الظهور الإلهي المُستمر والعُرْس الدائم
بعد عيد الغطاس وكمال خدمة يوحنا المعمدان صديق العريس والفرح الذي كَمُلَ بعماد السيد وانفتاح السماء وظهور مجد ابن الله وبداية العُرس السماوي ( قراءات عيد الغطاس )
نأتي مباشرة إلي عُرْس قانا الجليل ( إنجيل القداس )
وحضور الله فيه ثم انتظار السيد متي يرجع من العرس في تذكار أنبا أنطونيوس ( إنجيل القداس )
، ويؤسِّس عُرْس ملكوت العهد الجديد وتطويباته في تذكار شيوخ شيهات ( إنجيل القدَّاس )
، وبعدها عُرْس المرأة الذي فيه دخلن المستعدات الي العرس ( انجيل القداس )
ويختم بالدعوة للدخول للفرح والعُرْس السماوي في تذكار أنبا بولا ( انجيل باكر )
( من له العروس فهو العريس وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه يفرح فرحاً من أجل صوت العريس )
إنجيل باكر برمون الغطاس
( وفِي اليوم الثالث كان عرسُُ في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ودُعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلي العرس )
إنجيل قدّاس عُرْس قانا الجليل
( وأنتم أيضاً تشبهون أناساً ينتظرون سيدهم متي يعود من العرس حتي إذا جاء وقرع يفتحون له في الحال )
إنجيل قدّاس ٢٢ طوبة تذكار الأنبا أنطونيوس
( لأن لهم ملكوت السموات … يعاينون الله )
إنجيل قدَّاس ٢٦ طوبه تذكار شهادة شيوخ شيهات
( وفيما هُن ذاهبات ليبتعن جاء العريس والمستعدات دخلن معه إلي العرس وأغلق الباب )
إنجيل قدّاس ٣٠ طوبة تذكار بستيس وهلبيس وأغابي
( كنت أمينا في القليل فأقيمك علي الكثير أدخل إلي فرح سيدك )
إنجيل باكر ٢ أمشير تذكار الأنبا بولا
أي أنه هو عريس البشرية ( عيد الغطاس ) وهو آتياً من عُرْس ( أنبا أنطونيوس ) وداعياً إلي عُرْس ( أنبا بولا ) ومُحقِّقاً علي أرضنا عُرْساً ( عرس قانا الجليل ) ، وملكوتاً للمُطوَّبين ( شيوخ شيهات ) ، وداخلاً معنا إلي العُرس الأبدي ( بستيس وهلبيس وأغابي )
وكأن هذه الفترة بعد عماد السيد هي فترة إنفتاح السماء علي الأرض ( عيد الغطاس ) ، وبداية عُرْس العهد الجديد وحضور العريس الدائم في كنيسته وفرح الأسرة ( عُرْس قانا الجليل ) ، وأمانة الرجال ( أنبا أنطونيوس ) ، وملكوت الكنيسة وأبناؤها المُطوَّبين ( الأربعون شهيدا شيوخ شيهات ) ، وسهر النساء ( بستيس وهلبيس وأغابي ) ، وكمال الحياة ( أنبا بولا )
عُرْس قانا الجليل الظهور الإلهي في الأسرة المسيحية
أنبا أنطونيوس الظهور الإلهي في الرجولة الروحية وأمانة الإنسان في رسالته
شيوخ شيهات الظهور الإلهي في الكنيسة الشاهدة للملكوت وفِي أعضاءها
بستيس وهلبيس وأغابي الظهور الإلهي في سهر المرأة علي خلاصها
أنبا بولا مجد الظهور الإلهي في كمال الحياة
” مهما قال لكم فافعلوه ” (يو ٢: ٥)
” لأن ربنا يسوع المسيح اجتمع مع امه العذراء وآبائنا الرسل و اظهر لهم لاهوته ست اجران ماء حولها الى خمر مختار بمجده العظيم فى عرس قانا الجليل “
ذكصولوجية عيد عرس قانا الجليل
(العريس الذي قيل له: “قد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن” يمثل شخص الرب. لأن الخمر الجيدة – أعني الإنجيل – حفظه المسيح حتى الآن[1])
