احد الشهر الصغير (النسئ)

 

 

وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيا في سحاب بقوة كثيرة ومجد (مر ٢٦:١٣)

” ورسم يوماً للمجازاة هذا الذي يظهر فيه ليدين المسكونة بالعدل ويُعطي كلَّ واحد كنحو أعماله ” القدَّاس الباسيلي

سيرى البشر ابن الله بأعينهم الجسديّة قادمًا في شكل جسدي “في سحاب السماء”، أي قادمًا من السماء. وكما عند تجلِّيه جاء صوت من السحابة، هكذا يأتي مرّة أخرى متجلِّيًا في مجده، جالسًا لا على سحابة، بل على سحابٍ كثيرٍ كأنه مركبة له!

إن كان عند صعوده إلى أورشليم كان الذين يحبّونه يبسِطون ثيابهم في الطريق حتى لا يطأ ابن الإنسان بقدميه على الأرض، راغبين ألا يلمس حتى الجحش الذي يركبه الأرض (مت ٢١: ٨)، فأي عجب إن كان الآب إله الكل يفرش سحب السماء تحت جسد ابنه لأجل انقضاء الدهر؟[1]

 

شواهد القراءات

 

(مز٤٠: ١١-١٢)   (لو ٢١: ١٢-٣٣) (مز١٠١: ١٩-١٠) (مر١٣ : ٣٢-٣٧) ( ٢تس٢ : ١-١٧)  (٢بط ٣ : ١-١٨)  (أع٢ : ١٤-٢١)  (مز ١٠١ : ٢٠) (مت٢٤ : ٣-٣٥)

 

ملاحظات على قراءات اليوم

 

+ قراءة إنجيل عشيَّة اليوم (لو١٢:٢١ – ٣٣) تُشبه قراءة إنجيل القداس (لو ٢١: ١٢-١٩) ليوم ٢٢ هاتور (شهادة القديسين قزمان وإخوته ووالدتهم)

ويوم ٢٣ برمودة (شهادة مار جرجس) ، ويوم ٢٦ مسري ( شهادة القديسين موسي وسارة أخته )

وهي القراءة التي تكلمت عن الآلام والإضطهادات من أجل الإيمان، والوقوف أمام الولاة والملوك، ومساندة الله لهم، وصبرهم إلى المُنتهي.

بينما مجيئها اليوم للكلام عن علامات مجئ الرب

+ قراءة إنجيل باكر اليوم (مر١٣: ٣٢ – ٣٧) تُشبه قراءة إنجيل القدَّاس (مر ١٣: ٣ – ٣٧) للأحد الرابع من مسري،

وتُشبه أيضاً قراءة إنجيل باكر (مر ١٣: ٣٣ – ٣٧) ليوم ٢٠ بشنس (نياحة القديس أمونيوم الأنطاكي) ، ويوم ٤ نسئ ( نياحة أنبا بيمين المصري المتوحد )

وهي قراءة خاصّة بالسهر الروحي والصلاة الدائمة لذلك جاءت في الأحد الرابع من مسري، والأحد الموافق للنسئ، وجاءت يوم ٢٠ بشنس،  ويوم ٤نسئ

+ قراءة الكاثوليكون اليوم (٢بط ٣: ١ – ١٨) تُشبه قراءة الكاثوليكون (٢بط ٣ : ١٤ – ١٨) للأحد الأوَّل من شهر أمشير

قراءة اليوم تتكلَّم عن المجيء الثاني وأهمَّية الاستعداد والسهر، أمَّا قراءة الأحد الأوَّل من شهر أمشير فتحكي النمو في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح (آية ١٨ )

 

 

شرح القراءات

 

بعد اعلان سهر الكنيسة في الاحد الرابع من مسري في انتظار مجيئه يأتي الاحد الذي يوافق النسئ ليعلن مجيء وظهور ابن الله

فبينما تتكلم مزامير الاحد الرابع من مسري عن الله منذ الازل (قبل ان تخلق الارض والمسكونة- مزمور باكر الاحد الرابع من مسري وايضا انت اسست المسكونة وكمالها) – مزمور قداس نفس الاحد

تاتي مزامير الاحد الذي يوافق الشهر الصغير ليشير الي الله الابدي (مبارك الرب اله اسرائيل من الازل والي الابد- مزمور عشيّة) ، ( وانت يارب الي الابد ثابت – مزمور باكر )

تُعْلِن المزامير الله الذي يقبلنا (مزمور عشيّة) ويحفظنا ويعطينا فرصاً للتوبة ( مزمور باكر ) وهو الحقيقة الوحيدة الدائمة للأبد (مزمور القدَّاس )

ففي مزمور عشية يعلن الله الابدي الذي يقبلنا ويثبتنا معه الي الابد (مبارك الرب إله اسرائيل من الازل والي الابد يكون وانا من اجل دعتي قبلتني وثبتني امامك الي الابد)

وفي مزمور باكر الله الابدي الذي يحفظ ايامي علي الارض واهمية ان ينتظر الانسان مجئ الرب له شخصيا (وانت يارب الي الابد ثابت … اخبرني عن قلة أيامي ولاتنزعني في نصف ايامي)

وفي مزمور القداس نهاية وفناء كل شئ وابدية الله (انت يارب منذ البدء اسست الارض والسموات هي اعمال يديك هي تبيد وانت تبقي)

وتُعْلِن القراءات قوّة مجيئه                       ( البولس )

وموعد مجيئه                                       ( الكاثوليكون )

ورهبة مجيئه                                        ( الإبركسيس )

يتكلم البولس عن قوة مجيئه وسلطانه على ضد المسيح رغم العجائب التي سيصنعها (ثم نسألكم ايها الاخوة من جهه ظهور ربنا يسوع المسيح … لا يغرنكم أحد باي نوع كان لأنه لا يأتي ان لم يأت الارتداد اولا ويستعلن انسان الخطية ابن الهلاك المعاند والمتكبر على كل من يدعي الها او معبودا حتى انه يذهب ويجلس في هيكل الله مظهرا نفسه انه إله …. وحينئذ سيستعلن الاثيم الذي الرب يسوع يبيده بروح فمه ويبطله بظهور مجيئه الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبايات وعجائب كاذبة)

ولكن الكاثوليكون يحذر من الاستهانة بموعد مجيئة وان طول اناة الله لأجل توبة الكل ورجوعهم (عالمين هذا اولا انه سياتي في اخر الايام مستهزئون سالكين بحسب شهوات أنفسهم وقائلين اين هو موعد مجيئه … ولكن لا يخف عليكم هذا الشيء الواحد ايها الاحباء وهو ان يوما واحدا عند الرب كالف سنة وألف سنة كيوم واحد ولا يتباطأ الرب عن الوعد كما يظن قوم انه سيتباطأ لكنه يتأنى عليكم وهو لا يشاء ان يهلك احدا، بل يريد ان يقبل الجميع الي التوبة، ولكن سياتي كلص في الليل يوم الرب.. واحسبوا اناة ربنا خلاصا)

اما الابركسيس فيعلن رهبة مجيئه التي استشهد فيها القديس بطرس بنبوة يوئيل النبي (واعطي عجائب في السماء من فوق وايات على الارض من اسفل دما ونارا وبخار ودخان وتتحول الشمس الي ظلمة والقمر الي دم قبل ان يجئ يوم الرب العظيم الشهير)

وتُعْلِن الأناجيل الوعد الإلهي بالحماية              (إنجيل عشيّة)

والوصيّة بالسهر الدائم                                     (إنجيل باكر)

وعلامات المجيء الثاني                                 (إنجيل القدَّاس)

ويعلن انجيل عشية وعد الحماية الالهية لاولاد الله في مجيئه الثاني ووخوف ورعب غير المؤمنين (فضعوا إذا في قلوبكم ان لا تهتموا من قبل بما تحتجون به لأني انا اعطيكم فما وحكمة لا يقدر جميع معانديكم ان يقاوموها او يناقضوها.. وتكونون مبغضين من الجميع لاجل اسمي وشعرة من رؤوسكم لا تهلك … والناس يغشي عليهم من خوف وانتظار ما يأتي على المسكونة لان قوات السموات تتزعزع وحينئذ يبصرون ابن الانسان اتيا في سحابة بقوة ومجد كثير)

وفي انجيل باكر يوصينا بالسهر الدائم والصلاة كل حين لنكون اهلا لحمايته (انتظروا واسهروا وصلوا لانكم لاتعرفون متي يكون الوقت كانما انسان سافر وترك بيته واعطي عبيده السلطان ولكل واحد عمله واوصي البواب ان يسهر اسهروا اذا فانكم لاتعرفون متي ياتي رب البيت امساء ام نصف الليل ام صياح الديك ام صباحا لئلا ياتي بغتة فيجدكم نياما ومااقوله لكم اقوله للجميع اسهروا)

ويختم انجيل القداس بعلامات مجيئه (قل لنا متي تكون هذه وماهي علامة مجيئك وانقضاء هذا الدهر … وسوف تسمعون بحروب واخبار حروب انظروا لا تضطربوا لأنه لابد ان تكون هذه ولكن ليس المنتهي بعد لانه تقوم امة علي امة ومملكة علي مملكة وتكون زلازل ومجاعات واوبئة في كل مكان ولكن هذه كلها مبتدأ الاوجاع …. حينئذ ان قال أحد هوذا المسيح هنا او هناك فلا تصدقوا لأنه سيقوم مسحاء كذبة وانبياء كذبة ويعطون آيات كثيرة وعجائب حتي يضلوا لو امكن المختارين ايضا … وللوقت بعد ضيق تلك الايام تظلم الشمس والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تتساقط من السماء وقوات السماء تتزعزع وحينئذ تظهر علامة ابن الانسان في السماء)

 

 

مُلخّص القراءات

 

مجئ ابن الله رسالة شخصية لكل نفس بالتوبة قبل نهاية ايامها على الأرض                    (المزامير)

وهو يعطي وعد بالحماية مرتبط بوصية السهر                                                    (انجيل عشية وباكر )

ويؤكد علي حقيقة مجيئة                                                                               ( البولس )

ويحذر من الاستهانه بطول اناته                                                                       ( الكاثوليكون )

لذلك سيكون مجيئة للاشرار مرعبا                                                           ( الابركسيس وانجيل عشية )

وسيسبق مجيئه علامات كثيرة                                                                     ( انجيل القداس )

 

 

الكنيسة في قراءات اليوم

 

علامات المجيء الثاني                                                             إنجيل عشيّة وباكر والقدّاس والإبركسيس

ضد المسيح                                                                                        البولس

سموات جديدة                                                                                    الكاثوليكون

تحقيق النبوّات + ملء الروح القدس                                                          الإبركسيس

 

 

  أفكار مُقْتَرحة للعظات

 

(١) كيف يستعد المؤمنين لمجئ ابن الله

١-الصبر والثقة في رعاية الله

” وشعرة من رؤوسكم لا تهلك بصبركم تقتنون أنفسكم ” إنجيل عشيّة

٢- السهر والصلاة

” انتظروا واسهروا وصلّوا … وأوصي البواب أن يسهر ” إنجيل باكر

٣- الثبات والتمسّك بالتقليد الحي

” فاثبتوا إذاً أيها الإخوة وتمسكوا بالتقليدات التي تعلمتموها سواء كان بالكلام أم برسالتنا ”  البولس

٤- السيرة النقية المُقدَّسة

” فبما أن هذه كلَّها ستنحل يجب عليكم إذاً أن تسيروا في سيرة مقدسة وتقوي … فاسرعوا أن توجدوا بلا عيب ولا دنس قدامه في سلام ”

٥- التمسّك الدائم بإسم الخلاص الذي لربنا يسوع المسيح

” ويكون كل من يدعو باسم الربَّ يخلُص ”   الإبركسيس

٦- الإحتراس من المُسحاء الكذبة والعجائب الكاذبة

حينئذ إن قال أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدِّقوا لانه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات كثيرة.     إنجيل القدَّاس

(٢) كيف أعلن الرب عن مجيئه؟

١-علامات

في العالم: ” تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن (مت٧:٢٤)

في الكنيسة: ” ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين ” (مت ١١:٢٤)

قبل مجئ الرب ستزداد الحروب والكوارث الإنسانية في العالم وأيضاً سيقل نور الإبن في الكنيسة

٢- تحذيرات

” حينئذ إن قال لكم أحد: هوذا المسيح هنا أو: هناك فلا تصدقوا لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب، حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضا ها أنا قد سبقت وأخبرتكم فإن قالوا لكم: ها هو في البرية فلا تخرجوا. ها هو في المخادع فلا تصدقوا (مت ٢٤: ٢٣-٢٦)

التحذير هنا لعدم تصديق كل الأرواح الكاذبة وأهمّية امتحان الأرواح والأفكار والمعتقدات على تعليم الكنيسة والكتاب المقدَّس والتقليد الحي (١يو ٤: ١-٣)

٣- وصايا

ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص (مت ١٣:٢٤)

وصلوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت (مت ٢٤: ٢٠)

يوصينا الرب هنا بالصلاة الدائمة وإحتمال الضيقات بصبر

اسهروا إذا وتضرعوا في كل حين، لكي تحسبوا أهلا للنجاة من جميع هذا المزمع أن يكون، وتقفوا قدام ابن الإنسان (لو٣٦:٢١)

٤- وعوداً مُطَمْئِنة

ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة (مت ١٤:٢٤)

ولكن لأجل المختارين تقصر تلك الأيام (مت ٢٢:٢٤)

فليس كل ما يحدث عند مجيئه سلبي، بل سيُكرز بالإنجيل في العالم كله وستُقَصَّر الأيام لأجل مختاري الله

 

 

 

 عظات آبائية

 

القديس غريغوريوس النيسي

السهر الملائكى

لقد أعطى الرب لتلاميذه عدة وصايا يصلون خلالها الى التجرد من الأمور المادية التى هي مثل الطين حتى يعدهم للمسير والصعود. وأحدي هذه الوصايا هي السهر والتغلب على النوم، ولذلك أوصاهم أن يكونوا دائما يقظين في الروح وان يتركوا النعاس والكسل اللذين يخدعان الروح ويبددان الحق.

