العميقة لكل حياتنا ـ بشعور الأيتام في عالم لا يعثر فيه على الله..

ولكن هناك أيضا الطريقة التي كان القديسون يأتون بها الى التناول، باحساس الرهبة، وبشعور الخوف، «إنه نار» كمـا تقـول إحـدى الصلوات قبل التناول ـ «آه، ليتني لا احترق».. هل نحن واعون لهذا؟ هل نأتي إلى التناول بإحساس أننا نقترب من الله الذي هو نار آكلة؟ هل يمكننا أن نردد كلمات إشعياء التي اقتبسها الرسول بولس: “مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي؟” (عب٣١:١٠) فكيف يحدث أننـا نستطيع أن نأتي إلى التناول مرة بعد أخرى ولا نعرف شيئا من اختبار سمعان، ولا شيئاً من الجوع القاتل، ولا شيئا من الدهش لهذا اللقاء.. إنه ثقلنا، إنه عمانا، إنه عجزنا عن الرؤية هو ما يجعلنا نفعل هذا.

وهذا يذكرني بحياة أحد القديسين الروس في القرن الخامس عشر وهـو بفنوتيوس بوروفيسكي الذي كان متوحـداً في أحد الأديرة، ودعي ليقيم القداس الالهي لعـدم وجـود كاهن في الـدير، فبعد نهاية القـداس قال للرهبـان: لا تطلبوا مني مـرة أخـرى أن أقيم القـداس الالهي مهما كانت شدة حاجتكم! لأنه أن أرى ما قد رأيت، وأن اختبر ما قد اختبرت، هذا يمكن أن يحدث مرة واحدة فقط، لو حدث مرة ثانية فانی سأموت بالتأكيد!.

 

هـل نعرف شيئا عن هذا؟ هل نحن نشك أن مثل هذه الأمور موجودة أو أنها تحدث؟.. يجب أن نعطي وقتا للتفكير فيما نفعل!.. إن الله يقبلنا، ولكن بأي ثمن؟..

يقول القديس سيرافيم الذي من صاروف، لواحد من تلاميذه: [نعم حينما تصلي فإن الله يستجيب صلاتك في المسيح، ولكن تذكر الثمن الذي دفعه لكي يستطيع أن يعطيك ما تسأل!].

ـ إنه التجسد، وحياته على الأرض، وأسبوع الآلام، والصلب، والنزول إلى الجحيم ـ هذا هو الثمن الذي دفعه لأجلنا لكي نجرؤ على الاقتراب منه، فبأي رهبة، وبأي توقیر، وباحساس العبادة واحساس المسئولية ينبغي أن نأتي إذن إلى التناول؟.

ولكن كيف يحدث إذن أن نقترب جداً من النار ولا نحترق!..

وهذا فكر يسبب لي دائما احساساً بالخوف وهناك فقرة من أقوال سمعان اللاهوتي الجديد نفسه تقول أن الله لا يسمح لجسده المقدس ودمه الكريم أن يتدنس بواسطتنا أو فينا..

فاذا حدث أن أتينا إلى التناول بغير إكتراث وبدون استحقاق فإنه يسحب قوته النارية من الجزء الذي تناولناه مـن الخبز والخمر وذلك حتى لا نحترق ولا نتحطم.

ولكن كم يكون مرعباً أن نفكر أنه بسبب عدم استحقاقنا يمكن أن يحدث هذا!!..

لذلك فلنتذكر هذه التحذيرات التي نجـدها في سير القديسين وقصص تحول الخطاة.. ونسأل أنفسنا: کیف آتي إلی التناول؟..

هل بشعور الإحتياج الشديد ـ أم في رخاوة؟..

هل بقلب منكسر، بسبب أني أحتاج إلى الله أكثر من احتياجي للحياة نفسها أو أي شيء ـ أم بطريقة رخيصة أي بسبب أني عضو، عضو مسجل في كنيسته، ولكن ليس عضواً حياً في جسده؟..

فلنفكر في الأمـر بعمق، كمـا يقول الرسول بولس: “لنحكم على أنفسنا لكي لا يُحكَم علينا وندان”!.

 

المحرر:

يتحدث هذا المقال عن أعماق مشاعرنا التي نتقدم بها للتناول من جسد ودم الرب يسوع. وقوة وصدق هذه المشاعر تضفى كل مظاهر الوقار والتدقيق على الانسان المتقدم للتناول.

وأما رخاوة هذه المشاعر فتظهر (فتنعكس) في أنواع مختلفة من السلوكيات تتسم جميعا باللامبالاة والتهاون. جميعنا يختار الملابس التي تتلائم مع المكان والأشخاص الذين سوف نتقابل معهم. وننتقى أفضلها إذا كان اللقاء مع شخصية عزيزة أو ذات أهمية كبيرة، فما بالنا ولقاءنا مع رب المجد الذي يريد نقاء الداخل والخارج معاً.

لقـد خص السيد المسيح تلاميذه بهـذا السر العظيم يوم الفصح وحضروا تقديس السر.. ثم أمكن لهم بعـد ذلك أن يدركوا ويستوعبوا عملية الفداء والصلب ثم القيامة فصاروا مبشرين بقيامته معترفين بموته.. ولكن هناك من يعتقد أنه أفضل من هؤلاء التلاميذ، فلا يحضر تقديس الخبز والخمر ولا يشترك في الصلاة  ويتقدم بجسارة للتناول من الجسد والدم دون أن يعيش مع المسيح على الجبل يتعلم منه أو يسير معه في الجلجثه مقتفياً أثار الصلب.

هذه الرخاوة من جانب البعض تتطلب من الرعاة مزيداً من التدقيق وتوعية الشعب المتناول بضرورة الاستعداد الداخلي والخارجي للتنـاول بالاعتراف والحشمى والحضور مبكراً للقداس.. ويساعد الكاهن في توعية الشعب شماس وشماسة حتى لا يترك هـذا السر العظيم لضمائر واسعـة متهاونة..

بعض الآباء الكهنة لا يرغبون في حرمان أحد من التناول متمنيين أن يحدث الرب بجسده ودمه تغييراً في الجميع، ولكن اذا صار الملح بلا ملوحة فبماذا تصلحونه، ليكن لكم في أنفسكم ملح..

أنه مظهر مفرح هذا العدد الكبير من المتناولين لأن المسيح جمـع في جسده عدداً كبيراً من أعضاء الكنيسة. ولكن هل أصبح كل فرد متناول عضواً حياً عاملاً في جسد المسيح؟.. هل صار نوراً للعالم بعد خروجه من الكنيسة متناولاً؟!!.

نخشى أن يكون هذا العدد الكبير مكرهة في عيني الرب، لأن التناول صار عنده عادة بغير فهم ولا تقدير ولا تغيير سواء في الداخل والخارج.

 

 

 

العظة الثامنة لآباء وخدام معاصرون – يوم خميس العهد

يوم الخميس من البصخة المقدسة – للمتنيح القمص بيشوي كامل[74]

بسم الأب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

ما أعظم هذا اليوم يا أحبائي الذي فيه صنع معنا ربنا كل هذه الخيرات العظيمة.. هل يستحق الإنسان كل ما صنعه الرب في هذا اليوم؟ هل يستحق الإنسان أن يتنازل الرب ويغسل رجليه؟ هل يستحق الإنسان هذا الحب غير المحدود الذي يقدم فيه ربنا ليه جسده ودمه؟ من منا يستحق؟! من منا يستحق كل ما صنع لينا، إنه أكثر يا ربي من احتمالنا .. من يحتمل ما صنعت لينا؟ إن بطرس صرخ يا ربي وقال لا تغسل رجلي، لم يستطع أن يحتمل اتضاعك الفائق أو اتضاعك الإلهي، ولولا أنك يا ربي أنذرته وقلت له إن لم أغسل رجليك ليس ليك نصيب معي لما سمح ليك. من يحتمل كل هذا؟

الحقيقة يا أحبائي يوم خميس العهد ده قمة المجد بتاع الكنيسة، وبتاع الملكوت، وإن كان أحداث النهاردة كلها تتكرر مرة ثانية بكرة على خشبة الصليب فيما يبدو للناس إنه قبض على يسوع رغم إن هو اللي سلم نفسه كما يسجل لينا يوحنا الإنجيلي إنهم وقعوا على وجوههم، أما اليوم فالرب يسوع يقدم ذاته بمحض اختياره. والأكثر من هذا إن ربنا يسوع هذا اليوم لا يقدم ذاته فقط لنأكله، ولكن بكسر ذاته باكر صلبوه على الصليب وقدموه وهم لا يدرون أنهم يقدمون فصحاً للبشرية كلها كقول الرسول “لأن المسيح هو فصحنا الذي ذبح لأجلنا”. أما اليوم فالمسيح يقدم ذاته بملء حريته وبملء حبه وبملء اتضاعه.

تذكرون یا احبائي يوم الأحد الكنيسة علمتنا وكنا بنهتف كلنا ونقول أوصنا لملك إسرائيل لازم لازم لازم المسيح يملك على قلبي وعلى قلبك. لازم لازم يكون له كما يقول الكتاب مملكة مقدسة، وكما يقول الكتاب أيضا “ويجعلكم ملوك وكهنة”. لابد أن يملك، ولكن ما سمعنا قط وسوف لا نسمع أبداً أن هذه الطريقة التي بها يملك ملك على قلوب الناس.

كيف يملك ملك، يملك بالسيف وبالرمح؟ هل يوجد دين في العالم أو مذهب في العالم لم ينتشر إلا بالسيف وبالحيل وبالغدر والنفاق، لكن أحنا النهاردة المسيح ملك على قلبنا وصرخنا وقلنا مبارك الآتي باسم الرب، أوصنا لمملكة داود لملك داود، وسلمنا تسليم كامل للملك اللي جاي يملك على قلوبنا من شدة وقوة اتضاعه، من شدة وقوة محبته أتغلبنا كما يقول سفر النشيد “حولي عينيك عني لأنهما قد غلبتاني” ده نوع جديد من الغلبة. الناس افتكرت أنها تغلب بس بالسيف وبالرمح وبالمكر وبالخداع وبالمال وبالخيانة، لكن النهاردة بيقول حولي عينيك لأنهما قد غلبتاني. أنت غلبتنا يا ربي احنا النهاردة في الكنيسة مغلوبين.. مغلوبين على أمرنا قصاد اللي أنت عملته معانا النهاردة. إحنا محدش مننا قادر يفتح بقه ولا يوري لك وشه حتى ولا يرفع عينه لفوق، إحنا مغلوبين مغلوبين. إحنا نظل حياتنا وعمرنا كله وأبديتنا نخدمك ونقول لك “لك الملك والقوة والمجد والعز إلى الأبد آمين” إحنا اتغلبنا خلاص يا يسوع بحبك غير المحدود. دخل يملك ويومها كنا بنرد كلنا بنقول الجالس فوق الشاروبيم اليوم ظهر في أورشلیم راكبا على أتان وجحش ابن اتان، الجالس فوق الشاروبيم.. من يحتمل هذا إن اليهود الذين لمست عيونهم. لم يدركوا سر عظمة المخلص فاستهزأوا به من شدة تواضعه، ولكن نحن أولاده المخلصين عندما نرى الجالس فوق الشاروبيم يركب على أتان كالتدبير، الذي الشاروبيم يغطون وجوههم من أجل بهاء عظمة مجده، وقف أبناء العبرانيون يهتفون بدل الشاروبيم ويرحبون بالملك الوديع المتواضع وتمت نبوة زكريا “لا تخافي يا ابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك وديعا ومنصورا وراكبا على أتان وجحش ابن أتان”. لا تخافي لا تخافي يا كنيسة المسيح لأن ملكك سيأتيك وديعًا ومنصورًا وراكبًا في ملء اتضاعه على أتان وجحش ابن أتان.

 

كانت هذه هي الخطة الإلهية الخطيرة التي رسمتها القدرة الإلهية للاستيلاء على أولاد الله واختطافهم من ملكية الشيطان وانضمامهم لملكوت المسيح، كانت هذه الخطة التي دبرها العقل الإلهي أن يستولي على قلوب البشر بطريقة لن يسبق لها مثيل إلا بإشارات رمزية بسيطة. موسى وقف قدام ربنا قال له: أنت هتهلك الشعب؟ قال له: هاهلكه دول خاينين أنا عملت معاهم حاجات كثيرة خالص أنا فتحت البحر الأحمر.. أنا عبرت بهم… أنا نزلت لهم المن من السماء.. أنا فتحت لهم ينبوع ماء من الصخرة والصخرة تبعتهم وكانت الصخرة المسيح. كان جنبي بینزف ماء وبعد كدة راحوا جابوا تمثال، وراحوا يقولوا “هذه هي آلهتك يا إسرائيل التي أخرجتك من أرض مصر” دول يستاهلوا؟!.. يستاهلوا الصخرة اللي تبعتهم؟!.. يستاهلوا جنب المسيح يشربوا منه؟! وكانت الصخرة المسيح.. كان بيسقيهم من جنبه، ولكن يا أحبائی موسی تجرأ أمام الله – موسى إنسان – أيضا الأنبياء بيتنبأوا بأمور ملهمة من الروح القدس، قال له أمح اسمي من سفر الحياة، قال له: موسى أنت الرمز بتاعي أمحي اسمك من سفر الحياة إزاي؟! متتمحيش.. ده أنا الحياة يا موسى، وأنت خادمي. إزاي يتمحي اسمك من سفر الحياة؟!، هريحك يا موسی.. نبيا مثلي يقيم لكم الرب مثلك من أخوتكم يقيم لكم الرب.. في واحد ثاني هايجي من أخوتكم زيك كدة هيقول له إيه؟ موتني ولا تموتش الناس دول كلهم.

آدي وجه المقارنة بين النبي أو بين المسيح وبين موسى النبي. لا قال له نبيا من أخوتكم وشعب بني إسرائيل دول ولاد يعقوب وأخوات يعقوب يبقى عيسو مش إسماعيل، زي ما بيقولوا كذب في الجرائد أخوات يعقوب يبقى عيسو وعيسو اللى هو سكن في منطقة شرق الأردن اللي منه الآدوميين، وهيرودس، والجماعة دول.. فأخوة يعقوب هم الآدوميين اللى هم ولاد عيسو. إسماعيل ده يبقى أخو جدهم مش أخوهم، لكن سيبنا من هذا الجدل السخيف .

نبيا مثلي يقيم لكم الرب في أية؟ قال أنا قلت لربنا أمحي اسمي من سفر الحياة.. أموت وهم يخلصوا، قال له هو اللي هيجي هو اللي هيموت لأن أنت یا موسى لما تموت تهلك.. لكن اللي هيجي يموت هو اللي هيوهب الحياة، وإيه يعني؟ موسى موتك يا موسى هيعمل إيه؟ إذا كنت أنت يا موسى بتقول كدة تتعاطف على الشعب فأنت یا موسى هتموت وهم يموتوا لأنك متقدرش تفديهم، لكن كلمة الله المتجسد هو اللي هيقدر يفديهم ويخلصهم بموته آدي معنى الآية، ده المسيح وضع في خطته الإلهية أن يفتدى البشرية بمحبته وباتضاعه فولد في مزود حقير جدًا الذي لا تسعه السموات ولا سماء السموات، الجالس كما يقول إشعياء النبي الجالس على كورة الأرض الجالس على كورة الأرض وسكانها كالجراد الذي كالمياه الذي في المحيطات دی بكفه الذي لا تسعه السموات، سكن يقول عنه لوقا الإنجيلي لم يكن له مكان في المنزل (موضع في المنزل)، ملقاش أوضة.. ملقاش مكان.. ملقاش حتة.. تحت السلم ينزل فيها، فاتولد في مكان الحيوانات. ماهذا الاتضاع يا ربي؟ ومن يقدر أن يحتمله؟ الشاروبيم يغطون وجوههم أنهم لا يطيقون أن ينظروا هذا المنظر، كيف أنت الذي لا تسعك سماء السموات تولد في وسط البهائم من أجلي أنا؟ ثم كيف تدخل أورشليم أيها الجالس على الشاروبيم لكي تجلس على أتان وجحش ابن أتان من أجلي أنا أيضا الإنسان الحقير .

 

لو جه واحد قدامك وحتى له مصلحة عندك ووطى على رجليك عشان يبوسها تقول له أوعی إبعد قوم يا أخي متبوسش رجلي إيه ده كتير خالص .. أمال العكس لوجه رئيس جمهورية وشاف أحقر إنسان وأكبر إنسان مجرم ووطى على رجليه يبوسها.. هل هذا يعقل؟.. لا يعقل.. إذا هذا الاتضاع الذي قدم لي وليك النهاردة إتضاع على مستوى الله، ليس على مستوى البشر، إتضاع إلهي والناس افتكرت إنها تثبت لاهوت المسيح مع أنه قوم ميتين وشفي مرضى و عمل آيات ومعجزات، واحنا ها نثبت إتضاع المسيح من شدة إتضاعه. الإله الذى الملائكة تخاف وترتعد أمامه ينحني اليوم أمام رجلي أنا الإنسان الدنس الخاطئ لكي يغسلها هل يعقل هذا؟!!.. إنه لا يحتمل هذا إنسان، أنت متقدرش تعمل لإنسان خدام عندك في البيت كدة، أنت متقدرش تعمل لواحد موظف عندك بالطريقة دي.. فما بالك إذا كان الله يصنع للخطاة؟!! والأخطر من كل هذا يا أحبائي الذي لا نطيق أن نسمعه ونحتمله أن المسيح رب المجد وطى على رجلين يهوذا الذي كان مزمعًا أن يسلمه.. أرأيتم أكثر من هذا؟!!.. وطى على رجلين الخائن الذي أراد أن يطعنه.

إحنا إمبارح قلنا مش يهوذا مش المرأة اللي سكبت الطيب… المسيح اللي سكب نفسه.. اللي سكب نفسه. المسألة مش مسألة حركات جسدية لكن ده وطی على رجلين الراجل اللي هيطعنه بالخنجر من ظهره.. “الذي أكل خبزي رفع على عقبه” وحيوطي على رجلين يهوذا اللي أكله اللقمة في بقه، أي اتضاع يكون هذا.

ربى يسوع المسيح لا نحتمل كل هذا.. لأننا سنصير عبيد ليك، لكي تملك أنت يا ربي على قلبنا ملك كامل، ربي يسوع لو جه ملك وحاول يملك علينا بسيف وبرمح سوف يا ربي لا نخضع ليه، ولكن كونك توطي على رجلي وتوطي على رجلينا وتغسلها وتوطي على رجلينا أحنا اللي بنخونك أحيانا كثيرة.. ماجتش ورفضت يهوذا وقلت له أمشي أطلع بره مش حوطي على رجلك واغسلها، مفيش في يوم يا ربی جیت لي وقلت لي أنت استهترت بوصایاي واستهترت بمذبحي أو استهترت بإنجيلي.. مفيش يوم يا ربی جيت قلت لي أبعد مش ها غسل رجليك ماجيتش يوم أبدًا وقلت لي مش هاوطى على رجليك واغسلها .. لكن كل يوم يا ربي كل يوم في اتضاعك العجيب.. في اتضاعك العجيب توطي على رجلي وأنا باسئ اليك، وأنا بخونك، وأنا بصنع الشر .

 

مفيش يوم عدي في حياتي ما عملتش الشر يا يسوع، وما فيش يوم يا ربی استنكفت أو قرفت مني أو طهقت منى أو قلت لي إن أنا مش هاوطي على رجليك واغسلها. كيف بعد هذا يا ربي لا أصير عبد ليك؟ وتملك أنت على قلبي وحياتي .

ربي يسوع إتضاعك يحطم قلبي.. إتضاعك لا أحتمله.. مش عارف أقدم لك إيه؟ أعمل لك إيه يا ربي.. أنا اللي بانكرك وباخونك، بأعمل حاجات وحشة.. نفذت وصيتك وأنت توطي على رجلي كل يوم وتغسلها.. مش عارف أقول لك بقية عمري أقعد تحت رجليك أنفذ وصيتك بكل أمانة ودقة.. ميهمنيش الناس ولا يهمني کرامتي.. أدوس على نفسي بالجزمة عشان أنت الإله.. وطيت على رجلي أنا اللى باخونك وبادنس هيكلك المقدس، مفيش حد يملك على قلبي غيرك أنت..

أحبائي هذا الموضوع متروك لينا لكي نعيشه ليس لنسمعه . إني لست بإنسان بليغ حتى أعبر عن هذا الاتضاع، أو ماذا يصنعه يسوع معك؟ أو ماذا صنعه معنا في هذا اليوم معرفش أقول لك إيه لكن اللي حصل أنه وطى على رجلينا أحنا الخائنين وغسل رجلينا.. فماذا نقدم ليه بعد هذا؟ هل فيه قوة هل فيه شهوة في العالم هل فيه إغراء في العالم يا ربى يسوع يحرمني من إنك تكون أنت الملك بتاعي؟ هل فيه ملك ثاني يخش في قلبي؟ هل فيه شهوة ثانية تملك على قلبي بعد اليوم؟ هل يا ربي فيه نزعة تنازعك في القلب بتاعي؟ أقول لك.. لا فيه حاجة في القلب بتاعي أهم منك يا ربى يسوع خليها هل فيه حاجة تنازعك في القلب بتاعي؟ أبدا …

 

يا أحبائي بعد اليوم ساصير أنا يا ربي في ملكوتك وتصير أنت ملكي وإلهي. وأيضا ربنا يسوع قدم لينا أقصى درجات الحب وهذا الاتضاع يا أخوتي لابد أن يكون سببه محبة غير محدودة، فإذا كان الاتضاع غير محدود فالمحبة أيضا تكون غير محدودة، إنه اليوم يكسر ذاته ويقدم لي وليك.. يكسر ذاته ويقدم لي وليك جسده ودمه. عشان ناكل مش بيقدم لينا حاجة ثانية بيكسر ذاته وبيسفك دمه، دمي المسفوك وجسدي المكسور أقدمه ليكم يا أولادي ويا أحبائي.

