يوم الجمعة العظيمة من البصخة المُقدَّسة

 

“وعلمه فوقي محبة” (نش ٢: ٤).

[يا جراح المسيح، إجرحيني بحربة الحب الإلهي. يا موت المسيح، إسكرني بحب مَنْ مات من أجلي. يا دم المسيح، طهرني من كل خطية] (قسمة للإبن سنوي).

تبارك الحنان الذي رأى رمحاً عنـــد الفـــردوس يمنــــع الطـريــق إلى شجـــرة الحياة فأتى واتخــذ جســــــداً جُـــرِحَ لكــي يفتـــــــــــح بفتــــح جنبــــــــه بفتــــح جنبــــــــه طريقاً إلى الفردوس

(مار أفرام السرياني)[1]

[الصليب هو مجد. أنظر ماذا يقول الإنجيلي: “الروح القدس لم يكن قد أُعطى بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد” (يو٧: ٣٩)

الصليب هو الذي أزال العداوة بين الله والناس مقدمًا المصالحة،

جاعلًا الأرض سماء،

جامعًا الملائكة مع البشر،

محطمًا قلعة الموت،

مضعفًا سطوة الشيطان،

مطفئًا سلطان الخطية،

منقذًا العالم من الخطأ ومسترجعًا الحق،

طاردًا الشياطين،

مهدمًا معابد الأوثان ومحولًا مذابحهم ومبطلًا ذبائحهم،

زارعًا الفضيلة ومؤسسًا الكنيسة!

الصليب هو إرادة الآب، مجد الابن، وفرح الروح القدس.

إنه موضوع فخر بولس إذ يقول: “حاشا ليّ أن افتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح” (غلا ٦: ١٤).

الصليب أكثر لمعانًا من الشمس، وأبهى ضياء من أشعِّتها، فعندما أظلمت الشمس أبرق الصليب. الشمس أظلمت لا لأنها انطفأت، بل لأن ضياء الصليب غلبها…

الصليب يكسر قيودنا، ويبطل سجن الموت.

 

إنه علامة حب الله (يو٣: ١٦).

الصليب هو حصن حصين، وترس منيع، حامي للأغنياء، وينبوع للفقراء، مدافع عن الساقطين في الشباك، ودرع للذين هم في هجوم، ووسيلة لقهر الشهوات ونوال الفضائل، وآية عجيبة مدهشة!] (القديس يوحنا ذهبي الفم)[2]

يوضح القديس أثناسيوس دور الصليب في هزيمة الشيطان وكل أعماله:

[بعلامة الصليب يبطل كلُّ سحر وتتلاشى قوة العقاقير السامة،

وتصير الأوثان خربةً ومهجورةً، وتبطُل كل الشهوات الدنيئة،

وتتحوَّل أنظار الجميع من الأرض إلى السماء !

وهذا هو ما قاله هو نفسه (أي الرب)

مشيراً إلى أيَّة ميتة كان مزمعاً أن يفدي بها الجميع :

” وأنا إن ارتفعتُ أجذب إليَّ الجميع” (يو١٢: ٣٢).

فقد جاء الرب ليطرح الشيطان إلى أسفل ويطهِّر الهواء،

ويهيِّئ لنا الطريق الصاعد إلى السماء،

“عبر الحجاب أي جسده” (عب١٠: ٢٠) كما قال الرسول بولس.

وهكذا كان يجب أن يتم بالموت.

ولكن بأي موت إلا بالموت الذي يتم في الهواء أعني الصليب؟

لذلك كان لائقاً أن يحتمل الرب مثل هذا الموت،

لأنه إذ رُفِعَ هكذا طهَّر الهواء من شر إبليس وجميع الشياطين،

كما يقول “رأيتُ الشيطان ساقطاً مثل البرق” (لو١٠: ١٨)

وكرَّس الطريق الصاعد إلى السماء][3]

 

يوم الجمعة العظيمة

هذا اليوم المهيب هو سرُّ خلاصنا..

هو اليوم الذي دحض وسحق فيه إبن الله كل قوات الظلمة المُجتمعة على البشرية الضعيفة (كو٢: ١٥)..

اليوم الذي قبل فيه كل قساوة العالم وظلمته وجنوده ليفتح لنا فيه الطريق إلى السموات (عب٩: ١٢)..

اليوم الذي إخترق فيه أعماق الجحيم ليرد المسبيين (١بط٣: ١٩)، وإخترق أعماق ظلمة الإنسان ليمنحه نور التبنّي وبرّ الآب (كو١: ١٣)..

اليوم الذي تحوّلت فيه مشاعر الكأس التي إن أمكن أن تعبر (لو٢٢: ٤٢) إلى السرور الموضوع أمامه (عب١٢: ٢) من خلال جهاد الصلاة وكمال تسليم المشيئة للآب (لو٢٢: ٤٤)..

اليوم الذي دخل إليه وهو عالم بكل ما يأتي عليه (يو١٣: ١) ولكن أيضاً بكل ما يأتي منه لنا (لو١٠: ١٨، ١٩)..

اليوم الذي أحيط فيه بقساوتنا وجحودنا وتعييرنا ورفضنا له لكي ما يحصرنا بمحبته إلى المنتهى (إر٣١: ٣)..

اليوم الذي أعلن فيه كمال القوّة والمجد لقبوله مشيئة الآب لأجل خلاصنا رغم إمتلاء الجسد بالأوجاع والنفس بالحزن (مر١٤: ٣٤)..

هو اليوم الذي إنتظرته صرخة أعماقنا: ليتك تشق السموات (إش٦٤: ١) رغم زيف كبرياؤنا ورفضنا لمحبته..

اليوم الذي قَبِلَ فيه إبن الله كل مشيئة الآب ليسحق كل أسلحة إبليس وجنوده ضد مفدييه (لو١١: ٢٢)..

اليوم الذي رأى فيه المذلة بكمال عارها (مت٢٧: ٣٠) ليمنحنا ملء المجد في مذلتنا (إش٥٣: ١١)..

هذا اليوم نقترب إلى هيكله بخشوع وسجود ووقار، فهو أعماق لا ندركها كلها إلَّا في الأبديّة عندما سنعلم كل شئ وستنتهي بعض المعرفة (١كو١٣: ١٢).. لكن ها هو بمحبّته وبرّه الإلهي يشرق علينا جميعاً شيئاً فشيئاً بإشراقات الخلاص قدر إحتمال ضعف طبيعتنا لأعرفه وقوّة قيامته وشركة آلامه متشبها بموته (في٣: ١٠).. فعندما نقبل كل تدبير الآب في حياتنا متمثلين بالإبن الوحيد في قبوله مشيئة الآب الذي أرسلني (يو٦: ٣٨).. فعندها يُنْزَع الغطاء الذي كان يُغطِّي عرينا (تك٣: ٢١) ليكون غطاء ألمه فينا هو غطاء المجد (إش٤: ٥) والكنز الذي في أوان خزفية (٢كو٤: ٧).. وهذا الطريق المملوء من ضعفنا وغربلة إبليس وقساوة البشر يصير برسم المحبّة وترتيب التواضع وجهاد الصلاة وتسليم المشيئة طريق خلاصنا ومجدنا وعبورنا (يه ٢٠- ٢٤)..

وهو جهادنا اليومي:

بين أن نهرب من صليبه (مت٢٦: ٥٦) وبين أن يسخرنا الآخرون لحمله (مت ٢٧: ٣٢)..

بين أن نلجأ للعنف لننجو (مت٢٦: ٥١) أو نتنازل عن معرفته ووصيته لنأمن (مت ٢٦: ٧٤)..

بين أن نسمع هتافات ضدنا (مت٢٧: ٢٣)، وأن يفتري علينا البعض ظلماً (مر١٤: ٥٧، ٥٨)، أو نرى بأعيننا تخلي من أحببناهم (٢تي٤: ١٦)..

بين ظلمة تحيط بنا من كل جانب (يون ٢: ٣)، وبين نور يبدو خافتا آتياً من بعيد (يون ٢: ٤) لكنه سيغمر كل ضعفنا وإحتياجنا..

بين السخرية من مبادئنا (حك ٢: ١٢)، وبين التعجب من صمتنا (مت ٢٧: ١٤)..

لكن ها هو ثبات الحب حتي النهاية مع المصلوب هو الضمان الوحيد لوجودنا أمام صليبه (يو١٩: ٢٥)، وفِي قيامته فيستعلن لنا شخص إبن الله (يو٢٠: ١٨)..

هو جهاد يومي تبدو درجاته في صلاتنا (كو٤: ١٢)، وصمتنا (خر١٤: ١٤)، وغفراننا (أع ٧: ٦٠)، رغم تعثرخطواته حيناً في كلامنا وتبريرنا لأنفسنا وبرودة صلاتنا (عب١٢: ١٢)..

هو جهاد تسنده نعمة المصلوب عندما نعيش صليبه (عب١٢: ٣)، وتختبئ فيه قوة القيامة (كو٣: ١- ٥) عندما نعلن خضوعنا بالكامل لمشيئته، ونكتب أعمالنا تبعا لأقواله (القدَّاس الغريغوري).

هذا اليوم صار حياتنا وروحنا ونسيمنا وسرّ نصرتنا في جهادنا اليومي (٢تي٢: ٨):

أن أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ (غل٢: ٢٠)..

أن لا أعزم أن أعرف شيئاً إلَّا يسوع المسيح وإياه مصلوباً (١كو٢: ٢)..

أن يصير حب صليبه هو العلم الذي فوقي (نش٢: ٤).. وملكوته هو عنواني في ألمي (رو٨: ١٧).. وتصير جهالته حكمتي، وضعفه قوتي (١كو١: ٢٥).

أشرق علينا جميعاً أيها المصلوب بنور صليبك وحبك:

لنتخطي جهلنا وقساوتنا وعنادنا وشهواتنا، ونقبل أن نُصلب ونُهان لأجلك..

لنصمت بوعي وحكمة وهدوء أمام التعييرات..

لنصلي في جهاد لا يتوقف لأجل خلاصنا، وخلاص من نقابلهم..

لنشتهي برك الإلهي لنا ولكل الخطاة مثلنا..

ليصير صليبك فخر جهادنا (غل٦: ١٤)، وحلو نيرنا، وخفة أحمالنا (مت١١: ٣٠)..

لك كل القوَّة والعظمة والكرامة والبركة والمجد إلي الأبد.

 

قراءات يوم الجمعة العظيمة

نسجد خشوعاً ومهابةً أمام ابن الله الحي المصلوب لأجل خلاصنا، وأتجاسر وأطلب من عظمته وجلاله بتضرع وانسحاق أن يُنعم عليّ بالإقتراب من سرّ صليبه وأن يهبني الله ببرّه ومحبته إشراقة نور الحكمة ومؤازرة روح الله لنوال وميض من فيض مجد الصليب ومحاولة إظهار شعاع من إشعاعات صليب ابن الله الحي.

فقراءات هذا اليوم العظيم تحتاج الوقوف أمامها سنوات والاعتراف بالجهل والضعف والعجز، فنحن أمام سيمفونية إلهية من قراءات كتابية ربما لا أُبالغ إذا قلت أن من وضعوها كانوا مسوقين من الروح القدس في كل قراءة اختاروها، وربما كانوا يصلُّون كثيراً إلى إن ينفجر نور نهار الابن في قراءات معينة ليفهموا ما وراء المعنى البسيط ويسبروا غورها، وكيف تكاملت قراءات بعينها لتُعلن مجد ومعنى صليب كوكب الصبح.

قراءات هذا اليوم تأتي في ستَّة ساعات من ساعات البصخة، وهي تتحرك بنا داخل الجلجثة وخارجها، قبل الزمن وداخله، فنرى في الصليب كل ما هو إلهي بأمجاده وكل ما هو بشري بضعفاته، ونرى كيف تأخذنا القراءات في ضعفنا البشري ولكن في المسيح فتصل بنا إلى ما هو أعظم من القوة وأسمى من أي مجد.

لذلك نرى فيها:

إبن الله وصليب فداؤه (باكر).

وبرُّه الإلهي في الصليب (الثالثة).

وإعلانات صليبه (السادسة).

وكيف صار الصليب مصدر حياة وعلّة دينونة (التاسعة).

ونور يُشرق وفرح دائم (الحادية عشر).

ونجاة من الموت بموته (الثانية عشر).

 

شرح قراءات باكر الجمعة العظيمة

تتكلّم قراءات هذه الساعة عن:

الفادي العظيم الذي عبر بنا للحياة الجديدة بصليبه واستعلنت شفاعته عنَّا أمام الآب بصليبه. (سفر التثنية)

وذلك لانتشار الفساد في طبيعة كل البشر دون استثناء. (إش ١).

فأبطل عبادة الأصنام بمجد صليبه. (إش ٢).

وإشراقة نور برِّه الإلهي. (إر ٢٢-٢٣).

فكان مصدر شفاء وغفران من قبل محبّته. (إرميا).

وصارت اللعنة مصير من رفضوا. (إش ٢٤).

لأنهم رفضوا ابن الله. (حكمة سليمان)

حتى كهنتهم ورؤسائهم. (أيوب)

الذين استهانوا به. (زكريا)

فصارت حياتهم خراباً. (مي ١-٢)

لذلك فلنتمسَّك بخلاصه لننجو من الانتقام. (مي ٧)

 

النبوَّات

سفر التثنية (تث ٨: ١٩- الخ؛ ٩: ١- ٢٤)

تُعْلِن هذه القراءة ثلاث أعمال أساسية لفادي العهد الجديد والذي كان موسى النبي رمزاً له.

فالصليب والفداء في المسيح هو عبورنا إلى الحياة الجديدة والميراث الأبدي.

“أنت اليوم ستعبر الأردن لكي تدخل وترث أمماً عظيمة ومدناً محصنة ومشيدة إلى السماء .”

والفداء هو إتمام وتتميم الوعود الإلهية في القديم للآباء الأولين وهو لأجل وفاء الله بوعوده وليس لأجل استحقاق البشر.

“ليس من أجل برك وطهارة قلبك تمضي لترث أرضهم بل ليفي بالعهد الذي أقسم به لآبائك إبراهيم وإسحق ويعقوب”.

كما نرى أيضاً شفاعة موسى النبي أمام الرب لأجل الشعب ولأجل هرون أخيه وهي التي ترمز هنا لشفاعة ابن الله الكفّارية أمام الآب لأجلنا.

“ففزعت إذ غضب الله عليكم ليبيدكم فاستجاب لي الرب في ذلك الزمان وغضب الرب على هرون جداً ليبيده فصليت من أجل هرون أيضاً في ذلك الزمان”.

كما نرى في النبوَّة عامَّة كيف نزل موسى النبي من أعلى الجبل ليرى سقطة الشعب ويفتقدهم ويشفع فيهم أمام الله فنجوا من الهلاك وهو كمثال ابن الله الذي نزل أو أخلى ذاته ليكون في أرضنا ويفتقدنا ويشفع فينا أمام الآب بصلاته (يو١٧) وصليبه ودمه الطاهر لننجو نحن أيضاً من الهلاك.

ويقول القديس كيرلس أسقف أورشليم أنه:

[ليس الناس فقط أخطأوا بل أيضاً رئيس الكهنة هرون، وموسى قال: كان غضب الله على هرون وأنا صليت لأجله بتضرع شديد فغفر الله له”.

كما يوضِّح أن خطيته لم تمنع خدمته (أي استمرار خدمته بعد ذلك) كرئيس كهنة][4]

 

إشعياء النبي (إش ١: ٢- ٩)

تكشف هذه النبوَّة عن فساد كل البشر واحتياجهم للفداء وهي افتتاحية سفر إشعياء سفر الخلاص وافتقاد الله للبشرية كلها يهوداً وأمماً.

“كل رأس للوجع وكل قلب للحزن من القدم إلى الرأس ليس فيه صحة جراح وكلوم وقرحة ملتهبة وما من مرهم يوضع عليها ولا دهن ولا عصائب”.

ولأنه يتكلَّم في كل السفر عن الخطية وفساد الجميع واحتياجهم للخلاص لذلك يتكرَّر لقب قدوس إسرائيل عن الرب.

[جاءت هذه العبارة في هذا السفر نحو ٣٠ مرة ولم ترد في سائر أسفار الكتاب المقدس سوى ٥ مرات] (القمص أنطونيوس فكري)[5].

 

إشعياء النبي (إش ٢: ١٠- ٢١)

وترسم هذه النبوَّة صورة الأرض وقت الصليب وبعدها عندما تشقَّقت الصخور واهتزت الطبيعة كلها فظهر مجد المصلوب وقوّته وأرعد الأرض وأبطل عبادة الأوثان بقوة صليبه.

“أدخلوا في الصخور واختفوا في الأرض من أمام خوف الرب ومن أمام مجد قوته … في ذلك اليوم ليخرج الإنسان رجاسته من الفضة والذهب التي صنعوها ليسجدوا لها والأباطيل والأشباح ليذبحوها في ثقوب الأرض والصخور الصلبة وفِي شقوق الصخور من أمام صوت الرب ومن مجد قوته إذا قام ليهشم الأرض”.

 

إرميا النبي (إر ٢٢: ٢٩- الخ؛ ٢٣: ١- ٦)

وترسم وتُظهر النبوَّة هنا أنه رغم فساد البشر وضلال الرعاة فإن الرب سيفتقد بنفسه البشرية وسيخلِّصهم لأجل اسمه القدّوس:

“لذلك هذا يقوله الرب عن الرعاة الذين يرعون شعبي أنتم قد شتتم غنمي وبددتموه ولم تتعهدوها … وهوذا ستأتي أيام يقول الرب وأقيم الكلمة الصالحة التي قررتها على إسرائيل وبيت يهوذا وفِي تلك الأيام أشرق نور البر لداود فيملك ملك بار فيهم ويجري الحكم والعدل في الأرض وفِي أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمناً مطمئناً”.

 

إرميا (زكريا)

تتكلّم هذه النبوَّة عن طبيعة الفادي (دماً ذكياً) وجوهر إرساليته (يشفي الأمراض ويغفر الذنوب) وكيف تآمر الرؤساء عليه وثَمَّنوه بثمن بخس فجاءت عليهم دينونة الهلاك:

“هؤلاء الذين يصنعون خطيّة أشر منكم… ويؤلمون الذي يشفي الأمراض ويغفر الذنوب ويأخذون الثلاثين من الفضة الثمن الذي شارط عليه بني إسرائيل… ستأتي عليهم دينونة الهلاك إلى الأبد وعلى أولادهم لأنهم ألقوا دماً ذكياً في الحكم”

وهذه النبوَّة نُسبت لإرميا مع أنها جاءت في زكريا.

[ما قيل بإرمياء النبي = الذي تنبأ هذه النبوة هو زكريا. ولكن كان سفر إرمياء في التلمود أول أسفار الأنبياء لذا كان اسم إرمياء يطلق على كل النبوات (زك ١١: ١٢، ١٣). فاليهود يقسمون العهد القديم ثلاثة أقسام الأول هو الشريعة والثاني يبدأ بالمزامير ويسمونه المزامير والثالث هو الأنبياء ويسمونه إرمياء] (القمص أنطونيوس فكري)[6]

 

إشعياء النبي (إش ٢٤: ١- ١٣)

تُعْلِن هذه النبوَّة مصير البشرية الرافضة الخلاص فيحل فيها الخراب ويأتي عليها اللعن وكما قال الرب لمن رفضوا أن يجمعهم بمحبته فتركلهم بيتهم خراباً وهذا ما تحقق على يد تيطس الروماني بعد الصليب بأقل من أربعين سنة

“ها إن الرب يفسد المسكونة ويخليها … ليكون الشعب كالكاهن والعبد كالسيد … من أجل أنهم تَرَكُوا عنهم الناموس وبدلوا أوامري وعدلي الأبدي من أجل هذا اللعنة تأكل الأرض … خربت كل المدينة … كف كل سرور الأرض وبقيت البلاد خراباً”

 

حكمة سليمان (حك ٢: ٢- ٢٢)

من أروع وأدق النبوّات وكأنه قالها وهو واقف أمام الصليب في الجلجثة وسنتعجب عندما نعرف أنها قيلت قبل صليب الرب بما يقرب من ألف سنة:

وهو هنا يوصف شخصاً يقول عن نفسه أنه ابن الله “يسمي نفسه ابن الله” وأن الله أبوه “ويفتخر بأن الله أبوه”.

وهو يُبكِّت الرؤساء والشعب على مخالفتهم للناموس “لأنه يقاوم أعمالنا ويرذلنا على مخالفتنا للناموس”.

والفرق بينه وبين البشر في الحياة والسلوك مثل الفرق بين الإنسان والحيوان: “وهو متباعد عن طرقنا كتباعده عن الوحوش”.

وسيتعرض لأشنع موت: “ونحكم عليه بأشنع ميتة”.

وسيستهزئ به من حوله وقت موته: “فإن كان هو حقاً ابن الله فهو يخلص نفسه”.

ويشهدون عليه شهادة زور مُتعلِّلين بأن “تكون الحجة عليه من كلامه”.

واستمروا في العمى حتى بعد موته “لأن فخرهم أعماهم ولم يدركوا أسرار الله ولم يرجوا أجرة الأبرار ولم يفكروا في رقاد النفوس التي لا عيب فيها”.

هل يُمْكِن أن تأتي نبوّة أوضح وأدقّ من هذه؟!.

 

أيوب الصديق (أي ١٢: ١٧- إلخ، ١٣: ١)

وهذه النبوَّة تُكمِّل النبوَّة السابقة التي قالت عن الرؤساء أن كبرياؤهم وفخرهم الكاذب أعماهم:

“قد أقلب قضاة الأرض الذي يجلس الملوك على الكراسي ويرسل الكهنة مسبيين ويقلب أقوياء الأرض… يتلمسون في الظلمة وليس في النور يضلوا مثل السكران”.

وفِي ذات الوقت يشفي ويُنير ويُحرِّر المؤمنين والمتواضعين ويفتقد الضالين.

“الذي يغير شفاء المؤمنين ويعرف فهم الشيوخ ويشفي المتواضعين الذي يكشف أعمال الظلمة ويخرج إلى الغد ظل الضالين”.

 

زكريا النبي (زك١١: ١١- ١٤)

تكرَّرت هذه النبوَّة التي تتكلّم عن الثمن الذي أخذه يهوذا لتسليم الرب ثم ألقاه للرؤساء قبل شنق نفسه ولكن هنا يُزيد بأن نتيجة هذا جاء الخراب وانتهى عهد يهوذا وإسرائيل:

“فقرروا أجرتي ثلاثين من الفضة وقال لي الرب القها في الخزانة… وطرحتها داخل بيت الرب في الخزانة وطرحت العصاة الثانية التي هي حبل القياس لأبعد العز من بين يهوذا وإسرائيل”.

ميخا (مي ١: ١٦- إلخ، ٢: ١- ٣)، (مي ٧: ١- ٨)

تأتي آخر نبوَّتين من ميخا لتكشف عن مصير الأمة اليهودية في رفضها للخلاص:

“وسعي ترملك كالنسر لأن رجالك ذهبوا عنك إلى السبي ”

“فسأنزع خيراتهم مثل السوس الذي يأكل في يوم مظلم الويل الويل قد جاء الانتقام ”

والعجيب أن تذكر النبوَّة الثانية من ميخا ما قاله الرب للتلاميذ في دعوته لهم للخدمة (مت١٠: ٣٥، ٣٦).

“والابنة تقوم على أمها والعروس (الكنة) على حماتها وأعداء الإنسان أهل بيته”.

وفِي ذات الوقت تدعو النبوَّة الجميع ليتمسَّكوا بخلاص الله “وأما أنا فأترقب الرب وأتمسك بالله مخلصي”.

 

البولس (١كو١: ٢٣- الخ؛ ص٢: ١- ٤)

وهنا يُقدِّم القديس بولس صليب المسيح له المجد أو يسوع المصلوب أمام كل ما يفتخر به العالم من القوَّة والحكمة لنعرف ونختبر ونتيقَّن من أنه أظهر بضعف صليبه ما هو أعظم من كل قوى العالم – كما نصلي في لحن أومونوجينيس – كما أن الحكمة السماوية التي استنارت بها البشرية بصليبه حسبت كل حكمة العالم وفلسفاته جهالة.

كما أنه يُظْهِر أن جهلاء العالم وضعفائه والأدنياء والمُزدرى وغير الموجود صاروا موضع اختيار الله وصار يسوع المصلوب موضع افتخارهم.

لذلك يختم القديس الرسالة بأنه لا يريد معرفة أحد إلَّا يسوع المصلوب، لكي تكون خدمته وكرازته بالمصلوب ببرهان الروح والقوة.

“ونحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة وأما لنا نحن معشر المخلَّصين يهوداً ويونانيين فبالمسيح هو قوة الله وحكمة الله … بل اختار الله جهلاء العالم فيخزي الحكماء … لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلَّا يسوع المسيح وإياه مصلوباً… لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس ولكن بقوة الله”.

 

المزمور (مز ٢٧: ١٢)، (مز ٣٥: ١١، ١٤، ١٦)

“لأنه قام عليّ شهود زور وكذب الظلم لذاته قام عليّ شهود جور وعما لا أعلم سألوني جازوني بدل الخير شراً صارين عليّ بأسنانهم”

تتكلّم هذه النبوَّة عما حدث وقت المحاكمات الدينية أمام حنان وقيافا عندما قالا اثنين إنهما سمعاه يجدّف على الموضع المقدس وكلمة “عما لا أعلم سألوني” يُقْصَد بها أن ابن الإنسان لا يوجد الزور في طبيعته ولا يعرفه ولا يعلمه أي لا يوجد فيه.

 

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[7]

قام على شهود زور. وكذب الظلم لذاته…

روح الظلمة رئيس هذا العالم تحرك بجنون في لحظات أخيرة قبل أن يسحقه صليب المسيح… يتحرك في الظلام قبل طلوع الشمس. ولأنه روح الظلمة فإنه يستحضر شهود الزور يتكلم فيهم بالكذب، فهو الكذاب وأبو الكذاب ويقول عنهم المزمور “شهود ظلمة”.

“كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله” (يو ٣: ٢٠).

هذه الأمور العالمية: الغش والتزوير والكذب وتلفيق التهم ليس من الله بل كلها من إبليس لأنه من البدء كان قتالاً للناس.

عما لا أعلم سألونى…

لقد سئل الرب في تلك الساعة أثناء محاكمته أسئلة كثيرة من رؤساء الكهنة ومن بيلاطس وهيرودس.. وكان يرد أحيانا على بعض الأسئلة وأحياناً كثيرة كان يصمت ولا يجيب بشيء… وكلمات المزمور كشفت لنا سر هذا الصمت العجيب، فهو يقول: “عما لا أعلم يسألونني” ذلك أنه حينما سألوه عن نفسه لم ينكر بل أجاب أنه ابن الله وأنه مسيح الرب، أما عندما سألوه عن الشر والتجديف والخطايا لم يجب بشيء، لأنه عما لا يعلم يسألونه.

تأمل المكتوب في إنجيل هذه الساعة “قال له بيلاطس: أما تسمع كم يشهدون عليك؟ فلم يجيبه بشيء ولا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي”… يا ليت الرب يطبع فينا صورة صمته الإلهي عندما يشتكى علينا العالم بلا سبب كل يوم.

جازوني بدل الخير شراً…

الفم الذى تكلم بكلمة الحياة حكموا عليه بأنه مجدف ومضل، واليد التي صنعت خيراً وكانت تشفى كل مرض وكل وجع ربطوها بالقيود… الوجه الذى هو أبرع جمالاً من بنى البشر لطمه عبد رئيس الكهنة كوجه مجرم. القلب الذى يكن لهم الغفران أصروا عليه بأسنانهم… كل هذا وهو صامت ولا يتكلم. من يرد الإهانة بالإهانة ومن يقابل اللعنة باللعنة فلم يصر بعد تلميذاً ليسوع، لأنه ليس التلميذ أفضل من معلمه ولا العبد أفضل من سيده “الذى إذ شتم لم يكن يشتم عوضاً” (١ بط ٢: ٢٣).

إن من يقبل أن يكون شاهد زور أو مأجوراً لكذب، فقد انضم إلى زمرة رؤساء الكهنة الذين باعوا أنفسهم للشر.

 

الأناجيل

تتكلّم البشائر الأربعة عن سؤال بيلاطس للرب: أ-أنت ملك اليهود؟..

ولكن إنجيل القديس متى يتكلَّم أيضاً عن هلاك يهوذا.

وإنجيل القديس لوقا عن المحاكمة الدينية الأخيرة ومحاكمته أمام هيرودس الملك.

وإنجيل القديس يوحنا عن الحوار كاملاً الذي دار بين بيلاطس الوالي والرب يسوع المصلوب.

 

إنجيل متى (مت٢٧: ١- ١٤)

الإنجيل الوحيد الذي تكلَّم عن هلاك يهوذا ويبدو من ظاهر الكلام ندم يهوذا ولكن إذا تتبعنا مواقفه وكلام الوحي الإلهي عنه نعرف أنه نَدَمْ يرتبط بأن مجرى الأمور لم تسير كما يريد أو كما خطَّط له فالواضح بأن يهوذا توقَّع بأنه سيذهب مع رؤساء اليهود والجند للقبض على الرب وسيجتاز المسيح وسطهم دون أن يستطيعوا القبض عليه كما فعل قبلاً مراراً (لو٤: ٣٠)، (يو٧: ٣٠)، (يو٨: ٥٩)، (يو1٠: ٣٩) ويكون هو قد استفاد مادّياً وربما كان يُفكِّر في تكرار الأمر إذ كان يعرف كل الأماكن التي كانوا معتادين التواجد فيها ولكن لما رأى أن القبض عليه أعقبه المحاكمة الدينية والتي تطورت إلى محاكمات مدنية ورومانية أمام بيلاطس وهيرودس وانتهت بحكم الموت والصلب حينئذ أدرك أن ترتيباته فشلت ولم يأخذ منها إلَّا الثلاثين من الفضة.

كما أنه لم يأخذ فقط الثلاثين من الفضة بل كما قال القديس يوحنا عنه: “قال هذا ليس لأنه كان يهتم بالمساكين بل لأنه كان سارقاً وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يُلقي فيه” (إنجيل الساعة السادسة من يوم الأربعاء) فلا يوجد شهادة أقوى من هذه لتوضيح شخصية يهوذا وأنه لم يكن ضعف مثل القديس بطرس لكنه انحراف في الشخصية أي أنه ترك نفسه يوم بعد يوم وموقف بعد موقف للاستهانة من الخطية وما أصعب وأوضح قول الكتاب عنه – حسب الترجمة القبطية – “وبعد العشاء إذ بإبليس كان قد فرغ مما ألقى في قلب الذي يسلمه الذي هو يهوذا الإسخريوطي” (إنجيل لقان خميس العهد) أي أن الخيانة كانت حياة وعملية مُستمرة وليس موقف واحد أو ضعف.

كما يتَّضح من كلمة القديس بطرس بعد صعود المسيح له المجد، وإستشهاده بما جاء في مزمور ٦٩، مزمور ١٠٩ أن الكلام لا يخص ضعف بشري بل إنحراف في الشخصية وإصرار على الخيانة والتعدِّي للوصية.

“لتصر دارهم خراباً، وفي خيامهم لا يكن ساكن” (مز ٦٩: ٢٥).

وهو المزمور الذي جاءت فيه نبوات الصليب خاصة آية ٩، ٢١ وأيضاً هو المزمور الذي إستشهد به القديس أثناسيوس الرسولي في شرحه للفداء في آية ٤ “حينئذ رددت الذي لم أخطفه”.

[ذلك أنه لم يكن مضطرا إلى أن يؤدي الحساب عن أي ذنب إقترفه، ولكنه تألم من أجلنا، وأخذ على نفسه الغضب الموجه ضدنا بسبب تعدينا] [8]

أمَّا تعبير “وليأخذ وظيفته آخر” فهو الذي جاء في مزمور ١٠٩ وهو المزمور الذي تكلَّم عن محبة المسيح له المجد لمضطهديه وصلاته لأجلهم “بدل محبتي يخاصمونني، أما أنا فصلاة” (مز ١٠٩: ٤).

وإذا تفحَّصنا سبب اللعنة على يهوذا سنجد ما جاء في المزمور ١٠٩ يُوضِّح شخصية الخائن، ليس في موقف واحد بل في حياة خالية من المحبة والرحمة:

“من أجل أنه لم يذكر أن يصنع رحمة، بل طرد إنساناً مسكيناً وفقيراً والمنسحق القلب ليميته” (مز١٠٩: ١٦).

ورُبٍّما يشرح هذا شخصية يهوذا، المسؤول عن الصندوق، وكيف كان يتعامل مع الفقراء، لأنه كان المنوط به التعامل معهم (يو١٣: ٢٩).

هذا بالإضافة إلى إغلاق القلب عن كل التحذيرات التي قالها الرب له شخصيًا “واحدا منكم يسلمني” (يو١٣: ٢١)، “أنت قلت” (مت٢٦: ٢٥)، “ما أنت فاعله فافعله سريعاً” (يو١٣: ٢٧)، وأيضاً لمسات المحبّة “يا صاحب” (مر١٤: ٤٥)، “أ-بقبلة تُسلِّم ابن الإنسان” (لو٢٢: ٤٨).

ولا ننسي أن طول رحلة الرب في تجسّده بعد اختياره للتلاميذ كم رأى يهوذا من معجزات (يؤ٦: ١١) وكم عمل هو شخصيا مُعجزات (مت١٠: ٨) وكم شرح الرب أمامهم خطورة محبة الفضة والمال في أمثال ومواقف كثيرة (لو١٢: ٢١)، (لو١٦: ١٣).

وهذا ما يشرحه آبائنا القديسين:

[واضح أن الأرواح النجسة لا تقدر أن تجد لها طريقًا في أجساد من اغتصبتهم بأي وسيلة ما لم تملك أولًا على عقولهم وأفكارهم فتسلب منهم مخافة الرب وتذكُّرُه والتأمل فيه، وبهذا تتجاسر فتتقدم إليهم كمن هم بلا حصانة إلهية، وتقيدهم بسهولة وتجد لها موضعًا فيهم، كما لوكان لها حق الملكية عليهم]. (الأب سيرينوس)[9]

وهذا ما يُؤكِّده أيضاً أنبا أنطونيوس:

[إن الشياطين لا يمكنها أن تجد مدخلاً إلى فكر أو جسد إنسان ولا هي لها مقدرة على أن تغمر نفس إنسان إلا إذا جردته من جميع الأفكار المقدسة وجعلتها فارغة وخالية من التأمل الروحاني][10]

ويوضِّح ذهبي الفم كيف حذَّر الرب يهوذا حتي آخر لحظة :

[يليق بنا ألا نكف عن نصح إخوتنا حتى وإن بدت نصائحنا بلا ثمر، فإن مجاري المياه تفيض حتى وإن لم يشرب منها أحد؛ ومن لا يسمع اليوم ربما يتعظ غدًا. الصياد قد تبقى شباكه فارغة طول اليوم، وفي اللحظات الأخيرة يصطاد سمكة. هكذا ربنا مع معرفته أن يهوذا لا يرجع لكنه لم يكف عن تقديم نصائح له] (القديس يوحنا الذهبي الفم)[11]

 

إنجيل مرقس (مر ١٥: ١- ٥)

جاء الكلام هنا بتركيز شديد مع إضافة إسم الجهة الدينية الخاصة بمحاكمته:

” تشاور رؤساء الكهنة مع الشيوخ والكتبة وجميع مجلس القضاء ”

ويشرح أبونا أنطونيوس فكري كيف كانت مُحاكمة الرب الدينية أمام رئيس الكهنة ورؤساء الشعب غير قانونية:

[محاكمة المسيح الدينية فيها كَسْر لكل القوانين:

ما كان مسموحا لهم بعقد هذه المحاكمة (يو١٨: ١٥).

مع هذا حكموا بقتله، بل القرار متخذ مسبقًا.

والمحاكمة لم تتم في المكان الرسمي أمام السنهدريم بل في قصر قيافا.

وبأى صفة يحاكمه حنان وهو معزول من رئاسة الكهنوت.

والمحاكمة تمت ليلًا وليس في الصباح عكس المتبع – فالمحاكمات كانت تبدأ صباحًا وحتى وقت تناول الطعام.

وكانت المحاكمات لا تتم في السبوت والأعياد ولا في عشية عيد أو سبت.

ولم يتبع النظام المتعارف عليه في تحذير الشهود وإنذارهم أن يكون كلامهم بالصدق.

وكان شرطا أن يسمع شهود البراءة أولًا وهذا لم يحدث. لذلك نبه المسيح رئيس الكهنة لذلك وقال له إسأل الذين سمعوا.

كانت شهادة الشهود متضاربة وفي هذه الحالة كانوا لا يعتدون بها. ولكنهم أخذوا بها. والتهم التي كان يتم فيها الحكم بالموت هي التي كان فيها المتهم يدعو الشعب للوثنية فيفسد إيمان الشعب.

والحكم لم يكن ينفذ في نفس يوم صدوره بل بعده بأيام. ولكن تم تنفيذ الحكم على المسيح بعد المحاكمة بساعات قليلة] (القمص أنطونيوس فكري)[12]

 

إنجيل لوقا (لو ٢٢: ٦٦- إلخ، ٢٣: ١- ١٢)

يكشف القديس لوقا عن ثلاث إعلانات عن يسوع المصلوب:

الأوَّل عن ملكوته “فسأله بيلاطس قائلاً: أ-أنت ملك اليهود؟ أما هو فأجابه قائلاً: أنت الذي تقول”

الثاني عن معجزته والتي طلبها هيرودس الملك بإلحاح ليس ليؤمن لكن لأجل المظهر والشكل كما طلب اليهود من قبل ورد الرب عليهم بأن الآية التي سوف يُعطيها لهم هي آية يونان النبي (مت١٢: ٣٨- ٤٠) أي حكم الموت في البحر والنجاة بعد ثلاثة أيام في بطن الحوت وهي الآية التي تحققت في الصليب والقيامة “وكان يرجو أن يرى منه آية يصنعها وكان يسأله في كلام كثير فلم يجبه بشئ”.

الثالث عن المُصالحة التي حصلت من خلال محاكماته بين بيلاطس وهيرودس: “فتصادق بيلاطس وهيرودس مع بعضهما في ذلك اليوم لأنه كان بينهما عداء من قبل”.

 

إنجيل يوحنا ( يو ١٨: ٢٨- إلخ)

يتكلَّم القديس يوحنا هنا عن ملكوت العهد الجديد بالصليب وعن إعلان الحق والشهادة له:

” أجاب يسوع: إن مملكتي ليست من هذا العالم لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يحاربون عني لكي لا أسلم إلى اليهود والآن مملكتي ليست من هذا العالم فقال له بيلاطس: أملك إذن أنت؟ أجاب يسوع: أنت الذي تقول أني ملك وأني أنا لهذا العمل وُلدت ومن أجل هذا أتيت إلى العالم لأشهد للحق فكل من هو من الحق يسمع صوتي”.

 

 

الساعة الثالثة من يوم الجمعة العظيمة

تتكلّم قراءات هذه الساعة عن المُحاكمات المدنية أمام الرومان وبداية طريق الصليب وهي المُحاكمة التي أشار فيها بيلاطس أنه لا يجد علَّة للموت في الرب وهكذا أرسلت إليه إمرأته وهذا هو أيضاً موضوع قراءات هذه الساعة البار المُتألم لأجلنا أو يسوع المصلوب لأجل تبريرنا ببرّ صليبه.

لذلك تبدأ القراءات بإختيار يعقوب لمُباركة أفرايم الأصغر بفطنة ليعطيه البكورية وينال أفرايم بر الإختيار (التكوين) ويُظهر إبن الله في الألم برُّ الآب (إشعياء ٥٠) وسيُحاكَمْ الرؤساء على ظلمهم للأبرار (إشعياء ٣) وسيُعلن الإبن برُّ الآب في خلاصه (إشعياء ٦٣) كما أيضاً في تنقيته لنا (عاموس) وكيف رفض الشعب الحمل بلا عيب ورفضوا بره (أيوب).

 

النبوَّات

سفر التكوين (تك ٤٨: ١- ١٩)

تأتي قصة مُباركة أبينا يعقوب لإبني يوسف في بداية القراءات لإعلان معنى بر الله للبشر، أي أنه ليس حسب الجسد أو الإستحقاق، بل حسب الإختيار الإلهي، ورُبما تذكَّر يعقوب أبو الآباء وهو يُبارك الصغير بفطنة كيف نال هو بركة أبيه إسحق وهو الأصغر، ولكن الفرق هنا أنه لم ينتظر (وأيضاً أمه رفقة) تَدَخُّل الله لتنفيذ الوعد، بل أخذ البركة بالحيلة، ولكن هنا بإرادة واعية كاملة يختار الأصغر كمثال لبر الله في محبّته لنا وعطاياه وبر صليبه الغافر آثامنا، ليس حسب إستحقاقنا ولكن حسب محبّته.

وأيضاً البركة هنا جاءت من خلال الصليب، بوضع أيدي يعقوب معكوسة على إبني يوسف لإعلان كيف ستجئ ملء بركة الشعوب في صليب إبن الله، ولذلك جعلت الكنيسة هذا الوضع للبركة نعيشه في كل قدّاس في إختيار الحمل لنُذكِّر أنفسنا ببره الإلهي ولنعيش هذا البر ونطلبه في ذبيحة القدَّاس لأجلنا جميعاً:

“وأخذ يوسف ولديه وجعل أفرايم عن يسار إسرائيل ومنسى عن يمين إسرائيل وقربهما إليه، فمد إسرائيل يمينه ووضعها على رأس أفرايم وهو الصغير، ويسراه على رأس منسى وخالف يديه، مع أن منسى هو البكر وباركهما .. وقال يوسف لأبيه: ليس هكذا يا أبي لأن هذا هوالبكر، ضع يمينك على رأسه، فأبى أبوه وقال: أنا أعلم يا ولدي أنا أعلم”.

[ويقول القديس أفرايم السرياني أن وضع أيدي أبونا يعقوب اليمنى على رأس أفرايم واليسرى على رأس منسى كان رمزاً للصليب. كما يقول القديس إمبروسيوس أن أفرايم الإبن الأصغر كان إشارة إلي الأمم][13]

 

إشعياء النبي (إش ٥٠: ٤- ٩)

تشرح هذه النبوَّة كيف قَبِلَ إبن الله في جسده آلام خطايا كل البشر بإرادته الخاصة الواحدة مع الآب، وذلك لكي يمنحنا جميعاً بر الآب فيه وفِي صليبه،

وهذا يتضح في أنه لم يقاوم وأن الذي يبرِّره قريب أي الآب (أي يُبرِّر البشرية فيه):

“ولكن تنفتح أذناي وأنا لم أقاوم بل بذلت ظهري للضرب وخدي للطم ولم أرد وجهي عن خزي البصاق والرب كان لي عونا (وحدة الإرادة والمشيئة مع الآب) لذلك لا أخجل لكنني جعلت وجهي كالصخرة الصلبة وعلمت أني لا أخزى لأن الذي يبررني قريب مني”.

 

إشعياء النبي (إش ٣: ٩- ١٥)

وتتجه هذه النبوَّة بدقة لوقت المُحاكمة المدنية والتي فيها طلب بيلاطس من رؤساء اليهود أن يؤدبه ويُطلقه (يُوثِقَه ويجلده) وكان يُمْكِن أن يكتفوا بهذا لكنهم بصراخهم ومؤامراتهم أوثقوه وصلبوه:

“ويل لنفوسهم لأنهم تآمروا تآمراً في نفوسهم قائلين: لنوثق البار فإنه غير نافع لنا.. ولكن الآن يأتي الرب للحكم ويأتي مع شعبه إلي المُحاكمة مع المشائخ والرؤساء”.

 

إشعياء النبي (إش ٦٣: ١- ٧)

يتجلى في هذه النبوَّة البر الإلهي في الصليب والخلاص كما تقول: “فنظرت ولم يكن من ناصر وتأملت ولم يكن أحد لديهم” وكما نصلي في صلاة الصلح (القدَّاس الغريغوري) أنه: [لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباء ولا نبياً إئتمنته على خلاصنا] لعجز الجميع عن خلاص البشر وتجديد طبيعتهم سوى إبن الله بصليبه وبر خلاصه.

كما توصف النبوَّة بدقة منظر إبن الله بعد الجلد وأمام الحاكم الروماني والدم يملأ جسده الطاهر، ولكن الجميل هنا في النبوَّة أنها تصفه أيضاً بالبهاء والإعتزاز والقوة:

“من ذا الآتي من أدوم وثيابه حُمر من بصرة بهي هكذا في حلة الإعتزاز بالقوة أنا المتكلم بالعدل وحكم الخلاص ما بال ثيابك حمراء ولباسك كدائس المعصرة؟ إني دستها وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد.. وسنة الخلاص قد أتت فنظرت ولم يكن من ناصر وتأملت ولم يكن أحد لديهم فسيخلصني ذراعي.. رحمة الرب ذكرتها وحسنات الرب في جميع الأشياء التي يُجازينا بها ”

[هنا استعارة مأخوذة من الشرق حين كان أهل الشرق يجمعون العنب ويطرحونه في معصرة عظيمة ثم يخلع الشبان ثيابهم ونعولهم ويلبسون ثيابًا بيض ويدخلون إلى أرض المعصرة حفاة الأقدام فيدوسون العنب فتتلطخ ثيابهم بدم العنب الأحمر وكان ذلك وقت بهجة عارمة وكان موسم فرح عند العبرانيين، وكان الشباب يخرجون من المعاصر وثيابهم ملطخة وحمراء….

وهنا في هذه الآيات رأى النبي هذا الإنسان البهى بملابسه وهو المسيح بَثِيَابُ حَمَّر = إشارة للفداء، وقد أتى من أدوم (فالمعركة كانت بين الفادي وبين الشيطان ورمزه هنا أدوم). وبُصْرَةَ = هي أكبر مدن أدوم. ورآه بَهِيُّ في مَلاَبِسِهِ = فهو الذي رآه يوحنا وقد “خرج غالبًا ولكي يغلب”. ملابسه هي كنيسته وعروسه التي بررها وفداها فصارت لها جماله “أنا سوداء وجميلة” (نش١: ٥). مُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ = فكان انتصاره على الصليب بقوة عجيبة غلب فيها الشيطان وداسه وأعطانا نحن شعبه هذا السلطان، وبموته داس الموت وأعطانا حياته الأبدية، ولذلك كانت مذابح الهيكل (المحرقة والبخور) في العهد القديم لها قرون علامة القوة. وشعب المسيح حينما أدرك عمل المسيح له عَظَّمه ومَجَّده.

وهو الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِرِّ = فهو المسيح الكلمة الذي برر شعبه. لِلْخَلاَصِ = فمعنى اسم يسوع هو يخلص شعبه فسأله النبي ما بال لِبَاسِكَ مُحَمَّرٌ = الفداء على الصليب. وَثِيَابُكَ كَدَائِسِ الْمِعْصَرَةِ = كان الشباب يخرجون من المعصرة في فرح، وهنا فرح المسيح بأنه خلص شعبه وبررهم بدمه. ويرد المسيح قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي = فلا يوجد شريك للمسيح في عمل الخلاص.][14]

 

عاموس النبي (عا ٩: ٥، ٦، ٨، ١٠)

تشرح هذه النبوَّة بر الصليب بأنه يأتي حسب وعد الله وتدبيره ورغم كثرة الخطية وفساد شعبه إلَّا إنه لا يستأصلهم بل سينقيهم أي يُجدِّد طبيعتهم والتي يُشير بها بكلمة ولا يتلف منها شئ على الأرض:

” الذي يبني في السماء علاليه ويؤسس وعده على الأرض … ها أعين الرب تتطلع على مملكة الخطاة ليمحوها من على وجه الأرض إلَّا أنني لا أستأصل بيت يعقوب استئصالا هأنذا أمر وأنقي كل شعب إسرائيل كما تنقى الفضة ولا يتلف منها شئ على الأرض ”

ولعل هذا ما قاله القديس يوحنا أن دم صليبه كفارة ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم (١يو٢: ٢) فهو قادر ببرّ صليبه على تجديد كل الأرض وما أعلنه أيضاً في رؤياه:

“وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، وما على البحر، كل ما فيها، سمعتها قائلة: للجالس على العرش وللخروف البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين” (رؤ ٥: ١٣) وأيضاً ما قاله القديس بولس “لتدبير ملء الأزمنة، ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السماوات وما على الأرض، في ذاك” (أف١: ١٠، ١١)

 

أيوب الصديق (أي ٢٩: ٢١- الخ؛ ٣٠: ١- ١٠)

وتضع النبوَّة هنا مُقارنة بين وضع أيوب بين الناس في إنصاتهم إليه وفرحهم به وتعزيته لهم في آلامهم وأحزانهم، ولكن وقت تجربته تبدَّلت الأمور تماماً وإستهزءوا به، وهو في هذا الوضع كان مثال للرب يسوع الذي كان يجول يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس ولكن وقت صلبه إستهزءوا به وصرخوا للحاكم الروماني إصلبه إصلبه:

“لما سمعوني أنصتوا وسكتوا عند مشورتي وعلى كلامي لم يزيدوا ويفرحون إذا كلمتهم كمثل أرض منتظرة للمطر هكذا هؤلاء أيضاً كانوا ينتظرون كلامي وإذا ضحكت معهم لا يصدقوني والنور لا يسقط من وجهي ثم إخترت طريقهم وجلست رئيساً وكنت أسكن كملك في الحصون ومثل قوم نائمين أعزيهم أما الآن فقد هزء بي أصاغر الناس”.

كما تشرح أيضاً بدقة كم إستهزءوا به وبصقوا في وجهه:

“وأنا الآن صرت لهم قيثارة وعندهم مثلاً وهم أبغضوني وإبتعدوا عني ولم يشفقوا وبصقوا في وجهي”.

 

البولس (كو ٢: ١٣- ١٥)

ويشرح القديس بولس كم كُنَّا أموات بالخطايا وكيف هو سامحنا ومحا الصك الذي علينا بالصليب وأحيانا معه وتُلخِّص هذه الآيات معنى برالمسيح له المجد:

“وإذ كنتم أمواتاً في خطاياكم وغلف جسدكم أحياكم معه مسامحاً لنا بجميع خطايانا إذ محا الصك الذي كان علينا في الفرائض التي كانت ضدنا وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه بالصليب وإذ جرد الرياسات والسلطات أشهرهم جهاراً وفضحهم به”.

 

المزمور (مز ٣٧: ١٧)، (مز ٢١: ١٥)

“أما أنا فمستعد للسياط ووجعي مقابلي في كل حين قد أحاطت بي كلاب كثيرة وزمرة من الأشرار أحدقت بي”

تأتي الآية الأولي في المزمور هنا بنبوة واضحة جداً عن آلام الصليب، لأن داود الملك نفسه لم يتعرض للجلد والسياط، كما تأتي الآية الثانية من مزمور ٢٢ وهو أكثر مزمور شرح آلام الصليب وهو الذي يبدأ بالآية “إلهي إلهي لماذا تركتني”.

ويقول البعض أن إحدي مقاصد الرب وهوعلى الصليب من قولها أن يُوجِّه أنظار وقلوب اليهود إلي ما جاء في هذا المزمور عنه وعن آلامه وصليبه كما أنه تكلَّم نيابة عن البشرية وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي أنه كان يحملنا في جسده الخاص.

كما يُلْفِت نظرنا هنا إستعداد الرب للسياط (حسب الترجمة السبعينية) وهذا يُعْلِن قبوله الألم بإرادته الكاملة.

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[15]

أما أنا فمستعد للسياط…

إن كنا نتطلع إلى الرب في هذه الساعة خلال كلمات الأناجيل التي تصف كيف كان منظره مهاناً بجلدات وإكليل من شوك وثوب الأرجوان وتعييرات الجند، إلا أن المزمور لم يكتف بهذا المنظر الخارجي بل يدخلنا إلى قلب الرب يسوع، حيث يكشف لنا استعداده للسياط “أما أنا فمستعد للسياط”.

إنه يقول للآلام أنا مستعد لحملك حتى الموت من أجل أولادى.

ويقول للسياط أنا مستعد (بذلت ظهرى للضاربين) كى أنقذ أولادى من جلدات السخرة ونير الخطية.

ويقول للإهانات والاستهزاء: أنا مستعد لأنى أخليت ذاتى لكى لا يهان أولادى فيما بعد.