والنعاس والكسل يرمزان الى الخيالات والانغماس الجسدى فى العالم،  وأنا أعنى بالعالم الحياة العامة والمال والمظاهر الخادعة الباطلة ، لأن كل هذه الأشياء سوف تفنى وتزول مع الزمن وهى مجرد ظل فقط ولن تدوم كما نظن نحن ، لأنها لن تبقى للأبد كما نفكر نحن ، فهى سوف تمر وتعبر بعد ظهورها مباشرة فهى تشبه الموج الذى يرتفع فوق المياه ولكن فى لحظة سريعة يتلاشى بفعل الريح وينزل الى لاشىء لذلك فان عظمة المجد العالمى لن تبقى وتدوم وستصير مثل الأمواج التى تتلاشى وتصير كلاشىء بفعل العواصف والرياح وعندئذ يهدأ البحر ويصير ساكنا ولذلك يجب ألا ينشغل عقلنا بتلك الخديعات ، ويجب أن نتخلى عن ذلك النعاس ،وننزعه من عوننا ومن أرواحنا لئلا ننجذب لهذه الخديعات وننزلق من الأشياء الالهية الحقيقية .

ولذلك يدعونا الرب أن نسهر قائلا ” لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسروجكم موقدة … طوبى لأولئك العبيد الذين اذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين ” (لو١٢: ٣٥ – ٣٦) لأن النور حين يسطع فى عيوننا فأنه يبدد النوم .

والجسد يسهر حين نمنطق حقوينا ولا نغلب من النوم ، وهذا الدرس واضح وهو أن الانسان الذى يمنطق نفسه بضبط النفس فانه يحيا فى نور ونقاوة الضمير وسوف تشرق حياته بمصباح المحبة ، لهذا فأنه تحت أشعة الحق سوف تستيقظ روحه ولا تنام أو تخدع أو ترتبك بتلك الأشياء العالمية الزائلة. واذا ما نحن اكملنا وصية السهر كما يوجهنا الرب يسوع المسيح عندئذ سوف نسلك فى الحياة الملائكية. لأن الوصية الالهية نشبهنا دائما بالملائكة ” وأنتم مثل اناس ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس حتى اذا جاء وقرع يفتحون له الوقت ” (لو ١٢: ٣٦) أنهم الملائكة الذين استقبلوا الرب حين رجع من عرس الصليب وهم ظلوا ساهرين منتظرين أمام بوابات السماء. وحين قام العريس ورجع الى عرش مجده الذى هو فوق كل الأمجاد استقبلته الملائكة عندئذ.

ووفقا للمزمور الذي يقول ” وهى مثل العريس الخارج من حجلته ” (مز ١٩: ٥) أي أن الرب يسوع المسيح قد خطبنا لنفسه عن طريق سر المعمودية المقدس. نحن العروس التي ارتكبت الزنا بسلوكنا خلف الأوثان كما عبر عن ذلك حزقيال النبي ” لأنهما قد زنتا وفى ايديهما دم وزنتا بأصنامها ” (حز٢٣: ٣٧) الا أن العريس يحول طبيعتنا الخاطئة ويمنحنا البتولية غير الفاسدة. والآن قد كمل طقس الزواج وتم زفاف الكنيسة للمسيح الكلمة كما يقول يوحنا الرسول ” من له العروس فهو العريس ”    (يو ٣: ٩) وقد دخلت الكنيسة في سر الزفاف والعريس كان فوق الصليب والملائكة انتظروا رجوع ملكهم (صعود المسيح) وهو الأنن يقود الكنيسة الى تلك البركة التي تناسب مكانتها .

نحن أيضا يجب أن نكون مثل الملائكة ونصير مثلهم بلا خطية ولا تجربة وهم ساهرون دائما منتظرين رجوع ملكهم. ونحن يجب أن نكون دائما مستعدين لدعوته لنا للانطلاق من هذا العالم ونظل يقظين حتى يأتي المجيء الثاني ويقول ” طوبى لأولئك العبيد الذين اذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين ” (لو١٢: ٣٧)[2]

 

 

 

القديس أنبا باخوميوس أب الشركة

 

السهر والتوبة

والآن، يا ابني، استعملْ هذا العالمَ في زهدٍ، سالكًا بإنكار ذاتك، تابعًا الربَّ في كل أمرٍ لتجد دالةً في وادي يهوشافاط. ليتك تُرَى في العالم كهؤلاء الزاهدين (فيه)، أمَّا في يوم الدينونة فتوجَد متشحًا بالمجد. لذلك، لا تتكلْ على أحدٍ من البشر من أجل راحة نفسك، بل ألقِ على الرب همَّك وهو يعولك (مز ٥٥: ٢٣). انظرْ إيليا، فقد اتكل عليه عند غدير كريث، فكان يعوله بواسطة غُرَابٍ (١مل ١٧: ٢ – ٦)

احترسْ لنفسك جدًّا من الزنى، فقد جَرَحَ كثيرين وطرحهم أرضًا (طوبيا ٤: ١٣) (١تس ٤: ٣) (أم ٧ : ٢٦). لا تصادقْ صبيًّا، ولا تلتجأْ إلى امرأةٍ. اهربْ من راحة الجسد؛ لأن الصداقة تتقد مثل نارٍ. لا تندفعْ نحو شيءٍ جسداني؛ لأنه إنْ سقط الحجرُ على المعدن، تشتعل النارُ وتحرق أشياءَ كثيرةً. التجأْ نحو الرب في كل وقتٍ، واجلسْ تحت ظلِّه؛ لأن الساكن في عون العلي يصير تحت ظل إله السماء، ولا يتزعزع إلى الأبد (مز٩١: ١) (مز ١١٢: ٦) اذكرْ الربَّ وأورشليمَ السمائية. ليتها تصعد إلى قلبك، وسوف تصير في بَرَكَة السماء، ويحملك مجدُ الله

بكل احترازٍ احفظْ جسدَك وقلبَك. اسعَ خلف السلام والطهارة (القداسة)، فهما مرتبطان ببعضهما البعض، لكي تعاين اللهَ (عب ١٢: ١٤). كذلك لا تتشاجرْ مع أحدٍ من البشر؛ لأن المتشاجر مع أخيه هو عدوٌ لله. والذي يكون في سلامٍ مع أخيه، يكون في سلامٍ مع الله. والآن، قد عرفتَ أنه لا يوجد ما هو أعظم من السلام، حتى يحب كلُّ واحدٍ أخاه. إنْ كنتَ طاهرًا من كل خطيةٍ وعدوًّا لأخيك، فأنت غريبٌ عن الله؛ لأنه مكتوبٌ: “اتبعوا السلام والقداسة” (عب ١٢: ١٤) ؛ لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض. مكتوبٌ أيضًا: “إنْ كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليست لي المحبة فلست أنفع شيئًا (١كو ١٣: ٢ -٣)“    (١كو ١٣ : ٢ – ٣)لي المحبة فلست أنفع شيئاً ” (١كو ١٣ : ٢ – ٣) ، ” المحبة تبني ” (١كو ٨ : ١). ” ماذا سيطهر النجاسة “؟

إنْ كانت هناك كراهيةٌ أو عداوةٌ في قلبك، فأين هي إذن طهارتك؟ قال الربُّ في إرميا: “يتكلَّم مع جاره بكلامٍ سلمي، والعداوة في قلبه. يتكلَّم مع جاره بالغش، والعداوة في قلبه أو يفكر فيها. ألا أغضبُ على هذه (الفِعَال)، قال الربُّ؟ أم لا تنتقم نفسي من أُمَّةٍ كهذه؟” (إر٩: ٨ – ٩) إذًا، هو يقول: “من كان عدوًّا لأخيه، فهذه هي الأُمَّة (المقصودة).” لأن الأمم تسلك في الظلمة، ولم تعرف النورَ. هكذا الذي يبغض أخاه، يسلك في الظلمة ولا يعرف اللهَ (أف٤: ١٧ – ١٨) (١يو٢: ٩ – ١١)(١يو٣ : ١٤ – ١٩) لأن البغضة الناتجة عن العداوة قد طمست عينيه، وهو لا ينظر صورةَ الله (تك ١ : ٢٧ ؛ ١كو ١١ : ٧). فإنْ كان الربُّ يأمرنا أنْ “أحبوا المسيئين إليكم، وباركوا لاعنيكم، واصنعوا الخيرَ للذين يطاردونكم” (مت ٥: ٤٤) (لو ٦: ٢٧ – ٢٨)، فكم مقدار الخطر الذي نوجد فيه ونحن نبغض بعضنا البعض، أعضاءنا الصديقة المتحدة معنا، أبناء الله، أغصان الكرمة الحقيقية، خراف القطيع العقلي الذي جمعه الراعي الحقيقي، الابن الوحيد الجنس الذي لله، الذي أصعد ذاته ذبيحةً عنا؟ (يو ١٠: ١٦) (يو١٥: ٥) (أف٥: ٢)  (١بط ٢ : ٢٥) هذا المقدار من الخطر الذي لأجله قَبِل الكلمةُ الحيُّ هذه الآلامَ. وأنت أيضًا، أيها الإنسان، تبغضه بسبب الحسد والمجد الباطل، أو بسبب محبة المال أو التفاخر، تلك التي قيَّدك العدو بسببها، لكي يجعلك غريبًا عن الله. ما هو دفاعك الذي سوف تقوله للمسيح؟ سيقول لك: “ما دُمْتَ تبغض أخاك، فأنت تبغضني أنا. ستمضي أنت إلى العذاب الأبدي؛ لأنك عدوٌّ لأخيك. أمَّا أخوك فسيمضي إلى الحياة الأبدية؛ لأنه تواضع لك من أجل يسوع” (مت٢٥: ٤٠ – ٤٦).

فلنفتش إذًا، يا أحبائي، عن دواءٍ للجرح قبل أن نموت. لنلجأ إلى إنجيل الناموس الحقيقي الذي للمسيح الإله ونسمعه يقول: “لا تدينوا، فلا تُدَانوا. اغفروا، يُغْفَر لكم” (لو ٦: ٣٧). فإذا لم تغفر، فلن يُغْفَر لك أيضًا. إنْ تشاجرت مع أخيك، فأعِدّْ نفسَك للعذابات بسبب آثامك، وتعدياتك، وزناك الذي تقترفه سرًّا، وكذبك، وكلامك القبيح، وأفكارك الشريرة، ومحبتك للمال، وشرورك التي ستعطي عنها جوابًا (حسابًا) عند منبر الحكم الذي للمسيح (رو ١٤: ١٠)، بينما تنظرك كلُّ خليقة الله، وكافةُ الملائكة وكلُّ القوات ماثلة، وسيوفهم مسلولة، ويجبرونك أن تُقِرَّ وتعترف بخطاياك، وكل ثوبك رثٌّ، وفمك مستدٌّ، ومُرْتَبِكٌ، وليس لديك كلمةٌ لتقولها. أيها البائس، كَمْ مِن حالات الزنى الكثيرة ستعطي (عنها) جوابًا، هذه التي هي لنفسك مثل آكل الطين (نوع من الديدان واسم للسرطان أو الغرغرينا)، وعن شهوات العين، والأفكار الشريرة التي تضايق الروحَ وتحزن النفسَ، والزلة، واللسان المتكلم بالعظائم الذي ينجس الجسدَ كلَّه، والهَزْل، واللهو الآثم، والافتراءات، والحسد، والبغضة، والاستهزاء، والتهكم على صورة الله (الإنسان)، والإدانة، وشهوات البطن التي حرمتك من خيرات الفردوس، وألم الشهوة، والتجاديف التي ذِكْرُها قبيح، والظن الآثم بصورة الله (الإنسان)، والغضب، والشجار، والوقاحة، والتعالي، وتَفَكُّر قلبك بالشر، والقسوة، والتفاخر؟ كل هذا ستُسْأَل عنه؛ لأنك تشاجرت مع أخيك، ولم تهدأ غصبًا بواسطة محبة الله. ألم تسمع أن “المحبة تستر كثرةً من الخطايا” (أم ١٠: ١٢) (١بط ٤: ٨) ، وكذلك: “هكذا أبوكم الذي في السموات يفعل بكم، إنْ لم تتركوا من قلبكم بعضكم لبعض”؟ (مت ١٨: ٣٥) لن يغفر لكم أبوكم الذي في السموات خطاياكم.