ربى يسوع صحیح خيرك علينا كثير.. بتدينا القوة، وبتدينا الصحة، وبتدينا المال، وبتدينا الأولاد الكويسين، وبتدينا بركات كثيرة .. لكن هل ممكن تدينا ذاتك وتكسرها بكامل حريتك، ودمك تسفكه؟! وأحنا اعتبرناها كبيرة قوى إن أنت أفضت الماء من الصخرة الصماء في البرية، ورويت شعبك.. النهاردة أنت بتروينا بدمك وبتقدم لينا جسدك ودمك.. الأخطر من كل هذا يا حبيبي يسوع إنك قدمت جسدك للخائن الذي كان يضمر ليك شرا في قلبه، طبعا نشكر المسيح مفيش فينا واحد خائن صحيح، فينا ناس ضعفاء كقول الرسول “فيكم كثيرين مرضي وفيكم أيضا من يرقدون لأننا نتناول باستهتار، ولكن ليس فينا إنسان يتقدم إلى جسد الرب ودمه وهو يضمر الشر لله نفسه زي ما فعل يهوذا.

ولكن حتى حب يسوع كقول القديس أغريغوريوس في القداس “لا توجد قوة من النطق تستطيع أن تحد لجة محبتك للبشر”، فخيانة يهوذا لا يمكن أن تحد من محبة يسوع ليهوذا، خيانة يهوذا الصعبة دي متقللش من محبة يسوع ليهوذا. عشان كدة قدم له جسده وقال له خذ كل نصيبك في محبتي. مستحقش با ربی.. قال لأ.. نصيبك.. محبتي ملهاش حدود.. عندئذ يقول معلمنا يوحنا الإنجيلي أن يسوع للوقت قال الآن تمجد ابن الإنسان الآن تمجدت المحبة بأقصى حدودها لأن الخائن يأكل اللقمة. ولكن يا أحبائي .. أمام حبك يا يسوع ماذا نقول: أحببتنا وسكبت ذاتك على الصليب وكسرت نفسك واعطيتنا لنأكل ونحن في كل مرة نتقدم لا بد أن يكون في داخلنا غش وحاجات وحشة.. ومع ذلك تعطينا، ماذا نصنع نظير حبك لينا؟ ماذا يا رب نصنع؟ صدق اللي عملته المرأة وسكبت الطيب كان شوية.. أحنا حياتنا كلها على رأي القديس اغناطيوس تلميذ القديس بطرس الرسول “يقول مش هاحس.. مش هاحس أبداً إني باحب المسيح إلا إذا سفكت دمی زي ما سفك دمه عشاني.. وإذا حاولتوا إن أنتوا إذا كانت الوحوش هتكون هادئة (وهو بيتقدم للإستشهاد) هاحاول اغيظها عشان تفترسني عشان دمي ينزل عشان احس بحبي للمسيح.. عاوز الوحوش تطحني عشان أتحول إلى دقيق وأكون حنطة الباري. كما قدم ذاته وجسده لكي يكون طعاما لي .

أخيرًا يا أحبائی بأي احترام وبأي وقار ينبغي أن نحضر في الكنيسة بيت الله. الذي تنازل وغسل أرجلنا وأحبنا وقدم لنا ذاته.. بأي احترام يقف الواحد إزاي في الكنيسة يقف الواحد إزاي؟!! أخاف يا أحبائي إن احنا ندان لأننا نستهتر ببيت الله كثيرًا.. حتيجي الخماسين هتشوف الأفراح والأكاليل وتشوف اللي بيحصل فيها في الكنيسة هذا يليق ببيت الله؟!! هيجي تشوف في القداس إزاي أنا باقف واسرح بفكري هذا يليق باللي قدم ذاته ووطى على رجلي يغسلها؟ هتشوف ازاي.. لا أريد أن أفتح هذا الموضوع.. ولكن أتضرع إلى الله أن يعطينا احترام لبيته واحترام لجسده ودمه وإحساس بالمديونية إن أحنا مديونين ليه نظير تنازله وإتضاعه وغسله لرجلينا وتقديم جسده ودمه.

لإلهنا المجد الدائم أبدياً. آمين.

 

 

العظة التاسعة لآباء وخدام معاصرون – يوم خميس العهد

يوم الخميس الكبير – للمتنيح القمص لوقا سيداروس[75]

ما كان يخطر ببال أحد ما عشناه في ذلك اليوم، لقد دخل هذا اليوم  سجلات الأبد. ماذا صنع فيه يسوع؟.. أرسل اثنين منا لكي يجهزا ويعدا العلية المفروشة ثم ذهبنا. وحسب عادة آبائنا صنعنا العشاء الأول والثاني.. ولكن بعد العشاء الأول.. ارتسمت ملامح وجه  يسوع بجدية خطيرة ومشاعر يصعب الحديث عنها. كلنا تحولنا ننظر إليه..

لقد رأيته على قمة جبل التجلي ممجداً مضيئاً بنور لاهوته بمجد أسمى من نور الشمس. ولكن في هذه الليلة ملامحه تنطق بعمق السر المكنون. أخذ خبزاً على يديه.. هذا ليس في طقس العشاء  اليهودي .. شيء مختلف تماماً عما نصنعه في كل عام.

جعل الخبز على يديه، ثم رفع بصره نحو السماء إلى الآب كمثل ما رأيته مراراً وكما رأيته يخاطب الآب أمام قبر لعازر ويشكره أنه سمع له وأنه في كل حين يسمع له.

شكر الآب إذ قد كملت الإرادة وأكمل المسيح إرساليته التي أرسله الآب لها. كان كمن يختم أعمال خلاصه ويكمل كل البر الذي قال عنه يوم معموديته من يوحنا.

ما هو كمال البر يا سيدي؟

“العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته” هكذا كان يقول للآب. ثم بارك وكسر الخبز، ثم ناولنا الخبز قائلاً: “خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور عنكم وعن العالم كله “.. لم يفهم أحد منا ما سر هذا العمل العجيب.

قالها من سنوات إنه يبذل جسده ويعطي جسده مأكلاً حقيقياً ودمه يصير مشرباً حقيقياً. وقال للمعترضين: “الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم “وقال: “من يأكلني فهو يحيا بي”. وقال: “من يأكل جسدي ويشرب دمي يبثت في وأنا فيه”. وقال: “الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي”. ورجع کثیر من تلاميذه إلي الوراء وقالوا: “إن هذا الكلام صعب! من يقدر أن يسمعه”. ووقتها قال يسوع: ” ألعلكم أنتم أيضاً تريدون أن تمضوا؟” ولكني صرخت قائلاً: “يا رب، إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك”.

الآن يحقق يسوع وعده ويعطي جسده المبذول ودمه المسفوك قبل الصليب بساعات ونحن لم نكن نعلم. إذاً هو يعطينا الآن حياته فينا كقوله.

يعطينا أن نأكل الحق ونشربه. يعطينا ذاته.. يعطينا أن نكون فيه وهو فينا.. يعطينا أن نثبت فيه.. من يستطيع أن يستوعب.. لم يكن وقت للكلام فالموضوع أعظم من الكلام. بل بذل للذات وعطاء للذات للذين أحبهم.

أخذنا، أكلنا كلنا كما أعطانا، وشربنا الكأس التي هي العهد الجديد بدمه. وأحسسنا بالحياة الأبدية حياة المسيح تسري فينا.. شيء لا يوصف..

ما أعظمه من سر.. سر واهب الحياة.. حين يبذل ذاته ويستودع جسده ودمه في حياة مختاريه.. هذا السر عظيم.

ثم فاجأنا بأمر لم يخطر لنا على بال، إذ قام عن العشاء.. وأحضر مغسل وصب فيه ماء واتَّزَرَ بمئزرة وجلس على الأرض. كل ذلك ونحن ننظر إليه في ذهول.. يا سيد نحن موجودون، نحن نخدم، نحن نخضع ونطيع.. لماذا لم تأمر أحدنا أن يحضر المغسل أو يصب الماء.. أو.. أو.. لم نفهم كعادتنا قصده..

كل مقاصده كانت أعلى من فكرنا، ثم سأل يعقوب قائلاً: هات رجليك أغسلها.. من يستطيع أن يحتمل هذا؟!.. ولكن يعقوب تقدم صامتاً.. وقدم رجليه.. غسلهما يسوع ثم نشفهما. ثم دعا من بعده وهكذا..

ثم جاء إليَّ.. استكثرت ذلك على نفسي.. أنا.. أنا.. من أكون يا سيدي حتى تغسل أنت رجليَّ. لا.. لن يكون هذا.. لن أقبل هذا.. لن تغسل رجلي أبداً. اعتفیت وابتعدت بإصرار .. كان قلبي يذوب داخلي اتضاعاً وإحساساً بحقارتي.

بادرني الرب بقوله: ” إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب”. هنا اصطدمت كلمات الرب بقلبي وعقلي.. سأحرم من النصيب مع المسيح.. ماذا أنا صانع؟

استدرت مستدركاً وقائلاً: لا يا سيدي لا أريد أن أخسر نصيبي معك ولو كلفني هذا حياتي، فإن كان هذا الأمر يخسرني نصيبي فأنا متنازل عنه. خذ اغسلني کلي “یا سيد، ليس رجلي فقط بل أيضاً يدي ورأسي”.. كلي كلي.. اغسلني من أدناسي.

قال الرب مجاوباً: لست بحاجة يا بطرس إلا لغسل رجليك. لقد حممتك من قبل بحميم الميلاد.. ولكن بسبب الطريق تتسخ رجليك فقط وتحتاج إلى من يغسل رجليك. إنك كلك طاهر مقدس ولكن طبيعة البشر قد تخطئ، ولكن لا يلحق التراب سوى قدميك وأنا مستعد أن أغسل قدميك كل حين.

تقدمت خاشعاً فغسل رجلي. كم أحسست بنقاوة تسري في كياني. قال الرب: “لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد”.

فلما فرغ من غسل الأرجل قام وقال: “أنتم تدعونني معلماً وسيداً، وحسناً تقولون، لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض”.

حقاً يا سيدي إن كنت أنت في اتضاعك تنازلت إلى غسل الأرجل فكم بالحري التراب والمزدری.

فإن كان رب الكل صار غاسلاً  للأرجل فكم يكون العبيد البطالون.

 

واحد منكم يسلمني

على أن هناك حادثة أخرى تركت أثراً عميقاً في نفسي في تلك الليلة ولها مدلولات كثيرة.. فقد قال الرب أثناء العشاء وشهد قائلاً: “إن واحداً منكم سيسلمني!”. طبعاً ما أقسى الخيانة إنها خطية شنيعة لا سيما إذا جاءت من أحد الأحباء.. “الذي وثقت به، أكل خبزي، رفع علي عقبه”..

“فإن كان العدو قد عيَّرني لاحتملت.. ولكن إنسان سلامتي الذي وثقت به الذي معه كانت تحلو لنا العشرة”.. يا للأسف !!

كان الكل ينكر على نفسه أن تلتصق به هذه الجريمة البشعة.

كان يوحنا متكئاً في صدر يسوع فأومأت إليه أن يسأله.. يا للعجب!

يسوع كان عالماً بكل شيء. وقد علم بكل ما في الإنسان.. ومرات كثيرة كان يفحص أفكار الكتبة والفريسين ويقول لهم.. لماذا تفكرون هكذا في قلوبكم؟ فهو عالم من سيسلمه ولسنا نفهم لماذا أعلنها هكذا؟!! لعله يفتح له باب توبة ورجوع؟ لسنا نعلم.. وكنا لا نشك في أحد ولكن مادام يسوع قالها فهى حق. فيوحنا سأل الرب كأنه في السر. فقال له الرب: “هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه!”.

يا لحبك يا يسوع.. فإن أسرارك تعلنها للذي يحبك.. لقد أعلنت لإبراهيم والآباء والأنبياء أسرارك حتى قيل: هل يفعل الرب أمراً ولا يرى عبيده الأنبياء ما لا بد أن يكون؟.

فأخذ يسوع اللقمة وأعطاها ليهوذا. ارتعت جداً.. فهو الكبير والمؤتمن والمعدود معنا، بل ومتقدم فينا. كيف جرؤت على هذا ؟!!  كيف أغواك الشيطان؟ كيف تخون المحبة؟ كيف تسلم سيدك.. ولكن بماذا؟! ربما بمال.. آه ما أحقر المال.. لتهلك الفضة وتداس بالقدم هذه التي أغواك الشيطان بها.

لما أخذ اللقمة من يد الرب.. لمحت وجه يهوذا فهالني منظره.. كأن شیطاناً نجساً قد امتلكه.. لقد رأيت الذين كانت عليهم أرواح نجسة وكانت تهلكهم.. ذات الملامح وبشكل أكثر قباحة. كان روح الظلام قد اقتحمه اقتحاماً، فقال الرب: ” ما أنت تعمله اعمله بأكثر سرعة”. لم يكن الرب يخشى الموت أو الآلام أو الصليب.. أليس من أجل هذا أتي.. فخرج المسكين وكان ظلام.. لقد ترك النور فأدركه الظلام كقول المسيح !!

فلما خرج يهوذا ساد على الجو روح سلام عجيب كأن عنصراً فاسداً كان وشيكاً أن يؤذي الجسد كله ثم فصل عن الجسد.

كلمنا يسوع بكلمات عزاء فائق ثم صلى صلاته الأخيرة لأجلنا التي صارت في الواقع سند حياتنا وحياة من أتي بعدنا..

لقد أعطانا كل ما له ووحدنا فيه وورثنا مجده وحبه الذي له مع الآب.

سبحت أرواحنا في السماوات واتخمت من كثرة المواهب والعطايا التي لم تخطر على بال أحد من البشر أن نصير نحن شركاء الطبيعة الإلهية  ونصير بالمسيح لنا حظوة ودالة عند الآب.

” لأن الآب نفسه يحبكم.. ليكون فيهم الحب الذي أحببتنى به.. قدسهم في حقك.. أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي..  ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا “.

هذه إرادة المسيح نحونا أظهرها في صلاته التي هي صلته ووحدانيته مع الآب أعلنها جهاراً لكي ننال بلا خوف نصيبنا المعين لنا من الله قبل الدهور في شخص ابنه المنزه عن الكذب.

 

العظة العاشرة لآباء وخدام معاصرون – يوم خميس العهد

الفصح القديم والعشاء الأخير – الراهب القمص روفائيل البراموسي[76]

الفريسيون في أيام السيد المسيح، كانوا هم حراس التقليد الشفوي لحكماء بني إسرائيل القدامى، والذي يعتبرونه مساو للتوراة أي شريعة الله المكتوبة. واليهود الأرثوذكس مازالوا حتى يومنا هذا يعتقدون أن الله نفسه أعطى هذه الشريعة الشفاهية لموسى، وانتقلت من جيل لجيل شفهياً. هؤلاء الذين فسروا التوراة وشرحوها، عرفوا بـ “الرابيين” والتي تعني “معلمين”، وقد جمعوا وصنفوا كل المعتقدات الدينية في كتاب واحد أطلق عليه “المشناه”، في وقت ما بين ۱۰۰ ميلادية حتى سنة ٢٥٠ ميلادية. المشناه تغطي كافة أوجه الحياة الدينية وتقدم صورة للعادات والتقاليد والأوامر والشرائع على مر العصور حتى زمن السيد المسيح تقريبا .

وبخصوص الفصح، تقتبس المشناه أقوال رابی غمالائيل Rabbi Gamaliel التي يقول فيها: [كل من لا يذكر هذه الأشياء الثلاثة التي سنذكرها، في عيد الفصح، يعتبر نفسه إنه لم يتمم ما ألزمته به الشريعة، وهي: ذبيحة الفصح، لأن القدوس عبر على بيوت آبائنا في مصر وفداهم من موت الأبكار – الفطير ، لأن الرب حرر آباءنا من أرض العبودية مصر – الأعشاب المرة، لأن المصريين مرروا حياة آبائنا في مصر] (5: 10. Pesahim).

وفي القرن الأول الميلادي، أضيفت إلى احتفال الفصح العديد من الأوامر والطقوس، بجوار ما ألزمت به الشريعة في التوراة المكتوبة. في ذلك الحين، كان يطلق المصطلح: “Seder” ليعبر عن وصف الشكل العام لترتيب الفصح، والكلمة بحد ذاتها تعني “أمر أو خدمة”. الشكل العام لترتيب الفصح  Seder.

كان المحتفلون بالفصح يتكئون حول المائدة، وليس في وضع الجلوس العادي، هذه العادة منحدرة مع اليهود الذين كانوا مسبيين في بابل ورجعوا إلى أورشليم. حيث أن من عادات بابل أن الأشخاص الأحرار يتكئون على وسائد مريحة حول المائدة، أما العبيد فيقفون بانتباه شديد لخدمة أسيادهم الذين يأكلون. الاحتفال يشمل طقس غسل الأيدي وبعض الصلوات في وضع الجلوس. ويشرب المحتفلون أربعة كؤوس من الخمر، والتقليد الشفوي في المشناه، يأمر بأن حتى الأشخاص الفقراء ينبغي عليهم أن يشربوا هذه الكؤوس الأربعة، حتى لو وصل الأمر به إلى بيع نفسه أو الاستدانة… ينبغي أن يكون خمر الفصح من النبيذ الأحمر، ويخلط بقليل من الماء، كما أن المشناه تأمر بأن يكون النبيذ دافئاً، ومن ثم يجب تسخين الماء قليلا قبل خلطه بالخمر حتى يذكرهم بدم الخروف الذي ذبح للتو، فيكون دمه دافئاً .

بجوار خروف الفصح المشوي توضع الأعشاب المُرَّة وثلاث شرائح من الخبز غير المختمر، وماء مملحاً أو خلاً لغمس الأعشاب المُرَّة، وطَبَقَاً به خليط محلى من التفاح والبندق، يسمى بالعبرية “Charoseth”  [في هذا الخليط كانوا يغمسون الأعشاب المرة وخبز الفطير معا]، ولا يأكلون طبق التحلية بعد أكل خروف الفصح، بل قبله، حيث أنه غير مسموح بأكل أي شيء آخر بعد أكل خروف الفصح.

 

خطوات طقس الفصح أيام السيد المسيح

عند جلوس أفراد العائلة حول مائدة الفصح، يخصص مكان ويرتب بعناية لرئيس المائدة، حيث في العادة هو رب العائلة الذي يجلس على رأس مائدة العشاء الاحتفالية. والشخص الأصغر يجلس في الجهة اليمنى، ليقوم بدور خاص في نهاية الطقس التقليدي  Seder، أما على يسار رب العائلة، فيجلس الضيف بكل إجلال واحترام، وأحياناً يترك هذا المكان شاغراً ويسمي “كرسي ايليا”، حيث يعتقدون أن إيليا النبي سيجيئ فجأة ويأكل معهم الفصح. ربة البيت تعلن عن بدء احتفال الفصح، بإنارة شمعتي الفصح، فتغطي عينيها بيدها وتتلو صلوات البركة على الشمعتين، شاكرة الله من أجل هذه المناسبة الخاصة، قائلة: [مبارك أنت أيها الرب إلهنا، ملك المسكونة، الذي قدستنا بوصاياك. وباسمك نشعل أنوار الاحتفال].

بعد ذلك، يتلو رئيس المتكأ (رب العائلة)، صلاة التقديس (بالعبرية ق. ی. د. و. ش) على الكأس الأولى من الخمر، قائلاً: [مبارك أنت أيها الرب إلهنا، ملك المسكونة، يامن اخترتنا من بين الشعوب لنقدم لك هذه الخدمة، مبارك أنت أيها الرب إلهنا، ملك الدهور، يا من وهبتنا الحياة، يامن حفظتنا وأتيت بنا إلى هذه المناسبة].

يأتي بعد ذلك طقس “غسيل الأيدي”، بواسطة رئيس المتكأ. عندئذ، يحضر أحد الخدم طبقاً كبيراً عليه الطعام، ولا يأكل منه أحد بعد. ثم يجري الغمس الأول، حيث يغمس رئيس المتكأ الأعشاب (البعض قالوا، إنه نبات الخس) في الماء المملح أو الخل، ويعطي كل واحد على المائدة جزء. بعد غمس الأعشاب المرة، يرفع طبق الطعام من على المائدة. عندئذ، يصب الرئيس الكأس الثانية من الخمر، ولكن لا أحد يشرب منها (رفع طبق الطعام من على المائدة – الذي يرمز إلى خروف الفصح – هو إجراء غير عادي القصد منه زيادة التشويق). ثم يأتي أحد الأطفال ويلقي على رب العائلة، أربعة أسئلة (عادة الطفل الذي عن يمين رئيس المتكأ):

لماذا هذه الليلة مختلفة عن بقية الليالي؟

في كل الليال ، نأكل خبزا مختمراً أو غير مختمر، لكن هذه الليلة نأكل فقط خبزاً غير مختمر؟ .

في كل الليالي، نأكل جميع أنواع الأعشاب، لكن هذه الليلة نأكل فقط أعشاباً مرة. ولماذا نغمس الأعشاب مرتين؟.

في كل الليالي، نأكل لحماً مشوياً أو مسلوقاً أو محمراً، لكن هذه الليلة نأكل فقط لحمة مشوياً؟

عندئذ يقدم رئيس المتكأ لأبنائه تاريخ شعب بني إسرائيل، مبتدئاً من دعوة إبراهيم من أرض أور الكلدانيين، منتهياً بفداء الشعب وتحريره من عبودية أرض مصر وإعطاء الشريعة (تاريخ خلاص إسرائيل، ورد ثلاث مرات في خروج ۱۰، ۱۲) .