ليس شيء يسند الشخص مثل المثال في الأسرة[2]
شواهد القراءات
(مز ٤: ٨ ، ٩) ، (مت ١٩ : ١ – ١٢) ، (مز ١٠٣ : ١٥ ، ٢٣)، (يو ٤ : ٤٣ – ٥٤) ، (رو ٦ : ٣ – ١٦) ، (١يو ٢ : ٢٠ – ٢٥) ، (أع ٨ : ٣ – ١٣)، (مز ٧٦ : ٩ ، ١٠) ، (يو ٢ : ١ – ١١)
ملاحظات على قراءات اليوم
+ قراءة إنجيل باكر اليوم (يو ٤ : ٤٣ – ٥٤) مُشابه لإنجيل عشيَّة الأحد الثاني من شهر أمشير (يو ٤ : ٤٦-٥٣)
مجيء القراءة اليوم للإشارة إلي شفاء أسرة في قانا الجليل بحضور الرب يسوع والتي هي إحدى بركات الظهور الألهي في الأسرة ، ومجيئها في الأحد الثاني من أمشير للإشارة إلي الرب الذي أعطي خمراً من ماء كما أعطي الجموع طعاماً من خمس خبزات وسمكتين وأيضاً الإشارة إلي أنه مصدر الحياة في شفاؤه لأبن عبد الملك
+ قراءة الإبركسيس اليوم (أع ٨ : ٣ – ١٣) تكررت في قراءة الإبركسيس ليوم ٢٦ طوبه
هنا القراءة تبدأ بالضيقة الجماعية وإضطهاد شاول لمجموعات من الرجال والنساء لذلك تأتي القراءة في تذكار شهادة التسعة والأربعين شيخاً شيوخ شيهات ( ٢٦ طوبه ) ، كما أنها تُخْتَم بعضوية الأسرة في الملكوت بالمعمودية كما كانت في عرس قانا الجليل بحضور المسيح له المجد ( ١٣ طوبه )
كما أنها تُشبه قراءة الإبركسيس (أع ٨ : ٥ – ١٣) للأحد الرابع من شهر أمشير ، ومجيئها في قراءة الأحد للمُقارنة بين سيمون الساحر الذي خسر كل شيء بسبب محبَّة المال ، وزكَّا العشار الذي استهان بكل شيء وأعطاه بفرح للفقراء من أجل محبَّة المسيح
+ قراءة إنجيل قداس اليوم (يو ٢ : ١ – ١١) هي نفس قراءة إنجيل قداس يوم ٦ نسئ ( في السنة الكبيسة )
وهي جاءت في ١٣ طوبه للحديث عن تحويل الماء إلي خمر في عُرْس قانا الجليل ، وجاءت في يوم ٦ نسئ للحديث عن كمال عطيّة الله رغم قصور أزمنة البشر ( ستة أجران – ٦ نسئ ) ، ويُمْكِن الرجوع لشرح قراءات ذلك اليوم لمعرفة الهدف من اختيار تلك القراءة
شرح القراءات
تأتي قراءات اليوم مباشرة بعد عيد الغطاس المقدس والظهور الإلهي في نهر الأردن واليوم هو أحد أعياد الظهور الإلهي في شهر طوبة مع عيد الميلاد وعيد الختان وعيد الغطاس وعيد عرس قانا الجليل وهي الأعياد التي نُصلِّي في ألحانها بيسوع المسيح ابن الله وهو نداء شهر طوبة
لكننا نجد هنا ارتباط بين شهادة يوحنا المعمدان في قراءة باكر برامون الغطاس ” من له العروس فهو العريس وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه يفرح فرحا من أجل صوت العريس ” ، وبين قراءة اليوم عن حضور الرب العرس ، وكأنه اليوم إعلان عن عريس البشرية الحقيقي ومصدر فرحها
وكأن قراءات اليوم تتكلَّم ( من جانب ) عن عرس العهد الجديد وتأسيس الملكوت ، لذلك قال القديس أغسطينوس عن إنجيل قدَّاس هذا اليوم أن الرب ” يعلن زفافه علي الكنيسة ”
وتتكلَّم في ذات الوقت ( من جانب آخر ) عن سر الزيجة والأسرة المسيحية أيقونة الملكوت
لذلك يُمْكِن لمن يقرأ قراءات اليوم أن يري المسيح له المجد عريس البشرية بموته وقيامته ، وفي ذات الوقت مصدر فرح الأسرة