هو ذا أنتم، يا أحبائي، عارفون أننا قد لبسنا المسيح الصالح محب البشر (رو١٣: ١٤) (غل ٣: ٢٧)، فلا نتسبب في أن نخلعه بسبب أعمالنا الشريرة. وإذ نحن قد عاهدنا الله على الطهارة، ونَذَرْنَا الرهبنة، فلنعمل أعمال (الرهبنة)، التي هي: صوم، وصلاة بلا فتور، وطهارة الجسد، ونقاوة القلب. إنْ كنا قد نذرنا لله الطهارة، فلا نُضْبَط في زنى كثير الأنواع؛ لأنه قال: “قد زنوا بأشكالٍ كثيرةٍ”  (حز ١٦ : ٢٦). أيها الإخوة، لا تتسببوا في أن نوجَد في مثل هذه الأعمال، ونوجد أدنى من كل الناس

قد نذرنا أنفسنا أيضًا أن نتتلمذ للمسيح، فلنعذب أنفسنا. لأن الألم يعذِّب النجاسةَ. والآن، الجهاد موضوع (عب١٢: ١) ، فلا نخور، لئلا نصير عبيدًا للخطية. قد أُقِمْنَا منيرين للعالم (مت ٥: ١٤) ، فلا تجعلوا أحدًا يعثر بسببنا. لنلبس الصمتَ؛ لأن به خلص كثيرون.

تيقَّظوا، أيها الإخوة، فلا نحاسِب بعضنا البعض، لئلا نُحَاسَب الآن بالعذابات. سواء كنتم متبتلين أو نُسَّاك أو متوحدين، إلا إنه سيقول لنا: “هات الذي لي مع ربحه” (مت ٢٥: ٢٧). إنْ وَجَدَ فينا مذمةً، سيقول لنا: “أين ثياب العُرْس؟ (مت ٢٢: ١١ – ١٢) أين نور المصابيح؟ (مت ٥: ١٤ – ١٦) إنْ كنتَ ابني، فأين مجدي؟ وإنْ كنتَ عبدي، فأين مخافتي؟ (ملا 6:1) إنْ كنتَ قد أبغضتني في هذا العالم، فابتعد عني. إني لا أعرفك (مت ٧: ٢٣)؛ (لو ١٣: ٢٧). إنْ كنتَ قد أبغضتَ أخاك، فأنت غريب عن ملكوتي. إنْ كنتَ قد تشاجرت مع أخيك ولم تغفر له، فسوف تُرْبَط يداك إلى خلفك مع رجليك، وتُطْرَح إلى الظلمة الخارجية، حيث يكون البكاء وصرير الأسنان (مت ٨: ١٢- ٢٢ : ١٣ ، ٢٥ : ٣٠) (لو ١٣ : ٢٨). إنْ كنتَ قد ضربت أخاك، فسوف تُسَلَّم إلى يد ملائكةٍ عديمي الرحمة، فيعذبونك بسياطٍ نارية إلى الأبد. أنت لم تتراءف على صورتي. قد أهنتني واحتقرتني وأخزيتني.

من أجل ذلك، لن أتراءف عليك في ضيق شدتك. لم تصنع سلامًا مع أخيك في هذا العالم. أنا أيضًا لا شأن لي بك في يوم الدينونة العظيم. قد احتقرتَ الفقير، فقد احتقرتني أنا. قد ضربتَ المسكين، فأنت شريكٌ لمن ضربني في مذلتي على الصليب. هل تركتك معتازًا لشيءٍ في رحلتي إلى العالم؟ ألم أهبك جسدي ودمي طعامًا أبديًّا؟ ألم أذق الموتَ عنك حتى خلصتك؟ ألم أخبرك بسر السموات، أني سأجعلك ابنًا وصديقًا لي؟ (مت ٥: ٩) (يو ١٥ : ١٥) (غل٣ : ٢٦) (غل٤ : ٦) ألم أعطك السلطانَ أنْ تدوس الحيات والعقارب وكلَّ قوة العدو؟ (لو ١٠: ١٩) ألم أمنحك الكثيرَ من الأدوية الأبدية التي ستخلص بواسطتها؟ قواتي وآياتي وعجائبي التي لبستها في العالم كسلاحٍ للجهاد قد أعطيتها لك، لكي تمنطق بها ذاتك وتهزم جليات (١صم ١٧: ٥٠ – ٥١)، أي الشيطان. والآن، ماذا ينقصك لكي تصير غريبًا عني؟ تهاونك وحدك هو الذي ألقى بك في هوة الجحيم[3].

 

 

القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد

 

فائدة الصبر

أيها الاخوة الأحباء، حينما نتكلم عن الصبر ومزاياه وفوائده، فمن أين نبدأ الا من هذا الواقع، اذ أنكم تحتاجون الى الصبر ولاسيما الآن حتى تستطيعوا أن تصغوا وتتعلّموا اذ بدون الصبر لا يستطيع أحد أن يتعلّم كلمة الله وطريق الخلاص انى لا أجد أيها الأحباء، وسيلة أخرى بين كل وسائل النظام السمائى أكثر أهمية لأجل حياتنا ومجدنا من التمسك بوصايا الله بطاعة نابعة من المخافة والتكريس ، وعلى وجه الخصوص أن ندرك أهمية احتياجنا الى الصبر

الفلاسفة أيضاً يدّعون ممارسة هذه الفضيلة، وان كان صبرهم هذا كاذب وزائف كما حكمتهم أيضاً، اذ كيف يمكن أن يكون حكيماً أو صبوراً من لا يعرف حكمة أو صبر الله؟ اذ أن الله نفسه ، يحذر أولئك الذين يعتقدون بأنهم حكماء فى أعين أنفسهم فى هذا العالم فيقول : ” فتبيدُ حكمة حُكمائه ، ويختفى فهم فُهمائه ” (إش ٢٩ : ١٤)  ، وبالمثل يعلن بقوة الطوباوى بولس الرسول ، الممتلىء من الروح القدس والمُرسل ليدعو ويعلّم الأمم : ” انظُروا أن لا يكون يسبيكم بالفلسفة وبغرور باطل ، حسب تقليد الناس ، حسب أركان العالم ، وليس حسب المسيح ” (كو ٢ : ٨) ، وفى موضع آخر يقول : ” لا يخدعن أحد نفسه ان كان أحد يظن أنه حكيم بينكم فى هذا الدهر ، فليصر جاهلاً لكى يصير حكيماً ؛ لأن حكمة هذا العالم هى جهالة عند الله ، لأنه مكتوب : الآخذ الحكماء بمكرهم وأيضاً : الرب يعلم أفكار الحكماء أنها باطلة ” (١كو ٣: ١٨ – ٢٠) لهذا فالحكمة التى لديهم ليست حقيقية ، وكذلك الصبر لا يمكن أن يكون حقيقياً فلكى يكون الانسان صبوراً يجب أن يكون متواضعاً ووديعاً ، واذ كنا على عكس ذلك نجد أن هؤلاء ليسوا متواضعين ولا ودعاء بل أنهم معتدون بذواتهم ومتكبرين ، واذ هم مسرورون بأنفسهم ، لا يمكن أن يجد الله مسرته فيهم ، اذ من الواضح ان الصبر الحقيقي لا يمكن أن يوجد حيث يوجد الفكر المتكبر والجسارة التى لا حد لها والحرية المصطنعة أمّا نحن أيها الأحباء ، فلسنا فلاسفة بالقول بل بالفعل ، ولا ندّعى الفلسفة كهؤلاء الذين يدّعون أنهم حكماء ويرتدوا الرداء الخاص بهم ( عباءة مميزة للفلاسفة ) ، بل نحن حكماء حقاً ، ولا نتفاخر بالفضائل ، بل أن لنا خبرة هذه الفضائل وممارستها ، لا نتحدث فقط عن الأمور السامية النبيلة ، بل نعيش حياتنا كخدام وعابدين لله ، ونُظهر ذلك الصبر الذى هو ثمرة الخضوع الروحى والذى تعلمناه من تعاليم السماء اذ أننا نقتنى بالشركة مع الله هذه الفضيلة ، فالصبر يبدأ منه ، وبه يستمد بهاءه وقوته  ان أصل وعظمة الصبر تنبع من الله صانعه وسيده ، ويجب علينا أن نحب كل ما هو عزيز لدى الله ، فهي فضيلة محبوبة لديه ، بل أن الجلالة الالهية تحث عليها ، واذا كان الله هو ربنا وأبونا ، فعلينا اذاً أن نتبع صبره ، انه الرب والآب لنا فى آن واحد وان كانت الطاعة واجبة على العبيد ، فكم تكون بالحرى  جديرة بالبنين

فيال صبر الله العظيم ، اذ يحتمل ما أقامه البعض من التماثيل والهياكل الوثنية ، لكيما يسخروا من جلاله ومن مجده أمّا هو فيشرق شمسه على الأشرار كما على الصالحين ، وحينما يُروى الأرض بالمطر لا يحرم أحد من خيراته ، بل انه يعطى بلا تمييز ، نرى صبره على المذنبين والأبرياء ، على الأتقياء والأشرار ، على من يشهدون بفضله وعلى الناكرين تُطيعه الفصول وكل العناصر تكمل خدمتها ، تهب الرياح وتتدفق الينابيع وتنمو المحاصيل بوفرة ، وتنضج الكروم فى جفنتها وتتحمل الأشجار بالثمار وتتغطى الغابات بالأوراق والمروج بالأزهار ، ومع أنه يحزن جداً لخطايانا المختلفة وماذا أقول ؟ المستمرة؟ الا أنه يطيل أناته وينتظر ليوم المجازاة ، المعيّن قبلاً مرّة والى الأبد ومع كونه صاحب السلطان للانتقام فانه يفضل أن يحفظ الصبر محتملاً ومتباطئاً برحمة واضحة حتى يعطى فرصة للتوبة ، وحتى ما يرجع الانسان ، بعد أن أندفع فى شروره وضلاله ، ويعود الى الله : ” لأنى لا أسر بموت من يموت ، يقول السيد الرب ، فارجعوا واحيوا ” (حز ١٨ : ٣٢) وأيضاً : ” ارجعوا الىّ أرجع اليكم ” (ملا ٣ : ٧) ” ارجعوا الى الرب الهكم لانه رؤوف رحيم ، بطىء الغضب وكثير الرأفة ويندم على الشرَ ” (يؤ ٢ : ١٣)

واذا يذكر الطوباوي بولس هذه الحقيقة واذ يسعى لاقتياد الخاطئ الى التوبة يعلن بقوة: ” أم تستهين بغنى لطفه وامهاله وطول أناته ، غير عالم أن لطف الله انما يقتادك الى التوبة ؟ ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب، تدخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة ، الذى سيجازى كل واحد حسب أعماله ” (رو٢ : ٤ – ٦) وحسناً قالت دينونة الله ، فالله حقاً طويل الأناة وان كان يتباطأ الى أمد طويل فهذا حتى ما يهتم الانسان بخلاصه  لكن العقاب واقع لا محالة على الشرير الخاطئ عندما لا يتوب عن الخطية ، لأنه حينذاك يصبح كل شيء عديم الجدوى

من هذا نفهم ونتعلّم أكثر أيها الأحباء أن الصبر هو من الله ، وان الانسان الصبور والعطوف الوديع انما يتشبه بالله الآب ، لذلك نرى الرب بعد أن أعطى الوصايا التعاليم فى انجيله لأجل الخلاص ، نطق بالتحذيرات الالهية حتى يصير تلاميذه كاملين ، فأعلن قائلاً : ” سمعتم أنه قيل : تحب قريبك وتبغض عدوك  وأما أنا فأقول لكم : أحبوا أعدائكم باركوا لاعنيكم أحسنوا الى مبغضيكم ، وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم لكى تكونوا أبناء أبيكم الذى فى السموات ، فانه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ، ويمطر على الأبرار والظالمين لأنه ان أحببتم الذين يحبونكم ، فأىّ أجر لكم ؟ أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك؟ وان سلمتم على اخوتكم فقط، فاى فضل تصنعون ؟ أليس العشارون أيضاً يفعلون هكذا؟ فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل ” (مت٥ : ٤٣ – ٤٨) انه بهذا الشرط كما قال يصبح أبناء الله كاملين ، وكما أوضح في تعليمه ، أن أولئك يبلغوا كمالهم التام ، ان كان صبر الله الآب يسكن فيهم ، واذا صار الشبه الالهى الذى فقده آدم بخطيته واضحاً ومشرقً فى أفعالهم