ثم يحضر طبق الطعام الكبير، مرة أخرى، ويستمر رئيس المتكأ في تقديم شرح خروف الفصح والأعشاب المرة والفطير. عندئذ ينشدون الجزء الأول من الـ “هلليل” أي مزمور ۱۱۳، ١١٤ ثم يشربون كأس الخمر الثانية. ثم يغسلون أيديهم للمرة الثانية، کواجب احترام للفطير الذي سيأكلونه ، رئيس المتكأ يكسر شريحة واحدة من الخبز غير المختمر ويتلو “البركة على الخبز”، حيث توجد بركتان: الأولى من أجل شكر الله الذي يعطي الخبز من الأرض، أما الأخرى فهي من أجل شكر الله لإعطائه وصية أكل الفطير. تقليديا، هذه المباركات التي تتلى على الخبز الذي يكسر أولاً، هي لإظهار المذلة والخضوع، وتذكر أيضا أن الفقراء لديهم – فقط – كسرة مكسورة من الخبز ليأكلوها، إلا أن الله يستحق الشكر على هذه الكسرة. يأخذ رئيس المتكأ كسرة من هذا الخبز المكسور ويغمسها في الأعشاب المرة وخليط التفاح المحلي مع البندق “Charoseth”، ويعطيها لكل فرد على المائدة. لو أن الخروف صغير ليأخذ كل واحد كفايته، يأكلون أيضا بيضة مسلوقة Hagigah”” على أن تؤكل البيضة أولاً، حيث ينبغي أن يكون خروف الفصح هو آخر الأطعمة التي يأكلونها تلك الليلة. وبالتالي طبعاً، لا يوجد طبق تحلية .

بعد العشاء يصب رئيس المتكأ كأس الخمر الثالثة، ويتلون جميعهم البركة التي تتلى بعد الوجبات، ثم ينشدون مباركة خاصة للخمر على الكأس الثالثة، وكل واحد يشرب منها. بعد الكأس الثالثة، ينشدون الجزء الثاني من الـ “هلليل”، أي مزمور ١١٥حتى ۱۱۸، ثم يشربون الكأس الرابعة و بهذا يكون طقس الفصح قد أنتهى. ويرتلون لحن الختام، الذي يبدأ بـ [كل أعمالك تسبحك أيها الرب (یهوه) إلهنا] وينتهي بـ [إلى أبد الآبدين، أنت هو الله، ومعك ليس لنا ملك أو مخلص أو فادی].

 

العشاء الرباني (السري)

الإفخارستيا

طقس الفصحSeder  هو إحياء ذكرى تاريخ خلاص شعب بني إسرائيل من عبودية فرعون والمصريين. أعطاه الله كدرس عملي ليحتفل به، ويحفظ سنوياً من كل الذين يحسبون أنفسهم ضمن من تحرروا بقوته. ولكن على نفس القدر من الأهمية أن المعاني المخفية فيه تخص وتشير إلى:

الفداء الذي سيتم فيما بعد، والذي يوماً سيتحرر كل الذين يصرخون إلى الله في يأسهم وخطاياهم.

الخلاص لكل الشعوب – يهوداً وأمماً – الذي سيجذبهم إلى علاقة جديدة وأبديه مع خالقهم ومع بعضهم البعض.

هذا الفداء سيقدمه الملك المسيا الذي ينحدر من نسل إبراهيم واسحق ويعقوب، نسل الموعد. لقد اشتاق الشعب اليهودي وصلى من أجل هذا الخلاص، عندما وقعوا تحت نير الإضطهاد الروماني. لكن، بعدما تحقق الوعد وأصبح على الأبواب، قليلون هم الذين ادركوه. معلم الناصرة جاء بينهم ونشأ وسطهم، أدهش الجموع بكلمات الحكمة التي نطق بها بسلطان، لقد شفي المرضى – فتح أعين العميان – جعل العرج والشل يمشون – أخرج الشياطين من أبنائهم – أقام أمواتهم – اراهم قوته الخارقة على قوانين الطبيعة . كثيرون أملوا أن يكون هذا هو الشخص الذي سيحرر الشعب من الرومان ويؤسس ملكوته على الأرض ويقيم مملكة داود الساقطة . لكن توقعوا أن يفعل هذا بالقوة العسكرية ، آمالهم وصلت إلى ذروتها عند دخول الرب يسوع أورشليم في الأسبوع السابق للفصح. وحسب التقاليد اليهودية فإن موسم الفصح هو موسم الأحداث الهامة التي حدثت والتي ستحدث لشعب إسرائيل: تحرر شعب إسرائيل في موسم الفصح – الشريعة أعطيت لهم في الفصح – المسيا سيأتي في موسم الفصح.

المؤمنون والمستهزئون – على حد سواء – راقبوا الرب يسوع بحرص شديد في هذه الأيام القليلة قبل الفصح، وكأنهم يراقبون الحمل الذى اشتروه في العاشر في هذا الشهر. رأوه يقلب موائد الصيارفة ويطرد الباعة من الهيكل ويدعى أن الهيكل بيته: “وقال لهم بيتي بيت الصلاة يدعى…” (متى٢١: ١٣). ماذا يفعل أيضاً؟! هل يخبرهم إنه هو – بالحقيقة – المسيا المنتظر؟! لقد أعلن ذلك بوضوح مرات عديدة وأرادوا رجمه ولم تسترح آذانهم لتعاليمه. الآن وقد حانت ليلة الاحتفال بالفصح، أرسل الرب اثنين من تلاميذه ليجهزا للعشاء الطقسي للفصح، فكانت عليه مار مرقس هي مكان العشاء. اتكأ الرب يسوع مع تلاميذه الإثنى عشر حول مائدة الفصح، ليأكل معهم العشاء الأخير. هنا في ليلة موته، أراهم المعنى الكامل الحقيقي لرموز الفصح. صورة العشاء السرى تكون حادة البؤرة حين تقارن أحداث الصورة مع أحداث طقس الفصح:

 

صلاة التقديس على الكأس الأولى

هذه هي الكأس الأولى، التي بها يبدأ عشاء الفصح، وقد قال عنها السيد المسيح: “ثم تناول كأساً وشكر وقال خذوا هذا هو اقتسموا  بينكم. لأني أقول لكم إنى لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله” (لو٢٢: ١٧– ١٨).

الغسيل الأول للأيدي

وهو الذى يقوم به رئيس المتكأ: “قام عن العشاء وخلع ثيابه وأخذ منشفة وأتزر بها. ثم صب ماء في مغسل وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان متزراً بها” (يو١٣: ٤– ٥). هنا السيد المسيح غير في الطقس قليلاً، فبدلاً من أن يصب ماء على أيديهم، غسل أرجلهم معطياً إياهم درساً في التواضع. هذا الغسيل الأول يقام قبل غمس الأعشاب في الماء المملح.

ثم يواصل السيد المسيح بقية الطقس: يحضر طبق الطعام الكبير – تغمس الأعشاب المرة في ماء مملح – يرفع طبق الطعام الكبير – تصب  الكأس الثانية من الخمر – تطرح الأسئلة الطقسية للفصح – تقدم الإجابة الطقسية عليها، مع تفسير وشرح العناصر الثلاثة للفصح: الخروف والأعشاب المرة والفطير- إنشاد الجزء الأول من الـ “هلليل” – تشرب الكأس الثانية – الغسيل الثاني للأيدي – كسر واحدة من شرائح الخبز غير المختمر – تتلى صلاة شكر على الخبز.

يغمس رئيس المتكأ كسرة الخبز في الأعشاب المرة مع خليط التفاح المحلى والبندق Charoseth ويعطى لكل فرد.

وهذا ما سجله الكتاب المقدس: “الحق الحق أقول لكم إن واحداً منكم يسلمني…. أجاب يسوع هو ذلك الذى أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطي… فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت. وكان ليلاً ” (يو١٣: ٢١– ٣٠).

واضح جداً من السابق أن يهوذا لم يحضر سر الإفخارستيا، وبالتالي فهو لم يتناول من جسد المسيح ودمه، حيث أنه حتى هذه اللحظة لم يؤسس الرب السر بعد. وأن اللقمة التي أخذها يهوذا هي الكسرة المغموسة في الأعشاب المرة مع خليط الـ Charoseth.

ثم يواصل السيد المسيح بقية الطقس: يؤكل عشاء الفصح – غسيل الأيدي للمرة الثالثة – تصب الكأس الثالثة.

صلاة شكر بعد العشاء الفصحى

في هذه اللحظة أسس الرب يسوع سر الإفخارستيا: “وأخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً هذا هو جسدي الذى يبذل عنكم، اصنعوا هذا لذكري” (لو٢٢: ١٩). “إن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزاً وشكر فكسر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكرى” (1كو١١: ٢٣– ٢٤).

صلاة البركة على الكأس الثالثة (كأس الخلاص)

الكأس الثالثة هذه تسمى “كأس الخلاص”، وهى دم المسيح المقدم للكنيسة: “كذلك الكأس أيضاً بعد العشاء قائلاً هذه الكأس هي العهد الجديد بدمى الذى يسفك عنكم” (لو٢٢: ٢٠). “وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً اشربوا منها كلكم. لأن هذا هو دمي الذى للعهد الجديد الذى يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا” (مت٢٦: ٢٧). “كذلك الكأس أيضاً بعد ما تعشوا قائلاً هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري” (1كو١١: ٢٥). تشرب الكأس الثالثة هذه – تلاوة الجزء الثاني من الـ “هلليل” – تصب الكأس الرابعة وتشرب.

اللحن الختامي

” ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون” (مت٢٦: ٣٠).

 

ملحوظات هامة على الطقس السابق

إن الغسيل الأول للأيدي، بواسطة رئيس المتكأ، يميزه عن بقية المشاركين معه في طقس الفصح، فهذا يبين إنه هو أهم شخصية على المائدة.

بدل السيد المسيح غسيل الأيدي بغسيل الأرجل، ليعلمهم درساً في التواضع والمحبة. وعندما اتزر بالمنشفة، فقد حسب نفسه ضمن العبيد في الوقت نفسه. فعلى الرغم من أن الآب دفع إليه كل شيء، إلا أنه الآن يضع نفسه كعبد .

إن يهوذا بعدما أخذ اللقمة المغموسة في الأعشاب المرة مع خليط الـ Charoseth مضى ليلاً لينفذ خطة الشيطان. ولأنه خرج قبل أكل عشاء الفصح يكون قد قطع نفسه من شركة الجماعة أيضاً، بالتالي لم يأخذ من ذبيحة العهد الجديد أي جسد الرب ودمه الأقدسين، لأن هذا السر جاء بعد العشاء في الترتيب. للأسف، بعض المفسرين خلط بين اللقمة (الخبز) الذى كسره الرب يسوع لغمسه في الأعشاب المرة والخليط الحلو وبين الخبز الذى قال عنه الرب يسوع “هذا هو جسدي”. إن هذا جاء بعد ذلك .

كان في القديم وحتى زمن السيد المسيح، غير مسموح بأكل أي شيء اطلاقاً بعد عشاء الفصح، إذ يجب أن يكون خروف الفصح آخر شيء يؤكل. والسيد المسيح كسر هذه القاعدة إذ بارك على الخبز وكسر واعطاهم قائلاً: “هذا هو جسدي”، بعد أكل عشاء الفصح. ليست فقط الكلمات فاجأت التلاميذ، بل ربما التصرف نفسه يكون قد صدمهم. إنه يعلم تلاميذه بمصطلحات سرية أن بعد الموت، خروف الفصح سوف لا يكون له أي مغزى أو معنى بعد. هذا هو الفصح الحقيقي الأخير، الذى أبطل الفصح القديم. كان خروف الفصح القديم تذكاراً لتاريخ “خلاص” حدث في الماضي، إنه كان ظلاً لخلاص أخير وأبدى سيقع حالاً .

السيد المسيح رئيس المتكأ، هو “يهوه” جاء في الجسد، وقف أمامهم في مناسبات عديدة سابقة يعلن عن نفسه، إنه هو: “أنا هو الباب” (يو١٠: ٩). “أنا هو نور العالم” (يو٨: ١٢). “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو١٤: ٦). “قبل أن يكون أبراهيم أنا كائن (أنا يهوه)” (يو ٨: ٥٨). الآن، يعلن عن نفسه إنه حمل الفصح الحقيقي الذى يذبح من أجل خلاص العالم. هذه الخمر الدافئة الحمراء التي تشربونها الليلة كرمز للفرح ، هي بالحقيقة دمي الذى للعهد الجديد الذى يسفك من أجل خطاياكم.

عند سرد الأناجيل للعشاء الأخير، أشارت – فقط – إلى كأسين فقط من الخمر، من الكؤوس الأربعة التي لاحتفال الفصح: وهما الكأس الأولى والثالثة. وعند الرجوع إلى التقليد اليهودي القديم، وجدت أن هاتين الكأسين هما الأهم في طقس الفصح. الكأس الأولى،كانت فريدة حيث إنها مخصصة للبدء في طقس الفصح، وبدونها لا يستقيم الطقس. أما الكأس الثالثة، فيقرر المشناه، أنها هي التي تحمل بداخلها كل معانى ورموز “دم خروف الفصح” ولذا فهي الأكثر أهمية. من هنا كان اختيار السيد المسيح للكأس الثالثة لتكون هي “دم العهد الجديد” لم يكن اعتباطاً. وقد أطلق المشناه على الكأس الثالثة اسمان:

” كأس البركة”: لأنها تأتى بعد تلاوة “البركة بعد الأكل”.

” كأس الخلاص”: لأنها تحمل كل معانى دم حمل الفصح. وقد استعمل بولس الرسول هذا الاصطلاح عندما قال: “كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح” (1كو١٠: ١٦).

 

العظة الحادية عشر لآباء وخدام معاصرون – يوم خميس العهد

يوم الخميس من البصخة المقدسة – للمتنيح القمص تادرس البراموسي[77]

بركتها على جميعنا آمين

لما بدأ اليوم الأول من عيد الفطير الذى كان ينبغي أن يذبح فيه خروف الفصح..

سمي عيد الفصح أي عيد العبور الذى عبر فيه الملاك المهلك لضرب أبكار المصريين.

وسمي عيد الفطر لأن الله أمر أن يؤكل فيه الفطير أي خبز بدون خمير.

أمر الرب يسوع أثنين من تلاميذه وهما بطرس ويوحنا. أن يذهبا ويعدا الفصح ليأكله معهم كما قال: “شهوة اشتهيت أن أكل الفصح معكم” مضى الرب يسوع مع تلاميذه إلى بيت مارمرقس الأنجيلى كما يظهر في أنجيله (ص 13، 14) وكما جاء في التقليد الكنسي، وكان اليوم الرابع عشر من نيسان أي أبريل يكفون فيه عن العمل ويخرجون كل مختمر من بيوتهم ويذبحون الخروف بين العصرين أي بين العصر والمغرب وكان هذا يوم الأربعاء ويوم الخميس.

رجع مخلصنا له المجد مرة أخرى إلى أورشليم لا إلى الهيكل ومعه تلاميذه ليأكلوا الفصح. كانوا يحتفلون بالعيد سبعة أيام وكان العيد أكبر أعياد بنى إسرائيل ويقضى في ممارسة الفصح خمسة أمور أولاً: ذبح الخروف.

ثانياً: رش الدم على قائمتي الباب والعتبة العليا.

ثالثاً: شي الخروف صحيحاً دون أن يكسر عظمة، وفى ذلك يرمز إلى آلام السيد المسيح من أجلنا.

رابعاً: أكله مع الخبز الفطير والأعشاب المرة. أعد الفصح في العلية بطرس ويوحنا، وأعد الخبز الفطير والأعشاب المرة والخمر وكل ما هو ضرورى للعيد.

لم يعطى الرب يسوع علامة أين يعمل الفصح إلا في اللحظات الأخيرة لربما يعرف المكان يهوذا ويقبض عليه اليهود قبل أعداد الفصح، ويحفظونه عندهم إلى ما ينتهى العيد، فقال لبطرس ويوحنا فقط. ولما أعد الفصح وجاء به إلى العلية ذهب يسوع وتلاميذه وأكلوا الفصح.

كان اليهود عادة أن يشربوا على العشاء أربعة كؤوس من الخمر خمراً ممزوجاً بقليل من الماء وكانوا يغتسلون وهذا الاغتسال كانوا يشيرون به إلى عبور أسلافهم في البحر الأحمر. وفى أثناء أكلهم يقوم ولد صغير يسأل أبيه عن سبب هذا العيد وحفظ الفريضة يجيبه والده ذبح الخروف هو تذكار الملاك المهلك لما مرعلى بيوت العبرانيين ولم يؤذهم والفطير يشير إلى خبز الشدة الذى أكلوا الحلوة فطيراً وقت هروبهم من أمام فرعون، أحياناً يغمس الرئيس الكسر في الصفحة كما فعل سيدنا مع يهوذا. ويعطيهم ومتى فرغوا من ذلك يأكلون الخروف ولا يبقوا منه شيئًا ولا يأكلوا بعده شيئاً أخر ثم يشكرون الله ويقدمون التسابيح.

حدثت مباحثة بين التلاميذ في من يكون الأول والأعظم في مملكة المسيح إلى هذه الساعة كانوا يفكرون أن ملك السيد المسيح أرضي مثل باقي الملوك. فبكتهم الرب يسوع على هذه الأفكار الباطلةـ فقال لهم إن “ملوك الأمم يسودونهم والمتسلطين عليهم يدعون محسنين” أما أنتم فليس هكذا بل الكبير فيكم يكون كالأصغر والمتقدم كالخادم ثم قام الرب يسوع وصب ماء في صفحة وأتزر بمنشفة وغسل أرجل تلاميذه وبهذه الطريقة قد أعطى لهم درساً عملياً وهو سيدهم قام وغسل أرجلهم واحداً فواحداً. أبى بطرس أن يغسل يسوع قدميه. فقال له يسوع إن لم أغسلك فليس لك معى نصيب. خاف بطرس وقال: يا سيد ليس رجلي فقط بل يدي ورأسي. بعد ذلك أنبأهم بخيانة يهوذا. الذى أشترك مع السيد المسيح بدون استحقاق فدخله الشيطان. قال لهم الرب يسوع واحد منكم يسلمني وأخذ اللقمة وأعطاها ليهودا وقال له الرب يسوع ما انت فاعله أعمله بأكثر سرعة فقام يهوذا في الحال ومضى إلى اليهود ليسلم لهم سيده وأشترك معهم في القبض عليه مقابل أعطائه ثلاثين من الفضة. الشاقل يساوى ثلاثة عشر قرشاً من النقود المصريه فيكون المبلغ الذى أخذه يهوذا ثمناً لسيده أربعمائة وخمس قروش وهذه القيمة هي ثمن العبد في ذاك الوقت فما أعظم الفرق في قيمة المسيح بين مريم وقيمته عند يهوذا أن مريم قد أنفقت على أكرام الرب بسوع عند العشاء ثلاثة مئة دينار وباعه يهوذا بثلاثين من الفضة وأسلمه للموت.

نتعلم من قصة يهوذا جملة فوائد.. أن يهوذا كان مختاراً من ضمن الأثنى عشر رسولاً وكان رفيقاً للسيد المسيح شاهد معجزاته وسمع تعاليمه وأكل معهـ وشريكاً لبطرس ويعقوب ويوحنا وباقي التلاميذ ونال ما لم ينله إبراهيم واسحق ويعقوب وموسى وأشعياء ودانيال ومع كل ذلك هلك وهذا يحقق لنا قول الرب يسوع: من ليس له فالذى عنده يؤخذ منه. العشاء الأول الذى أكله الرب يسوع مع تلاميذه هو الفصح اليهوديـ ثم رسم الرب يسوع العشاء الرباني النازل من السماء الواهب الحياة للعالم، أي جسده ودمه الأقدسين، حيث أبطل أمامهم الرمز وقدم لهم المرموز إليه، وقد سلمه لهم عوضاً عنه عهداً جديداً، غير العهد الأول كما أوضح الإنجيليون ذلك في أناجيلهم، وفيما هم يأكلون أخذ الرب خبزاً وبارك وكسر وأعطاهم قائلاً خذوا كلوا، هذا هو جسدي الذي يبذل عن كثيرين هذا أصنعوه لذكري. وكذلك الكأس أيضاً بعد العشاء أخذ كأساً وبارك وأعطاهم قائلاً هذا هو دمى الذى للعهد الجديد الذى يسفك عنكم وعن كثيرين يعطى لمغفرة الخطايا، هذا أصنعوا لذكري ثم أنبا بطرس بأنه سينكره ثلاث مرات ثم دخل بستان جثماني وصلى حتى صار عرقه كقطرات الدم ثم ظهر له ملاك من السماء يقويه قائلاً لك المجد لك القوة لك البركة لك العزة يا عمانوئيل ألهنا وملكنا.. وهى ترنيمة أخذتها الكنيسة في أسبوع الآلام.

يشترط أن يكون الجسد من مختمر مصنوع من القمح النقى والدم يجب أن يكون من عصير العنب الخالص بدون إضافات لكى يكون مماثلاً لدم الرب يسوع المسفوك على الصليب لأجلنا ولتذكار الدم والماء الذين خرجا من جنب المسيح له المجد وهو على الصليب لأجل خلاص العالم ويسمى هذ السر الأفخارستيا – والمعروف أن يهوذا الأسخريوطي مضى هو ورؤساء الكهنة والجنود إلى البستان. وقبضوا على الرب يسوع بعد أن قبله يهوذا بقبلة غاشة وقلب بخس وضمير شرير وسلم سيده للموت وكما قال الكتاب أكل خبزي ورفع عليّ عقبه. يا من صلبت من أجلي أرحمني. وأغفر لي زنوبي وأمنحني أن أكون معك وأقبلني إليك كما قبلت اللص اليمين وأصرخ معه قائلاً أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك. لك المجد إلى أبد الدهور آمين.

 

العظة الأولى باكر يوم الخميس من البصخة المقدسة (لو ٢٢: ٧ – ١٣)

 

أ – كلام الرب والمرهم الشافي.

ب – عتاب بين الحبيب والخيانة.

ج – أمينة جرحات المحب وغاشة هي قبلات العدو.