وقد قال للذين قبضوا عليه: أنا مستعد للقيود ولكن دعوا التلاميذ يمضون.

واستعداد الرب لمواجهة السياط معناه:

أن النور مستعد لمواجهة قوات الظلمة ليكسر فلولها بقوة وثقة.

استعداد المسيح للسياط معناه استعداد المسيح دائماً لقيود الخطاة والفجار ليجلد عوضاً عنهم فيأخذ مكانهم.

ووجعى مقابلي في كل حين

معلوم أن جسد الرب شبع آلام في هذه الساعة حتى لم يبقى فيه موضع لألم … أما وأن يكون الألم هو شغل المخلص الشاغل فهذا ما يعبرعنه المزمور قائلاً: “وجعي مقابلي في كل حين”.

الذي يأتي إلى الرب يسوع يجب أن يضع الصليب “مقابله كل حين”. “أنتم الذين رسم أمام عيونكم يسوع المسيح وإياه مصلوباً”.

أحاط بى كلاب كثيرةً

جمعوا عليه كل الكتيبة وكان الرب بينهم كالحمل الوديع بين كلام كثيرة تتحسس مواضع النهش وقبل أن يرسل الرب أولاده كحملان في وسط ذئاب جاز هو كسابق لأجلنا.

 

الأناجيل

تشرح الأناجيل المُحاكمة الأخيرة أمام بيلاطس والتي أصدر فيها حكم الموت علي الرب وأسلمه ليُصلب بعد ما عرض عليهم أن يُطلق لهم أسيراً فطلبوا باراباس.

ونرى القديس متى يذكر بالإضافة إلي هذه الحلم الذي حلمته زوجة بيلاطس وأرسلت إليه تُحذِّره من الحكم عليه.

بينما القديس مرقس بدأ فيشرح آلام الصليب وأضاف إلى هذا أنهم سخَّروا إنساناً معه ليحمل الصليب وهو سمعان القيرواني، وذكر أسماء أبنائه.

أما القديس لوقا فيوضِّح أن بيلاطس سأل الجموع ثلاث مرّات عن ماذا صنع لكي أصلبه كما أنه هو والقديس مرقس اللذان ذكرا أن خطيّة باراباس كانت الفتنة والقتل وهي الأصعب بكثير من التهمة التي إفتروا بها على الرب ولكن هذا يكشف مقدار حسدهم وشرهم.

أما القديس يوحنا فهو يكشف عن شخصية المصلوب والتي إنزعج بيلاطس عندما سمعهم يقولون أنه جعل نفسه إبن الله.

 

إنجيل متي (٢٧ : ١٥ – ٢٦)

ويشرح القديس متي أنه رغم أن بيلاطس كان يعلم حسد اليهود ” لأنه كان يعلم أنهم إنما أسلموه حسداً ” وأنه لم يجد شيئاً واضحاً يبنيعليه حكم الموت ” وأي شر عمل ؟ ” ورغم توسُّل إمرأته إليه أنها تعذَّبت كثيراً في حلم من أجله ” وفيما هو جالس علي كرسي الولاية أرسلتإليه إمرأته قائلة : لا تصنع شيئاً بذاك البار فإني تألمت كثيراً هذه الليلة في حلم من أجله ” ورغم إعلانه أمام الجموع أنه بار ” أخذ ماءوغسل يديه قدّام الجمع قائلاً : إني برئ من دم هذا البار ”  إلَّا أنه أصدر عليه حكم الموت لذلك لا يستعفي بيلاطس من المسؤولية ولذلك قالله الرب في إنجيل يوحنا أن الذي أسلمه إليه له خطيّة أعظم 

إنجيل مرقس (١٥ : ٦ – ٢٥)

يشرح القديس مرقس بتفصيل جريمة باراباس ” وكان المدعو باراباس موثقاً مع مثيري الفتنة الذين إرتكبوا القتل في الفتنة ” وطلب رؤساءاليهود إطلاق سراحه يكشف عن مدي الشر والكذب والإلتواء والحسد كما شرح القديس أيضاً آلام الرب من الرومان ” ودعوا كل الكتيبة عليه” كما أنه الوحيد الذي ذكر قصة سمعان القيرواني ” وسخروا واحداً عابراً آتياً من الحقل وهو سمعان القيرواني أبو ألكسندروس وروفسليحمل صليبه ” ويشرح أيضاً معني الألفاظ اليهودية للرومان ” وجاءوا به إلي موضع الجلجثة الذي تأويله الجمجمة ” 

إنجيل لوقا (٢٣ : ١٣ – ٢٥)

يكشف القديس لوقا عن نتيجة التحقيقات المدنية الثلاثة ( بيلاطس – هيرودس – بيلاطس ) والتي أعلنها بيلاطس للجموع ” قد قدمتم إليّهذا الرجل كمن يضل الشعب وها أنا قد فحصته أمامكم ولم أَجِد علة علي هذا الرجل مما تشتكون به عليه بل ولا هيرودس أيضاً لأنه قدأرسله إلينا وها هوذا لم يصنع شيئاً يستوجب الموت ” لذلك يُعْلِن أن حكم الموت الذي أصدره بيلاطس لم يكن لقناعته بل لإرادتهم !! ” وأسلميسوع كإرادتهم ” 

إنجيل يوحنا (١٩ : ١ – ١٢)

أما القديس يوحنا فمعروف بتركيزه علي اللاهوت في شخصية الرب يسوع ولذلك ذكر كلام رؤساء اليهود عنه أنه قال أنه إبن الله مما جعلبيلاطس يرجع ثانية للداخل ويسأله من أين انت ؟ كما يُعْلِن أيضاً عن سلطان الرب وقبوله الصليب بإرادته وأن سلاطين البشر لا تقترب إليهإلَّا التي حسب إرادته وإرادة أبيه الصالح لأجل خلاص البشر

” وبحسب ناموسنا هو مستوجب الموت لأنه جعل نفسه إبن الله فلما سمع بيلاطس هذا الكلام إزداد خوفاً ودخل أيضاً إلي الديوان وقالليسوع : من أين أنت ؟ أما يسوع فلم يجبه فقال له بيلاطس : لماذا لم تكلمني أما تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك ولي سلطاناً أن أطلقك ؟أجاب يسوع قائلاً : ليس لك عليّ سلطان لو لم تكن قد أعطيت من فوق من أجل هذا الذي أعلمني إليك له خطيّة أعظم ” 

 

 

الساعة السادسة من يوم الجمعة العظيمة

تتكلّم قراءات هذه الساعة عن أحداث الصلب نفسها ( الأناجيل )

وعلامات الصليب وإشاراته في العهد القديم ( النبوّات والمزامير )

لذلك تتكلّم القراءات عن خلاصه لنا عن طريق شفاؤنا من الحيَّة ونجاتنا من الموت ( سفر العدد )

وصمت الرب الكامل في طريق آلامه وصلبه ( إشعياء ٥٣ )

وإرتفاعه في الوسط وبهجة الخلاص ( إشعياء ١٢ : ٢ – إلخ ، ١٣ : ١ – ١٠ )

وعلامات الطبيعة وبطلان الأعياد اليهودية ( عاموس )

وعذابات الصليب ( المزامير )

وإرتفاعه علي الصليب ( الأناجيل )

 وإفتخارنا بالصليب ( البولس )

سفر العدد (٢١ : ١ – ٩)

وتشرح هذه الحادثة قصة تذمُّر الشعب علي الله وعلي موسي وكيف إبتدأت الحيات تُهلكهم ولذلك عندما صرخ موسي إلي الرب أوصاه بعملحية نُحاسية ينظر إليها كل من يطلب الشفاء والنجاة من الموت وقد إستشهد الرب يسوع بهذه القصة ليُشير من خلالها إلي الصليب ويربطبين النجاة من الهلاك بالحيَّة النُحاسية وبين النجاة من الهلاك الأبدي والدينونة بالصليب (يو ٣ : ١٤)

” فتضرَّع موسي لأجل الشعب فقال الرب لموسي : إصنع لك حية من نحاس وإرفعها علي سارية حتي إذا لدغت الحيَّة إنساناً فينظر إليالحيَّة النحاس فيحيا فصنع موسي حيَّة من نحاس ورفعها علي الراية فكان أي إنسان لدغته حيَّة ونظر إلي الحيَّة النحاسية يحيا 

كما نري هنا أوجه تشابه أخري بين الحية النُحاسية وبين صليب الرب عند القديسين أغسطينوس وأغناطيوس :

” ذبح المسيح حتى يوجد على الصليب ذاك الذي يتطلع إليه مَنْ لدغتهم الحيّة …

 … كل من نظر إلى الحيّة المرفوعة يُشفى من السُّم ويتحرر من الموت، والآن من يصر إلى شبه موت المسيح بالإيمان به وبمعموديته يتحرر منالخطيّة متبررًا ومن الموت بالقيامة. هذا ما يعنيه بقوله “من آمن بي لا يهلك بل تكون له الحياة الأبديّة” (يو ٣ : ١٥). إذن لم تكن هناكضرورة للطفل أن يتشبه بموت المسيح في المعموديّة لو لم يكن قد تسرب سم لدغة الحيّة إليه “

القديس أغسطينوس

” عندما ارتفع جسد الكلمة كما رُفعت الحيّة في البريّة، اجتذب إليه البشريّة لأجل خلاصهم الأبدي “[16]

وما أجمل ما وُرِدَ في سفر الحكمة عن الحية النُحاسية والشفاء خاصة آية ٧ ، ٨  ” و لما اقتحم هؤلاء حنق الوحوش الهائل واهلكهم لدغالحيات الخبيثة لم يستمر غضبك الى المنتهى بل انما اقلقوا الى حين انذارا لهم ( ياريت من أول هنا الي كلمة مُخلِّص الجميع بخط ثقيل ) ونصبت لهم علامة للخلاص تذكرهم وصية شريعتك فكان الملتفت اليها يخلص لا بذلك المنظور بل بك يا مخلص الجميع و بذلك اثبت لأعدائنا انك انت المنقذ من كل سوء لان اولئك قتلهم لسع الجراد والذباب ولم يوجد لنفوسهم شفاء اذ هم اهل لان يعاقبوا بمثل ذلك اما بنوك فلم تقوي عليهم انياب التنانين السامة لان رحمتك أقبلت وشفتهم و انما نخسوا ليتذكروا اقوالك ثم خلصوا سريعا لئلا يسقطوا في نسيان عميق فيحرموا احسانك ( ومن اول هنا الي كلمة وتصعد بخط ثقيل ) و ما شفاهم نبت ولا مرهم بل كلمتك يارب التي تشفي الجميع لان لك سلطان الحياة والموت فتحدر الى ابواب الجحيم وتصعد “

(سفر الحكمة ١٦ : ٥ – ١٣)

إشعياء ( ٥٣ : ٧ )- إلخ 

من أوضح النبوّات في سفر إشعياء عن الصليب والتي تحكي صمت الرب الكامل في طريق آلامه وصلبه ” مثل خروف سيق إلي الذبح وكحمل صامت أمام الذي يجزه هكذا لم يفتح فاه “

وجاء إلي الصليب لأجل خطايا البشرية جميعها ” ولأجل آثام الشعب جاء إلي الموت “

وبلا خطيّة ” لأنه لم يصنع إثماً ولم يوجد في فمه غش “

ومسرَّة أبيه الصالح كانت في شفاؤه ( أي شفاؤنا فيه ) من الكلوم والجراحات ” أما الرب فشاء أن يشفيه من الكلوم ” والتي جاءت للأسففي الترجمة البيروتية ( وأما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن )

وبصليبه إقتنص البشرية من سلطان إبليس ” ومن أجل هذا هو يرث الكثيرين ويقسم غنائم الأقوياء حيث أسلم نفسه للموت وأحصي مع الأثمة وهو قد حمل خطايا كثيرين وأسلم من أجل الإثم “

إشعياء ( ١٢ : ٢ – إلخ ، ١٣ : ١ – ١٠ )

تتكلّم هذه النبوَّة عن بهجة الخلاص ” هوذا الله خلاصي .. مجدي وتسبيحي هو الرب وقد صار لي خلاصاً ” وهي التسبحة التي تشدو بها الكنيسة ليلة ويوم الجمعة العظيمة لتُعلن لكل نفس عن قوَّة الصليب والفرح الذي نلناه به والخلاص العظيم ( قوتي وتسبحتي هو الرب وقد صار لي خلاصاً مُقدَّساً )

وتتكلّم النبوَّة أيضاً عن نبع الخلاص من جنب المسيح المطعون والذي خرج منه دم وماء يملآن الكأس المُحيَّية وجُرن المعمودية ينابيع خلاصنا” إملأوا ماء بفرح من ينابيع الخلاص “

كما تُشير النبوَّة إلي إرتفاع إبن الله علي صليبه في وسط الأرض ” سبحوا إسم الرب لأنه قد صنع أعمالاً عظيمة وإفرحي يا ساكنة صهيونلأنه قد إرتفع في وسطك قدوس إسرائيل ” لذلك نُصلِّي في قطع الساعة السادسة ( صنعت خلاصاً في وسط الأرض كلها أيها المسيح إلهنا)

عاموس (٨ : ٩ – ١٢)

تكشف هذه النبوَّة عما حدث في الطبيعة من علامات ” ويكون في ذلك اليوم ( يوم الصلب ) يقول السيد الرب تغيب الشمس وقت الظهيرةويظلم النور علي الأرض في النهار “

كما توضِّح النبوَّة كيف تحوَّل الإحتفال بعيد الفصح إلي نوح وبكاء وتنتهي بهجة الأعياد في الكنيسة اليهودية لرفضها مُخلِّصها وفاديها ” وأحول أعيادكم نوحاً وجميع تسابيحكم رثاء وأجعل علي كل حقو مسحاً وعلي كل رأس قرحاً وأجعله مثل حزن الحبيب والذين معه كمثل يومالحزن “

فتحولت أغانيهم لمراثي (ومازالوا يبكون عند حائط المبكي) ولبسوا المسح على الأحقاء حين أسلمهم الله للأمم لمدة حوالي ٢٠٠٠ سنةوحزنهم كمناحة الوحيد = أي حزن شديد جدًا. وأخرها يومًا مرًا = هو اليوم الذي يقبلون فيه ضد المسيح، حين ينطلق الشيطان وتأتيالضيقة العظيمة.)[17]

البولس (غل ٦ : ١٤ – إلخ)

 لذلك يحكي القديس بولس بطلان الختان والغرلة في المسيح يسوع وعن أعظم ما نلناه بالصليب الطبيعة الجديدة لذلك صار الصليب فخرن الدائم

” وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلَّا بصليب ربنا يسوع المسيح هذا الذي قد صلب العالم لي وأنا أيضاً صُلبت للعالم لأنه في المسيح يسوع ليس الختان بشيء ولا الغرلة بل الخليقة الجديدة “

المزامير

يتكلَّم المزمور الأوَّل (مز ٣٧ : ٢١ ، ٢٢) عن المسامير التي ستكون في جسد الرب ” وجعلوا مساميراً في جسدي ” ثم يشرح بشيء من التفصيل المزمور الثاني ( مز ٢١ : ١٦ ، ١٧ ، ٨ ، ٩ ) أنها كانت في يديه ورجليه ” ثقبوا يدي ورجلي ” وتشرح رد فعل جنود الرومان مع ملابس الرب كما لو كان النبي واقفاً أمام الصليب ” اقتسموا ثيابي بينهم وعلي لباسي إقترعوا ” وأيضاً سخرية اليهود الواقفين أمام صليب الرب ” وحركوا رؤوسهم وقالوا : إن كان آمن واتكل علي الرب فليخلصه ولينجيه إن كان أراده ” وهي تقريباً نفس  الكمات التي جاءت في اناجيل هذه الساعة عن إستهزاء الرؤساء والشيوخ والكتبة

الرابط بين المزمور والإنجيل ( القمص لوقا سيداروس ) 

الساعة السادسة من يوم الجمعة 

+ رفضوني …

أخرج بيلاطس يسوع أمام جماعة اليهود وقال لهم : هوذا ملككم . فصرخوا : أرفعه ! ارفعه ! اصلبه . فقال لهم : أأصلب ملككم فقالوا : ليسلنا ملك إلا قيصر . والمزمور في تعبير إلهى عميق يتكلم عن وقوف المسيح الرب موقف المرفوض . فهم رفضوا أن يملك عليهم في حين قبلواقيصر واعترفوا به .

رفضوا أن يطلق لهم يسوع وطلبوا أن يطلق لهم رجلاً قاتلاً وهو باراباس اللص .

رفضوا تعليمه ومحبته وانضاعه .

    تأملى يا نفسى في مخلصك المرفوض من العالم …. هل تقبلى بعد ذلك كرامة من العالم ؟ إن كانوا رفضوا المعلم فكم يكون رفضهم للتلاميذ . ليس تلميذاً أفضل من معلمة .

+ أنا الحبيب …

لم يعرف معنى الحب ولا استعلن في أجيال الخليقة كلها مثلما ظهر . في منظر الرب الواقف أمام جماعة الجاحدين .

جرح من أجل أحبائه وضرب من أجل ذنب الشعب ” هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ” (يو ٣ : ٦) .

لقد لقبوه سابقاً ” محباً للعشارين والخطأة ” ولكن ها هي المحبة واضحة أمام عيونهم تنزف من جراحاته … الآن لم تعد محبة  المسيح مستتره عن عيونهم .

إيه أيتها النفس التي أحبت العالم وأغمضت عينيها لكى لا تبصر الحبيب الذى يقول افتحى لى .   ويوسل أن قصصه وشعره ابتل لا بمطرولا بندى الليل بل بدم النازف من الجبين المقدس بسبب إكليل الشوك …

ما أقساك يا نفسى حينما لا يرق قلبك لكل هذا وأنت ماضية في رفضك ، ما أحقر ما اتخذت من نصيب جعلك ترفضين الحبيب .

+ مثل ميت مرذول … هكذا قد صار الحبيب ليس ميتاً

الساعة التاسعة من يوم الجمعة العظيمة

تتكلّم قراءات هذه الساعة عن كمال رحلة الآلام والموت على الصليب لتُعلن نهاية اللعن وبداية الحياة واستعلان الدينونة لرافضي الخلاص:

لذلك تُوضِّح القراءات:

علَّة دينونة مُقاومي الخلاص. (إرميا).

ونهاية اللعن بالصليب. (زكريا).

الذي ستكون أحداثه مهيبة. (يوئيل).

ومجد البشرية في المسيح المصلوب. (البولس).

الذي أعطانا الحياة بقيامته. (المزمور).

بعد ما أكمل كل ما هو لازم لموته علي الصليب. (الأناجيل).

 

النبوَّات

النبوَّة الأولى: إرميا النبي (إر ١١: ١٨- الخ؛ ١٢: ١- ١٣)

تتكلّم هذه النبوَّة عن أحداث الصليب ودينونة المُقاومين

لذلك تتكلّم عن إبن الله الذي سيق إلى الذبح مثل حمل حتى إلى الصليب والموت، والذين قاوموه ونادوا بصلبه لكي يُهلكوه، لم يدركوا أنهم سعوا إلى هلاك أنفسهم وأتت عليهم أيام إنتقام شديدة (خراب أورشليم).

“يا رب عرفني فأعلم حينئذ نظرت إلى أعمالهم وأنا كحمل بلا عيب. يساق إلى الذبح ولم أعلم تشاوروا عليَّ مشورة رديئة قائلين: تعالوا فلنقطع شجرة خبزه ونستأصله من أرض الأحياء ولا يُذْكَر إسمه بعد… هوذا أنا سأرسل عليهم هلاكاً فيسقط شبانهم بالسيف وبنوهم وبناتهم يموتون بالقحط ولا تكون لهم بقية لأني مُنزلٌ الشرور على السكان بعناثوث في سنة إفتقادهم”.

أما معنى كلمة “ولم يعلم” يجيب عليها العلامة أوريجانوس:

[يتكلم السيد المسيح عن نفسه: “وأنا كخروفٍ داجنٍ يُساق إلى الذبح ولم أعلم”. لم يذكر ما هو الشيء الذي لا يعلمه. فهو لم يقل: “ولم أعلم الخير” أو “ولم أعلم الشر” أو “ولم أعلم الخطية”، وإنما قال فقط: “ولم أعلم”. بذلك ترك لك مهمة البحث عن الشيء الذي لم يعلمه. لكي تعرف ذلك الشيء، تأمل هذه العبارة: “لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا” (٢كو ٥: ٢١). معرفة الخطية معناها السقوط فيها، تمامًا مثل معرفة الحق أي ممارسته. من يتحدث عن الحق ولا يمارسه لا يعرف الحق[[31]

 

النبوَّة الثانية:ـ زكريا النبي (زك ١٤: ٥- ١١)

تتكلّم هذه النبوَّة عن إستعلان الإفتقاد الإلهي بالصليب وبداية الحياة ونهاية اللعن:

“ويكون في ذلك اليوم أن ماءاً حياً يخرج من أورشليم … ويكون الرب ملكاً على الأرض كلها وفِي ذلك اليوم يكون الرب واحداً وإسمه واحداً ويحيط بكافة الأرض (خلاصه) … ولا يكون بعد لعن ويكونون بلا محرمة (دينونة) وتكون أورشليم (الجديدة) مطمئنة”.

 

النبوَّة الثالثة:ـ يوئيل النبي (يؤ ٢: ١- ٣؛ ١٠: ١١)

تُظهر هذه النبوَّة ما حدث أثناء الصليب من الظلمة على الأرض وعلامات في الطبيعة وكيف كان هذا اليوم عظيماً جداً ومخوف وربما هذا الذي جعل اللص يتوب وقائد الجند يعترف ببرّ هذا المصلوب:

“وتزلزل الأرض أمامه وتهتز السماء وتنوح الشمس والقمر ولا تعطي النجوم ضوءها … لأن يوم الرب عظيم جداً”.

 

البولس (في ٢: ١- ١١)

تُعْلِن هذا القراءة مجد البشرية في المسيح وفِي صليبه وموته وكيف أتمَّ تدبير الآب لخلاصنا

“لكنه وضع ذاته آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع ذاته وأطاع حتى الموت موت الصليب لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه إسماً فوق كل إسم”.

ويشرح القديس أغسطينوس معنى هذا النص الكتابي :

[قال الرب لليهود: “ماذا تظنّون في المسيح” (مت ٢٢: ٤٢)؟ أجابوه: “ابن داود”، لأنهم عرفوا ذلك بسهولة إذ تعلّموه من الأنبياء. بالحقيقة كان من نسل داود، ولكن “حسب الجسد” من العذراء مريم التي كانت مخطوبة ليوسف. وعندما أجابوه قال لهم: “فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلًا: قال الرب لربّي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه…؟”

هل تتعجّبون من أن يكون ابن داود إلهًا له، عندما ترون مريم أمًا لربّها؟

إنه رب لداود “الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله” ، وابن داود بكونه “أخلى نفسه آخذًا صورة عبد”.

يا أيّها النبي القائل: “أنت أبرع جمالًا من بني البشر” (مز ٤٥: ٣)؟ أين رأيته؟ هناك أنا رأيته. هل تشك أن المعادل لله أبرع جمالًا من بني البشر…؟

وليسأل ذاك القائل: “رأيناه، ليس فيه حُسن ولا جمال” (إش ٥٣: ٢). أنت تقول هذا، أخبرنا أين رأيته…؟.

أخلي ذاته، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب”. هنا أنا رأيته.

هكذا الاثنان في توافق مملوء سلامًا، كلاهما يتفق معًا.

أي جمال أبرع من الله؟..

وأي تشويه أكثر من المصلوب؟!..

لقد ترك أباه حتى لا يُظهر نفسه هنا مساويًا للآب، بل “أخلى ذاته، آخذاً صورة عبد”.

لقد ترك أيضًا أمه، المجمع، الذي وُلد منه حسب الجسد لقد التصق بامرأة أي بكنيسته] (القديس أغسطينوس)[32]

 

المزمور (مز ٦٨: ٢، ٢١)

“أحيني يا الله فإن المياه قد بلغت إلى نفسي وتورطت في حمأة الموت وجعلوا في طعامي مرارة وفِي عطشي سقوني خلاً”.

يشرح المزمور مدى الضغط النفسي الذي تحمَّله الرب في طريق الصليب وفِي آلامه حتي الموت كما يذكر ما حدث عند عطش الرب وكيف قدَّموا له خلَّا ليشرب.

[وكان داود في هذا رمزًا للمسيح، وهناك آيات كثيرة من هذا المزمور طبقها العهد الجديد على المسيح:

الآيـــــة ٤ ← وردت في (يو ١٥: ٢٥).

الآيـــــة ٩ ← وردت في (يو ٢: ١٧)+ (رو ١٥: ٣).

الآيـــــة ٢١ ← وردت في (مت ٢٧: ٣٤).

والآيات ٢٢، ٢٣ ← وردوا في (رو١١: ٩، ١٠).

وهو رفيق للمزمور٢٢، وكلاهما يبدأ بآلام المسيح وينتهي بمجده. ويضاف لهذا النبوات الخاصة بخراب إسرائيل لصلبها المسيح] (القمص أنطونيوس فكري)[33]

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[34]

أحيني يا الله…

ما أعجب كلمات هذا المزمور: الذى وهب الحياة للذين في القبور بكلمة واحدة يقول: أحيني؟ إن هذه الكلمات تعبرعن كمال الإخلاء الذي أتممه الرب على الصليب إنه يخاطب الآب قائلاً :

ها قد وضعت نفسي عن خرافي .

واسلمت ذاتي فدية عن العالم .

وها أنا أسلم نفسي للموت الذي ليس له علي سلطان. وأقدم كمال طاعة  البشرية في طاعتي، وخضوعها لك حتى الموت في خضوعي .

والآن العمل الذي أرسلتني لأعمل قد أكملته .

والآن أيها الآب أنا أضع نفسي وأنت تمجدني بالمجد الذي لي عندك قبل إنشاء العالم. ها أنا أسلم نفسي في هذه الساعة للموت كمالاً للإخلاء وأنت تحييني وتمجدني.

وهو حينما يطلب الآن على الصليب إنما يطلب حياة لكل أحد، لأنه عندما قام حياً أقامنا معه كأعضاء أحياء، أذن فهو يطلب حياتي في لحظات موته.

المياه قد بلغت إلى نفسي

ارتفعت الآلام وتزايدت مثل مياه طوفان جارف حتى بلغت في هذه الساعة إلى النفس. من أجل ذلك قيل إنه صرخ بصوت عظيم. بالحقيقة ما من ألم تألم به الإنسان وما من كأس مرارة تجرعها أحد، إلا وشربها الرب كاملة عنا حتى النهاية. لذلك قيل إن مياه الألم بلغت إلى نفسه حتي الموت. على أن المياه لم تبلغ إلى نفس الرب إلا بالقدر الذى سمح لها فقط. فهو القائل: “لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها”. لأن آلام  الرب لم تفرض عليه من قوة خارجية  فقبلها مضطراً ولكنه أخذ على عاتقه آلامنا بدافع من محبته.

وتورطت في حمأة (الطين) الموت...

والرب هو حمل الله الذى حمل خطايانا، وبقى بغير خطية ولم يعرف شبه شر، والآن أسلم الروح وتورط في طين الموت ولكنه لم يتسخ به، بل قيل عنه إن الموت لم يكن ممكناً أن يمسكه.

جعلوا في طعامي مرارة وفى عطشي سقوني خلاً…

السيد المسيح ما جاع إلى طعام جسدى ولا عطش أيضاً بهذا المفهوم، فهو أرسل التلاميذ ليبتاعوا طعاماً قبل أن يقابل المرأة السامرية، ولكنهم عندما قدموا وقالوا يا معلم كُلّ، لم يأكل بل قال: لي طعاماً آخر… كيف يجوع مُشبع الخمس آلاف من الخمس خبزات؟ إن له طعاماً آخر.

كيف يعطش ذاك الذي قال: إن عطش أحد فيقبل إليّ ويشرب؟؟

ولكنه على الصليب جوعان وعطشان على نحو آخر،

إنه عطشان إلى نفوس أولاده ليرتوي بمحبتهم له وقبولهم إليه.

إن المُر الذى جُعل في طعامه هو رفض الصالبين وقساوة قلوبهم وعدم قبولهم عمله الذي يعمله.

والخل الذى شربه في عطشه على الصليب هو أنه يطلب توبة أولاده، ورغم ذلك لازالوا يعيشون عبيداً للخطية متغربين في كورة بعيدة .

طوباك أنت أيها اللص اليمين، إن الرب شبع بتوبتك وارتوى باعترافك به مخلصاً، ورجوعك بعد غربة عمرك كله .

يا سيدى ليت سجودي أمام صليبك كل حين يحسب عوض الخل الذى تشربه من كلمات التعيير والإهانة من كثيرين حتى هذا اليوم، وليت توبتى تُفرح قلبك الذى ينتظر رجوعي كل يوم.

 

الأناجيل (مت ٢٧: ٤٦- ٥٠)، (مر١٥: ٣٤- ٣٧)، (لو٢٣: ٤٥، ٤٦)، (يو١٩: ٢٨- ٣٠)

تكاد تتطابق رواية إنجيلي متى ومرقس عن موت المسيح على الصليب في قراءات هذه الساعة.

تأتي في قراءات هذه الساعة صرخة الإبن على الصليب “إلهي إلهي لماذا تركتني” وربما قصد الرب بهذا أن يُلفت نظر اليهود والواقفين أمام الصليب إلى مزمور ٢٢ الذي يبدأ بهذه الآية ويتكلّم بصورة واضحة جداً على الصليب كما لو كان المُتكلِّم شاهد عيان.

أما إنجيل لوقا يوضِّح ماذا قال الرب في صرخته على الصليب “يا أبتاه في يديك أستودع روحي” بالإضافة إلى ما حدث من ظلام الشمس وإنشقاق حجاب الهيكل.

ويذكر إنجيل يوحنا تتميم الرب للنبوءات بكلمته على الصليب “أنا عطشان” وأيضاً الكلمة الأخيرة التي قالها الرب “قد أكمل”.

ونلاحظ هنا أن الرب صرخ على الصليب مرتين:

أولهما عندما قال: “صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي إيلي لما شبقتني” وهي جاءت في إنجيل متى وإنجيل مرقس.

وثانيهما عندما قال: “ونادى يسوع بصوت عظيم وقال: يا أبتاه في يديك أستودع روحي” وهي جاءت في إنجيل لوقا.

كما يذكر القديس يوحنا وحده أن الرب أمال رأسه وأسلم الروح [عكس ما يحدث عند موت أي إنسان]:

[فالإنسان العادي في لحظة موته لا تكون له قدرة على الصراخ بصوت عظيم. بل كان صراخه في لحظة موته سببًا في أن قائد المئة الموجود بجانب الصليب يقول “حقا كان هذا الإنسان ابن الله” (مر ١٥: ٣٩) وهذا يدل على قوة جبارة ناشئة عن إتحاد ناسوته الضعيف بلاهوته. وعجيب أيضًا أن نسمع “ونكَّس رأسه وأسلم الروح. فالطبيعي أن يُسلِّم الإنسان الروح أولًا ثم ينكس رأسه وليس العكس، وذلك لأنه يحاول أن تظل رأسه مرفوعة بقدر الإمكان ليتنفس، ولكنه بعد أن يموت تسقط رأسه. وهاتين الملحوظتين يشيران أن موت المسيح لم يكن كموت أي إنسان عادي، بل هو بسلطانه سلَّم حياته أي مات بإرادته حينما أراد، أي حينما تمم عمله. وبهذا نفهم أن الموت لم يبتلع المسيح بل أن المسيح هو الذي إبتلع الموت كغالب وليس كمغلوب.

الموت لم يغلب الرب بل هو الذي غلب الموت، ونزل إلى الجحيم بروحه المتحدة بلاهوته ليفتح الأبواب لمن ماتوا على الرجاء ويأخذهم إلى الفردوس.

وهكذا قال إشعياء “سكب للموت نفسه” (إش٥٣: ١٢) فلم تؤخذ روحه منه كالبشر بل سكب هو نفسه بنفسه، بإرادته][35]

 

 

الساعة الحادية عشر من يوم الجمعة العظيمة

تتكلّم قراءات هذه الساعة عن بداية العيد والمجد الدائم للبشرية ( النبوّات )

ومجد المصلوب في حياة الكنيسة ( البولس )

لإنفتاح الأعين علي إبن الله وإستعلان لاهوته ( الأناجيل )

بتمام فداؤه بالقيامة ( المزمور )

 

(سفر الخروج١٢ : ١ – ١٤)

تتكلّم هذه النبوَّة عن الخلاص الذي كان سيصنعه الرب مع شعبه ليُخلِّصه من عبودية فرعون ووصيته لموسي وللشعب ليجعلوا هذا الخلاص عيدا دائماً وتذكاراً يعيشه الشعب طول الأيَّام وكيف كانت مواصفات خروف الفصح تنطبق علي حمل الله الحامل خطيّة العالم في أنه بلا عيب ويكون تحت الحفظ إلي اليوم الرابع عشر ( كما كان الرب في أورشليم وما حولها من أحد الشعانين حتي الصليب ) ويُؤكل علي أعشاب مرة علامة الألم الذي اجتازه ودمه يكون علامة الخلاص من الهلاك المزمع أن يكون علي الناس عند عبور الملاك المُهلك

” وليكن لكم خروفاً ذكراً صحيحاً حولياً تأخذونه من الحملان أو من الجداء ويكون عندكم تحت الحفظ إلي اليوم الرابع عشر من الشهر وليذبحه كل جمهور جماعة بني إسرائيل وقت المساء ويأخذون من دمه ويضعونه علي القائمتين والعتبتين ( ؟ ) في كل البيوت … وسأجتاز في أرض مصر هذه الليلة وأضرب كل بكر في أرض مصر … ويكون الدم علامة علي البيوت التي أنتم فيها فأري الدم وأستر عليكم ولا يكون فيكم ضربة إنسحاق … ويكون لكم هذا اليوم تذكاراً فتعيدونه عيداً للرب في أجيالكم تعيدونه فريضة أبدية ”

 

(سفر اللاويين٢٣ : ٥ – ١٥)

ويؤكد الرب هذه الوصيّة دائماً لشعبه أكثر من مرة بعد خروجهم من أرض مصر ليعيدوا سبعة أيَّام يأكلون فطيراً وهو الذي قال عنه القديس بولس أن يكون تذكار وعيد خلاصنا بفطير الإخلاص الحق علامة الخلاص والحياة الجديدة

” في الشهر الأول في الرابع عشر من الشهر وقت المساء فصح للرب وفِي الخامس عشر من الشهر عينه عيد الفطير للرب سبعة أيام تأكلون فطيرا واليوم الأول يُدعي لكم مقدساً عملاً ما من الشغل لا تعملوا سبعة أيام تقربون محرقاتكم لترفع للرب واليوم السابع يُدعي لكم مقدساً ”

 

البولس ( غل ٣ : ١ – ٦ )

ويتحوَّل العيد في العهد القديم من تذكار لحدث وموقف ومعجزة عملها الله معهم إلي الحضور الدائم لإبن الله المصلوب لأجلنا فيكون هوحياتنا وهدفنا والتعبير الذي قاله القديس بولس أن يسوع المصلوب قد رُسِمَ أمام عيوننا ليس معناه فقط أننا نعيش برؤيته بل وأيضاً لا نريشيئاً في العالم إلَّا به ومن خلال خلاصه ومحبته

” أنتم الذين قد سبق فرُسم أمام أعينكم يسوع المسيح مصلوباً ”

والجميل في قراءات هذه الساعة أنها رسمت لنا الصليب في :

+ شريعة العهد القديم ( وصف خروف الفصح ومقارنته بالصليب )

+ في الخليقة كلها كقول القديس أثناسيوس في العظة ( أما علامة الصليب فهي مبسوطة علي كل الخليقة )

+ أمام أعيننا كما قال القديس بولس ( أي في حياتنا وجهادنا اليومي )

 

المزمور الأوَّل ( ١٤٢ : ٦ ، ٧ )

” بسطت يدي إليك فإستجب لي يارب عاجلاً فقد فنيت روحي لا تصرف وجهك عني فأشابه الهابطين في الجب ”

يتكلَّم هذا المزمور عن استجابة الآب للإبن في أنه لا يمكث جسد بشريته في الموت لذلك قال فإستجب لي عاجلاً ( في اليوم الثالث ) وهو نفس المعني الذي قاله القديس بولس في الرسالة إلي العبرانيين (عب ه : ٧) وهو أيضاً ما شرحه القديس أثناسيوس الرسولي لتفسير هذة الآية (عب ٥ : ٧) أن صراخ إبن الله الشديد للقادر أن يُخلِّصه من الموت ( أي يُخلِّص الطبيعة البشرية التي أخذها إبن الله من الموت بعبورها للقيامة ) أي يقوم في اليوم الثالث ولا يسود عليه الموت بعد

المزمور الثاني ( ٣١ : ٥ )

” في يديك أستودع روحي ولقد فديتني أيها الرب إله الحق ”

وهذه الكلمة هي التي قالها الرب علي الصليب وقد أعلن النبي هنا بها إتمام الفداء

 

الرابط بين المزمور والإنجيل ( القمص لوقا سيداروس )

+ فاستجب لى يارب عاجلاً فقد فنيت روحى …

فإن تأملنا ما هو مطلب المسيح المعلق على الخشبة الذى يطلب الاستجابة عاجلاً لاندهشنا جداً … إنه يطلب براءة الإنسان كاملة والآنعاجلاً لأنه أكمل الموت عنه قائلاً : ( لقد فنيت روحى ) . ولكن الذى يدهشنا بالأكثر استجابة الآب عاجلاً ، ففي هذه اللحظة :

انشق حجاب الهيكل الذى طالما عذب الإنسان بإحساس انحجاب الله وتخليه عن الإنسان ، وحدثت المصالحة إلى الأبد ، وصرنا ننظر إلىالرب بوجه مكشوف .

انكسرت شوكة الموت وأسوار السجن تحطمت ، وخرج الإنسان ، وانفلت من القبور القديسين الراقدين . صارت كل أمة مقبولة تمجد الله ، وهاباكورة الأمم في شخص أعدى الأعداء ” قائد المئة الذى صلب الرب ” تمجد المصلوب وتعترف بألوهية.

جرى الغفران من الجنب الإلهى لكل العالم .

 

لنتأمل يا أخوة في ما حصل عليه الرب لنا بموته ، أي مجد لنا نحن المسيحيين بموته الذى ماته عنا وبالعطايا التي أجزلها لنا بكل حكمةوفطنة .

+ في يديك أستودع روحي …

لابد أن اللحظات – التي أسلم فيها يسوع الروح – كانت لحظات رهيبة جداً ، والناظرون إلى الرب في هذه الساعة رأوا ما لا يسوغ لإنسانأن يتحدث عنه ، حتى إنه لجلال ما رأوا وصرخوا وآمنوا ورجعوا وهم يقرعون صدورهم … تأمل المكتوب ” ولما رأى قائد المئة القائم مقابلهأنه صرخ هكذا وأسلم الروح ، قال : حقاً كان هذا الإنسان ابن الله ” (مر ١٥ : ٣٩) .

لقد صرخ الرب ” يا أباتاه ، في يديك أستودع روحي ” (لو ٢٣ : ٤٦) . وهذا ليس غريباً لأنه سبق فقال : “خرجت من عند الآب ،وقد أتيت إلى العالم ، وأيضاً أترك العالم وأذهب إلى الآب (يو ١٦ : ٢٨) . فخروجه من عند الآب لم يعن انفصاله عن الآب قط ، ثمرجوعه إلى الآب ( تسليم الروح في يديه ) لا يعني انفصال لاهوته عن ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين . ولكن ترى كيف نطق الرب عبارة” في يديك أستودع روحى ” وبأى طريقة أكمل هذا التسليم حتى الموت .

ربى يسوع علمنى أن أحيا حياة التسليم عينها بالكيفية التي نطقت بها هذه الكلمات وبطريقتك الفائقة التي لا يعبر عنها .

ربى يسوع اجعل هذه الكلمات ختاماً ليومى قبل أن أذهب إلى فراشى وختاماً لغربتى عند خروج روحى منى .

+ لقد فديتني أيها الرب إله الحق ( العدل ) …

ما أجمل هذه المقابلة التي في كلمات المزمور ، فهذا الفداء الذى قدمه لنا أيضاً وفاء للدين الذى كان علينا ووفاء لمتطلبات العدل الإلهى .

 

المرجع : كتاب تأملات في مزامير الآلام صفحة ١٦٥ – ١٧٠ – القمص لوقا سيداروس

 

إنجيل متي ( ٢٧ : ٥١ – ٥٦ )

يذكر القديس متي هنا علامات الطبيعة وإنشقاق حجاب الهيكل وإعتراف الجند بلاهوته ومرافقة النسوة للرب حتي الصليب ( كما ذكر ذلكأيضاً القديس مرقس والقديس لوقا ) ولكن يُضيف هنا القديس متي قيام كثير من أجساد القديسين الراقدين وظهورهم لكثيرين ودخولهمالمدينة المُقدَّسة أورشليم

” وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المُقدَّسة وظهروا لكثيرين ”

 

إنجيل مرقس ( ١٥ : ٣٨ – ٤١ )

يذكر القديس مرقس ( وأيضاً القديس لوقا ) بالتحديد في إعتراف الجند الواقفين أنه قائد المئة ولكن يقول هنا ” حقاً إن هذا الإنسان كانإبن الله ” وهذا نفس ما ذكره القديس متي علي لسان الجند كما يذكر أيضاً مثل الآخرين إنشقاق حجاب الهيكل ومرافقة النسوة للرب فيآلامه حتي الصليب

 

إنجيل لوقا ٢٣ : ٤٧ – ٤٩ )

يذكر القديس لوقا علي لسان قائد المئة إعترافه إنه بار ” بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً ” وهو الوحيد الذي ذكر رد فعل الجموع التيشاهدت موت الرب علي الصليب ” وكل الجموع الذين أتوا لهذا المنظر لما عاينوا ما حدث رجعوا وهم يقرعون علي صدورهم ”

 

إنجيل يوحنا ( ١٩ : ٣١ – ٣٧ )

ينفرد القديس يوحنا بتوضيح أن هذا السبت ( بعد جمعة الصلبوت ) كان عظيما ويذكر أيضاً طعن الجندي الرب بالحربة في جنبه فخرج دموماء خلافاً لما يحدث في موت أي إنسان طبيعي لذلك كان إعلاناً عن لاهوته في أنه مات ولكن لم يصل إليه الفساد كباقي البشر

( للوقت خرج دم وماء . ماء علامة موته ، ودم علامة حياته )

( الأب أثناسيوس المقاري – كتاب البصخة المُقدَّسة جزء ثاني ص ٢٥٦ ) كما أنه ذكر النبوّات التي تُشير إلي هذه

” وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات لكن واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت

 

الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة

تُخْتَم قراءات هذا اليوم العظيم بهذه الساعة التي فيها تحرَّرت نفوس الأبرار من الجحيم بدخول إبن الله إليها فسبى سبياً وأخرجهم من الظلمة إلى النور وتهلَّلت نفوسهم بمجيئه ولذلك يُفْتَح باب الهيكل في هذه الساعة ويُكسي الهيكل بكسوة الفرح.

لذلك تتكلّم القراءات عن إثنين من الأنبياء (إرميا ويونان) كانوا رمزاً في آلامهم لإبن الله في آلامه وصليبه، ولكن أيضاً في قيامته وعبوره الموت.

كما أنه يأتي مزمورين أحدهما يُعبِّر عن آلام الموت والآخر عن مجد المُتألم وبهاءه.

وتأتي الأناجيل لتكشف عن نوعية النفوس التي تعيش العبور الدائم من الموت إلى الحياة (يوسف ونيقوديموس) اللذان كانا يترجَّيان وينتظران ملكوت الله وهما لم يكونا بعد يعرفانه وإنما أدركاه في موت الرب وقيامته.

 

النبوَّات

مراثي إرميا (مر٣١: ١- الخ)

ترسم هذه النبوَّة طريق الرب في آلامه وموته على الصليب ونزوله إلى الجحيم كنائب عن البشرية وقبوله تدبير الآب لخلاصنا.

“أنا هو الرجل الذي رأى المذلة أتى عليّ بقضيب غضبه (حمل خطايا البشرية) وقادني وسيرني في الظلمة لا في النور والآن رد يده عليَّ النهار كله أبلى لحمي وجلدني وسحق عظامي (آلام الصليب) أحاط بي ونكس رأسي (موته على الصليب) وأذلني وأجلسني في مواضع مظلمة (الجحيم) مثل الموتى منذ القدم (مصير البشرية في العهد القديم)”.

ونرى نفس الكلام عن المواضع المُظلمة في صلاة يونان النبي وفِي المزمور الأوَّل (مز٤٤) والتي تُشير إلى نزوله إلى الجحيم.

ولكن برغم وصف إرميا النبي لآلام إبن الإنسان إلَّا أنه يُعْلِن كيف لم يدم الألم والموت بل تغيَّر إلى خلاص وإستعلان مراحم الآب في نصرة إبنه على الموت ونجاة نفوس الأبرار من الهلاك.

“طيب هو للنفس التي تطلبه وتتوقع بسكوت خلاص الرب. جيد للرجل (الرجل هنا هو إبن الإنسان وهو نفس الرجل في بداية النبوَّة الذي أتى عليه قضيب الغضب) أن يحمل النير منذ صباه يجلس وحده ويصمت لأنه قد وضعه عليه (صمت يسوع المصلوب وقبوله تدبير الآب) يجعل في التراب فمه لعله يجد رجاء يميل خده لمن يلطمه (آلامه) ويشبع تعييراً إلَّا أن الرب لا يقصيه عنه إلى الأبد (قيامته) فإنه ولو وضعه يترأف عليه ككثرة رحمته”.

ويستخدم إرميا النبي تعبيرات تُعبِّر عن آلام المسيح تكاد تكون مُتطابقة مع ما قالها يونان النبي في صلاته (النبوَّة التالية لها):

“وأجلسني في مواضع مظلمة” (مراثي أرميا).

“وغطاني الغمر الأقصى وغطست رأسي في شقوق جبال” (يونان).

“إرحمنا يا رب في فنائنا” (مراثي أرميا).

“أيها الرب إلهي عند فناء نفسي” (يونان).

“وقلت إنه تركني عنه” (مراثي أرميا).

“فقلت قد طرحت عن وجهك” (يونان).

“صرخت بإسمك يا رب من جب سفلي فسمعت صوتي” (مراثي أرميا).

“وصرخت إليه من الجحيم فسمع صوتي” (يونان).

“لا تمل أُذنك عن طلبتي” (مراثي أرميا).

“فلتصعد إليك صلاتي” (يونان).

 

يونان النبي (يو ١: ١٠- الخ؛ ٢: ٢- ٧)

تورد هذه القصة موقفين يرتبط كل منهما بالصليب :

(١) الموقف الأوَّل هو تردُّد البحَّارة في إلقاء إنسانا في البحر وإعتباره دماً ذكياً حسب تعبيرهم رغم أنه كان السبب في هياج البحر وفِي خسارتهم الكبيرة لبضاعتهم التي ألقوها في البحر لمحاولة نجاته، وأنه أيضاً جعلهم يتعرَّضون للموت إذا غرقت السفينة، ورغم أنه هو الذي إعترف بأخطائه، ورغم رد فعل الإله الذي لم يكونوا يعرفونه بعد، وكيف أظهر غضبه عليه (حسب فهمهم) إلَّا أنهم يقولون “فصرخوا إلي الرب وقالوا: أيها الرب لا يكون هذا ولا تدعنا نهلك بسبب نفس هذا الرجل ولا تجلب علينا دماً ذكياً لأنك أيها الرب قد صنعت كما شئت”.

فكيف نرى رجالاً لا يعرفون الله الإله الحقيقي (يعبدون آلهة أخرى) ويُظهرون رحمة لمن كان سبباً في خسارتهم وربما موتهم ويعتبرونه “دماً ذكياً” ونرى في المقابل رؤساء الكهنة والكتبة يحكمون بشهود كذبة ومؤامرات على إبن الإنسان الدم الذكي الوحيد بين البشر ويطلبون إطلاق سراح باراباس – من كان سبباً في فتنة في المدينة وقتل – عوضاً عنه!!.

لكن يظهر الفارق هنا بين غير مؤمنين صرخوا إلى الإله الحقيقي وبين آخرين المفروض أنهم قادة المؤمنين صرخوا إلى بيلاطس الوالي الروماني الذي حاول تبرئة نفسه من دم المسيح والرؤساء يصرخون دمه علينا وعلى أولادنا.

وكيف تعلو كثيراً مبادئ إنسانية لملحدين (بالإله الحقيقي) على من ينتسبون إلى الله، بل ويتكلمون بإسمه؟! لكنها حياتنا أيضاً إذا أهملنا كلمته وداومنا على رفض وصيَّته وغلبت وبدَّدت مصالحنا مخافتنا فصلبناه من جديد في أولاده الأبرياء!.

(٢) الموقف الثاني هو صلاة يونان النبي في جوف الحوت والذي كان رمزاً لموت الرب وقيامته (مت ١٢: ٤٠) وكيف نرى في صلاته ثقته ورجاؤه في الإله الحي الذي سيُصعده وسيُخلِّصه من الموت: “وصرخت إليه من الجحيم فسمع صوتي.. فقلت قد طرحت عن وجهك فهل أعود أنظر هيكلك المقدس؟”.

وهنا يبدو أن موت المسيح له المجد بالجسد على الصليب هو الإستجابة للصراخ الآتي من الجحيم  لكل نفوس الأبرار منذ بدء الخليقة، ورجوع البشرية في المسيح مرة أخرى إلى هيكل الآب وسكناه في الإنسان من جديد (قارن بين (تك ٦: ٣)، (يو ١٤: ٢٣).

 

المزامير

تجمع قراءة المزمورين بين الألم والمجد، المُعاناة والبهاء، التنازل (التخلِّي) والسلطان الإلهي، بين ظلال الموت وبين دهر الدهور، بين مؤامرات الشر وبين قضيب الْمُلْك.

لذلك يتكلَّم المزمور الأوَّل عن آلامه وموته، والثاني عن سُلطانه ومجده.

المزمور الأول (مز٨٧: ٤؛ ٢٢: ٣)

“جعلوني في جب سفلي في مواضع مظلمة وظلال الموت. وإن سلكت في وسط ظلال الموت فلا أخشى من الشر لأنك معي”.

تأتي قراءة هذا المزمور من مزمورين (٨٧، ٢٢).

وتوضِّح هذه القراءة نزول الرب إلي الجحيم (جب سفلي) ولكن لم يتسلَّط عليه الموت أي الفساد لذلك جاءت التكملة من مزمور ٢٢ ليوضِّح أنه ظلال الموت أي موت دون فساد (أع ٢: ٣١) كما قال القديس بطرس.

المزمور الثاني (مز ٤٤: ٩، ١١)

“كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب الإستقامة هو قضيب ملكك المر والميعة والسليخة من ثيابك”.

يُصلَّى هذا المزمور باللحن الطويل (بيك إثرونوس) وهو من أطول وأعذب ألحان كنيستنا المُقدَّسة.والعجيب أن تجعل الكنيسة هذا اللحن لمزمورين:

مزمور المجد والسلطان الإلهي،

ومزمور خيانة البشر،

وكأنها تصف حالتين مُتضادَّتين من كيف فسد الجميع وكيف أظهر الله مجده ومحبته بصورة فائقة، تتغنى بها الكنيسة مرَّتين في البصخة المُقدَّسة (الساعة الحادية عشر من يوم الثلاثاء، والثانية عشر من يوم الجمعة) لأجل مجد الله، وأيضاً مرتين لأجل خيانة الإنسان (الساعة الثالثة من ليلة الخميس، وباكر خميس العهد).

كما أن المزمور يصف أيضاً ثياب الرب عند دفنه والحنوط الغالية التي أحضرها نيقوديموس والتي ذكرها القديس متى بأنها من الكتان النقي (ملابس الكهنة) علامة كهنوته.

أي أن الرب ذهب إلى الصليب بثياب الكهنوت وبعد ما عرَّوه على الصليب وأخذوا ثيابه دفنه يوسف الرامي ونيقوديموس أيضاً بثياب الكهنوت لإستعلان ذبيحة الخلاص بموت الرب ودفنه وقيامته.