أيها الأخوة الأحباء ، ان الهنا رب المجد لم يعلمنا الصبر بكلماته ، بل أكمله أيضاً بأعماله فهو الذى أعلن أنه جاء لكيما يتمم  ارادة الآب ، فمن بين جميع الفضائل العجيبة التى كانت دليلاً على عظمته الالهية ، انه بثباته حفظ صبر أبيه فى كل ما احتمله وهكذا سائر أعماله منذ تجسده تميزت بحضور صبره ، فمنذ أن نزل من أعلى السموات الى الأرض لم يأنف وهو ابن الله أن يتخذ جسداً انسانياً ، فى الوقت الذى لم يكن هو ذاته خاطئاً ، حمل خطايا الآخرين ، مُحتملاً أن يصير انساناً من أجل أن يموت وهو غير المذنب من أجل المذنبين ، ومع أنه الرب ارتضى أن يعمده عبده ، ومع أنع معّين ليهب مغفرة الخطايا لم يأنف من أن يغتسل جسده فى جرن التجديد ،  لقد صام ذاك الذى يقيت الآخرين أربعين يوماً ، واحتبر الجوع الى  الطعام من أجل أن يشبع أولئك الجائعين الى الكلمة ( اللوغوس)   والنعمة من خبز السماء دخل فى حرب مع ابليس المجّرب ، واكتفى فقط بأن يهزمه ، ولم يستخدم فى ذلك سوى الكلمات أما عن تلاميذه فهو لم يأمرهم كاله يسود على عبيده ، بل بعطفه وصلاحه أحبهم محبة أخوية ، بل انه تنازل وغسل أقدامهم ، كيما يعلمهم بمثاله واذ كان هكذا تصرف السيد مع عبيده ، فكم يكون تصرف الخادم فى الخدمة مع رفقاءه وزملاؤه واخوته فلا ينبغى لنا أن نتعجب أنه كان هكذا وسط تلاميذه ، وعندما نرى كيف أظهر أعظم صور الصبر مع يهوذا حتى النهاية ، قدم له الطعام ولم يرد أن يفضحه علانية بل أنه حتى لم يرفض قبلته ، بالرغم من أنه عرف أنه عدوه وخائنه أى صبر أظهره فى معاملاته مع اليهود ؟   كم أظهر من ثبات وصبر عظيم ؟؛ قاد غير الأمناء الى الايمان بالإقناع ، وغمر غير المترفين بالجميل بالمودة ، وأجاب المعرضين برقة ، هؤلاء الذين كانوا يريدون أن يمتحنوه، تعامل بالتسامح مع المغرورين ، والاتضاع مع المضطهدين  وأراد أن يجمع ختى الى وقت الصلب والآلام قتلة الأنبياء والذين كانوا يجدفون عليه

وحتى فى ساعة آلامه وصلبه ، آية تهكمات وتعبيرات استمع اليها بصبر ، آية استهزاءات مهينة احتملها حتى ان أولئك الشاتمين بصقوا عليه ، وهو الذى حينما تفل أعاد البصر لرجل أعمى ، وأى احتمال للجَلد احتمله وهو الذى يقوم اليوم خدامه بجَلد الشيطان وأعوانه ، وكيف رأى نفسه مُكلًلاً بالشوك وهو الذى يكللّ الشهداء بالزهور الأبدية ، لُطم على الوجه بقبضة اليد ، وهو الذى يضع الأكاليل الحقيقية للغاليين ، جردوه من ثيابه وهو الذى يكسونا بثوب الخلود ، قَبِلَ المرارة وهو الذى أعطاهم طعاماً سمائياً ، أعطى خلاً ليشرب وهو الذى أسقانا من كأس الخلاص ، هو البرىء ، وهو البار ، بل بالأولى انه البراءة والبرّ ذاته ، لكنه أحصى مع الأثمة ، انه الحقيقة التى حاول شهود الزور اخفاءها ، أدانه الناس ذاك الذين يَدين ، كلمة الله أقتيد للذبح وهو صامت ، وحينما أتت ساعة صلبه أظلمت الشمس واضطربت العناصر وتزلزلت الأرض ، وحلّ الظلام عوض نور النهار واحتجبت الشمس ساعة آلامه حتى لا ترى أشعتها جريمة اليهود ، احتمل حتى المنتهى كل شىء بثبات لا يكلّ حتى ما يجد الصبر الكامل والتام كماله فى المسيح

وحتى بعدما تألم، فانه لا يزال يقبل قاتليه اذا تابوا وأتوا اليه، وبفضل صبره الذى يجلب الخلاص، لا يغلق كنيسته فى وجه أحد بل حتى مقاوميه والمجدفين عليه والأعداء الدائمين لاسمه، ان تابوا عن خطاياهم ، وأقروا بذنوبهم ، فهو لا يهبهم فقط غفران خطاياهم ، بل أيضاً جعالة ملكوت السموات  فمن ذا الذى يمكن أن يكون أكثر صبراً وشفقة منه ؟ لقد عاش بدم المسيح ، ذاك الذى سفك دم المسيح هكذا يكون صبر المسيح العجيب ، وان لم يكن عظيماً هكذا ، لما أمكن للكنيسة أن يكون فيها بولس رسولاً

وهكذا اذا كنا نحن أيضاً مع المسيح وفى المسيح ولبسنا المسيح، وان كان هو طريق الخلاص، فلابد اذاً أن نتبع خطواته مقتفين آثاره كما يعلّمنا يوحنا الرسول: ” من قال أنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك ، هكذا يسلك هو أيضاً ” (١يو ٢  2: 6) ، وكذلك القديس بطرس يقول فى رسالته : ” فان المسيح أيضاً تألم لأجلنا ، تاركاً لنا مثالاً لكى تتبعوا خطواته الذى لم يفعل خطية ، ولا وُجد فى فمه مكر ، الذى اذ شُتم لم يكن يشتم عوضاً ، واذ تألم لم يكن يهدّد ، بل كان يُسلَم لمن يقضى بعدل ” (١بط٢ : ٢١ – ٢٣)

وأيضاً نجد أن الآباء والأنبياء وجميع الأبرَار الذين كانوا رمزاً للمسيح ، لم يحافظوا قط على شيء فى فضائلهم المجيدة أكثر من الصبر ، وهكذا كان هابيل أول من استشهد ، عندما تألم لم يتذمر كانسان بار ولم يقاوم أخاه الذى قتله ، بل اذ كان متضعاً ووديعاً استسلم بصبر للذبح ، وهكذا ابراهيم الذى آمن بالله ، بطل الايمان اذ جُرب فى ابنه لم يتردد أو يؤجل بل أطاع الأمر الالهى بكل صبر واخلاص ، واسحق اذ كان مثالاً وصورة لذبيحة الرب حينما قدمه أبوه ليذبحه ، وجدناه صابراً ، ويعقوب الذى هرب من بلدته بسبب أخيه ، رحل منها بصبر ، بل وأظهر صبراً أعظم فيما بعد عندما ربح أخاه مرّة ثانية بتضرعه وعطاياه على الرغم ان عيسو في ذلك الوقت كان أكثر تمرداً وقسوة ويوسف بع أن باعه اخوته ، لم يسامحهم بصبر فقط ، بل بسخاء ومحبة عندما أتوا اليه أعطاهم عطايا من القمح وموسى الذى كان يُدان دوماً من شعبه الجاحد عديم الايمان ، كاد الشعب العنيد أن يرجمه ومع ذلك كان بوداعة وصبر ، يصلى الى الله لأجلهم وداود الذى من نسله جاء المسيح بحسب الجسد ، أظهر صبراً مسيحياً وعجيباً من خلال الفرص العديدة التى كان يستطيع فيها أن يقتل شاول الملك ، على الرغم من أن شاول كان يسعى لقتله وحتى عندما وقع فى الأسر أخيراً، فضل أن يتركه سالماً دون أن ينتقم منه ، بل على العكس لقد انتقم لشاول ممن قتله ؛؛ وأخيراً كم من أنبياء قُتلوا وكم من شهداء كُرموا بموت مجيد ، وقد بلغوا جميعاً الأكاليل السماوية باستحقاق الصبر ؛ فهذه الأكاليل لا نستطيع أن نربحها الا اذا احتملنا بصبر أولاً هذه الآلام والأتعاب

ولكى نستطيع أن نعرف أيها الاخوة الأحباء بأكثر كمال ووضوح كم أن الصبر نافع وضروري ، فلننظر الى العقوبة التى أنزلها الله بآدم عنما سقط وتعدّى الوصية والناموس الذى أعُطى له ، حينئذ سنعرف كم يجب علينا أن نتسلح بالصبر في هذا العالم ، نحن الذين عُينَا هنا على الأرض لنجاهد مع متاعبها ، فلنصغى الى ما قاله الرب لآدم : ” لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التى أوصيتك قائلاً : لا تأكل منها ، ملعونة الأرض بسببك ،بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك  وشوكاً وحسكاً تُنبت لك وتأكل عشب الحقل بعَرَق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود الى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب ، والى نراب تعود ” (تك٣ : ١٧ – ١٩)

وبما اننا جميعاً تحت هذا الحكم حتى يأتي الموت على الأرض كلها ونغادر هذا العالم، فمن الضروري لنا أن نجوز الأحزان والأتعاب جميع أيام حياتنا، وأن نأكل خبزنا بالعَرَق والتعب.

كذلك كل انسان بمجرد ميلاده وقدومه الى غربة هذا العالم ، ألا يبدأ حياته بالبكاء ، ومع كونه يجهل تماماً كل شىء الا أنه فى اللحظات الأولى من ولادته يبكى ، انه برؤية مسبقة يئن على أحزان هذه الحياة البشرية ، ونفسه التى لم تختبر شيئاً بعد ، تشهد منذ الابتداء الدموع والبكاء ، على أتعاب وعواصف العالم الذى يدخله ، لأنه طالما أن الحياة مستمرة ، هناك يكون التعب والكد ، ولا يمكن لأى شيء آخر أن يكون مصدراً للتعزية الا بالصبر لهؤلاء الذين يحتملون هذه الاتعاب واذا كان التّحلى بالصبر نافع وضروري للجميع ، فهو نافع وضروري بصفة خاصة لنا نحن الذين نُحارَب ونُجرَب من قبل الشيطان ، اذ علينا أن نقاتله ونحاربه كل يوم فى خط المواجهة ، بالإضافة الى هذه الحروب والتجارب ، علينا أيضاً أن نتألم ونتخلى عن ممتلكاتنا ، ونكابد السجن ، والقتل ، والسيف ، والوحوش المفترسة، والنيران ، والصلب ، في معركة الاضطهادات وباختصار كل أنواع العذاب والألم التى تأتى علينا يجب أن نتحملها ونجتازها بأيمان وبفضيلة الصبر تبعاً لتعليم الرب الذى يقول : ” قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فىّ سلام فى العالم سيكون لكم ضيق ، لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم ” (يو ١٦: ٣٣) وان كنا نحن الذين جحدنا الشيطان والعالم نتألم من ضيقات وشرور الشيطان والعالم بعنف ، فكم ينبغي علينا بالأكثر أن نحفظ الصبر فان معونته ورفقته الدائمة سوف تعيننا على احتمال كل الضيقات التي تأتى علينا.