د – وفى التجديد توحيد وفى التوحيد تمجيد.

هـ – الخروف المذبوح والمسيح المجروح.

و – التكليف بالمسؤلية والعمل بالوصية.

ذ – المكان المحدود واليوم الموعود.

ح – أعداء العشاء وحضور الخبثاء.

ط – المشورة الحكيمة وعلامة الجزة.

ى – صاحب القدرة وحامل الجرة.

ك – عليه كبيرة وأصبحت شهيرة.

ل – دخول المكان وتبددت الأحزان.

م – فصح العبور والعشاء المشهور.

ن – العشاء الرباني والدم القاني.

س – غسل الأقدام والعمل الهمام.

 

العظة الثانية من يوم الخميس من البصخة المقدسة (مت ٢٦: ١٧– ١٩)

 

أ – أول يوم في استعداد القوم.

ب – دنا التلاميذ من الرب العزيز.

ج – أين تريد عيد الفصح أكيد.

د – الذهاب إلى المدينة والغسل بالفضيلة.

هـ – الرجل المفضال والعمل والنضال.

و – أفترب الزمان وما عدش فيه أمان.

ذ – عيد العبور بالفرح والسرور.

ح – فعل التلاميذ وقاموا بالتجهيز.

ط – قاربت الساعات وأتى وقت الممات.

ى – يوم التأسيس لسر التقديس.

ك – جسد ودم يسوع وانفجار الينبوع.

ل – خلاص النفوس وفرح العروس.

م – تتميم الأسرار وانتصار الأحرار.

ن – اجتمعوا الأشرا وكل شيء صار.

س – يهوذا المفروض مع التلاميذ كان معدود.

 

العظة الثالثة من السادسة من يوم الخميس من البصخة المقدسة (مر١٢– ١٦)

 

أ – بداية الأمر تكميل النبوات.

ب – ذبح الخروف والعيد المألوف.

ج – أين تريد أن تقضى العيد.

د – الفصح المجيد واليوم السعيد.

هـ – أثنين مرسلين للعهد حافظين.

و – الخروج إلى بره علامة الجرة.

ذ – تمموا الوعود ونفذوا المقصود.

ح – موضع الراحة وصاحب الحاجة.

ط – نحتفل بالعبور ونبعد عن الشرور.

ى – الاحتفال في العلية والقلوب النقية.

ك – يهوذا المختار نصيبه مع الأشرار.

ل – باع سيده والشيطان أستعبده.

م – السيد الموجود وفى التلاميذ جحود.

ن – خرج التلميذان ووجدوا المكان.

س – أكلوا الخروف واستلوا السيوف.

 

 

العظة الرابعة الساعة التاسعة من يوم الخميس من البصخة المقدسة (متى ٢٦: ١٧– ١٩)

 

أ – الفطير والعيد الكبير.

ب – ذبح الخروف والعيد المألوف.

ج – أرادة المسيح وهو الحمل الذبيح.

د – أعداد المكان بما يناسب الزمان.

هـ – مبعوثين إلى المدينة وخوف من الضغينة.

و – سمعان وأعداد المكان.

ذ – الوقت على الأبواب وليتم وعد الآب.

ح – أسهر وكن مطيع الأمر سيمر سريع.

ط – أطاعة المعبود والكل له سجود.

ى – يهوذا باع المسيح ومات بقلب جريح.

ك – خرج الفريسيين وشمتوا في مخلص العالمين.

ل – قيافا وحنان وواحد أفضل من الأمة.

م – لن يقصد الاعتراف ومن ربه لا يخاف.

ن – قصد أن يستريح ويرث الربح القبيح.

س – المنتصر الوحيد بين الأسياد والعبيد.

 

العظة الخامسة الساعة الحادية عشر من يوم الخميس من البصخة المقدسة (مر 12: ١٦)

 

أ. في المساء اتكأ يسوع مع أصفيائه.

ب. حول المائدة أولى بالفائدة.

ج .شيء يؤلمني أن أحد منكم يسلمني.

د.خيم عليهم الأحزان لكى يظهر الحق إعلان.

هـ. بدأ يفهم الشكوك من منا يكون الصعلوك.

و. الذى أغمس اللقمة وأعطيه لأن الشر كامن فيه.

ذ.يده في الصحفة معي وقلبه يقول يا أرضي أنفتحي.

ح. يتم المكتوب ويحتوي كل القلوب.

ط. طبع الإنسان يده معي وخان.

ى.خير له أن لم يولد وأبواب السماء أمامه توصد.

ك. نطق الكذاب بيان لعلي أنا الأنسان.

ل. أنت قلت وجبلت على نفسك الأحزان.

م.أكل يهوذا فصح اليهود لأجل خلاص الإنسان وفداه.

س. غفر خطايا الجميع وغسل أرجل التلاميذ المتواضع الوديع.

 

العظة السادسة توزيع الخميس من البصخة المقدسة (لو ١٣: ٢١– ٣٠)

 

أ – قلق يسوع بالروح لأنه قلبه مجروح.

ب – أعلن عن التسليم والتلميذ الأثيم.

ج – أنزعج الخواص وعافوا أمر الخلاص.

د – اتكأ على صدر المسيح لأنه قلق ليستريح

هـ – تشاور الأصفياء من يسلم رب الحياة.

و – من هو يارب الأرباب الذى لديه الشر مجاب.

ذ – أغمس اللقمة وأعطيه لأن الشيطان ساكن فيه.

ح – أخذا اللقمة وكربان وقد ملئه الشيطان.

ط – ظنوا المسيح أوصاه بالمساكين يعطىي عطاياه.

ى – طماع وعنده الصندوق ولسيده خائن وعقوف

ك – المال حبه عجيب يجعل القريب غريب

ل – أحتار الجحيم برضاه طلبه وإبليس أعطاه

م – ليكن لنا جهاد ونتمثل برب العباد

ن – لا نماثل يهوذا الخائن أتبع يسوع تعيش أمن

س – أرجع بالتوبة إلى يسوع كوعده يمسح الدموع

 

 

العظة الثانية عشر لآباء وخدام معاصرون – يوم خميس العهد

بحث عن العشاء الأخير – للدكتور مجدي وهبه (المتنيح القس صموئيل وهبه)[78]

رواية إرسال التلميذين لإعداد العشاء الأخير فى الأناجيل

الرواية المتعلقة بإرسال التلميذين لإعداد العشاء الأخير تذكر عند الإنجيليين الثلاثة (مرقس٢:١٤ -١٦)، و(متى٢٦: ١٧-١٩)، و(لو٢٢ : ٧ ـ١٣)، ولا تظهر اختلافات هامة بينهم، فقط عند متَّى تغيب الإشارة إلى الرجل الذي يحمل جرة الماء، وعند لوقا من ناحية، يذكر أسماء الرسل الاثنين المُرسلين (بطرس، ويوحنا)، ومن ناحية أخري سؤال التلميذين للسيد “أين تريد أن نُعّد” (لو٢٢ :٩) يأتي من بعد تكليفهم بالذهاب والإعداد للفصح أنظر (لو٨:٢٢) .

مما سبق نستنتج أن المبادرة لإعداد العشاء ترجع حسب القديس لوقا إلى ربنا يسوع، بينما حسب القديسَيْن مرقس ومتى إلى التلاميذ الذين بادروا بسؤال السيد عن المكان الذي يريد أن يأكل فيه الفصح معهم أنظر (مر١٢:١٤)، (مت١٧:٢٦).

مبادرة ربنا يسوع بحسب (لوقا ٨:٢٢) “اذهبا واعَّدا لنا الفصح لنأكل”، وسؤال التلاميذ بحسب (مرقس ٢:١٤)، و(متى ١٧:٢٦) “أين تريد أن نمضي ونعد لتأكل الفصح” يكشفان لنا بوضوح، أن تلاميذ السيد لم يكونوا على علم ـ حتى هذه اللحظة ـ بالمكان الذى سوف يأكلون فيه العشاء الفصحي مع معلمهم.

هذا كل ما يذكره الإنجيليون الثلاثة عن الرواية الخاصة بإرسال التلميذين لإعداد العشاء الأخير. أما الإنجيلي الرابع يوحنا فهو يغفل تماماً ذكر هذه الرواية، وذلك قد يرجع إلى ما يلي:

ربما لأن يوحنا كان نفسه هو واحد من الاثنين الذين أرسلهما السيد، لهذا ومن التواضع ـ الذي اتصف به دائماً ـ لم يذكر هذا الحدث.

وربما لأن القديس لوقا قد كتب إنجيله قبل القديس يوحنا [لوقا من بعد سنة ٧٠ م ويوحنا فى أواخر القرن الأول الميلادي] ذاكراً من ضمن أسماء التلميذين المرسلين اسم يوحنا، وبالتالي صار هذا الأمر معروفاً لدى المؤمنين، وأصبحت أية إشارة أخرى إليه هى أمر زائد.

وفى مقابلة حدث الإعداد للعشاء الأخير، بحدث الإعداد للدخول الأخير أيضًا لأورشليم، نجد أنه كما اهتم السيد بدخوله أورشليم يوم الأحد وأرسل من بيت عنيا تلميذين لكي يُعدا لذلك أنظر (مر١:١١)، (مت١:٢١) و(لو٢٩:١٩)، هكذا نراه يوم الخميس، وأيضاً من بيت عنيا يرسل بالمثل تلميذين إلى أورشليم لكي يُعدا لعشائه الأخير .

وبالعودة الآن إلى الرواية الإنجيلية عن الإعداد للعشاء فإننا نسمع السيد يقول للتلميذين أن يذهبا إلى المدينة (أورشليم) حيث سيقابلهم شخص ما يحمل جرة بها ماء. هذا الإنسان يجب أن يتبعاه، وفى البيت الذي سيدخله، يدخلان هما أيضًا، وأن يقولا لصاحب البيت إن المعلم يقول: “وقتي قريب، أين المكان حيث آكل الفصح مع تلاميذي؟”، وهذا عندئذ سوف يريهما عليَّة كبيرة مفروشة مُعدة، هناك يجب على التلميذين أن يُعدَّا للعشاء. والرواية تنتهي على التأكيد بأن التلميذين وجدا كل شئ مثلما قال لهما يسوع بالضبط، وهكذا أعدا العشاء.

ليس لدينا أصول [نصوص تاريخية]، عن صاحب البيت، الذي تم فيه العشاء الأخير، لكن وفقاً لتقليد الكنيسة القبطية فإن المنزل يخص مريم أم يوحنا (مرقس الرسول)، وهو أيضاً المنزل الذي من المحتمل أن تكون اجتماعات المسيحيين الأوائل قد صارت فيه أنظر (أع١٢:١٢). لهذا، لم يكن من الصعب على مرقس أن يصف لنا عُلَّية بيته أنها كانت “كبيرة، مفروشة، معدة” (مر١٥:١٤).

وفقاً لعادات البناء في فلسطين فى ذاك الوقت، العُلَّية هى حجرة توجد فى الدور الثاني للبيت،كانت تستخدم للاجتماعات أو للمراسيم، والصعود لها كان يتم عن طريق سلم من خارج البيت .

فى رواية إرسال التلميذين لإعداد العشاء كما قرأنا، لا شك أن بعض الأسئلة تتولد مثل :

أولاً: لماذا لم يُسمِّ السيد “بالاسم” الرجل حامل جرة الماء للتلميذين المرسلين؟

ثانيًا: ماذا كان يهدف السيد من ذكر هذه الرواية مسبقاً وبكل هذه التفاصيل الدقيقة؟

بالنسبة للسؤال الأول:

إجابة أولى نأخذها من القائلين بأنه كان هناك اتفاق مُسَبق ليسوع مع هذا الشخص الأورشليمي، وذلك حتى ينبهر التلاميذ عندما يتحقق معهم هذا الأمر.

لكن إجابة هؤلاء المفسرين هى ـ فى الحقيقة ـ بعيدة عن روح النص وهدفه، بينما هناك إجابات قريبة جداً من روح النص ومن طريقة السيد فى التعليم مثل:

بطريرك الإسكندرية فى القرن الخامس الميلادي القديس كيرلس الكبير: الذي يرى أن السبب فى عدم تسمية الرجل حامل جرة الماء من قِبَل السيد، يرجع إلى علم السيد، أن يهوذا الخائن قد عاهد اليهود على تسليم معلمه لهم، وبالتالي ففي حال معرفته باسم هذا الرجل، سوف يذهب (يهوذا) ويبلغ اليهود.

الكاتب القبطي فى القرن الثاني عشر سمعان بن كليل، الذي يُرجع السبب إلى معرفة السيد بأن رؤساء اليهود الدينيين ينتظرون قدومه إلى أورشليم للقبض عليه، ولذا لكي يجنب التلميذين المرسلين أية أسئلة عن البيت، أظهر لهم، بطريقة مدهشة، كيف سيصلون هناك، وبدون التعرض لأي خطر من اليهود.

ولاشك، أن رؤية رجل يحمل جرة ماء، فى حين أن الاستقاء كان حتى ذلك الوقت هو عمل النساء أساسًا أنظر (تك١١:٢٤) (تث١٠:٢٩ ـ١١) (يو٧:٤)، سوف يكون للتلميذين بمثابة علامة سهلة أولاً للتعرف على الشخص، وثانيًا لإتمام رسالتهم.

أما بالنسبة للسؤال الثاني:

وهو إلى ماذا يهدف السيد، عندما يذكر مسبقا كل هذه التفاصيل الدقيقة فى رواية إرسال التلميذين؟..

نجيب بأن هذا يكشف كيف أن السيد المسيح يعرف ليس فقط هذا الحدث الصغير، ولكن كل ما هو متوقع أن يحدث له فى آلامه بعد قليل، وأنه يقبل كل ما هو آتٍ عليه بإرادته. فأحداث الآلام لم تُفرض على السيد، الذي فوق أنه عالم بكل شئ أنظر (يو٣:١٦) كان أيضًا فوق كل خطط الشرير.

بكلام آخر، لم يكن السيد المسيح ذبيحة مقيدة تقاد إلى الموت فى عربة يقودها الشيطان، لكنه كان يعرف مسبقًا كل ما سيحدث له ويتبع هذا باختياره. فهو سيد كل الأحداث، يعرفها جميعًا ويتكلم عنها مسبقًا وحتى بدقائق التفاصيل فيها، وإنه يكابد الآلام طوعًا، محققًا إرادة الله الآب لأجل خلاص البشرية. هذا بالتحديد ما يحاول السيد أن يجعله مفهومًا لدى تلاميذه، سواء بكلماته المختلفة أو بأعماله العظيمة، وهنا بالذات بهذا التنبؤ عما سيحدث لهم عند دخولهم المدينة.

في النهاية يعطينا القديس كيرلس الإسكندري تفسيرًا “سري، وضروري” كما يصفه بنفسه لرواية إرسال التلميذين، ويقول: لأنه كما قال لهم حيث يدخل الإنسان حامل جرة الماء، هناك في هذا البيت سوف يجلس المسيح، هكذا الماء الذي يعلن عن المعمودية المقدسة، سوف يغسلنا من كل الأثام حتى نصير هيكلاً لله ومشاركين لطبيعته الإلهية (الاتحاد به) بشركة الروح القدس .

 

المشكلة التفسيرية لزمن إرسالية التلميذين لإعداد العشاء الأخير

بمواصلتنا لموضوعنا، نلاحظ التالي، أن هناك مشكلة تفسيرية تظهر من بداية الآية الأولى للرواية، عند الإنجيليين الثلاثة، والتي وفقًا لها صارت إرسالية التلميذين “في اليوم الأول للفطير، حين كانوا يذبحون الفصح” (مر١٢:١٤، مت١٧:٢٦، لو٧:٢٢). فمن المعروف، أن اليوم الأول للفطير 15 نيسان لا يتوافق مع يوم ذبح خروف الفصح ١٤ نيسان (أنظر خر١٢). كيف إذن يعطينا الإنجيليون الثلاثة الانطباع أن اليومين واحد؟

نجيب: في الحقيقة الإنجيليون الثلاثة لا يوحدون اليومين، ولكن هذا الانطباع الظاهري يأتي من الترجمة العربية غير الدقيقة للصفة “الأول”، والتي في النص الآرامي الأصلي لكلمات السيد المسيح هى ظرف زمان بمعنى “قبل”. إذًا فآية (مرقس١٢:١٤) “وفي اليوم الأول من الفطير..” ترجمتها السليمة “وقبل يوم الفطير” والذي فيه يذبح خروف الفصح. ونفس الأمر يسري على الشاهد (مت٧:٢٦)، الذي يأخذ أساس مادة إنجيله من القديس مرقس.

هذا الشرح يُعضَد بالأكثر إذا أخذنا في الاعتبار أن كثيرين من المفسرين القدماء والحديثين قد لاحظوا أن الصفة “الأول” استخدمت في مواضع أخرى للعهد الجديد بمعنى “السابق”، أنظر على سبيل المثال (مت١٩:١٢) (يو١٥:١،١٨:١٥) (اع١:١) (اتيمو١٢:٥) ( عب٧:٨) ( رؤ٤:٢ـ٥،١:٢١).

أيضًا الشاهد (لو٧:٢٢) يصير واضحًا عندما نضع في اعتبارنا هاتين المعلومتين:

في يوم ذبح الخروف كان يجب على كل اليهود أن ينزعوا أى أثر للخميرة من منازلهم، وأن يعدوا فقط خبز غير مختمر (فطير) الذي سيأكلونه مع الخروف المذبوح من بعد غروب الشمس. لهذا كان معروفًا لديهم يوم ذبح الخروف (الفصح) بيوم الفطير أنظر (خر٨:١٢ -١١).

عيد الفطير كان يبدأ مع غروب شمس يوم ١٤ نيسان، وذلك بأكل خروف الفصح مع الفطير، ويستمر الاحتفال به لمدة أسبوع كامل، أى ينتهي بغروب شمس يوم ٢١ نيسان أنظر (خر١٥:١٢ -٢٠).

لكن في لغة الشعب اليهودي المصطلحات “فصح”، “فطير” كانت متبادلة بدون تمييزواستخدمت بدون تفرقة، عند الحديث عن يوم ذبح خروف الفصح، وأيضًا عن كل الثمانية أيام للعيد أنظر على سبيل المثال (لو٢٢:٧ ،١)(أع٣:١٢-٤).

في هذه النقطة من الجدير، أن ننتبه إلى الحقيقة التالية، أنه على الرغم من أن الأناجيل قد كتبت في وسط غير يهودي، إلا أن رواياتها وخاصة روايات آلام السيد المسيح، تحوى عناصر يهودية كثيرة، وحتى الأشياء الدقيقة منها، الأمر الذي لا يُفسر إلا إذا كان الإنجيليون قد وضعوا في اعتبارهم أن قرائهم كانت لديهم معلومات كافية عن الوسط اليهودي.وبالتالي فإن رأى Lohse الزاعم أنه بسبب أن الأناجيل تألفت فى مناطق يونانية لم تكن العادات اليهودية معروفة فيها، لهذا حدث الخلط بين يوم الفطير ويوم ذبح خروف الفصح عند القراء، هو رأي غير سليم.

مشكلة زمن إتمام العشاء الأخير وتحديده فصحيًا كان أم غير فصحيًا:

فى كتابات الأقباط المفسرين، قديمًا وحديثًا، يسود ـ فيما بين أراء أخرى ـ رأيين أساسيين يتعلقان بموضوع زمن إتمام العشاء الأخير ليسوع مع تلاميذه، وتحديده إن كان فصحيًا أم لا.

الرأي الأول:

يعتمد حرفيًا على الشواهد الخاصة التى تُذكر عند الإنجيليين الثلاثة (مرقس، متى، لوقا) وينادى بأن العشاء الأخير تم فى مساء يوم الخميس فى نفس الوقت مع الفصح اليهودي، وبالتالي كان العشاء فصحيًا. ومن ثم فالصلب وقّع فى يوم العيد “يوم الجمعة”.

الرأى الثانى:

يعتمد أساسًا على الشواهد المقابلة للإنجيلي الرابع يوحنا، ويرى أن العشاء الأخير تمّ قبل العشاء الفصحى اليهودي بيوم، وبالتالى لم يكن فصحيًا. أى أن الفصح اليهودى وقع يوم الصلب مساءً (أى الجمعة مساءً).

لكن قبل أن نعرض أدلة كل رأي يجب أن نركز على أن الذي له أهمية كبرى فى الموضوع والذي يعنينا، ليس هو زمن إتمام العشاء الأخير ولا هو تحديده إذا كان فصحيًا أم لا؛ إنما هو المعنى الذى يعطيه المسيح والإنجيليون الأربعة لهذا العشاء بالذات.

وبعدما شددنا على هذه الأهمية نستطيع الآن أن نتقدم لعرض أدلة كل رأي، مبتدئين بالرأي الأول نسجل الآتي:

 

الرأى الأول العشاء الأخير كان فصحيًا: الأدلة:

عندما أرسل يسوع نفسه تلميذين إلى منزل ما فى أورشليم، قال لهما اذهبا وأَعدا لنا الفصح لنأكل (لو٨:٢٢) أنظر (مر١٤:١٤)(مت١٨:٢٦) .

الرواية تنتهى عند الإنجيليين الثلاثة بالمعلومة، أن التلميذين “أعدا الفصح” (مت١٩:٢٦) (مر١٦:١٤) (لو١٣:٢٢) .

فى الأناجيل الثلاثة الأولى ذُكِرّ أن السيد تعشى مع تلاميذه يوم الفصح “ولماَّ كانت الساعة اتكأ والأثنا عشر رسولاً معه” (لو١٤:٢٢) (مر١٧:١٤) (مت٢٠:٢٦).

أيضًا فى الأناجيل الثلاثة، يوجد الوصف الصريح للعشاء أنه فصحي، على سبيل المثال “… أين تريد أن نمضي ونعدَّ لتأكل الفصح” (مر١٢:١٤) (مت١٧:٢٦) (لو22: 10).