 

الرابط بين المزمور والإنجيل (القمص لوقا سيداروس)[36]

جعلونى في جب سفلي..

آدم نزل إلى القبر (الجب) فنزل المسيح في أثره وقلب تراب الأموات وطلبه من بين الهلاك … دخل إلهنا إلى بيت القوي بعد أن ربطه على الصليب أولاً لينهب أمتعته.

الذى لا تسعه سماء السموات وضع في قبر صغير كالأموات في مواضع مظلمة، لكى ينير على الذين في القبور… الحياة اقتحمت القبر فبشر الأموات وكرز للذين في السجن… ظلمة القبر رضى بها ربنا كما رضى سابقاً أن يسكن جنيناً في البطن البتولي تسعة أشهر. في بطن العذراء كانت الملائكة مظللة عليها يسبحون خالقهم. وهو في القبر كانت الملائكة تسبحه قائلين: “قدوس الله قدوس القوي قدوس الحي …” وكما خرج من البطن حسب نبوة حزقيال والباب مغلق، خرج من الجب (القبر) أيضاً والباب مغلق.

جعلونى في جب..

ألزموني من أجل محبتي لهم فصرت كميت يحمل إلى مكان. والجب السفلي يشير إلى نزول الرب إلى الجحيم “الذى صعد هو الذى نزل أولاً إلى أقسام الأرض السفلى وسبى سبياً وأعطى الناس عطايا”.

إن سلكت في وسط ظلال الموت فلا أخشى من الشر لأنك معي

يقول المزمور إن سلكت أو “سرت” لأن الرب عبر في وسط الموت بإرادته الكاملة إذ لم يكن ممكناً أن يمسك منه.

لقد حمل خطايانا ولكن لم يتسخ بها، لقد ذاق الموت عنا ولكنه رب القيامة..

وهنا يشير المزمور إلى انكسار شوكة الموت، ذلك الموت الذي كان مخيفاً ومفزعاً لقلب البشرية “لا أخاف من الشر”

يا للفرح العجيب الذى للكرازة بموت يسوع وقيامته! لا نعود نخشى الموت أو ظل الموت طالما نحن متمسكون بالرب يسوع الذى داس الموت.

كرسيك يا الله إلى دهر الدهور

أفردت الكنيسة لهذا المزمور لحناً خاصاً لكى يشبع المؤمنون من التأمل في هذا المزمور (انظر الساعة الحادية عشر من يوم الثلاثاء) .

فالكنيسة تقول للرب:

وأنت توضع في القبر أنا أدرك مكانتك وجلالك الإلهى. وأنا أدرك أيضاً مقدار تنازلك العجيب وتكاليف الخلاص الذي دبرته لي.

وانت تلف بالأكفان “الكتان الأبيض” أنا أدرك أنك أنت الساكن في النور الذي لا يدنى منه.

قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك

الرب ملك على قلب الكنيسة فصارت كرسياً له إلى دهر الدهور “الرب قد ملك ولبس الجلال… لبس الرب القوة وتمنطق بها” الآن نفهم معنى قول الرب لبيلاطس: “مملكتي ليست من هذا العالم” (يو١٨: ٣٦).

المر والميعة والسليخة من ثيابك

يرمز المر إلى آلام الرب التي انتهت بالدفن… ولقد كفنه يوسف الرامي بمُرّ وصبر والميعة وهى نوع من الأطياب المُرّة التي تميل إلى السيولة، وهى تشير إلى نزول بركات الصليب إلى أسفل، أي إلى الجحيم حيث نزل ربنا يسوع من قبل الصليب، ورد أبانا آدم وبنيه إلى الفردوس.

والسليخة هي قشرة صلبة تسلخ من شجرتها وهى مرة ترمز لشجرة الصليب التي أفاحت قشرتها عطراً ذكياً أنعش جميع البرايا…

ويكمل القديس باسيليوس قائلاً: إن آلامك وصلبك ودفنك في القبر ونزولك إلى الجحيم يا رب… قد فاحت أعطارها في كل العالم.

 

الأناجيل

تذكر الأربعة أناجيل إنزال جسد الرب من على الصليب ووضعه في القبر الذي كان منحوتاً في صخرة جديداً بواسطة يوسف ونيقوديموس مع وجود بعض المريمات وقت دفنه في القبر.

 

إنجيل متى (مت ٢٧: ٥٧- ٦١)

يذكر القديس متى نوع الكتان أنه نقي والقبر أنه جديد والحجر الذي عليه عظيم ويذكر إثنين من المريمات:

[لكن لنلاحظ أنهم لفوا جسد المسيح بكتان، وهذا لبس الكهنة. فهو رئيس كهنتنا الذي قدم ذبيحة نفسه][37]

 

إنجيل مرقس (مر ١٥: ٤٢- الخ؛ ١٦: ١)

يذكر القديس مرقس أنها كانت الجمعة التي قبل السبت ويصف يوسف أنه من الرامة وحسن اليسار (غني) وَذَا مشورة ويترجى ملكوت الله، وإستفسار بيلاطس وتأكُّده من قائد المئة بأن الرب مات على الصليب وتحديد الإثنين من المريمات أنهما مريم المجدلية ومريم أم يوسي وشراء ثلاثة من المريمات الحنوط ليأتيَن إليه بعد السبت ويحنطنه.

 

إنجيل لوقا (لو ٢٣: ٥٠- الخ)

يصف القديس لوقا يوسف بالإضافة لما سبق بأنه رجلاً صالحاً باراً وأنه لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم ويذكر النساء دون تحديد أسماء ورُبما يكون قد إكتفي بأنه ذكرهم من قبل (لو٨: ٢، ٣).

 

إنجيل يوحنا (يو ١٩: ٣٨- الخ)

يُضيف القديس يوحنا على ما سبق أن يوسف فعل ذلك خفية خوفاً من اليهود، ويذكر أيضاً مجئ نيقوديموس معه إلى القبر، ولأنه (القديس يوحنا) الوحيد الذي ذكر نيقوديموس (يو٣) أعطى تأكيداً هنا على شخصيته وذكر أنه جاء بحنوط نحو مئة رطل ويذكر أنه كعادة اليهود أن يكفنوا.

ويُضيف أيضاً أن الموضع الذي صُلب فيه الرب كان بستان وفيه قبر جديد لم يُوضع فيه أحد قط.

[أخطأ آدم الأول في بستان، وآدم الأخير بدأ خلاصه في بستان… لقد أراد يوسف قبرًا لدفن موتاه فصار قبرًا لإعلان القيامة والحياة. ونلاحظ أن المسيح وُلِدَ من عذراء لم تحمل أحشاؤها أحد قبله. وركب أتانًا لم يركبه أحد قبله ودفن في قبر لم يدفن فيه أحد قبله… ويقول التقليد الكنسي أن نيقوديموس سبح تسبحة “قدوس الله قدوس القوي قدوس الحي الذي لا يموت” والتي أخذتها منه الكنيسة وهو يكفن جسد المسيح؟] (القمص أنطونيوس فكري)[38]

ويقول أيضاً الأرشيدياكون بانوب عبده عن البستان الجديد :

[ثم يقول يوحنا “وكان في الموضع الذي صلب فيه بستان وفِي البستان قبر جديد لم يوضع فيه أحد قط” أما البستان فكان ملكاً ليوسف الرامي، واقتضي التدبير الالهي أن يكون فيه الدفن، لأن آدم الأوَّل ارتكب الخطية التي أهلكت الجنس البشري في بستان أي في جنة عدن، ولزم أن يبدأ آدم الثاني خلاصه ومنحه الحياة في بستان ليكون كمال التدبير مثل بدايته] (الأرشيدياكون بانوب عبده)[39]

[ويُحكَى في التَّلمود اليهودي:

أنه عند دفن غمالائيل الأكبر، عملوا له حريقاً من الأطياب والعطور، بلغ ٨٠ رطلاً (حوالي ٢٤ كيلو جراماً)، فلمَّا سألوا أونكيلوس – وهوأحد الرَّبييِّن – عن سبب هذه الكثرة، ردَّ قائلاً: أليس غمالائيل أفضل من مائة ملك (مثل آسا)؟.

واضحُ إذاً مقدار الكثرة التي حملها نيقوديموس من الأطياب، وهي تعبير صامت عمَّا كان يكنُّه من توقير وحب للرَّب يسوع] (الأب أثناسيوس المقاري)[40]

 

من وحي قراءات يوم الجمعة العظيمة

“وأما الرب فشاء أن يشفيه من الجراح” (النبوَّة الثانية لقراءات الساعة السادسة يوم الجمعة العظيمة)

هذه الآية التي تأتي في الترجمة البيروتية – للأسف الشديد – “وأما الرب فسر بأن يسحقه من الحزن”.

فرق كبير بين أن تكون مسرّة الآب في أن يسحق وأن تكون مشيئته ومسرته في أن يشفي!!.

وهكذا تعكس الآية بحسب الترجمة القبطية معني وجوهر التدبير الإلهي.

نحن لا نعبد إلهاً يُسرُّ بأحزاننا وآلامنا بل مسرته في شفاؤنا.

لذلك يجب أن نراه طبيباً (مت ٩: ١٢) وليس جالداً أو مُعذِّباً.

ونري آلامنا طريق شفاؤنا (١بط ٤: ١) وليس موضوع عقابنا.

وإذا تلاقت مشيئتنا مع مشيئته إتجه تركيزنا في كيف نُشفي وكيف نطلب إليه أن يشفينا.

عوضاً عن إنحصارنا في أسباب الألم دون إستفادة من القصد منه.

وإذا إمتلأنا من معرفة مشيئته ستكون تجاربنا مصدر فرح (يع ١: ٢).

وسنتطلَّع إلى ثقل المجد الأبدي (٢كو ٤: ١٧).

 

أفكار مقترحة لعظات يوم الجمعة العظيمة

(١) سر الصليب

سر الصليب هو إستعلان الحب الإلهي للبشر (يو ٣: ١٦)

في الصليب وحده أدركنا:

كيف أحبنا الآب حتي بذل إبنه الوحيد (يو ٣: ١٦).

وكيف أحبنا محبة أبدية وأدام لنا الرحمة (إر ٣١: ٣).

وكيف أحبنا إلى المنتهى (يو ١٣: ١).

وأعطانا مجد الآب ومحبته (يو ١٧: ٢٢، ٢٦).

ومهما سألنا بإسمه يعطينا (يو ١٤: ١٣).

وفِي الصليب أدركنا أننا صرنا:

أبناء (١يو ٣: ١).

وأحباء (يو١٥ :١٥).

ومُختارين (١بط ١: ١).

وملوكاً (رؤ ١: ٦).

وسفراء (٢كو ٥: ٢٠).

ونور العالم وملح الأرض (مت ٥: ١٣، ١٤).

ورائحة ذكية (٢كو ٢: ١٥).

وقريبين (أف ٢: ١٣).

وأهل بيت الله (أف ٢: ١٩).

وعبيداً للبر (رو ٦: ١٨).

وجنس مختار وكهنوت ملوكي وأمة مقدسة وشعب إقتناء (١بط ٢: ٩).

وبعد الصليب أُسْتعْلِنت لنا محبة الله في:

إرادته (يو١٧: ٢٤).

ومعاملاته (رؤ ٣: ٢٠).

وتأديباته (عب ١٢: ٦، رؤ ٣: ١٩).

وكنيسته (أف ٥: ٢٥).

ورعاته (١تس ٢: ٨).

وخدّامه (٣يو ١: ٥، ١٢).

وفِي الصليب صار لنا إمكانية أن:

نُبارك شاتمينا (١كو ٤: ١٢).

ونُحب أعدائنا (لو٦: ٢٧).

ونستأسر كل فكر إلى طاعة المسيح (٢كو١٠: ٥).

ولا يفصلنا شئ عن محبّته (رو ٨: ٣٥).

بل نود الخلاص للجميع حتي من يحاكموننا (أع ٢٦: ٢٩).

أي أن الصليب (أو محبة الله التي أُستعلنت فيه) صار منبع التفسير ومعمل التغيير:

منبع التفسير” بمعنى أننا لم نعد نرى إلَّا الحب في معاملات الله، فأدركنا أن:

طبيعته الحب (١يو ٤: ٨، ١٦).

وعَلَمُه الحب (نش٢: 4).

ومعاملاته مع البشر تعكس صلاحه للجميع (مت ٥: ٤٥).

ومعمل التغيير” بمعني أن كل شئ في حياتنا يمكن أن يتغير ويتجلَّى من خلال الحب “الذين يحبون الله يجعل الله كل شئ يعمل معهم للخير” (رو ٨: ٢٨ – حسب الترجمة القبطية) وإذا إمتلأ جو الخدمة والرعاية بالحب خَلُصَ كثيرون كما قال القديس أغسطينوس [لا يخلص عن طريقك إلَّا من يحبك ولم نعد نرى المُضادِّين أشرار قدر أنهم ضحايا غياب الحب، لذلك قال القديس بولس “فإن جاع عدوك فأطعمه. وإن عطش فاسقه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه” (رو ١٢: ٢٠) ويقول البعض أن جمر النار هنا هو الروح القدس (أع ٢: ٣) وعندما نُقدِّم لمسات وأعمال المحبّة رُبَّما نجعل رأسه (أي تفكيره) تحت سيطرة وفعل الروح القدس فيتغير وينطفئ الشر الذي فيه.[41]

 

كلمات الرب على الصليب

تعكس الكلمات السبع للرب على الصليب قضية خلاصنا، فما يمكن أن نحتاجه أو نعيشه في حياتنا لأجل خلاصنا كامن وكائن في هذه الكلمات السبع :

الغفران

“فقال يسوع: يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو٣٢: ٣٤)

أوَّل كلمة قالها الرب على الصليب ليحسم إحدى أهم ما يخص خلاصنا “الغفران من القلب“، وصار هذا دستور المسيحية وطريق خلاصنا وصلواتنا اليومية التي علَّمها الرب لتلاميذه الأطهار “واغفر لنا خطايانا لأننا نحن أيضا نغفر لكل من يذنب إلينا” (لو ١١: ٤)، وإحدى شروط إستجابة الصلاة (مر ١١: ٢٥)، بل ويمكن أن تُؤثِّر على مصيرنا الأبدي (مت ١٨: ٣٥)( لو ٦: ٣٧).

ولكن الغفران نعمة إلهية وليس قدرة إنسانية، لذلك ينالها من يطلبها بإلحاح وإحتياج وثقة، وهي إحدى علامات الإمتلاء من الروح القدس (غل ٥: ٢٢).

الآخر

“فقال له يسوع: الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس” (لو ٢٣: ٤٣).

ما أعظم أن ينشغل الإنسان في قمَّة وعمق آلامه بخلاص الآخرين.

فالرب هنا يرسم لنا معالم طريق خلاصنا (تكون معي) فمن يعيشون الخلاص لا يريدون دخول الملكوت وحدهم بل ينشغلوا بمن حولهم وبكل إنسان ليخلص على كل حال قوماً (١كو ٩: ٢٢) ويكون هذا أيضاً موضوع الصلاة (أف٣: ١٤) وأنين الخادم الدائم (رو ٩: ٢، ٣) وغاية السلطان الكنسي (٢كو ٢: ٧، ٨).

وكما يحلو للبعض أن يقولوا أن طريق الملكوت ضيق ولكنه يتسع قدر إنشغالنا بخلاص الآخرين فيكونون علَّة خلاصنا (مت ٢٥: ٤٠).

الأسرة

“فلما رأى يسوع أمه، والتلميذ الذي كان يحبه واقفاً، قال لأمه: يا امرأة، هوذا ابنك” (لو٢٣: ٢٦).

كيف ينشغل إبن الله وهو على الصليب مُمتلئاً بالدماء والألم لأجل خلاص البشرية وينشغل بأمه؟!

نعم هذه كرامة والدة الإله، ولكن أيضاً قيمة الأسرة.

فالخلاص هنا هو خلاص الأسرة وليس غريباً أن يعتبره القديس بولس مقياس الخادم (١تي ٥: ٨) وسبب خلاص المرأة والأم (١تي ٢: ١٥) وما أجمل أن تكون الأسرة كنيسة (فل ١: ٢) ليس فقط من ناحية العبادة لكن في أجواء الحب والسلام والغفران فيها.

ومازالت الكلمة التي قالها يشوع تتردد صداها آلاف السنين في العالم كله “وأما أنا وبيتي فنعبد الرب” (يش ٢٤: ١٥).

وعلي الجانب الآخر ما أصعب أن تتفق الأسرة علي طريق الهلاك (أع ٥: ٩).

 

الآلام (الروحية والنفسية والجسدية)

“صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي، إيلي، لما شبقتني؟ أي: إلهي، إلهي، لماذا تركتني” (مت ٢٧: ٤٦).

“بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل، فلكي يتم الكتاب قال: أنا عطشان” (لو ٢٣: ٢٨).

عبَّر إبن الإنسان عمَّا يجول في داخل أي إنسان يشعر بالألم الروحي والنفسي عندما يجتاز ألم التخلَّي ويشعر أنه مطروح دون تعزية أو راحة (٢كو ٤: ٩).

ويجتاز البعض آلام شديدة في الجسد لدرجة الإحتياج لأي شئ يخفِّف آلامهم (أنا عطشان).

ولكن رسم الرب أيضاً أن تكون آلامنا هي:

شفاؤنا (١بط ٤: ١).

وطاعتنا (عب ٥: ٨).

وخلاصنا (عب ١٠: ٣٣-٣٦).

ونقاوتنا (١بط ١: ٧).

وتقديسنا (عب ١٢: ١٠).

ومجدنا (رو ٨: ١٧، ١٨).

وإكليلنا (يع١: ١٢).

إذا كُنَّا نتألَّم معه ولأجله (غل ٢: ٢٠).

وما أجمل أن يحتمل الخادم الآلام لأجل خلاص الآخرين وسلامة الكنيسة (كو١: ٢٤).

 

تنفيذ مشيئة الآب بالكامل

“قد أُكْمِل” (يو ١٩: ٣٠).

إحدي أساسيات طريق الخلاص وطريق الكمال أن يعيش الإنسان حسب فكر الله الآب، وما أجمل كلمات القدَّاس الغريغوري [وأكتب أعمالي تبعاً لأقوالك]، ولكن لا يمكن أن يكون هذا إلَّا إذا كان المسيح يحيا فيَّ (غل ٢: ٢٠).

وما أجمل أن تُسْتَعلن في حياة أولاد الله كل مشيئة الآب.

وكما ترسم لنا رسالة القديس بولس إلى أهل أفسس كيف نعيش مشيئته بالكامل ليس فقط من جهة ما يجب أن نفعله لكن أولاً من جهة ما يريده الله لنا بمشيئة محبّته الأبوية، لذلك نرى في الرسالة :

“مسرَّة مشيئته” (أف ١: ٥) ← أنه جعلنا أبناء له .

“سر مشيئته” (أف ١: ٩) ← أنه يجمع الكل في إبنه يسوع المسيح.

“رأي مشيئته” (أف ١: ١١) ← وهو نصيبنا في المسيح وميراثنا الأبدي فيه.

“فاهمين ما هي مشيئة الرب” (أف ٥: ١٧) ← أي السلوك بتدقيق.

“عاملين مشيئة الله من القلب” (أف ٦: ٦) ← أي الخدمة بفرح وبنقاوة القلب.

 

النهاية الصالحة

“يا أبتاه، في يديك أستودع روحي.” (لو ٢٣: ٤٦).

ما أجمل أن يستودع الإنسان كل شئ في حياته في يدي الآب فتأتي النهاية خاتمة لحياة التسليم، وما أجمل قول أحد الآباء الرهبان عندما دعا له إنسان بطول العمر فقال له أطلب لي النهاية الصالحة،

ونضع أمامنا مثالاً القديس بولس الذي لم يطلب يوما إرادته “فأحيا لا أنا…” (غل ٢: ٢٠) فوضع له الرب إكليل البر (٢تي ٤: ٨).

الخلاصة:

أن طريق خلاصنا هو: طريق غفراننا، وخدمتنا الآخرين، وإلتزامنا العائلي، وآلامنا عندما نقبلها من يد الله، وحياتنا حسب مشيئته، فيصير كل شئ في يدي الآب.

 

 

عظات آبائية ليوم الجمعة العظيمة من البصخة المقدسة

العظة الأولي

الكرازة بالصليب أمام زيف الثقافة الهللينية – للأنبا أنطونيوس [42]

نحن المسيحيين لا نتمسك بحكمة الكلام مثل الهيلينيين عند الكلام عن سر الصليب، بل بقوة الإيمان التي منحت لنا من الله بواسطة يسوع المسيح.

والكلمة هي حق، فنحن لا نتعلم من الكتب الإيمان بالله، بل نعرفه جيداً من خلال أعماله في مخلوقاته التي تنير بصيرة الكل. وايماننا الفعّال هو الذي يحرضنا بقوة الى الإيمان بالمسيح وأنتم تجادلون بالأكاذيب. وفي مقابل التحرر من آلهتكم الكاذبة وصل إيماننا الى كل مكان.

وبالرغم من أنكم مفكرون وحكماء لم توفقوا بين المسيحية والهللينية، أما نحن فبإيماننا بالمسيح تعلمنا أن نبتعد عن معتقداتكم، وكلنا يَعلَمْ تماما أن المسيح هو الله وهو ابن الله. وأنتم تتكلمون بمنطق بلا توقف عن تعليم المسيح، أما نحن الذين ننادي بصليب المسيح فإننا نطرد كل الأرواح الشريرة التي تخافون أنتم منها وتعتبرونها آلهة. وحيث تكون اشارة الصليب فإن الشعوذة تضعف، ويبطل عمل السحر.

لذلك، في أي موضع تتكلمون أنتم عن ممارسة العرافة؟ وأين هم السحرة المصريون؟ وإلى أين تذهب خيالات السحرة؟ ومتي يوقف كل هذا الضعف ويبطل، أليس عند الإيمان بصليب المسيح؟ أفيستحق الصليب الإستهزاء أم بالأحرى نتحرر به ويكشف الضعف!، ومما يدعو للعجب أن عبادتكم للوثن لم تضطهد بعد لأن الجميع يكرمونها في كل مدينة. أما المسيحيين يضطهدون دائمًا، إما باحتقار الإيمان بالمسيح، أو بالسخرية من تعاليمه، ومع ذلك فإن إيماننا يزدهر ويزداد أكثر من إيمانكم. وعلى الرغم من أن إيمانكم ينال دعمًا ويتخذ صفة رسمية فإننا نراه يضعف، في حين أن الإيمان بالمسيح وتعاليمه ملأ المسكونة، رغم هزءكم بهما ورغم اضطهاد الملوك لهما.

متى أصبحت معرفة الله لامعة هكذا؟ أو متي ظهرت فضيلة البتولية على هذا النحو؟ ومتي أحتقر الموت اذا لم تكن مؤمنا بصليب المسيح؟، فلا أحد يرمي عنه كل هذا وهو يرى الذين يشهدون للمسيح يسخرون بالموت، ويرى البتوليين في الكنيسة في نقاء المسيح، ويحفظون الجسد بلا دنس.

 

تكملة الحوار عن الكرازة بالصليب

وهؤلاء الكثيرين أظهروا الإيمان بالمسيح الحقيقي وحده من خلال عبادتهم لله وتقواهم. وها أنتم حتى الآن غير مؤمنين وتطلبون المجادلة بالكلام. ونحن لا نملك كلام الحكمة الهيلينية المقنع، مثلما قال معلمنا “كلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الانسانية المُقنع بل ببرهان الروح والقوة لكي لا يكون ايمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله” (٢كو٢: ٤، 5). فبالإيمان ننال مسبقًا الإقتناع بوضوح ونتهيأ للكلام.

وها قد حضر إلى هنا الذين يتألمون من أرواح شريرة، وكان البعض من الآتين إليه يُحدِثون قلقًا بسبب الشياطين.

فأتي بهم انطونيوس في الوسط وقال: أنتم تتناقشون معهم وتطلبون المعونة من آلهتكم الزائفة وبالسحر لكي تطهروهم من الشياطين، وإذا كنتم لا تقدرون فأوقفوا حربكم ضدنا لتروا القوة في صليب المسيح.

ولما قال هذا دعي باسم المسيح ورسم اشارة الصليب مرتين وثلاثة على المتألمين. وفي الحال وقفوا هؤلاء المرضى سالمين وعقلاء، وشكروا الرب بعد ذلك.

وقد تعجب الحكماء بالكلام، وحقيقة ذهلوا من نفاذ بصيرة الرجل ومن استخدامه لعلامة الصليب.

فقال انطونيوس: ماذا يدهشكم في هذا؟ لم نكن نحن الذي عمل هذا، بل المسيح هو الذي عمل، وأنتم تقدرون أن تفعلوا مثل هذه الأعمال بإيمانكم به. إيمانكم أنتم، رأيتم أنه ليس بحكمة الكلام فعلنا هذا بل بالإيمان بمحبة المسيح تصنع الأعمال، ولو امتلكتم أنتم مثل هذا الإيمان فلن تحتاجوا الى دليل بمجادلة الكلام، بل تكونوا راضيين بأن تتسلحوا بسيف الإيمان بالمسيح. وتعجب هؤلاء من أقوال أنطونيوس هذه، وذهبوا إليه وشكروه لأنهم استفادوا منه.

 

العظة الآبائية الثانية – يوم الجمعة العظيمة

إذ بسط يديه على الصليب طرح رئيس سلطان الهواء – للقديس أثناسيوس الرسولي [43]

إذ بسط يديه على الصليب طرح رئيس سلطان الهواء الذي يعمل الآن في أبناء المعصية (أف ٢: ٢) مهيئًا طريق السموات لنا.

إن كان الشيطان عدو جنسنا قد سقط من السماء وتحوّل إلى مجالنا السفلي فقد صار له سلطان على الأرواح زملائه الذين يستخدمهم كأتباعه يعملون بالخداعات لأجل المعصية لا يعملون فقط في الذين ينخدعون، وإنما يحاولون إعاقة المرتفعين إلى فوق، وكما يقول الرسول: “حسب رئيس سلطان الهواء، الرب الذي يعمل الآن في أبناء المعصية” (أف ٢ : ٢ ). لقد جاء الرب ليطرد الشيطان ويُطهِّر الهواء منه، مهيئًا الطريق إلى السماء وذلك “بالحجاب أي جسده” (عب ١٠: ٢٠).

كقول الرسول: أي نوع من الموت يقدر أن يحقق هذا، إلاَّ الموت الذي يتم في الهواء، أقصد بالصليب؟!..

لقد لاق جدًا أن يحتمل الرب هذا الموت، فبرفعه (على الصليب) طهر الهواء من شر إبليس وكل أنواع الشياطين، إذ يقول: “رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء” (لو ١٠: ١٨)، بهذا صنع إفتتاحًا جديدًا لطريق السماء، إذ يقول أيضًا: “ارفعوا أبوابكم أيها الرؤساء ولترتفع الأبواب الدهرية” (مز ٢٤: ٧ – السبعينية) فإن الكلمة لم يكن في حاجة إلى فتح الأبواب إذ هو رب الكل، ولايغلق شيء من أعماله أمامه، إنما نحن الذين في حاجة إلى فتح الأبواب، إذ حملنا في جسده. لقد قدم الموت لحسابنا، ممهدًا لنا الطريق إلى السمويات…

لأن الرب تلامس مع كل جزء من الخليقة وحررها وأعتقها من كل خداعات الزيف والوهم كما يقول القديس بولس إذ جرد بنفسه الرياسات والقوات, ظافرًا بهم على الصليب. حتى لا ينخدع أحد بعده بل يجد في كل مكان كلمة الله الحقيقي.

 

 

العظة الآبائية الثالثة – يوم الجمعة العظيمة

سر الصليب – للقديس مقاريوس الكبير[44]

قوة سر الصليب والنار الإلهية

[هذه العظة تُعلِّم أنه لا يستطيع انسان، بدون أن يتأيد بالمسيح، أن يغلب عثرات الشرير، وما ينبغي أن يفعله اولئك الذين يطلبون المجد الإلهي باشتياق،

وتُعلِّم أيضاً أنه بواسطة عصيان آدم قد نزلنا جميعاً إلى عبودية الشهوات اللحمية، والتي أنقذنا منها بالسر المختفي في الصليب،

وتُعلِّم أيضاً أن قوة الدموع والنار الالهية هي قوة عظيمة].

السر الذي في الصليب :

أولئك الذين كتب في داخلهم الناموس الالهي، ليس بحبر وحروف بل هو مطبوع في قلوب لحمية، فهؤلاء إذ قد استنارت عيون أذهانهم ويتطلعون إلى الرجاء الذي لا يُلمس ولا يُرى بل هو غير منظور وغير مادي فهؤلاء يملكون القوة أن يغلبوا عثرات الشرير وذلك بقوة لا يمكن أن تُقهر .

أمًا أولئك الذين لم يُكرِّموا ويتشرفوا بكلمة الله ولم يتهذبوا بالشريعة الالهية فإنهم “ينتفخون باطلاً” (كو٢: ٨) وهم يظنون انهم بإرادتهم الحرة يستطيعون أن يقطعوا أسباب الخطية التي يُحكم عليها فقط بواسطة السر الذي في مقاومة الشيطان، ولكنها لا تمتد إلى السيادة المُطلقة على الشهوات. “فإن لم يبني الرب البيت – كما يقول الكتاب – وإن لم يحفظ المدنية فباطلاً يسهر الحارس، وباطلاً يتعب الباني” (مز١٢٧: ١).

لأنه لا يستطيع أحد أن يطأ على “الأفعي والحية ويدوس الأسد والتنين” (مز ٩١: ١٣) إن لم يطهر نفسه أولاً – بأقصي ما في طاقة الإنسان – وأن يتأيد بقوة ذلك الذي قال لرسله: “ها أنا أعطيكم السلطان لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو” (لو ١٠: ١٩) .

حاجتنا للروح القدس للغلبة والتبني:

فلو كانت طبيعة الإنسان لها القدرة بدون سلاح الروح القدس الكامل أن “تقف ضد مكايد ابليس” (أف ٦: ١١)، لما كان الرسول قد قال بتأكيد: “إله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً” (رو ١٦: ٢٠). وأيضاً “الذي سيبيده الرب بنفخة فمه” (٢تس ٢: ٨)، لهذا السبب أيضاً قد أوصانا الرب أن نصلي ونطلب قائلين “ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير” (مت ٦: ١٣)، فإن لم تخلصنا معونة القوة العليا من  سهام الشرير الملتهبة، وإن لم نُحسب أهلاً أن نكون أبناء بالتبني، فإن حياتنا على هذه الأرض تكون حينئذ باطلة وبلا هدف، اذ نوجد بعيدين عن قوة الله.

لذلك فمن يريد ويشتهي أن يصير شريكاً في المجد الالهي، وأن يرى كما في مرآة صورة المسيح في داخل عقله، فينبغي أن يطلب معونة الله التي تتدفق منه بقوة – يطلبها بحب مشتعل لا ينطفيء وبرغبة حارة من كل قلبه وكل قدرته، ليلاً ونهاراً، هذه المعونة الإلهية التي لا يمكن نوالها، كما قلت سابقاً إن لم يتخل الإنسان عن لذة العالم وعن شهوات ورغبات القوة المعادية، والتي هي أجنبية عن النور ومخالفة له، وهي من نشاط وعمل الشرير، وليس لها أي قرابة أو مشابهة لعمل الصلاح بل هي غريبة تماماً عنه.

حالتنا في الإنسان العتيق

لذلك، فاذا أردنا أن نعرف لماذا نحن الذين قد خُلقنا في كرامة ووُضعنا لنحيا في الفردوس، صرنا بعد ذلك “مثل البهائم التي لا تفهم وشُبِّهنا بها” (مز ٤٩: ١٢و ٢٠)، إذ قد سقطنا من المجد الأصلي، فأعرف أننا بواسطة التعدي، صرنا عبيداً للأهواء الجسدية، لقد أخرجنا أنفسنا من “أرض الأحياء المغبوطة ” (مز ١١٦: ٩) وسرنا إلى الأسر حيث لا نزال “جالسين على أنهار بابل” (مز ١٣٧: ١) .

ولأننا لا نزال محبوسين في “مصر” لذلك فإننا لم نرث بعد أرض الموعد “التي تفيض لبناً وعسلاً” (خر ٣: ٨).

إننا لم نتخمر بعد “بخميرالإخلاص” (١كو ٥: ٨)، ولكننا لا نزال في “خميرة الشر” إن قلبنا لم يُرش بعد بدم الله، لأن “فخ جهنم” (أم ٩: ١٨ السبعينية)، وصنارة الخطية لا تزال منصوبة فيه

إننا إلى الآن لم نقبل بهجة خلاص المسيح، لأن “شوكة الموت” (1كو ١٥: ٥٥). لا تزال جذورها فينا،

إننا لم نلبس بعد “الانسان الجديد، المخلوق بحسب الله في القداسة” (أف ٥: ٢٤)، لأننا لم نخلع بعد “الانسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الخطية” (أف ٤: ٢٢).

إننا لم نحمل بعد “صورة السماوي” (١كو ١٥: ٤٩)، ولم نصر “مشابهين لصورة مجده” (في ٣: ٢١)،

إننا لم نعبد الله “بالروح والحق” (يو ٤: ٢٤) لأن “الخطية تملك في جسدنا المائت” (رو ٦: ١٢) .

إننا لم نر بعد “مجد الله الذي لا يفنى” (رو ١: ٢٣) لأننا لا نزال تحت سطوة “الليل المظلم” (مز ٢: ١١)، وإلى الآن لم “نلبس أسلحة النور” (رو ١٣: ١٢) لأننا لم نلق عنا سلاح الظلمة وسهامها وأعمالها.

نحن “لم نتغير بعد عن شكلنا بتجديد اذهاننا”، لأننا لا نزال “مشاكلين ومطابقين لهذا العالم” (رو ١٢: ٢)، “في الذهن الباطل” (أف ٤: ١٧)،

إننا لم نتمجد بعد مع المسيح، لأننا لم نتألم بعد معه (رو٨: ١٧)،

إننا لا “نحمل سماته بعد في جسدنا” (غل ٦: ١٧) لأننا لا نحيا في سر صليب المسيح، لأننا لا نزال في “أهواء وشهوات الجسد” (غل ٥: ٢٤).

إننا لم نصر بعد “ورثة الله ووارثون مع المسيح” (رو ٨: ٧)، لأن “روح العبودية” لا يزال فينا، وليس “روح التبني” (رو ٨: ١٥)،

وحتي الآن لم “نصر هيكل الله ومسكناً للروح القدس” (١كو ٣: ١٦)، لأننا لا نزال هيكلاً للأصنام ومستودعاً لأرواح الشر بسبب تعلقنا بالشهوات.

 

 

العظة الآبائية الرابعة – يوم الجمعة العظيمة

قوة الصليب أمام زيف الفلسفة وخداع الشياطين وأعاجيب السحر – للقديس أثناسيوس الرسولي [45]

وأما عن  الحكمة اليونانية وثرثرة الفلاسفة وضجيجهم فلا أظن أن أحداً يحتاج أن نقدم له براهين من جانينا . ذلك لأن الأعجوبة واضحة أمام أعين الكل.

فبينما عجز حكماء اليونانيين عن أن يقنعوا ولو نفراً قليلاً بواسطة كتاباتهم الكثيرة عن حقيقة الخلود والحياة بسبب الفضيلة ، فإن المسيح وحده بلغته العادية، وبأشخاص غير فصحاء في الكلام قد أقنع جماعات كثيرة من البشر أن يحتقروا الموت ويهتموا بالأمور التي لا تموت ولا تفنى، وأن يغضوا النظر عما هو زمني، وأن يحولوا أنظارهم للأمورالأبدية، وأن لا يفكروا في المجد الأرضي، بل يجاهدوا فقط لأجل الأمور التي لا تفنى .

وما عرضناه ليس هو مجرد كلام بل هناك اختبارات فعلية تشهد بأنه حق .

فمن يُرِد دعه يذهب ليرى برهان الفضيلة في عذارى المسيح والشبان الذين يعيشون حياة العفة المقدسة، ويرى أيضاً في الجوقات الكثيرة من شهداء المسيح، اليقين والثقة في الخلود .

ومن يُرد أن يمتحن أقوالنا السابقة بطريقة عملية فدعه – في وجود خداع الشياطين وضلالات المنجمين وأعاجيب السحر – يستعمل علامة الصليب التي يسخرون منها، وينطق فقط باسم المسيح ، فيرى كيف تهرب الشياطين من اسمه، ويَبْطُل التنجيم، ويتلاشى كل سحر وعرافة.

إذن من هو المسيح هذا وما أعظمه، ذلك الذى باسمه وبحضوره يحجب كل الأشياء ويلاشيها، وهو وحده يقوى على الكل وهو قد “أنار” المسكونة كلها بتعليمه؟ فليخبرنا اليونانيون الذين يُسَرُّون بالاستهزاء بدون خجل .

فإنه لو كان إنساناً فكيف استطاع إنسان واحد أن يقوى على كل الذين يظن اليونانيين أنهم آلهة، وأن يفضحهم بقوته ويُظهر أنهم لا شيء؟

أما إن دَعُوه ساحراً فكيف يمكن لساحر أن يبيد كل أعمال السحر بدلاً من أن يدعمها؟

لأنه لو كان قد قهرسحرة بعينهم، أو غلب ساحراً واحداً فقط، لجاز لهم أن يَدَّعوا أنه تفوق على الباقين بمهارته الأعظم من مهارتهم .

أما إن كان صليبه قد ربح النصرة على كل سحر على الإطلاق، بل وعلى اسم السحر نفسه، فلابد أن يكون واضحاً أن المخلص ليس ساحراً، إذ إن الشياطين نفسها – التي يستدعيها السحرة- تهرب منه “باعتباره” هو سيدها .

فليخبرنا اليونانيين الذين حصروا كل ذهنهم في الأستهزاء إذن من يكون هو؟

ربما يقولون إنه هو أيضاً كان شيطاناً، وهذا هو سبب قوته، فليقولوا ما يشاءون، فإن استهزاءهم يرتد عليهم. فإنه من الممكن تخجيلهم مرة أخرى بواسطة براهيننا السابقة، لأنه كيف يمكن لمن يطرد الشياطين أن يكون شيطاناً .

لأنه لو كان فقط قد طرد شياطين معينة لكان يمكن أن يقال إنه برئيس الشياطين قد غلب الشياطين الأضعف، وهذا هو ماقاله اليهود له عندما أرادوا أن يهينوه.

أما إن كان بمجرد ذكر اسمه قد تم استئصال كل جنود الشياطين وطُردت بعيداً فقد اتضح هنا أيضاً أن اليونانيون مخطئون، وأن ربنا ومخلصنا المسيح ليس قوة شيطانية، كما يظنون .

إذن إن كان المُخلّص ليس مجرد إنسان وليس ساحراً، ولا شيطاناً، ولكنه بألوهيته قد أبطل تعاليم الشعراء وضلالات الشياطين وحكمة اليونانيين، وطرحها في الظلام، فيجب أن يكون واضحاً وأن يعترف الجميع أن هذا هو بالحقيقة الكائن ابن الله  كلمة الآب وحكمته وقوته.

وهذا هو السبب في أن أعماله أيضاً ليست أعمال إنسان، بل هي أسمى جداً من أعمال إنسان، من جهة طبيعة هذه الأعمال ذاتها أو من جهة مقارنتها بأعمال باقى البشر.

 

 

العظة الآبائية الخامسة – يوم الجمعة العظيمة

أحداث يوم الجمعة العظيمة في إنجيل متي ومرقس ولوقا – عند القديس كيرلس الاورشليمي[46]

[تطلع باهتمام إلى الرب وهو يُحاكم، فقد سمح لنفسه أن يقوده الجنود. جلس بيلاطس في الحكم. الذي يجلس عن يمين الآب يقف ليُحاكم! الشعب الذي عتقه من أرض مصر… يصرخ: “خذه! أصلبه!

لماذا أيها اليهود؟ هل لأنه شفى عميانكم؟ أم لأنه جعل العرج منكم يمشون؟ ووهب البركات للآخرين؟! يدهش النبي فيقول:”على من تفغرون الفم وتدلعون اللسان؟” (إش٤:٥٧) ويقول الرب نفسه في الأنبياء: “صار لي ميراثي كأسد في الوعر. نطق عليّ بصوته. من أجل ذلك أبغضته” (إر٨:١٢). لم أرفضهم لكنهم رفضوني، لهذا أقول:”قد تركت بيتي” (إر١٢: ٧)]

[يا للعجب! القتلة يقولون: ماذا علينا؟ ويطلبون من الذي قبِل ثمن الجريمة أن يُبصر هو، أمّا هم قاتلوه فليس عليهم أن يُبصروا… يقولون في أنفسهم: لا يحلّ أن نلقيها في الخزانة، لأنه ثمن دم. إن ما نطقتم به هو الذي يدينكم! لأنه إذا كان وضع ثمن الدم في الخزانة يعتبر إثمًا، فكم يكون إهدار الدم؟! وإذا كنتم ترون عُذرًا لصلب المسيح فلماذا ترفضون قبول الثمن؟]

[فيما يتعلق باللصين الذين صُلبا معه، كتب:وأُحصِيَ مع آثمة(إش ٥٣).

كان كلاهما أثيمين قبلًا، ولكن أحدهما لم يعد كذلك.

الذي ظل أثيمًا رفض الخلاص إلى النهاية، وإذ كانت يداه موثقتين كان يضرب بلسانه مجدفًا…

ولكن الآخر كان ينتهره. كان هذا نهاية حياته وبداية توبته، فأسلم روحه وتلقى الخلاص، إذ أنه بعد أن وبخ رفيقه قال:

“اذكرني يا رب فإني إليك أصرخ.

أترك هذا لأني عيني فهمي مغلقتان، ولكن اذكرني.

لا أقول أذكر أعمالي فإنها تخيفني.

كل إنسان طيب نحو رفيق سفره، وأنا لا أقول اذكرني الآن، وإنما عندما تأتي في ملكوتك”.

أية قوة أنارتك أيها اللص؟ من علمّك أن تعبد هذا المحتقر والمصلوب معك؟

أيها النور الأزلي الذي يضيء لمن هم في الظلمة]

[لكي تتعلم بأكثر تدقيق من الكتاب المقدس الإلهي أنه ليس فقط يُدعى “أبًا” من هو أب طبيعي بل وغيره أيضًا، اسمع ماذا يقول الرسول؟” لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون، لأني ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” (١كو ٤: ١٥). كان بولس أبًا للكورنثويين، ليس لأنه ولدهم حسب الجسد بل خلال التعليم، وولدهم مرة أخرى حسب الروح.

اسمع أيضًا أيوب:”أب أنا للفقراء”. لقد دعا نفسه أبًا، ليس لأنه ولدهم جميعًا، بل من أجل اهتمامه بهم.

وابن اللٌه الوحيد نفسه عندما سُمر على الشجرة وقت الصلب لما نظر مريم أمه حسب الجسد ويوحنا تلميذه المحبوب جدًا من تلاميذه، قال له: “هوذا أمك“. وقال لها: “هوذا ابنك“، معلمًا إياها أن تصب حبها “الوالدي” فيه، شارحًا بطريقة غير مباشرة ما قيل في لوقا: “وكان أباه وأمه يتعجبان منه”، هذه الكلمات التي يتصيدها الهراطقة قائلين أنه وُلد من رجل وامرأة.

فكما دعيت مريم أمًا ليوحنا من أجل حبها الوالدي وليس لأنها أنجبته، هكذا دعي يوسف أبًا للمسيح من أجل عنايته بتربيته وليس لأنه أنجبه. إذ يقول الإنجيل: “لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر” (مت ٢٥:١)]

[يقول زكريا: “ويكون في ذلك اليوم أنه لا يكون نور…” ثم يقول النبي: “ويكون يوم واحد معروف للرب” (زك ١٤: ٦- ٧). هل يجهل الرب الأيام الأخرى؟ حاشا… فالأيام كثيرة ولكن “هذا هو اليوم الذي صنعه الرب” (مز ١١٨: ٢٤) بصبره على الآلام. إذن، فماذا عسى أن يكون؟ هذا ما يفسِّره الإنجيل عندما يَروي لنا أنه لم يكن نهارًا عاديًا تشرق فيه الشمس كعادتها من الشرّوق إلى الغروب، ولكن من الساعة السادسة كانت ظلمة في نصف النهار حتى الساعة التاسعة. والظلمة يفسِّرها الله بقوله “والظلمة دعاها الله ليلًا” (تك ١: ٥). ولهذا لم يكن نهارًا ولا ليلًا إذ لم يكن نورًا كلّه حتى يسمَّى نهارًا، ولا ليلًا كلّه حتى يسمَّى ليلًا، ولكن الشمس أشرقت بعد الساعة التاسعة. وعن هذا يتنبَّأ النبي أيضًا، قائلًا: “بل يحدث أنه في وقت المساء يكون نور” (زك ١٤: ٧). تأمّل إلى أي مدى بلغت الدقّة وكيف تحقّقت. ويحدّد عاموس النبي إظلام الشمس… ليته يقول هذا لليهود الذي يصُمُّون آذانهم… يقول: “ويكون في ذلك اليوم، يقول السيِّد الرب إني أغيب الشمس في الظهر”، لأن الظلمة كانت من الساعة السادسة…، “وأُقتم الأرض في يوم نور” (عا ٨: ٩)، كما يحدّد أيضًا الموسم الذي يتمّ فيه ذلك فيقول: “وأحوِّل أعيادكم نوحًا”، لأن المسيح قد صلب في أيام الفطير في عيد الفِصح. وبعد ذلك يقول: “وأجعلها كمناحة الوحيد وآخرها يوم مرّ” (عا٨: ١٠)، لأنه في عيد الفِصح بكّت النسوة وانتحبْن، والرسل كذلك اِختبأوا وكانوا في مرارة المرّ]

[في هذا الفردوس غنيت لعروسي في نشيد الأناشيد: “قد دخلت جنتي يا أختي العروس” (نش ١:٥)، فقد كان مكان الصلب بستانًا. ماذا أخذ من هناك؟ ” قطفت مري مع طيبي، إذ شرب المر مع الخل، وبعد ذلك قال: “قد أُكمِل”. لأن السرّ تم، والمكتوب تحقق، والآثام غُفرت “لأن المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة، فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيدٍ، أي الذي ليس من هذه الخليقة، وليس بدم تيوس وعجول ولكن بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداءًا أبديًا. لأنه إن كان بدم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالأحرى يكون دم المسيح؟” (عب ١١:٩-١٤).

يعود فيقول في نشيد الأناشيد “نزلت إلى جنة الجوز” (نش ١١:٦)، إذ صلب السيد في البستان. فإنه وإن كان الموضع الآن مزينًا بالهبات الملكية لكنه كان قبلًا بستانًا، ولا تزال العلامات والآثار قائمة. إنه”جنة مغلقة وينبوع مختوم” (نش ١٢:٤). قيل هذا عن اليهود، هؤلاء الذين قالوا: “تذكّرنا أن ذلك المضل قال وهو حيّ إني بعد ثلاثة أيام أقوم، فَمُرْ أن يُضبط القبر” وعلى هذا “مضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر” (مت ٦٣:٢٧)]

[فتأمّل كيف أن حجر الزاوية المختار الكريم يرقد قليلًا خلف الحجارة، وهو حجر العثرة لليهود وصخر الخلاص للمؤمنين. لقد زُرعت شجرة الحياة في الأرض، حتى أن الأرض التي لُعنت تتمتّع بالبركة وقيامة الأموات]

[في بستان كان دفنه، حيث زُرعت هناك كرمة، إذ قال عن نفسه:”أنا هو الكرمة” (يو١:١٥). لقد زُرع في الأرض لكي يقتلع اللعنة التي حلّت بسبب آدم حيث سُلِّمت الأرض للشوك والحسك. لقد طلعت الكرمة من الأرض ليتم القول:”الحق من الأرض أشرق، والعدل من السماء اطلع” (مز ١٠:٨٤).

وماذا يقول ذاك المدفون في البستان؟ “قطفتُ مرّي مع طيبي” (نش ١:٥) وأيضًا:”مرّ وعود مع كل أنفس الأطياب” (نش ٤: ١٤). وهذه هي علامات للدفن، إذ جاء في الأناجيل” أتين (النسوة) إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه” (لو ١:٢٤).”وأحضر نيقوديموس أيضًا خليطًا من مرّ وعود” (يو١٩: ٣٩)، ومكتوب أيضًا”أكلت خبزي (شهدي) مع عسلي” (نش ١:٥). إذ أكل المُرمن قِبَل الصليب والعسل بعد القيامة].

 

 

 

العظة الآبائية السادسة – يوم الجمعة العظيمة

محاكمة الرب – للقديس امبروسيوس اسقف ميلان [47]

أَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتًا “ (مت ٢٦ : ٦٣)

إن الحديث عن هذا الموضوع يغرس في قلوبنا استعدادًا وصبراً لاحتمال كل ما يأتي علينا بنفس راضية، فالرب قد أُتُّهِمَ وصَمَتَ . وكان على حق في صمته، إذ لم يكن بحاجة الى الدفاع عن نفسه، لأن الذين يخشون الهزيمة يدافعون عن أنفسهم. أما الرب فبصمته لا يُثَبِّت الإتهام، بل بالحري يهزأ به إذ إذ لا يهتم بدحضه. فماذا يخشى إذاً، إن كان يريد خلاص الجميع، ولذا بذل حياته من أجل أن يربح حياة الجميع .

إن أعظم قضية هي التي تتبرَّر دون دفاع. هكذا المسيح (كإنسان ونائب عن البشرية) وهو واقف امام القضاة الأثمة، أظهر أنه لا يريد أن يدافع عن نفسه، رغم أنه يستطع ذلك. إذًا فلماذا صَمَتَ الرب؟! لأنه سبق وقال للكهنة والكتبة عندما سألوه قائلين إن كنت أنت المسيح فقل لنا، فقال لهم: “ان قلت لكم لا تصدقون. وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني” (لو ٢٢: ٦٧، ٦٨) .

وما يلفت نظرنا أكثر هو أنه أحبَّ بالأحرى أن يُظهِر سلطانه عن أنه يُثَبِّتَه بالصورة التي تنتزع من اليهود كل دافع لإدانته، حيث إنهم تعهدوا أن يشتكوا عليه .

وفي الوقت الذي فيه كان هيرودس يتمنى أن يرى بعض العجائب، صَمَتَ المسيح ولم يفعل شيئًا. لأن تَجَبُّر شخصية هيرودس لا يستحق أن يرى أموراً الهية، وأيضا لأن الرب قد تحاشى أن يعلن قدرته. وربما يُعتبر هيرودس رمزًا ومثالًا لجميع الخطاة، لأن من لا يُصَدِّق الناموس والأنبياء، كيف يستطيع أن يرى أعمال المسيح المجيدة في الانجيل؟

وحسنا غسل بيلاطس يديه، ولكنه كحاكم، ما كان يجب عليه أن يخضع  للحقد والخوف بالدرجة التي يُسَلِّم معها دمًا بريئاً، لقد انذرته زوجته وأرشدته النعمة في تلك الليلة وأرهبته الأُلوهة، ومع كل ذلك لم يترفَّع عن أن يُصدر حكمًا ظالمًا .

ولكني أرى في بيلاطس صورتين: الأولى – حين أسلم المسيح لمشيئة اليهود – تُشير إلى جميع الحُكَّام المُزمعين أن يدينوا الأبرياء. والثانية – حين قال إني لا أجد علَّة في هذا الإنسان – تُشير إلى أن الأمم سينالون الغفران أكثر من اليهود، ويستطيعون أن يقبلوا – بأ كثر سهولة – إلى الإيمان بالأعمال الالهية. ولكن أولئك الذين صلبوا رب المجد!… هل كان يليق بهم حقًا أن يطلبوا إطلاق سراح رجل قاتل وهو باراباس وأن يطالبوا بهلاك البريء؟!.

تلك هي نواميس الفساد، أي كراهية البراءة والتمسك بالإجرام. ومع ذلك، فإن ترجمة الاسم توحي لنا هنا برمز، لأن باراباس تعني في اللاتينية، “ابن الآب”. فهولاء قيل لهم: “أنتم من أب هو إبليس” (يو٨: ٤٤)، فإفتضحوا إذ فضلوا ابن أبيهم، الذي هو “ضدالمسيح”، على ابن الله الحقيقي .