هذه هي التعاليم التى لربنا ومعلمنا فيما يتعلق بالخلاص : ” الذى يصبر الى المنتهى فهذا يخلص ” (مت ١٠ : ٢٢) وأيضاً : ” ان ثبتم فى كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي ، وتعرفون الحق ، والحق يحرركم ” (يو ٨ : ٣١-٣٢) فلابد أن نحتمل ونثبت كى بعدما أعطينا رجاء الحق والحرية ، يمكننا أخيراً أن ندرك تلك الحرية والحق ، وذلك لأن حقيقة كوننا مسيحيين هي ذاتها مصدراً للأيمان والرجاء ولكى تتحقق هذه الثمرة فلابد أن نتحلى بالصبر  نعم ليس المجد الحاضر الذى نطلبه بل العتيد كما يقول الرسول بولس : ” لأننا بالرجاء خلصنا ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء ، لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضاً ؟ ولكن ان كنا نرجو ما لسنا ننظره فاننا نتوقعه بالصبر ” (رو ٨ : ٢٤-٢٥) الانتظار والصبر لا غنى عنهما أبداً من أجل أن نكمل ما بدأنا أن نكونه حتى ندرك بمعونة الله هدف رجاؤنا وإيماننا وفى موضع آخر  يعلم الرسول الأبرار والمجاهدين الذين يصنعون أعمالاً صالحة وبذلك يدخرون لهم كنزاً فى السماء ، ويحثّهم على الصبر قائلاً : ” فاذا حسبما لنا فرصة  فلنعمل الخير للجميع ولاسيما لأهل الايمان لأننا سنحصد فى وقته ان كنا لا نكلّ “(غل ٦ : ٩ – ١٠) فهو يحذرنا لئلا يفشل أحد فى صنع الأعمال الصالحة بسبب عدم صبره ، اذ يجب ألا يتوقف الانسان – سواء بسبب انساره فى تجاربه أو اضطرابه – فى منتصف الطريق المؤدى للمجد والمدح ويتسبب فى ضياع كل ما ربحه سابقاً غير مكمل جهاده ، كما هو مكتوب : ” برّ البار لا ينجيه فى يوم معصيته ” (حز ٣٣ : ١٢) وأيضاً : ” تمسّك بما عندك لئلا يأخذ أحد اكليلك “(رؤ ٣ : ١١) ، فهذا الصوت الالهى يحثّنا أن نحفظ أنفسنا فى صبر وقوة نحن الساعين لنوال المكافأة والاكليل ، حتى اذا جاء الوقت نكلّل بسبب دوام الصبر

ولكن الصبر أيها الاخوة الأحباء من جهة أخرى لا يحافظ فقط على الفضائل ، بل ويدفع عنا المقاوم ويحفز عمل الروح القدس ويربطنا بشدة بالحقائق السمائية والالهية ، ويعيننا ضد أعمال الجسد التى تُهاجم النفس بعنف وتجعلها أسيرة ولننظر بالفعل الى القليل من هذه الأعمال الكثيرة ، حتى ندرك من هذا القليل البقية فالزنا وأعمال الغش والقتل هى خطايا مميته لكن من تكون فضيلة الصبر قوية وثابتة فى قلبه ، ولديه الجسد المكرّس الذى أصبح هيكلاً لله فذاك لن يتدنس بالزنى ، والبراءة التى نُذرت للبرّ لن تُبتلى بأعمال الغش ، واليد التى حملت الافخارستيا لن تتلوث بالسيف المخضب بالدم

المحبة هى رباط الاخوة وأساس السلام ودعامة وثبات الوحدة ، بل انها الأكثر عظمة من الرجاء والايمان وهى تتفوق على الأعمال والشهادة ، وهى التى ستبقى معنا الى الأبد فى ملكوت السموات0 اذا نُزع منها الصبر وبقيت وحدها لن تصمد انزعوا عنها تأييد الاحتمال والصبر تبقى بلا جذور وبلا قوة بناء على ذلك فان الرسول بولس عندما كان يتكلم عن المحبة ربطها بالاحتمال والصبر فقال : ” المحبة تتأنى وترفق المحبة لا تحسد ولا تنتفخ ، ولا تحتد ،  ولا تظن السوء ، وتحتمل كل شىء ، وتصدق كل شىء ، وترجو كل شىء ، وتصبر عل كل شىء ” (١كو ١٣ : ٤-٧) وبذلك أوضح أن المحبة تثبت بقوة لأنها تحتمل كل شىء ، وفى موضع أخر يقول : ” محتملين بعضكم بعضاً فى المحبة مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام ” (أف٤ : ٢-٣) فلا يمكن الا عن طريق الصبر أن نحفظ الوحدة والسلام برباط الاتفاق

وماذا أيضاً؟ عن لا تحلف أو لا تشتم أو لا تسترد ما سُلب منك أو تقديم الخد الآخر لمن لطمك، وأن تغفر لمن أساء الينا ، ليس فقط سبعين مرة سبع مرات ، بل أن تغفر له كل أخطاؤه ومحبة الأعداء والصلاة لأجل من يضهدوننا ، هل يمكن أن نخضع لهذه الأمور اذ لم يكن لنا ثبات الصبر والاحتمال ؟ هذا ما رأيناه فى استفانوس فهو لم يطلب الانتقام لنفسه بل الغفران لقاتليه قائلاً : ” يارب لا تقم لهم هذه الخطية ” (أع ٧ : ٦٠) هكذا كان يجب أن يكون شهيد المسيح الأول ، وهو الذى بموته المجيد سبق الشهداء الذين بعده ولم يكن فقط كارزاً بألآم الرب بل أيضاً مُتشبهاً بصبره العظيم وماذا أقول عن الغضب وعدم التوافق والشرور التى لا ينبغى أن تكون فى الانسان المسيحي ؟ فليت الصبر يسكن قلوبنا، حينئذ لن يكون فيها مكان للرذائل وحتى اذا حاولت أن تخترق القلب ، تُطرد سريعً وتُطرح خارجاً ، فيظل القلب موضعاً للسلام يسكنه اله السلام ، ولذلك يحذرنا الرسول ويعلّمنا : ” لا تُحزنوا روح الله القدوس الذى به خُتمتم ليوم الفداء ، ليُرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح ، وتجديف مع كل خبث ”  (أف٤ : ٣٠ -٣١)

فلو تخلص المسيحي من نزعات ونزوات الجسد، يكون مثل بحر هدأ من هيجانه ، وبهدوئه يبلغ فعلاً الى ميناء المسيح ، الانسان المسيحي لا يجب أن يدع الغضب أو الخصام أن يتسلل الى قلبه لأنه لا يليق به أن يجازى الشرّ بالشرّ ولا أن يُبغض أحد

ان الصبر أيضاً ليس أقل ضرورة فى مواجهة المتاعب الأخرى كالمرض وتجارب الحياة ، فمنذ أن تعدّى الانسان الوصية فقد صحة الجسد وكذلك الخلود ، ومع الموت دخل المرض ، لذلك لا يمكن أن تُسترد الصحة قبل أن يُستعاد أيضاً الخلود ، لذلك ينبغى دائماً النضال والجهاد فى هذه الحالة ضد الوهن والضعف الطبيعي للجسد ، ولا نستطيع أن نفعل ذلك بدون قوة الصبر ومن جهة أخرى من أجل اختبار الانسان وتمحيصه تأتى علينا أنواع مختلفة من التجارب ، مثل فقدان الممتلكات وحرارة الحمى ، والجراحات المؤلمة ، وموت الأعزاء ، وهنا لا شيء قط يميز الخطأة عن الأبرار الا موقفهم تجاه الآلام ، اذ أن الأثيم بسبب عدم الصبر يشكو ويجدف ، بينما البار يتزكى بالصبر ويحتمل كما هو مكتوب : ” فى الحزن احتمل ، وفى جالك المتواضعة اصطبر لأنه بالنار يمتُحن الذهب والفضة ” (سيراخ ٢ : ٤ – ٥)

هكذا مُحص أيوب وأختُبر ثم رفُع الى المجد بسبب فضيلة الصبر فقد نصب الشيطان سهامه ضده ، وكم من الأسلحة التى صوبها تجاهه ، لقد احتمل ضياع ثروته ، ورأى بعينيه هلاك عدد كبير من أبنائه0 وبعد أن كان مالكاً غنياً بالخيرات ، وأباً أكثر غنى بالأبناء ، صار فجأة بلا أبناء ولا ثروة ، وتأتى الضربة الأعنف ، حين أصابت جسده قروحاً قاسية ، وضُرب بالدود الذى أخذ يأكل أعضاءه أيضاً ، لم يكن هناك شىء لم يختبره أيوب فى تجاربه ، جردّ الشيطان أيضاً امرأته ضده ، مستخدماً أساسها القديم فى الخبث كما لو كان بتخل امرأة يستطيع أن يُفسد ويخدع كل العالم ، الأمر الذى حدث منذ الابتداء ( مع آدم ) ومع ذلك فأيوب لم يدع نفسه تُصرع بهذه الضربات المؤلمة والقاسية : بل انه فى وسط هذه الآلام وهذه الاضطرابات لم يكف بصبره المنتصر عن تمجيد الله وبالمثل طوبيا أيضاً بعد ما أكمل أعمالاً تتميز بالبرّ والمحبة ، جُرب بفقد بصره ، لكنه احتمل بصبر هذا العمى ، ونال نعمة عظيمة من الله بفضل صبره الجدير بالمديح

ولكى ما تتألق بالأكثر فضيلة الصبر لننظر أيها الاخوة الأحباء من جهة أخرى الى الشرور التي تنشأ عن عدم الصبر لأنه كما ان الصبر هو خير يأتينا من المسيح، كذلك فان عدم الصبر هو شرّ من شرور الشيطان  وكما أن من يحيا فيه المسيح يكون دائماً صبوراً ، هكذا من تمتلئ روحه بشرّ ابليس ، يكون عديم الصبر ولنفحص بدايات الجنس البشرى ، فإبليس لم يكن له الصبر لكى يحتمل خلقة الانسان على صورة الله ، ولهذا السبب كان هو أول الساقطين ، وآدم بالرغم من الوصية الالهية سقط اذ أنه لم يتذرع بالصبر ؟ ووقع فى قبضة الموت ، ولم يحفظ بالصبر النعمة الالهية التى اقتبلها من الله وقايين لعد صبره قتل أخاه بسبب تقدّمته ، وعيسو أيضاً بسبب عدم صبره واشتهائه للعدس فقد حقه فى البكورية ، وماذا نقول عن الشعب اليهودى بالنسبة الى عدم صبره وعدم تصديقه للمواعيد الالهية ؟ أليست خطية عدم الصبر هى التي جعلته ينفصل عن الله لأول مرة ؟ اذ لم يحتمل تأخير موسى الذى كان يتحدث مع الله ، تجرأ وطلب من الالهة الدنسة رأس عجل وتمثال أرضى ، أن تكون قائدة له فى مسيرته ، انهم لم يتحلوا قط بالصبر ، بل كانوا دائماً متذمرين ضد تعليم وتدبير الله ، قتلوا الأنبياء والأبرار ، بل اندفعوا بالمثل الى الصليب وسفكوا دم الرب وأيضاً عدم الصبر هو الذى صنع الهراطقة فى الكنيسة ، ودفع أولئك الذين على مثال اليهود الى أعمال عدائية وعداوات مشئومة  ليثوروا ضد سلام ومحبة المسيح وحتى لا نطيل الحديث اذ نعرض لكل هذه التفاصيل ، فيقيناً كل الأشياء التى يؤول بها الصبر الى المجد يهدمها عدم الصبر ، بل انه يقود الانسان الى الخراب والهلاك

أيها الاخوة الأحباء ، بعد أن أوضحنا منافع الصبر من جهة ، وشرور عدم الصبر من جهة أخرى ، فنراعى بغيرة شديدة الصبر الذى يدعنا نثبت فى المسيح ونبلغ مع المسيح الى الله ، ان الصبر مملوء بالغنى ومتعدد الجوانب لا تحدّه حدود ضيقة بل أن فاعليته تمتد الى أفاق متسعة ، وخصوبته الوفيرة تسرى فى طرق عديدة تؤدى الى المجد ، وليس فى أعمالنا قط ما يمكن أن يأخذ استحقاقاته ، دون فضيلة الصبر الصبرهو الذى يزكينا ويحفظنا أمام الله ، وهو الذى يهدىء الغضب ، ويُلجم اللسان ، ويقود الروح ، ويحرس السلام ، ويضبط الشهوات ، ويطفىء نيران الكراهية ، ويردع قوة الغنى ، ويعزى الفقراء ، ويحفظ كمال العذارى وعفّة الأرامل ان الصبر يجعل الانسان متضعاً فى غناه وشجاعاً فى محنته ، وهادئاً أمام الاهانات والشتائم ، الصبر يعلمنا أن نغفر لمن يسئ الينا ، ويعلّم المخطىء أن يطلب الغفران دوماً ، الصبر يهزم التجارب ، يعضد في الاضطهادات ، ويُتوج عذابات الشهداء  انه الصبر الذى يقوى أسس ايماننا ، الذى ينمى رجاءنا ، وهو الذى ينظم سلوكنا حتى نستطيع أن نتبع المسيح ، ويجعلنا أبناء الله باقتدائنا بصبر الله الآب

وبما أن كثيرين بينكم كما أعرف أيها الاخوة الأحباء سواء بسبب بعض الاساءات التي يرزحون تحت ثقلها من الذين يهاجمونهم ويعتدون عليهم ، يرغبون فى الانتقام السريع ممن يسيئون اليهم ، فأنى لا يجب أن أختم حديثي دون أن أتعرض لهذه النقطة ، اذ يجب علينا أن ننتظر بصبر يوم الدينونة الأخير ، ولا نُسرع بالانتقام لأنه مكتوب : ” انتظروني ، يقول الرب ، الى يوم أقوم الى السلب ، لأن حكمي هو بجمع الأمم وحشر الممالك ، لأصب عليهم سخطي ، كل حُمو غضبى لأنه بنار غيرتي تُؤكل كل الأرض ” (صف٣ : ٨) فالرب يأمرنا بأن ننظر بصبر ثابت الى أن يأتي يوم الانتقام اذ يقول في سفر الرؤيا : ” لا تختم على أقوال نبوة هذا الكتاب ، لأن الوقت قريب من يَظلم فَليظلم بعد  ومن هو نجس فليتنجس بعد ومن هو بار فليتبرّر بعد ومن هو مُقدس فَليتقدّس بعد وها أنا آتى سريعاً وأجرتي معي لأجازي كل واحد كما يكون عمله ” (رؤ ٢٢ : ١٠ – ١٢)