فى (لو١٥:٢٢) قال يسوع لتلاميذه فى وقت العشاء: “شهوةً اشتهيتُ أن أكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم”.

اجتماع التلاميذ، جو العشاء، الاستخدام لعصير الكرمة ومعه صلاة الشكر ليسوع، وفى النهاية الترتيل والتسبيح، كُلّ هذا من صفات العشاء الفصحي لليهود.

فى كون إنه لم يصر حديث عند الإنجيليين الثلاثة، عن خروف الفصح، فهذا يُشرّح بالتفسير: أن فى مكان خروف الفصح، وُجد حمل الله الرافع خطية العالم كله (أنظر يو 1: 29)، والذي سوف يُسلّم بعد قليل إلى الذبح (أنظر إش٧:٥٣)

السيد، الذي جاء لا لينقض الناموس أو الأنبياء، بل ليُكَمل أنظر (مت١٧:٥)، كان يجب عليه قبل أن يُسلّم إلى التلاميذ ذبيحة العهد الجديد، أي جسده ودمه، أن يتممّ أولاً ذبيحة العهد القديم، أي العشاء الفصحى.

إذا لم يكن قد أكمل يسوع فى يوم العيد، العشاء الفصحي، لأعطى لليهود عندئذ مبررًا ـ قويًا ـ لاتهامه كناقض أو كمخالف للناموس؛ ولا يجب علينا أن ننسى أن يهوذا ـ الخائن ـ كان حاضرًا.

وأخيرًا، الشواهد من يوحنا (١٩: ٣١، ١٨: ٢٨) قد أُسيء فهمها من بعض المفسرين وذلك باستخدامها كأدلة على أن العشاء الأخير ليسوع لم يكن فصحيًا. هذه الشواهد ليوحنا «عدم دخول اليهود دار الولاية لكي لا يتنجسَّوا فيأكلون الفصح، فى كون ذلك السبت كان عظيمًا» تُشرح من وجهة نظر التقويم التاريخى للإنجيليين الثلاثة، وعندما يأخذ الإنسان فى اعتباره أن المصطلحات الزمنية الخاصة بالأعياد فى القرن الأول الميلادى بفلسطين، والتى تتعلق بالفصح وبعيد الفطير كانت غير محددة. وبالتالى فالافتراض أن التقويم التاريخى ليوحنا يمكن أن يماثل (يشابه) ذاك الذي للإنجيليين الثلاثة هو (افتراض) بالتأكيد قيم ولا يجب أن يُغفْل.

عند هذه النقطة، وقبل أن نعرض أدلة الرأي الثانى، نظن، أنه من المفيد أن نعطي فكرة عن:

 

طريقة إتمام العشاء الفصحي اليهودى :

فى طقس العشاء الفصحى: المتقدم فى الترتيب لكل عائلة يبارك الكأس الأول، بينما كل عضو يمسك كأس بيده، قائلاً بصوت مسموع، العبارة: [مبارك الرب إلهنا ملك العالم، خالق ثمرة الكرمة].

من بعد شرب عصير الكرمة (الكأس الأول) وأكل بعض الأعشاب المرة مغموسة فى عصير فاكهة «تين، تفاح، عنب» مع بهارات وخل، يتبع ذلك من جانب المتممّ للطقس، كبير العائلة، الشرح لأعضاء الأسرة، لمعاني مكونات العشاء مع التركيز على أهمية مناسبته، هكذا على سبيل المثال:

الالتزام بأن تكون ذبيحة الفصح، حيوان صغير حمل أو جَدْيّ، سليم، ذكر، ابن سنة واحدة، يظهر أن الذبيحة تخص قانونيًا مقدمها أنظر (خر٥:١٢).

ذبح الذبيحة يمثل البداية لعمل الله الخلاصى. إذ عبر الموت (الملاك المهلك) على بيوت المصريين والإسرائيليين ولكن بسبب الدم ابتعد عن بيوت الإسرائيليين أنظر (خر١٢:١٢ -١٣).

واليهود فى إعدادهم لخروف الفصح كانوا يشوونه بطريقة كما لو كان الخروف مصلوبًا، أى فى شكل يصور مسبقًا صلب يسوع. فشهادة المعلمين الرابونيين الخاصة تُظهر أن فى أورشليم كان خروف الفصح يُقدم بطريقة تشابه طريقة الصلب. وحتى الطقس السامرى القديم (قبل أن يتغير) تبع هذا التقليد الأورشليمى. بل والأكثر من هذا، أنه توجد أيضًا تشابهات بين الحمل الذى يُشوّى وأحشاؤه ملفوفة حول رأسه والسيد المسيح وهو مصلوب وإكليل الشوك حول رأسه أنظر (خر٩:١٢) (مت٢٩:٢٧) (مر١٧:١) (يو٢:١٩).

طلاء القائمتين والعتبة العليا للبيت بدم ذبيحة الفصح يهدف الى حماية الإسرائيليين (أنظر (خر١٣:١٢)

أكل اللحم مشويَّا وليس نيئا أو مطبوخًا، مع عدم بقاء شئ منه للصباح، دلائل على ضمان تحقيق النصرة الإلهية (أنظر خر٩:١٢ ـ١٠).

الأعشاب المُرَّة لتذّكر مرارة الإقامة فى بلدة فرعون (خر٨:١٢).

الخبز غير المختمر (الفطير) يرمز إلى سرعة خروجهم من أرض مصر، وإيفاء احتياجاتهم فى البرية، والى أن المقدمين له يرفضون كل شر وخبث ويأتون فى شركة مع الله أنظر (خر٨:١٢) (١كو٨:٥).

عصير الكرمة وعصير الفاكهة هما من ثمار أرض الميعاد.

النهي عن كسر عظام الذبيحة والتخلص من أي شئ يتبقى منها، لهما أسباب تاريخية ولاهوتية أنظر (خر١٠:١٢ ،٤٦) (يو٣٦:١٩).

بعد هذا الشرح من جانب رئيس العائلة والتشديد على ذكرى التحرر من عبودية المصريين يرتل الحاضرين المزمورين (١١٣ ،١١٤) والمعروفين بـ «هللويا الصغير». ثم يلي ذلك شرب الكأس الثانى من عصير الكرمة مع أكل وجبة العشاء الرئيسية أى الحمل المشوي، وفى أثناء العشاء يشرُب أيضًا الكأس الثالث، المدعو كأس البركة، والذي يصاحبه صلاة شكر.

هذا الطقس الاحتفالي والذي يتم فى كل بيت فى أورشليم بمشاركة عشرة أفراد على الأقل فى العشاء في ذكرى الضربات العشرة لفرعون ينتهي بالترتيل للمزامير (١١٥،١١٦،١١٧،١١٨)، والمعروفة بـ «هللويا الكبير» وذلك فى منتصف الليل تقريبًا أنظر (خر٣:١٢- ٤).

بعدما أكملنا عرض أدلة الرأي الأول، ثم تحدثنا عن طريقة التعييد بالفصح اليهودي، نأتي الآن إلى وضع أدلة الرأي الثاني بجوار أدلة الرأي الأول.

 

الرأى الثانى: العشاء الأخير لم يكن فصحيًا: الأدلة

قول يسوع فى ساعة العشاء الى أمين الصندوق، يهوذا، “ما أنت تعمله فأعمله بأكثر سرعة” (يو٢٧:١٣) وفُهم هذا القول من بعض التلاميذ، أن يسوع قال ليهوذا “اشتر ما نحتاج إليه للعيد” (يو٢٩:١٣) يظهر أنه حتى وقت العشاء لم يكن عيد الفصح قد بدأ بعد .

فى (يوحنا ٢٨:١٨) يذكر عن اليهود أنهم “جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية. وكان صبح. ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية لكى لا يتنجسوا فيأكلون الفصح” وكشرح تفصيلي هنا نذكر أن من ضمن اليهود الذين جاءوا بيسوع إلى دار الولاية ولم يريدوا أن يدخلوا، كانت جماعة الكهنة ورؤساءهم أنظر (مر١:١٥) (مت١:٢٧) (لو٢٣: ١، ٢٢، ٦٦) والذين يجب عليهم أن يكونوا طاهرين، لكى يستطيعوا إتمام طقس ذبح الحملان فى الهيكل، كطقس رسمي قبل غروب الشمس. وبالتالي عدم إمكانهم دخول دار الولاية للأمم لا يرجع فقط إلى ضرورة بقائهم طاهرين حتى يتمكنوا من أكل الفصح، ولكن يرجح أيضًا وأساسًا إلى ضرورة بقائهم طاهرين حتى يتمكنوا من ذبح خروف الفصح .

مرة أخرى فى (يو١٤:١٩) يعلن يوم الصلب أنه كان مع “استعداد الفصح”.

أيضًا من (١٣:١٩) نعلم أن اليهود رفضوا بقاء أجساد المصلوبين على الصليب فى يوم السبت لأن يوم ذلك السبت كان عظيماً ولا يسمى إطلاقًا يوم السبت فى أى موضع آخر بيوم السبت العظيم إلا عندما يكون عيداً أنظر (تث٢٢:٢- ٢٣).

الشاهد “أمّا يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم أن ساعتهُ قد جاءت..” (يو١:١٢) هو دليل واضح جداً إذ يحوي ظرف الزمان “قبل”.

 

آراء ـ حلول وسطية لمشكلة زمن إتمام العشاء الأخير

الاختلاف الذي يظهر من النظرة الأولى بين شهادات الإنجيليين الثلاثة وبين شهادة يوحنا بخصوص زمن إتمام العشاء الأخير، جعل بعض الباحثين يفكرون في إقامة جسر يربط بين هذه الشهادات مقترحين الحلول الوسطية التالية:

الأب بطرس السدمنتي (ق١٣م) علي سبيل المثال، يقول أن عيد الفصح كان قانونياً يوم الخميس، لكن اليهود بسبب انشغالهم بالقبض علي يسوع أجلوا الاحتفال به لليوم التالي أي الجمعة. لكن رأي بطرس السدمنتى هذا ليس هناك شواهد كتابية تؤيده.

الباحثة jaubert تفترض أن يسوع فى احتفاله بعيد الفصح لم يتبع التقويم القمري الرسمي والخاص بطائفة رجال الكهنوت فى أورشليم، لكنه اتبع التقويم الشمسي الخاص بجماعة الأسنيين فى وادي قمران، والذى وفقاً له تقع الأعياد الكبيرة دائماً فى نفس اليوم كل عام . فعيد الفصح فى موضوعنا كان يوم الأربعاء والسيد احتفل به مع التلاميذ مساء يوم الثلاثاء (بداية يوم الأربعاء)، وهذا التقويم حسب رأي الباحثة هو ما اتبعه الإنجيليون الثلاثة الأُول بينما الإنجيلي الرابع يوحنا أتبع التقويم الأورشليمي الرسمي حيث وقع عيد الفصح تلك السنة يوم السبت، والاحتفال به كان من مساء يوم الجمعة. لكن نقطة الضعف فى هذا الرأي، تتمثل فى أنه يترك فترة زمنية طويلة من مساء الثلاثاء “العشاء” وحتى الساعات الأولى من يوم الجمعة حيث تم القبض على السيد لا تتناسب مع كم الأحداث القليلة المعروضة من قبل الإنجيليين مثلاً على سبيل المثال أحاديث ما بعد العشاء «النبوة عن الخيانة، الحديث عن السلطة والخدمة وغسل الأرجل، النبوة عن إنكار بطرس وتشتت التلاميذ، الحديث عن الأزمنة الصعبة» أنظر (مت٢٦، مر١٤، لو١٢، يو١٣) فصول الباراقليط (يو١٤،١٥،١٦)، وصلاة السيد فى (يو١٧) .

الباحثChiberti يعتقد أن يسوع وتلاميذه عاشوا حدث العشاء الأخير بمشاعر اللحظة التى فيها تم العشاء إن كان قرب عيد الفصح أو فى وقت العيد. ويرى أن المشكلة الزمنية بين الإنجيليين الثلاثة ويوحنا ترجع إلى اختلاف التقويم المتبع من كل منهما .

٤ـ الباحث Jeremias يتبنى الرأي القائل إن فى سنة صلب المسيح، كان عيد الفصح يوم السبت ١٥ نيسان، وذبح الخروف كان يوم الجمعة ١٤ نيسان (يوم الصلب). وفى ذاك العام عيّد الفريسيون بعيد الفصح يوم الجمعة ١٤ نيسان بينما الصدوقيون (طائفة الكهنوت) عيدوا يوم السبت ١٥ نيسان. وعليه فإن الأناجيل الثلاثة الأولى تتفق مع الفريسيين فى توقيت عيد الفصح، بينما الإنجيلى الرابع مع الصدوقيين. لكن الباحث نفسه يعترف بأنه لا يوجد دليل تاريخي يثبت أنه فى ذاك العام تم التعييد بالفصح فى يومين مختلفين .

أخيراً الباحث Preiss يقبل أن العشاء الأخير قد تمّ قبل العشاء الفصحى اليهودي بـ٢٤ ساعة ولم يكن فصحياً، ولكنه (أى العشاء الأخير) احتوى على بعض صفات العشاء الفصحي، والتي على أساسها اعتبره التقليد أنه فصحياً .

 

الرأى الثانى ـ العشاء الأخير لم يكن فصحياً ـ أكثر صحة من الرأى الأول.

كما يظهر إذن من العرض لأدلة كل من الرأيين اللذين يعبران فى نفس الوقت عن رأينا المتواضع، نرى أن الرأي الثاني أكثر صحة من الرأي الأول وذلك لأنه:

أولاً: يعتمد على العديد من الأساسيات الكتابية والليتورجية واللاهوتية مثل:

من سفر اللاويين (١٥:٢٣ -١٦) نعرف أن عيد الحصاد يقع بعد خمسين يومًا بعد أول سبت من عيد الفصح مباشرة، وإذا كان اليهود في تلك السنة قد عيدّوا عيد الحصاد في نفس يوم الأحد الذي فيه عيدّت الكنيسة عيد حلول الروح القدس (بعد ٥٠ يوما من عيد القيامة) أنظر(أع١:٢). فإن عيد الفصح سنة صلب المسيح يكون يوم السبت ١٥ نيسان إذا حسبناه بحساب الخمسين يوماً ويكون يوم الجمعة ١٤ نيسان هو يوم ذبح الخروف كما يشهد إنجيل يوحنا.

بينما حسب القوانين الناموسية لليهود، فى حالة الحكم القضائى بالموت، يجب أن يصدر قرار الحكم ثاني يوم المحاكمة، نجد أن رؤساء الكهنة والمجمع اليهودي أصدروا قرار قتل يسوع نفس يوم المحاكمة أنظر (مت٦٦:٢٦) (مر٦٤:١٤) (لو٧٠:٢٢) أي يوم الجمعة متجنبين بذلك اليوم التالي، السبت لكونه العيد .

فى التلمود اليهودي يُذكر أن «يسوع عُلق على خشبة فى عشية الفصح».

فيما عدا الإنجيليين، فإن الرسل أيضاً لا يذكرون فى أى مكان فى رسائلهم أن السيد أتم الطقس الفصحي اليهودي، ولكنهم يذكرون أنه فى العشاء الأخير سلّم، فصحه الخاص به، أي جسده ودمه الأقدسين، يكتب الرسول بولس، فيما يخص ذلك: “لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا” (١كو٧٥).

التقليد الليتورجى القبطى، يقبل أن العشاء الأخير للمسيح تم قبل العشاء الفصحي اليهودي بيوم ولذا فالكنيسة القبطية الأُرثوذكسية مثلها مثل سائر كل الكنائس الأرثوذكسية (خلقيدونية وغير خلقيدونية)، تستخدم الخبز المختمر (وليس الفطير) فى ممارسة سر الشكر الإلهي.

أيضاً فن رسم الأيقونات فى الكنيسة القبطية يعطي صدى للرأي الثاني، إذ في مناظر العشاء الأخير، لا يرسم حمل وأطباق وكؤوس على المائدة (كما يحدث على سبيل المثال في الأيقونات الغربية)، لكن قطعة من الخبز يمسكها السيد بيده، وكأس من عصير الكرمة .

ثانياً: غالبية آباء الأسكندرية والكتاب الكنسيين الأقباط، يتبنون الرأي الثاني، ومن هؤلاء الآباء من عاشوا بالقرب من أزمنة كتابات العهد الجديد ومن تفاسير وتقاليد تلك الأزمنة. على سبيل المثال:

القديس كليمندس الأسكندرى (ق.٢م) .

القديس بطرس أسقف الأسكندرية خاتم الشهداء (ق.٣م).

أناتوليوس الأسكندرى (ق.٣م) .

ديديموس (الضرير) الأسكندرى (ق.٤م) .

القديس ثيوفيلوس أسقف الأسكندرية (ق.٥م).

القديس كيرلس الأسكندرى (ق.٥م) .

أمونيوس كاهن الأسكندرية (ق.٥م) .

ثالثًا: يقبل الواحد بصعوبة أن محاكمة السيد المسيح وكل الأحداث المتعلقة بعملية الصلب تكون قد تمت فى يوم عيد الفصح.

اتفاق الإنجيليين الثلاثة ويوحنا على زمن إتمام العشاء الأخير.

من جهة زمن إتمام العشاء الأخير والصلب، فى الحقيقة، لا يوجد أى اختلاف بين الإنجيليين الثلاثة ويوحنا، لأنه ليس من الممكن أن يوحنا وهو عارف مُسبقاً بكتابات الإنجيليين الثلاثة مرقس، ومتى، ولوقا، يكتب فيما بعد ما يخالف هؤلاء.

وبالتالى يأتي عدم صحة فهم الآيات الخاصة بالعشاء الأخير عند الإنجيليين الثلاثة، من جانب أصحاب الرأي الأول، على الأرجح من عدم معرفة الطقس الليتورجي للفصح اليهودي حيث:

من سفر التكوين، نعلم، أن اليوم بحسب الطقس الليتورجي، يبدأ بغروب شمس اليوم السابق، وينتهي بغروب شمس اليوم نفسه أنظر (تك٥:١) فعلى سبيل المثال، يوم الجمعة يبدأ من غروب شمس يوم الخميس وينتهى بغروب شمس يوم الجمعة.

وسفر الخروج يُعرفنا، أن عيد الفصح يقع ـ وفقاً لوصية الرب ـ أنظر (خر١:١٢-٦) (خر٤:١٣) فى اليوم الرابع عشر للشهر الأول أبيب [تسمى من بعد الأسر البابلي (٥٩٣ – ٥٣٨ ق.م) باسم نيسان]، والذي تتفق بدايته مع نهاية مارس أو أوائل أبريل.

وفيما يختص بذبيحة خروف الفصح، نعرف، أنه كان يجب أن تتم فى هيكل سليمان فى أورشليم عند غروب اليوم الذي سيحتفل فى مسائه بعيد الفصح أنظر (تث١:١٦-٧).

 

وبناء على ما سبق

عندما يقول الإنجيليون الثلاثة أن “السيد اتكأ مع الاثنى عشر فى المساء، وفيما هم يأكلون…” [أنظر (مر١٧:١٤ -١٨) (مت٢٠:٢٦ -٢١) (لو١٤:٢٢)] أي تعشى مع تلاميذه يوم الفصح ـ حسب أصحاب الرأي الأول ـ فهذا صحيح جداً لأن يوم الجمعة يوم ذبح خروف الفصح قد بدأ بالفعل. لكن العشاء لم يكن فصحياً، لأن العشاء الفصحي سيتم من بعد غروب شمس يوم الجمعة، وهذا ما يشهد يوحنا عن صحته فى إنجيله.

وما يتعلق بقول يسوع فى متى (١٨:٢٦): “وقتي قريب عندك أصنع الفصح مع تلاميذي”. فالسيد نفسه لا يعني أنه يريد أن يعمل الفصح مع التلاميذ، ولكن بسبب أن ساعة ذبح الحملان فى الهيكل سوف تكون هى بالضبط ساعة صلبه “وقتي قريب”، لهذا اضطر السيد إلى عمل هذا العشاء الخاص والأخير مع تلاميذه لكى يُسلِّم إليهم، ومن خلالهم الكنيسة؛ جسده ودمه الأقدسين.

أيضاً عندما يقول السيد فى (لو١٥:٢٢) “شهوةً اشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم”، فهو يعني تسليم جسده ودمه إلى التلاميذ، والتي هى شهوته الحقيقية، قبل أن يخرج من هذا العالم ويذهب إلى الآب، ولا يعني هنا أكل الخروف، فما الذي يهم السيد من أكل اللحم والفطير.

بل والأكثر من هذا، أنه يمكن للواحد أن يجد فى تقليد الإنجيليين الثلاثة بعض المعلومات، التى تتفق تماماً مع التوقيت الزمني ليوحنا لعيد الفصح. هذه المعلومات هي التالية:

حمل السلاح، فى يوم العيد، كان محرماً [أنظر مثلاً (مكابيين الأول٢٩:٢ـ٣٨)]، بينما لدينا حادثة بطرس فى بستان جثسيمانى، إذ حمل هو نفسه سكيناً [أنظر (مر٤٧:١٤) (مت٥١:٢٦) (لو٤٩:٢) (يو١٠:١٨)].

المعلومة عن سمعان القيرواني، الذى كان عائداً من الحقل فى نفس الساعة التي خرج فيها السيد حاملاً الصليب من دار الولاية إلى الجلجثة [أنظر (مر٣١:١٥) (مت٣٢:٢٧) (لو٢٦:٢٣)]، تشهد على أن ذاك اليوم لم يكن عطلة أنظر (لا ٧:٢٣).

شراء الأكفان، من جانب يوسف الرامي، لدفن جسد يسوع (أنظر مر٤٦:١٤) ليس من الممكن أن يحدث يوم العيد حيث لا محلات مفتوحة ولا حتى الشراء والبيع مسموح بهما (أنظر لا ٧:٢٣).