(١ ) المسيح له المجد عريس البشرية :
لذلك يمكن أن نقول اليوم كيف يخطب المسيح له المجد الكنيسة بتحويل الماء إلي خمر ، وفي يوم خميس العهد يتحول الخمر إلي دم ، وفي يوم الجمعة العظيمة يُقدِّم ذاته للكنيسة
ولعلَّها ليست مصادفة مُخاطبة الرب لأمه العذراء ” يا امرأة ” مرتين فقط في الأناجيل الأربعة ، اليوم في عرس قانا الجليل ، وعند الصليب (يو ١٩ : ٢٦) ، لذلك ارتبطت هذه المعجزة بساعة الخلاص ” لم تأت ساعتي بعد ”
وهذا ما يُوضِّحه أيضاً البابا غريغوريوس الكبير :
” لم يكن رب الملائكة خاضعًا للساعة، إذ هو الذي خلق فيما خلق الساعات والأزمنة. لكن لأن العذراء الأم رغبت في أن يصنع معجزة عندما فرغت الخمر، لذلك للحال أجابها بوضوح كما لو قال: “إني أستطيع أن أفعل معجزة تأتي من عند أبي لا من عند أمي”. فإن ذاك الذي في ذات طبيعة أبيه صنع عجائب جاءت من أمه، وهو أنه يستطيع أن يموت.
وذلك عندما كان على الصليب يموت. لقد عرف أمه التي عهد بها لتلميذه قائلًا: “هذه أمك” (يو ١٩: ٢٧) . إذن بقوله: “ما ليّ ولك يا امرأة لم تأتِ ساعتي بعد” تعني “المعجزة التي ليست من طبيعتك لست أعرفك فيها. عندما تأتي ساعة الموت سأعرف أنكِ أمي إذ قبلت ذلك فيك أنني أستطيع أن أموت[3] ”
وكأن عرس العهد الجديد للبشرية سيُسْتَعلن بالصليب، ويبدأ الرب اليوم بدعوة الفرح للبشرية كلها ، ويكتمل العرس وملء فرحنا بموت المسيح له المجد وبقيامته المُقدَّسة
لذلك جاءت قراءات اليوم لتلقي الضوء علي موت الرب وقيامته ودعوة الملكوت والحياة الأبدية كأساس لعرس العهد الجديد ، ولتعيش الكنيسة كلمات البابا أثناسيوس الرسولي ” مسيحنا هو العيد الدائم ”
لذلك تجد البولس (رو ٦: ٣ – ١٦) يتكلَّم عن موت المسيح وقيامته ” فدفنا معه بالمعمودية لموته حتي كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب كذلك نسلك نحن أيضاً في جدَّة الحياة ”
ونفس المعني في الكاثوليكون “ هذا هو الوعد الذي وعدنا به الحياة الأبدية ”
وفي الإبركسيس ” وهو يبشِّر بالأمور المختصَّة بملكوت الله ”
ونري أيضاً في قراءات اليوم ذكر المعمودية وإرتباطها بموت المسيح له المجد (البولس ) ،
وبملكوت الله ( الإبركسيس ) ،
وهنا يتضح الإرتباط بين قراءات عيد الغطاس وقراءات عرس قانا الجليل
في عيد الغطاس إنفتحت السماء وأُسْتِعْلنَ إبن الله عريس البشرية ، وفي عرس قانا الجليل أسس الرب عرس العهد الجديد وبدأت ساعة الصليب
وما أجمل أن يبدأ إنجيل القدَّاس بهذه الجملة ” وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل ” إشارة إلي عرس القيامة ، لذلك تكلمت القراءات اليوم في البولس والكاثوليكون والإبركسيس عن موت المسيح وقيامته وعن الخلاص وعن ملكوت العهد الجديد
ولا عجب أن تجد دعوة الفرح التهليل مُرافقة لقراءات الأيام التالية لهذا اليوم :
+ ٢٢ طوبه ( نياحة أنبا أنطونيوس )
” افرحوا أيها الصديقون بالرب وتهلَّلوا ” مزمور عشيَّة
” إبتهجوا أيها الصديقون بالرب ” مزمور باكر
” افرحوا في الرب كل حين ” البولس
” الفرح القلب فليرتل ” الكاثوليكون