وقد أعطى الأمر كذلك للشهداء الذين يصرخون ويطلبون الانتقام لأنفسهم، يقول لهم الرب أن ينتظروا ويصبروا حتى يَكمَل الزمان ويَكمَل العبيد رفقاؤهم ” ولما فتح الختم الخامس، رأيت تحت المذبح نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله، ومن أجل الشهادة التى كانت عندهم ، وصرخوا بصوت عظيم قائلين : حتى متى أيها السيد القدوس والحق ، لا تقضى وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض ؟ فأعطوا كل واحد ثياباً بيضاً، وقيل لهم أن يستريحوا زمانا يسيراً أيضاً حتى يَكمَل العبيد رفقاؤهم، واخوتهم أيضاً ، العتيدون أن يُقتلوا مثلهم ” (رؤ ٦ : ٩ – ١١)

وحينما يأتي الانتقام الإلهي لدم البريء، يعلن الروح القدس بواسطة ملاخي النبي : ” فهوذا يأتى اليوم المتّقد كالتّنور ، وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشاً ، ويحرقهم اليوم الآتي ، قال رب الجنود “(ملا ٤ : ١) كما نقرأ أيضاً فى المزامير حيث يعلن لنا مجيء الله الديان ؟ المخوف بجلال حكمه: ” من صهيون كمال الجمال، الله أشرق يأتى الهنا ولا يصمت نار قدامه تأكل، وحوله عاصف جداً، يدعو السموات من فوق ، والأرض الى مُداينه شعبه : اجمعوا الىّ أتقيائى ، القاطعين عهدى على ذبيحة وتُخبر السموات بعدله ، لأن الله هو الديان ”  (مز ٥٠ : ٢ – ٦) ويعلّم أيضاً اشعياء بالمثل : ” لأنه هوذا الرب بالنار يأتي ، ومركباته كزوبعة ليردّ بحمو غضبه ، وزجره بلهيب نار لأن الرب بالنار يُعاقب وبسيفه على كل بشر ” (إش ٦٦ : ١٥ – ١٦)

وأيضاً: ” الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته يهتف ويصرخ ويَقوَى على أعدائه قد صمتُ منذ الدهر سكتُ تجلّدت ” (إش ٤٢: ١٣- ١٤)

ولكن ذاك الذى صمت سابقاً لن يصمت على الدوام ، انه ذاك الذى سيق ” كنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه ” (إش٥٣ : ٧) انه ذاك الذى لم يصيح ولم يسمع أحد فى الشوارع صوته (إش ٤٢ : ٢) انه ذاك الذى لم يعاند ولم يحتج حينما بذل ظهره للسياط وخديه للطم ولا حول وجهه عن البصاق  (إش ٥٠ : ٥ – ٦) انه ذاك الذى اتُهم من قبل الكهنة والشيوخ ولم يجب بشيء البتة ، وعندما تعجب منه بيلاطس التزم الصمت بصبر انه ذاك الذى صمت في أثناء آلامه لكنه لن يصمت بعد أكثر انه الهنا ، ليس اله الجميع بل اله المؤمنين والأمناء ، لن يبقى صامتاً حينما يأتي في مجيئه الثاني ولو أنه فى مجيئه الأول كان ملتحفاً فى تواضعه ، فسيأتي علانية في قوته

لننتظره أيها الاخوة الأحباء كديّان ومنقم ، سينتقم لنا نحن شعب كنيسته مع جموع الأبرار منذ ابتداء العالم ، فليت ذاك الذى يُسرع لينتقم لنفسه أن يتأمّل فذاك الذى له حق الانتقام لم ينتقم بعد ، وفى سفر الرؤيا عندما أراد يوحنا أن يسجد للملاك قال له : ” انظُر لا تفعل ؛ لأنى عَبد معك ومع اخوتك الأنبياء ، والذين يحفظون أقوال هذا الكتاب اسجُد لله ” (رؤ ٢٢ : ٩)  فياله من صبر عظيم ، أن الرب يسوع الذى يُسجد له فى السماء لم يُنتقم له بعد على الأرض ؛؛ فلنفتكر فى صبره أيها الاخوة الأحباء فى اضطاداتنا وآلامنا ولنُظهر خضوعنا كاملاً فى انتظار مجيئه ، ولا نسرعن للانتقام لأنفسنا قبل نقمة الرب ، فهذا سلوك لا يليق بنا كعبيد لله بل ليتنا نثابر ونسهر ، لنحفظ وصايا الرب حتى اذا جاء يوم الغضب والانتقام لا نُعاقب مع الأثمة والخطأة ، بل نتمجد مع الأبرار والذين يتّقون الله[4]

 

 

عظات آباء وخدَّام معاصرين

 

المتنيح الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف والبهنسا

 

نهاية كل شئ

(مت٢٤ :١-٤٤)

نبوة بخراب الهيكل :(مت ٢٤: ١-٣)

بعد أن تكلم عن معلمي اليهود وعن انتهاء شريعتهم وخراب اورشلیم (مت ٢٣: ٣٨)تقدم خارجا من الهيكل فأخذ التلاميذ يرونه أبنية الهيكل وحجارته الفخمة ، هذا الذي استغرق بناؤه الأخير ستة وأربعين عاما فقال : ان هذا ايضا ينهدم ، ولا يبقى فيه حجر على حجر ثم خرجوا جميعا الى جبل الزيتون : فتقدم اليه التلاميذ بطرس ويعقوب ويوحنا واندراوس (مر ١٣: ٣)معتقدين أن هذا الخراب للهيكل يكون في نهاية العالم فسألوه متي يكون وما هي العلامات عند انقضاء الدهر .

صورتا خراب أورشليم ونهاية العالم: (مت ٢٤: ٤ -٤٤)

يتضمن رده أربع نقاط:

أولا : (مت ٢٤: ٤-١٤) تعليم الا نهتم بالتنبؤ عن نهاية العالم لأن أحداث العالم مستمرة ، من حروب ومجاعات وزلازل وأوبئة . هذه احداث طبيعية، ويستمر دولاب الحياة دائرا حتی النهاية أنظر عدد ( ۳۸ -۳۹ )

وهناك اضطهاد وضيق لابد أن يأتي على الكنيسة، وهي أيضا أحداث خاصة بالكنيسة، ولكنها غير محصورة في وقت بالذات لأن جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون (۲تی ٣: ١٢) ومحاولات التضليل الديني لا تنقطع لأن الشيطان لا يقتصر على وسيلة في الحرب، بل بالاضطهاد وبالشر بالتضليل وكل شتى الوسائل. وسيقدم أنبياء كذبة كثيرون ولم يقل عن واحد يصدق منهم. واساس الكذب في الأنبياء نكرانهم للمسيح ” من هو الكذاب الا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح. هذا هو ضد المسيح الذي ينكر الاب والابن ” (١يو٢۲:۲) •

ويحدث في الكنيسة ضيقات وسقطات مختلفة، يعثر كثيرون، يسلمون بعضهم البعض، وتحدث بينهم البغضاء والأثم بسببه تبرد محبة كثيرين . ويستمر التبشير والكرازة في العالم كله ويكون هناك أمناء للرب ” لأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها ” (مت ١٦: ١٨) والذي يصبر الى المنتهى فهذا يخلص، ويستمر كل ذلك الى المنتهی

ثانيا: خراب أورشليم: ولما كان هذا الحادث يحدث عام ۷۰ م والرب يعرفه مقدما. ولما كان ذلك الخراب علامة على فناء العبادة اليهودية، وعلى الخطأ الكبير الذي وقعت فيه أورشليم فيجب أن تعطى عنه علامة واضحة للمسيحيين لكي يهربوا منه. فأعطى الرب العلامة لتلك الكنيسة الصغيرة التي ستكون صغيرة ايضا وقت الخراب، وتحتاج بالأولى إلى الأنقاذ حفاظا عليها

والعلامة هي احاطة الجنود الرومانيين بالمدينة وارتفاع اعلام أوثانهم حول هذه المدينة المقدسة بما فيها من المكان المقدس الذي هو الهيكل. فهذه علامة دخول الرجس أو الجنود الوثنيين في الهيكل وتدنيسه وقت الخراب، وقد سبق دانيال النبي وتنبا عن ذلك “ويثبت عهدا مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة، وعلى جناح الأرجاس مخرب (وتترجم أيضا وفي الهيكل رجسة الخراب) حتى يتم ويصب المقة على المخرب ” (دا ۹: ۲۷). فاذا ما رأت الكنيسة أولئك الجنود يقتربون من المدينة. فليهرب أبناؤها من أورشليم بعيدا، وليكن هروبهم سريعا فالذي على السطح ينطلق سريعا هاربا دون أن يأخذ من بيته شيئا، والذي في الحقل لا يدخل أسوارها، وعلى الجميع أن يصلوا لكي يقصر الرب تلك الأيام: ولكي لا يكون الهروب في الشتاء أو السبت ولكي يخفف الرب عن المتعبين والمرضى والحبالى والمرضعات.

وحتى في ذلك الوقت الضيق العصيب أيضا سيقوم أدعياء نبوة، ويقدمون ایات عجيبة لكي يضلوا لو أمكن المختارين أيضا

ويدعوا أن المسيح قد جاء ثانية. أعلام وعلى الكنيسة ألا تصدق ذلك كله، لأن مجيئه الثاني يكون واضحا لجميع المسكونة. فكما أن البرق يظهر للكل هكذا يكون مجيء ابن الانسان

لأن كل ذلك نذير بخراب أورشليم، ومن الغريب أن أعلام الجنود الرومان كانت ترسم عليها علامة النسر، والرب قال نبوة رمزية عميقة هنا ” حيثما تكن الجثة هناك تجتمع النسور ” فاجتماع الرومان حول أورشليم يتبعه افتراسها

ثالثا: المجيء الثاني : (مت ٢٤ : ۲۹ – ۳۱)

وأما عند المجيء الثاني فتنحل الكواكب ، وتتفتت السموات . وقد صار هذا الكلام واضحا عند سامعيه . وقد قال أحدهم وهو الرسول بطرس “لتذكروا الأقوال التي قالها سابقا الأنبياء القديسيون ووصيتنا نحن الرسل ، وصية الرب والمخلص ، عالمين هذا أولا أنه سيأتي في آخر الأيام قوم ۰۰ قائلين أين هو موعد مجيئه … لأنه يخفى عليهم بارادتهم أن السموات كانت منذ القديم ، والأرض بكلمة الله قائمة ..وأما السموات والأرض الكائنة الآن فهی مخزونة بتلك الكلمة عينها محفوظة للنار الى يوم الدين ، وهلاك الناس الفجار …لكن سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه نزول السموات بضجيج ، وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها ۰۰۰ يوم الرب الذي به تنحل السموات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب ” (۲بط ۳ : ۲ – ۱۲).

وحين يأتي الرب من السماء تظهر علامة واضحة، ويبصرونه آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير، وتصير الدينونة للجميع فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الأربع رياح من اقصاء السموات إلى أقصائها ” هوذا يأتي مع السحاب و ستنظره كل عين والذين طعنوه وينوح عليه جميع قبائل الأرض ” (رو١: ٧).

على أن البعض يقول أن ما ورد عن نهاية العالم هنا ليس مجرد تصوير مادي لما يصاحب مجيء الرب، ولكنه تصویر روحي أيضا للضعف الذي يسبقه ، فيقولون أن المقصود بان الشمس تظلم هو ضعف الحياة الروحية في الكنيسة فلا يرى الناس نور الرب واضحا “اليكم أيها المتقون أسمى تشرق شمس البر و الشفاه في أجنحتها ” (مل ٤ : ٢) وحينئذ لا يعطي القمر ضوءه أي أولاد الله لا يكونون نورا للعالم لأنه كما يعكس القمر نور الشمس ، يعكس المؤمنون نور الرب على العالم فاذا انقطع عنهم نوره تظلم حياتهم. ونجوم وقوات السموات تتزعزع أي أنه حتى بين قادة الكنيسة وأعمدتها من يسقط •

رابعا : الدرس المثلث : (مت٢٤ : ۳۲ – ٤٤)

وهنا يبرز السيد تعاليم ثلاثة من الذي سبق:

( أ ) (مت٢٤ : ۳۲ – ٣٤) أن يتيقظوا لعلامة خراب أورشلیم لأنه وشيك الحدوث ، فمثلما يأتي الصيف ،عقب اخضرار شجرة التين ، سيأتي الخراب عقب العلامة التي أعطاهم ويكون ذلك في جيلهم

( ب ) (مت٢٤ : ٣٥۔ ٣٦)

ولا يجهدوا أنفسهم في التنبؤ عن نهاية العالم ، لأن ذلك الوقت قد أخفي عن جميع المخلوقات ، البشر والملائكة . حتى أنه في شدة تواضعه ومشاركته للبشر حياتهم المحدودة في كل شيء جعل ذلك الأمر – عدم معرفة الوقت – ينصب عليه أيضا فقال “لا يعلم بها أحد ، ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن الا الآب “(مر۱۳ : ۳۲) • على أنه حتما يعلم ذلك من زاوية الحدودية الالهية.