وأخيراً، عند الإنجيليين الثلاثة الأولّ، وفى العشاء الأخير، لم يصر حديث عن المكونات الأساسية التى منها تتألف المائدة المسائية الفصحية، أى عن الحمل، والأعشاب المرة، والفطير. بل أيضاً الكأس الأول لعصير الكرمة الذي ذكر فى (لوقا ١٧:٢٢) كان واحدًا، ومنه شرب كل التلاميذ، بينما حسب طقس العشاء الفصحي؛ يجب على كل واحد أن يكون له كأسه.

 

نتـــــــــــائج

وفيما نحن نقترب من نهاية هذا الفصل، نرى أنه من الجيد، أن نُبدي قليلاً من أفكارنا عن الآراء السابقة:

السيد المسيح، فى سنوات ما قبل آلامه وصلبه، عيّد الفصح رسمياً، واحتفل بطقسه، آكلاً الحمل، (أنظر لو٤١:٢ـ٤٢؛ يو١٣:٢ـ١٧؛ ١:٥؛ ١:٦ـ٤)، لأنه “لم يأتِ لينقض الناموس أو الأنبياء.. بل ليكمل” (أنظر مت١٧:٥). لكن فى السنة التى تألم فيها لأجلنا، لم يأكل الفصح، إذ هو نفسه كحمل حقيقي ذبح لأجلنا فى يوم ذبح خروف الفصح، يوم الجمعة، الرابع عشر من الشهر الأول القمري نيسان، واضعاً هكذا نهاية للفصح الرمزي، ومؤسساً بذبيحته الفصح الحقيقي.

بالتأكيد، الذى يهمنا كثيراً جداً هو أن الفصح اليهودى، والذى كان شكلاً أو نموذجًا قد أُكمل وتوقف مرة واحدة وللأبد، بتحقيق الفصح المسيحي الحقيقي والجوهري. وهذا حدث سواء كان عيد الفصح يوم الخميس، عندما سلّم السيد المسيح إلى تلاميذه الفصح الجديد، أي جسده ودمه، حالاً بذلك محل ذبيحة العهد القديم ذبيحة العهد الجديد، وهذا ما يبدو لنا من خلال أناجيل متى ومرقس ولوقا، أو سواء كان عيد الفصح يوم الجمعة حيث فى نفس الساعة التي كان فيها الشعب اليهودي يُعيّد ذكرى تحرره من عبودية فرعون، بذبح الحملان فى الهيكل، كان المسيح فى هذه الساعة ـ كما يُسجل الإنجيلي الرابع يوحنا (أنظر١٤:١٩) ـ فوق الصليب مقدماً نفسه كحمل الله، محرراً العالم كله من الخطية (أنظر يو٢٩:١) .

إذن يسوع هو نفسه، الذي أراد أن يتعشى مع تلاميذه يوم الخميس، حتى تكون له الفرصة أن يذبح نفسه، مقدماً جسده ودمه الطاهرين إلى تلاميذه، ومن خلال هؤلاء إلى الكنيسة، صائراً هكذا الفصح الدائم للكنيسة. وهو نفسه أيضاً الذي قدم ذاته على الصليب، يوم الجمعة، صائراً بهذه الطريقة، الفصح الدائم لكل العالم؛ كما رآه يوحنا فى الرؤيا (٦:٥) كـ “خروف قائم كأنه مذبوح” (أنظر أيضًا٩:٥، ١٢، ٨:١؛ عب١١:٩-١٢). كما أن كنيسته دُعيت، أيضاً فى الرؤيا بـ “إمرأة الخروف” (أنظر رؤ٧:١٩- ٨).

ولهذا، عندما نتمم نحن سر الشكر الإلهي، فإننا نتناول جسد ودم المسيح، كفصح العهد الجديد، الذي قُدِّم سرياً فى العشاء الأخير يوم الخميس؛ كما يشهد بذلك الإنجيليون الثلاثة الأُوّل، وهو فى نفس الوقت جسد ودم المسيح، الذى قُدِّم ظاهريًا فى ساعة الصلب يوم الجمعة، كما يشهد بذلك الإنجيلي الرابع .

وفى النهاية، وبغض النظر عن الدلائل التى ذكرت سيان من نصوص الأناجيل أو من التقليد الآبائي، بشأن زمن إتمام العشاء الأخير وعلاقته بالفصح اليهودي، يجب أن نشدّد على حقيقة أن الإنجيليين يعرضون الأحداث الرئيسية والهامة من حياة السيد المسيح على الأرض؛ لأجل إيمان الكنيسة وخلاص الجنس البشري، مهتمين أساسًا وأولاً بالأهمية اللاهوتية والخلاصية لها، وبعد ذلك بالإطار التاريخى.

ثانيًا : سر الشكر الإلهى

رواية العشاء السري عند الإنجيليين الثلاثة الأوُل.

غياب رواية العشاء السري عند الإنجيلي الرابع.

البحث التحليلي لكلمات السيد التأسيسية لسر الشكر الإلهي.

الصيغ الفعلية “أخذ”، “بارك”، “كسر”، “أعطى” والأهمية لها.

خبز وعصير كرمة الإفخارستيا جسد ودم للمسيح حقيقة وليس رموزًا.

التحول الجوهري للخبز وعصير الكرمة إلى جسد ودم المسيح.

الأحوال “مبذولاً”، و”مسفوكًا”وتفسيرها.

الإفخارستيا ذبيحة كفارية وخلاصية لأجل العالم.

المعنى الكنسي لكلمات يسوع “إني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديدًا في ملكوت الله ” (مر٢٥:١٤) (مت٢٩:٢٦) (لو١٨:٢٢).

وصية السيد “هذا اصنعوه لذكري” (لو١٩:٢٢) وتفسيرها.

نهاية رواية العشاء الأخير.

ما السبب لتسليم سر الإفخارستيا؟.

 

ثانيًا: سر الشكر الإلهى

(مر١٤: ٢٢-٢٦) (مت٢٦:٢٦ -٣٠) (لو٢٢: ١٧-٢٠)

١ ـ رواية العشاء السري عند الإنجيليين الثلاثة الأُوَل:

رواية العشاء السري بحسب (مر٢٢:١٤ ٢٦) في حين أنها تعتبر كتكملة للرواية السابقة عن العشاء الأخير (مر١٢:١٤ـ١٦)، إلاّ أنها كانت أيضًا جزءً معروفًا في التقليد الليتورجي للكنيسة الأولى، أخذه القديس مرقس ـ كما هو ـمن صلاة إفخارستيا كانت منتشرة بكثرة في ذلك الوقت، إذ تتكرر بنفس الكلمات ـ تقريبا ـ عند الإنجيليين الثلاثة الأُوَل، وأيضا في الرسالة الأولى لبولس إلى الكورنثيين (أنظر١١: ٢٣ -٢٥) .

والقديس متى في إنجيله ـ الذي يعقب إنجيل مرقس زمنيًا ـ عدَل في هذا الجزء من صلاة الإفخارستيا، مضيفا بعض الإضافات، ومحدثا بعض التغيرات التي جاءت كصدى، أو من تأثير العمل الليتورجي للكنيسة فى أيامه؛ فعلى سبيل المثال:

الصيغة الروائية بحسب مرقس: “فشربوا منها كلهم” (١٤: ٢٣) صارت عند متى “اشربوا منها كلكم” (٢٦: ٢٧).

في حالة الكأس: أضاف العبارة “لمغفرة الخطايا” (٢٦: ٢٨).

التعبير “في ملكوت الله ” (مر ١٤: ٢٥) تغير إلى “في ملكوت أبي” (٢٦: ٢٩).

رواية الإنجيلي الثالث لوقا عن سر الشكر الإلهي تظهر أيضا بعض التغييرات عن الروايات المقابلة «لمرقس ومتى»، والتى تعكس بالمثل تأثير العمل الليتورجي للكنيسة، وعلى أكثر الاحتمالات لكنيسة أفسس، حيث كتب لوقا إنجيله هناك. تغييرات مثل هذه هي كالتالي:

يسوع يبارك كأسين، الأول قبل مباركة الخبز وكسره، والثاني “بعد العشاء” حيث الكلمات التأسيسية للسر تصاحب مباركة الكأس الثاني. (أنظر لو٢٢: ١٨-٢٠).

يعلن رغبة يسوع الشديدة لأن يأكل قبل آلامه، العشاء الفصحى مع تلاميذه (أنظر لو ١٥:٢٢).

العبارة “لأني أقول لكم إني لا…” تكررت مرتين، الأولى بعد الإعلان عن رغبته في أكل العشاء الفصحي “لأني أقول لكم إني لا أكل منه…” (لو٢٢ :١٦) والثانية بعد مباركة الكأس الأول “لأني أقول لكم إني لا أشرب…” (لو٢٢: ١٨).

بعد مباركة الخبز، يعطي النصيحة “اصنعوا هذا لذكري” (٢٢: ١٩).

هكذا ـ وكما أشرنا سابقًا ـ فإن روايات الأناجيل عن العشاء السري ليسوع تعكس صدى وتأثير التقليد الليتورجي للكنائس. بكل تأكيد، العشاء السري إحتوى أكثر مما رواه الإنجيليون. لكن هؤلاء ركزوا على كل ما كان سائدًا كعمل ليتورجي فى الكنيسة، وبالتالى فالعمل الليتورجي هو الذي حفظ لنا وبدقة، كلمات يسوع التي نطق بها في وقت العشاء الأخير. بكلمات أخرى، الحياة الليتورجية للكنيسة هي في النهاية المجال أو الوسط الذي فيه تُسلّم وتُفسر وتُعاش كلمات يسوع، وخاصة تلك الكلمات التي بها أسس سر الشكر الإلهي.

٢ ـ غياب رواية العشاء السري عند الإنجيلي الرابع :

في رواية الإنجيلي الرابع “يوحنا” نلاحظ أن الكلمات التأسيسية لسر الشكر الإلهي لا تُذكر، كيف يُفسر إذن هذا الغياب.

هل لأنه الأخير الذي كتب إنجيله «نهاية القرن الأول الميلادي» والثلاثة السابقين عنه أشاروا إلى تسليم السر، ولذا اعتبر أن الإشارة إليه من جديد هو أمر زائد عن الحاجة؟.

هل بسبب أن سر الشكر الإلهي قد دخل مبكرا في الحياة الليتورجية للكنيسة، وصار معروفًا ومنتشرًا بين المؤمنين؟.

أم هل يوحنا بالقول فى (١٢: ٢٤) “الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها؛ ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير” وبالمعنى ـ كما يكتب هو ـ أن حبة الحنطة هي يسوع؛ خبز الحياة، والخبز الذي سيعطيه يسوع هو جسده الذي سوف يبذله من أجل حياة العالم (أنظر يو٦: ٤٨-٥١)، يلخص لنا المعنى الرئيسي للعشاء السري،تاركا التفاصيل للإنجيليين الثلاثة؟

هنا بالتحديد، من الجدير أن نسجل الرأي الآتى لمطران بني سويف الراحل نيافة الأنبا أثناسيوس: يوحنا لا يذكر الكلمات المتعلقة بالعشاء السري؛ أي كلمات التسليم لسر الشكر الإلهي؛ لأنها هي نفسها موجودة في الأناجيل الأخرى، وقد صارت ـ من قبل يوحنا ـ معروفة للكثيرين. لكن يوحنا يهتم بتسجيل أحداث أخرى تغيب عند الإنجيليين الآخرين، على سبيل المثال: غسل أرجل التلاميذ، الحوار بين بطرس ويوحنا حول شخصية من سوف يسلم السيد، لحظة خروج يهوذا (أنظر يو١٣) .

٣ ـ البحث التحليلي لكلمات السيد التأسيسية لسر الشكر الإلهي :

قبل أن نبحث تحليليا الكلمات المتعلقة بتسليم سر الشكر الإلهي من السيد إلى التلاميذ أثناء العشاء الأخير، يجب أن نذكر هذه الملاحظة: أن وصف العشاء السري من جانب الإنجيليين الثلاثة مختصر، وكلمات يسوع المؤلفة لسر الشكر الإلهي هى مركزة وموجزة، فالإنجيليون الثلاثة لا يصفون تفصيليًا تلك الليلة، لكنهم يركزون رواياتهم على كلمات السيد .

والآن نتقدم إلى البحث التحليلي للكلمات التي تختص بسر الشكر الإلهي :

أ ـ الصيغ الفعلية “أخذ”، “بارك” “كسر” “أعطى”  وأهميتها:

الصيغ الفعلية “أخذ”، “بارك”، “كسر”،”أعطى”، التي تُذكر هنا، تُذكر أيضا في رواية معجزة إكثار الخبز (إشباع الجموع) ( أنظر (مر6: ٣٤-٤٤) (مت١٤: ١٥-٢١) (لو٩: ١٢- ١٧) (يو٦: ٥-١٤). وهذه الرواية الأخيرة قد اعتبرتها الكنيسة من القرون الأولى ـ نموذجًا لرواية سر الإفخارستيا؛ وبالتالي المقابلة بين الروايتين تشرح لنا بكلمات مبسطة كيف يستطيع المسيح أن يقدم نفسه في سر الشكر الإلهي، على عدد لا حصر له من المذابح وفي نفس الوقت.

ب ـ خبز وعصير كرمة الإفخارستيا جسد ودم للمسيح حقيقة وليس رموزًا:

الخبز الذي قدمه يسوع إلى تلاميذه لا يرمز إلى جسده لكنه هو جسده، أيضًا عصير الكرمة لا يرمز إلى دمه، لكنه هو دمه حيث:

ضمير الإشارة “هذا” يُظهر أن هذا الخبز هو جسده، وهذا النبيذ هو دمه أنظر (مر١٤: ٢٢، ٢٤) (مت٢٦:٢٦ ، ٢٨) (لو٢٢: ١٩،٢٠).

بنفس الطريقة، الفعل “يكون” هنا لا يترك هامشًا لأفكار عن الرمزية لجسد ودم المسيح، عن الخبز وعصير الكرمة.

وفي الرسالة الأولى إلى الكورنثيين، يؤكد الرسول بولس، إن أكل الخبز وشرب عصير الكرمة، في سر الشكر الإلهي، هما شركة حقيقية في جسد المسيح ودمه (أنظر١٠: ١٦).

[لا تشك] هكذا يشدد القديس كيرلس: [لحقيقة هذا، حيث هو نفسه قال بوضوح: “هذا يكون جسدي”، و”هذا يكون دمي” بل بالأكثر أقبل بإيمان قول المخلص، لأنه هو الحق الذي لا ينطق بالكذب] .

الكاتب القبطي جرجس بن العميد (ق١٤م) يعطي تفسيره التحليلي الخاص فيما يتعلق بتحول الخبز وعصير الكرمة فى سر الإفخارستيا ويقول: [نؤمن، أن الخبز وعصير الكرمة اللذين يُقدَّمان اليوم في الكنيسة، يتحولان بنعمة الروح القدس إلى جسد ودم المسيح، اللذان سلمهما السيد إلى تلاميذه في العشاء السري. هذه العناصر؛ أي الخبز وعصير الكرمة ليست هى مثال لجسد ودم المسيح، لكن هي بنفسها جسده ودمه. فالسر الذي سلَّمه السيد المسيح والسر الذي يُتمم باستمرار منذ ذلك الوقت وحتى اليوم في الكنيسة ليس بينهما أي اختلاف إطلاقًا. لأن]

 

يواصل الكاتب حديثه [قوة التقديس التي عملت في ذلك الوقت في الخبز وعصير الكرمة، هي نفسها التي تعمل حتى الآن في كل إفخارستيا لا تتغير ولا تستنفذ] .

وفي هذه النقطة يبرهن الكاتب على صحة قوله، معتمدًا على شاهدين؛ الأول من الرسالة الأولى لأهل كورنثوس (١١: ٢٧) والثاني من الإنجيل ليوحنا (٦: ٥٣)، حيث الشاهد الأول يعلن لنا أن الذي يتناول بدون استحقاق خبز وعصير كرمة الإفخارستيا يكون مجرمًا فىجسد ودم السيد المسيح وليس (فى) أشياء ترمز لهما. والشاهد الثاني يقول أن الذي لا يأكل من جسد ابن الإنسان، ولا يشرب من دمه ـوليس من أشياء مماثلة لهما ـ لن تكون له حياة.

في العشاء الأخير، قال يسوع الكلمات التالية بالآرامية عن الخبز والكأس “هذا يكون جسدي… هذا يكون دمي”. ومسيرة الترجمة والنقل أثمرت عن صياغة مؤكدة، فبخصوص العبارة “هذا يكون جسدي” (مر١٤: ١٢) من الجدير أن نذكر أن الدارسين للغة الآرامية، من بعد أبحاث عديدة، وصلوا إلى النتيجة أن العبارة السابقة كانت في البداية هكذا: “هذا يكون أنا ”

هذه العبارة المُعبِّرة جدًا ” هذا يكون جسدي “يوضحها الفن القبطي عندما يرسم سمكة على مائدة العشاء السري، حيث كلمة سمكة في اللغة اليونانية ICQUS ترمز إلى الحروف الأولى لعبارة يسوع المسيح ابن الله مخلص (‘Ihsoàj CristÕj QeÕu UƒÕj Swt»r)أي أن هذا الذي يُقدَّم في الإفخارستيا هو نفسه يسوع المسيح ابن الله .

أيضا الكنيسة القبطية، ومثل كل الكنائس الأرثوذكسية، تؤمن وتعترف بالتحول السري للخبز وعصير الكرمة إلى جسد ودم المسيح،فقبل التناول مباشرة يعلن الكاهن القبطي جهرًا ثلاث مرات أن هذا الذى أمامه على المائدة هو: جسد مقدس ودم كريم حقيقي ليسوع المسيح ابن إلهنا آميـن”، “مقدس وكريم جسد ودم حقيقي ليسوع المسيح ابن إلهنا، أمين”، “جسد ودم عمانوئيل إلهنا، هذا هو بالحقيقة، آمين” وفى كل مرة يجيبه الشعب “آمين”.

في لحظة سابقة من لحظات أحاديث يسوع، عندما سمعه اليهود وهو يتحدث عن أكل جسده،الذي هو خبز الحياة، بدأوا يتنازعون فيما بينهم قائلين: كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل (يو٦: ٥٢) كما أن بعض تلاميذه (من الدائرة الواسعة وليس من دائرة الاثنى عشر) اعتبروا هذا الكلام صعب ورجعوا إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه” (يو6: ٦٠ ،٦٦). ولكن في لحظة العشاء السري، قَبِلَ الاثنى عشر كلماته وآمنوا، بدون أي تشكك، أن هذا هو جسد ودم معلمهم على الرغم من إنهم يأكلون خبزًا ويشربون عصير كرمة.

ج ـ التحول الجوهري للخبز وعصير الكرمة إلى جسد ودم المسيح:

حفظ الرب يسوع المادة التى منها الخبز وعصير الكرمة، وفي نفس الوقت أجرى ببركته تحولاً داخليًا جوهريًا لهما. بينما في عرس قانا الجليل على سبيل المثال وببركته أيضًا أجرى للماء تحولاً داخليًا جوهريًا وأيضا خارجيًا ظاهريًا إذ صار الماء خمرًا (يو١:٢ـ١١). وبالتالي في سر الشكر الإلهي، ليس لدينا تحول في الشكل أو في الطعم، أو في اللون، ولا حتى في العناصر المكونة للخبز والنبيذ، لكن في الواقع هناك تحول في طبيعتهما الداخلية، أي تكتسب هذه المواد طبيعة أخرى جديدة، لم تكن لها أبدًا من قبل. هذه الطبيعة الجديدة للخبز ولعصير الكرمة لا تخضع للعوامل البيولوجية التى تخضع لها الأطعمة المختلفة للإنسان، ولا تدرك بالحواس الخارجية، لكن بالإيمان، تمامًا مثل السيد المسيح عندما تجسد “أخذ شكل العبد… ووُجد في الهيئة كإنسان ” (في٢: ٧-٨) بينما كان في نفس الوقت ـ وهو دائما ـ الله، والرسول بطرس عرفه فقط بالإيمان (مت١٦:١٦).

وهنا قد يُثار منطقيا السؤال التالي: لماذا اختار السيد الخبز وعصير الكرمة؟

والإجابة التي نعطيها تأتي من الكاتب القبطي سمعان بن كليل (ق ١٢م)، السيد اختار الخبز وعصير الكرمة حيث:

هذه المواد تمثل عناصر مباركة لأكل وشرب الإنسان

من العهد القديم، معروف لنا أن كاهن الله العلي ملشيصادق، قدم لابرآم خبزًا وخمرًا (تك١٤: ١٨).

في خيمة الشهادة، وعلى المائدة وُجد خبز الوجوه (الحضرة) اثني عشر قرصًا في صفين كل صف ستة أقراص (أنظر خر٢٥: ٣٠، لا٥:٢٤-٦).

عندما نتناول جسد ودم المسيح؛ فإن جسدنا ودمنا يتحدان في المقابل بجسده ودمه، وهكذا يُخلق جسد واحد رأسه المسيح .

بنفس الروح يجيب جرجس بن العميد (ق ١٤م) عندما يقول: مستخدمًا الخبز وعصير الكرمة، سلم لنا المسيح جسده ودمه، عنصران منهما نتكون نحن أيضًا، وذلك حتى ننجح في تحقيق الشركة معه كما أيضا مع الله الآب والروح القدس .

د ـ الأحوال “مبذولاً”، و”مسفوكاً” وتفسيرها:

الأحوال “مبذولاً” (لو٢٢: ١٩)، و”مسفوكاً” (مر١٤: ٢٤) و(مت٢٦: ٢٨) (لو٢٢: ٢٠) التي استخدمها السيد المسيح في وصف جسده ودمه تؤكد على أن جسده باستمرار في حالة بذل ودمه باستمرار في حالة سفك.