” لما أتي ورأي نعمة الله فرح ” الإبركسيس
” ينتظرون سيدهم متي يعود من العرس ” إنجيل القدَّاس
+ ٢٦ طوبه ( شهادة التسعة والأربعين شيخاً شهداء برية شيهات )
” افرحوا أيها الصديقون بالربَّ وتهلَّلوا ” مزمور عشيَّة
” ابتهجوا أيها الصديقون بالرب ” مزمور باكر
” لكي تفرحوا بابتهاج في استعلان مجده أيضاً ” الكاثوليكون
” فكان فرح عظيم في تلك المدينة ” الإبركسيس
” افرحوا وتهلَّلوا لأن أجركم عظيم في السموات ” إنجيل القدَّاس
+ ٣٠طوبه ( شهادة العذاري هلبيسا وبسته واغابي وصوفيا أمهم )
” هيأُتَ سبحاً ” مزمور باكر
” مسبِّحين ومرتِّلين للرب في قلوبكم ” البولس
” يبلغن بفرح وإبتهاج ” مزمور القدَّاس
” وخرجن للقاء العريس ” إنجيل القدَّاس
+ ٢ أمشير (نياحة الأنبا بولا )
” افرحوا أيها والصديقون بالرب وابتهجوا ” مزمور عشيَّة
” ابتهجوا أيها الصديقون بالرب ” مزمور باكر
” أدخل إلي فرح سيِّدك ” إنجيل باكر
” وأبرارك يبتهجون ” إنجيل القدَّاس
وكما يقول لاهوتي روسي معاصر ( بول أفدوكيموف ) :
” والفرح الذي يعلنه صديق العريس ، الفرح الكائن بذاته كالهواء الصافي في ضوء الشمس : إنه فرح معطي مقدما للجميع. ويطلب السيد المسيح إلي تلاميذه أن يفرحوا بذلك الفرح الهائل الذي يصدر عن أسباب أعلا من الإنسان : الفرح الفريد الكائن في الله . الفرح الذي هو (سيمفونية ) المعني ( للحاجة إلي واحد ) …. ” ” من هذا الفرح الصافي النقي يأتي خلاص العالم[4] ”
(٢ ) المسيح له المجد مصدر فرح الأسرة :
لذلك وإن كانت القراءات عامّة تتكلَّم عن الظهور الإلهي ولكن اليوم أيضاً خصيصاً عن ظهوره الإلهي في الأسرة المسيحية ، فالأسرة هي الأحجار الحيّة للكنيسة ، وهي معمل القديسين ، ومصدر تسليم الإيمان العديم الرياء والحياة النقيّة (٢تي ١ : ٥)
تبدأ المزامير بغني العبادة في الأسرة (مزمور عشيّة )
وملء الفرح ومصدر البهجة ( مزمور باكر )
وعظائم الله وخلاصه وقوّته ( مزمور القداس )
يتكلّم مزمور عشيّة عن الأسرة التي تعيش بالأسرار الكنسية في الحنطة والخمر والزيت وترتكز وتعتمد بالأكثر علي حضور الله فيها مصدر رجاؤها
( قد كثروا من ثمرة الحنطة وخمرهم وزيتهم لأنك أنت وحدك يا رب أسكنتني علي الرجاء )
وفِي مزمور باكر تفيض الأسرار الكنسية والعبادة النقية الغنية علي الأسرة بالفرح والبهجة واختبار عظائم الله
( الخمر يفرح قلب الإنسان ويبتهج وجهه بالزيت كمثل ما عظمت أعمالك يا رب كل شيء بحكمة صنعت )
وفِي مزمور القداس تعيش الأسرة اختبار عجائب الله وعِظَم خلاصه وقوّته
( أنت هو الله صانع العجائب أظهرت في الشعوب قوتك خلَّصت بذراعك شعبك أبصرتك المياه يا الله ففزعت )
وفِي القراءات تعيش الأسرة المسيحية تقديس الحياة وتقديس أعضاء الجسد ( البولس )
بظهور ابن الله في الجسد ( الكاثوليكون )
وتشهد لحياتها في المسيح في كل مكان ( الإبركسيس )
يتكلّم البولس عن الإنسان الجديد وقوّة موت المسيح وقيامته التي نلناها في المعمودية والحياة الجديدة التي ينبغي أن نسلك فيها وتقديس أعضاء الجسد لتكون أسلحة برّ الله