فَصَارَ بِيلاَطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا” (لو٢٣: ١٢) .

نجد في العلاقة بين هيرودس وبيلاطس، اللذين صاروا بسبب يسوع المسيح صديقين بعد عداوة، رمزًا لشعب إسرائيل وجمهور الأمم، لأن آلام الرب سوف تؤدي الى توافقهم يومًا ما. بالدرجة التي فيها سوف تقبَّل الأمم أولًا كلمة الله ومن ثم تنقلها الى الشعب اليهودي .

وَأَلْبَسَهُ لِبَاسًا لاَمِعًا، وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ” (لو ٢٣: ١١).

وليس اعتباطا أن ألبسه هيرودس لُباسًا لامعًا، وذلك كيما يدل على أنه تألم وهو بلا لوم. لأن الذي حمل خطايا العالم على نفسه كان هو حمل الله الذي بلا عيب .

فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيًّا” (مت ٢٧: ٢٨)

أما عن رداء الأرجوان والثوب القرمزي الذي ألبسه له الجنود، فالأول يرمز الى انتصارات الشهداء، والآخر علامة على سلطان المسيح الملوكي، لأنه لأجلنا تحتم أن يقبل المسيح في جسده الدماء المراقة في كل المسكونة، وأيضاً فآلامه تجلب ملكوته الينا. وبالمثل، ماذا يعني إكليل الشوك الذي ضُفِّر حول رأسه؟ اليس هو أشواك هذا العالم التي جلبها خطاة هذا الدهر، للإله؟.

وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ” (مت ٢٧: ٢٦)

وأيضا جُلد المسيح حتي لا نُجلَد نحن، لأنه رجل أوجاع ومختبر الحزن (إش٥٣: ٣). إنه يحوِّل الجلدات عنا نحن الذين كنا ومازلنا هاربين من أمام وجه الله، فالرب يصبر حتى تُقدَّم يديه لقيود الهاربين، وجسده لجلدات الهاربين.

وزيادة على ذلك – طبقا لبشارة متى البشير – لقد وضعوا قصبة في يده، حتى لا يكون الضعف البشري فيما بعد “كقصبة تحركها الريح” (لو٧: ٢٤)، بل يتقوَّى ويتأسَّس على أعمال المسيح، وأيضًا كيما يُبطل الصك الذي كان ضدنا، أي الحكم القديم، إذ سمَّره على الصليب (كو٢: ٤) .

أو بالأحرى – طبقا لبشارة مرقص البشير – “كانوا يضربونه على رأسه بقصبة” (مر١٥: ١٩) حتي لا تتذبذب بعد طبيعتنا، إذ تثبت بالتلامس مع ألوهيته .

ولكي يُقيم الغالب غنيمته، وضع  الصليب على كتفيه سواء كان سمعان (القيرواني) أو المسيح هو الذي حمله، فلقد حمل المسيح الانسان الصليب.. وحمله الانسان  في المسيح. وليس هناك من تعارض بين الإنجيليين، حيث إن السر يصنع التوافق بينهما.

فصعد على الصليب

المسيح لم يصعد على صليبه هو، بل على صليبنا نحن (الذي جلبناه على أنفسنا)، وقد مات ليس بلاهوته، بل كإنسان لهذا يقول: “الهي الهي لماذا تركتني“.. صعد المسيح على الصليب تاركًا الثياب الملكية حتي تعرفوا أيضًا أنه تألم كإنسان وليس كإله وملك، فالمسيح اله مُتأنِّس. ومع ذلك فهو كإنسان وليس كإله، سُمِّر  على الصليب. فلقد قُدِّم للمحاكمة كغالب، وجاء للعذاب كأثيم متذلِّل.

 

العظة الآبائية السابعة – يوم الجمعة العظيمة

صلب المسيح – للقديس امبروسيوس اسقف ميلان [48]

إن صليب المسيح الذي هو نُصرة الرب قد جعل جميع الناس ينتصرون.

فلننظر إذن بأي حال عُلِّق الرب عليه .

هوذا أنا أراه مُعرَّي ليعطينا مثالاً كيف يجب أن نصعد أيضاً عليه حينما نستعد لغلبة هذا الدَّهر الحاضر دون طلب معونة. فآدم قد غُلِب، وهو الذي احتاج إلى سُترة (تك٣: ٧). ولكن من الذي غَلَب؟ إنه ذاك الذي تَخَلَّي عن ثيابه؛ وكما كان آدم -الإنسان الأول- مُعرَّى عندما طُرِد من الفردوس، هكذا كان المسيح -آدم الثاني- مُعرَّي على الصليب .

ومن أجل أن يصير غالباً، ليس من أجل نفسه فقط بل من أجل الجميع أيضاً، بسط يديه (على الصليب) كيما يجذب إليه الجميع ويَحلَّ رباط الموت، ويُوحِّد بالسماء ذاك الذي كان من الأرض. وعادة ما تتقدَّم المواكب أمام المنتصرين في الحروب، أما مركبة انتصار المسيح فكان يتقدَّمها موكب عظيم من الأموات الذين أقامهم معه. وأيضاً عادة ما تكون هناك قوائم بالسبايا والشعوب المهزومة، أما هنا فيزدهر جمال الشعوب المَفديَّة، وتتحوَّل السماء والأرض والبحر من الفساد إلى النعمة .

وقد وُضعت كتابة فوق الصليب وليس أسفله لأنه مكتوب: “وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ” (إش ٩: ٦). وما هي هذه الرياسة، سوى قوَّته الأبديَّة ولاهوته، لأن ملكوت المسيح لا يقوم على جسده البشري بل على قوته الإلهيَّة .

وكان صليب المسيح وسط لصيَّن كيما يكون منظوراً من الجميع. وعلى ما يزعُم العبرانيون أُقيم الصليب على مقبرة آدم، لأنه كان لائقاً بمبدأ حياتنا أن يقوم في الموضع الذي ابتدأ منه الموت .

فقال أحدهما ليسوع “اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ” (لو٢٣: ٤٢، ٤٣). لأن الحياة تقوم على الوجود مع المسيح، وحيثُما يوجد المسيح فهناك يكون الملكوت. لقد سامح الرب اللص سريعاً لأنه تاب سريعاً .

وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ” (مر١٥: ٢٤) .

وقد أقتسم الجنود ثيابه، أما قميصه فالقوا عليه قرعة لعلَّه يقع من نصيب أي واحد منهم. وربما يرمز الجنود الأربعة إلى الإنجيليين الأربعة، الذين كانت لهم على ما يبدو لي أنواع مواهب مختلفة. فالثياب المُقتسمة إذن هي أعمال المسيح أو نعمته، أما القميص – ونعني به الإيمان – لم يكن ممكناً أن يُقسَّم، لأنه ليس من نصيب واحد معين بل بملء الحق يخص الجميع. وحسناً إنه كان منسوجاً كله من فوق، لأن إيمان المسيح منسوج بهذه الطريقة التي تنزل من فوق إلى أسفل، أي من الإلهي إلى البشري .

وكم كان شنيعاً شر اليهود الذي جعلهم يَصلبون فادي الجميع كلص، ومع ذلك فقد كان المسيح – بمعنى سري – كاللص، إذ قد ربط الشيطان كي ينزع عنه أسلحته (مت١٢: ٢٩). ومن ناحية أخرى فإن اللصَّان يرمزان إلى اليهود والأمم الخطاة، الذين سيُصلَبون مع المسيح بالمعمودية. والاختلاف بينهم يدل على تباين المؤمنين، إذ أن الواحد كان على اليمين والآخر على اليسار، كما أن توبيخهم يُعلن أيضاً عن عثرة الصليب ستوجد حتى بين المؤمنين .

“وَمَلأَ إِسْفِنْجَةً خَّلاً وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ” (مر١٥: ٣٦) .

ولقد لاق بالرب كيما يُكمَّل كل شيء أن يتَجرَّع فساد هذه الحياة حتي يُسمَّر على الصليب كل ما كان قد فَسَدَ. لذلك شرب الخل الممزوج بالمرارة، حتي يأخذ مرارات حياتنا “يَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَمًا، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاُ” (مز٦٩: ٢١). فلُنُقدَّم للمسيح رذائلنا المُتراكمة بسبب إهمال النَّفس والجسد، لنُقدَّمها عن طريق المعمودية، لكيما نكون مصلوبين في المسيح .

قَدْ أُكْمِلَ” (يو١٩: ٣٠) .

وحسناً يحق له أن يستودع روحه حيث أنها محفوظة، لهذا فتح فاه قائلاً: “يا أبتاه في يديك أستودع روحي“. فالشيء المؤتمن لا يكون مفقوداً. فالروح إذن هي عطية صالحة ووديعة حسنة، كما قيل أيضاً: يا تيموثاوس “اِحْفَظِ الْوَدِيعَةَ الصَّالِحَةَ” (٢تي١: ١٤). إنه يستودع روحه عند الآب ويقول أيضاً: “أنك لن تترك نفسي في الجحيم” (مز١٥: ١٠) .

انظروا إذن هذا السر العظيم: إنه الآن يستودع روحه في يدي الآب، إذ هو الابن الذي يستريح في حضن الآب. فلا يوجد آخر قط من يستطيع أن يحتوي المسيح كلَّية سوى الآب، إذ قد قال المسيح: “أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ” (يو١٤: ١٠) إنه يستودع روحه عند الآب – وهو وإن كان في الأعالي، إلاَّ أنه يضيء حتى في الجحيم – كي ما يفتدي جميع الأشياء لأن “الْمَسِيحُ الْكُلُّ وَفِي الْكُلِّ” (كو٣: ١١) .

وَأَسْلَمَ الرُّوحَ” ( يو١٩: ٣٠)

إنه بالحق أسلمها، لأنه لم يفقدها رغماً عنه، وهو ما ذكره متى البشير قال حين “أسلم روحه“. فالتسليم هو نتيجة فعل طوعي أما الفقد فهو نتيجة إكراه .

وهكذا فإن آلام الرب تُقدَّم العلامات بأن الحاضر يزول كي ما يقوم العتيد .

لقد طَمست الظلمات أعين غير المؤمنين…

حتي ما يُشرق عليها نور الإيمان …

غربت الشمس وغابت من الحياة …

كي ما تحجب مشهد القتل الإجرامي …

وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ” (مت٢٧: ٥١) .

حتي تشهد فُتات الصخور بأن قوة الكلمة سوف تخترق القلوب القاسية لتصبح أكثر سهولة للذين سوف يصيدونهم من شقوق الصخر، كما تنبأ إرميا: “هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَى جَزَّافِينَ كَثِيرِينَ، يَقُولُ الرَّبُّ، فَيَصْطَادُونَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ أُرْسِلُ إِلَى كَثِيرِينَ مِنَ الْقَانِصِينَ فَيَقْتَنِصُونَهُمْ عَنْ كُلِّ جَبَل وَعَنْ كُلِّ أَكَمَةٍ وَمِنْ شُقُوقِ الصُّخُورِ” (إر ١٦: ١٦) .

والقبور تفتَّحت” (مت٢٧: ٥٢)

أفلا يُعلن هذا عن تفتيح سجون الموت، وقيامة الأموات الذين كانت رؤيتهم وهم قيام تدعو إلى الإيمان وظهورهم يوحي بمعني ما. لأنهم حينما خرجوا (أي الأموات) إلى المدينة المُقَدَّسة كانوا يُعلنون بصورتهم أن أورشليم السمائية سوف تكون موضع التقابل الأبدي للقائمين .

“وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ” (مت٢٧: ٥١)

إن هذا الأمر يُعلن ، إما عن انفصال الشعبين، أو عن تدنيس أسرار المجمع. لقد انشق الحجاب القديم كي ما تمد الكنيسة الجديدة أطنابها. رُفع حجاب المجمع، كي ما يُسمح لبصيرتنا أن تتأمل أسرار العقيدة الخفيّة بوجه مكشوف (٢كو٣: ١٤) .

وأخيراً فها هو قائد المائة نفسه يشهد لمنْ قد صلبه بأنه ابن الله .

تشققّت الصخور، أما قلوب اليهود فهي أكثر قساوة من الصخر !…

القاضي يتَّهم والمُنفَّذ (قائد المائة) يؤمن …

الخائن يُدين جريمته عند موته …

العناصر تنحل …

الأرض تتزلزل …

القبور تتفتَّح …

ومع ذلك كانت قساوة اليهود باقية كما هي لا تتغيَّر وسط اضطرابات الكون .

لقد ظلَّت النسوة هناك مُشاهدات لهذا المنظر، وأمه أيضاً كانت هناك وأحشائها تلتهب من أجل موت ابنها. وقد تشاغل الرب عن موته وهو مُعلَّق على الصليب وأوصى بأمه لتلميذه يوحنا. وليس اعتباطاً أن يروي لنا يوحنا هذه التفاصيل .

فالبشيرون الآخرون وصفوا اضطرابات العالم، والظُلمات التي غطت السماء واحتجاب الشمس. وأضاف متي ومرقس قوله “إلهي إلهي لماذا تركتني” كي ما يؤكدون لنا أن هذه هي الطبيعة البشريَّة التي أخذها المسيح والتي صعد بها على الصليب. أما لوقا فقد أظهر بوضوح كيف أن اللص نال الغفران ووعده الرب بأن اليوم سيكون معه في الفردوس.

أما يوحنا الذي توغَّل أكثر في الأسرار الإلهَّية، فاعتني بإظهار أن تلك التي ولدَت الله قد ظلت عذراء. فهو وحده فقط الذي يُعلَّمنا ما لم يُعلَّمنا إياه الأخرون، أي كيف خاطب المسيح أمه وهو على الصليب.

ولنسأل أيضاً لماذا لم يُطعَن الرب في جنبه قبل موته بل بعده؟ ربما أن ذلك يُعلَّمنا أن موته كان اختيارياً وليس جبريَّاً، وكي ما يُعلَّمنا ترتيب الأسرار: فأسرار المذبح لا تسبق المعمودية بل تأتي المعمودية أولاً ثم الارتواء.

وأخيراً فهذا يجعلنا نُلاحظ – وإن كانت طبيعة جسده بشريَّة وكان مشابهاً لنا في ذلك – أن نعمته كانت مختلفة لأنه من المؤكد أن الدَّم يتجلَّط بعد الموت في أجسامنا، ولكن هذا الجسد الذي هو يقيناً بلا فساد، مع أنه قد مات بالجسد، إلا أن حياة الجميع كانت تخرُج منه، فخرج لنا منه ماء ودم، الماء للتطهير والدم للفداء. فلنشرب إذن فدائنا كي ما نكون مفديَّين بهذا المشرب .

التكفين .

لقد كُفَّن الرب ليس بواسطة الرسل بل بواسطة يوسف ونيقوديموس. فواحد كان باراً والآخر كان شجاعاً. هكذا تكفين المسيح لم يكن بغش أودنس .. ولم يكن للمسيح قبر خاص، لأن القبر يُعَد لمن هم خاضعون لنواميس الموت، أما قاهر الموت فليس له قبر خاص ، فأية شركة بين القبر والله .

فحسناً أُودِع المسيح في قبر حتي يجد فيه إين يسند رأسه، وحسناً وُضع على القبر حجر حتي لا يكون مفتوحاً، لأنه حتي إذا دُفِن المسيح في قلوبنا، فيجب أن نحافظ عليه بعناية حتي لا نفقده، ولا ندع الإيمان الكاذب أن يدخل إلى داخلنا .

 

 

العظة الآبائية الثامنة – يوم الجمعة العظيمة

لماذا احتمل الرب آلام الصليب – للقديس يوحنا ذهبي الفم[49]

“ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع” (عب١٢: ٢)

الأمر الذي كان يسوع نفسه يقوله لتلاميذه باستمرار “إِنْ كَانُوا قَدْ لَقَّبُوا رَبَّ الْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَهْلَ البَيْت” (مت١٠: ٢٥)، وأيضا “لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُعَلِّمِ، وَلاَ الْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِهِ” (مت ١٠: ٢٤) . يقول “ناظرين إليّ”، أي لكي نتعلم أن نركض، فلنحول نظرنا إلى المسيح.

تماما كما يحدث في كل الفنون وكل المنافسات، عندما ننتبه لمعلمينا، حينئذ نطبع أو نرسم الفن في مخيلتنا فندرك بالرؤية بعض القوانين، (أي الخاصة بالقول) هكذا هنا أيضا، إن كنا نريد أن نركض، ونتعلم أن نركض بشكل صحيح، فلنحول نظرنا تجاه يسوع الذي هو رئيس الإيمان ومكمله، ماذا يعني ذلك؟ يعني أن المسيح هو الذي وضع داخلنا الإيمان، وهو الذي أعطانا البداية.

هذا ما قاله لتلاميذه “لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ” (يو١٥: ١٦) بل والرسول بولس يقول: “حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ” (١كو ١٣: ١٢).

لكن إن كان الرب قد وضع فينا بداية الإيمان، فإنه سيكمله. يقول: “الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ” (عب١٢: ٢). هذا يعني أنه كان يمكنه ألا يعاني إن كان قد أراد ذلك، لأنه “لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ” (إش٥٣: ٩) كما قال هو نفسه في الأناجيل “رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ” (يو١٤: ٣٠) كان يمكنه ألا يصلب، إن أراد ذلك بالطبع، فلم يكن هذا متوقفًا على ذاك (رئيس هذا العالم) لأنه يقول “لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا” (يو١٠: ١٨).

إذا فإن كان المسيح والذي لم يكن مُجبرًا أن يُصلب، قد صلب لأجلنا، فكم يكون أمرًا عادلًا أن نصبر نحن على كل شيء بشجاعة، يقول: “مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ”، ماذا يعني بعبارة “مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ؟” يعني أنه فضل موت العار، لكن لماذا بهذه الطريقة المخزية؟ ليس لسبب آخر سوى أنه أراد أن يُعلِّمنا أن نحتقر المجد الذاتي.

لهذا برغم من أنه لم يظلم (أي لم يُخطئ)، إلا إنه فضل أن يموت بهذه الطريقة (الصلب)، لماذا لم يتكلم عن “الآلام” بل تكلم عن إستهانته “بالخزي”؟ لأنه لم يحزن لاجتيازه هذه الآلام، إذا ماذا كانت النتيجة؟ إسمع ما يقوله “فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ” (عب١٢: ٢).

أرأيت المكافأة؟ هذا ما كتبه القديس بولس، قائلاً “لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ. لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ” (في٢: ٩، ١٠) يقصد الأمر المشار إليه في الجسد. وحتى إن لم يكن هناك أي مكافأة، فإنه كان كافيًا أن يشير إلى الرب كمثال، لكي يُقنع كل أحد بأن يُفضّل قبول هذه الآلام، فالمكافأت القائمة أمامنا الآن، ليست المعتادة، بل هي مكافأت عظيمة وسرية.

ونحن أيضًا، إذا حدث لنا شيء مثل هذا، فلنفكر في المسيح، لماذا؟ لأن حياته كانت مليئة بالإهانات، فدائما ما كان يسمع أنه مجنون، مُضل وساحر، وفي أحد المرات قال عنه اليهود “هذَا الإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ اللهِ” (يو ٩: ١٦). ومرة أخرى يقولون إنه “يُضِلُّ الشَّعْبَ” ( يو٧: ١٢) وأيضا “ذلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ” (مت٢٧: ٦٣) وقد وشوا به واتهموه كساحرقائلين “هذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ” (مت١٢: ٢٤) و”بِهِ شَيْطَانٌ وَهُوَ يَهْذِي” (يو١٠: ٢٠) لم يكن من الصواب القول أن به شیطان وأنه يهذي. وهذاالكلام قد سمعه من اليهود، بينما هو قد أحسن إليهم، إذ قد صنع معهم معجزات وأعمال إلهية. إن كان قد سمع هذاالكلام، دون أن يفعل شيئاً، ما كان في هذا الأمر ما يدعو للغرابة، لكن إن كان قد علم الحقيقة وسمع أنه مُضّل، وبينما أخرج الشياطين، قالوا إن به شیطان، وبينما أبعد الشرور، دُعيّ ساحرًا، وهل هناك معجزة لم يجريها؟ لقد ألصقوا به هذه الاتهامات على الدوام .

وإن كنت تريد أن تعرف مدي الإستهزاء والسخرية التي وُجهت إليه، الأمر الذي يجرح نفوسنا بشدة، فإسمع هذا التهكم الذي جاء من أبناء جنسه، إذ قالوا “أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ،… أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟” (مت١٣: ٥٥- ٥٦)

وتهكموا عليه لأجل مسقط رأسه، وقالوا أنه من الناصرة، وأيضا يقول “فَتِّشْ وَانْظُرْ إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ” (يو٧: ٥٢)، وقد إحتمل كل شيء، بالرغم من أنهم قد وشوا به كثيرًا جدًا، وأيضا قالوا “أَلَمْ يَقُلِ الْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ” (يو٧: ٤٢). أتريد أن تعرف التهكم والإستهزاء الذي وجهوه له أثناء الصلب؟ سجدوا له مُتهكمين، ضربوه، لطموه، وقالوا “تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبَكَ؟” (مت٢٦: ٦٨). وقدموا له خلاً، وقالوا له: “إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ” (مت٢٧: ٤٠). وحتي عبد رئيس الكهنة قد لطمه، والرب قال له “إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟” (يو١٨: ٢٣)، بل وتهكموا عليه فألبسوه ثوبًا أرجوانيًا، وبصقوا على وجهه، وجازوا به كل التجارب، متهكمين عليه. أتريد أن تعرف الإتهامات، الخفية والظاهرة التي وجهت إليه من تلاميذه؟ لأنه يقول “تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟” (يو٦: ٧٦) وعبارة “بِكَ شَيْطَانٌ” (يو٧: ٢٠)، قيلت من أولئك الذين كانوا قد آمنوا بالفعل.

لكن أخبرني، ألم يكن المسيح ينتقل على الدوام، مرة نحو الجليل ومرة أخرى لليهودية؟ ألم يُجرَّب كثيرًا حتى عندما كان مقمطًا؟ فبينما كان بعد طفلاً، ألم تأخذه أمه معها وإتجهت إلى مصر؟ لأجل كل هذا إذاً، يقول “نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ” (عب١٢: ٢).

إذًا فلنحول أنظارنا نحو المسيح، ونحو كل ما إحتمله تلاميذه، فاحصين كل ما عاناه الرسول بولس، ونسمعه وهو يقول “فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ،فِي شَدَائِدَ، فِي ضَرُورَاتٍ، فِي ضِيقَاتٍ، فِي ضَرَبَاتٍ، فِي سُجُونٍ، فِي اضْطِرَابَاتٍ، فِي أَتْعَابٍ، فِي أَسْهَارٍ، فِي أَصْوَامٍ، فِي طَهَارَةٍ، فِي عِلْمٍ،….. فِي كَلاَمِ الْحَقِّ” (٢كو٦: ٤- ٧)، وأيضا “إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ نَجُوعُ وَنَعْطَشُ وَنَعْرَى وَنُلْكَمُ وَلَيْسَ لَنَا إِقَامَةٌ، وَنَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا نُشْتَمُ فَنُبَارِكُ نُضْطَهَدُ فَنَحْتَمِلُ، يُفْتَرَى عَلَيْنَا فَنَعِظُ” (١كو٤: ١١- ١٣) . هل يستطيع أحد منا أن يقول إنه عاني ولو جزءا يسيرا من هذه الآلام؟.

لأنه يقول “بهَوَانٍ، بِصِيتٍ رَدِيءٍ، كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا” وأيضا “مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ، مَرَّةً رُجِمْتُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ، لَيْلاً وَنَهَارًا قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ… فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ” (٢كو١١: ٢٤- ٢٧).

ومن حيث أن هذه الآلام كلها كانت كافيه أمام الله، فإسمع ماذا يقول هو عن نفسه “مِنْ جِهَةِ هذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. فَقَالَ لِي: تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ” (٢كو١٢: ٨-٩). ولهذا قال “لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ” (٢كو١٢: ١٠). واسمع المسيح نفسه الذي يقول: “فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ” (يو١٦: ٣٣) .

 

 

العظة الآبائية التاسعة – يوم الجمعة العظيمة

الصليب – ميمر للقديس كيرلس الكبير[50]

ان المسيح غلب الشيطان بالوسائل التي غلب بها الشيطان العالم. لقد حاربه بأسلحته الخاصة التي استعملها هو. وكيف؟ إليك ذلك:

العذراء، الخشبة، الموت، كانت علائم انكسارنا.

فالعذراء كانت حواء التي لم تكن بعد قد عرفت الرجل.

والخشبة كانت الشجرة،

والموت عقوبة آدم.

فالعذراء والخشبة والموت التي كانت وسائل الاندحار، صارت هي نفسها وسائل الغلبة.

فمريم قامت مقام حواء.

وخشبة الصليب بدلاً من شجرة معرفة الخير والشر،

وموت المسيح بدلاً من موت آدم.

وهكذا ترون أن الشيطان غُلِبَ بالوسائل نفسها التي ساعدت على انتصاره.

فقد غلب الشيطان آدم بعود الشجرة والمسيح صرع إبليس بعود الصليب.

عود الشجرة ألقي بآدم في الجحيم وعود الصليب أنقذ منه من كانوا قد انحدروا إليه.

فالعود الأول عرى الإنسان من السلاح وسبب له الموت والثاني جرد هذا الظافر (أي إبليس) من سلاحه وشهّره وغلبه علي مرأى من العالم.

فموت آدم ملك علي كل الذين جاءوا بعده، أما موت المسيح فآقام من ولدوا قبله.

من يخبر بقوة الرب. لقد أجتزناه من الموت إلى عدم الموت: هذه هي معجزة الصليب.. الرب حارب والإكليل لنا.

فإذاً بما أن الغلبة لنا، لنقتدي بالجنود ولننشد اليوم في بهجتنا نشيد الظفر. لنقل مادحين الرب: “قد ابتلع الموت إلي غلبة. فأين شوكتك أيها الموت وأين غلبتك يا هاوية .

هذه هي الاحسانات التي وهبها لنا الصليب، شعار غلبة منصوب ضد الشياطين، وسيف ضد الخطية، سيف غلب به المسيح الحية. فالصليب هو مشيئة الآب، مجد الابن، انتصار وتمجيد الروح القدس، شرف الملائكة، أمان الكنيسة، موضوع مجد لبولس، تُرْس القديسين، نور الدنيا، لأنه كما تبدد ظلمات مسكّن مظلم بإيقاد مصباح ووضعه على مكان عال، هكذا المسيح إذ أنار الصليب كسراج وأقامه منصوباً، طرد كل ظلمات الأرض. وكما أن السراج يحمل نوراً في اعلاه هكذا الصليب كان يحمل في أعلاه المسيح شمس البر الباهرة. فالعالم ارتعد والأرض اهتزت والحجارة تشققت عندما رأته مصلوباً. تشققت الحجارة لا قساوة اليهود. وحجاب الهيكل انشق ودسيستهما المخزية لم تتراخ .

اذكروا ما يسيل على المذبح. إنه دم، الدَّم الذي محا الصك الذي وقعتم عليه بخطاياكم. الدَّم الذي طهر نفسكم ومحا كل ادناسكم وانتصرعلى الرئاسات والقوات: “المسيح جرد الرئاسات والسلاطين وأشهرهم جهاراً ظافراً عليهم في صليبه” كما قال بولس الرسول. فشعار غلبته يحمل علامات ظفره التي لا عدد لها والغنائم مدلاة على رأس صليبه: فكما يضع ملك عظيم عاليا شعار غلبة على الدروع والتروس وأسلحة الطاغية المغلوب وجنوده وذلك بعد ربح حرب صعبة، هكذا المسيح، بعد أن ربح الحرب ضد إبليس، علق على أعلى الصليب كما على شعارغلبة كل أسلحة عدوه أعني الموت واللعنة.

وهكذا تستطيع أن تنظر هذا الشعار كل الكائنات، القوات العلوية التي في السَّماوات والناس الذين على الأرض، والشياطين المغلوبين أنفسهم. وبما أننا متمتعون بنعمة عظيمة بهذا المقدار، فلنظهر ذواتنا بقدر ما نستطيع جديرين بالخيرات التي نلناها لكي نفوز بملكوت السَّماوات بنعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والعزة والقدرة مع الآب والروح القدس في كل الأجيال آمين .

 

 

العظة الآبائية العاشرة – يوم الجمعة العظيمة

الصليب – للقديس هيلاري أسقف بواتييه[51]

لا يعرف الرسول شيئًا عن الخوف من الألم وهو في المسيح، فحين يريد أن يتكلم عن تدبير الألم، يضمه في سرّ لاهوت المسيح. الذي يغفر لنا كل خطايانا ويمزق صك آثامنا الذي صرنا مسمرين إياه على الصليب، طارحين إياه بعيدًا عنا. وإذ تعرى جسديًا شهَّر بالسلاطين والقوات ظافرًا بهم جهارًا في نفسه.

تأملوا معي أية قوة تلك التي تحتمل جرح المسمار، وتنحني تحت معول المثقاب المؤلم!.

أية طبيعة تلك التي تحتمل مثل كل هذا الألم؟.

وإذ يتحدث القديس بولس كما على لسان حال المسيح، مظهرًا عمل الخلاص، يصف موت المسيح بأنه عَّرى جسده وفي جسارة “ونصرة” أخزى قوات “الظلمة” منتصرًا عليهم في نفسه.

فلو كان ألمه ضرورة تحتمها طبيعته، وليست هبة مجانية لخلاصكم، ولو كان الصليب مجرد معاناة للآلام والجروح، وليس لقصد أن يسِّمر في ذاته قانون الموت الذي صدر ضدكم، ولو كان موته من جراء عنف الموت وليس تعرية الجسد بقوة الله، أخيرًا لو كان موته نفسه أي شيء عدا أن يكون تشهيرًا وحطًا من كرامة القوات (الشريرة) وعملًا جسورًا وغلبة، فإنه ينسب إلى نفسه عجزًا! لأنه كان تحت سلطان حتمية الطبيعة، حيث يُضرب ويخاف وتمتهن كرامته.

لكن إن كان الأمر هو العكس تمامًا فيما يختص بسرّ الآلامات، كما كُرِز لنا به، فمن ذا الذي تصل به درجة انعدام الإحساس، فيرفض الإيمان الذي علمنا إياه الرسل، ويعكس كل مشاعرنا الدينية. وأن نلقي جزافًا بهذا الاتهام المهين للضعف البشري بدلًا من أن نعتبره فعلَ إرادة حرة، وسرًا، وإظهارًا للقدرة والجسارة وانتصارًا؟.

أية غلبة أعظم من تلك، حينما قدم ذاته إلى الذين طلبوا أن يصلبوه فلم يقدروا على احتمال وجوده، فإن الذي وقف ممتثلًا لحكم الموت، هو نفسه بعد برهة قصيرة الذي جلس عن يمين القدرة، حينما صلى لأجل مضطهديه بينما المسامير تخترق جسده (المقدس)، وحينما أكمل السرّ إذ ذاق مرارة الخل، وإذ قد أحصي مع أثمه وفي ذات الآن وهب الفردوس.

لأنه إذ رُفع على الصليب (الشجرة) تزلزلت الأرض، وحينما عُلِق على الصليب ماجت الشمس وارتعد النهار، حتى أنهما هربا من أمامه، أما هو فترك جسده بينما وهب الحياة لأجساد الآخرين، لقد دُفِن جسديًا وقام إلها.

كإنسان تحمل كل الألم والضعفات لأجلنا، وكإله انتصر عليهم جميعاً.

 

 

العظة الآبائية الحادية عشر – يوم الجمعة العظيمة

المسيح: الذبيحة والكاهن – للقديس يوحنا ذهبي الفم[52]

لقد قيل إن فصحنا المسيح ذُبح من أجلنا. فقل لي أين ذُبح؟ لقد ذُبح مرفوعًا على الصليب. المذبح جديد ومختلف عن أي مذبح، لأن الذبيحة جديدة ومختلفة عن أي ذبيحة، فهو نفسه الذبيحة والكاهن. أما كونه ذبيحة فبحسب الجسد، أما كونه كاهن فبحسب الروح، وهو نفسه المقدِّم والمُقدَّم.

فاسمع أيضًا ما يقول بولس ” إن رئيس الكهنة الذي  يؤخذ من بين الناس إنما يُقام من أجل الناس ليقدم عنهم (ذبائح) لله، أما المسيح فلم تكن له حاجة إلى ذلك إذ قرَّب ذاته” (عب٨:٥، ٣:٨). ويقول بولس الرسول في موضع آخر ” إن المسيح قُدِّم مرة واحدة ليحمل خطايا كثيرين” (عب ٢٨:٩). لقد قُدِّم ههنا، أما هناك فقدَّم ذاته. أرأيت كيف صار ذبيحة وكاهنًا معًا، وكيف كان الصليب مذبحًا له؟

لماذا صُلب المسيح خارج المدينة ومرتفعًا على الصليب؟

ومن الضروري أن تعلم لأي سبب لم تُقدم الذبيحة داخل الهيكل اليهودي، لكن خارج المدينة، خارج الأسوار. لقد صُلب خارج المدينة مثل أثيم حتى يتم ما قيل بالنبي “إنه أُحصى مع الأثمة” (إش١٢:٥٣).

ولماذا صلب خارج المدينه مرتفعاً على الصليب ، وليس تحت سقف ما ؟

لكي يطهر طبيعة الهواء. فهناك وهو مرفوع على الصليب لم يكن يظلله سقف بل سماء، لكي يطهرها مرة بذبح الخروف هناك عاليًا على الصليب. وكما تطهرت السماء، فإنه طهّر الأرض أيضًا. فعندما سال الدم من جنبه تطهرت الأرض من كل دنس.

ولماذا لم تقدم ذبيحه الصليب تحت سقف أو في هيكل يهودي؟

أعلم أن هذا أيضًا ليس أمرًا بسيطًا، فقد حدث ذلك لكي لا يدّعي اليهود أن الذبيحة تخصهم وحدهم، أو يُظن أنها قُدمت عن هذا الشعب فقط، ولهذا قُدمت خارج المدينة والأسوار لكي تُعلِّمهم أن الذبيحة هي مسكونية، وأيضًا أنها قُدمت عن الكل.

وأن تطهير الطبيعة شامل لكل الأرض، بعكس اليهود الذين أمرهم الله أن يتركوا الأرض كلها ويُبقوا لأنفسهم مكانًا واحدًا للصلاة وتقديم الذبائح، بسبب أن الأرض كلها كانت مدنسة بدخان ودماء ذبائح الوثنيين وأدناس اليونانيين.

أما بالنسبة لنا فقد جاء المسيح وتألم خارج المدينة وطهّر كل المسكونة وجعل كل موضع مكانًا للصلاة. أتريد أن كيف أن الأرض كلها أصبحت هيكلاً وأن كل مكان أصبح مكانًا للصلاة؟ أسمع أيضًا ما يقوله المُطوب بولس “فأريد أن يصلي الرجال في كل مكان رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال” (١تي٨:٢).

أرأيت أن المسكونة كلها تطهرت، إننا نستطيع أن نرفع أيادي طاهرة في كل مكان؟ فلقد صارت إذن الأرض بأسرها مقدسة، بل بالحري أقدس من قدس أقداس اليهود.

وكيف يكون هذا؟ هناك في قدس الأقداس يُقدم خروف من الحيوانات غير العاقلة أما هنا فالخروف عاقل (ناطق). وبمقدار ما تفوق الذبيحة العاقلة الذبيحة غير العاقلة، هكذا يفوق تقديس الأرض (بالصليب) على أقداس اليهود. وبالتالي فالصليب هو عيد حقًا.

بالصليب فُتح الفردوس

أترغب في معرفة إنجاز عظيم آخر للصليب يفوق إدراك العقل البشرى؟ إن الفردوس الذي كان مغلقًا قد فُتح اليوم. اليوم دخل اللص إليه. هناك إنجازان عظيمان، فتح الفردوس ودخول اللص إليه، إعادته لوطنه القديم، واسترداده إلى بلده الأم.

“اليوم تكون معي في الفردوس” (لو٤٣:٢٣). ماذا تقول (يارب)؟ هل وأنت مصلوب ومُسمّر على الصليب تَعِدُ بالفردوس؟ كيف بالحقيقية تهبُ ذلك؟

يقول بولس الرسول “إنه صُلب عن ضعف” لكن فلتسمع ما تلاه “لكنه حي بقوة الله” وفي موضع آخر يقول “لأن قوتي في الضعف تكمل” ولهذا يقول: إني أعد وأنا على الصليب، لكى تعلم من هذا أيضًا قوتي.

فهذا الأمر المحزن لم يحدث ليبعدك عن التفكير في طبيعة الصليب بل لتعلم قوة المصلوب عليه والمعجزة التي تمت فوقه، تلك المعجزة التي تشير إلى قوة المصلوب، فاللص لم يؤمن به وهو يقيم الموتى أو ينتهر أمواج البحر ويطرد الشياطين، بل عندما كان مصلوبًا ومسمّرًا وهو مُعرّض للشتم والبصق والهزء والتعذيب.

أنظر إذن الوجهين اللامعين لقوة المصلوب: إنه قد هزّ أركان الطبيعة وشقق الصخور، من ناحية، وإنه جعل نفس اللص التي كانت أقسى وأصعب من الصخر، تصير وديعة.

أتقول يارب “اليوم تكون معي في الفردوس”؟!! الشاروبيم يحفظون الفردوس وهناك يجول سيف ناري وأنت تَعِدُ اللص بأن تُدْخِله هناك؟!!.

نعم يقول (المسيح): فأنا هو رب الشاروبيم، ولىّ سلطة على اللهيب والجحيم والحياة والموت. ولهذا يقول “اليوم تكون معي في الفردوس”. فإن كان الرب له هذه القدرة فقد متع بها الآخرين مباشرة، ومع أن الملك لا يرض لنفسه أن يجالس لصًا أو أحدًا من عبيده ولا أن يرافقه إلى المدينة، إلاّ أن السيد محب البشر فعل ذلك وأدخل معه اللص إلى الوطن المقدس.

وفي هذا فإن اللص لا يهين الفردوس بأن يطئه بقدمه بل بالحري يشرّفه. فشرَف الفردوس أن يكون له مثل هذا السيد القوى محب البشر الذي جعل اللص جديرًا بالتنعم فيه. وهو عندما دعا العشارين والزناة إلى الملكوت فهو لم يُحقِر من هذا الملكوت بل بالحري كرّمه وأظهر أنه رب ملكوت السموات الذي جعل العشارين والزناة أهلاً لمجد وعطية الملكوت هناك.

وكما أننا نُعجب بالطبيب عندما نراه يشفي الناس من الأمراض المستعصية ويأتي بهم إلى الصحة التامة، هكذا يا أحبائي، يجب أن نُعجب بالمسيح ونُدهش إذ هو يشفي أمراض نفوس الناس المستعصية، ويعتقها من الشرور المسيطرة عليها، جاعلاً أولئك الذين سيطرت عليهم الشرور إلى أبعد الحدود، أهلاً لملكوت السموات .

 

 

العظة الآبائية الثانية عشر – يوم الجمعة العظيمة

آلام ابن الله لأجل خلاصنا – للقديس يعقوب السروجي[53]

نحن ننظر ونتعجب بالظافر الذي وقف في المحكمة. ابن الأحرار الذي لُطم على خده،

الشمس الذي احتضن العمود (الذي رُبط السيد حوله ليُجلد)،

النار التي تُجلد بالسياط (مت ٢٧: ٢٦)،

النور الذي تحتقره الظلمة (يو ٨: ١٢؛ ١: ٥)،

رب جبرائيل الذي ضربه عبد قيافا (يو١٨: ٢٢)،

شبل الأسد الذي تنهشه الثعالب الحقيرة (هو ٥: ١٤).

البحر الكبير الذي يحكم عليه التراب.

المخوف الذي على الكاروبيم ركب شجرة الصليب.

واهب السوسن المجد، والورود الألوان المتنوعة (مت ٦: ٢٨)، معلق عاريًا في عارٍ.

غارس الفردوس يُعطى له الخل والمرارة (تك ٢: ٨)؛ (مت ٢٧: ٣٤).

اللهيب يُطعن بالحربة (يو ١٩: ٣٤).

مكلل الشمس بالأشعة وُضع على رأسه إكليل شوك (مت ٢٧: ٢٩) ..

..عرَّاه الصالبون من لباسه كالجزازين، أما هو فصمت بشبه النعجة قدام الجزاز!

ترك لباسه حين فرح، حتى يلبس الذين خرجوا من الفردوس عرايا!

يُلبسهم ثيابه ويبقى هو في هزءٍ! لأنه عرف أنها تصلح لآدم المفضوح!

عروا ثيابه، وألبسوه ثوبًا قرمزيًا لون الدم، حتى يتزين به العريس المقتول!

أعطوه أن يمسك القصبة كالديان، فاضطر من أجل هؤلاء أن يكتب كتاب طلاق ابنة العبرانيين، لأنها أبغضته!

أعطته القصبة ليكتب طلاقها، لأنها نظرته يحب القداسة كثيرًا مثل أبيه..

.. حجبوا عينيه واستهزأوا به، ولكموه، وقالوا له: تنبأ لنا من الذي ضربك!

لطموا بالقصبة الرأس المرتفع، فارتعبت الملائكة!

بهذه الأمور الفاسدة الشريرة كافأوه بجنون…!

صاروا في جنون ليحجبوا وجه شمس البرّ، لئلا يُشرق، فينظر العالم فسادهم.

حجبت العروس الجاهلة العريس، لئلا ينظر فجورها وفسادها.

حجبوا الطبيب، لئلا يضمد جراحاتهم ويشفيهم!

أنظر في المسيح، كم احتمل من الأثمة؟!

ذاك الجاهل كيف تجاسر وتفل في وجهه!..

..ضفروا إكليل الشوك ووضعوه له. وهذا يليق به، إذ جاء ليقتلع الأشواك من الأرض!

حمل لعنة الأرض بالإكليل الذي وضعوه على رأسه، وحمل ثقل العالم كله كالجبار!

الخطايا والذنوب والأوجاع والآلام والضربات ضُفرت بالإكليل، ووُضعت على رأسه ليحملها!

وانحلت بالأشواك لعنة آدم!

صار لعنة، حتى يتبارك به الوارثون الراجعون.

بإكليله خلع زرع الحية الملعون!

بإكليل شوكه ولعنة الأرض التي قتلت الأجيال… أزال لعنة آدم وعرقه!

بإكليل الشوك هدم تاج الشيطان الذي أراد أن يكون إلهًا على الخليقة!

بإكليل شوكه ضفر إكليلًا لابنة الأمم، العروس التي خطبها من بين الأصنام وكتبها باسمه!..

..ضُرب المخلص العظيم بالمقارع، وبالحكم الصادر من الحاكم خرج ليصلب!

أتى إلى خاصته، وخاصته لم تقبله، بل أخرجوه بالهزء من عندهم!

خرج ليموت مع الأثمة بغير زلةٍ، حينئذ ندم يهوذا – السراج الذي انطفأ من بين أصحابه – وخزي من الفعل الشرير الذي صنعه.

الذي أسلمه رد الفضة للذين امسكوه حيث ازدرى بنفسه، واعترف أنه أسلمه بالشر.. وأيضًا هرب الصالبون كأنهم غير قريبين، وقالوا: ما علينا أنت تعرف.

الدم الزكي طرح الرعب على من سفكوه، وبدأوا يرتعبون ويرتعشون منه قبل أن يهرقوه!..

.. سحق بصليبه الحية العظيمة التي خدعت أمنا…

طرد الكاروب الذي كان حارسًا شجرة الحياة، وقبل الرمح في جنبه، ليدخل الورثة الذين خرجوا.

فتح الفردوس الذي كان مُغلقًا أمام الداخلين، ورد للمطرودين ميراثهم وحدودهم.

أدخل اللص، وصار الرجاء لبيت آدم.

فُتحت المراحم للخطاة وردتهم.

غلق الهاوية وترس أبوابها التي كانت مفتوحة.

أبهج الجنة بفتح أبوابها المغلقة!

جازت الأزمنة الشريرة التي كانت لبيت آدم،

وجاءت الأزمان الصالحة لكي يرث الذين كانوا مطرودين.

محا الصك العظيم الذي كتبته حواء أمنا،

هذا الذي كتبته الحية في الجنة بهزيمة آدم…

قبل أن يفي كل دينٍ على آدم…

من أجل هذا جاء، وصار منا، وحمل موتنا لأنه جعلنا أن نكون منه.

صار مثلنا لما تنازل وصار بجوارنا، وجعلنا مثله هناك في مكان أبيه.

أعطى الصحة، وحمل هو أوجاع المضروبين.

افتقد المرضى واحتمل الآلام من الصالبين…

قتل التنين الذي أكل آدم التراب …

وأعطى حواء حلة المجد التي كانت ترتديها، هذه التي سرقتها الحية منها بين الشجر.

أخذ من آدم ثوب الورق المفضوح، وأعطاه عوضًا عنه لباس المجد الذي تعرى منه.

ها هو عمانوئيل معنا كما كرز به، ونحن معه لنحيا بحياته، له المجد دائمًا.

 

 

عظات آباء وخدام معاصرين – يوم الجمعة العظيمة من البصخة المقدسة

العظة الأولى

نفوس مضيئة في جو مظلم للمتنيح البابا شنودة الثالث[54]

على الرغم مما ظهر يوم الجمعة الكبيرة من خيانة وتآمر في جانب، وضعف وخوف وإنكار في جانب آخر. وعلي الرغم مما ظهرت به البشرية في قسوتها التي سيطر عليها سلطان الظلام، إلا أنه كانت توجد في هذا اليوم نفوس مضيئة، نذكرها بكل فخر في هذا اليوم ونحييها.

نحيي أولًا أولئك الذين وقفوا إلى جوارالصليب مع السيد المسيح ، وثبتوا معه إلي آخر لحظة في قصة الصلب.

١. نحيي القديسة العذراء مريم.

٢. وأختها مريم زوجة كلوبا .

٣. والقديس يوحنا الحبيب .

٤. والقديسة مريم المجدلية.

هؤلاء الذين رافقوا المسيح حتى الصليب، ولم يتخلوا عنه في أحرج أوقاته. لا خافوا من بيلاطس، ولا من هيرودس، ولا من حنان وقيافا ، ولا من الجند، ولا من كل القوى الثائرة وجمهور الشعب الصاخب الذي قال أصلبه أصلبه..

يقول الإنجيل المقدس “وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ” (يو ١٩ :٢٥) وقفت هؤلاء النسوة القديسات معه إلى جوار صليبه، وليحدث ما يحدث. وقفن معه في ألمه وضيقه وصلبه.. ليس في وقت صنعه المعجزات، إنما في وقت ظن فيه الرومان واليهود أنه قد هُزم، وأنه في ضعف، وأنه لم يستطيع أن يخلص نفسه، وأن المجتمع اليهودي قد استطاع أخيرًا أن يتخلص منه..‍

وقف هؤلاء النسوة القديسات معه بكل القلب وكل الحب، ومعهن يوحنا الحبيب، في أثناء تعيير الناس له، واستهزائهم به واعتدائهم عليه، وفي أثناء تسميره على الصليب. وكن معه في كل آلامه.. قلوبًا مخلصة محبة إلى جواره.. لم يزعزع إخلاصها زوال مجده، أو ما يظنه اليهود من زوال مجده. إن حبه هو الذي يربطهم به،وليس المجد..

٥. وبالمثل نحيي باقي النسوة القديسات..

أولئك الذين قيل عنهم في الإنجيل “وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضًا وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ” (لو ٢٣: ٢٧) وأيضًا “وَكَانَ جَمِيعُ مَعَارِفِهِ، وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ الْجَلِيلِ، وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذلِكَ” (لو ٢٣: ٤٩). وقد قال القديس متى الإنجيلي عن هؤلاء النسوة “وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ الْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ، وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي، وَأُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي” (مت ٢٧: ٥٥، ٥٦). وقد ذكرهن أيضًا مرقس الرسول (مر ١٥: ٤٠، ٤١). نحيي كل هؤلاء النسوة فيما أظهرنه من حب ومن إخلاص، وفي كل خطوة خطونها وهن يتبعن المسيح. ونحيي أيضًا النسوة اللائي أخذن الأطياب وذهبن الى قبره. وهن يعرفن أنه مغضوب عليه من رؤساء الكهنة ومن الشيوخ ومن الكتبة والفريسيين، ومحكوم عليه من الدولة.. وبطرس نفسه خاف وأنكر أمام جارية. أما هؤلاء النسوة فأظهرن مشاعر الحب من نحوه في أحلك الأوقات، وليكن ما يكون.

إن الحب إن كان عميقًا، لا يبالى بالخوف. وقد ظهر وفاء النسوة للسيد المسيح في الوقت الذي تخلي فيه الجميع عنه. تحية لكل واحدة منهن..

نحيي أيضا القديس يوسف الرامي

هذا الذي – في ذلك الوقت العصيب – “تَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ” (مر١٥: ٤٣).. وأخذه “أَنْزَلَهُ، وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ.. وَوَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ الْجَدِيدِ الَّذِي كَانَ قَدْ نَحَتَهُ فِي الصَّخْرَةِ، ثُمَّ دَحْرَجَ حَجَرًا كَبِيرًا عَلَى بَاب الْقَبْرِ” (مت ٢٧: ٦٠؛ لو٢٣: ٥٣). موقف يوسف الرامي كانت فيه شهامة ورجولة.. ما أكثر الذين ساروا وراء المسيح في مجده، ولكننا في ألمه لم نبصر أحدًا منهم فكأنهم كانوا يتبعون المجد وليس الشخص..

أما يوسف الرامي، فذهب إلى بيلاطس الوالي الروماني، ليطلب منه جسد إنسان حكم عليه بيلاطس، وأسلمه للموت، وصلبه اليهود خارج المحلة لئلا ينجس المحلة، وكان رؤساء الكهنة يتتبعون أنصار هذا المصلوب ليفتكوا بهم، حتى هرب التلاميذ واختفوا. أما يوسف فلم يهرب، ولم يختف. وإنما “تقدم إلي بيلاطس وطلب جسد يسوع”. هذا النبل يهزالنفس من الداخل. وبهذه المناسبة، نذكر كلمات جميلة قالتها الأناجيل عن يوسف الرامي:

قال عنه القديس لوقا الإنجيلي: “وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ يُوسُفُ، وَكَانَ مُشِيرًا وَرَجُلاً صَالِحًا بَارًّا. هذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقًا لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَهُوَ مِنَ الرَّامَةِ Rama مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ وَكَانَ هُوَ أَيْضًا يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ اللهِ” (لو٢٣: ٥٠، ٥١).

وقال عنه القديس مرقس الرسول: أنه كان “مُشِيرٌ شَرِيفٌ… مُنْتَظِرًا مَلَكُوتَ اللهِ” (مر١٥: ٤٣).

وقال عنه القديس متى الإنجيلي “وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ، جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ الرَّامَةِ اسْمُهُ يُوسُفُ، وَكَانَ هُوَ أَيْضًا تِلْمِيذًا لِيَسُوعَ” (مت ٢٧: ٥٧)..

هنا ظهرتلاميذ يسوع الحقيقيون، الذين في قلوبهم حب وشجاعة. والذين لم يهزهم الخوف في وقت هز فيه الكثيرين..

والعجيب أن الأناجيل لم تكن قد ذكرت أسم يوسف الرامي من قبل لكنه ظهر في الوقت المناسب ليعمل عملًا لم يجرؤ عليه أحد.

نحيي في هذا اليوم أيضًا في هذا اليوم أيضًا نيقوديموس:

نيقوديموس الفريسي وعضو مجمع السنهدريم الأعلى، هذا أيضًا جاء واشترك مع يوسف الرامي في تكفين جسد المسيح. ويقول في ذلك القديس يوحنا الإنجيلي “وَجَاءَ أَيْضًا نِيقُودِيمُوسُ، الَّذِي أَتَى أَوَّلاً إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً، وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَنًا. فَأَخَذَا جَسَدَ يَسُوعَ، وَلَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ مَعَ الأَطْيَابِ” ودفناه (يو١٩: ٣٩- ٤٢).