إذ أن الحال في اللغة اليونانية يستخدم للتعبير عن أمر مؤكد حدوثه ليس له زمن محدد، وبالتالي في سر الإفخارستيا نحن أمام حقيقة التحول المستمر للخبز وللخمر إلى جسد ودم، وحقيقة الفعل لهذا السر في المؤمنين كل مرة يتمم فيها.

لقد عرف يسوع أنه من بعد صعوده إلي السماوات، ستكون لتلاميذه، وفيما بعد للمؤمنين به، حاجة ماسة إلى وحدة سرية تجمعهم، وإلى وسيلة تجعل الشركة المفرحة معه ومع بعضهم البعض ممكنة. ولم يكن هناك طريقة أخرى لتحقيق هذه الوحدة ولقيام هذه الشركة، غير طريقة استمرارية وجوده في وسطهم؛ هذه النعمة أو العطية تمنحها وتضمنها كل الحياة الليتورجية للكنيسة، وبالذات مركز هذه الحياة؛ سر الإفخارستيا.

وهكذا بجسد المسيح ودمه ننجح في تحقيق حياة الشركة المستمرة مع المسيح، ومع بعضنا البعض وأن نكون مع المسيح دائمًا. هذا يعني:

مسرته الكاملة، كما عبر هو عنها في صلاته الأخيرة “أيها الآب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا…” (يو١٧: ٢٤).

التحقيق لوعده “وها أنا أكون معكم كل الأيام إلى انتهاء الدهر” (مت٢٨: ٢٠).

وفي النهاية، تحقيق كونه “عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا” (مت٢: ٢٣)، حسب النبوة.

وأن نكون نحن واحدًا هذا يعني:

إيمان العالم برسالة المسيح (أنظر يو١٧: ٢١).

معرفة العالم “بعظمة محبة المسيح لنا” (أنظر يو١٧: ٢٣).

ويجب ألاّ ننسى أن مثل الكرمة والأغصان قد قيل من السيد إلى التلاميذ بعد تسليم جسده ودمه لهم، وكل المثل ـ كما هو واضح ـ يشرح معنى الشركة معه (أنظر يو١:١٥ـ٦) كما أن بولس الرسول يعتبر أن كل الذين لا يحفظون شركة المحبة بينهم (الأغابي) في العشاء العام، هم غير مستحقين للمشاركة في العشاء السري. (أنظر١كو١١: ٢٨ـ٢٩) .

إن الحضور المستمر للمسيح وعمله في سر الإفخارستيا هو العامل الرئيسي الذي حفظ ويحفظ تلك الشركة بين أعضاء جسده، أي الكنيسة، بلا انقطاع، وعلى مر الأجيال، أمام كل عوامل الفناء البشرية والزمنية (أنظر مت١٦: ١٨). لذا هو منطقي جدا أن يعتبر القديس كيرلس الأسكندرى، الإفخارستيا، الزاد الجوهري للمسيحي ومؤونته في مسيرة حياته .

وأيضًا يصير مفهومًا لنا؛ لماذا سبق وحذر السيد إن كل الذين لا يأكلون جسده ولا يشربون دمه، ليس لهم حياة في أنفسهم (أنظريو٦: ٥٣).

هـ ـ الإفخارستيا  ذبيحة كفارية وخلاصية لأجل العالم :

بالتعبيرات “هذا يكون جسدي”، “هذا يكون دمي” يريد السيد أن يوضح لنا أن الإفخارستيا هى ذبيحة، إذ وفقا للطقوس اليهودية، المصطلحات “جسد” (لحم)، و”دم” تدل على العناصر التي تتكون منها الذبيحة، والتي يجب أن تقدم إلى الله على المذبح. “فتعمل محرقاتك اللحم والدم على مذبح الرب إلهك. أما ذبائحك فيسفك دمها على مذبح الرب إلهك، واللحم تأكله” (تث١١: ٢٧).

أيضا في العبارات “مبذولاً عنكم… مسفوكاً عنكم وعن كثيرين” يجب أن نعترف بالخاصية الكفارية والخلاصية لذبيحة الإفخارستيا، فجسد المسيح دائما في حالة بذل، ودم المسيح دائما في حالة سفك، وذلك “لمغفرة الخطايا” كما يعلل الإنجيلي (متى ٢٦: ٢٨)، ولكي “يهب حياة للعالم” كما يقول الإنجيلي (يوحنا ٦: ٣٣).

هذا، وإنه لمن الواضح، أن كلمة “كثيرين” هنا ليس لها معنى محدود، ولكن متسع، أي أن جسد المسيح مبذول ودمه مسفوك لأجل كل البشر عامة، ولأجل كل واحد وحده خاصة، في كل مكان على الأرض، وعلى مر العصور كلها، وحتى نهاية هذا العالم .

وعلى أي  الأحوال، فإن التعبيرات الإنجيلية “من أجل كثيرين” (مر١٤: ٢٤) (مت٢٦: ٢٨) “عنكم” (لو٢٢: ٢٠) “من أجل حياة العالم” (يو٦: ٥١) تُحضر إلى ذهننا كلمات الإصحاح 53 لإشعياء، حيث السيد المسيح يُصَوَر كالعبد المتألم الذي “حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين” (إش٥٣: ١٢).

هذه الخاصية الخلاصية لسر الإفخارستيا، يشدد عليها كل كاهن قبطي أثناء نطقه بالاعتراف، وقبل أن يناول المتقدمين للشركة كالآتي: “أؤمن، أؤمن، أؤمن وأعترف إلى النفس الأخير، أن هذا هو الجسد المحيي لابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح… يعطى عنا خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لكل من يتناول منه”.

أيضا، في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية يحافظ الكاهن على الطقس كما مارسه السيد، إذ يناول المؤمنين الجسد أولاً ثم الدم، مؤكدًا بهذا على حقيقة كون الإفخارستيا ذبيحة.

و ـ المعنى الكنسي لكلمات يسوع “إني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديدا في ملكوت الله” (مر ١٤: ٢٥) ، (مت٢٦: ٢٩ )، (لو ٢٢: ١٨):

كلمات يسوع “إني لا أشرب…” ليس لها معنى إسخاتولوجي (أخروي)، غير محدد كما يزعم بعض المفسرين، ولكن بالتحديد معنى كنسي “اعتاد المسيح” يكتب القديس كيرلس الأسكندرى “أن يسمى التبرير الذي يأتي بالإيمان، والتطهير الذي يأتي بالمعمودية، وشركة الروح القدس، والقوة التي نأخذها من الحياة بالروح، كل هذه يسميها ملكوت الله”.

وأيضا رأى سمعان بن كليل (ق١٢)، والذي وفقًا له فإن ملكوت الله يُفسر على أنه قيامة المسيح، لأنه على الرغم من أن جسد القيامة ليس له حاجة للأكل والشرب، إلاَّ أن السيد آنذاك أكل أمام التلاميذ (أنظر لو٢٤: ٤١ـ٤٣) لكي يبرهن لهم أنه هو نفسه معلمهم الذي صلب ومات.

أيضًا وحسب تفسير كاهن الإسكندرية أمونيوس (ق٥)، ملكوت الله هو من بعد قيامة الأموات، حيث أجساد البشر ستتخلص نهائيًا من الفساد والأشياء نفسها ستتغير، وسنسكن في الحياة الجديدة، هكذا حتى إن فرحنا أيضًا سيصير جديدًا .

استمرارًا لعرض الآراء، نقدم رأى أسقف مصر في القرن الـ ١٣ بولس البوشي الذي يرى أن الكلمات السابقة التي نطق بها السيد تعني الإبطال للفصح القديم، الذي فيما عدا أنه كان وقتيًا، كان أيضًا مثالاً مصورًا مسبقًا للفصح الجديد الأصلي. ويسوق الكاتب لتعضيد رأيه الشاهد من الرسالة إلى العبرانيين (١٠: ١) القائل “لأن الناموس له ظل الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء”.

وبحسب رأينا، فإن معنى الآية يتركز حول كلمة “جديدًا” (مر١٤: ٢٥) التى تُظهر عمل الروح القدس في الخليقة. فالإنسان الجديد، هو الذي يعيش بحسب الروح (أنظر رو٨: ١٢ـ١٤)، وحتى السماء الجديدة والأرض الجديدة هى أيضًا روحية (رؤ١:٢١). فالروح القدس الذي نأخذه عن طريق أسرار الكنيسة هو الذي يساعدنا على تحقيق حياتنا الجديدة خلال حياتنا الأرضية، أي يجعل سيرتنا الأرضية هى سماوية (أنظر فيلبي٣: ٢٠). وبالتالى يمكن تفسير الآية “إنى لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديدًا فى ملكوت الله” كالتالى: إنه عندما يتم الفداء ويحل الروح القدس على التلاميذ حسب وعد المسيح (أنظر مثلاً: لو٤٩:٢٤؛ أع١:٤، ١:٢ـ٤) وتتم الشهادة والكرازة باسمه فى اليهودية والسامرة وفى أقصى الأرض (أنظر أع٨:١) ستنضم أعضاء أخرى لكنيسة المسيح، هذه الأعضاء ستصير جديدة بعمل الروح القدس فيها داخل الكنيسة، وكما كان السيد حاضرًا مع تلاميذه فى إفخارستية يوم الخميس الكبير، فإنه سيكون حاضرًا أيضًا مع هذه الأعضاء الجديدة فى كل إفخارستيا تُقام. وما يؤكد هذا، أن كنيستنا القبطية تبدأ ليتورجية القديس باسيليوس (بالطقس الإسكندري)، معترفةً بحضور الله وسط شعبه قائلة: “مجدًا وإكرامًا، إكرامًا ومجدًا للثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس سلامًا وبنيانًا لكنيسة الله”. ومن جانب آخر، فإن هذا الحضور وعمل الثالوث القدوس في الكنيسة ما هو إلا دليل قوي على أن ملكوت الله قد بدأ الآن وأما استعلانه الكامل فسيكون فى الدهر الآتي (أنظر لو١٧: ٢٠ـ٢١).

من كل التفاسير السابقة التي قدمها أباء الإسكندرية والكتاب الأقباط للشواهد (مر١٤: ٢٥) (مت٢٦: ٢٩) (لو٢٢: ١٨)، يمكننا أن نلخص معنى ملكوت الله في النقاط التالية:

هو اكتمال العهد القديم بالعهد الجديد.

هو دخول المؤمنين إلى الحياة الجديدة عن طريق الإيمان باسم المسيح والاعتماد على اسم الثالوث.

هو التمتع بجمال تلك الحياة الجديدة عن طريق عمل الروح القدس من خلال أسرار الكنيسة في حياة المؤمنين بمشاركتهم في حياة الكنيسة التعبدية.

وهو انتظار قيامة الأجساد والحياة السماوية المستقبلية.

إذن ملكوت الله يتحقق الآن بصورة جزئية هنا على الأرض، وذلك عندما يعيش المؤمنون في شركة الروح مع المسيح، عن طريق الكنيسة، متذوقين عربون خيرات هذا الملكوت ثم يتحقق بصورة كاملة هناك فى السماء بعد قيامة الأجساد.

ز ـ وصية السيد “… هذا اصنعوه لذكري” (لو٢٢: ١٩) وتفسيرها :

بالوصية “.. هذا اصنعوه لذكري” (لو22: ١٩) ( ١كو١١: ٢٥)، لا يطلب السيد من تلاميذه في كل مرة سيتممون فيها سر الشكر الإلهي، أن يتذكروا فقط هذه الإفخارستيا التي يتممها معهم الآن، لكنه يطلب منهم أن يتذكروا أيضًا كل حضوره في وسطهم، أي: تجسده، حياته، موته، قيامته، ومجيئه الثاني، وكذلك وعده لهم أنه كما هو حاضر معهم في هذه الإفخارستيا سوف يكون حاضرًا أيضًا وفي كل إفخارستيا (أنظر مت٢٨: ٢٠؛ لو٢٢: ١٦).

ووفقا لرأي الكاتب بولس البوشي، فإن السيد بقوله هذا، يأمرنا باستمرارية ممارسة الفصح الخلاصي (أي سر الشكر الإلهي) كما سلمه لنا هو بنفسه، كرئيس الكهنة الأعظم. هذا السر يجب أن يتمم، ليس كذكرى لنبي أو لرسول ما، ولكن لتذكر رب المجد نفسه وحتى مجيئه الثاني.

أي لا ننظر هنا إلى حدث تسليم الجسد والدم على أنه عمل أخير ليسوع قبل آلامه وموته، ولكن على أنه بداية الحياة السرائرية للكنيسة،والتي يمثل سر الشكر فيها مركز هذه الحياة.

بالإضافة إلى هذا فإن كلمة “الذكرى `H ¢n£mnhsij” ليس لها خاصية ذهنية عاطفية (أي التذكر الذهني لأمر نتطلع إليه غائبًا عنا)،ولكن خاصية كيانية فعالة (أي إعادة تحقيق هذا الأمر وبصورة فعالة). بل الأكثر من هذا أن الفعل “اصنعوا”، جاء في اللغة اليونانية في صيغة الأمر المستمر المبني للمعلوم، والفعل بهذه الصياغة يعني استمرارية إتمام سر الإفخارستيا .

وأخيرا كما طلب الرسول بولس من الكورنثيين “فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجئ” (١كو١١: ٢٦). هكذا الأقباط المؤمنون، بمشاركتهم في سر الإفخارستيا، يبشرون بموت المسيح وينتظرون مجيئه الثاني المملوء مجدًا،وذلك عندما يرتلون: حقا حقا حقا بموتك يا رب نبشر، وبقيامتك المقدسة وصعودك إلى السماوات نعترف، نسبحك، نباركك، نشكرك يارب ونتضرع إليك، يا إلهنا .

٤ ـ نهاية رواية العشاء الأخير:

رواية العشاء الأخير تنتهي عند الإنجيليين الاثنين الأولين بالعبارة “وسبحوا وخرجوا” (مت٢٦: ٣٠) (مر١٤: ٢٦)، فالسيد المسيح إذ سلم سر الإفخارستيا، مباشرةً إلى تلاميذه، وعن طريقهم إلى كل الكنيسة، وحقق شهوته الأخيرة (أنظر لو٢٢: ١٥) التي لأجلها أقام هذا العشاء، سبح مع تلاميذه بتسابيح الفرح لعيد الفصح الذي قد بدأ يطل عليهم. وهكذا قليلاً قليلاً، بدأ جو العلية يمتلئ بالفرح والتهليل والهدوء، من بعد مشاعر الحزن والحيرة والشك، التي سادت بسبب نبوة السيد عن خيانته. (أنظر مر١٤: ١٨ـ١٩؛ مت٢٦: ٢١ـ٢٢؛ لو٢١:٢٢ـ ٢٣؛ يو٢١:١٣ـ٢٢)، حالة الفرح والتسبيح هذه التي غمرت العلية، تعيشها الكنيسة القبطية، في نهاية القداس الإلهي،وذلك عندما يرتل جموع المصلين أثناء التناول المزمور ١٥٠ لداود “سبحوا الله في جميع قديسيه، سبحوه في جَلَد قوته… كل نسمة فلتسبح اسم الرب إلهنا هلليلويا” وبمصاحبة أصوات موسيقية بفرح من آلات الدف والمثلث.

٥ ـ ما السبب لتسليم سر الإفخارستيا ؟

بعد كل ما قدمناه حتى الآن، من المفيد أن نلمس فيما بعد، وعلى قدر الإمكان، السؤال: لأي سبب سلم لنا السيد سر الشكر الإلهي؟

بحسب القديس كيرلس الإسكندري الذي يبدي رأيه في السؤال السابق، إنه كان ينبغي أن الإنسان ـ الذي كان قد خُلق للخلود، لكنه بسبب عصيانه ارتبط بالخطية والفساد والموت ـأن يُعاد مرة أخرى إلى عدم الفساد، فيقول: [خلق إله الكل كل شئ بهدف عدم الفساد (أى أن يكون خالدًا)، لكن بسبب حسد الشيطان، دخل الموت إلى العالم… أما صلاح الخالق فقد تجاوز ضرر خبث الشيطان وساعد البشر… وأعطى للجسد الذي يموت أن يصير في شركة مع القوة المحيية التي تأتي من الله. وهكذا إذ نرى الخبز والخمر موضوعين على الموائد المقدسة، يتنازل الله إلى ضعفاتنا، ويعطي للقرابين المُقدَّمة قوة الحياة (القوة المحيية) جاعلاً لها قوة حياة جسده، لكي نشترك نحن في هذه الحياة عندما نأخذها كمثل بذرة محيية يوجد في داخلها عنصر الحياة].

وبمواصلة الحديث، يورد لنا الأب القديس مثالين لكي يساعدنا على الفهم التام لكلماته السابقة هما:

عندما تغمس قطعة من الخبز في نبيذ أو زيت أو في أي سائل آخر، سوف تكتشف أن الخبز تَشرَبَ من جوهر السائل .

عندما يدخل الحديد في النار، فإنه يكتسب حرارة، وبينما هو حديد بحسب طبيعته، إلا أنه قد تأثر بالقوة الحرارية للنار.

هكذا بينما يسير المسيح بإرادته نحو الصليب، عارفا أنه يحقق إرادة الله الآب، لفداء البشرية، يسلم قبل آلامه بقليل إلى تلاميذه، وبواسطتهم إلى الكنيسة، سر الشكر الإلهي، مفسرا الخبز المبارك منه على أنه جسده، ومحتوى الكأس على أنه دمه. كذلك فالرب يسوع المعلم العظيم، لا يترك طريقته التعليمية بالأمثال حتى في نهاية حياته على الأرض، فمن العشاء السري ومن غسل أرجل التلاميذ ـ كما سنرى في الفصل التالي ـ يشرح لنا كيف يجب علينا أن نقبل الإفخارستيا كغذاء روحي لنا، وموته القادم كطهارة روحية لنا ـ فهو كما أخذ الخبز وعصير الكرمة وأعطاهما إلى تلاميذه، هكذا في الإفخارستيا يعطي الآن نفسه لنا كغذاء للحياة الأبدية، وكما طهر أرجل التلاميذ بغسلها بنفسه، هكذا بالصليب سوف يأتي بالطهارة الروحية للعالم كله.

 

 

العظة الثالثة عشر لآباء وخدام معاصرون – يوم خميس العهد

المدلولات اللاهوتية والروحية لما جاء في انجيل قداس اليوم – للمتنيح الدكتور موريس تواضروس[79]

الاصحاح السادس والعشرون من انجيل متى

عدد2: يُسلم (Paradidotal) “تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح وابن الانسان يسلم ليصلب”:

على الرغم من أنه يشير هنا إلى حدث يتم فى المستقبل (بعد يومين) إلا ان السيد المسيح يستعمل هنا زمن المضارع (يُسلم). واستعمال المضارع مناسب لأنه يشير إلى أمر قد تحدد تماما، أو لأن الأمر يتم من خلال تدبير إلهي لا يتغير.

كما استعمل أيضا الفعل المضارع (يكون) مع الفصح، على أساس أنه يحدث وفقا لتقويم ثابت. وهكذا يظهر أن تسليم السيد المسيح يتم طبقا لترتيب إلهي، كما قيل فى العدد24 من نفس الاصحاح “إن ابن الانسان ماض كما هو مكتوب عنه”

عدد10: فعلم يسوع (Gnous de o iysous) “فعلم يسوع فقال لهم لماذا تزعجون المرأة فانها قد عملت بى حسنا”:

يلاحظ هنا أن الفعل يصاغ فيما يشير إلى أن السيد المسيح قد علم على التو بما كان يفكر فيه التلاميذ لأنهم اغتاظوا قائلين لماذا هذا الاتلاف، لأنه كان يمكن أن يباع هذا الطيب بكثير ويعطى للفقراء، أى أنه لم تمض أى لحظة بين تذمر التلاميذ وبين ادراك السيد المسيح لشكواهم.

عدد15: ماذا تريدون أن تعطونى (Ti thelete moi dounai)  ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه لكم” .

الصياغة هنا توضح بما يشير إلى أنه حدث نوع من المساومة بين يهوذا وبين من أرادوا تسليم يسوع

 

ثلاثين من الفضة (Triakonta arguria)

يشير القديس متى هنا إلى نبوة زكريا “فقال لهم إن حسن فى أعينكم فأعطونى أجرتي وإلا فامتنعوا، فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة” (زك11: 12) وكان هذا هو الثمن الذى فرضه ناموس موسى ليدفعه المرء إذا نطح ثوره عبدا أو أمه (خر21: 32). وكانت الثلاثين من الفضة فى ذلك الوقت تساوى 116 دينارا، علمًا بأن أجر العامل اليومى كان دينارا واحدا (مت20: 2). وإذا ترجمنا هذا التقييم الذى قيم به السيد المسيح بالنسبة للزمن الحاضر، يبدو كيف أن السيد المسيح قد بيع بثمن زهيد، أي بما يقل عن جر أربعة شهور للعامل الواحد.

عدد18: فلآن (Ton deina) فقال اذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولوا له … عندك نصنع الفصح

بلا شك أن عدم الإشارة الى اسم الشخص كان من عمل كاتب الإنجيل، لأن السيد المسيح يكون قد حدد الشخص وذكر اسمه عندما طلب من التلاميذ أن يذهبوا إليه ليعدوا عنده الفصح.

عدد20: اتكأ Anekeito ولما كان المساء اتكأ مع الأثنى عشر

من الافضل هنا ألا يترجم الفعل فى زمن الماضى فيقال (اتكأ) بل يجب أن يترجم فى زمن الماضى المتصل فيقال (كان يتكىء) تمشياً مع الصياغة اليونانية، ذلك لأن الفعل فى هذا الزمن الأخير يشير إلى شىء يستمر فى الماضى ويتصاعد، ولقد كان قصد الانجيلي أن يتحدث عن شىء استمر اليوم.