(ج ) (مت٢٤ : ۳۷ -٤٤) ولن تتوقف عجلة الحياة من حركة وعمل وتوالد وموت وغيرها الى أن يأتي الرب في نهاية العالم

وسيظل أناس لاهين في حياتهم الي ان يفاجئهم ذلك الوقت كما فاجأ الطوفان غيرهم أیام نوح، وسيظل الموت الفردي يفاجئ الواحد دون الآخر ” اثنتان تطحنان على الرحى تؤخذ الواحدة وتترك الأخرى ” الى قيام الساعة.

فعلينا بالسهر لأننا لا نعرف متى يأتي للأفراد أو للجميع، فان الموت ياتي کسارق بتسلل الى مكان ما ليسرق منه شيئا ويخرج دون أن يرى ، هكذا الموت بالنسبة لناس يتلفتون واذا بأحدهم قد انطلق فعلى الجميع ان يكونوا مستعدين.[5]

 

 

 المتنيح الدكتور موريس تاوضروس

 

المدلولات اللاهوتية والروحية لبعض المعاني الواردة في إنجيل القدَّاس

عدد 3: مجيئك (Parousias) “ما هى علامة مجيئك وانقضاء الدهر”

الاسم هنا مشتق من الفعل (Pareinai) بمعنى يكون حاضرا. وفى هذا المعنى انظر (فى٢: ١٢)، (٢كو١٠: ١٠) ويجئ بمعنى: وصل انظر (١كو١٦: ١٧) (٢كو٧: ٦- ٧) (٢تس٢: ٩) (٢بط٣: ١٢).

وعن المجىء الثانى للسيد المسيح انظر (يع٥: ٨)     (١يو ٢: ٢٨) (٢بط٣: ٤) ( 1تس٤:١٥ )

عدد12: لكثرة (Plythunthynal) “لكثرة الاثم تبرد محبة الكثيرين”

حرفيا: سوف (أى الإثم) يكثر ويزداد، انظر(أع٦: ١-٧) (اع ٧: ١٧) (اع ٩: ٣١) (عب٦: ١٤) ولو أننا حذفنا أداة التعريف من كلمة “الكثيرين” ، وقلنا تبرد محبة كثيرين، لأضعفنا قول السيد المسيح ، فليست محبة كثيرين هى فقط التى تبرد، بل محبة الكثيرين ، أى محبة الأكثرية، محبة الجسد الكبير.

عدد14: المسكونة (Ty oikoumeny) “ويكرز ببشارة الملكوت هذه فى كل المسكونة”

حرفيا : المسكون – كل العالم المسكون- الأرض المسكونة

عدد15: رجسة الخراب (Bdelugma tys erymwsews) “ومتى نظرتم رجسة الخراب ليفهم القارىء”

الفعل من هذا الاسم هو “Bdellussomai”  ويعنى : يشعر باشمئزاز –يتقزز من الطعام. وفى المعنى الأخلاقى تشير إلى موضوع يكون محل نفور واشمئزاز وكراهية (انظر 2(أي ١٥: ٨) (أر١٣: ٢٧) (حز١١: ٢١) (دا: ٢٧ -١١: ٣١). واستعملت كمرادفة للوثن انظر(تث٧: ٢٦)،( ٢مل٢٣: ١٣) وتشير إلى أى شىء يظهر فيه البعد عن الله وهذا المعنى الأخلاقى يتأكد أيضا فى العهد الجديد (انظر لو١٦: ١٥)( رؤ١٧: ٤- ٥ )،(رو٢١: ٢٧) . وفى هذا الموضع الذى نحن بصدده ، تشير الكلمة إلى احتلال الهيكل بواسطة الرومان الوثنيين ، تحت قيادة تيطس ، مع رفع راياتهم . وكما يشير يوسيفوس المؤرخ، فان الرومان بعد احراق الهيكل ، أحضروا راياتهم ونصبوها على الباب الشرقى ، وهناك قدموا قرابين وأعلنوا تيطس امبراطورا .

عدد17 :والذى سطح (O epi tou dwmatos) “والذى على السطح ، فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئا”.

كانت سطوح المنازل ترتبط ببعضها بطريق أسماء الربانيون: طريق السطوح. وهكذا يمكن للمرء أن يهرب بالانتقال من سطح إلى سطح حتى آخر منزل. ويمكنه حينذاك أن ينزل على سلالم خارجا عن المنزل. والتأكيد هنا على أساس أنه بالرغم من أنك سوف تمر بباب بيتك، فلا تدخل لتأخذ شيئا منه، بل اهرب لحياتك.

عدد22: تقصر (Elkolobwthysan) “لو لم تقصر تلك الأيام لم يخلص جسد”

الكلمة هنا تصويرية. والفعل يعنى حرفيا: ينقص – يخفض – يقطع – يختصر –يوجز – يحذف – يسقط – . والواقع أن عوامل كثيرة تجمعت لأجل تقصير الحصار، فلقد أوقف هيرودس أغريباس عن تقوية الأسوار بأمر من الامبراطور. وكانت مخازن الحبوب والمؤن قد أحرقت قبل وصول تيطس. وتيطس نفسه اعترف أن الله كان ضد اليهود والا فان قوته ومعداته لم تكن قادرة على هدم حصونهم.

عدد24: آيات وعجائب (Symeia Kai Terata) “يعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضا” .

غالبا ما ترتبط هاتان الكلمتان معا فى العهد الجديد (يو٤: ٤٨)،( أع٢: ٢٢ – ٤: ٣٠) (٢كو١٢: ١٢) والكلمتان لا تشيران إلى نوعين مختلفين من الأعمال المعجزية، بل إلى المعجزات منظورا إليها من زاوية أخرى. ان نفس المعجزة يمكن أن تدل على عمل قوى (منظورا اليها من حيث قوتها) أو عمل ممجد (منظورا اليها كعلامة على قوة فاعلها غير الطبيعية) كذلك بالنسبة للرائى يمكن أن يرى فيها عملا مدهشا. ان كلمة (Teras) هى معجزة منظورا اليها كعجيبة تثير الدهشة وتطابق فى اللاتينية كلمة (Miraculum)

عدد 26: فى البرية .. فى المخادع (Ty erymw .. tamieiois)   “ان قالوا لكم ها هو في البرية فلا تخرجوا ، ها هو في المخادع فلا تصدقوا” .

كلمتا البرية والمخادع (الحجرات الداخلية أو الحجرات السرية) تشيران إلى أماكن منعزلة بعيدة عن أنظار الناس، ويدلان على أن المسحاء الكذبة يتجنبون أن يوضعوا تحت الفحص العام.

عدد 27 : يظهر (phainetai) “كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر فى المغارب”:

إن مجىء السيد المسيح سيكون حقيقة واضحة ظاهرة لا تقبل الشك أو التردد، تماما مثل الضوء الذى ينير الشرق والغرب فى نفس الوقت ويرى الجميع، فانه لن يقتصر فى ظهوره بمكان ما ولكنه سيظهر نفسه وسيعرف فى جميع العالم ، كما جاء فى سفر الرؤيا “هوذا يأتى مع السحاب وستنظره كل عين والذين طعنوه ، وينوح عليه جميع قبائل الأرض (رؤ1-7).

عدد 28 :جثة (Ptwma) “لأنه حيثما تكون الجثة ،هناك تجتمع النسور”:

يشتق الاسم من الفعل (Piptw) الذى يعنى: يسقط وعلى ذلك فالجثة تعنى: الجسم الساقط . أنظر (مر٦: ٢٩) (رؤ٨: ٦٦) ، وبالنسبة للآية ، أنظر (أيوب ٣٩: ٣٠)

نسور (Aetoi) : يشار هنا إلى نوع معين من النسور ، يفوق ما نعرفه عن النسر العادى من الحجم والقوة ، وفى اللغة الانجليزية يفضل ترجمته بـ “Griffon Vulture”  بدلا من “Eagle” ، ويشير أرسطو إلى أن هذا الطائر يشتم رائحة فريسته من مسافة بعيدة ويحتشد فى أعقاب الجيوش.

والمثل هنا له مدلول عام لا يختص فقط باجتماع الاشرار، بل وأيضا الاخيار، فكل يجتمع حول ما يناسبه.

عدد31: بوق عظيم الصوت (Mega Salpiggos phwnys megalys) “فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجتمع مختاريه” .

يشار فى سفر العدد إلى استعمال البوق فى أغراض مختلفة “لمنادات الجماعة ولارتحال المحلات” (عدد١٠: ١-١٠). وجاء فى المزامير “أنفخوا فى رأس الشهر بالبوق عند الهلال ليوم عيدنا” (مز٨١: ٣). وفى ضوء هذا يكون مدلول استعمال البوق فى العهد الجديد. فشعب الله المختار سوف يجمع أمام ملكه بصوت البوق. قارن أيضا هذا مع اعلان السيد المسيح ملكا من قبل بوق الملاك السابع حيث قيل فى سفر الرؤيا ” ثم بوَق الملاك السابع فحدثت أصوات عظيمة فى السماء قائلة قد صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه فسيملك إلى أبد الآبدين ” (رؤ١٥:١١).

عدد32: المثل (Tyn parabolyn)  ” من شجرة التين تعلموا المثل”

الاشارة هنا ليس إلى المثل بوجه عام، بل إلى المثل الذى تعمله شجرة التين، ولذلك فالأصح أن تكون الترجمة “تعلموا مثلها”

غصنها (Klados) “متى صار غصنها رخصا”

الاسم هنا مشتق من الفعل (Klaw) بمعنى: يكسر واستعمل عند كسر الخبز (مت١٤: ١٩) وعلى ذلك يشار هنا إلى الأغصان الصغيرة التى تستعمل فى تطعيم النبات. وهكذا كانت الاغصان التى قطعت وفرشت فى طريق السيد المسيح فى دخوله إلى أورشليم ” (مت٢١: ٨)[6]

 

المتنيح الدكتور وليم سليمان

 

ثم يجيء الطـوفان

بدأ الليل.. ولست أذكر أنمت أم لم أنم. وإذا بشيخ جليل، مهيب الطلعة، أبيض اللحية ، ينطق وجهه بعمر لم أقرأه في وجه إنسان قط . رأيت فيه حنان رب الأسرة الرحيم. وحزم القاضي العادل، وصبر المبشر الكارز ، وأناة الله نفسه . .

وأخذ يتقدم منى فنهضت لأستقبله ، وشعرت نحوه ـ قبل أن يحادثني أو أسمع صوته ـ بألفة وود .

ومد يده ليصالحني و قال “لعلك عرفتني .. أنا نوح ..”

قلت ” لم أخطئ حيث ظنتك كذلك ، فهذه الشيبة ، وهذا البر لا يكونان إلا عن نبى الفلك ، ونجا به من الغضب . . .”

والحق أنني ابتهجت إذ أقابل هذا الإنسان الخالد . ورأيتها الفرصة المواتية من أجل التعلم من حكمته ، ومن اختباره . ولمح هو تطلعي و بدا مستعداً لأن يحدثني عن كل ما أسأل عنه .

قلت له “أيها السيد الجليل ، والنبى البار ـ هل لك أن تخبرني عن بعض العلامات التي رأيتها ، قبل أن ينزل الطوفان ، وقبل أن تبنى الفلك ..”

فأجاب “اسمع إذن يا بني ، وافهم جيدا ما أقول . إن الهلاك الذي عم العالم أيام أن كنت أعيش فيه ، يقف الآن مستعدا لأن يقترب . بل هو على وشك ان ينقض على العالم اليوم فيلاشيه . ولكن احذر أن تظن أن ذلك الهلاك لا يمكن ان يكون إلا عاماً شاملا ، إن لكل إنسان طوفاناً رهيبا ، تعلو مياهه يوما بعد يوم . ولكل بيت كذلك . وويل للنفس أو للبيت الذي يغفل ولا ينتبه للخطر المحدق به ، فلا يوقظه إلا انفجار ينابيع الغمر العظيم وأمواج طاقات السماء …”

وتعجبت من هذا الكلام وسألت “كيف يمكن أن يكون ذلك وما معناه ..”

فأجاب “نعم يا ولدي ـ ألا تذكر حديث الإله يسوع في أيامه الأخيرة على الأرض ، عن الانقضاء . ألا تتذكر أنه كان يتحدث عن خراب أورشليم ، في الوقت نفسه الذي كان يقص أخبار مجيئه الثاني ، وانقضاء العالم ، إذن فلكل نفس ، ولكل بيت ، ولكل مدينة يوم رهيب ..”