كان في موقفه خطورة، لأنه عضو في مجمع السنهدريم الذي حكم على المسيح ظلمًا، وهو لم يكن موافقًا لهم. ولكن لسان حال نيقوديموس يقول: سأعلن تبعيتي للمسيح، حتى وهو ميت في نظر الناس ومصلوب ومحكوم عليه وقد أحصي مع الأثمة. أنا لا أتخلى عنه في هذا الوقت، بل أعلن تبعيتي له، متحملًا كل نتائج هذا العمل.

حقًا إنها نفوس كريمة نبيلة، أضاءت في هذا اليوم.. لو إن المسيح جاء الآن بيننا وأقام ميتًا، لكنا نري الآلاف تصرخ وتقول كلنا أتباع المسيح. أما أن يكون المسيح مصلوبًا كأثيم، وقد مات ثم يأتي واحد من الرؤساء ويقول أنا من أتباعه ويأخذ جسده ويكفنه فهنا النبل والرجولة والحب، وهذا ما فعله يوسف الرامي ونيقوديموس والنسوة. نحيي هذه النفوس المضيئة في هذا اليوم،

ونحيي معها القديس سمعان القيرواني:

هذا الذي لما وقع المسيح تحت ثقل الصليب في يوم الجمعة الكبيرة جاء سمعان القيرواني هذا وحمل الصليب عنه.

فاشترك مع المسيح في حمل الصليب (لو٢٣: ٢٦).

المسيح الذي يقول “تعالوا إلي يا جميع المتعبين وأنا أريحكم”، لما كان في تعب بالجسد، سمح لهذا القديس أن يأتي ويريحه.. “ويدخل في شركة آلامه”.

هنا ويصمت القلم. لا يجسر أن يقول أكثر..

نحيي في هذا اليوم أيضًا، رجلًا امميًا هو قائد المئة (القديس لونجينوس).

هذا الرجل Saint Longinus الذي هو مرتبط بالعسكرية وأحكامها، وهو إنسان له صفة رسمية في الدولة، ومكلف من الوالي الروماني بحراسة هذا المحكوم عليه بالإعدام والمنفذ فيه الحكم.. شهد هذا القائد عن المسيح أمام الجميع ومجد الله قائلًا “بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هذَا الإِنْسَانُ بَارًّا” (لو٢٣: ٤٧). وقال أيضًا “حَقًّا كَانَ هذَا ابْنَ اللهِ” (مت ٢٧: ٥٤)؛ (مر١٥: ٣٩).

وقد آمن هذا القائد فيما بعد وصار شهيدًا. والكنيسة تذكره في السنكسار cunaxarion في يومين هما:

أ‌-   ٢٣ أبيب: عيد استشهاد القديس لونجينوس قائد المئة (قطع رأسه).

ب‌- ٥ هاتور: عيد ظهور رأسه المقدسة.

تحية لهذا القديس، كنفس مضيئة أنارتها النعمة في هذا اليوم، وتحية لشهادته عن السيد المسيح. إننا نحييه إلى جوار الصليب.

ونحيي معه على الصليب: اللص اليمين:

إنه قديس آخر بين القديسين، يكفيه أن الرب قد قال له “الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ” (لو٢٣: ٤٣). هذا اللص كان يُعيِّر السيد المسيح مع زميله، كما ذكر القديسان متي ومرقس (مت ٢٧: ٤٤)؛ (مر١٥: ٣٢). ثم عملت النعمة، وبدأ قلبه يتغير وهو على الصليب.

فلما رأى زميله يجدف على المسيح “وَانْتَهَرَهُ قَائِلاً: أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟. أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل (جوزينا)، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ” (لو٢٣: ٤٠، ٤١). ولم يكتف بهذا أنه اعترف بخطاياه وباستحقاقه للموت، موبخًا لزميله، ومدافعًا عن السيد المسيح، إنما اعترف أيضًا بالسيد المسيح ربًا وملكًا وقادرًا على أن يخلصه، فقال له “أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك”. وهكذا آمن واستحق الخلاص.

ومات مع المسيح، فاعتبر موته هذا معمودية له.

نحييه في هذا اليوم الذي أنكر فيه التلميذ، واعترف اللص.

نحييه لاستجابته لعمل النعمة وإيمانه، علي الرغم من رؤيته للمسيح في آلامه مصلوبًا معه ومعيرًا من الجميع..

إن الكنيسة تلقب هذا القديس باللص الطوباوي، وتحييه في طقس الجمعة الكبيرة بمديح طويل ولحن (أمانة اللص اليمين).

إنه من النفوس المضيئة في الفردوس علي الرغم من أن لقب “لص” سيظل يتبعه وهوفي ظل القديسين في فردوس النعيم. ولكنه لص استطاع أن يسرق الفردوس في آخر لحظات حياته.

 

 

 

العظة الثانية لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

الصليب حياتنا وفرحنا – لقداسة البابا تواضروس الثاني [55]

كانت الخليقة من أجل البشر .. وجاء المسيح من أجل البشر .. ثم كان الصليب من أجل البشر ..

إنه “إبداع إلهي” حباً في الإنسان لذاته. وصار لنا في الصليب طريقان :

طريق نازل بالحب للإنسان .

وطريقة صاعد بالشفاعة الكفارية لله

ولنا ثلاثة أسئلة :

أولاً: هل كان الصليب حادثاً عارضاً في حياة السيد المسيح؟.. بالطبع “لا” فالمسيح والصليب لا يفترقان وكل منهما يستدعى الآخر. فالصليب أمر واقع في حياة المسيح منذ البداية.

لقد ولد في “مذود” وكأنه يعد للذبح.

دُعى “يسوع” وهو اسم يعني “يخلص” شعبه من خطاياهم .

وفى عمر الأربعين يوماً عندما قدم إلى سمعان الشيخ، قال: “لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك” (لو٢)

وفى بدء خدمته الجهارية؟ قال عنه المعمدان: “هوذا حمل الله الذى يرفع خطية العالم” (يو١).

وفى أول معجزاته في عرس قانا الجليل، قال لأمه “ما لي ولك يا امرأة؟ لم تأتي ساعتي بعد” (يو٢: ٤).

وقيل عنه في حياته وبعد الصليب :

إنه قد جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك. (مت ١٨: ١١) .

لم يأت ليخدم بل ليخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مت٢٠: ٢٨) .

قال الرب يسوع: “انقضوا هذا الهيكل، وفى ثلاثة أيام أقيمه” (يو2: ١٩) .

قال الرب يسوع: “لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا” (مت٢٦: ٢٨) .

قال عنه بولس الرسول: “أما من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم” (غلا ٦: ١٤) .

هكذا كان الصليب حاضراً مختلطاً في كل حياة المسيح، وامتد بعد ذلك في حياة الكنيسة، وهكذا حتى المجئ الثاني .

 

ثانياً: لماذا كان موت السيد المسيح بالصليب بالذات، وليس بأية وسيلة أخرى؟

يجيب القديس أثناسيوس على هذا السؤال في عدة أسباب يمكن أن نوجزها فيما يلي:

موت الصليب كان علناً وليس سراً: فكان أمام أعين الكل من يهود وأمم وتلاميذ ..

موت الصليب يترك علامة هي “علامة الصليب”: وصار فخر ونصرة للمسيحيين.

موت الصليب بدون فصل أو تقسيم للجسد: ليس مثل يوحنا المعمدان يقطع الرأس مثلاً بل حفظ الجسد صحيحاً ليتمم قول الكتاب: “عظم لا يكسر منه” (يو١٩: ٣٦) .

موت الصليب فيه “لعنة” يحملها: لأنه مكتوب “ملعون من علق على خشبة” (غلا٣: ١٣)، فالخطية تجلب اللعنة والموت .

موت الصليب فيه مصالحة ببسط الذراعين: كان الموت من أجل الجميع، وبالذراعين اجتذب الشعب القديم: اليهود، والشعب البعيد: الأمم. ووحد الأثنين في شخصه .

موت الصليب في الهواء ليغلب رئيس سلطان الهواء: الشيطان هو كروب سقط من رتبته والملائكة أرواح … سماه بولس الرسول “رئيس سلطان الهواء” (أف٢: ٢) لذا مات المسيح معلقاً في الهواء لكى يطهر الهواء ويهزم الشيطان في موضع رئاسته .

موت الصليب بين السماء والأرض ليفتح الطريق بينهما: بهذه الطريقة يرفع أنظارنا نحو السماء ومجدها … لقد كان الطريق مغلقاً بسبب الخطية والصليب هو طريق السماء لذا لم يكن موت المسيح:

بالمرض مثلاً

او بالهرب والاختفاء

أو بتجنب عار الصليب

 

ثالثاً: ما هي علاقة الصليب بالمجد السماوي؟

نحن نحتفل بالصليب المقدس ثلاث مرات حسب الترتيب الزمنى :

١. يوم ١٠ برمهات ( ١٩ مارس )

٢. يوم الجمعة العظيمة – يوم الجلجثة .

٣. يوم ١٧ توت ( ٢٦ / ٢٧ سبتمبر)

ومن الملاحظات الجميلة أننا نحتفل “بعيد التجلى” مرة واحدة في ١٣ مسرى (١٩ أغسطس). فكأن الصليب (بأعياده الثلاثة) يمثل مراحل حياتنا: بداية العمر – أواسط العمر – أواخر العمر، أما التجلي والمجد السماوى فهو “واحد” في النهاية

قبل التجلى :

١- لقاء قيصرية فيلبس (مت١٦: ١٣).

٢- اعتراف بطرس (مت١٦: ١٦).

٣- التلمذة: ينكر نفسه / يحمل صليبه / يتبعنيي (مت١٦: ٤).

بعد التجلى :

١- لقاء زكا في أريحا (لو١٩) .

2- إقانة لعازر (يو11).

3- دخول أورشليم (مت21: 10)

وبمقارنة التجلي بالصليب نجد مفارقة عجيبة:

التجلي الصليب
على جبل طابور على جبل الجلجثة.
معه ٣ تلاميذ معه ٣ تلاميذ.
حديثه مع موسى وإيليا عن خروجه العتيد. الحدث نفسه أنه مصلوب لأجل العالم.
يأتي التجلي أولاً (١٣ مسرى). بعد ٤٠ يوماً يأتي عيد الصليب (١٧توت)

 

 كما يقول القديس بولس الرسول: “إنى أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا” (رو٨: ١٨) .

الصليب ساعة حب

ينقسم التاريخ في الكتاب المقدس إلى عصور وسنين وشهور وأيام وساعات فمثلاً:

ساعة الدينونة: الساعةً الخفية على البشر.

ساعة الحصاد: أي الأنتصار (رؤ١٤: ١٥).

الساعة الأخيرة .

ساعة الاستيقاظ من النوم.

نقرأ مثلا لقد اقتربت الساعة (مت٢٦: ٤٥) .

ساعة المرأة (يو١٦: ٢١) .

ساعة العدو (الأنتصار الظاهرى للظلام) (لو22: ٥٣) .

وهناك أيضاً “ساعة المسيح” وهي: ساعة الصلب . ساعة الخلاص . ساعة الحب.

في المعجزة الأولى في عرس قانا الجليل يجيب السيد المسيح على أمه العذراء مريم: “ما لى ولك يا امرأة؟ لم تأتي ساعتي بعد” (يو٢: ٤)

وعقب معجزة إقامة لعازر بعد ٤ أيام في القبر يجيب تلاميذه: “لقد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان. الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهى تبقى وحدها”. (يو١٤: ٢٤). “ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير… لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة…” (يو١٢: ٢٣– ٢٧).

ولكن ماهى أعظم كلمات الكتاب المقدس؟

الأجابة هي: “أنت

وما هي أعظم عبارات الكتاب المقدس؟

الإجابة هي “الله محبة“. “محبة أبدية أحببتك من أجل ذلك أدمت لك الرحمة” (إر٣١: ٣)  “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو٣: ١٦) “الله محبة ومن يثبت في المحبة، يثبت في الله والله فيه” (١يو٤: ١٦) .

الحب هو الملكوت” (مار إسحق السرياني).

ماذا فعلت “المحبة” في الله؟

١- جعلته يخلقنا في فردوس رائع الجمال .

٢ – دفعته ليضع الوصايا العشر في يد موسى .

٣- أرسل الأنبياء واحداً تلو الآخر .

٤- وأخيراً أرسل ابنه الوحيد .

٥ويصلى من أجل صالبيه  .

٦  –ويذكر لصاً يطلبه .

٧ويقوم من القبر …

وهل خطايانا تقلل من حبه لنا؟

بالطبع لا

وتعالوا نسأل: تلميذه بطرس الرسول- تلميذه توما الرسول- المرأة السامرية- المرأة الخاطئة- زكا العشار.

وأخيراً … كيف ظهرت محبة الله في ساعة الصلب؟

ظهرت هذه المحبة في صور عديدة نراها في كلمات المسيح ساعة الصليب :

ظهرت في صورة “الغفران” للأعداء: “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو٢٣: ٤٣) .

ظهرت صورة “القبول” للغريب الطالب منه: “أذكرنى يا رب متى جئت في ملكوتك”، بإجابته: “الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس” (لو٢٣: ٤٢– ٤٣).

ظهرت في صورة “احتمال الآلم” لنفسه: “إلهي، إلهي لماذا تركتني” (مت٢٧: ٤٦) .

ظهرت في صورة “الاحتياج / الاتضاع“: “لكى يتم الكتاب قال أنا عطشان” (يو١٩: ٢٨).

ظهرت في صورة “تكميل العمل“: “فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أكمل” (يو١٩: ٣٠) .

ظهرت في صورة “الخلاص والموت“: “يا أبتاه، في يديك أستودع روحي” (لو٢٣: ٤٦). وكانت شهادة قائد المئة الواقف مقابله بعد أن صرخ هكذا وأسلم الروح، قال: “حقاً كان هذا الإنسان ابن الله” (مر١٥: ٣٩).

تدريب :

إن اردت أن تتعلم المحبة الأصلية وصورها العديدة فانظر إلى ساعة الصليب وكلمات السيد المسيح السبع ففيها ستجد صورة المحبة التي تستطيع أن تقتنيها، فيكون لك المسيح في حياتك وتكون قد شابهت سيدك… وهذه هي المحبة: الغفران– القبول– الوفاء– الاحتمال– الاحتياج– التكميل– البذل حتى الموت .

الصليب والوصية الصعبة

ما أعجب هذا اليوم الذى لا مثيل له في تاريخ البشرية. فالصليب لم يكن حادثاً حدث وانتهى، بل هي حادثة استعدت لها كل الأزمنة السابقة لها، وحملتها كل الأجيال اللاحقة…. كان المشهد غريباً وعجيباً في ذلك الصباح :

خالق الشجرة تنقلب ضده وتصير صليباً

خالق الحديد ينقلب ضده ويصير مسامير .

خالق الزهور تنقلب ضده وتصير شوكاً

خالق الإنسان ينقلب ضده ويصير جلاداً وصالباً لإلهه…

ومع كل هذا تنسكب من المسيح على الصليب هذه الكلمات: “يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”.

كان الجو المحيط بالصليب كئيبًا وصاخباً وكان المصلوبان معه يتحولون إلى الجنون، فكانا يصرخان، وأنين الموت لا يفارقهما وكانا يلعنان، بل سخروا وطلبا آيه من السماء وقالا للمسيح: خلص نفسك… لكن إجابته كانت غير متوقعة، فقد طلب قائلاً: “يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”.

إن المسيح عندما عُصر على الصليب انسكب منه ما هو كان في داخله :

الله الغافر: وكأن المسيح مثل الأشجار العطرية التي تغرق الفأس الذى يقطعها بالطيب والعطر… حقاً: كانوا لا يعلمون ماذا يفعلون… لقد قال لهم بيلاطس أن يسوع لم يصنع شيئاً يستوجب الموت.

ولم يكونوا يعلمون أنهم يقتلون في الحقيقة ابن الله… إنهم “لو عرفوه لما صلبوا رب المجد” (١كو٢: ٨)

إن الصليب هو العلامة المنظورة للمسيحية. ولما وجد الصليب وجدت المحبة.

أولاً: الصليب يختصر حياتنا العقيدية في بعدين :

١هو قوة الله للخلاص أو سر الخلاص بذبيحة المسيح الممتدة عبر الزمن .

٢هو الطريق الوحيد لبلوغ القيامة وأمجاد السماء والملكوت الأبدى.

ثانياً: الصليب يختصر حياتنا الروحية في أمرين :

١مع المسيح صلبت = جحد الذات وقبول الضيق والآلم حباً فيه .

٢حاشا لى أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذى قد صلب العالم لي وأنا للعالم .

ثالثاً: الصليب يختصر حياتنا السلوكية في وصيتين:

١ – وصية محبة الله بلا حدود “محبة الخير”.

٢وصية محبة الناس كالنفس “محبة الغير”.

فلنقدم الشكر للرب لأنه إذا كان قد تبنى قضيتنا، فلذلك لكي يكتسب لنا النصرة.

إن الحكمة عندنا هي جهالة الإنجيل .

القوة عندنا هي ضعف الجسد.

والمجد عندنا هي عار الصليب .

هل تتبع المسيح حاملاً الصليب الذى طرد الشياطين ويقوى العقل والضمير وهو داء للغضب والشهوة وهو مقدار حب المسيح لك؟

مسيحيتنا صليب .. ومسيحنا مصلوب

جاء يوم الصليب… أعظم أيام البشرية، حيث نحتفل معاً بشعارنا المقدس “الصليب

البعض يأخذ من النباتات شعاراً مثل: شجرة الأرز في لبنان .

والبعض يأخذ من الحيوانات شعاراً مثل: النسر أو الأسد .

والبعض يأخذ من الطبيعة شعاراً مثل: الشمس أو النجوم .

أما نحن فشعارنا: الصليب، ومسيحنا مصلوب عليه. يا للعجب … !!

كان الصليب أكبر علامة للعار وهو الوسيلة المتاحة لإعدام العبيد وأحط المجرمين. والآن … صار أغنى علامة في حياة الإنسان. مثلاً: عندما نرشم الصليب: الثلاثة أصابع (الإبهام والسبابة والأوسط) وهى منضمة معاً من أعلى القمة تمثل الثالوث الأقدس: الآب الذى خلقنا .والابن الذي فدانا. والروح الذى يقدسنا. ثلاثة أقانيم في إله واحد الثالوث القدوس.

في كل مرة نرشم الصليب نتذكر من هو الله؟ وماذا فعل لأجلنا؟ وما هو الثمن الباهظ الذى دفعه لأجل أن يخلصنا.

وفى كل مرة نرشم الصليب على جبهتنا ثم على صدرنا ثم الكتف الأيسر ثم الأيمن: إنما هو تعبير عن محبتنا لمسيحنا من كل الفكر والقلب وكل النفس وكل القدرة (مر١٢: ٣٠).

وكل مرة نرشم فيها الصليب هي تعبيراً عن خضوعنا تحت سلطان الله.

هذه هي علامة الصليب بكل ما فيها من عقائد وتعاليم: (الثالوث – التجسد – المحبة – تسليم الحياة للمسيح). إنها صلاة الجسد مع الروح … الإنسان كله لله.

ما هي الحقوق التي حصلنا عليها بهذه العلامة المقدسة؟

حق الأقتراب إلى الله والتصالح معه:

كانت هناك عداوة مزدوجة هي:

عداوة بين الإنسان والله، وقد بدأت بعصيان آدم على الله (تك ٣).

عداوة بين الإنسان وأخيه الإنسان، بدأت بقيام قايين على أخيه هابيل. (تك ٤).

حتى في الهيكل كان هناك “حجاب” يفصل قدس الأقداس أي مسكن الله عن القدس. وكان هناك حاجز يفصل بين أروقة اليهود ورواق الأمم. وجاء الصليب بالعارضة الرأسية يزيل العداوة الأولى. وبالعارضة الأفقية يزيل العداوة الثانية. وصار قوة مصالحة تبتلع كل عداوة وتعطى الحق لكل إنسان في الأقتراب إلى الله، عاملاً الصلح بدم صليبه” (كو١: ٢٠) .

حق التحرر من قيود الخطية:

الخطية  هي كسر الوصية الإلهية، ولكنها أيضاً هي كسر قلب الله. فالإنسان الخاطئ محروم من لذة الشعور بالخلاص، فحياته غنيمة سهلة في يد العدو. والخطية تمتص دماءه وحياته كل يوم.. وتبتز هدوء قلبه.. وتأكل مسرته وأفراحه، ويقول إشعياء النبي: “كثوب عدة (ملوث) كل أعمال برنا” (إش٦٤: ٦).

مع الخطية لا سلام ولا غفران ولا حرية. أما دم المسيح على الصليب فهو يشفى ويعافى.

حق التمتع بنعمة الخلاص المجانية :

مازال الصليب نبع فياض للنعمة المجانية لكل من تعثر وسقط وجاء تائباً “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو٣: ١٦). في كل مرة نتناول نسمع هذه الكلمات: [… يعطى عنا خلاصاً وغفراناً للخطايا وحياة أبدية لكل من يتناول منه]. وكما قالت القديسة مريم العذراء وقت الصليب: “أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص، وأما أحشائي فتلتهب عند نظري إلى صلبوتك الذى أنت صابر عليه من أجل الكل يا ابني وإلهي”.

هذا هو الصليب الذى ضم فيه ما يسميه القديس غريغوريوس النيصي: “انبثاقات الصليب الأربعة” (أف٣: ١٨)

كل ما هو فوق.

كل ما هو تحت.

كل ما هو ممتد يميناً .

كل ما هو ممتد يساراً.

ويعبر عن ذلك: “لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه. كبعد المشرق من المغرب أبعد عنا معاصينا” (مز١٠٣: ١١، ١٢).

ولكن كيف نستجيب لهذا الصليب وهذا الحب؟

إن أروع أستجابة هي أن نلتقط الصليب ونحمله خلف المسيح مثلما صنع: سمعان القيرواني، بطرس ويعقوب ويوحنا الذين كرزوا في الأسواق، بولس أُضطهد وقُتل، وشهداء المسيحية في كل العصور.

 

 

العظة الثالثة لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

الصلب – للمتنيح أنبا أثناسيوس مطران بني سويف والبهنسا [56]

(مت ۲۷: ۳۲– ٥٦)

وفي طريقهم وهو حامل الصليب، سَخّروا رجلاً اسمه سمعان القيرواني ليحمل معه الصليب، وكان ذلك رمزًا إلى أنه على الرغم مع أن الرب يقبل الصليب بإرادته، إلا أنه علينا نحن أيضًا أن نشترك معه “من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني” (مت۱۰: ۳۸). وكانوا يعطون للمتألم خلًا ليُخَدِّره لكنه لم يشرب.

(آية ٤٠): “إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب” – وكثيرًا ومازال العالم يقول هذا القول للسيد المسيح. قاله له الشيطان في التجربة “إن كنت ابن الله فقل أن تصير الحجارة خبزًا” و “إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل” (مت٤)، أما هو فبين في رده أنه وإن كان يقيم الخبز من لا شيء إلا أنه لا يفعل ذلك لتحدي الشيطان وهو قادر أن يحيا دون خبز.

وإن كان العالم ينكره فإنه لا يعمل شيئا بانفعال للرد على التحدي بل كل ما يعمله بحكمة من أجل خلاص البشر .

(آيه٤١، ٤٢): قال الرسول بولس إلى أهل كورنثوس “نحن نكرز بالمسيح يسوع مصلوبًا، لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة. وأما للمدعوين يهودا ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله” (1کو۱: ۲۳، ٢٤).

والرب لم ينزل عن الصليب، بل ثبت عليه لكي يكمل فداءنا، ولم يعمل حسب طلب الشيطان لأنه فوق الخطية ولكي يكون قدوة لنا، ونحن إن ثبتنا فيه يموت شرنا ويحيا بر الرب فينا .

كان لصان يعيرانه: (أية ٤٤)

أما انجيل لوقا فذكر أن أحدهما آمن به وقال: “أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك” (لو۲۳: ٤٠- ٤٣). وهذا يعني أن اللص عيَّره أولًا، ثم ندم سريعًا، وعلى أي حال فلقد تاب في آخر لحظة من حياته، ولم يكن أمامه أي أمل في الحياة.

فالتوبة الصادقة مقبولة في أي وقت من العمر .

( أية ٤٦ ) : لقد ذكر متى الآية بنصها العبراني مثلما نطق بها الرب. وهذه هي الآية الأولى في مزمور ۲۲ الذي ورد فيه “أحاطت بی ثيران كثيرة.. كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع، ذاب في وسط أمعائي، يبست مثل شقفة قوتي، ولصق لساني بحنکي.. ثقبوا يديَّ ورجليَّ .. يُقسِّمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون”، ولعله كان يقصد أن يُذكِّرهم بأول المزمور حتى يدركوا أن الحادث الذي أمامهم بتفصيلاته، هو ما ورد بالنبوة على لسان داود، فيؤمنوا.

وها نحن نرى الرب لا يهمل خلاص النفس في أي ظرف من الظروف !.

(اية ٥١): لقد سبق أن مزق رئيس الكهنة ثيابه في (مت٢٦: ٦٥) كدليل على نهاية الكهنوت اليهودي.

ثم انشق حجاب الهيكل دليلا على انتهاء عهد الذبيحة اليهودية، وها هي الظلمة تعم الأرض اعترافًا من الطبيعة بلاهوته .

(أية ٥٢): “تفتحت القبور وقام الراقدون” لأن الحياة بالفداء، ولكنهم لم يدخلوا المدينة إلا بعد القيامة لأن القيامة تمام الفرح. فالصلب فداء، والقيامة هي الحيوية.

الدفن والقبر: (مت ٢٧: ٥٧- ٦٦)

جاء يوسف الرامي أحد التلاميذ وجاء أيضا نيقوديموس (يو ۱۹: ۳۹) وتقدما وطلبا الجسد ولفاه في كتان مع أطياب ووضعوه في قبر كان يوسف قد نحته لنفسه، ولم يدفن فيه أحد. وهذا أيضا رمز لعدم استعمال المقدسات للرب استعمالًا آخر.

أنظر ما هو مكتوب حول (مت ۲۱: ٥) .

وهنا يذكر التقليد أن يوسف ونيقوديموس كانا يرددان عند الدفن: قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الحي..

أما رؤساء الكهنة فضبطوا القبر وعينوا حراسًا عليه.

(يوحنا ١٩: ١٧-٣٤)

(۱۷:۱۹ – ۲۲) ملك اليهود

صدر الحكم بالإعدام على يسوع بتهمة باطلة أنه ثائر ضد قیصر مطالب بملك اليهود. وكتب سبب الحكم باللغات الثلاث التي كانت مستعملة في فلسطين: العبرانية للشعب، واليونانية لغة الثقافة، واللاتينية لغة الحكام.

وحاول اليهود أن يغيروا هذه الكتابة لكن بيلاطس رفض وهكذا سُميَّ عند ولادته “ملك اليهود” (مت۲: ۲) وعند صلبه أيضًا. وجاء ليقيم الملكوت الإلهي وتجسد من أجل هذا الغرض ومات من أجله وأتمه.

(يو ١٩: ٢٨-٣٧)

ترى هل يليق بقلم خاطئ أن يسطر شيئا عن تصوير هذا الحادث،.إله الطبيعة الذي يشبع كل حي من خيره يقول أنه عطشان.

إنه كان عطشانًا من شدة ما قاسى لأن الجسد يحتاج إلى الماء ولكنه يقاسي بإرادته ولذا يرفض أن يشرب الخل ليخفف عنه الآلام.

لقد أكمل كل الدين وصعدت روحه الإنسانية إلى فوق غير أن لاهوته لم يفارقها قط، كما أن ناسوته لم ينفصل عن لاهوته قط .

خرجت النفس البشرية، غير أن اللاهوت ظل مرتبطًا بالناسوت بشقيه إرتباطا كاملًا .

ماكانت ظلمة الشمس وزلزلة الأرض إلا صورة بسيطة لما حدث في الكون من اضطراب. وما كان تشقق الجبال وتفتح القبور وقيام الراقدين إلا صورة للحياة الأبدية التي فتح بابها للبشرية.

لقد إرتعدت السماء وأهتزت الملائكة وكانوا يفضلون أن يغوصوا إلى أعماق الفناء على أن يشهدوا ما حدث.

ولولا أنه ضابط لكل شيئ، لفنى الكون المخلوق كله إلى لا شئ في تلك اللحظة .

غير أنه صاحب ذلك الإرتعاد سرور غامر لأن أبواب الجحيم فتحت وخرجت نفوس قديسين كثيرين كانوا أسرى ذلك الإنتظار.

فما كادت الرعدة تأخذ الجمع حتی سرت فيهم هزة فرح لا يقدر. ودوت في الكون أنغام التمجيد للإله القدوس الذي عمل كل هذا متفاعلا مع خليقته وواهبًا إياها الحياة بعد الموت.

فليس الإله متعاليًا على الخليقة ولا منفصلا عنها، بل هو فاعل فيها، فتبزغ من العدم وتحيا من الموت وتتغير بالتمام بتفاعله معها في الداخل. أين شوكتك ياموت. أين غلبتك ياهاوية .

آیه ۳۱: كان الاستعداد أى كان يوم الجمعة لأنه كان يسمى كذلك، اذ هو الإستعداد للسبت الأسبوعي.

آیه ٣٤: دم وماء:

هذا هو الدم المطهر. إنه “بدون سفك دم لا تحصل مغفرة” (عب ٩: ٢٢) وهو الذي وقف في الهيكل وقال: “من آمن بی کما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي” (یو۳۸:۷) هو الذي رمزت له الصخرة القديمة التي أعطت ماء للشعب فشربوا في البرية “لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح” (١كو ١٠: ٤)، (خر ١٧: ٦) وكان ضرب موسى للصخرة رمزًا لصلب الرب.

وهو الذي تكلم عنه حزقیال “ثم أرجعني إلى مدخل البيت واذ بمياه تخرج من تحت عتبة البيت نحو المشرق.. وعلى النهر ينبت على شاطئه من هنا ومن هناك كل شجر للأكل لا يذبل ورقه ولاينقطع ثمره. كل شهر يبكر لأن مياهه خارجة من المقدس ویکون ثمره للأكل وورقه للدواء” (حز٤٧: ١، ۱۲) وهو الذي قال عنه يوئيل النبي “ويكون في ذلك اليوم أن الجبال تقطر عصيرًا والتلال تفيض لبنًا، وجميع ينابيع يهوذا تفيض ماءً. ومن بيت الرب يخرج ينبوع ويسقي وادي السنط” (يؤ۱۸:۳) وما السنط إلا رمزا للحياة بعيدًا عن الرب التي قال عنها لآدم “شوکًا وحسکًا تنبت لك الأرض”.

والكنيسة حين تقدم الخبز والخمر، مادتين للتحول على المذبح، تدهن الخبز بالماء صورة للتعميد، وتضيف إلى الخمر ماء صورة ما سال هنا من جنب الرب .

ولم يكسر منه عظم. وكان خروف الفصح قديمًا قد رمز إليه ومنع الشعب من كسر عظامه (خر١٢: ٤٦)

أما عن الطعن بالحربة فقد سبق زکریا وقال “سينظرون إلى الذي طعنوه” (زك۱۰:۱۲)

وهكذا يكون في النهاية “هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه، وينوح عليه جميع قبائل الأرض” (رؤ١: ٧) .

 

 

 

العظة الرابعة لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

قيامة قديسين عند صلب الرب – للمتنيح أنبا أثناسيوس مطران بني سويف والبهنسا [57]

يذكر لنا انجيل متى أنه عندما أسلم الرب النفس البشرية وهـو على الصليب:

“اذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت والصخور تشققت، والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين” (مت۲۷: ٥١– ٥٣).

أنها قصة عجيبة، قصة قيامة بعض الراقدين يوم الجمعة، وخروجهم من القبور بعد قيامته يوم الأحد .

الفداء وسيلة الخلاص :

لقد سبق الله قديمًا وقال لآدم ألا يأكل من الشجرة المحرمة “لأنك يوم تأكل منها موتا تموت” (تك٢: ١٦). ولقد دخل الموت الروحي الى آدم ومعه انحلال الجسد والموت الجسدي .

ومنذ ذلك الوقت وآدم ينتظر الفداء لكي “يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا الى الأبد” (تك٣: ٢٢) وكانت شجرة الحياة ترمز الى السيد المسيح الذي يفدي البشرية ويرفع عنها سلطان الموت “فإذ قد تشارك الأبناء في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما…” وكثيرون من الذين سبقوا مجيء الرب آمنوا بهذه الحقيقة وماتوا على رجاء مجيئه. لقد ماتوا جميعاً في خطيتهم لأنهم ورثوا طبيعة آدم والخطية الساكنة فيها. ولكنهم كانوا ينتظرون مجيء الفادي الذي يفديهم من الأسر ويخرج نفوسهم الى الفردوس .

وكانت النبوات واضحة عن الفداء فقال الرب لموسى “فأرى الدم وأعبر عنكم” (خر۱۲: ۱۳). وقال اشعياء عن الفادي “أن جعل نفسه ذبيحة أثم يرى نسلاً… من تعب نفسه يرى ويشبع” (إش٥٣: ۱۰، ۱۱). وهكذا لما جاء الرب قال لنيقوديموس “وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الانسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية . لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. لأنه لم يرسل الله ابنه الى العالم ليدين العالم، بل ليخلص به العالم” (يو٣: ١٤- ۱۷) .

الفداء يبطل الموت :

لا شك أن المقصود بالخلاص هو خلاص النفس من سلطان الخطية، ونوالها الحياة الأبدية، وتأهيلها للنعيم الذي فقدته بالخطية، وهكذا حدث التجسد وتم الفداء لكي يتم لنا الخلاص الروحي من الخطية، والموت الروحي “يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي ابليس ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية” (عب٢: ١٤، ١٥) فخلصنا من سلطان الخطية “ونقلنا من سلطان الظلمة الى ملكوت ابن محبته” (کو۱: ۱۳). هذه هي الحياة الروحية وهذا هو الأمر الذي جاء من أجله. وهو فداء دائم لنا قائلاً “استيقظ أيها النائم، وقم من بين الأموات فيضيء لك المسيح”.

ولكن كان للموت الروحى نتائج جسدية هي ضعف الجسد وانحلاله وقبوله للمرض والموت. ولما جاء الفداء لم يبطل عنا الموت الجسدي بل أبطل الموت الروحي، لأن الموت الجسدي ضروري لنا لكي نرتفع عن الأرض وندخل السماء، فلو بقينا في الأرض دون أن نموت جسدياً لحرمنا من السماء، فلما فدانا خلصنا من الموت الروحي. ولكنه لم يبلغ مرحلة الموت الجسدي لكى يمتع نفوسنا بالسماء .

لابد أن يقوم الجسد عند القيامة لكي يدخل السماء هو أيضا. يقوم بحالة روحانية لا يحتاج الى طعام أو ماء ولا يمرض ولا يجوع ولا يموت “يزرع جسداً حيوانياً ويقام جسداً روحانياً”، وحين يدخل جسد المؤمن مع روحه الى السماء يصير الهتاف الكامل ضد الخطية والشيطان لأن الروح قد افتديت، ونالت الحياة والجسد قد قام الى الخلود ونال أيضا الخـلاص، وعاد آدم بروحه وجسده الى السماء “ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد ولبس هذا المائت عدم موت فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة: ابتلع الموت الى غلبة. أين شوكتك يا موت. أين غلبتك يا هاوية” (١کو ١٥: ٥٤، ٥٥) .

القديسون الذين قاموا وقت الصلب :

ولما كان الفداء وسيلة الخلاص من الموت الروحي. ولما كان هناك قديسون قد ماتوا على رجاء الفداء، فقد كانت نفوسهم في الانتظار في السماء ولذا تهللت وفرحت حين تم الفداء. وفتح لها باب الفردوس بعد أن كانت سجينة بعيدة عنه “فان المسيح أيضا تألم مرة واحدة من أجـل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يقربنا الى الله، مماتاً في الجسد ولكن محي في الروح، الذي فيه أيضًا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن” (١بط ۳: ۱۸، ۱۹) فإن كان الرب قد مات بالجسد إلا أنه الحي بلاهوته الذي لا يموت. وبموته خرجت الأرواح السجينة حية فرحة. وها نحن نهتف في أفراح القيامة ونقول [اخرستوس آنستي اکنکرون. ثاناتو ثانتون… المسيح قام من بين الأموات بالموت داس الموت والذين في القبور أنعم لهم بالحياة الأبدية].

فعلى الصليب ثم الفداء وخلصت النفوس المؤمنة ودخلت المجد. وحتى الذين ماتوا مؤمنين بعد ذلك الحادث بلحظات دخلوا الفردوس مباشرة مثل اللص اليمين الذي سبق الرب فقال له “اليوم تكون معي في الفردوس”.

وكان لابد أن يظهر فعل الفداء في أجساد القديسين، فإن كانت نفوس جميعهم قد خلصت ودخلت السماء. فان بعضهم قاموا أيضا بالجسد معلنين الحياة التي نالوها من الصليب. وذلك لكي يشهدوا أيضًا مع الشاهدين لرب المجد .

فقد شهدت له الأرض فتزلزلت وتشققت، وشهدت السماء فأظلمت، وشهد القائد بقوله “حقًا كان هذا الانسان ابن الله”. وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين… وظهروا لكثيرين” (مت۲۷: ٥١ـ٥٣) ولكن لماذا قاموا يوم الجمعة ولم يخرجوا من القبور إلا يوم الأحد؟..

لقد قامت الأجساد يوم الجمعة لأن الفداء قد تم، وبالفداء الحياة الأبدية التي رمزها قيامة الجسد.

ولكن لا يليق أن يخرجوا من القبور وجسد الذي فداهم نفسه لازال في القبر.

لقد قاموا لأن الحياة في موته ولكنهم لم يتمتعوا بالحيوية الكاملة الا بعد خروجه هو من القبر فأخرجهم معه ودخلوا أورشليم وشهدوا لكثيرين. “اين شوكتك يا موت. أين غلبتك يا هاوية” (هو١٣: ١٤)؛ (١کو١٥: ٥٥).

 

 

 

العظة الخامسة لآباء معاصرين –  يوم الجمعة العظيمة

الرب يسوع صلب من أجلي – للمتنيح أنبا إبيفانيوس[58]

فى تسبحة أسبوع الآلام التى نكرِّرها كل يوم مرات كثيرة، نقول فى المقطع الأول منها: “لك القوة والمجد والبركة والعزة الى الأبد، آمين. يا عمانوئيل الهنا وملكنا” فى صيغة الجمع.

وفى مقطعها الثانى نقول: “ياربي يسوع المسيح مخلصي الصالح” بصيغة المفرد؛ والغرض من ذلك، التأكيد على أن ما عمله المسيح على الصليب يحتاج إلى إيمان شخصي لقبوله. كما يؤكد أن المسيح عندما مات على الصليب، مات لأجلى ولأجلك شخصيًا، مات لأجل كل انسان فينا باسمه وشخصه. لذلك نجد الرسول بولس.

يؤكد على هذا المفهوم الشخصى بقوله: “أحبني (أنا شخصيا) وأسلم نفسه لأجلي” (غل٢: ٢٠) .

وفى نص قانون الايمان الذى تردده الكنيسة كل يوم، ترد هذه العبارة: “الذى من أجلنا ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنس وصلب عنا”.

هذه العبارة اللاهوتية الهامة تشير الى أن صلب المسيح على الصليب كان لأجلى ولأجلك، فمحبته لنا محبة شخصية وعميقة جدًا. ويمكننا أن نردد مع إشعياء النبى ترنيمة العبد المتألم بصيغة الجمع، كما يمكننا أيضا أن نرددها بصيغة المفرد: “لقد حمل أحزاني، وأوجاعي تحملها. وهو مجروح لأجل معاصي، مسحوق لأجل آثامي.

تأديب سلامى عليه، وبجلداته شفيت”. من أجلي علق على الصليب، بسبب خطاياي، ومن أجل أن يمنحني الغفران .

فى كتاب: “سيرة مختصرة لحياة يسوع المسيح”، يذكر العالم الفيزيائى والفيلسوف الرياضى والأديب الفرنسى بليز باسكال (1623ــ 1662م) ، وهو من أعظم المفكرين الذين أنجبتهم البشرية، يذكر قصة تحوله للايمان.

فكتب يقول: “فى منتصف ليلة 23نوفمبر 1654م، تكلم معي الرب يسوع قئلاً: بليز، لقد كنت أفكر فيك أثناء آلامي”. هذا الاختبار كان سبب ايمان هذا الفيلسوف.

لقد شعر أن صليب المسيح كان لأجله هو شخصيا. لقد قال المسيح: “بليز إنه من أجلك احتملت كل هذا”. لقد تألم الرب يسوع ومات ودفن وقام ثانية، ليس من أجل البشرية عامة، لكن من أجل كل انسان فى هذه البشرية بصفة خاصة .

كتب قديس روسيا العظيم تيخون زادونسكى (1724ــ 1783م) فى هذا المعنى قائلاً: “لقد باعوك أيها الرب، وأسلموك للخطاة، حتى تمنحنا نحن العبيد الحرية. خضعت لمحاكمة جائرة، أنت يا من تحكم كل الأرض، حتى نخلص نحن من الحكم الأبدي.

تعريت حتى تكسونا برداء الخلاص. وضعوا على رأسك اكليل شوك حتى ننال اكليل الحياة. وُضِعتَ فى قبر حتى تقيمنا من موت القبر. هذا فعلته من أجلنا، نحن عبيدك غيرالمستحقين، أيها الرب”.

لا يمكننا أن نحيط بكل مفهوم الصليب والقيامة، إن لم نفهم أن ما فعله المسيح كان من أجلنا، ومن أجل كل شخص فينا بالتحديد.

حدث مرة فى يوم الجمعة العظيمة أن مر ثلاثة من الشباب المستهتر أمام احدى الكنائس فى باريس، ولاحظوا وجود صف طويل من المؤمنين ينتظرون أن يُقدِّموا اعترافهم أمام كاهن هذه الكنيسة. ولعدم ايمان الشباب الثلاثة بالمسيح، بدأوا فى التهكم على هؤلاء المؤمنين، معتبرين أن كل ما حدث فى هذا اليوم ــ يوم جمعة الصلبوت ــ كان مجرد مهزلة تاريخية .

وقرر أحدهم أن يدخل ويقابل كاهن الكنيسة ليقول له رأيه فى المسيح والمسيحية. ولما مثل أمام أب الاعترلف، قال له: “لقد كنا نسير خارج الكنيسة ورأينا هذا الجمع من الشعب منتظرين لتقديم اعترافهم. فرأينا أن كل ما يحدث هنا ليس إلا مسرحية هزلية، وقررنا أن ندخل ونقول لك رأينا”.

فأجابه الكاهن “حسنا لكن أطلب منك شيئا واحدًا قبل مغادرتك الكنيسة، أدخل إلى داخل الكنيسة وتقدم أمام الهيكل الرئيسي، وانظر إلى يسوع وهو معلق على الصليب، وقل له: “لقد مت من أجلي، أيها المسيح، لكن هذا الأمر لا يهمنى على الاطلاق”. وأريدك أن تكرر هذه العبارة ثلاث مرات، ثم يمكنك مغادرة الكنيسة.

فوافق الشاب المستهتر على ذلك، وتقدم أمام الهيكل ونظر الى جسد الرب يسوع المعلق على الصليب، وبصعوبة بالغة قال مرة واحدة: “لقد مت من أجلي….”، وتحول مسرعا من أمام الهيكل. فاستوقفه الكاهن وقال له: “لقد وعدتنى أن تقولها ثلاث مرات”. فرجع الشاب متردداً، ونظر إلى المسيح، وجفت الكلمات على شفتيه، ولكنه أخيرًا فعلها وقال: “لقد مت من أجلي”، وجفل مبتعدًا عن الهيكل. فاستوقفه الكاهن ثانية وقال له: “لقد وعدت أن تقولها مرة ثالثة”. فرجع بعد تردد شديد، وأخذ ينظر إلى الصليب متأملًا فى جروح المصلوب مدة طويلة، ثم عاد إلى الكاهن وقال له: “أبى، أنا مستعد أن أقدم أعترافي”.

من يستطيع أن ينظر إلى الرب يسوع المصلوب من أجلنا، ولا يقول له: “ارحمنى، يا رب، لأني خاطىء”.

رسالة حب :

الصليب ليس فقط حقيقة قائمة بذاتها، لكنه أيضا نافذة نطل منها على حقيقة أخرى عظيمة، وهى محبة الله للبشر: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو٣: ١٦).

الله لم يعد صامتا، ولم يعد محتجبا بعيدا عن أنيننا كما فى الماضي: “حقا أنت إله محتجب يا إله اسرائيل المخلص” (إش٤٥: ١٥)؛ لكنه تخلى عن احتجابه وأظهرمحبته من فوق الصليب .

الله بين محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا” (رو٥: ٨).

“فى هذا هى المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا، وأرسل ابنه كفارة لخطايانا” (١يو٤: ١٠).

“لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها. ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحبره شفينا” (إش ٥٣: ٤و٥).

“ابن الانسان لم يأت ليُخدَم بل ليَخدِم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مت٢٠: ٢٨) .

“عالمين أنكم افتديتم … بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح” (١بط ١: ١٨، ١٩).

“الذى فيه لنا الفداء بدمه، غفران الخطايا، حسب غنى نعمته” (أف١: ٧) .

بعد هذا أشفقت علينا كإله صالح ومحب البشر، وأردت أن تخلِّصنا من يد الذى سبانا، وأردت أن تعيدنا مرة أخرى إلى فردوس النعيم، فأرسلت أنبياءك، فلم يقدروا أن يخلصونا. أعطيت الناموس فلم يصر لنا عونا. فرضيت بارادتك أن تبذل ذاتك للموت عنا وعن حياة العالم.

زار أحد الكهنة انسانا يحتضر، ولم تكن الفرصة مواتية لسماع أية عظة قبل رحيله، فما كان من الكاهن الا أن أمسك بالصليب وعليه صورة المصلوب وقربه من عينى المريض، وقال له: “أنظر، ما أعظم محبة الله لك”.

عندما مات الرب يسوع على الصليب كان كمن يقول لنا: لا شىء يمكنكم أن تصنعوه بي قادر أن يوقف محبتى من نحوكم، من الممكن أن تضربوني وتسحقوني وتجلدوني، ويمكنكم أن تقتلوني على الصليب، لكننى لن أتوقف عن محبتكم، هذا هو عِظَم محبتي لكم “يا أبتاه اغفر لهم”.

إن كل ما حدث على الجلجثة كان نافذة يمكننا أن نرى من خلالها قلب المحب المتألم من أجلنا. لقد قدم الانسان لله ذبائح كثيرة لعدة قرون خلت، أما على الجلجثة فقد رأينا الله يُقدِّم ذاته ذبيحة فدية عن الانسان: “ليس لأحد حبًا أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو ١٥: ١٣). هذا هو حب الله لكل واحد منا .

 

هل يحبنى ؟؛

قال أحد الرعاة: إن أسعد انسان عرفته إنسانًا كان قد سقط وهو فى سن الخامسة عشرة على ظهره، وأصابه كسر فى العمود الفقري؛ وبذلك صار طريح الفراش لمدة أربعين عامًا.

ربما لم يمر عليه يوم طوال تلك السنوات دون آلام مبرحة أثناء أى محاولة للحركة. ويوما ما طرح أحدهم عليه هذا السؤال: “ألم يحاربك الشيطان أبداً، لكي يُشكِّكك فى الله، ويلقى فى فكرك أنه إله قاسٍ”؟ فأجابه بتلقائية: “نعم، لقد حاول ذلك مرات كثيرة. عندما كنت أجلس وأرى أصدقاء مدرستي القدامى وهم يقودون سياراتهم، كان الشيطان يوعز اليّ قائلاً: “لو كان الله صالحاً، فلماذا يتركك هنا كل هذه السنين طريح الفراش؟ ربما كنت الآن رجلاً غنيًا تنعم بقيادة سيارة ليموزين”؛ وعندما كنت أرى انسانًا كنت أعرفه منذ الطفولية، وهو يسير فى صحة تامة، كان الشيطان يهمس فى أذني: “إن كان الله يحبك، ألم يكن يجنبك هذا المصير الأليم”؟.. وعندما سألوه: “كيف كنت تجيب الشيطان على هذه الوساوس”؟ فأجاب فوراً: “كنت آخذه إلى الجلجثة وأُريه يسوع، وأُشير له على الجروح البادية فى يديه ورجليه وجنبه، ثم أقول له :” هل هناك حب أعظم من هذا؟”

كم أنت عزيز فى عينى الله:

كما أن الصليب يظهر محبة الله لنا ، فهو أيضا يبين كم أنت عزيز فى عينى الله. اذا قدم انسان حياته من أجلك، فمن الضرورى أن تكون شخصا مهما؛ فان كان هذا الانسان هو الله ذاته، فمن البيِّن أنك مهم جداً. فمثلما نحكم على قيمة اللوحة الفنية بالثمن المدفوع فيها، هكذا يمكننا أن نُقَيِّم ذواتنا بالثمن الذى دفعه الله فدية لأجلنا: “عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التى تقلدتموها من الآباء. بل بدم كريم ، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح” (١بط ١: ١٨، ١٩) .

حضر طفل صغير الى الكنيسة لأول مرة، وكان ذلك يوم الجمعة العظيمة. وهناك أصغى باهتمام إلى قصة الرب يسوع المصلوب، ومقدار محبته العظيمة لنا: كيف تألم من أجلنا، وكيف غفر لنا خطايانا مانحًا إيانا الحياة الأبدية؛ وفى نهاية خدمة يوم الجمعة العظيمة، بدأ المصلون فى الانصراف إلى بيوتهم. فلم يفهم هذا الطفل لماذا يبدو على المصلين وكأنهم لا يبالون لما استمعوا اليه. فجلس الطفل فى كرسيه وبدأ يجهش بالبكاء. فاقترب منه والده وقال له: “ياولدى، لا ينبغى أن تتأثر هكذا بشدة وتجعل هذا الأمر يسيطر على حياتك، لئلا يظن بك الناس أنك غير ناضج .

يبدو أن هذا هو ما يحدث معنا أحيانا عندما نحضر صلوات هذا اليوم العظيم سنة بعد أخرى، ونخرج من الكنيسة وكأننا نشاهد تمثيلية يوم الجمعة العظيمة، غير مدركين قيمة الفداء العظيم الذى حققه المسيح من أجلنا، وقيمة المحبة التى دفعته ليبذل نفسه من أجلنا: “الآن فى المسيح يسوع، أنتم الذين كنتم قبلا بعيدين، صرتم قريبين بدم المسيح. لأنه هو سلامنا، الذى جعل الأثنين (اليهود والأمم) واحدًا،… لكى يخلق الاثنين فى نفسه انسانًا واحدًا جديدًا صانعًا سلامًا. ويصالح الأثنين فى جسد واحد مع الله بالصليب، قاتلًا العداوة به” (أف٢: ١٣-١٦).

 

 

العظة السادسة لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

اليوم تكون معي في الفردوس – للأب ليف جيليه [59]

ها نحن ، مرة أخري في يوم الجمعة العظيم هذا، نقترب من آلام الرب يسوع وصليبه، فلنتوقف، إذا شئتم، ونفكر في واحد من الأحداث التي عاشها مخلصنا في الساعات الأخيرة من حياته على الأرض .

تتذكرون أن الرب يسوع المصلوب قد وُضع بين لصين، كان أحدهما يجهل المسيح بينما الثاني قال للسيد: “أذكرني يا رب متي جئت في ملكوتك”. فأجابه السيد: “الحق أقول لك أنك اليوم تكون معي في الفردوس”. وهذه هي الكلمات الإنجيليةالتي سنتأمل فيها الآن .

ليس حوار المخلص واللص التائب حدثاً تاريخياً فقط، جرى في الماضي، وراءنا، بل يخص الحاضر إذ ينتصب أمامنا، لهذا الحوار معنى وقيمة أبديان كسائر كلمات الإنجيل.

لم يوجه المسيح كلماته إلى اللص التائب فقط بل إلينا نحن في حياتناالحاضرة، لكل واحد منا يقول السيد: “اليوم تكون معي في الفردوس”.