عدد22: ابتدأوا (Yrxanto) “وابتدأ كل واحد منهم يقول له هل أنا يا رب”

يشير الفعل هنا إلى بدء سلسلة من التساؤلات الواحد بعد الآخر. فكل واحد من التلاميذ بالتتابع كان يسأل حزينا إذا كان هو الذى سوف يسلم السيد المسيح. كما يلاحظ أنه فى الصياغة اليونانية يوضع التساؤل فى صيغة النفى (Myti egw eimi)  بما يعنى أن السائل يتوقع أن تكون الإجابة أيضا بالنفي. فكل واحد من التلاميذ  يتوقع أن السيد المسيح يبعد عنه تهمة هذا العمل بتسليم الرب إلى أيدي اليهود.

عدد25: مُسَلًمه (Paradidous) “فأجاب يهوذا مسلمه وقال هل أنا هو يا سيدي، قال له أنت قلت.

فى الصياغة اليونانية، استعملت أداة التعريف مع اسم الفاعل، وهذا يعطي معنى الصفة أى أن تسليم المسيح التصق بيهوذا كصفة تلازمه وتعبر عن خيانته فصار يطلق عليه (مسلًم) المسيح.

عدد28:  العهد (Diathyks) هذا هو دمي الذى للعهد الجديد .

يشتق الاسم من الفعل Diatithymi بمعنى: يوزع (بطريقة نظامية) ومن ثم توزيع الملكية الشخصية (تحويل الملكية إلى شخص آخر) . وعلى أساس فكرة التوزيع والتنظيم تبنى فكرة الاتفاق ومن ثم المعاهدة أو العهد . والكلمة العبرية المقابلة تعني المعاهدة. من الفعل (يقطع) كما جاء فى سفر التكوين “فى ذلك اليوم قطع الرب مع ابرام ميثاقا قائلاً لنسلك أعطي هذه الأرض .. (تك15: 19)، وعلى العموم فالمعنى العام للكلمة فى العهد القديم هو العهد (أنظر 1مل20: 34 ، إش28: 15 ، 1صم18: 3 ، وانظر أيضا  2 كو 3: 14)، وهكذا الأمر أيضا فى العهد الجديد (أنظر مر14: 24 ، لو1: 72 ، 22: 20 ، أع 3: 25 ، 7: 8 ، غلا 3: 15 ، عب 9: 15-17).

عدد29: جديدا (Kainon) “حيثما أشربه معكم جديداً فى ملكوت أبي”

هناك كلمة أخرى فى اللغة اليونانية تستعمل بمعنى الجديد، وهي (Neon) ولقد استعملت هذه الكلمة الأخيرة عند الحديث عن الخمر الجديدة، فى معنى الخمر حديثة الصنع (مت9: 17، مر2: 22 ، لو5: 27 ،38، 39). واختلاف الاستعمال بين الكلمتين (Kanion) ،(Neon)  (على الرغم من أنهما تعطيان نفس المعنى أى الجديد) هو الاختلاف فى التعبير عن الجديد أى هل هو جديد من حيث الزمن أو من حيث الكيفية، فحيث الاشارة إلى الاختلاف الزمنى تستعمل Neon وحيث الاشارة إلى الاختلاف الكيفي تستعمل Kainon على ما يبدو من الأمثلة التالية:

فالصغير أو الأصغر فى العمر،استعمل له كلمة Newterons (neon) (لو15: 12، 13) والثوب الجديد الذى يقابل الثوب العتيق فى الكيفية (من حيث أن الثوب العتيق قد لُبس وصار باليا) استعملت له كلمة Kainon  (لو5: 36)، وهكذا فالسماء الجديدة (2بط3: 13) هى Kainons فى مقابل تلك التى تنحل. والقبر الذى وضع فيه السيد المسيح هو kainon (مت27: 6) من حيث أن أحدا لم يوضع فيه فاحتفظ بجدته.

على أن هذا التمييز لا يتطابق دائما على جميع الحالات، ففى بعض الاحيان استعملت كلمة Neon لتشير إلى الجدة فى الكيفية كما هو فى (1كو5: 7) ” نقوا منكم الخميرة العتيقة لكى تكونوا عجينا جديداً” وفى (كو3: 10) “ولبستم الجديد الذى يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه”

وفى عبارة السيد المسيح التى نحن بصددها :حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت أبي “يشير بلا شك إلى الجدة فى الكيفية” .

وفى العهد الجديد بأكمله، فان كلمة Neon بالاضافة الى الاستعمالين المشار إليهما في (1كو5: 7) (كو3: 10) استعملت مع الخمر، ومع الابن الأصغر، ومرة واحدة مع العهد الجديد (انظر مت9: 17 ، لو 15: 12 ، تى 2: 4، عب12: 24).

 

 

العظة الرابعة عشر لآباء وخدام معاصرون – يوم خميس العهد

غسل أرجل التلاميذ – للأرشيدياكون بانوب عبده[80]

(يو ١٣ : ١ – ١٧)

بعد أن أحتفل مخلصنا بأكل الفصح الناموسي مع تلاميذه، وقبل أن يشرع في إعطائهم جسده ودمه الأقدسين، قام عن العشاء وبدأ يغسل أرجلهم، لكى يعلمنا بذلك أن من واجبنا قبل التناول من الأسرار المقدسة، أن نكشف للكاهن عن أوساخ نفوسنا لكى يغسلها بقانون التوبة. وتمثلاً برب المجد رتبت الكنيسة في ضحى يوم الخميس الكبير وبعد نهاية صلاة البصخة، أن تمارس طقس اللقان تذكاراً لما صنعه المخلص مع تلاميذه. أما الحكمة في أنه اقتصر على غسل أرجلهم فهي ليبين أن من تطهر بالمعمودية لا يحتاج إلا إلى غسل رجليه، وهي الأعضاء التي باتصالها بالأرض تتسخ، وذلك كناية عن أن من تطهر كله بالمعمودية لا يحتاج إلى الحميم بها ثانية قبل التقدم للأسرار المقدسة، بل يحتاج إلى التوبة التي يغسله بقانونها الكاهن فيزداد طهراً، وأما الذى يتناول بغير توبة فيحل به ما حل بيهوذا، إذ هذا لما أخذ اللقمة من المخلص دخله الشيطان. وقد أشار السيد بتنشيف الرجلين من الماء الذى يجعلها يتسخان سريعاً، إلى وجوب التحفظ الشديد من الخطية كل حين حتى نتناول من أسراره المحيية ونملك معه على الدوام .

وفصل الأنجيل الذى يتناول مسألة غسل الأرجل انفرد يوحنا بذكره، وفيه بَيَّن عظمة اتضاع المخلص، وأهمية الرضوخ له، ومثاله الذى يحتذى، وأخيراً تطويبه لمحتذيه.

غسل الأرجل

بدأ يوحنا البشير موضوع غسل الأرجل ببيان الظروف التي حدث فيها، فقال إنه كان “قبل الفصح”، وعلى وجه التدقيق في مساء الخميس. فالسيد هو عالم “أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم”، وبما أنه “كان قد أحب خاصته” وهم تلاميذه وبالتالي جميع المؤمنين به، وأحبهم “إلى المنتهى” أي حباً سامياً كاملاً لا يساويه في كماله حب آخر .

فحين كان العشاء والمقصود به عشاء الفصح، أوغر الشيطان قلب يهوذا الأسخريوطي على تسليمه. ومع ما في هذه الخيانة من إظهار عظمة اتضاع المخلص وفرط محبته لتلاميذه، بغسل أرجلهم مع وجود خائن بينهم .

ومع علمه بأصله الإلهي، وبأن “الآب قد دفع كل شيء إلى يديه”، كسلطانه في السماء وعلى الأرض (مت: ٢٨: ١٨)، وسلطانه “على كل جسد ليعطي حياة أبدية” (١٧: ٢)، وخضوع “كل شيء تحت قدميه” (١كو ١٥: ٢٧)، ومع علمه أيضاً بأنه “من عند الله خرج” بدون أن يتركه، وبأنه “إلى الله يمضي” ولكن دون أن يتركنا، نقول إنه مع علمه بهذه الظروف جميعها.

“قام عن العشاء” ليترك للعالم مثالاً للاتضاع العجيب، وخلع ثيابه وهى الخارجة عن ردائه وشعاره ليكون نشيطاً في العمل، “وأخذ منشفة وأتزر بها”، أي تمنطق بجانب منها وأرسل الباقي إلى رجليه .

“ثم صب ماء في مغسل” كل ذلك فعله بمفرده ليعلمنا الجلد والنشاط “وأبتدأ يغسل أرجل التلاميذ” بما فيهم يهوذا الخائن، ضارباً بذلك لنا أروع مثال للتنازل والاتضاع، لأن غسل الأقدام وتنشيفها من أعمال العبيد لا السادة. ألم يقل هو عن نفسه “لأن من هو أكبر الذي يتكئ أم الذى يخدم. أليس الذى يتكئ. ولكن أنا بينكم كالذي يخدم” (لو ٢٢: ٢٧)، وهكذا حق عليه قول الرسول “لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (في ٢: ٧– ٨)، فما أعظم هذا الاتضاع!

حكمة غسل الأرجل

ومن سياج رواية يوحنا يظهر أن السيد غسل أرجل كثيرين من التلاميذ قبل أن يصل إلى بطرس، ويقال إنه ابتدأ بيهوذا ليحمله على التوبة، وليضرب لنا المثل في الاحسان إلى المسيء، ولاريب أن التلاميذ خجلوا لتنازل المخلص لغسل أرجلهم، ولكنهم لم يجسروا على اعتراضه. وأما بطرس فقد أبدى تعجبه بقوله “أنت تغسل رجلي”! أي كيف وأنت سيد الكل وملك الملوك، تغسل بيديك المقدستين اللتين صنعتا الآيات، رجلي أنا الصياد الحقير! ويشبه هذا قول المعمدان ليسوع وهو يطلب الاعتماد منه “أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتى إليّ”! (مت ٣: ١٤) .

وعند ذلك أجابه يسوع قائلاً: “لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع”، أي لا تعرف غايتي منه، “ولكنك ستفهم فيما بعد”، أي ستفهم أنني بعملي هذا أقدم لكم وللمؤمنين جميعاً مثالاً للتواضع والمحبة، التي يجب أن يظهرها بعضكم لبعض، وأن هذا الغسل يشير فوق ذلك إلى الغسل الرمزي الذى هو تطهير النفوس بدمي الذى سيهرق عن الجميع .

رضوخ بطرس

لم يقتنع بطرس بهذه الإجابة ورفض الرضوخ ، فقال له يسوع “إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب”، أي ليس لك شركة في محبتي وملكوتي ومجدي . وبالمعنى الروحي إن كنت يا بطرس لا تطهر خطاياك عن طريق التوبة الصحيحة، لتستحق التطهير بدمي المسفوك على الصليب، فلن تدخل السماء، لأنه لا يدخلها النجسون.

فارتعب بطرس من هذا التهديد، وفى صوت المتلهف الساعي لتلافي هذا الحرمان رد قائلاً “ليس رجلي فقط بل أيضاً يدي ورأسي”!

وسيد الكل أجابه قائلاً: “الذى اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه بل هو طاهر كله”، ويعني هذا من الناحية الجسدية أن من أغتسل في الحمام لا يحتاج بعد رجوعه إلى البيت سوى غسل رجليه مما يكون قد علق بهما من التراب. أما من الناحية الروحية فيعني أن من غسل خطاياه وتطهر من دنسها بالمعمودية والتوبة فهو طاهر نفساً، غير أنه يحتاج إلى “غسل رجليه” أي غفران الخطايا الخاصة التي يرتكبها بعد المعمودية، وهذه يتطهر منها بالندامة والتوبة والتناول من الأسرار المقدسة .

تلميح ليهوذا

مضى المخلص بعد ذلك يقول: “وأنتم طاهرون ولكن ليس كلكم” ، أي كلكم متبررون ومقاصدكم طاهرة وقلوبكم نقية، سوى واحد فيكم مازال مفسود القلب لم يستفد من تعليمي ولم يتأثر من نعمتي.

ولقد كان هذا النطق الإلهي بمثابة تنبيه موجه إلى يهوذا مسلمه، عساه يرجع عن اثمه وينثني عن خيانته، ولكنه لم يرعو! ولم يشأ السيد أن يسمه لئلا يفتضح أمره ويثور عليه بقية الرسل.

مثاله الذي يحتذى

وما إن إنتهى رب المجد من هذا المثال العملي للتواضع والمحبة، الذي إذا أضيف إلى غيره من أمثلة سابقة مشابهة، يدل على أن تعليمه بعمله كان أكثر منه بقوله، نقول ما إن انتهى حتى ارتدى ثيابه واتكأ، ثم سألهم إن كانوا قد فهموا قصده مما فعل.

وبعد أن أمن على تلقيبهم إياه معلماً وسيداً، الأمر الذى يوجب عليهم الطاعة لوصاياه والنهج على منواله، قال:

“فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض”، لأن العبد مهما تنازل في خدمة غيره فلا يعد ذلك منه شيئاً، إذا قيس بتنازل سيد الكل لخدمة جبلة يديه .

ثم قال “لأنى قد أعطيتكم مثالاً حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً بعضكم ببعض”، وهو النطق الإلهي الذى تستند إليه كنيستنا في عمل طقس اللقان لبنيها. وقد أيد يوحنا وصية سيده حين قال في رسالته “من قال إنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضاً” (١يو ٢: ٦) .

تطويبه للمحتذين

ولكى يقنع تلاميذه خاصة والمؤمنين عامة بوجوب الاتضاع وانكار الذات في خدمة بعضهم بعضاً، وعدم التكبر أو طلب السبق والشرف قال لهم “ليس عبد أعظم من سيده. ولا رسول أعظم من مرسله”، وهو المبدأ الذى كرره غير مرة (مت١٠: ٢٤؛ لو ٦: ٤٠؛ يو١٥: ٢٠). وعلى ذلك فلا يجب أن يأنف التلميذ مما رضيه المعلم، ولا يتكبر الرسول من أن يقوم بما قام به سيده، ويجب أن يكون التمثل به بالقلب لا بمجرد الفعل .

وختم المخلص حديثة بقوله “إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه”، وقد ردد يعقوب الرسول نفس هذا النغم حين قال “من أطلع على الناموس الكامل ناموس الحرية وثبت وصار ليس سامعاً ناسياً بل عاملاً بالكلمة فهذا يكون مغبوطاً في عمله” (يع ١: ٢٥) .

 

 

 

المراجع

 

[1]  تفسير انجيل يوحنا –  ص13- القمص تادرس يعقوب ملطي.

[2]  كنوز النعمة – البصخة المُقدَّسة – ص ٣١ – الأرشيدياكون بانوب عبده.

[3]  تفسير الخروج – اصحاح ١٧ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[4]  شرح سفر الخروج – الأب يوحنا المقاري.

[5]  تفسير سفر الخروج – اصحاح ١٧ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[6]  شرح سفر الخروج – صفحة 332 – الأب يوحنا المقاري.

[7] راجع ما جاء عن هذا الموضوع في كتاب البصخة المُقدَّسة – ج2 صفحة ٩٣، ٩٤، ٢٠٨ – للأب أثناسيوس المقاري.

[8]  تفسير سفر أعمال الرسل – الإصحاح الأول – ابونا أنطونيوس فكري.

[9]  تفسير سفر أعمال الرسل – الإصحاح الأول – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[10] تفسير سفر اعمال الرسل – الإصحاح الأول – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[11] تفسير مزمور ٥٥ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[12]  تأملات في مزامير الآلام – القمص لوقا سيداروس.

[13]  تفسير لوقا  22- القمص تادرس يعقوب ملطي.

[14]  تفسير سفر الخروج  ٣ج٢ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[15]  تفسير سفر يشوع بن سيراخ – ص 24 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[16]  تفسير سفر زكريا – ص 9 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[17]  تفسير سفر زكريا – ص 9 – القمص أنطونيوس فكري.

[18]  تأملات في مزامير الآلام – القمص لوقا سيداروس.

[19]  تفسير إنجيل متي – إصحاح ٢٦ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[20]  تفسير سفر إرميا – ص 7- القمص أنطونيوس فهمي.

[21]  تفسير سفر إرميا – ص7 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[22]  تفسير حزقيال ٢٠ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[23]  تفسير مزمور 31 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[24]  تأملات في مزامير الآلام – صفحة 105 – القمص لوقا سيداروس.

[25]  تفسير مرقس 14 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[26]  تفسير سفر التكوين – ص 22 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[27]  تفسير سفر التكوين – ص 22 – القمص أنطونيوس فكري.

[28]  تفسير سفر إشعياء – ص 61 – القمص أنطونيوس فهمي.

[29]  تفسير سفر التكوين – ص 14 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[30]  تفسير سفر التكوين – ص 14 – القمص أنطونيوس فهمي.

[31]  تفسير سفر المزامير – مز22 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[32]  تأملات في مزامير الآلام – القمص لوقا سيداروس.

[33]  تفسير سفر التكوين – ص 18 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[34]  تفسير سفر الأمثال –  ص9 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[35]  تفسير سفر الخروج – ص ١٤ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[36]  تفسير سفر إشعياء – ص ٥٥ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[37]  تفسير مزمور 51 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[38]  تفسير إنجيل يوحنا – ص 13 – القمص أنطونيوس فكري.

[39]  تفسير إنجيل يوحنا – ص 13 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[40]  تفسير كورنثوس الأولى – ص 11 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[41]  تفسير كورنثوس الأولى – ص 11 – القمص أنطونيوس فكري.

[42]  تفسير المزمور – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[43]  تأملات في مزامير الآلام ص 124 – القمص لوقا سيداروس.

[44]  كتاب إلهنا القائم في وسطنا الآن – ص ٢٩، ٣٠ – إعداد د. مايكل مدحت، د. مينا مدحت – إصدار إيبارشية المعادي.

[45]  تفسير الإصحاح – القمص أنطونيوس فكري.

[46]  تفسير الإصحاح – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[47]  تفسير إشعياء ١٩ – ابونا أنطونيوس فكري.

[48]  تفسير سفر زكريا – ص ١٢، ١٣، ١٤ – القس أنطونيوس فكري.

[49]  تأملات في مزامير الآلام – صفحة 126 – القمص لوقا سيداروس.

[50]  تفسير نشيد الأنشاد ص ١، وأيضاً تفسير عزرا ص ٣ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[51]   ملخص كتاب المسيح فصحنا للقديس كيرلس الكبير – ترجمة د. جورج عوض.

[52]  كتاب عظات القديس مقاريوس الكبير عظة ٤٧ صفحة ٢١٧ – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[53]  تفسير سفر ناحوم – الإصحاح الأول – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[54]  كتاب شرح إنجيل يوحنا للقديس كيرلس الأسكندري – المجلد الثاني صفحة ٨٦ – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[55]   تفسير إنجيل يوحنا – ص ١٣ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[56]  تفسير مزمور 93 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[57]  كتاب دراسة آبائية في سر الإفخارستيا –  ص ١٦ – إعداد القس بولا رأفت عزيز – كنيسة العذراء مريم والبابا أثناسيوس الرسولي والأنبا بولا.

[58]  كتاب دراسة آبائية في سر الإفخارستيا – ص 24- إعداد القس بولا رأفت عزيز – كنيسة العذراء مريم والبابا أثناسيوس الرسولي والأنبا بولا.

[59]  كتاب دراسة آبائية في سر الإفخارستيا – ص28- إعداد القس بولا رأفت عزيز – كنيسة العذراء مريم والبابا أثناسيوس الرسولي والأنبا بولا.

[60]  كتاب الإفخارستيا عند القديس كيرلس الأسكندري – صفحات ٦، ١٠، ١١ – ترجمة د. موريس تاوضروس.

[61]  تفسير إنجيل يوحنا – الإصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[62]   كتاب الثالوث فرح الخليقة الجديدة – صفحة ٥٦ – ترجمة القمص أنطونيوس أمين – كنيسة مار مرقس مصر الجديدة.

[63]  تفسير سفر اللاويين – الإصحاح العاشر – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[64]  كتاب تأملات في خميس العهد – المتنيح البابا شنودة الثالث.

[65]  كتاب المنجلية القبطية الارثوذكسية – صفحة 357 – قداسة البابا تواضروس الثاني.

[66]  كتاب تفسير إنجيل يوحنا صفحة ١٩٢ – ١٩٧ للمتنيح أنبا أثناسيوس مطران بني سويف والبهنسا.

[67]  مجلــة مــــدارس الأحـــــد – عـــدد مايــــــــو 1957.

[68]  كتاب الحروب: الكتاب السادس، فصل ٦ فقرة ٣.

[69]  كتاب مسيحنا فوق الزمان صفحة ٦٤ – المتنيح أنبا يؤانس أسقف الغربية.

[70]  كتاب بستان الروح – الجزء الأول صفحة ١٠١ – المتنيح أنبا يؤانس أسقف الغربية.

[71]  أي نالوا درجة الكهنوت

[72]  أي ليسوا من الهراطقة الذين حرمتهم الكنيسة.

[73]  مجلة مدارس الاحد – عدد سبتمبر لسنة 1988.

[74]  كتاب عظات مضيئة معاشة – إصدار مطرانية ملوي وأنصنا والأشمونين.

[75]  كتاب القديس بطرس الرسول يعلمني – صفحة 60 – القمص لوقا سيداروس.

[76]  كتاب المسيح في الأعياد اليهودية – صفحة ٤٧ – إعداد الراهب القمص روفائيل البراموسي.

[77]  كتاب تاملات وعناصر روحية في احاد وايام السنة التوتية – صفحة 140 – اعداد القمص تادرس البراموسي.

[78]  كتاب العشاء الاخير – دكتور مجدي وهبه ( المتنيح القس صموئيل وهبه).

[79]  كتاب المدلولات اللاهوتية والروحية في الكتاب المقدس بحسب انجيل متي صفحة 181 – الدكتور موريس تواضروس – استاذ العهد الجديد بالكلية الاكليريكية.

[80]  كتاب كنوز النعمة –  الجزء الخامس صفحة ٢٦٢ – المتنيح الأرشيدياكون بانوب عبده.