واقتنعت بهذا التفسير . ووجهت اليه الحديث “ولكنك يا نبى الله قد جعلت شوقى يزداد لمعرفة الإجابة عن سؤالى . ما هي إذن علامات هذا الطوفان الخاص ، وما هي الأمارات التي تنبئ عن اقترابه …”

صمت برهة كان فيها يتذكر الماضي البعيد ، وهز رأسه وقالو “اسمع يا بني . إن الله غير ظالم قط. . وهو لا يتقدم بالعقوبة إلا بعد ان ييأس من رجوع النفس . وإن أناته لتنتظر الأيام والأسابيع والسنين ، وفي هدوء وصبر يحاول أن ينقذ نفس من يختار الهلاك ويرتضى النصيب الردى. . بحيث أنك تستطيع أن تقول إن غضبه هو الثمرة الطبيعية لعمل الإنسان . وكما أن الشجرة تحتاج الى زمن حتى تثمر ، هكذا الله ـ يترك الإنسان حتى يكتمل شره ، ثم يتقدم للعقاب ..

“والعلامة الأولى لاقتراب يوم الغضب هي أن يسلم الله الإنسان لذهنه المرفوض ، فهو يقف بجواره ، وعن طريق ضميره يحاسبه ، و يعنفه يوما بعد يوم . يذكره بالفضيلة ، وجمالها وروعتها ومكافأتها . ويحذره من الشر وقوته وعاقبته . بل إنه يقيم له الشواهد يوما بعد يوم ، بمناسبة وبغير مناسبة . وهو في ذلك يطيل أناته ، ويقول انتظر هذه السنة ـ لعله في المقبلة يرجع إلي. ويعود يقدم الوسائط واحدة إثر أخرى ، والارشاد تلو الارشاد ، حتى يجد من ذلك الانسان الرفض البات ، والاختيار النهائي للطريق الذي ارتضاه لنفسه .

“في هذه الساعة ينطق العدل الإلهي حكمه الحاسم ، و إذ احتقر ذلك الانسان الله ، يحتقره الله أيضا . فيترك له النصيب الذي اختاره ، ويبتعد بعيداً – حينئذ يبدأ ذلك الانسان يرى الشر خيرا والخير شراً . و تنقلب أمامه القيم ، فيرى الأبيض أسود ، والأسود أبيض .

ويختار شاول رئيسا له ويصبح المحب الحقيقى لديه عدواً والعدو صديقا وحبيباً . وتختفى السماء شيئا فشيئا من أمام عينيه ، ويصبح المبدأ الموجه لحياته هو الغيرة والحسد ، بدلا من المحبة ، والود، والتعاطف ، والألفة .

وهكذا يسير من يوم الى يوم ، ولعل أقسى ما يحدث لهذا الانسان أن الله لا يقف بينه و بين ذهنه ، بل يخلى بينهما تاركا لهما أن يلتقيا ، ويتصاحبا ، ويعيشا معه ، فيصبح صديق الانسان هو عدوه يثق فيه ، ويقويه ، ويطيعه . فيزداد اندفاعه وراءه ، وخضوعه له ، و تنفيذه لأوامره . وبعد أن كان يحس الانسان في نفسه مقاومة الشر ورفضه، و بعد ان كانت قوات الخير تجاهد في نفسه ضد المصير الذي ينحدر اليه ، يضعف كل ذلك ، ويحب الانسان ذهنه و تفكيره ويصبح إذا المبدأ الجديد يملك عليه ويسوده .

“ومن الطبيعي أن يحس الانسان في أول الأمر فرحا بما اختاره . ولا بد أن الشرير يحسن له الاختيار ، فيزداد خداعه ، ويزداد استسلامه . إلا أن اللحظة تأتى ، حين يفيق الانسان ، وإذا القلب تملؤه الغصة . لأن الحقيقة تنكشف له ، ويظهر الفراغ الذي اختاره لنفسه ، وحياة العذاب التي صار اليها . . ولكن بعد فوات الوقت ، لأن ساعة الغضب قد جاءت ، ولا مفر منها .

“هذه هي العلامة الأولى لاقتراب الساعة . فإن رأيت إنسانا يتبع هذا التفكير ، فاعلم أن هلاكه قريب .

“أما العلامة الثانية فهي الانقسام ، ولقد قال السيد له المجد, كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب ، وكل مدينة أو بيت ، منقسم على ذاته لا يثبت ، والمبدأ سليم لا شك فيه . وهو علامة أكيدة . وتنطبق حتى على مملكة الشيطان . إن السيد يقول”فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته ، فكيف تثبت مملكته”

“واعلم يا بني أن هذا الانقسام نتيجة من نتائج الذهن المرفوض . لأنه لو علم كل إنسان أن ما يخسره أخوه بسببه ، لن يكسبه هو بل سيخسره الاثنان ، لينضم إلى حساب العدو المشترك وهو الشيطان ، لراجع نفسه قبل أن يقدم على معاداة أخيه . إن البعض لا يعرف الارتفاع إلا على أنقاض الآخرين . ويبصر كل تقدم عند الغير تأخراً عنده . والنجاح لا يعنى عندهم إلا سقوط الباقين . فهم لا يتقدمون ولا ينجحون ولا يحققون أي نصر و مكسب . ولكنهم ثابتون في مكانهم ، يريدون أن يرجعوا أخوتهم إلى الوراء ، حتى إذا أبصروا المسافة بينهم و بين هؤلاء ، تخيلوا أنهم نجحوا و تقدموا …

“فخرهم هو إذلال الغير واحتقارهم . لا يملكون إلا خطفاً . ولا يهتمون إلا بما ليس لهم . لا يفرحون إلا والحزن يعتصر قلب صديقهم . لا يجتمعون إلا بالفرقة يلقونها بين جيرانهم : لا يتفاهمون إلا والشقاق يصنعونه وسط من حولهم .

“ولو علموا أن ارتفاعهم وتقدمهم ونجاحهم وفخرهم وابتهاجهم وفرحهم واجتماعهم و تفاهمهم … لو علموا أن كل ذلك مؤقت لا بركة فيه ولا دوام له – لراجعوا أنفسهم ، وراقبوا أعمالهم ، إن يوما سيأتى ، وقد يكون سريعا ، وفجائيا ، يبصرون واذا كل ما أعدوه و تعبوا فيه هباء وبخاراً..

“وإذا البيت الذي بنوه على الاختطاف ، يختطف من بين أيديهم وهم لاهون”

” ثم تأتى العلامة الثالثة . إنها نسيان الله . هكذا قال الجاهل في قلبه ليس إله ، فيبدأ يجلس الأيام والليالى يحيك المؤامرات ويدبر الأشراك كي يسقط أخوه فيها . غير عالم أن الحفرة والشرك سيكونان له . و أن الصليب المعد لمردخاي ، سيكون لصانعه ، هامان . “والواقع يا بني أن كل عمل شرير مصدره القلب الشرير . فإنه من فضلة القلب يتكلم الفم ، والانسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات . والانسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور ، لأنه من القلب تخرج أفكار شريرة هي العداوة وتمنى الشر وهدم الآخرين .

“واعلم يا بني أن صانع الشر الذي يظن ان الله لا يراه ، هو أول من يصيبه ذلك الشر ويؤذيه ويحطمه ، فالشر كحجر النار ، إن أمسكته يد لتلقى به على آخر ، احترقت اليد قبل أن يصل الحجر الى من وجه اليه ، لهذا فإن من ينسى الله بالحقيقة جاهل ، لأن عمله نفسه يحمل في صميمه عقابه وجزاءه . ولهذا طلب الله أن يترك له الانتقام من عمل الشر ، لأنه في حكمته العالية ، يعرف ان عامل الشر إذ يعمله ينتقم بنفسه من نفسه ، وهـذا أقسى انتقام و أشد جزاء .

“مثل هذا الانسان في الحقيقة كمن يتقدم لحجر كبير ، ضخم ، ثقيل الوزن جداً ، يرفعه بين يديه الى أعلى . حتى إذا استوى فوق رأسه ، وأراد أن يوجهه الى أخيه کی بحطمه به ، أحنى يديه اللتان تحملان الحجر من تحته ، بحسب بذلك أن الحجر واصل الى هدفه ـ والحجر في الحقيقة لا يسقط إلا على رأسه هو فيسحقه سحقاً .

“لهذا فإن الساكن في السموات يضحك من هؤلاء ، والرب يستهزىء بهم ، لأنهم مثل الحشيش سريعاً يقطعون ، ومثل العشب الأخضر يذبلون ”

وصمت الشيخ الجليل . . وطال صمته . . وكنت أنا في أثناء ذلك أفكر فيما قال ، واستعيد ألفاظه وجمله وحديثه كله .

ثم قطع النبي ذلك السكون وقال : هذه يا بني العلامات الدالة على اقتراب الساعة ، ساعة الانسان أو البيت أو الجماعة . وهي حين تتكامل وتصل إلى ذروتها ، تنفجر ينابيع الغمر العظيم ، و تنفتح طاقات السماء … ثم يجيء الطوفان”

…فقلت له “من ينجو إذن…”

أجابني “اعلم يا بني أنه حين يتدخل الله للعمل ، فإن مياه الطوفان التي تغرق الأشرار هي بذاتها التي تنجى أبناء الله . إن الناجي من هذا الطوفان الذي يغمر الأرض هو من يجعل الله ملجأ له وفلكاً. يدخل اليه كحصن أمين ويتمنع داخله . وحين تتكاثر المياه ، يرتفع الفلك و يسير على وجه المياه نفسها التي تغرق المتآمرين ، المفكرين بالشر في قلوبهم .

“وبالصبر ، وبالايمان المتين ـ يغلب رجل الله العالم ـ ويخرج من الفلك ، ليقدم ذبيحة الشكر ، والرضى ، والتسبيح ”

وبدت على الطمأنينة والرجاء. فتقدم النبي العظيم نحوى قائلا: اسمع جيدا ما قاله داود، يخاطب به الرجل الثابت الايمان “لا تغر من الأشرار ولا تحسد عمال الأثم. اتكل على الرب وافعل الخير، اسكن الأرض وارع الأمانة، وتلذذ بالرب فيعطيك سؤل قلبك. سلم للرب طريقك، واتكل عليه وهو يجرى، ويخرج مثل النور برك ، وحقك مثل الظهيرة . . انتظر الرب واصبر له، ولا تغر من الذي ينجح في طريقه، من الرجل المجرى مكايد. . لأن عاملي الشر يقطعون، والذين ينتظرون الرب يرثون الأرض”

وارتسمت على وجه الشيخ المهيب ابتسامة الوداع. واستدار لينطلق إلى حيث جاء و أردت أن أستبقبه ، استزيده من هذا الحديث . إلا أنه سار في طريق طويل لم يبلغ بصرى إلى آخر مداه … طريق يرتفع قليلا قليلا ، حتى يختفى في أعماق السماء[7]

 

 

من وحي الاحد الصغير (النسئ )

 

   ويبقي سؤال

هل مضت حياتنا كما أردنا ام ضاعت فيها ارادتنا؟

هل كانت لحظات صحوه الضمير أكثر رعبا من خوف موت ضمائرنا؟

هل كانت كثره صومنا وصلاتنا دليل اكيد علي نقاوه عبادتنا؟

هل كان الله فعلا هدفنا ام كان السبيل الي مرادنا؟

هل كانت نعمته رصيدنا ورجاؤنا أم كان الإعتماد علي قُدْراتنا؟

هل كانت خدمته روحا داخلنا ام شكلا اغرقنا به شعبنا؟

هل كانت وزناته فينا لخدمه اولاده ام كانت وقود كبرياؤنا؟

هل اكتفينا بما ضاع منا ام مساقون الي المزيد حتي نهايه حياتنا؟

وهل نقف لحظه للرجوع ام نستسلم لدوامه يومياتنا؟!

 

 

المراجع:

 

١- العلامة أوريجانوس – تفسير إنجيل متي إصحاح ٢٤ – القمص تادرس يعقوب ملطي

٢- المرجع : كتاب من مجد إلي مجد للقديس غريغوريوس النيسي (صفحة ١٧٨) – ترجمة القمص إشعياء ميخائيل

٣- ترجمها عن اللغة القبطية د. صموئيل القس قزمان معوض – قسم الدراسات القبطية – جامعة مونستر بألمانيا

٤- المرجع : كتاب مقالات القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد ( صفحة ١٣٥ ) – ترجمة القمص مرقوريوس الأنبا بيشوي

٥- المرجع : كتاب دراسات في الكتاب المقدس – إنجيل متي ( ص٢٤٠-٢٤٤) – إصدار لجنة التحرير والنشر بمطرانية بني سويف

٦- المرجع : كتاب المدلولات اللاهوتية والروحية في الكتاب المقدس بحسب إنجيل متي ( صفحة ) – دكتور موريس تاوضروس – أستاذ العهد الجديد بالكلية الإكليريكية

٧-   ولیم سلیمان المرجع: مجلة مدارس الاحد شهر فبراير ١٩٥٤