ماذا يعني أن نكون في الفردوس ونحن نعيش في أوضاعنا الحاضرة، قبل أن نغادر هذه الأرض، والخطايا تثقل كاهلنا؟

لقد أتت جملة المخلِّص جواباً على توبة اللص ورغبته في دخول الملكوت، وهي ذاتها توجه إلينا إذا تممنا هذين الشرطين: التوبة عن خطايانا والرغبة في دخول مملكة المسيح. وكلمة المسيح، التي هي وعده، تزيل العقبات وتفتح الأبواب وتطهرنا فيمكننا بالتالي أن ندخل إلى ملكوت الله .

ولكن كيف نسكن الفردوس ونحن لم نمت بعد؟

ليس المقصود أن ندرك تلك الحياة الإلهية السعيدة التي يمكن أن تصير هي حياتنا بعد القبر، ولكن باستطاعتنا، من الآن، أن ندخل في حياة جديدة، في حياة تتجلى بالرجاء والمحبة،

من الآن بإمكاننا أن نتغير، أن نَعِف عن العيش لأنفسنا، بمقدورنا أن نكرس ذواتنا لله والبشر كي نحبهم من كل قلبنا دون أن نهجرالأرض وعملنا فيها وظروف وجودنا العملية.

ولننتبه إلى الكلمات التالية: من كل قلبنا، هذا هو الفردوس المقدّم لنا، هذا هوالملكوت الذي باستطاعتنا أن ندخل فيه .

تكون معي …”

فمع المخلِّص نكون في الفردوس، وتعني كلمة “مع” هنا شيئاً مختلفاً عن المعية، المشاركة في الوجود أوالأتصال والتقارب، أنها لا تعني فقط أننا نكون حيث المخلِّص بل تدل على نوع من الحياة المشتركة معه وبه وفيه.

وهذا الأمرممكن من الآن. لأن الله لا يطلب منك أن تظل عازباً أو أن تتزوج، أنه لا يسألك أن تفتش عن مهنة جديدة بل كل ما هو مطلوب منك، على تنوع أوضاع حياتك ومحيطك ومناسباتك، أن تدخل فكر المسيح في كل هذا، أن تضع فيه حنواً ومحبة دفوقاً حيث تسيطر الرغبة الأنانية، أن تعمل حتي يشع السلام والرحمة حيث يملك الشقاق، هذا هو فردوسنا، فردوسنا المؤقت، الطعم السابق للفردوس الأخير الذي يعلن بعد موتنا .

ولننتبه إذاً إلى كلمة “اليوم” في قول السيد: “اليوم تكون معي في الفردوس”.

انه لم يقل: “غداً ستكون معي في الفردوس”. فالحياة الجديدة مفتوحة لنا من اليوم، من الآن، من هذه الدقيقة بالذات، يكفي ان اتجه في هذه اللحظة من يوم الجمعة العظيم في هذه السنة نحو المسيح بقلب مخلص حتي يتقبلني الرب دون سؤال، يمد ذراعيه ويحييني بحياته،

ألا تريدون أن تدخلوا في هذا الأختبار الفائق؟

أيها الرب يسوع أجثو اليوم أمام صليبك الذي لم يعد صليباً خشبياً بل صليب من نور ونار، وأضع عند رجليك خطايا العالم وشقاءه، تحنن اللهم على من لأجلهم أتيت إلينا، تراءف بكل متألم، ها أنا يا رب أرمي عند رجليك خطيئتي، كبريائي، انتفاخي ودنسي، إجعل من هذا اليوم تحويلاً لوجودي، تاريخاً مهماً في حياتي، واسمح يا سيد أن آتي إلى ملكوتك كاللص التائب وأن أكون فيه معك، إجعل أن أكون فيه اليوم .

 

 

العظة السابعة لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

صليب المسيح تاريخياً – للمتنيح أنبا يؤانس أسقف الغربية[60]

ظهر الصليب الذي صلب عليه المسيح حسب التقليد الكنسي علي يد القديسه هيلانة والدة الامبراطور قسطنطين فقد سافرت إلى اورشليم بعد أن جاوزت السبعين من عمرها لتكشف عن قبر المخلص وتبني كنيسة هناك. وبالفعل بنت كنيستين، الأولى فوق القبر المقدس والثانية فوق مغارة بيت لحم..

وقيل أنها تحمست لهذا العمل بواسطة رؤيا اعلنت لها.. وبعد بحث كثير عن القبر المقدس عثرت عليه في مايو سنة ٣٢٨م. أما السبب في اختفاء مكان القبر المقدس كما يذكر المؤرخ الكنسي سقراط (٣٨٠- ٤٥٠م) فهو ان اليهود تعمدوا إخفاء معالم هذا المكان بعد كان يحج اليه مسيحيون كثيرون، فكانوا يلقون عليه الأتربة والقاذورات حتي تكوّن فوقه ما يشبه الهضبة المرتفعة، واقيم فوقها معبد للاله فينوس امعاناً في اخفاء مصدر ايمان وعزاء المسيحين.

وقد أمرت هيلانة بهدم الهيكل ورفع الاتربة فوجدت ثلاثة صلبان على مسافة رمية حجر من موضع القبر المقدس. ووجدت صليب الرب يسوع وعليه العنوان الذي كتبه بيلاطس البنطي. وقد تأكدوا من أنه صليب الرب لما وضعوه على سيده مريضة فشفيت في الحال، وكان ذلك بحضور مكاريوس اسقف اورشليم آنذاك.

أول من أشار إلى حادث اكتشاف الصليب بواسطة الملكة هيلانة كان هو امبروسيوس اسقف ميلان (٣٣٩– ٣٩٧م). في عظة له القاها سنه ٣٩٥م. وعن امبروسيوس نقل كل من يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية (٣٤٧- ٤٠٧م) وبولينوس الأسقف الذي من نولا بفرنسا (٣٥٣- ٤٣١م).. ذكر هذه القصة المؤرخان الكنسيان سقراط (٣٨٠- ٤٥٠م)، تيودوريت (٣٩٣- ٤٥٨م) الذي ذكر أن هيلانة وجدت في القبر المقدس المسامير التي سمرت بها يدا المخلص ورجلاه وارسلتها إلى ابنها الامبراطور قسطنطين الذي ثبت مسماراً منها على الخوذة الملكية التي كان يلبسها وهو خارج لخوض المعارك الحربية.

ومن الذين افاضوا في الكلام عن خشبة الصليب المقدس القديس كيرلس الأورشليمي في عظاته التي القاها سنة ٣٤٨م- بعد نحو عشرين سنة من اكتشاف خشبة الصليب.. كان يخاطب المؤمنين في كنيسة القيامة مشيراً الى التابوت الموضوع فيه الصليب.. يقول: [لقد صلب المسيح حقاً.

ونحن وإن كنا ننكر ذلك فهذه هي الجلجثة تناقضني التي نحن مجتمعون حولها الآن. وها هي خشبة الصليب أيضا تناقضني التي توزع منها على كل العالم.. وخشبة الصليب تشهد للمسيح، تلك التي نراها حتى هذا اليوم بيننا. وقد ملأت كل العالم بواسطة المؤمنين الذين أخذوا قطعاً منها الى بلادهم].

وفي خطاب ليولينوس الاسقف الذي من نولا بفرنسا الى الكاتب والمؤرخ الكنسي سالبيسيوس نعلم أنه أرسل له مع الخطاب قطعة من خشبة الصليب المقدس، ويخبره أنه بالرغم من أن قطعاً كثيرة أُخذت من الخشبة، إلا أن الخشبة لم تنقص قط – وهكذا ذاع القول أن خشبة الصليب تنمو من ذاتها .

ويتفق كل من تيودوريت وسقراط المؤرخان الكنسيان أن هيلانة أرسلت قطعة من خشبة الصليب إلى القصر الامبراطوري في القسطنطينية. ووضع بقية الصليب في تابوت من الفضة داخل كنيسة القيامة.. والمعروف أن الملك قسطنطين أمر بتوزيع قطع من خشب الصليب المقدس على كافة كنائس العالم وقتذاك. وقد احتفظت كنيسة روما بقطعة كبيرة .

وقد ذكرت ايجيريا الراهبة الأسبانية التي قامت برحلتها أواخر القرن الرابع إلى الأماكن المقدسة، ووصفت بدقة كل ما مرت به وشاهدته، وضمنها طقوس وصلوات عيد الصليب أمام الصليب المقدس بكنيسة القيامة..

وظلت خشبة الصليب المقدس بكنيسة القيامة حتي غزا الفرس الأراضي المقدسة، واستولى خسرو الثاني ملك الفرس سنه ٦١٥م على التابوت الفضي الذي يضم قطعة الصليب المقدس وحمله معه الى بلاده، وظل هناك حتي استرده الامبراطور هرقل سنة ٦٢٩م ووضع في كنيسة القيامة، ومنها الى القسطنطينية سنه ٦٣٦م خوفًا من وقوعه في أيدي الغزاة .. ويشهد اركلفوس Arculfus الذي زارالقسطنطينية سنه ٦٧٠م أنه رأى الصليب في كنيسة آجيا صوفيا.. بعد ذلك لا نعلم ماذا حدث لما تبقى من الصليب المقدس.

 

 

العظة الثامنة لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

عظة يوم الجمعة العظيمة سنة 1978 للمتنيح القمص بيشوي كامل [61]

بسم الآب والآبن والروح القدس الإله الواحد أمين

اليوم يا أحبائي يوم عيد عظيم. وإن كان مظهر الكنيسة يبدوا علية الحزن والألحان فيها النغمة الحزينة وأفواهنا مرة من عدم الأكل أو من الصوم، فهذه كلها ليس إلا كما سنرى الآن ليست إلا الأعشاب المرة التي سيأكل عليها أكلة العمر كله. سيؤكل عليها الفصح.

بالأمس كنا نتأمل في ربنا يسوع المسيح، وما أعطاه لينا أعطانا اتضاع منقطع النظير.. لما وطى على رجلينا وغسلها، ونحن في عمق الخطية. إتضاع فوق الوصف لما وطى على رجلين يهوذا وغسل رجليه وهو الإله، واعطانا أيضاً حبه عندما كسر ذاته بملء اختياره وقدم نفسه طعام علشان نذوق الحب. إن كلمة الحب في قاموس اللغات كلها كلمة معنوية، ولكن عندنا في المسيح الحب نأكله لأنه أعطانا ذاته.. ولأنه المحبة كلها وثبتنا فيه. قال “من يأكلنى يحيا إلى الأبد”. فأدانا كمان حياة أبدية.

كل دى بركات امبارح اللى خدناها في المسيح، ودية حقوقنا نحن المسيحيين. أما اليوم يا أحبائي فهو يوم عيد عظيم يسجل لينا إنجيل معلمنا يوحنا الذى تلي علينا “فلما سمع بيلاطس هذا القول اخرج يسوع وجلس على كرسى الولاية في موضع يقال له البلاط وبالعبرانية جباثا. وكان استعداد الفصح وكانت نحو الساعة السادسة. الساعة السادسة يعني ١٢الظهر الوقت اللى اتصلب فيه المسيح. وكان في نفس الوقت استعداد الفصح.

كانت الأستعدادات تجرى على قدم وساق بسرعة لأن ده عيدهم اللى بيعيدوه وتذكارهم الأبدى يوم ما أخرجهم الرب من أرض مصر لأجل هذا يا أحبائي بولس الرسول بالنعمة والإلهام المعطى ليه تحدث عن هذا العيد في رسالته إلى أهل كورنثوس قائلا في الأصحاح الخامس لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا الفصح بتاعنا هو المسيح فقد ذبح والفصح المعروف عند اليهود إن هو عيد. فلما بولس الرسول يقول فصحنا هو المسيح ذبح لأجلنا يعني يقصد إن النهاردة عيد ذبح المسيح بالنسبة لينا.

عيد كبير جداً. كلمة فصح كلمة عبريةولما ترجمت للعربى ترجمت فصح زى ما هي ، لكن بجميع اللغات في العالم اسمها بصخة بالقبطى بنقول بصغة باليونانىبنقول بصخة بالفرنساوي بنقول Baques وبالإنجليزى بنقول Bassover كلها بصخة بس لأن العربى واخد من العبرى فاتنقلت فصح لأن بصختنا هي المسيح الذى ذبح لأجلنا .

وكلمة بصخة حتى من معناها الإنجليزى عبور passover  حاجة بتعبير، فالعبور هنا أصله بيوضح السر في اللى عملناه النهاردة كله .

وده النقطة اللى عاوزها تبقى واضحة بنعمة ربنا قدام عنينا علشان نعرف إحنا عملنا إيه النهاردة وبنعمل إيه؟ إيه حكاية البصخة ديه؟ صحيح إحنا تجاوزاً بنقول دا أسبوع البصخة لكن هي البصخة ذكرها لينا سفر الخروج  في الإصحاح  الـ ١٢وقال كده “وكلم الرب موسى وهارون في أرض مصر قائلاً هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور، هو لكم أول شهور السنة. كلما كل جماعة إسرائيل قائلين في العاشر من الشهر من هذا الشهر يأخذون لهم كل واحد شاة بحسب بيوتهم.

وبعدين يكون عندكم تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر ثم يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل، في العشية، يعني العصرية بتاعة اليوم يبتدوا يذبحوا الخروف ويأخذوا من الدم ويجعلون على القائمتين والعتبة العليا في البيوت التي يأكلون فيها يأكلون اللحم مشوياً بالنار على فطير على اعشاب مره يأكلون علشان يفتكروا المرارة  بتاعتهم الأولانية لأن وحاشة الإنسان لما ربنا يدينا النعمة كدة من غير ما يكون حس بالمرارة والتعب فيها ما بيحسش  بقيمتها.

علشان كده بقول لك إن أحزاننا إن أنغامنا الحزينة، وآلامنا النهاردة مش معناها حزن داخلى في القلب معناها فرح ولكنهاأعشاب مُرة نذوق عليها المسيح الذى هو فصحنا.

وبيقول له تأكلوه وأحقاءكم مشدودة وأحذيتكم في أرجلكم وعصيكم في أيديكم وتأكلون بعجلة هو فصح للرب أو هو بصخة للرب، فأنى أجتاز في أرض مصر في هذه الليلة وأضرب كل بكر من أبكارمصر من الناس والبهائم، ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم  وأعبر عنكم لا يكون عليكم ضربة للهلاك، حين أضرب أرض مصر ويكون لكم هذا اليوم تذكاراً فتعيدون عيداً للرب في أجيالكم، فإن الرب يجتاز ليضرب المصريين فحين يرى الدم على العتبة والقائمتين يعبر الروح من الباب، عن الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتكم ليضرب. يبقى البيوت كلها ها تتعلم بالدم وهيعدى ربنا ومعاه المهلك.. البيت اللى عليه علامة الدم يقول له سيب ده ويفوته ويروح لواحد تانى، وهكذا.. هو مفيش بيت مفيهوش بكر فيقول الكتاب المقدس إن ربنا ضرب فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير الذى في السجن، ومش بس كدة وكل بكر بهيمة يعني حتى البكر بتاع البهيمة أنضرب وفضل مين؟ اللى متعلمين بعلامة الدم.

وبعدين يقول فقام فرعون ليلاً هو وكل عبيده وجميع المصريين وكان صراخ عظيم في مصر لأنه لم يكن بيت فيه ميت. ما عدا بيوت معينة كنت متعلمة بالدم.

بيحذر موسى بيقول له “خلى بالك كل ابن غريب لا يأكل منه. الأكلة دي لولادى محدش ياكل منها غيرهم. ولكن كل عبد رجل متباع بفضة تختنه (تعمده) الأول ثم يأكل منه، النزيل والأجير لا يأكلان منه إلى آخره .

وبعدين خرجوا من أرض مصر ومشيوا في الطريق. ومش غايب عن ذهنهم حكاية الدم اللى اترشت بيها بيوتهم وحياتهم وطلعوا أخذوا الخمير وجريوا. ربنا كان ممكن يخليهم يخشوا سيناء على طول لو هم طلعوا من فوق خليج السويس. يعني كانوا ممكن يمروا بسرعة. لكن كان لربنا حكمة معينة. توهم في البرية فتاهوا تقريباً ٣ أيام وتانهم تايهين، فبدل ما يطلعوا لفوق ويعدوا. باقول لك مكنش فيه قناة سويس ولا حاجة.

جم لقوا البحر في وشهم. وبقت مشكلة ثانية. فجه ربنا وقال لموسى أضرب كمل الفصح بتاعى وخذوا بركاته وكملوا العبور. وبعدين ضرب البحر فعبر الشعب، وهلك فرعون اللى فاضل وجنوده هلكوا مش بس الأبكار بتاعتهم، فكلمة بصخة يعني عبور، وإحنا عرفنا إحنا بنعمل إيه دلوقت؟ إحنا مرشوشين بالدم والملاك المهلك ملوش سلطان أبداً علينا. علشان كدة في الطرح اللى كان بيتقري علينا دلوقت بيقول من يبشر المسببين. الكلام ده قاله زكريا بالنص.

شوف الآية تلاقيها رائعة وأكثر من رائعة وأنت أيضاً فإنى بدم عهدك قد اطلقت أسراك من الجب الذى ليس فيه ماء ارجعوا إلى الحصن يا أسرى الرجاء وأنت أيضاً – بيكلم شعبه، بيكلم الكنيسة – وأنت أيضاً فيها جزء كان مسبى في الجحيم اللى هم ماتوا قبل المسيح.. اللى هم كانوا منتظرين يومه اللى هو قال عنهم “إبراهيم أبوكم اشتهى أن يرى يومى” فبيقولوا أنت أيضاً أيتها الكنيسة المسبية في الجحيم وأنت أيضاً  فإنى بالدم قد اطلقت اسراك بدم العهد الجديد. قد اطلقت أسراك من الجب – يعني من الجحيم – الذى ليس فيه ماء. ارجعوا إلى الحصن. ارجعوا إلى الفردوس، أرجعوا إلى المسيح يا أسرى الرجاء، أسرى الرجاء دولت اللى هم الناس اللى ماتوا على رجاء، فدولت يوم الصليب متتصورش بقى الفرحة بتاعتهم كانت قد إيه! والحقيقة مين اللى يروح يبشر المسببين؟ لا محدش هيبشر المسببين. هو بيقول وأنت أيضاً فإنى بدم عهدك أنا بالدم بتاعى اللى هبشرك محدش هيبشرك أبداً بالموضوع ده.

وبطرس الرسول بسرعة استطاع أن هو يكشف لينا بالإلهام الروحى هذا الكلام الخطير بقوله: فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل خطايانا البار من أجل الأثمة، لكى يقربنا إلى اللى مماتاً في الجسد، ولكن محيي في الروح شوف بقية الآية بتقول إيه؟ الذى فيه أيضاً ذهب فكرز للأرواح التي في السجن – الأرواح اللى في الجحيم – وبطرس الرسول بيقول كدة، إن ربنا من على الصليب أول عمل عمله نزل بسرعة ومعاه بشارة.

مين يقدر يخش الجحيم؟ الشيطان مسيطر عليه سيطرة رهيبة. مين يقدر يعتب من الجحيم، ولا يقرب منه؟ الشيطان مالك على النفوس دية كلها؟ فالمسيح نزل بدم عهده وكرز.. بشر الأرواح اللى موجودة في السجن.. هل ممكن ياعزيزي تتخيل يوم فرح أعظم من هذا اليوم النهاردة؟

 

مش يوم حزن النهاردة يوم فرح أحنا بقى في القداس بنأخذ الحتة الآيه دي بتاعة معلمنا بطرس الرسول ونقول كدة:  نزل إلى الجحيم من قبل الصليب. مش واخدين بالنا من حكاية الجحيم دي .

أحنا ان فكرنا بنفكر في نفسينا وفى ملايين من البشر ماتوا على الرجاء، كانوا مستنيين اليوم ده. المسيح يموت على الصليب، والناس بتتريق عليه ويقولوا اتركوه دعوه هو ينادي إيليا والمسيح اللى ما يفهمش يقعد قدام الصورة دي ويقول يا عيني ويولول ويحزن، زى ما كانوا تلاميذه مش فاهمين اللي بيعمله. لكن لو عرفنا اللى حصل النهاردة يبقى يوم بهجة وفرح كبير خالص. معلمنا بولس الرسول بيتكلم على اللى حصل على الصليب في رسالته إلى أهل كولوسي بيقول أن هو “إذ كنتم أمواتاً بالخطايا، وغلف جسدكم أحياكم معه”.. زى ما أحيانا محا الصك علشان لما نقول في الصلاة باستمرار “مزق كتاب صك خطايانا” نفتكر الآية دي في كولوسي “اذ محا الصك الذى علينا في الفرائض الذى كان ضداً لنا قد رفعه في الوسط مسمراً إياه بالصليب”.

أتاري أحنا كان علينا صك.. الصك ده كان لا يمكن واحد مننا يقدر يسدده ولوكان واحد بس يقدر يسدده كان في نفس واحدة بس فلتت من الجحيم.. مفيش إبراهيم واسحق ويعقوب والآباء البطاركة والقديسين والأنبياء ورؤساء الآباء، كلهم في الجحيم، عليهم صك مسكه (يسوع) وقال أنا أدفع ثمنه، والشيطان قال له ده ثمنه غالي قوي، دي حياة الناس كلها، هو أنا كنت ضحكت على آدم؟ ولا آدم بملئ حريته؟ أنا صحيح قلت له يا آدم تيجى معايا وسيبك من ربنا، وتاكل من الشجرة وتصير مثل الله، قال له “آه أمشي معاك”. وقال له هينفعك ربنا بإيه يعني في الآخرة: قال أنا مجبتش آدم غصب عنه، ده آدم جه بملء حريته قال له صح قال له إذا ً حياته ينته عبد تحتي وولاده زيه عبيد أيضاً تحتي.

قال طيب. قال له طيب إيه؟ تطلعهم من الجب إزاي؟ لأن الله عادل. قال له أدفع حياتي أنا فداء على الصك اللى مكتوب على البشرية كلها، فبيقول كدة هو إذ محا الصك الذى علينا في الفرائض الذى كان ضداً لنا، صك ضدنا وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه بالصليب. يبقى الصك اللى علينا اتفك .

النقطة الثانية إن الشيطان في الواقع كان له معركة أخرى مع المسيح. لأن الشيطان مفتري وأذل الإنسان ذل فظيع، لأن الإنسان كان غبي لما وقع تحت سيطرة الشيطان، لأن ده ضحك عليه لغاية لما شغله عبد عنده، وأذله، المسيح بيقول كدة على الصليب، محا الصك الذى كان علينا ورفعه في الوسط مسمراً إياه بالصليب .

إذ جرد الرياسات – رياسات الشياطين والسلاطين – أشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه بالصليب، ده يعني جاب الصليب، وخزق الشيطان كده وقاله خلاص. فكانت فيه معركة كبيرة خالص.. فاللى حصل على الصليب أن الصك اتقطع.. وقال أنا هانزل أبشر بدم عهدي كل أسراك الذين في جبك الذى ليس فيه ماء.

تصور بقى الجب مفهوش ماء اللى هي الجحيم وقال أنا، الشيطان ها أشهره جهاراً ظافراً به بالصليب بتاعى. وانت أيها اللص اليمين مغفورة لك خطاياك، أدخل اليوم تكون معى في الفردوس. ده اللى حصل على الصليب .

من أجل هذا يا أحبائي النهاردة يوم عيد كبير قوي، يوم عيد لأن الصليب بالنسبة للمسيحيين مش عار لكنه قوة. أحنا عارفين سره وعارفين قوته، إنما أحسن حاجة تقدر توصلنا لمفهوم الصليب. واللى حدث النهاردة هو خروف الفصح بيقول له: أن تأخذ الدم وترش بيه العتبة والقائمتين وكل بيت مرشوش متقربش منه.

زمان كنا نخاف نقول يعني معلمين البيوت بصلبان، يا ريت.. ياريت البيت مش تتعلم بصلبان.. ياريت القلوب بتاعتنا تبقى متعلمة بصلبان، الشيطان جه يقرب من المسيح لأن من حق الشيطان إنه يأخذ كل نفس ويحضرها للجحيم، وجد نفس  المسيح بلا خطية. ولكن المسيح أشهره جهاراً ظافراً فيه فأصبح الشيطان مكسور.

ولذلك يا أحبائي لنا حماية في دم المسيح. أما إذا كنت عايز تعرف الشيطان ده بيعمل ايه؟ فالشيطان قال عنه يعقوب الرسول يجول كأسد زائر ملتمس من يفترسه، فالشيطان ميهزرش، ممكن يستدرج الإنسان باللطف وبالخدعة. لأن طبيعة الشيطان دائماً في تعاملاته الخداع، زي ما عملت الحية مع حواء لكن في الآخر الحية هتبقى حية والشيطان هيبقى شيطان، والأسد الزائر مش هيغير طبيعته هيبقى أسد زائر برضه، وأحب اقولك نقطة مهمة أن موت المسيح على الصليب ما غيرش طبيعة الشيطان.. لكن موت المسيح على الصليب أعطى حماية للإنسان ضد الشيطان، فالشيطان شيطان، لكن الإنسان اللى مرسوم بدم المسيح ده يبقى عايش في حياته حياة البصخة.

أحنا النهاردة بنعيد بصختنا العبور بنبص ليسوع كده ونقول له “امبارح أحنا كنا متأثرين من تواضعك والحياة اللى ادتها لنا، لكن النهاردة أحنا بنشوفك كدة، وأنت بترشنا بالدم “زي ما بيقول أحد الكتاب إن الصيام الكبير ده رتبته الكنيسة علشان يكون هو البصخة اللى هو الأعشاب المُرة بتاعة البصخة بتاعتنا النهاردة، فاللى تعب وجاهد من حقه انه يفرح النهاردة لأن هيعدى الملاك المهلك لكن ما يقدرش يقرب منه لأنه مرشوش بالدم.

أحنا في الواقع يا أحبائي لما نرجع لشعب إسرائيل وهو طالع من مصر. فرعون رمز للشيطان هو والمصريين فدول اذلوا شعب الله ذل فوق الوصف. وكان لما يعني يطلبوا طلب يقولون لهم طيب من الراحة أنتوا بتطلبوا، طلب كمان خففوا عننا الشغل شوية يقولوا لهم طيب ما دام بتطلبوا نخفف الشغل يبقى بكرة تشتغلوا شغل مضاعف.. آدى الشيطان دايماً. بقى معقول واحد يروح يشتكى للشيطان؟ واحد يروح يشتكي للشيطان من الشيطان؟!!.. مش معقول!! الشيطان عايز يفترس الإنسان، ربنا بعت الضربات انت عارفها ٩ضربات. ولو أن الضربة الأولانية كانت بالدم برده.

لأنه حول الأنهار لدم. لكن الضربات دية تفتكر أثرت في فرعون؟ أبداً ولا فاق.. يدوبك وقتها يأخذ الخبطة يقول لموسى “خلاص تبت” وبعدين يقول له طب خلاص هيشيل عنك الموضوع ده.. أول ما يشيل الموضوع يرجع ثاني أوحش مما كان.. فالضربات كلها مانفعتش معاه. إلا الضربة الأخرانية لأن الضربة الأخرانية فيها موت.

الضربات الأولانية كانت يبعت مرة يعمل له الذباب، يبعث له البعوض، يحول الماء لدم، يبعث له الضفادع، يقعد يغيظه بحاجات كدة، في قوته وفى مصالحه وفى الحاجات دي. ربنا لازم يقعد يغيظ الشيطان كدة، لكن في ضربة هياخذها هتكون هي الضربة الأولى والأخيرة، دية هتكون ضربة الموت. أنتوا شايفين المسيح الميت النهاردة.

ده أحنا كنا بنسمع الكنيسة وهى بتقول قدوس الله الذى أظهر في الضعف أعظم مما هو في القوة يعني.. في ضعفه عمل اللى متعملش في القوة .. الناس الجهلة فاكرة إن هو ضعيف بتنوح عليه، لكن إحنا بنقول له لك القوة والمجد والعزة إلى الأبد أمين، وبعدين في آخر التسبحة بنرتل بنقول: قوتي وتسبحتي هو الرب وقد صار لي خلاصاً .

فالنهاردة يوم غلبة يوم إنتصار مش يوم حزن يوم فرح. صحيح في كل بيت فيه حزن لأن فيه حزن لأن فيه ميت بس مش عندنا. مش عندنا إحنا فيه حزن، في العالم، ولكن إحنا ما عندناش إيه؟ حزن.. إحنا عندنا فرح، بس هم مقدروش يفهموا الفرح اللى إحنا عايشينه قد أيه؟ لكن الحقيقة هو بره في حزن.. العالم يفرح وأنتم تحزنون، ولكن حزنكم ينقلب إلى إيه إلى فرح، فشعب إسرائيل فرح الليلة دي. فافرض أن فيه واحد من الشعب واحد بس مرشش البيت بتاعه بالدم تفتكر ها يجرى إيه؟ هيجى الملاك المهلك ويجى خابط البكر مموته مع الأمميين.. ياه يبقى إذاً دلوقت فيه خطورة على النفس اللى ما تتحميش في دم المسيح، ستعامل نفس المعاملة بتاعة النفس اللى هي متعرفش المسيح خالص .

 

لأجل هذا يا أحبائي الملاك المهلك يعبر عن النفوس المرشوشة بالدم. علشان كدة أنا نفسى أغطس في الدم ده أغطس على رأي إشعياء “ما بالك ثيابك حمر” مال هدومك حمراء كدة، قال له أنا دائس المعصرة وحدي، وليس معي أحد من الشعوب.. وأيضاً البصخة بتاعتنا عبور، فالعبور تم مرة ثانية لما عبروا البحر الأحمر.. بقى هما في المرة الأولانية لما ضربوا الأبكار مخدوش بالهم.. لأن هم أكلوا الفصح وطلعوا جرى أخذوا العجين ومشيوا ما شفوش المصايب والبلاوى اللى حلت بالشيطان والبكا.

أمال يعني مطلعش وراهم جري ليه؟ ما هو كان لازم في جنازة في كل بيت ولومكانش الشيطان مضروب، ماهو كان طلع لحقهم فوراً. فهو على ما خلص من الجنازة بتاعته وخلص ٣ أيام ولا بتاع.. فاق لنفسه جري قال وراهم ثاني، قال له تأخذ الضربة الأخيرة بقى. فجه يعبر البحر الأحمر ويغرقه هو وجنوده بالعصا اللى هي رمز للصليب، اللى تانها مع موسى علامة لإية ؟ للصليب ..

ولاحظ ناحية مهمة جداً إن الصليب لم يفارق حياة موسى للحظة الأخيرة بعد ما عبروا أولاً ضرب البحر بالأية؟ بالعصاية.. العصاية كانت رمز للصليب وبعدين الصخرة قال له أضربها  بالعصاية قال له إيه الصخرة دي؟ بولس الرسول يقول “والصخرة كانت هي المسيح” والجنب أهو مجروح وطالع منه، تقول يا عينى طالع منه الماء أبداً ده الماء دى حلوة قوى ده منها بنرتوي.. الدم ده منه بنشرب ده من غيره أحنا ميبقاش لينا قيمة وتان الصليب ملازم حياة موسى لأن موسى بعد شوية لقي العمالقة اللى هما عماليق ودول كانوا ناس جبابرة جداً في الحرب.

قال له وأنا هاعمل إيه؟ الشعب قالوا مفيش قبور في مصر كنت تدفنا فيها جيبتنا تدفنا هنا. قال له وديلهم أي حد يحاربهم كده قال له ميقدروش عليهم، قال له أنت تعمل إيه؟ ترفع ايديك طول النهار على مثال الصليب كدة، تعمل علامة الصليب كدة وتصلي طول النهار. قال له حاضر وتانه رافع إيده طول النهار يقول إيه الأخبار.. يقول إنتصارات رهيبة ولا واحد مننا بيموت. قال طب أنا تعبت بقى لما أنزل أيدي.. نزل إيده بص سمع صراخ ناس جاية تجري، قال لهم فيه إيه ؟ قالوا له في هزيمة فظيعة في الشعب بتاعنا. قال له طيب ارفع إيدى ثاني بس أنا تعبت قالوا ما فيش حل نخلي واحد يمسك لك أيدك من هنا وواحد يمسك لك إيدك من هنا.. أصل أنت يا موسى مش بتخلص بدرعاتك المفتوحة. ده أصلك أنت رمز للصليب نفسك. نفسك رمز للصليب فعشان كدة لازم تبقى شكلك يبقى شكل الصليب.. عشان يبقى فيه إنتصار، ولما يبقى لدغهم الحية قال له طب أعمل إيه قال إيه قال له مقدامكش غير الصليب حية نحاسية على مثال الصليب، وكل نفس دخلت سم الخطية تقدرانت تطلع السم ده من جسمه بواسطة إيه؟ النظر للحية النحاسية .

وهكذا ياعزيزى ده الصليب رمز حياة موسى .. حياة الشعب طول الخروج . فالبصخة في الواقع بالنسبة لشعب إسرائيل لم تكن مجرد إنهم عملوها في ليلة ومشيوا.. دى كانت اختباراتهم، ولما كانوا بينسوا كانوا بيقعوا ثاني.. علشان كدة البصخة فى حياتنا في الواقع النهاردة أنا عاوزك تحفظ الآية دي في كورنثوس ٥ “إن فصحنا أو بصختنا هو المسيح الذى ذبح لأجلنا..” خلاص. تعملوا البصخة كل قد إيه يا أبونا؟ مش كل سنة كل سنة بنعملها بعد الصيام كدة.. بندوق حلاوتها وتذكاراتها الجميلة .

لكن البصخة هي حياتنا اليومية بتاعة كل يوم. كل يوم في بصخة، ده مش كل يوم.. كل لحظة، ولا الشيطان بيهدأ ولا ضعفنا البشري بنخلص منه. والدم موجود قدامنا كل يوم.

لذلك يا عزيزى كل جهاد ضد الخطية.. كل ما أنت حياتك تكون مرشوشة بالدم.. أنا مش عاوز بقى حياتك بس كدة كلمة عامة. عينيك تترش بالدم .. فدوق الدم بتاع المسيح كدة.. وامسح عينيك.

خلاص يجي المهلك ويقرب كدة يقول: لا ماقدرش. حاجة بتخوفنى خالص. أنت عارف لما فيه طيارات كدة تلاقى قاعدة صواريخ تبعد عنها. لما يقول لك تقرب الطيارة منها تقع على طول .

أحنا دلوقت الشيطان عارف قيمة الدم ده، والأنبياء في العهد القديم كانوا بيتمنوها. ده داود النبى قال في المزمور “ثقبوا يديّ ورجليّ” صحيح أنت هتقول إن هو بيتنبأ عن المسيح. بجد هو بيتنبأ عن المسيح لكن داود كان عاوز يعيش مع المسيح، بيقول له يدي ورجلي. إيدي اللى قتلت وسفكت دماء كثيرة أثقبها يا ربي علشان خاطر تبطل الحاجة دي.

ورجلي وقعتني في الخطية واللي راحت للمكان بتاع الخطية واللى تطلع تتمشى فوق السطح.. أنا عاوز ياربي تثقب يدي ورجلي  ولو أنه كان بيتكلم عن المسيح، لكن كل الأنبياء أشتهوا أن يروا هذا اليوم وتفتكروا إبراهيم شاف إيه؟ إبراهيم أبوكم اشتهى أن يرى يومي. ايه اليوم بتاع ربنا اللي شافه؟ ما هو ده يوم الرب العظيم.

لأن فيه انسحق الشيطان، وفيه بشر المسببين، وفيه داس الموت بالموت.. والموت هو العدوا الأخير اللي بيقول عنه بولس الرسول “العدو الأخير”. أين شوكتك يا موت.

وكنيستنا تقول بموتك المحيي يا رب. الموت اللي واهب للحياة أحنا لسنا أمام إنسان ميت، ده إحنا قدام إله حي. كيف نبكي على إله حي يا أحبائي؟ أنا قلت إحنا قلنا إن إحنا بنتأمل الأسبوع ده في اللي أخذناه من المسيح. أخذنا إن إحنا نترشم بالدم ويعبر المهلك وميقدرش يقرب مننا. فالبصخة بقى في حياتنا بمعنى كلمة عبور تبقى هي حياتي.

تقول لي أنا عايش بصختى طول عمري، طول عمري أقول لك إزاي تقول لى شوف البصخة دي كلوها على إيه؟ أقول لك أعشاب مره.. آه شوف المرارة كلها .. مرارة ليه؟ هو شال مرارة عشان الأعشاب المرة كمان، اللى اتأكلت عليها اللحم.

يأكلوا لحمة مشوية على إيه؟ على الأعشاب المرة. يقول له ريحة اللحم حلوة حلوة جداً مشوية. وبعدين العيال يجوا ياكلوا من اللحمة يقولوا يا بابا ديه فيها مرارة. مرة إيه الحكاية؟ يقول لهم أصل يا أولاد الشريعة بتقول كده: لازم تأكلوها على أعشاب  مرة. يقولوا طب إيه المرارة دي؟ أصل أنتوا أخذتوها على الجاهز .

لكن ده إحنا جدودنا عاشوا في عبودية  مرة مع فرعون ومع الشيطان وجنوده. وأنتوا بتتمتعوا بالحرية دي. فذوقوا المرارة بس حتة.. للتذكرة. علشان تشوف المرارة اللى عاشها اللى كانوا تحت عبودية الشيطان. فإذا كنتوا أنتوا في الحرية وفصحكم هو المسيح فكلوها على أعشاب مرة.

والأعشاب المرة في حياتك ياعزيزي هي جهادك ضد الخطية، افرض مثلاً فيه شاب أو شابة كدة هيعيشوا لأجل المسيح. يحفظوانفسهم بقداسة وطهارة في العالم، مش هيتعبوا شوية؟ هيتعبوا مش شوية أعشاب مرة، أعشاب مرة لكن فيها رشة دم تعطيهم نجاة أبدية.. وتعطيهم خلاص.. وتعطيهم نجاة من الموت. لأن الملاك المهلك جاي علشان يهلك كل نفس مش مرشوشة بالدم. وكل نفس ما أكلتش الفصح.. ومأكلوش على أعشاب مرة.

إيه يعني إنه يقول له لازم تشويه على أعشاب مرة؟ يطلع كل واحد من بيته يلم أمّر الأعشاب والشاطر اللى يجيب أكثر الأعشاب مرارة. لما تبقى الأكلة مرة خالص.. ريحة حلوة.. والأكلة مرة جداً، هذه حياتنا.. مرارة.. صح في مرارة مننكرش .

تفتكر فيه واحد بيجاهد ضد الخطية ما يشفش مرارة؟ واحد بيجاهد في صلواته.. فيه واحد بيجاهد في أصوامه.. مرارة؟ فإذا إحنا نترش بالدم. “لم نجاهد بعد ضد الخطية حتى الدم” .

يا ما يسوع وصانا في الأسبوع ده وصانا وقال أجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق، وصانا وكلمنا عن شجرة التين اللي ماجبتش ثمر. إزاي هو لعنها وقال لنا اسهروا اسهروا. ودية أعشاب مرة. فالبصخة هي حياتك كلها على الأرض، هي حياتي لو نعاهد ربنا النهاردة ونقول له إن إحنا مش هنعيد البصخة النهاردة.

ده البصخة ديه عمرنا كله. يبقى إذاً إحنا مستعدين نأكلها دائماً على أعشاب مرة وبفرح تشوف كل واحد كدة بيأكل الفصح تلاقيه فرحان. فرحان ليه؟ اللحمة مرة يقول لك: اسكت إحنا هنعبر دلوقت والموت هيهرب مننا.. لكن هيهلك البيوت التانية .

ففي مرارة تدوقها في حياتك.. ومرارة الظلم اللي اتظلمه المسيح.. ومرارة الجهاد ضد الخطية.. ومرارة الحرمان.. ومرارة التعب.. وتأكله إزاي؟ قال تكلوه وأحقاءكم مشدودة، واحذيتكم في أرجلكم، وعصيكم في أيديكم، وتأكلونه بعجلة.. تكلوه وأحقاءكم مشدودة متحزمين كدة ودى بتبقى واضحة عند الجماعة الرهبان في الأديرة. الراهب لازم يلبس منطقة على حقويه علشان لما يقف يصلي يقف يصلي بنشاط، يعني يبقى وسطه مفرود .

عمل الرب ميتعملش بأيدى مرتخية. لأن الكتاب يقول ملعون من عَمَلَ عَمْل الرب بأيدي مرتخية. الصلاة ما تكنش بارتخاء، لكن تكون أحقاونا إيه؟ مشدودة. علشان نأكل.. علشان فصحنا أو بصختنا هو المسيح الذي ذبح لأجلنا. وأحذيتنا في ارجلنا وعصياننا في أيدينا. نأكله بعجلة .

كل ده معناه استعداد يا أحبائي زي ما بيقول مارافرام: لا توجد مصيبة للإنسان أكثر من الكسل. الكسل بقى باب جميع الخطايا.. اللي ها يأكل الفصح وهم كدة نايمين ومدروخين وأحقاءهم مش مشدودة.. دول مش ها يلحقوا ينجوا .

ده قال لهم خذوا العجين. قالوا له مخمرش. قال لهم خذوا كلوا سبع أيام من غير ما يخمر. كلوه فطير. والفطير قال لهم في سفر التثنية إيه؟ يقول لهم عنه العيش بتاع المرارة أو العيش بتاع خبز العناء أو التعب.. فالأكل العيش اللى مش مخمر ومعجون كدة على بعضه، بيقعدوا ياكلوا فيه أسبوع يقولوا ليه يا موسى كده؟ يقول لهم ده خبز العناء. لأن أنتوا شفتوا عناء كثير، افتكروا جدودكم عملوا إيه؟.

ففي الواقع لازم تكون أحقاءنا مشدودة وعصينا في أيدينا. يا ما فيه ناس كانوا أقوياء ووقعوا ليه؟ أصل الكسل لما يخش.. يخش يتسرسب واحدة بعد واحدة كدة، ومفيش حاجة أوحش من الكسل. تكسل في صلاة. وبعدين تكسل في مجيك الكنيسة، وبعدين تكسل في اعترافاتك، وبعدين تكسل في قراءاتك للإنجيل.

واحدة واحدة تبص تلاقى الفتور ملأ حياتك، وبعدين تيجى تقول أنا عندى فتور شديد. بعد إيه؟ بعد كسل طويل.. عشان كدة لو تلاحظ إن في الدينونة الأخيرة في اليوم الأخير ربنا هيعاقب ناس مش سرقوا، ولا قتلوا، ولا زنوا، ولاعملوا.. هيعاقبهم لأنهم هيقول لهم أيها العبد الكسلان بس. قال له بس كسلان ودي كفاية؟ ودي يعني تأخذ عقاب؟ قال له كسلان أنا قلت تأكل وأحذيتك في أرجلك. وعصيك في أيديك وتأكلونه بعجلة .

عمل الرب بيتعمل بسرعة، اسمع النصيحة دي: اترش بالدم رش قلبك، وحياتك، وأيدك، ورجليك، وبيتك وولادك، كل ما لديك. وكل فصحك بالمرارة بتاعته. ما تتذمرش عليها ما تتذمرش من المرارة.. المرارة دي هي اللذة اللى في الأكلة. وكلوا بعجلة وخليك نشيط في حياتك الروحية. ستعبر.. سيعبر عنك الموت “الملاك المهلك” وستعبر في البحر أيضاً. تعبر المعمودية.

نشكر المسيح إننا كلنا اجتازنا المعمودية . لكن تقول لي يمكن فيه أطفال إحنا محسناش بالعناء والتعب. واحنا بنتعمد مثلاً.. أيوه طبعاً محسناش لكن كل شيء تم.. الدم واتغسلنا بيه.. واتولدنا الولادة الجديدة، وخلعنا الإنسان العتيق. والمرارة وكل حاجة تقول لى ده إحنا محسناش أبداً.. أياميها كانوا بيوزعوا ملبس ويزغرتوا.

أقول لك تعالى بس أرجع لجدودنا شوية وراء شوف واحد زى مارجرجس المزاحم ده علشان ينتصر عمل إيه؟ كان يروح الكنيسة يتحايل على القسيس. يقول له: أبعد عني.. هتجيب لى مصيبة. يروح للأسقف: يقول له مفيش أنت ها تعمل إيه؟ يجي الشيطان يدخل جوا واحدة مسيحية فيها روح عرافة تصيح في وسط الكنيسة تقول ألحقوا في وسطكم واحد يعمل كذا وكذا.. وهيجيب لكن داهية. شوف الشيطان يعاكسه يشوف المرارة.

وأكثر مش عارف من ١١ سنة متشرد على الأرض من بلد لبلد. علشان حد بس يعمده، وعلشان ينال صبغة  المعمودية. علشان كدة المسيح قال بالصبغة بالدم التي بها أنا أصطبغ تصطبغون يعني بالمعمودية التي بها أنا أعتمد تعتمدون .

وتفتكر زمان أول الواحد ما يقبل الإيمان كدة يرقوه؟ يدوا له وظيفة في الدولة؟ على طول يدخلوه للمحاكمة. ففي الواقع المعمودية كانت بتتاكل بتتاخذ على أعشاب مرة. وكانت بعجلة أيضاً، لأن ملكوت الله يغصب والغاصبون يختطفونه. فالبصخة هي حياتنا .

باختصار يا أحبائي وأنا قصدت أن إحنا نفرح النهاردة لأن بصختنا هو المسيح الذى ذبح لأجلنا، فماتبصلهوش وأنتم زعلانين. لكن افرحوا لأن ملاك الموت يهرب منكم. وأخيراً هتكون فيه بصخة  أخرانية اللى هو يوم ما نفارق الحياة. هيكون عبور. وتعرف قد إيه.. قبل المسيح النفوس اللى مش مرشوشه ترتعب من الموت، وتقشعر.. وتخاف جداً؟ لأن بتشوف قدامها أشباح الشياطين وهى جاية علشان تقبض على روحها وتنزلها للجحيم. في منظر أصعب من هذا المنظر؟ طب امال إيه؟ الناس بقى المؤمنين اللى مرشوشين بالدم؟ اللي أكلوها على أعشاب مرة يجي الملائكة يستقبلوها.. تجي الست العذراء تستقبلهم.. فيه حصل كدة.. مارجرجس المزاحم وسيدهم بشاي وهم بيضربوه وبيستشهد بقى يقول لهم ياجماعة هاتوا كرسي للست عشان تقعد، قالوا الراجل بيخرف. كرسي للست تقعد؟ هوشايف الست العذراء قدامه جاية عشان تأخذ روحه. وبيقول لهم شوفوا هاتوا كرسي عشان تقعد. فالعبورالأخير ده عبور رهيب جداً جداً، تتراكم أمام الإنسان خطايا اللي ملهاش حدود. لو مفيش دم عشان يغسل الخطايا دي كلها دي خطية واحدة أجرتها موت، كيف يكون العبور يا أحبائي؟ هتكون البصخة صعبة جداً، سيأتى الملاك المهلك ويهلك بلا رحمة، وبلا شفقة. ولكن أولاد الله المرشوشة حياتهم بالدم سيعيشوا.. سيمروا هذه اللحظة بمنتهى السلام. ويقولوا لك فلان انطلق بسلام، ويقول لك فلان حملته الملائكة، لعازر حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم.

ويحكوا لنا عن القديسين استقبلتهم أرواح الملائكة. يعني كان استقبال حافل ورائع وجميل وممتع. والعكس كانوا يقولوا لك كانوا بينادوا القديسين كدة وكانت بتبدوا منهم حركات كانهم بيكلموا ناس قدامهم. العبور كان سهل جداً، عبروا على أعشاب مرة .

وإن كان الموت له مرارة مش هايفلت منه حد. لكن المرارة لا تخيفنا لأن الملاك المهلك سوف لا يهلكنا لأننا سنعبر بالدم.

من أجل هذا يا أحبائي فرحتنا النهاردة بدم المسيح اللي مش ها تترش به قوائم العتبة.. العتبة والقائمتين، لكن ها تترش به كل حياتنا، وولادنا، وبيوتنا. اجرى بسرعة وعيش قدام الصليب. ومتخلهوش يفارق حياتك، وتأمل في الدم اللى نازل منه، وخد خليك عامل زي المجدلية، دى اللي الفنان حطها ورسمها قاعدة تحت الصليب. قال عشان تأخذ الدم كله اللى نازل عليها، متعملش زى التلاميذ اللى هربوا وشافوا الدم ده .

وبطرس يقول يا خسارة يارتني كنت شفت دم المسيح وأنا كنت شيلته وحوشته.. لكن أحنا مش من الشكل المادي، لكننا بالروح أيضاً بنعيش في دم المسيح، اللي بدم عهده فك المأسورين في السبى “أسرى الرجاء”.. وبدم عهده أيضاً يعبر معنا كل ضيقة في حياتنا .

وكل تجربة، وكل خطية يغسلها بدمه، فنعبر أيضاً. المسيح بصختنا فصحنا الذى ذبح لأجلنا نعبده طول أيام حياتنا وإلى أبد الآبدين.

لإلهنا المجد الدائم أبدياً آمين .

 

 

العظة التاسعة لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

محاكمة ظالمة – للمتنيح القمص لوقا سيداروس[62]

مضت الأحداث سريعة، سريعة جداً، لا يستطيع عقلي أن يلاحقها.

لقد ذهبوا بالسيد من بيت قيافا إلى بيت حنان إلى بيلاطس إلى هيرودس ثم إلى بيلاطس ثانية. كل ذلك خلال ساعات قليلة.. لم أر يسوع فيها ولكن قلبي وكل أحاسيسي كانت هناك. ورغم الآلام التي لا يعبر عنها ولكنني كنت أتذكر كلامه عن آلامه وموته العتيد أن يكمله.

وكانت الأحداث تتوالى ففي الصباح اجتمع رؤساء الكهنة وجمهور كبير لدى قصر بيلاطس. فخرج إليهم بيلاطس، كانوا في شبه مظاهرة، هيج رؤساء الكهنة الشعب فصاروا يصرخون كل واحد بشيء، ثورة وهياج، قال بيلاطس أي شكوي لكم على هذا الرجل أنا لا أرى فيه شيئاً يستوجب الموت أو الجلد. ورغم ذلك أخرجه بيلاطس ليروه وقال لهم: هوذا الرجل.

رأيته من بعيد انخلع قلبي لما رأيته. ما هذا الذي يعلو رأسه؟

أشواك.. يا للقساوة الفائقة عن الحد وهذا الذي يلبسه ثوب حرير أرجواني.. أحمر قاني.. والدم يسيل من كل وجهه ومنظر الأعياء والآلام تتضح عليه.

يا سيدي بالحق احتملت ظلم الأشرار وبذلت ظهرك للسياط..وما هي إلا ساعات وقد صدر الحكم وساقوه مع اثنين من المذنبين وهو حامل الخشبة التي سيصلب عليها. كنت أسير تابعاً من بعيد.. لم يكن أحد يستطيع أن يقترب فعساكر الرومان شرسين عنفاء. كانوا يحيطون بالموكب ويشبعون من يقترب ضرباً بالسياط أو يلكزونه بمؤخر الحربة.

أخيراً وصلوا إلى مكان الجلجثة فوق التل. كان يسوع قد أضناه التعب للدرجة التي فيها وقع تحت نير الخشبة. وأقاموه ليحملها أيضاً مرات ومرات وأخيراً وجدوا إنساناً سخروه لكي يحمل صليبه.

وهناك على الجلجثة وضعوا الخشبة وسمروه عليها بمسامير غليظة بكل قسوة وبلا رحمة!! كانت ضربات المطرقة تسمع من على بعد، وكان قلبي في داخلي يرفرف مثل عصفور مذبوح.. ثم رفعوا الخشبة وثبتوها على الأرض.

سمحوا ليوحنا ولمريم أم يسوع أن يقفا هناك بجوار الخشبة. مرت اللحظات كئيبة مقبضة.. صارت دموعي تجري كالنهر.. وبعد وقت قصير انقلبت الدنيا كلها.. صار ظلام فجأة.. ثم رعود واضطراب وزلزلة.. فكرت أن هذه نهاية العالم. أصاب الجميع رعب وأيما رعب. تكلم يسوع بالجهد بكلمات قليلة. وبعد ثلاث ساعات من تعليقه على الصليب ” صرخ يسوع بصوت عظيم يا أبتاه، في يديك أستودع روحي “. ونكس رأسه.

الآب أبوه الذي خبرنا عنه ومجده وأظهر اسمه لنا وأرانا إياه في شخصه لما قال لفيلبس: “الذي رآني فقد رأى الآب”. استودع روحه في يد الآب وأسلمها بسلطان. تذكرت كلمة قالها: “لي سلطان أن أضعها”.

كسروا ساقي اللصين حوله، لكي يجهزوا عليهما، وفعلاً ماتا. ثم حدث ما لم يكن له مبرر. أخذ واحد من عساكر الرومان حربة وضرب بها جنب يسوع. لماذا أيها الوحش الدنيء؟ لقد مات! ماذا تريدون بعد؟ آه لو كان لي ما أفعله..

أحسست بعجز قاتل أمام قوة غاشمة. ولم أجد سوى دموعي ملجأ لنفسي فبكيت بمرارة وحرقة. ولكن هالني المنظر إذ رأيت دماً وماء قد انفجرا من جنب يسوع . وهل جسد الميت يفيض دماً ؟! تعجبت وانذهلت وأنا في عمق حزني وآلامي.

بدأوا ينزلوه عن الصليب.. تشجعت وذهبت لعلي أعمل شيئاً. انزلوه برفق.. تغير فكر الحراس.. بعضهم صار مستاء يبدو عليه الحزن. وآخرون كانوا يقرعون صدورهم. ورأيت قائد المئة المكلف بالأمر

كله مطرقاً رأسه إلى الأرض ودمعة في عينيه وسمعته يقول: “حقا كان هذا الإنسان ابن الله ! “.

يا لهفي، ولماذا كل هذا بعد فوات الأوان وقد مات يسوع. كانت أم يسوع قد جلست تحت الصليب فلما أنزلوه تلقته هي على ركبتيها.. دموعها تسيل کالنهر ولكنها كاملة في صمت عجيب. لم تتكلم كعادتها فهي دائماً صامتة ولسنا نعلم أسرارها. كل شيء كان يدخل إلی. كنز قلبها ولا أحد من الناس يعلم ماذا كان هناك في ذلك الكنز.  ولكننا كنا نتحير فيما تخبئه من أسرار لا يطلع عليها حتى الملائكة.

جاء رجل غني اسمه يوسف محترم وموقر من الجميع، يسير معه أحد كبار معلمي الناموس – نيقوديموس – يحملان أكفاناً وأطياباً.

متى أعداها؟! وما هي معرفتهما بيسوع؟! يوسف هذا لا أدري متى كان تلميذاً ليسوع؟ ونيقوديموس رأيته يزور يسوع في إحدى الليالي.. لم أره بعدها.. هل جلسة واحدة غيرت حياته فصار تلميذاً؟ أمور كلها لا يوجد لها عندي تفسير.

طيبوا جسده بالأطياب.. شيء كثير قد يكون ثلاث مئة رطل من الحنوط وأكفان كتان غالية. حملنا جسد يسوع إلى موضع قريب.  قبر جديد في بستان يملكه يوسف الرامي هذا.

وضعناه في القبر!! يا سيدي أنت أخرجت لعازر من القبر بعد أن أنتن فقط منذ أقل من أسبوع !!والآن نضعك أنت في القبر ونغلق عليك!؟ كيف يكون هذا؟ شيء يحير العقول!..

يدك التي أقامت الأموات تموت؟

أنت الذي أسكت الريح وأطاعك موج البحر تموت؟

أنت الذي فتحت أعين العميان تغمض عينيك كمثل المائتين؟

ولكن ما كل هذا ما الفائدة بعد أن مات.. حيرة وألغاز بلا حلول.

يكاد عقلي يتوقف عن التفكير. وضعنا الحجر الكبير على باب القبر.

انتهى كل شيء ولم يبق سوى الألم والحسرة.

رجعت إلى مكاني.  أما يوحنا فقد استندت على كتفه العذراء مريم وذهب بها إلى بيته.

ذهبنا إلى بيت مرقس وصعدنا إلى العلية وأغلقنا على أنفسنا أنا وبعض التلاميذ.

كان الخوف يحيط بنا من كل جانب. بعضنا قال.. مات يسوع.. لا بد أن دورنا آت!! إن كانوا قد صلبوه فماذا عساهم أن يعملوا فينا ؟

أوهام ومخاوف. لفنا صمت رهيب معظم الوقت وإذا تكلم أحد يثير الخوف في نفوس الباقين !! ورغم أننا مجموعة، ولكن كانت هذه الليلة موحشة كأننا في برية قاحلة مملوءة وحوش كاسرة. ظلام وخوف. وتوقع وحيرة.

لم يغمض لي جفن كل الليل. ظللت ساهراً وعيناي مفتوحتان تتوارد على مخيلتي كل الحوادث بتفاصيلها. الدموع تسيل من عيني بلا ضابط. كأنني طول الليل واقف في الجلجثة وأصوات المطرقة تهز كياني وآلام يسوع تعتصر قلبي.

أشرقت شمس اليوم التالي، يوم السبت، والسبت هو الراحة بحسب الناموس ولكنه الجمود وعدم الحركة. صار هذا السبت كأننا نحن أيضاً في حال الموت لم نتحرك من مكاننا. وإذا خرج واحد ففي حذر شديد ويرجع كأنه عصفور نجا من فخ الصياد. قضينا اليوم كله يلفنا الحزن والخوف. كان معظمنا صامتاً طوال اليوم. أفكار تذهب وأفكار تجيء وقد ملأ الحزن كل قلب.

 

 

العظة العاشرة لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

يسوع المصلوب – للمتنيح القس منسي يوحنا[63]

“احتمل الصليب مستهيناً بالخزي” (عب١٢: ٢)

على الصليب تقابل الضدان … تقابل أحسن شيء مع أردأ شيء. فالأحسن هو من الله والأردأ هو من الإنسان. ولا يوجد لدى الله إلا كل صلاح بينما لا يقدم الإنسان إلا كل طلاح. فالصليب أعلن جمال الله وشناعة الإنسان إذ قدم الله عليه حبه، وقدم الإنسان به عداوته. قدم الله خلاصه، وقدم الإنسان فساده، قدم الله خيره، وقدم الانسان شره.

فلنرفع عيوننا إلى الصليب ولنسأل من هذا الذى يعانق خشبة الصليب؟، ومن هذا الذى يرضى أن يموت هذه الميتة المهينة، مخيف هو الموت. فمن ذا الذى يجسر على التقدم إليه بمثل هذه الشجاعة؟َ! لقد قال عن نفسه “ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لى سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضا” (يو١٠: ١٨). فإذاً هو الذى وضعها بسلطانه وسلم نفسه بإرادته .

فما بالك أيها المصلوب لا تخاف الموت الذى يخافه كل الناس، وما الذى حملك على التقدم إليه بمثل هذه الجرأة العجيبة؟!..

أيها البشر.. أعلن لكم من على صليبي الذى اشتهيته لأجلكم إني لما رأيت الموت المكروه يقف فى طريق خلاصكم هزأت بأخطاره وأحببته حباً بكم. ولما رأيت صليب العار يعترض على سبيل نجاتكم استهنت به لأخلصكم. فالمحبة جعلت لي الصليب أشهى من عرس المجد. بل صرت أعانقه بشوق كما يعانق العريس عروسه لأنى أعلم أن لكم فيه الحياة الأبدية .

نعم. نعم. لا يوجد برهان أقوى على حب يسوع من الصليب. إنه يصعب علينا أن نتصور مقدار احتقار الصليب أيام المسيح. كان الرجم هو القصاص اليهودي الخاص، أما الصليب فقد أدخله الرومانيون إلى فلسطين. كانوا يوقعونه فى إيطاليا على العبيد وعلى المذنبين ضد الحكومة وعلى كل من يريدون أن يلصقوا به عاراً عند موته، وفيما عدا ذلك كان المقضي عليه يقتل بالسيف. أما ناموس موسى فقد نطق باللعنة على كل من يعلق على خشبة (تث٢١: ٢٣) وقد كان صليب يسوع معناه وقوعه تحت اللعنة. ويقول معلمو اليهود: إن إبراهيم يجلس عند باب الجحيم ليمنع أي واحد من أولاده من الدخول إليه إلا الذي يقع تحت لعنة الناموس.

فالصليب كان آلة الإعدام لأكبر الجناة والمجرمين. فما الذى جعل له هذا المقام العظيم اليوم؟!..

إن يسوع البرىء صلب عليه فحول حقارته إلى عظمة فائقة، ودناءته إلى شرف عظيم. إننا نفتخر اليوم بالصليب مع أنه كان وقتئذ علامة الاحتقار، لأنه عوضاً عن أن يكشف الصليب اسم المسيح لما مات عليه، أنار هو اسم الصليب وعظَّمَه. إن المسيح افتدى الصليب أيضا من اللعنة حتى صار علماً للبركة. صار الصليب رمز الكفارة الإلهية وانتصار المحبة الأبدية بل جوهر إيماننا الأقدس، لقد صار الصليب العار صليب المجد.

لم يكن قبلاً أرهب من الصليب، فأصبح اليوم يوضع عند المسيحين فى أسمى مكان من الشرف حتى أن الملوك يفتخرون بترصيع تيجانهم برسمه، وقد بات أيضاً لذيذاً ومحبوباً عند جنود المسيح حتى أن القديس أندراوس لما شاهد الصليب المُعَد خاطبه قائلاً: السلام إليك أيها الصليب المكرم الذى نال من أعضاء المخلص كرامة لا مزيد عليها .

يحسبه الغير عاراً وأما نحن فنحسبه شرفاً، ويحسبونه ضعفاً أما نحن فنحسبه قوة: “فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهى قوة الله” (١كو١: ١٨).. كيف لا يتمجد الصليب وقد صار عرشاً لملك المجد، وكيف لا يتعظم وعليه انطرح الفادى الكريم، كيف لا يرتفع ومن فوقه انبعثت أشعة شمس البر يسوع والشفاء فى أجنحتها (ملا٤: ٢).. كيف لا يصبح الصليب موضوع فخرنا وقد صار لنا سلماً مجيداً ارتقينا به إلى سماء الأعالي؟ فما أمجدك أيها الصليب وما أبهى سمو الذى تقدست بصعوده عليك. ما أجل الآلآم التى احتملها السيد المسيح فوقك والتنهدات التى صعدت منه عليك، والدماء الثمينة التى قطرت منه كاللآليء القانية لتغسل القلب من الخطية، وتطهر العالم من الشرور.

إن آلام يسوع التى احتملها بالصليب نوعان: آلام جسده، وآلام نفسه، فلنتأمل فى كليهما ونهايتهما، متخذين من ذلك عبرة لنا.

أولاً: آلام جسده..

فلنأخذ فى تفصيل ما أجراه أولئك القساة، لننظر وهم يخلعون عن المخلص ثيابه ليرفعوه على الصليب عرياناً.

فما أعظم محبة الله وما أحمل صبره وما أوسع حلمه! كيف صبرت يا ابن الله على أولئك الجبابرة وهو يهجمون عليك ويعرونك من ثيابك؟.. وكيف تأنيت على هذه الإهانة؟.. يا للدهشة!!.. إله عظيم يخلع على السماء حلة من الأنوار، وعلى الأرض رداء الأزهار، قد أصبح على الصليب ولا ثوب عليه يستر جسده.

قال أحد الآباء: [لنتأمل كيف كان نزع ذلك القميص الذى كان ملتصقا بلحمه بواسطة الدم الذى كان يتدفق من جراحاته التى كللت صدره، لأنه بنزع هذا القميص اتسعت جراحاته وتجددت بل تضاعف ألمها واشتد للغاية وليس آلام جراحات جسده فقط بل ألم جراحات رأسه التى أحدثها ذلك الإكليل الشوكى إذا أرادوا أن ينزعوا عنه القميص ثم أنهم بعدما نزعوا القميص وضعوا الإكليل على رأسه مرة ثانية ].

وقال آخر: [تعالوا واستروه بثوب المحبة كما صنع سام ويافث ابنا نوح اللذان غطيا أباهم، واذرفوا الدموع الغزيرة من العيون حتى لا تبصر يسوع عريانا على الصليب، وها قد حجبت الشمس أنوارها لئلا ترى عري باريها].

لننظر الصالبين أيضاً وهم يطرحون ابن الله على الأرض ويطلبون من ذلك الحمل الوديع أن يمد جسده على الصليب حتى يقيسوا الأماكن التى يثقبون فيها الثقوب للمسامير. مد الجلادون المسيح على الخشبة وقد علموا الثقوب بدون اعتناء فوضعوها على مسافات أبعد مما كان يجب أن تكون، فلما جاء دور التسمير شدوا يديه ورجليه شدا قاسياً.

أخذ أحد الجنود يد المخلص اليمنى ومدها إلى آخرها على خشبة الصليب، وقد تناول آخر مسماراً ومطرقة وسمرها والمسمار ينفذ إلى اللحم حتى الخشب. ثم أخذوا اليد اليسرى وإذا لم تصل إلى موضع الثقب لقصر أعصابها ربطوا حبلاً شديداً وسحبوها بعنف حتى اتصلت بمكان الثقب ثم سمروها كالأولى، وقد أحدث هذا تفككا فى الأعضاء، وهكذا فعلوا بقدميه الطاهرتين وهو ملقى بين أيديهم كخروف بين أيدى سباع مفترسة، كان يشعر بألم عظيم كلما رأى نفسه غير قادر على تحريك يديه ورجليه ولا على مسح الدم السائل على وجهه.. أيها الجندي القاسي يا من تدق المسمار كيف لم يتمزق قلبك حين جرحت يدك الحبيبة المباركة.. وكيف لم تتمزق أحشاؤك لما شاهدت الدم الحار الذى كان يقطر منها!!..

نعم سمروا يدين طاهرتين والدم يقطر منهما على الأرض، يدان لم تمتدا قبل هذا الوقت إلا لشفاء المرضى وتطهير البرص وفتح أعين العميان وإشباع الجياع وإقامة الموتى. نعم سمروا اليدين اللتين باركتا الأطفال. اللتين لم تتحركا إلا بطلب البركة وهما الآن يمتدان على الصليب لاستمداد بركة ابدية. قال أحدهم: [بما أن آدم بمد يديه إلى شجرة الفردوس فى فعل المحبة المعصية سقط، فإن الإنسان الجديد يلزم أن يمد يديه فى فعل المحبة الخالصة ليرد إلى العالم السعادة مرة أخرى].

ثم جاءوا بحبال وأدوات أخرى رافعة ورفعوا بها الصليب بالجسد المسمر فيه بطريقة مريعة مؤلمة للمصلوب إلى أن نصبوه فى المكان المعد حتى خلعت عظامه من مفاصلها وتمزقت كل عروقه وكمل القول “انفصلت كل عظامي” (مز22: 14).. وقد تم كل ذلك بهزة عنيفة مزقت يديه من شدة الثقل المتعلق بهما فتجمعت على جبينه قطرات عرق كانت العلامة الوحيدة الخارجية لما أسرته نفسه من الآلام الشديدة التى لا تطاق.

والظاهر أن الحكم على السيد المسيح بالصليب لم يكن الغرض منه موت المسيح فقط بل تعذيبهم إياه تعذيباً مريعاً، فإنهم لما جاءوا يصلبونه لم يرفعوا إكليل الشوك على جبهته بل تركوه يحتك بها إلى أن أدماها؟!!.. لنتأمل الآن ماذا ينتج من العذاب؟!.. فأجزاء الجسم التى تمر فيها المسامير هى مجموعة عروق وأعصاب حساسة فآلامها مرة وطريقة الصلب تجعل أكثر دم الجسم يتصاعد إلى الرأس وينتج عنه ضغط شديد على الدماغ يحدث ألماً مريعاً. وكلما ازداد الجسم ضعفاً ازدادت الآلام شدة كل ذلك ويسوع صابر كرجل لا يهاب الموت بل هو فخور بمقابلته.

أما موضع الصلب فكان “الجلجثة” وهى كلمة عبرانية معناها “جمجمة”.. قال العلامة أوريجانوس: [ذلك لأن جسد أبينا آدم كان مدفوناً فيه فقام الابن الوحيد من فوق مثوى الجد الأول ليعيد إليه الحياة الأبدية].. وقال القديس كيرلس: [إن اسم جمجمة رمز للمسيح الذى هو رأس الكنيسة].. وقيل إن ذلك لأنها كانت موضع إعدام للمجرمين حيث ترمى رؤوسهم فأراد المخلص أن يعيد الحياة الأبدية في بقعة الموت.

وكانت هذه البقعة خارج المدينة (مت٢٧: ٣١).. قال الرسول: [فإن الحيوانات التى يدخل بدمها عن الخطية إلى الأقداس بيد رئيس الكهنة تحرق أجسامها خارج المحلة. لذلك يسوع أيضاً لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب” (عب١٣: ١١، ١٢).. وهو بذلك أيضاً يدلنا على أنه مصلوب دائماً من كل من كان خارجاً عن أسوار كنيسته وممن لم يكن متحداً برئيسه الوحيد يسوع.. وجبل الجلجثة هو الذي أشير إليه فى سفر نشيد الأنشاد بالقول: “إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال، اذهب إلى جبل المر وإلى تل اللبان” (نش٤: ٦).. إشارة إلى ما شربه فوقه مخلص العالم من المر، وإلى أنه سيقدم ذبيحة يشتمها الله كرائحة طيبة ليرضى عن البشر.

قال النبى “هلم نصعد إلى جبل الرب” (مى ٤: ٢).. فهيا بنا أيها الخطاة ننطلق إلى المكان الذى كفر فيه عن خطاياكم، تعالوا أيها القديسون لتشاهدوا ينبوع بركم. هلموا أيها النساء إلى مصدر الطهارة والقداسة، ارتفعوا إليه يا جميع المسيحين لترو المنبر الذى ألقى من فوقه أسمى تعليم لتهذيبكم، وسفكت فوقه دماء غسلت كل خطاياكم.

فجبل الجلجثة المقدس هو بيت الله وباب السماء وسلم يعقوب الذى ربط السماء بالأرض وفردوس اللذات الذى كان فيه الصليب كما كانت شجرة الحياة فى الفردوس الأرضي. هو الجبل الذى رفع فيه إبراهيم ابنه اسحق فكأن الله حينئذ يقول: «يا بنى آدم اسمعوا ماذا فعل عبدى المؤمن وخليلى إبراهيم على هذا الجبل، فإنه قدم وحيده بكل رضى ليبرهن على محبته لله. وبنفس هذه الطريقة سوف أعلن محبتى للعالم الهالك وأبذل ابنى الوحيد ليكون ذبيحة عن الخطية».

هلموا أيها العطاش لتستقوا ماء من ينبوع الخلاص فهو الصخرة الرمزية التى تفجرت منها ينابيع المياه، أسرعوا إليه أيها الجرحى فإنه العنقود الذى حمل من أرض الميعاد، ولكم فى عصيره دواء لجراحكم. أقبلوا إليه أيها المؤمنون فإنه إناء الزيت الذى دفعت منه تلك الأرملة جميع ديونها. فهو يكفيكم جميعاً لأن مادته الثمينة لا تنقص أبداً مهما توارد عليها الناس.

نعم إنه ضرب لكنه شفى المضروبين، وجرح لكنه ضمد الجراح، وتعرى لكنه ستر عيوبنا.

يا للعجب، هلم نسأل، عن هذا الذى يرتفع على خشبة الصليب؟.. أليس هو البار القدوس صاحب عرش المجد؟ من هو الذى يتألم، أليس هو رب الخليقة وسيدها؟.. من هو هذا الذى يرتفع بين لصين، أليس هو الذي حضن الآب موضع راحته؟.. من هو الذى سمر على العود، أليس هذا هو ديان الأحياء والأموات؟.. من هو الذى مات على الخشبة، أليس هو ينبوع الحياة الأبدية؟.. من الذى يهان الآن بازدراء عظيم، أليس هو الذى خرجت نار من مقدسه فأحرقت مخالفى الناموس؟!..

ما هذا أيها الفادي؟!.. وما الذى جعلك أن ترضى به؟.. أيهان العظيم؟!.. أيذل الممجد؟!.. أيوضع المرتفع؟!.. يا لعظم حبك، ما أعجب هذا المشهد الغريب. وهل رأى البشر كافة مثله قط؟.. هل سمع أن الذى بيده الحياة والموت يموت كلص قاتل؟.. وهل جرى أن الحاكم العادل يدان من أحقر العبيد؟!.

آه يا مخلصي. لم يربطك بالصليب تلك المسامير، ولكن محبتك الفائقة الوصف هى التى ربطتك بالصليب وحببته لك: لقد أعطيت شمشون قوة ليحل وثقه، فلماذا لم تحل وثق نفسك يا يسوع؟..

لتتفرس الشمس جيداً ولا يبرح القمر مكانه ولتتجه كل قوى الطبيعة نحو الجلجثة لترى فادي الخطاة فإنه “رجل أوجاع” كما قيل عنه بالنبوة (إش٥٣: ٣) وكل عضو نال من الألم أشده. ولم يبق فيه موضع واحد خلا من الوجع. فعيناه ترضضتا من اللكم. وخداه ازرقا من اللطم. وأذناه تعذبتا من الشتم والتجديف والاستهزاء. وحلقه يبس من العطش. وشفتاه تمررتا من المرارة، وصدغاه ورأسه نفذ فيها إكليل الشوك. ويداه ورجلاه ثقبت بالمسامير. وذراعاه شدا، ومفاصله ربطت بحبال قوية، وعنقه سلخ بالحبال التى سحب بها على الأرض بازدراء وإهانة. ومنكباه أعيبا من حمل الصليب، وحقواه وساقاه وبطنه وظهره لم تسلم من كثرة الجلد الجسيم الذى أصابها من أعوان الظلمة.

فما صادف يسوع من الأوجاع لم يصادفه إنسانا قط، لأن علماء اللاهوت اتفقوا على أن جسده المقدس كان أكثر حساسية من أجساد جميع البشر. فكانت إذاً الأوجاع التى شعر يسوع تفوق مرارة وألماً كل وجع، لأنه كان يحتملها ببنية لطيفة وبشرة رقيقة. ألا ترى الرجل الشريفة الناشيء في مهد العز كيف يتأذى من أقل شئ يلم به، في حين أن الفلاح يقاسي البرد والتعب بدون انزعاج، هكذا كم كان كمال مخلصنا العظيم يزيده شعورا بالعذاب. وكم كان ذوقه حساساً فى تذوق المرارة. وكم كان الشم قوياً يتألم من النتانة؟.

فو أسفاه، إن جسد المسيح قد أعد لكي يتألم. “إن ابن الانسان أتى ليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مت٢٠: ٢٨).. فقد كان جسمه يحس بالألم إحساساً عظيماً وقد صار إناء ليسكب فيه بحراً من الأوجاع والعذاب والآلام مما يكفى لأن ينقى جميع أدناس البشر. وهو القائل “حينئذ قلت هئنذا جئت. بدرج الكتاب مكتوب عني. أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت” (مز٤٠: ٧، ٨).

قال أحدهم: [إسمعوا أيها البشر وتعجبوا فلو جمعت كل الأوجاع التى صادفت جميع البشر على رأس واحد لما وازت أوجاع مخلصكم. لقد ذبح هابيل. ورجم زكريا. ونشر إشعياء. وأثخن لعاز بالقروح. ولكن ما من واحد منهم قيل عنه إنه “رجل أوجاع” فلو تقدم بطرس وصليبه، واستفانوس وحجارته، وبولس وسيفه، وأغناطيوس وأسده. لو جئنا بكل الشهداء وآلام عذابهم وقارناهم معه لحاز ابن الله قصب السبق فى ميدان العذاب. لاشك أن يسوع هو أول الفائزين فى هذا المضمار الموجع وهو وحده يستحق أن يدعى مقدام الشهداء وملكهم المظاهر، وله وحده الحق أن ينادي قائلاً: “أما إليكم يا جميع عابرى الطريق، تطلعوا وانظروا إن كان حزن مثل حزني” (مراثى١: ١٢).

ثانياً: آلام نفسه..

إن الآلآم لم تحل بظاهر ابن الله فقط بل بداخله أيضاً، فكان من الخارج مرشوشا بالأوجاع كالماء، أما من الداخل فكان مفعما بالألم العميق كقول النبوة “كالماء انسكبت … صار قلبى كالشمع. قد ذاب فى وسط أمعائي” (مز٢٢: ١٤) وأى شىء أذاب قلب مخلصنا ومزق أحشاءه إلا العار كقوله: “العار قد كسر قلبى. انتظرت رقة فلم تكن ومعزين فلم أجد” (مز٦٩: ٢٠)، وهوذا نسمعه يقول لأبيه: “أنت عرفت عاري وخزيي وخجلي. قدامك جميع مضايقي” (مز٦٩: ١٩). وكأنه أراد بذلك أن يستشهد أباه على العار العظيم الذى آلمه أكثر من سواه. لأن الإنسان الشريف يشق عليه العار أكثر من أى شىء آخر.

كل المخلوقات الحية فى الكون من حيوان ونبات تحس وتتألم، ولكن آلامها تختلف بإختلاف درجاتها، فما يتألم منه الإنسان لا يتألم منه الحيوان كما أن الحيوان يتألم من شىء لا يحس به النبات، وقد يتألم الجسم ويبرأ، ولكن آلام النفس قد لا تبرأ كقول الحكيم: “روح الإنسان تحتمل مرضه، أما الروح المكسورة فمن يحملها” (أم١٨: ١٤).. فما أعظم الفارق بين ما صار إليه المسيح وما يليق أن يكون فيه. المسيح وضع على صليب العار فى مركز لم يكن لائقاً به لأنه كان منذ الأزل موضوع الإجلال والإكرام، مستوياً على عرش المجد.

والصليب كان من نصيب البشرية كافة ، ولو وضعهوا عليه لما تعجب أحد، ولكن الأمر الذى يدعو إلى العجب أن يصير المنقذ موثقاً. والديان مشكو عليه، ورئبس الجند مهاناً، القدوس البار محكوماً عليه، وابن الله محسوبا مجدفاً. ومكللنا بالمراحم مكللاً بالشوك، وواهب المنح والعطايا معرى من ملابسه، والذى هو القيامة والحياة مسلماً للموت!..

فهل من عار أعظم من هذا أن يسمح الخالق لصنعة يديه أن يعذبوه. وأن تستند إلى البرىء كثير من الجرائم والآثام. وأن يحكم عليه بالموت صلباً بموجب قرار رؤساء الكهنة!.. لقد كان كل عذاب احتمله فى جسده الطاهر أهون عليه من احتمال عار الصليب ولعنة الناموس. وإذا أردنا أن ندرك ذلك جيداً فعلينا أن نتصور ملكاً خانه عبيده فأسلموه لأعدائه وأنزلوه من على كرسيه، ونزعوا عنه أثوابه الملوكية ثم ألبسوه ثياباً رثة، وتوجوه بإكليل من عوسج، وأمسكوه قصبة حقيرة وأخذوا يسجدون له مستهزئين، ويبصقون فى وجهه محتقرين، ويضربونه على رأسه مهينين؟..

ولكن يسوع المسيح صبر على هذا العار، لا لأنه يستحق شيئا منه بل ليخلص البشر.

آه يا ربي وإلهي!.. من ذا الذي لا ينذهل إذا شاهدك على هذا الحالّ! ومن ذا الذي لا يتألم قلبه عليك من الإشفاق والحنو! فأنا أسجد لك سجوداً حقيقياً يا ملكي وإلهي. وأخضع روحي أمامك معترفاً بك من كل قلبي أنك أنت وحدك الملك الحقيقي ولو أنك لم ترد أن تبين مجدك ولا أن تستعمل قوتك القادرة على كل شىء. لو أنك سمحت بأن تهان وتحتقر من أعدائك القساة، فمع هذا جميعه أنت وحدك المستحق المجد والسجود والكرامة إلى الأبد.

فلتسجد لك ملائكتك ولتشكرك عنى الأرواح العلوية لأجل هذه الرحمة التى قدمتها لى محتملا لأجلي كل هذا العار والهوان حباً بي. يا ملكي وإلهي امتلك قلبي وروحي ولا تدع غيرك يمتلكني أو يختطفني من يدك.

قال القديس يوحنا ذهبي الفم [إن أثقل جميع أنواع العذاب هو الخجل].. ولهذا قال الرسول بولس: “ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع الذى من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي فجلس فى يمين عرش الله” (عب١٢: ٢).. وكما أننا حينما نروم أن نمدح شخصاً قد انتصر على أعداء كثيرين فى وقت واحد نكتفى بذكر العدو الأشد قائلين إنه انتصر على الجبار. هكذا يقال فى سيدنا يسوع المسيح إذ مات على الصليب “واستهان بالخزي” وهو الألم الأكبر الذى كان يشغله طول حياته كقوله فى المزمور: “اليوم كله خجلى أمامي وخزي وجهي قد غطاني” (مز٤٤: ١٥) وكقوله “لأني من أجلك احتملت العار، غطى الخجل وجهي” (مز٦٩: ٧).

وقد انتهى به الأمر إلى قوله: “يعطى خده لضاربه. يشبع عاراً” (مر٣١: ٣٠) فلم يقل أنه شبع من الجراحات أو من الأوجاع أو من الجلد لأنه بحسب رأي جميع العلماء أن المخلص مات متعطشاً إلى هذه الآلآم مع أنه تكبد منها ما لا تحتمله الجبال، ولكنهم اتفقوا على أنه مات بعد أن شبع من العار لأن سهامه أحد من سهام الألم كقول الحكيم: “يوجد من يهذر مثل طعن السيف” (أم ١٢: ١٨).

فالمخلص ينادى كل إنسان قائلاً: “أعرف احتمالى العار لأجلك” (إر١٥: ١٥) فتأملوا أيها المؤمنون فى الصليب وتطلعوا إلى مخلصكم وقولوا له: “ما بالك تحني يا يسوع رأسك على الصليب بانكسار قلب!..” اسمعوه يجيبكم: لأني بلا ذنب صلبت، أنا البرىء صرت مذنباً، وحقاً لم نجد أن الشريعة قد حاكمت إنساناً لحسن صيته وطهارة سيرته. فقد ألقى يوسف فى السجن ظلماً ولكن ثوبه وجد بيد سيدته (تك٣٩: ١٦).. أما السيد المسيح فما هى الدعوى وما هى التهمة وما هو شبه الذنب الذى أقيم عليه؟َ!.. لقد كانت الجموع منذ قليل تقول عنه إنه نبي من السماء، ومبشر بالحق، وهتفوا أمامه قائلين: “مبارك الآتى باسم الرب” (يو١٢: ١٣) فكيف استحق إذاً أن يرفع بعد ذلك على الصليب كمجرم؟!..

وأى عار إذاً أعظم من عار البرىء الذى يحمل على منكبيه آثام جميع البشر! فلنفرض أن إحدى الأميرات ممن نشأن فى مهد العز والتنعم واعتدن الاتشاح بالأرجوان قد حكم عليها أن تلبس ثوباً رثاً تلطخ بأقذار رجل أجرب قد لبسه قبلها، ثم أجبرت على الدخول وهى فى ذلك الثوب المخجل إلى محفل سيدات شريفات. فما عساه أن يكون خجلها فى ذلك الموقف. ألم يجر للسيد المسيح مثل ذلك تماماً عندما لبس خطايا العالم التى هى أكره إلى الله من الأجساد النتنة.

لقد كان أحب إلى المسيح أن يظهر أمام أبيه بثوب ملىء بالأفاعى والعقارب من أن تخلع على جسده خطايا العالم. من يراه وهو على الصليب يقول عنه بأنه مجرم. فلماذا يغرس الشوك فى تلك الرأس الطاهرة؟ ذلك لأن رؤوسنا مفعمة بالأفكار النجسة. ولماذا تثقب اليد الكريمة؟ لأن أيدينا تقطر إثماً وشراً، فما ارتكبته أعضاؤنا تأثرت به أعضاؤه، فجرائمنا لصقت به ونظراتنا الشريرة أبكت عينيه، وكبرياؤنا نكس رأسه. وفساد قلوبنا أذاب قلبه فى النار كالشمع وسعي أقدامنا للخطية ربط قدميه بالصليب .

فلنتفرس إلى مخلصنا المصلوب لندرك هذا السر، ولنتأمل لأي سبب يموت هكذا، ولنخاطبه قائلين: يا ابن الله الحي.. أهذا هو عزك الملوكي؟.. أهذه هى قدرتك الإلهية؟.. أهؤلاء هم أعيان مملكتك؟.. وهؤلاء المجدفون هل هم المسبحون لجلالك الإلهي؟!.. أهذا العود عود اللعنة والعار هو كرسي مجدك؟!.. وهل هذا الدم انصبغ به ثوبك الملوكي؟.. قل لنا يا ابن الله، يا مجد الملائكة، هل إلى هذا الحد أوصلتك محبتك للعالم لكى تنحدر من سمو الجلال الإلهى إلى أقصى درجات العار والهوان، أإلى هذا الحد أوصلتك محبتك حتى جمعت عليك كل الأوجاع والتعييرات الممكن وجودها فى العالم لتحملها بلا لوم ولا ذنب؟..

تعالوا أيها البشر جميعاً وتحيروا.. ما لكم لا تشعرون حقاً بنعمة من مات لأجلكم!.. إن أصحاب أيوب حينما رأوه فى حالته التعسة شقّوا ثيابهم ورفعوا التراب على رؤوسهم وصاحوا بأصوات عالية باكين وجلسوا معه سبعة أيام بلياليها، لم يكلمه أحد منهم من شدة الحزن (أى٢: ١١- ١٣).. فما بالك أنت يا كنيسة المسيح لا تبكين على سيدك عند مشاهدتك إياه مهاناً من الجميع!.. إحزني أيتها السموات على صانعك عندما تنظرين إلى تواضعه بعدما تجلى بالمجد أمامك على جبل سيناء.. إبكي أيتها السماء، وانتحب أيها القمر، واندبي يا بقية الكواكب لأن النور قد سمر على الخشبة.. وأنتم يا تلاميذ المخلص، أين أنتم لترثوا لمعلمكم الطيب وهو يسلم الروح.. أيها المؤمنون هيا تألموا على من يعطيكم الأجر الحسن.. أيها الخطاة أبكوا ونوحوا لأن الذى يهبكم صفحاً عن خطاياكم يسلم نفسه للموت.. أيها التائبون اذرفوا ينابيع الدموع من عيونكم لأن رأس مخلصكم ينحنى انحناء الموت، أيها الأبكار ارثوا ثمرة البتولية.. أيها المتزوجون انتحبوا على عريس الكنيسة.

أين أنتم أيها العميان الذين فتح المخلص عيونكم؟.. أين أنتم أيها الصم الذين شفى أسماعكم؟.. أين أنتم أيها أيها الخرس الذين أنطق ألسنتكم؟.. أين أنتم أيها الأموات الذين أقامكم؟.. هلموا جميعا لتنوحوا عليه وهو يسلم الروح.

آه من يتأمل تلك الحال المحزنة التى انتهى إليها يسوع ولا ينفجع قلبه وتنفجر عيناه وتجود ببحار من الدموع. ومن لا تذوب أحشاؤه إذا تصور ذلك المنظر المؤلم، منظر مخلصه الحنون، وذلك الوجه الصبوح الذى لحبيبنا يسوع ملطخاً بالدماء، وهو على الصليب منكس الرأس.

ولكن لا… لا تبكوا.. فليس موته موتاً، بل هو حياة!.. نعم، رفعوه على الصليب، ولكنه صعد عليه كالحجر الذى قطع بغير أيدي (دا ٢: ٤٤-٤٥) ليكون رأس الزاوية وليبنى العالم المنهدم، بسطوا يديه ولكنه مدهما ليمسك بها أقطار العالم، ويحمل الخليقة ليصالحها مع أبيه.. مد يديه وقد ألقى منهما بركة الخلاص، ورد الحياة ثانية إلى من ساد عليهم الموت.. سمروه بالصليب ولكنه بالمسامير مزق صك ديوننا، وسمّر الخطية حتى لا تملك فيما بعد.. أكل آدم من الشجرة فمات، فأمسك ابن الله غصناً منها وصنعه صليباً وأعاد به الحياة، واستخدمه كقوس إلهى رمى به جيوش الشر وهزمها.

هوذا الشر ينهزم مقهوراً، وجنود خلفه يفرون هاربين. هوذا الخطية المشتهاة قد انكسرت لأنها أصبحت مكروهة، والعالم المحبوب يغلب لأنه أضحى مبغضاً. ما بال جميع هؤلاء يهربون قائلين: كنا نظن أن الصليب سينهي حياته، فإذا به قد عظمها.. كنا نود أن يغلبه الموت، فنأسر كل البشر فى قبضة يدنا، فإذا به قد غلبنا بصليبه وانتصر علينا بموته وأخذ من يدنا ما اقتنصناه من البشر. قال الرسول بولس “إذ محا الصك الذى علينا فى الفرائض الذى كان ضداً لنا وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه بالصليب. إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه” (كو٢: ١٤-١٥).

قام اليهود يُعيِّرونه ويُعذِّبونه لكى يسمعوا منه أي تذمر أو استغاثة، ولكنه صمت وتأوه ولم يشتك فانكسروا وغُلِبوا وعادوا خجلين، وقالوا له: “إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب، فنؤمن بك” (مت٢٧: ٤٠)؛ (مر٢٦: ٣٢) فلو نزل لما تم خلاص البشر، ولما آمنوا به، كما لم يؤمن الذين شاهدوا قيامة لعازر من الأموات، بل إن عدم إنقاذه لنفسه –وهو قادر على إنقاذها – أعجوبة أجَّل من أعجوبة تخليص نفسه من الموت، لأنه لم يمت لعجز فى قوته أو بإكراه، بل بمحض إرادته، ولو قيل أى جزء من حياة المسيح كان فيه مجده الأعظم فربما اختلفت الآراء، فمن قائل تجليه على الجبل، ومن قائل مشيه على الماء، ومن قائل بعض معجزاته، ولكن ليس من شىء تمجد به ابن الله مثل موته، حتى حين خرج يهوذا من أمامه ليُسَلِّمَهُ حيث قال “الآن تمجد ابن الانسان” (يو١٣: ٣١) فليس المجد قائماً بلبس الثياب الفاخرة أو الجلوس على العروش العالية، بل بإتمام إرادة الله.

فيسوع إذاً قد غلب ولكن بالضعف لا بالقوة، بالفقر لا بالغنى، وهل سُمِعَ فى تاريخ العالم أن الضعيف يغلب الأقوياء. والفقير ينتصر على الأغنياء. والمائت يفوز على الأحياء؟.

افرحوا وابتهجوا أيها الخطاة ويسوع يحزن، لأن حزنه سرور لكم، غنوا منتصرين وهو ينكس رأسه، لأن انحناءه يرفعكم. ها قد بلغتم أمانيكم، لقد مات يسوع عنكم. هل سررتم من هذه البشرى؟.. هل تريدون أن تتحققوا الأمر بأنفسكم؟.. هلموا تعالوا لتروا الجراحات التى أثخنتم بها جسده الطاهر بخطاياكم، وتعاينوا جسده معلقاً مهشماً مقطعاً من جرى شهواتكم، ورأسه موجعاً من وخزات تشامخكم، وشفتيه ممررتين بسموم ألسنتكم المجدفة.

قيل أن الملك سلوقس لما طُرِدَ من مملكته وجلس عرياناً على شاطىء البحر الذى قدفته إليه الأمواج ذهب إليه مبغضوه المتمردون فرحين متهللين ليتمتعوا برؤيته جالساً فى تلك الحالة السيئة، غير أنهم لما رأوه على الرمل مهملاً من جرى مصابه، عرياناً خائفاً مدنفاً من البرد، عادماً كل أمل من الغوث، لما رأوا كل هذا رقت له قلوبهم رغماً عنهم ورأفوا به رأفة شديدة حتى أنهم تغيروا عما كانوا عليه قبلاً، وأقاموه من الأرض وردوه إلى سدته الملكية مكرماً.

فهل أنتم فاعلون هكذا أيها البشر؟ لقد عدت خطاياكم على إلهكم فأنزلته من عرش مجده إلى صليب العار، واليوم نراه مطروحاً على الصليب بلا معز ولا معين، فى حالة تُبكي العدو قبل الصديق، فهل رقت له قلوبكم؟ هل عزمتم على ترك الخطية ليعود إلى عرشه ممجداً مسروراً. إن الجلادين والصالبين بعد أن عذبوه انحدروا من الجبل متأثرين خجلين من شدة عذابه وعظيم صبره كما قال الكتاب: “وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر لما ابصروا ما كان رجعوا وهم يقرعون صدورهم” (لو23: 48). فهل قلوبنا قاسية بهذا المقدار أكثر من الذين كانوا يشاهدون موته؟!.. وهل نحب الخطية لهذا الحد حتى نجعلها تزيل منا كل تأثر على من عانى كل ذلك من أجلنا؟..

إن الذى يشاهد إنساناً على الأرض بحالة تعسة يرق له ولو لم يعرفه، فهل لا نرق ليسوع ولو كإنسان غريب. ولكنه ليس غريباً عنا، بل هو خالقنا وفادينا والمحسن إلينا، ولأجلنا احتمل العذاب، ولسان حاله يقول لنا: “لماذا تبصرون صليبي دون أن تجودوا عليَّ بنظرة عطف أو بكلمة رقيقة مع أنكم تعطفون على أنفسكم وترثون لذواتكم إذا لم تفوزوا بمشتهياتكم وتتمتعوا بخطاياكم؟. لماذا لا تذرفون عليَّ دمعة واحدة، مع أنكم تذرفون كل يوم الدموع الغزيرة على أقربائكم وأحبائكم بل حتى على أموالكم الضائعة؟.

فلنرجع إلى أنفسنا ولنقل لذواتنا إنه من أجلنا نحن الخليقة الحقيرة، رام أن يكابد هذه الأوجاع ليظهر لنا محبته، ولم يكن يوجد أمر آخر يضطره إلى ذلك.. فلننظر إلى أنفسنا فى هذه المرآة الجلية لنصلح بها سيرتنا ونظهر نحوه عز وجل عواطف الحنو والرفق والاشفاق ومعرفة الجميل. ليتمزق قلبنا حزناً وندماً لأننا أسخطنا هذا الإله الصالح، ولنحب من أحبنا بهذا المقدار. وإذا كان من أصعب الأمور وأبعدها على فهم البشر إدراك كون ابن الله مات فإنه يجب معرفة لماذا مات؟!.. مات لأجل شر الإنسان وخلاصه من الخطية كما قال الرسول: “فإنى سلمت إليكم فى الأول ما قبلته أنا أيضًا أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب” (١كو١٥: ٣).

وقال أحدهم: [أما أنت أيها المصلوب الناظر من أعالي الجلجثة فإنك وأنت على خشبة الصليب المضرجة بالدماء لأكثر مهابة وجلالاً من ألف ملك على ألف عرش فى ألف مملكة. بل وأنت فى النزع والموت لأشد هولاً وبطشاً من ألف قائد فى ألف جيش فى ألف معركة. أنت بكآبتك أشد فرحاً من الربيع بأزهاره.

أنت بأوجاعك أهدأ بالاً من الملائكة بسمائها. أنت بين الجلادين أكثر حرية من نور الشمس، إن إكليل الشوك على رأسك هو أجَّلْ وأجمل من تاج الملوك، والمسمار فى كفك أسمى وأفخم من صولجان المشترى. وقطرات الدماء على قدميك أسمى لمعاناً من قلائد عشتاروت]!!..

إلق علينا يا ابن الله المبارك نظرة من أعلى صليبك. نظرة حنو ورفق وإشفاق. لا نظرة غضب وألم. حنو وإشفاق على طبيعتنا الفاسدة، لا نظرة غضب وألم من أجل قساوة قلوبنا. احجب عينيك عن رؤية إثمنا يا يسوع حتى لا تسحقنا بل ترى حالتنا التعسة فتنتشلنا بقوتك وحبك.

أيها الصليب المقدس: إليك نرفع أنظارنا. وكما كان يتطلع بنو إسرائيل إلى عصا موسى وهو يرفعها ليضرب بها الصخرة لتخرج ماء، هكذا نرفع إليك أيها الصليب عيوننا، أنت الذى سال عليك من جنب المخلص دم وماء. قال المرنم: “ومن الصخرة كنت أشبعك عسلاً” (مز٨١: ١٦) أما نحن فنطلب منك ماء مُراً نظير ذلك الذى شربه نائبنا عليك لأننا نروم أن نتوجع على آلامه ونتحسر على عذابه، لا على آلامه وعذابه فقط بل على خطايانا التى سببت له كل ذلك، والتى ما زلنا مقيمين فيها كأننا نروم أن يبقى مخلصنا إلى الأبد معذباً لأجلنا.

تطلعي يا عيني إليه مصلوباً.. واسمعي يا أذني صوت المطرقة وهى تدق المسامير فى جسد حبيبي.. وذق يا لساني مرارة ذاقها قبلك الذى “حلقه حلاوة وكله مشتهيات” (نش٥: ١٦).. وتأملي يا نفسي فيما صار إليه إلهك لأجلك، فإنه افترش الصليب، وتوسد إكليل الشوك، والتحف العري، واتخذ قضيب ملكه مسماراً، وشرابه خلاً ومراً. فهلا تحزنين وتندبين إهمالك فى خدمته؟ ها هو مُهان ومُعيَّر، ألا يكسر ذلك تشامخك ويذل كبرياءك؟..

من أنا أيها المخلص الكامل حتى تموت لأجلي؟.. أنت الذي تشتهي الملائكة أن تتطلع إلى مجدك.. ما هي قيمة نفسي حتى تدفع فيها هذا الثمن الغالي؟!.. إن نقطة دم واحدة تسيل منك تفوق قدراً السماء والأرض وما فيهما. فإذاً نفسي غالية فى عينيك يا سيدي بهذا المقدار، ولكنها رخيصة فى عينيَّ أنا! لأنى أستهين بها ولا أسلمها إليك، بل أقدمها قرباناً على مذبح شهوة العيون وتعظم المعيشة (١يو٢: ١٦).

فها أنا الآن يا إلهي أغرس فى عينيَّ أشواك إكليلك لكي تتطهرا مما تنظرانه من الشرور.. أملأ أذنيَّ بكلمات التجديف التى وجهت إليك حتى لا تعودان تسمعان كلام العالم الباطل.. أجعل فمي يشرب المُر حتى لا يعود يتفوه بالأكاذيب.. يا أسفي على عدم قدرتي على احتمال اليسير من التعب لأجلك أنت يا من احتملت أثقل الآلام لأجلي تخلصني من الأوجاع، اقتبلت الموت لكي تمنحني الحياة، ولبست جسدي الضعيف لكي توشحني بروحك القدوس، حملت خطاياي على ظهرك لكي تخولني نعمتك، فأعطني أن أعتبر أن الآلام لأجلك هي قوتي.. والإفتقار لأجلك هو غناي.. والموت لأجلك هو حياتي.. أعطني أن أعتبر عذابك كنزي.. وإكليلك الشوكي مجدي.. وأوجاعك تنعمي.. ومرارتك حلاوتي.. وجراحاتك صحتي.. ودمك حياتي.. ومحبتك سروري وفخري.

ألا يا مخلصي كيف أشكرك على محبتك هذه لي.. وكيف أكافئك على أتعابك وآلامك التى احتملتها لأجلي.. لو أمكن وقدمت العالم كله وقبلت كل وجع يمكن وجوده آلاف الأجيال، لما استطعت سبيلاً إلى وفاء ديوني لك.. إذن أنا مديون لك إلى الأبد، وخير لى أن أكون مديونا لك.. أما أنت فممجد من الآب وملائكتك، والخلائق بأسرها تسبحك إلى الأبد. وأما أنا فإني عاجز عن ذلك وقاصر جداً فأعطني يا مخلصي الصالح أن أشعر بفضلك فى كل حين.

 

 

 

العظة الحادية عشر لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

الصليب خلاصنا والقيامة حياتنا – للمتنيح القمص اشعياء ميخائيل[64]

كل ما عمله الرب يسوع إنما فعله من أجلنا فهو مات على الصليب من أجل خلاصنا وغفران خطايانا وحريتنا من الخطية وعبودية الشيطان، ولذلك نحن نتلامس مع الصليب خلال أسرار الكنيسة فنأخذ حقنا في الخلاص، وهذا الخلاص مع أنه خلاص مجاني ممنوح لكل من يؤمن بالرب يسوع المسيح مخلصًا وفاديًا إلا أنه يجب أن نجاهد لكي نتمتع بهذا الخلاص وأن نتممه فينا حتي آخر لحظة من لحظات حياتنا، ولذلك لا عجب إن سمعنا بولس الرسول يقول “تمموا خلاصكم بخوف ورعدة” (في٢: ١٢) .

إن صليب يسوع المسيح ليس قصة في التاريخ نحكيها ونتذكرها وفقط، وهو ليس طقساً نمارسه خلال أسبوع الآلام ثم نرجع إلى عاداتنا وخطايانا وهمومنا .

ولكن صليب يسوع المسيح بالنسبة لنا هو:

١-  دعوة للتوبة

لقد تحدث الرسول بطرس في خطابه وعظته التي جذبت ثلاثة آلاف نسمة فقال “وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائه أن يتألم المسيح قد تممه (في الصليب) هكذا. فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب” (أع٣: ١٨- ١٩)، حقاً إن المسيح “حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر. الذي بجلدته شفيتم، لأنكم كنتم كخراف ضالة لكنكم رجعتم الآن إلى راعي نفوسكم واسقفها” (١بط ٣: ٢٥- ٢٦) .

وان معنى التوبة هو عدم العودة إلى الخطية مرة أخرى وإلا أصبحنا مثل الكلب الذي يعود إلى قيئه والخنزيرة إلى التمرغ في الطين والوحل (٢ بط٢: ٢٢) .

إن التوبة هي تغيير الحياة بأكملها بأن نموت عن الخطايا فنحيا للبر (١بط٢: ٢٤)

ولا يمكن أن تمارس التوبة إلا بقوة الصليب ولذلك فإن الكاهن يقرأ الحل للمعترف التائب وواضعا الصليب على رأسه لكي يمنحه الصلح بغفران الخطية بدم المسيح المصلوب الذي نتناوله خلال سر التناول المقدس .

2- دعوة للحياة الأبدية

إن موت الرب عنا لكي يمنحنا الحياة، والحياة التي يمنحنا إياها لا تنتهي بالموت، ولا تنتهي بأي نهاية بل هي حياة دائمة “Everlasting” وهذه الحياة الدائمة هي السكنى مع الله في الأبدية والملكوت وهذه الحياة الأبدية هي هبة من الله وعطية منحنا إياها بالصليب، لقد عاين القديس يوحنا هذه الحياة حين قال “وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها وسمعت صوتاً عظيم من السماء قائلا هوذا مسكّن الله مع الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلها لهم” (رؤ٢١: ٢-٣) .

إن الحياة الأبدية هي فرح وبهجة وتهليل يفوق هموم العالم الحالي “وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم والموت لا يكون فيما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد” (رؤ٢١: ٤) .

إن صليب الرب وموته هو الباب المفتوح للأبدية والملكوت وخلال أسرار الكنيسة نحن نعاين هذا الملكوت بالإيمان حتي نخلع الجسد وتنتهي غربتنا فنعاين الملكوت .

3- غفراننا للآخرين

في معاملاتنا مع الآخرين البعض يخطئ ويسئ إلينا فنتعب وأحيانا نفقد سلامنا ولكن في صليب الرب يسوع نحن نغفر للآخرين كما غفر هو لنا وهكذا يدعونا المسيح من فوق الصليب ويقول لنا “محتملين بعضكم بعضًا ومسامحين بعضكم بعضًا إن كان لأحد على أحد شكوى كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضاً” (كو٣: ١٣) .

وليعلم كل منا أن كلام المسيح واضح ولا يحتمل تفسير ولا توضيح “إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم” (مت٦: ١٤- ١٥)

3- قبول الألم والفرح به

هناك نوعان من الألم أحدهما ألم نتيجة خطايانا، والآخر ألم الشركة مع المسيح، وحياتنا على الأرض هي إعداد للملكوت ومن وسائل هذا الإعداد الألم، إن الألم مدرسة لابد أن يلتحق بها كل سائر إلى الملكوت .

“لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارجي يفنى فالداخل يتجدد يوما فيومًا، لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً” (٢كو٤: ١٦- ١٧)

“فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا” (رو٨: ١٨) .

4- الكرازة بالصليب والدعوة للآخرين

إن الصليب هو قوة توبة، وقوة حياة، وقوة سلوك، وقوة قبول الألم مع المسيح، وهو أيضاً قوة كرازة، كرازة لغير المؤمنين لأنه ينبغي أن يكرز بالأنجيل للخليقة كلها، قوة كرازة لمن معنا ولمن يبعد عنا، إن الوصية واضحة جداً “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والآبن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به” (مت٢٨: ١٩- ٢٠) .

وها هو الرب وعد الرب للكارزين “ها أنا معكم كل الأيام وإلى إنقضاء الدهر” (مت٢٨: ٢٠) .

وها هو الرب الذي عمل مع التلاميذ مستعد أن يعمل مع كلِّ كارز بنفس القوة “وأما هم فخرجوا وكرزوا في كل مكان والرب يعمل معهم ويثبت الكلام بالآيات التابعة. آمين” (مر١٦: ٢٠).

 

 

 

العظة الثانية عشر لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

يوم الجمعة العظيمة – المتنيح القمص تادرس البراموسي[65]

باكر يوم الجمعة العظيمة من البصخة المقدسة بركتها على جميعنا أمين

إننا نؤمن بالسيد المسيح له المجد عند تجسده كان إلهاً كاملاً متأنساً وقد أتحد لاهوته بناسوته. بدون أختلاط ولا أمتزاج ولا تغيير فكان بناسوته قابلاً لكل ما يطرأ عليه من صعوبات الحياة كالجوع والعطش والتعب والبكاء والحزن وسائر التجارب العالمية ما عدا الخطية وحدها. أما بلاهوته، يتعالى عن ذلك كله علو كبير فيهب الشبع للجياع ويروي العطشان ويريح التعابى ويعزي الحزانى ويخلص من التجارب. وقد شهد الروح القدس بذلك على أفواه الرسل القديسين فيقول القديس بطرس الرسول: أرسل الله أبنه في شبه الخطية ولأجل الخطية ودان الخطية في الجسد هو الذى حمل خطايانا في جسده على الخشبة، وبصريح العبارة يبرهن القديس بطرس عن مرتعه بالجسد قائلاً مماتاً بالجسد لكن محيياً في الروح لأنه مكتوب عنه الذى وحده له عدم الموت ساكناً في نور لا يدنى منه، فعند موته سلم روحه الطاهرة لأبيه قائلاً: يا أبتاه في يديك أستودع روحي، وهكذا مات بالناسوت ولاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين، لا قبل الصليب ولا حين الصليب ولا بعد الصليب، وإذ نقر ذلك نقول أنه لا يمكن أن يكون في المسيح فعلين أحدهما يضاد الآخر أعني واحد يولد والثاني لا يولد واحد يبهر بالعجائب والأخر تقع عليه الإهانات. واحد يصلب والأخر لا يصلب، بل أن المولود والصانع العجائب والمصلوب هو واحد هذا هو الإيمان الرسولي وأتفاق أصوات الإنجيليين وأقوال الآباء ومما يبرهن على عدم موته لما طعنه الجندى بالحربة خرج منه ماء ودم علامة على أنه حى ولن يموت وجاء في تاريخ الكنيسة الذى أخذ عن التقليد القديم أن يوسف الرامي ونيقوديموس لما شرعا في تحنيط الرب يسوع أمسك يوسف وقال هذه اليد العظيمة خلقت كل المخلوقات تموت وأنا أحنطها؟ ففتح السيد المسيح عينيه وأبتسم في وجهه، فصرخ عندئذ يوسف وقال: قدوس القوي قدوس الحي الذي لا يموت، ولذلك قد رتبت الكنيسة هذه التسبحة من بين ترنيماتها.

إذن فيكون معلوماً أن قبول يسوع للآلام والموت لم يكن من جهة لاهوته الأقدس إذ أن اللاهوت منزه عن كافة الانفعالات لذلك لم تتطرق إليه التأثيرات بما إنه متحد بالناسوت أتحاداً ذاتياً طبيعياً أقنومياً لا يقبل الانفصال ولا الافتراق ولا تغيير ولا تشيبه شائبة.

لماذا مات المسيح؟.. قبل أن تخلق الكائنات وقبل أن تتعين الأزمان، علم الله بسابق علمه أن الإنسان سيخطئ ويعمل الشر على الأرض، وبما أن أجرة الخطية موت، وأن الله من فرط محبته ورحمته لا يشاء أن يهلك الإنسان الذى هو مزمع أن يخلقه، دبر أمر خلاصه، قبل أن يظهر في عالم الوجود، ولما كان ذلك الخلاص لا يتم ألا بواسطة بار قدوس لا عيب فيه ولا يوجد في فمه غش. خارج من الجنس البشري منزه عن الخطية، وبما أن هذا الأمر لا يقدر أن يقوم به الملائكة أو رئيس الملائكة أو نبي أو قديس لذلك لأن طبيعة الملائكة غير طبيعة البشر، والأنبياء والقديسين مولودين بالخطية الجسدية التي عمت جميع الناس ولم يستثنى فيها أحد، كقول بولس الرسول: “من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وأجتاز الموت إلى الجميع إذ أخطأ الجميع” (رو٥: ١٢) كما هو مكتوب: “أنه ليس بار ولا واحد، ليس من يفهم، ليس من يطلب الله، الجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله، ليس من يعمل صلاح ليس ولا واحد” (رو٣: ١٠) وبما أنه لا يقدر المذنب أن يخلص مذنباً مثله، كما أن المحتاج لا يسد عوز من أشبهه في الأحتياج، رأى الله تبارك أسمه أنه لا يتم هذا الفداء إلا بالأقنوم الثاني الذي بواسطته قد صورت الخليقة كما شهد بذلك معلمنا يوحنا الإنجيلي: “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” فوجب على من أوجد الموجودات أن يكون به الخلاص دون سواه، فلما جاء ملء الزمان أتى ابن الله مولوداً من امرأة تحت الناموس ليفتدي الذين هم تحت الناموس، لننال التبني، فلبس صورة الإنسان التي كانت قد أفسدتها الخطية ليجددها مرة أخرى ويعيد لها مجدها الأول، وكان ذلك بإجماع الثلاث أقانيم على خلاص الإنسان، فالأب قد أستوفى عدله فيه والابن قد قدم منه الوفاء والروح القدس غفر له خطاياه، فهذا هو السبب الذي جعل الله يتخذ صورة عبد وجسد إنسان ليدين الخطية في الجسد، وكان الله قادر أن يخلص الإنسان بكلمة كما خلقه بكلمة، لكن بما أنه عادل رأى أنه لا تحصل مغفرة إلا بسفك دم فلذا لبس هذا الجسد العجيب الذى فوق الطبيعة وذلك تنفيذاً للعدل الإلهي، إن النفس التي تخطئ تموت، وعليه فقد اقتضت رحمة الله أن يقوم بعمل التكفير عن الإنسان المذنب، وبذلك يكون الله عادل ورحوم في آن واحد، فالعدل قد أستوفى حقه بموت الابن على خشبة الصليب، والرحمة قد توسطت في صنع الخلاص، فصار عدل الله ورحمته متساويين إذ كل منهما قد أستوفى حقه، حتى لا يكون فيهما تفاوت، طالبين رب السلام وإله الرحمة أن يتدخل في حياتنا ويرحمنا برحمته ويرفع غضبه عنا بشفاعة أمنا العذراء مريم وجميع القديسين له المجد إلى أبد الدهور أمين.

العظة الأولى: باكر يوم الجمعة من البصخة المقدسة (مت ٢٧: ١– ١٤)

المشاورات الغبية وصلب رب البارية.

كهنة وشعب وشيوخ كلهم للشيطان رضوخ.

قلوب عقيمة وأتفاق على الجريمة.

أوثقوه بالحبال مُحصي النجوم والرمال.

الذى أعطانا الحرية سلموه بطريقة همجية.

فرح الكهنة والجنود ويهوذا صار مطرود.

الندامة والحسرات والوقت ولى وفات.

عصى وألقى الأموال مات وورث المكتوب.

مات قبل فوات أن يتوب وتم فيه المكتوب.

الكهنة وأيديهم الأثيمة وضعوا المال في الخزينة.

حكموا أن يسفكوا دماه وعملوا أنفسهم أتقياء.

وهب للناس الحياة وفى موته أشتروا مقبرة للغرباء.

حقل الفاخوري اشتروه وقبر الغرباء جعلوه.

وقف أمام الحكام وهو رب الكل وليس ملام.

 

العظة الثانية: باكر يوم الجمعة العظيمة من البصخة المقدسة (لو٢٢: ١٦– ٢٣)

اجتمعوا الأشرار لمحاكمة البار.

في محفل الشياطين سألوا الرب الأمين.

سألوه هل أنت إله أجاب ولم يخشاه.

أظهر لهم أنه ابن الإنسان ويجلس عن يمين الديان.

اتهموه بالتجديف هو الرب الضعيف.

أتهموه بالأباطيل وخلطوا بين القال والقيل.

حكم الحاكم بأمان لم يجد علة في هذا الإنسان

غضبوا من شهادة الحق ورزلوا وغشوا القلب.

كان نصير المحتاجين وهو مخلص العالمين.

فرح هيرودس المكار وأشتهى أن يرى البار.

سمع عنه الكثير وأراد أن يعرف ما قيل.

ازدادت الأقوال بلجاجة أنه مجرم بزيادة.

هزأوا به الجنود وهو الرب المعبود.

رب السلام ألقى السلام بين الأنام.

 

العظة الثالثة: الجمعة العظيمة الساعة الثالثة (مت ٢٧: ١٥– ٤٦)

تم الأختيار أطلقوا اللص وصلبوا البار.

أطلقوا بارباس وصلبوا ماسياس.

المجرم أرادوه والبرئ صلبوه.

حسداً سلموه وأطلق لهم من أرادوه.

جلس على كرسي الولاية وهو مهموم للغاية.

امرأة بيلاطس بدموع أياك والمدعو يسوع.

من معلمي الناموس إلى قتلة النفوس.

اطلقوا المجرم براباس وصلبوا رب الخلاص.

قال الحاكم أطلقه وصرخ الشعب أصلبه.

غسل يديه لا أجد عله عليه.

دمه علينا وعلى الأولاد، دي ذلة عليهم للآباد.

جاء بخلاص الناس فوجد الحق ينداس.

ظلم الرجال لأنهم حقاً منافقين.

جاؤا بالرب وجلدوه وإلى الصليب سلموه.

جلده الناس الأرجاس وأطلقوا اللص براباس.

 

العظة الرابعة: الجمعة العظيمة الساعة الثالثة (مر ٦: ٢٥)

البطون التي أشبعها صرخت أصلبه.

المخلع الذي أقامه صرخ أجلدوه.

الفريسي الذي حرره نادى أطردوه.

الأشرار طلبوا الشرير وصلبوا البار.

بالحسد اتهموه وللصلب قدموه.

رجل الفتنة أطلقوه هيجوا الشعب ليهلكوه.

أحتار بيلاطس ماذا يختار الشرير أم البار.

بالصراخ قالوا أصلبوه وذنبه يتحملوه.

أطلق برباس وسلم يسوع ومكث الشعب المخدوع.

ألبسوه الأرجوان وهو مجرد إنسان.

ألبسوه أكليل الشوك لأنه ملك الملوك.

تفلوا على وجهه ولطموه وبالقصبة على رأسه ضربوه.

القيرواني سخروه وصليب المسيح حمَّلوه.

على جبل الجلجثة صلبوه ولباسه بينهم اقتسموه

 

العظة الخامسة: الجمعة العظيمة الساعة السادسة (لو٢٣: ٢٦)

وقع تحت الصليب حامل العالم كله على كفه.

يسخروا له سمعان من جعل العالم في أمان.

تبعته الجموع الذين أرتووا من الينبوع.

تحنن عليه النساء اللواتي تلقا رضاه.

بكين بنات أورشليم على الملك العظيم.

على من تبكين على الجيل الحزين.

نبوات على الأجيال وعن سوء الحال مع الأشرار.

صلبوه وخبره لم يذكروه.

صلبه اليهود أصحاب الوصايا والعهود.

أطلقوا بارباس لأن الرؤساء في إفلاس.

مات بالجسد وهو حي إلى الأبد.

صلى لأجل صالبيه ولأجل الذين طعنوه.

عيره اللصوص وهو مخلص النفوس.

تمم النبوات واقتسموا ثيابه بالمساواة.

اقترعوا على القميص وخانهم التشخيص.

 

العظة السادسة: الجمعة العظيمة الساعة السادسة

استهزءوا به الرؤساء وهو رب الفداء.

شكوا في بنوته للآب وهو فتح لنا في الفردوس باب.

حتى الجنود الأذلاء أهانوا رب العطاء.

عطش فسقوه خلاً وهو المنعم على الجميع رزقاً.

كتب عليه ملك الملوك فهو رب السماء وإله الملوك.

جدف عليه اللص الشمال أما اليمين فنال ما نال.

أعترف اللص أنه مدان فقبله الرب الديان.

قبله يسوع وأعطاه ومن عمق الينبوع رواه.

عمت القيامة العالم لأن القائم رب العالم.

صلب المسيح فخبأنا في جنبه الجريح.

وقف عند الصليب المريمان ويوحنا الحبيب.

أوص يسوع بأمه يوحنا قال خذها لا تنساها.

بكت العذراء البتول على أبنها الوحيد مذهل العقول.

شاركها المريمات وتذكرها كل النبوات إنه ماض وأيضاً آت.

 

العظة السابعة: الجمعة العظيمة الساعة التاسعة (مت٢٧: ٤٦– ٥٠)

مات من وهب الحياة للبشر.

صوته أرهب الحراس من وهب لنا الخلاص.

نادى الآب لقد تمت النبوات والكتاب.

بناسوته تم الخلاص وبلاهوته فتح الملكوت.

سقوه خلاً بمرارة قدمه الجند بجسارة.

فكروه ينادي الأنبياء وهو أب الملوك والرؤساء.

مات يسوع وسقى البشرية من الينبوع.

أسلم الروح الحبيب وتم لنا الخلاص العجيب.

غضبت الطبيعة والشمس أعلنت الحقيقة.

أنشق حجاب الهيكل وبطلت ذبائحهم.

قد كمل المكتوب ورجع لنا حقنا المسلوب.

صرخ يسوع وأخرج الذين في الجحيم بخضوع.

أمال رأسه القدوس وقدم الأكاليل للعروس.

ذاق الخل ولم يرضاه وهب لنا الحياة في سماه.

يا أبتاه في يديك استودع الروح قبلته السماء وكله جروح.

 

الساعة الحادية عشر من الجمعة العظيمة من البصخة المقدسة (مت ٢٧: ٤٦– ٥٠)

انشق الحجاب وبطلت الذبائح الدموية.

انشق الحجاب وفتح باب الفردوس.

انشق الحجاب وبطل الكهنوت اللاوي.

تزلزلت الأرض وغضبت الطبيعة.

انشقت الأرض وتفتحت القبور.

انشقت الأرض وقام الأموات.

ظهر الأموات لأحياء المدينة.

خاف الحراس وآمنوا بالخلاص.

شهد الأعداء بقيامة ابن الله.

خاف الرجال وبجسارة الفساد.

اجتمعت المريمات يتذكرون فيما فات.

 

الساعة الحادية عشرة من يوم الجمعة العظيمة من البصخة المقدسة (مر١٥: ٣٨– ٤١)

أ – انشق الحجاب وفتحت الأبواب.

ب – شقوا الثياب وحادوا من الآداب.

ج – تعجب القائد وغضبت الطبيعة.

د – مات يسوع وأحيا الجموع.

هـ – بكين المريمات وتذكرن المعجزات.

و – خرج من جنبه دم وماء وبه تم لنا الفداء.

ذ – جئن إلى أورشليم نجد منه كما في الجليل.

ح – فكرن موته يطول وقيامته تسبي العقول.

ى – دعى الجميع للخلاص وبدمه حرر كل الناس.

ك – خرج آدم وبنيه من الجحيم وفتح لهم باب النعيم.

 

الساعة الحادية عشر من يوم الجمعة العظيمة من البصخة المقدسة (يو١٩: ٣١– ٣٧)

خاف اليهود ونقضوا العهود.

عظموا السبوت وحلموا بالموت.

سألوا الحكام ليكسروا العظام.

كسَّروا العظام ما عدا ابن الانسان.

مات يسوع بعد ما أشبع الجموع.

لم يكسروا رجليه وتم المكتوب.

طعن بالحربة واحتمل الآلام رب القدرة.

جرى منه دم وماء علامة الحياة.

شهد عليه الحراس وتمم لنا الخلاص.

قال الحق ورآه لكي لا يؤمن بسواه.

تم عليه المكتوب أن عظامه لا تنكسر.

 

الساعة الثانية عشرة من الجمعة العظيمة من البصخة المقدسة

جاء يوسف الرامي ليكفن الجسد الدامي.

مشهور بالصلاح وعمل الفلاح.

كان ينتظر الملكوت وفى قلبه وبسكوت.

جاء إلى بيلاطس حيران يريد جسد الديان.

طلب الجسد المقدس وبه أيضاً يتقدس.

جاء أيضًا نيقوديموس ومعه الحنوط مخصوص.

أنزلوه من الصليب وكان السبب قريب.

لفوه بالأكفان لأنه على الصليب عريان.

لفوه في قبرجديد وموته أصبح عيد.

الحجر الكبير وضعوه لئلا تلاميذه يسرقوه.

كان النسوة حوليه ينظرن كيف وضعوه.

أعدوا الحنوط أكيد وارتحن في العيد.

 

الساعة الثانية عشرة من يوم الجمعة العظيمة من البصخة المقدسة

يوسف تلميذ يسوع أخذ جسده وسط الجموع.

لم يهاب الكهنة والشيوخ وطلب الجسد بشموخ.

وافق بيلاطس أن يعطيه جسد يسوع ليفرح بيه.

حمل جسده بإكرام جزيل لأنه يستحق التبجيل.

جاء نيقوديموس البار وأخذ جسده من بين الأشرار.

حنطوه مثل اليهود ولا ينسوا أنه الرب المعبود.

لفوه في الأكفان ولفايف من الكتان.

دفنوه في البستان لأنه غني وحنان.

قبر منحوت في الصخور جديد وسط القبور.

بعد انتهاء العيد جئن المريمات بحنوط جديد.

دحرجوا عليه الحجر كبير لأنه خافوا من الإله القدير.

 

 

 

العظة الثالثة عشر لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

العذراء عند الصليب – للراهب ماكس توريان[66]

يعتبر القديس يوحنا الإنجيلي أن ساعة الصلب هي الساعة الحاسمة لرسالة ربنا يسوع المسيح :

إنها الساعة التي وجه إليها نظر أمه القديسة مريم في عرس قانا الجليل .

وهي ساعة العيد، التي سيذبح فيها خروف الفصح، ساعة صلب المسيح حمل الله الحقيقي والنهائي الذي يرفع خطيئة العالم كله .

أنها ساعة استعلان ذروة الحب الإلهي، الساعة التي استعلنت فيها محبة المخلص حتى النهاية.

أنها الساعة التي سيمضي فيها ابن الله من هذا العالم إلى الآب (يو۱:۱۳) .

وهي الساعة التي يتمجد فيها إبن الله (يو۲۳:۱۲، ۲۷، ۲۸). والتي فيها يمجد الآب إبنه ويمجد الإبن أباه (يو١٧: ١) .

أنها ساعة الأرتفاع عن الأرض: ارتفاعا على الصليب للموت، وارتفاعًا إلى السماء بالقيامة. “وأنا إن ارتفعت أجذب إلي الجميع.. وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء إبن الإنسان الذي هو في السماء، وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يرفع إبن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو١٢: ۳۲، ٣: ١٣-١٥) .

كانت العذراء القديسة مريم موجودة تحت الصليب مع التلميذ الذي كان يسوع يحبه.. أنهما يرمزان إلى جماعة المؤمنين في الكنيسة الملتفة حول المصلوب.. والمسيح من فوق الصليب ينادي أمه والتلميذ الحبيب قائلاً: “یا امراة هوذا إبنك.. ثم قال للتلميذ، هوذا أمك” ويبدو أن يسوع بهذا القول قد أتم كل مقاصده لأننا نقرأ: “من تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته، بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل..” (يو١٩: ٢٧، ۲۸) بعدئذ ذاق يسوع الخل بالمرارة وقال: “قد أكمل، ونكس رأسه وأسلم الروح” (يو۳۰:۱۹) فكلمات ربنا يسوع المسيح لأمه وللقديس يوحنا وهو على الصليب، تعتبر قمة كمال عمل الفداء.. ولنتناول هذه الكلمات السرية العجيبة محاولين أن نتأمل في معناها .

 

معني كلمات المصلوب

” كانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية. فلما رأى يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفاً قال لأمه: يا أمرأة هوذا ابنك، ثم قال للتلميذ هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته، بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل..”. (١٩: ٢٥-٢٨) .

ينتحي المفسرون مناحي شتى في تفسيرهم لهذا النص، ومن يتابع تفاسير الآباء يقدر أن يميز خمسة اتجاهات:

أولاً: التفسير الذي يركز على شخصية يوحنا.. التلميذ المحبوب الذي بلغ الكمال. ومن أجل كماله كان على علاقة وطيدة بالمسيح حتى أنه أعطاه مسئولية العناية بأمه. وهكذا فإن يوحنا هو مثال المسيحي الكامل الذي لا يعيش لنفسه، بل يحيا في المسيح والمسيح يحيا فيه. لذلك قال يسوع لأمه هوذا ابنك. فيوحنا تخلى عن ذاته تماماً، وعاش في ملء المسيح لدرجة أن أم المسيح تكون أماً له. وهكذا كل من يحيا في ملء المسيح يشعر بأمومة القديسة مريم له. هذا التفسير نادى به ترتليانوس، وأوريجانوس، وذهبي الفم .

ثانياً: فسر بعض الآباء هذا النص بأنه برهان واضح على بتولية القديسة مريم الدائمة – قالوا، لو كان للقديسة مريم أبناء، أو لو كان زوجها مازال حياً، لماذا تسلم القديسة مريم لرعاية يوحنا؟ “وقد نادى بهذا التفسير كل من القديس أثناسيوس الرسولي، والقديس ابيفانيوس أسقف قبرص، والقديس ايلاري أسقف بواتيه، والقديس جيروم، والقديس أمبروسيوس .

ثالثاً: أما القديس كيرلس الأسكندري، وأوغسطينوس وغيرهما، فينظرون إلى هذا النص كنموذج حي جميل من ربنا يسوع المسيح في تنفيذه للوصية: أكرم أباك وأمك.. فهو يعبر عن حب بنوي من ربنا يسوع لأمه الثكلى وهو معلق على عود الصليب.. يقول القديس أمبروسيوس: “هذا النص يعلمنا ما يجب أن تكون عليه محبة الأمومة، وكيف يكون الإحترام البنوي، وكيف يعبر عنه.. الأمهات يشاركن في المخاطر التي يخوضها أبناؤهن، والأبناء يجب أن يتحملوا مسئولية العناية بأمهاتهم حتى ولو كانوا على أعتاب الموت.. [ويرى أمبروسيوس أيضًا في هذا النص برهاناً على حقيقة التجسد فقال: “إن المسيح لم ينكر أن له أم].

رابعاً: القديس مار إفرام السرياني يفسر هذا النص تفسيرًا روحيًا عميقًا.. يتناسب مع عمق روحانية القديس يوحنا كاتب البشارة. إذ يقارن بين ربنا يسوع المسيح وموسى النبي في القديم، بناء على الآية: “سيقيم الرب لكم نبيًا مثلي من وسطكم من أخوتكم له تسمعون” (تث ١٥:۱۸).

فكما عبر موسي البحر، هكذا مشى المسيح على الماء .

وكما أعطي موسى المن للشعب في البرية، هكذا أشبع يسوع الجموع في معجزة إكثار الخبز (یو6).. الخ.

وكما سلم موسى قيادة الشعب ليشوع بن نون قرب نياحته، هكذا سلم المسيح كنيسته المتمثلة في العذراء مريم إلى تلميذه الطاهر يوحنا وهو على عود الصليب .

وهكذا يرى القديس إفرآم السرياني العذراء مريم مثالاً للكنيسة .

والقديس أمبرسيوس يؤكد نفس التفسير بعدما جال في كل اتجاهات التفاسير الأخري فيقول: [هناك سر في حقيقة تسليم القديسة مريم ليوحنا. أنه الكنيسة].

خامسًا: التفسير الذي يرى في كلمات المصلوب للقديسة مريم ويوحنا الحبيب تعبيرًا عن “الأمومة الروحية” للعذراء نحو كل البشر.

فيقول القديس أمبروسيوس في آخر جولاته التفسيرية في هذا النص: “أنت ستكون ابنا للرعد كيوحنا إن كنت أبنا للكنيسة. لأنه منذ علق ربنا يسوع المسيح على الصليب، سيخاطبك أنت ويقول “هوذا أمك”.. وأيضا سيقول للعذراء مثال الكنيسة “هوذا ابنك ..”

وقد انتشرت القاب جديدة للقديسة مريم بعد ذلك تعبر عن هذه الحقيقة مثل: أم المؤمنين، أم الكل وأم الرحمة .

 

ويمكن تلخيص كل تفاسير هذا النص بانها :

أمــا تفسيرًا أخلاقياً ← كتعبير عن الحنان البنوي .

وأما تفسيرًا عقيديـاً ← كبرهان على البتولية الدائمة للقديسة مريم .

وأما تفسيرًا لاهوتياً ← كتعبير عن حقيقة التجسد .

وأما تفسيرا رمزيـاً ← بكون مريم هي مثال الكنيسة .

وأما تفسيرا روحيـاً ← بأن مريم هي الأم الروحية لكل المؤمنين .

ونلاحظ أن التفسير الأخلاقي هو أقرب التفاسير إلى قلب الكثيرين، فيميلون أن ينظروا إلى هذا النص بأنه لفتة حنان من ربنا يسوع نحو أمه. ولكن الإكتفاء بهذا التفسير وإعتباره أنه التفسير الوحيد قد يوقعنا في اشكالات.. ترى هل هذا المعنى الوحيد الذي قصده ذلك الكاتب اللاهوتي العميق يوحنا الرسول؟

إن كانت غاية النص هي أظهار الحنان البنوي فقط، لماذا انتظر يسوع حتى لحظة الموت للعناية بمستقبل أمه؟ لقد ذهبت إلى قانا الجليل وحدها. وأيضاً لم نرها تابعة ليسوع في تحركاته في الخدمة من مكان إلى مكان مع النساء الآخريات المذكورات في الإنجيل مثل: المجدلية، ومريم أم يعقوب، ويوسي، وسالومي أم ابني زبدي، ويونا امرأة خوزي، وسوسنا، وأخر كثيرات؟؟؟ (متی٥٥:۲۷، ٥٦) (مرقس ٤٠:١٥)، (لوقا ۸: ۲، ۳و ٢٤: ١٠) وهي التي كانت أرملة في ذلك الوقت؟ فهل أهمل يسوع رفقة أمه طوال وقت ارساليته الأرضية، ولم يهتم باحتياجاتها إلا لحظة صلبه؟ هذا إشكال .

كما أننا نرى تحت الصليب مع القديسة مريم أقرباء كثيرين للقديسة مريم منهم أختها مريم زوجة كلوبا (يو١٩: ٢٥) فإن كانت المسألة موضوع إعالة ما، فكان الأولى أحد هؤلاء الأقرباء. وهذا إشكال آخر .

نلاحظ أيضا أن يسوع بدأ بتقديم التلميذ أولاً إلى أمه يا أمراة هوذا أبنك.. ثم بعد ذلك قدم الأم للتلميذ لتكون أمًا له، فإن كانت هذه الكلمات تعبر عن الحنان البنوي فقط لابتدأ بتقديم الأم إلى يوحنا كي تكون تحت رعايته.. ولكن بالتأكيد أن النص له معنى أعمق .

قطعًا إننا لا نريد أن نلغي التفسير الأخلاقي للنص، فقد كان له فاعلية عملية: ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته. لقد استضاف التلميذ المحبوب القديسة مريم في بيته.. ولقد صارت العذراء بمثابة أم له ولكن كما رأينا أن هذا التفسير لا يكفي وحده. فكل حوادث الصلب التي ذكرها القديس يوحنا لها من المعاني الروحية الغزيرة ما يتناسب مع فكر النسر اللاهوتي يوحنا كما سنرى. فلماذا نستثني هذا النص وحده ونعتبره أنه كان مجرد مسألة عائلية؟

 

لقد ذكر القديس يوحنا خمس حوادث تكمل وقائع الصلب (يو۱۹: ١٦-۳۷) كل حادثة لها صداها المعين في نبوات العهد القديم :

ا- التسمير على الصليب مع وضع عنوان “هذا هو ملك اليهود” وتأكيد بيلاطس أن ما كتب قد كتب.

2- تقسيم الثياب مع الإشارة إلى نبوة المزامير: أقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة (مز۱۸:۳۲).

٣- کلمات ربنا يسوع المسيح لأمه العذراء ويوحنا الحبيب .

٤- موت المسيح مع الإشارة إلى نبوة المزمور: وفي عطشي سقوني خلاً (مز٦٩: ٢٢) .

5- الطعنة بالحربة مع الإشارة إلى نبوات سفر الخروج: عظم لا يكسر منه (خر٤٦:۱۲) ونبوة زکریا: سينظرون إلى الذين طعنوه (زك۱۰:۱۲).

فنلاحظ أنه بالنسبة إلى الحادثة الثانية والرابعة والخامسة، يربطنا الكاتب بإشارات من العهد القديم مرددًا: “لكي يتم الكتاب…” (يو١٩: ٢٤، ۲۸، ٣٦، ۳۷). وفي الحادثة الأولى يذكر المكتوب الذي لا يتغير: “ما كتب قد كتب” (يو١٩: ٢٢) .

أما بالنسبة للحالة الثالثة التي نحن بصددها الآن، فإن الرسول يوحنا يختمها بكلمات خشوعية، توحي للقارئ بأنها هي قمة عمل الفداء …

“بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل فلكي يتم الكتاب قال أنا عطشان” (يو١٩: ٢٨) .

 

 

العظة الرابعة عشر لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

هلاك يهوذا – للأرشيدياكون بانوب عبده [67]

ندامته:

وكان يهوذا يظن أن محاكمة المخلص ستكون أمام رؤساء اليهود فحسب، وأنهم سوف يكتفون بأدانته وتأديبه ثم يخلون سبيله؛ فلما رآهم يحكمون عليه بالموت “ندم” كما يروي متى، إذ تحقق أنه أتى أفظع إثم، ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، لقد عراه الخزي وحاق به الخذلان واستولى عليه اليأس، ولا غرابة في ذلك فمن عادة الشيطان أن يغري الناس بالشر متى أنس فيهم الميل إليه، فاذا ما اقترفوه كشف لهم في النهاية عن قبح ما فعلوه، وضربهم بالقنوط وهو أسوأ الشرور لأنه يقود صاحبه إلى المزيد من الإثم.

ثم قال وهو يرد الفضة “أخطات إذ سلمت دماً بريئاً”، وهو قول يدل على أن خطأه كان بعلم منه، لأن الندامة في الغالب لا تعقب إلا الخطأ الصادر عن علم. وليت اعترافه هذا نبه اليهود إلى خطئهم، وقادهم إلى العدول عن تنفيذ حكمهم لو كانوا محبين للحق والعدل، ولكن قلوبهم قدت من صخر، ولم يبالوا بغير القبض على يسوع وقتله بريئاً كان أم مذنبًا!.

رفض توبته:

ولو كانت توبة يهوذا صادرة عن نية خالصة لقبلها المسيح، أي لو اعترف بذنبه مقتدياً ببطرس حين قدم توبته الصحيحة مقترنة بالبكاء المر فغفر له يسوع، ولكن ندامته كانت من نوع غريب. فلقد تغيرت انفعالاته حينما رأى إنساناً صديقاً محسناً يساق إلى الموت ظلماً، وزالت الغشاوة عن عينيه فرأى فظاعة خيانته، وندم ولكن كما ندم قايين وشاول ندامة مورثة لليأس والعذاب، وذلك عندما وخزه ضميره وشعر بالنتائج الهائلة التي جلبها على نفسه، حينما اتخذه إبليس أداة لإتمام مقاصده الشريرة، ثم تركه بلا تعزية ولا رجاء! وسرعان ما استبد به الخوف والفزع، وظن نفسه لابد هالك كأهل سدوم، وقاده ظنه إلى الإنتحار. فلو أنه تاب بنية خالصة لما مضى وخنق نفسه، بل لطلب المغفرة فنالها، ولكنه أطاع إبليس والذين يطيعونه يفوت عليهم فرصة التوبة ثم لا يلبث أن يطرح بهم في الشرور .

موقف الرؤساء منه:

أما الرؤساء فرفضوا أخذ الفضة منه قائلين “ماذا علينا أنت أبصر” أي اننا حققنا غرضنا فلا شيء يهمنا بعد ذلك. وكان ردهم المال ضرباً من التظاهر بأنهم أبرياء، وأنهم لا يبالون بيهوذا ولا بندامته؛ وحتى على فرض اهتمامهم به ما كانوا يستطيعون إراحته من وخزات ضميره المعذب!.

 

انتحاره:

ولما وقفوا منه هذا الموقف طرح الفضة في الهيكل وانصرف، ويرى بعضهم أن ذلك ربما كان على أثر مشادة كبيرة بين الطرفين، حاول فيها كل منهما تبرئة نفسه وإلقاء التبعية على غريمه. وليت يهوذا استطاع أن يطرح عن كاهله عبء خيانته، كما طرح الفضة التي تعلق بها قلبه، إذ ذاك يكون قد سلك أقوم سبيل، ولكن الشيطان انتزع من قلبه كل رجاء، فرأى أن حياته أصبحت عبئاً لا يطاق. فلقد رغب في راحة الضمير بطرح الفضة فأخطأته الراحة، ورأى أن يضع حداً لحياته توصلاً لهذه الغاية فخاب أمله كذلك، لأنه لا ملجأ لليائس إلا جنب يسوع المطعون، أما القبر فلا يحقق أمله المنشود!.

ثم يقول متى إنه “مضى وخنق نفسه”  كما فعل أخيتوفل قديماً حين لم يؤخذ بمشورته ضد داود (٢ صم ١٧: ٢٣)؛ أما لوقا كاتب سفر الأعمال فيقول “وإذا سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها” (أع ١: ١٨). ولا خلاف بين الروايتين فقد نصب لنفسه مشنقة في مكان مرتفع عن الأرض، ووضع الحبل في رقبته وتدلى، ولكنه بالتدبير الألهى لم يمت من الخنق لئلا يدعى الأعداء أن التلاميذ قتلوه. ثم سقط إما بالقدرة الإلهية وإما كما يرى بعضهم أنه صار يستنشق الهواء، ولم يستطع أن يتنفسه صاعداً حتى انتفخ وصار في كرب شديد؛ ومن كثرة اضطرابه انقطع حبل المشنقة الذى ربما كان غير متين، فهوى البائس إلى الحضيض على الصخور، وانشق من وسطه وانسكبت أحشاؤه كلها وهلك. وقد تحدث لوقا عن نهايته بأكثر إيضاح حين قال: “لأنه مكتوب في سفر المزامير لتصر داره خراباً ولا يمكن فيها ساكن وليأخذ أسقفيته آخر” (أع ١: ٢٠)، والإشارة المقصودة هي إلى قول داود بروح النبوة عنه “صلاته تصير خطيئة ولتكن أيامه قليلة، وأسقفيته يأخذها آخر وليكن بنوه يتامى وامراته تصير أرملة” (مز١٠٩: ٧– ٩).

حقل الدم :

أخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا “لا يحل أن نلقيها في بيت القربان، أي في الصناديق الموضوعة في دار النساء لوضع الصدقات” لأنها ثمن دم “فكأنهم شهدوا على أنفسهم بالخطأ، وأنهم ابتاعوا دم المسيح وقتلوه، وأن الفضة ما كانت إلا أجرة قانل .

لهذا تشاوروا “واشتروا بها حقل الفخارى مقبرة للغرباء” ليستروا شرهم ويتخلصوا من ذكرى فعلتهم المنكرة .

ولكن الأمور جرت على غير ما يشتهون، إذ سمى ذلك الحقل “حقل الدم إلى هذا اليوم” فضيحة لهم وليهوذا أيضاً.

ويقول البشير إن ما صنعه هؤلاء الرؤساء بدون قصد إنما كان إتماماً لنبوة أرميا النبى القائل “وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمن من بنى إسرائيل” .

وأعطوها عن حقل الفخاري كما أمرني الرب، ونص هذه النبوة كما وردت في زكريا لا في أرميا هو “فقلت لهم إن حسن في أعينهم فاعطونى أجرتي وإلا فامتنعوا. فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة فقال لى الرب ألقها إلى الفخاري الثمن الكريم الذى ثمنوني به” (زك١١: ١٢– ١٣) .

 

 

العظة الخامسة عشر لآباء معاصرين – يوم الجمعة العظيمة

المدلولات اللاهوتية لما جاء في اناجيل الساعات – للمتنيح الدكتور موريس تواضروس[68]

عدد 4: ماذا علينا (Ti pros hymas) “قائلاً (أى يهوذا): أخطأت إذا أسلمت دما بريئاً فقالوا: ماذا علينا . أنت أبصر”:

لقد تجاهل رؤساء الكهنة والشيوخ اعتراف يهوذا ببراءة السيد المسيح. أما بالنسبة لاحساسه بالخطأ أو بالذنب فقد اعتبروا أن الأمر لا يخصهم هم بل يخصه وحده فله أن يراه كما يشاء.

عدد6: لا يحل (Ouk exestia) “فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا: لايحل أن نلقيها من الخزانة لأنها ثمن الدم”:

فى مثل هذه الحالات كان القانون اليهودي ينص على أن ترد الأموال مرة أخرى إلى صاحبها، فاذا أصر على تقديمها فإنه يطلب منه أن يوزعها فيما يفيد الصالح العام. وهذا يحل الخلاف الظاهري بين ما يرويه القديس متى وبين ما جاء فى سفر الأعمال حيث قيل عن يهوذا “فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها. وصار ذلك معلوما عند جميع سكان أورشليم. حتى دعي ذلك الحقل فى لغتهم حقل دما أى حقل دم” (أع١: ١٨، ١٩) فحسب القانون فإن المال يظل معتبراً ملكاً ليهوذا، ثم وهب منه لشراء حقل الفخاري “فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخارى مقبرة للغرباء، لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم” (مت٢٧: ٧، ٨).

عدد 33: جلجثة (Golgotha) “ولما أتوا إلى موضع يقال له جلجثة وهو المسمى موضع الجمجمة”:

كلمة آرامية، ولا يشير الكتاب إلى جبل أو تل، ويحتمل أن المكان كان مرتفعاً. ولا تعني الكلمة مكان جماجم الموتى بل تعني فقط جمجمة.

عدد48: وسقاه (Epotizen) “وأخذ أسفنجة وملأها خلاً وجعلها على قصبة وسقاه”:

يوضع الفعل هنا فى الماضى المتصل، ومن معانيه الشروع فى عمل، وعلى ذلك يمكن أن يترجم الفعل “وشرع يسقيه”، وهذا يتفق مع سياق الكلام فى العدد التالي حيث قال الباقون: آترك، أى قف لا تقدم له الماء لنرى هل يأتي إيليا ويساعده.

عدد50: أسلم الروح (Aphyke to pneuma)  “فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم وأسلم الروح”:

من الملاحظ أن البشيرين جميعهم عندما تحدثوا عن موت يسوع، لم يستعملوا الفعل مات (Ethanen)، ولكنهم تحدثوا بما يشير إلى أن السيد المسيح بإرادته واختياره أسلم حياته. فقال القديس مرقس “فصرخ بصوت عظيم وأسلم (Expeneuse) الروح” (مر١٥: ٣٧)،وقال القديس لوقا “ونادى بصوت عظيم، وقال يا أبتاه فى يديك استودع (Paratithemai) روحي” (لو٢٣: ٤٦)، وقال القديس يوحنا “فلما أخذ يسوع الخل قال قد أُكمِل ونكس رأسه وأسلم Paradwke الروح” (يو١٩: ٣٠)، وكما يقول القديس أغسطينوس: [لقد أسلم حياته لأنه هو يشاؤها عندما يشاؤها وكما يشاؤها].

عدد51: حجاب الهيكل (Katapetasma tou naou) “وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى أثنين من فوق إلى أسفل”:

حسب الربانيين، كان هذا الحجاب عرض الكف فى التخانة، وكان منسوجا من 72 جديلة (طية –ضفيرة) وكل جديلة تتكون من 24 خيطاً، وكان طوله 60 قدماً وعرضه 30 قدماً. وفى كل عام كان يصنع اثنان.

وحسب الأقوال فى ذلك الوقت، احتاج عمل الحجاب إلى 300 كاهن. وكان هذا الحجاب يغطب مدخل قدس الأقداس ويفصل بينه وبين القدس، وليس هو الحجاب الذى يوجد فى المدخل الرئيسى للدار. وقد جاء عن الحجاب فى القاموس الموجز للكتاب المقدس: كان مصنوعاً من اسمانجوني وأرجوان وقرمز وبوص مبروم ومطرز عليه كاروبيم.

عدد 57: المساء (Opsias) “ولما كان المساء”:

عرف العبرانيون نوعين من المساء، واحد متقدم والآخر متأخر عنه. والأول يبدأ من منتصف النهار بين الظهر وغروب الشمس أو فى الساعة الثالثة بعد الظهر، ويبدأ الثانى عند غياب الشمس فى الساعة السادسة. والاشارة هنا إلى المساء الأول. وكانت الاجراءات الخاصة بالدفن لابد أن تتم سريعا قبل السبت الذى يبدأ عند غروب الشمس.

ويشار هنا إلى أن قبر السيد المسيح كان منحوتاً فى الصخرة، وبعض القبور كانت تحفر فى الأرض وبعضها كان يوجد فى مغائر الطبيعة.

عدد 63: قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حى أنى بعد ثلاثة أيام أقوم”:

عندما تذكروا كلام السيد المسيح، جاءوا توا إلى بيلاطس حتى لا يتأخروا فى تبليغه فيقع ما كانوا يحذرونه. وطلبوا من بيلاطس أن يأمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث. ويلاحظ عند حديثهم عن السيد المسيح، أنهم يشيرون إليه باسم الاشارة “ذلك” (Ekeinos) وهو الذى يستعمل للاشارة لشىء بعيد فاستعملوه هنا عن السيد المسيح كشخص أبعدوه عن الطريق وصار بعيداً عن الأنظار. وتحدثوا عن السيد المسيح بالسوء كأنه مخادع مضلل، واتهموا تلاميذه أيضا أنهم يسيرون فى نفس طريق الضلال ولذلك ربما يزعمون أن المسيح قد قام “فتكون الضلالة الأخيرة (أى قيامته من الأموات) أشر من الأولى (أى إدعائه بأنه المسيا). هكذا افترى على السيد المسيح وتلاميذه بالتضليل، وما كان فى المسيح ألا الحق كل الحق، فهو المسيح ابن الله وهو الحي القائم بين الأموات، ولا ضلالة فى هذه الحقيقة أو تلك .

عدد 66: بالحراس وختموا الحجر Sphragisanted to Lithon meta tys Koustwdias “فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا القبر”:

الترجمة الحرفية للنص هى: ختموا الحجر بالحراس (أى وهم يختمون الحجر كان الحراس فى معيتهم). فالفكرة الرئيسية هنا أنهم ختموا الحجر فى حضور الحراس ثم تركوهم ليحرسوه. أما بالنسبة لطريقة ختم الحجر، فقد اتبع ما كان يتبع عادة عند ختم باب أو صندوق. كان يوضع عليه قليل من الطين أو الشمع ثم يختم بالخاتم.. والأرجح أن القبر ختم على هذه الصورة، أى طلي رباط الحجر الذى كان على بابه، بالطين أو الشمع، ثم ختم بخاتم عمومي أو شخصي على طريقة يعرف منها حالاً إذا كسر الختم (قاموس الكتاب للدكتور جورج بوست).

 

 

 

المراجع

 

[1]  الكنيسة في فكر الآباء – القمص متياس نصر منقريوس.

[2]  تفسير سفر إشعياء –  ص 28 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[3]  كتاب مفاهيم إنجيلية – ص 347 – الأنبا ابيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار.

[4]  Oden, T.C. & Hall, C.A. (2002). Exodus,Leviticus,Numbers,Deuteronomy (The Ancient Christian Commentary on Scripture, Old Testament part II). Illinois (U.S.A): InterVarsity Press. Pages 290 ,291.

[5]  تفسير سفر إشعياء – ص1- القمص أنطونيوس فكري.

[6]  تفسير انجيل متى – ص 26 – القمص أنطونيوس فكري.

[7]  تأملات في مزامير الآلام –  ص 148- 151 – القمص لوقا سيداروس.

[8]  كتاب رسالة القديس أثناسيوس الرسولي في معنى المزامير – صفحة١٥، ١٦ – الأستاذة إيريس حبيب المصري.

[9]  تفسير أعمال ٢٨ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[10]  كتاب فردوس الآباء – صفحة ٦٩ – إعداد آباء بريّة شيهيت.

[11]  تفسير انجيل لوقا ٢٢ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[12] تفسير إنجيل مرقس – إصحاح ١٥ – القمص أنطونيوس فكري.

[13] Oden, T.C. & Hall, C.A. (2002). Genesis 12-50 (The Ancient Christian Commentary on Scripture, Old Testament part II). Illinois (U.S.A): InterVarsity Press. Pages 316-317.

[14] تفسير سفر إشعياء – إصحاح ٦٣ – القمص أنطونيوس فكري

[15]  كتاب تأملات في مزامير الآلام صفحة ١٥٢ ، ١٥٣ ، ١٥٤ – القمص لوقا سيداروس.

[16] – القديس أغناطيوس تفسير سفر العدد إصحاح ٢١ – القمص تادرس يعقوب ملطي

[16]   تفسير مزمور ١٠٨ – أبونا تادرس يعقوب ملطي.

[17] – تفسير سفر عاموس إصحاح ٨ – القمص أنطونيوس فكري

[17]  تأملات في مزامير الآلام – صفحة 132 – القمص لوقا سيداروس.

[18]  تفسير سفر حزقيال – ص22 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[19]  تفسير مزمور 59 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[20]  تفسير مزمور 69 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[21]  تأملات في مزامير الآلام – صفحة 135 – القمص لوقا سيداروس.

[22]  تفسير إنجيل متي – إصحاح ٢٦ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[23]  المرجع السابق.

[24]  تفسير إنجيل لوقا إصحاح ٢٢ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[25]  المرجع السابق.

[26]  المرجع السابق.

[27]  تفسير إنجيل يوحنا – إصحاح ١٨ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[28] المرجع السابق.

[29]  تفسير إنجيل يوحنا إصحاح ١٨ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[30]  المرجع السابق.

[31]  تفسير سفر إرميا – الاصحاح 11 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[32]  تفسير رسالة فيلبي – الاصحاح 2 – القمص تادرس يعقوب ملطي.
يُمْكِن الرجوع أيضاً لمزيد من الشرح والتوضيح إلي كتاب المقالات الثلاثة ضد الأريوسيين للقديس أثناسيوس الرسولي (مؤسسة القديس أنطونيوس – المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية).

[33]  تفسير المزمور 68 – القمص أنطونيوس فكري.

[34]  تأملات في مزامير الآلام – صفحة 161- 165 – القمص لوقا سيداروس.

[35]  تفسير إنجيل متى – اصحاح 27 – القمص أنطونيوس فكري.

[36]  تأملات في مزامير الآلام – صفحة 171- 175 – القمص لوقا سيداروس.

[37]  تفسير إنجيل متى – إصحاح ٢٧ – القمص أنطونيوس فكري.

[38]  تفسير إنجيل يوحنا – إصحاح ١٩ – القمص أنطونيوس فكري.

[39]  كنوزز النعمة – الجزء الخامس صفحة 550 – الارشيدياكون بانوب عبده.

[40]  البصخة المقدسة – الجزء الثاني صفحة 259 – الأب أثناسيوس المقاري.

[41]  كتاب المحبّة والعدالة والعنف – كوستي بندلي.

[42]  كتاب سيرة حياة القديس أنطونيوس أب الرهبان كما كتبها البابا أثناسيوس الرسولي  -صفحة ١٤٨ – إعداد بولين تدري سعد وتقديم الدكتورموريس تاوضروس.

[43] تفسير رسالة العبرانيين – ص 2،  وتفسير رسالة كولوسي – ص 2 – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[44]  كتاب تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الأسكندري – عظة ١٤٦ صفحة ٧١٠ – ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد.

[45]  كتاب تجسد الكلمة للقديس البابا أثناسيوس الرسولي – فصل 4٧، ٤٨ – ص ١٣٩ -١٤٤ – مؤسسة القديس أنطونيوس للدراسات الآبائية – دكتور نصحي عبد الشهيد.

[46]  القديس كيرلس الأورشليمي – تفسير إنجيل متي إصحاح ٢٧، إنجيل مرقس إصحاح ١٥، وإنجيل يوحنا إصحاح ١٩ – القمص تادرسيعقوب ملطي.

[47]  كتاب درب القيامة – صفحة ١٨ – كنيسة الشهيد العظيم مار جرجس سبورتنج – أسرة القديس ديديموس الضرير للدراسات الكنسية.

[48]  كتاب درب القيامة – صفحة 22 – كنيسة الشهيد العظيم مار جرجس سبورتنج – أسرة القديس ديديموس الضرير للدراسات الكنسية.

[49]  كتاب تفسير الرسالة إلى العبرانيين – للقديس يوحنا ذهبي الفم – صفحة ٣٦٤ – ترجمة دكتور سعيد حكيم يعقوب ومراجعة دكتور جورج عوض إبراهيم.

[50]  الكتاب الشهري للشباب والخدام – مارس ٢٠٠٩ – صفحة ٩، ٢٧ – إصدار بيت التكريس لخدمة الكرازة.

[51]  تفسير سفر كولوسي – الإصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[52]  كتاب عظتان عن الصليب – للقديس يوحنا ذهبي الفم – صفحة ٨ – ترجمة دكتور جوزيف موريس فلتس ودكتور جورج عوض إبراهيم – المركزالأرثوذكسي للدراسات الآبائية.

[53] القديس يعقوب السروجي – تفسير سفر ايوب – إصحاح ١٦، ١٩، تفسير مزمور ٥٧ – القمص تادرس يعقوب ملطي.

[54]  كتاب تأملات في الجمعة العظيمة – المتنيح البابا شنودة الثالث.

[55]  كتاب المنجلية القبطية الأرثوذكسية صفحة ٣٦٧ – البابا تواضروس الثاني.

[56] تفسير إنجيل متي – إصحاح ٢٧ ، وتفسير إنجيل يوحنا – إصحاح ١٩ – الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف.

[57]  مجلة مدارس الاحد – عدد ابريل لسنة 1973.

[58]  كتاب مفاهيم إنجيلية صفحة ٢٠٢ – الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار.

[59] الكتاب الشهري للشباب والخدام – عدد أبريل ٢٠١١ صفحة ١٥ – إصدار بيت التكريس لخدمة الكرازة.

[60] كتاب المسيحية والصليب صفحة ٣٢ – المتنيح أنبا يؤانس أسقف الغربية.

[61] كتاب عظات مضيئة معاشة – صفحة ٣٢٠ – إصدار مطرانية ملوي وأنصنا والأشمونين.

[62]  كتاب القديس بطرس الرسول يعلمني – صفحة 80 – القمص لوقا سيداروس.

[63]  كتاب يسوع المصلوب – الفصل السادس – القس منسي يوحنا.

[64] نبذة عن الصليب خلاصنا والقيامة حياتنا – للمتنيح القمص اشعياء ميخائيل.

[65]  كتاب تأملات وعناصر روحية في آحاد وأيام السنة التوتية – ص 149 – اعداد القمص تادرس البراموسي.

[66] كتاب العذراء مثال الكنيسة – للراهب ماكس توريان – ترجمة القمص ويصا السرياني.

[67] كتاب كنوز النعمة لمعونة خدام الكلمة – الجزء الخامس صفحة ٤٦٥ – الأرشيدياكون بانوب عبده.

[68]  المدلولات اللاهوتية والروحية في الكتاب المقدس بحسب انجيل متي – الدكتور موريس تواضروس – استاذ العهد الجديد بالكلية الاكليريكية.