( أم تجهلون أننا كلّ من أعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته فدُفِنّا معه بالمعمودية لموته حتي كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب كذلك نسلك نحن أيضاً في جدّة الحياة لأنه إن كنّا قد اشتركنا معه بالغرس بشبه موته نصير أيضاً بقيامته … إذا لا تملكن الخطية في جسدكم المائت فتتطبعون لشهواتها ولا تقيموا أعضاءكم أسلحة إثم للخطية بل أقيموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات وأعضاءكم أسلحة برّ لله )
وفِي الكاثوليكون أساس تقديس كل شيء هو ظهور الله في الجسد وحقيقة تجسّده وأن الذي تجسّد هو ابن الله ومن يُنكر تجسّده يُنكر الآب أيضاً وهدف تجسّده نوال الحياة الأبديّة
( من هو الكذاب إِلَّا الذي يُنكر أن يسوع ليس هو المسيح هذا هو ضد المسيح الذي ينكر الآب يُنكر الإبن أيضاً … إن ثبت فيكم ما سمعتموه من البدء فأنتم أيضاً تثبتون في الإبن والآب هذا هو الوعد الذي وعدنا به الحياة الأبديّة )
وفِي الإبركسيس نري البيوت التي تشهد للمسيح في ضيقاتها بسبب إيمانها
( وأما شاول فكان يضطهد الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجرُّ رجالاً ونساءً ويسلّمهم إلي السجن أما الذين تشتتوا كانوا يجولون مبشرين بكلمة الله )
وأيضاً يتكلّم عن البيوت التي قبلت الإيمان واعتمدت وتركت سحر العالم وأعمال إبليس
( وكان الجميع يصغون إليه لأنّه أقام بينهم زماناً طويلاً يُطغيهم بالأسحار ولكن لما آمنوا بفيلبس وهو يبشِّر بالأمور المختصَّة بملكوت الله وباسم يسوع المسيح اعتمدوا رجالاً ونساءً )
وفِي الأناجيل نري وحدة الزوجين والسعي للملكوت ( إنجيل عشيّة )
ووحدة الأسرة في إيمانها ( إنجيل باكر )
وسر الزيجة أوَّل من أظهر الرب فيه مجده ( إنجيل القداس )
يتكلّم إنجيل عشيّة عن وحدة الزواج والزوجين من بدء الخليقة وفِي تدبير الله في الزواج المسيحي
( وجاء إليه فريسيون ليجرِّبوه قائلين هل يحلُّ للإنسان أن يطلق امرأته لكل خطيّة أما هو فأجاب وقال أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثي وقال من أجل هذا يترك الإنسان أباه وَأُمَّه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً إذ ليسا بعد إثنين بل جسد واحد فالذي جمعه الله لا يفرِّقه الإنسان )
وفِي إنجيل باكر بعد ما بارك الأسرة في قانا الجليل يشفي أسرة أخري في كفر ناحوم ويقودها للإيمان به
( فجاء أيضاً إلي قانا الجليل حيث صنع الماء خمراً وكان في كفر ناحوم عبد لملك إبنه مريض … قال له يسوع امض ابنك حي … فاستخبارهم عن الساعة التي فيها أخذ يتعافى فقالوا له أمس في الساعة السابعة تركته الحمي ففهم أبوه أنه في تلك الساعة التي قال له فيها يسوع أن ابنك حي فآمن هو وبيته كله )
وفِي إنجيل القداس أوَّل معجزة يعملها الرب ويُظهر فيها مجده هي مباركة الزواج وإعلان أن فرح الزيجة والأسرة لا يأتي من أفراح وخمر العالم بل من خمر حضوره وفرح وجوده
( وفِي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ودعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلي العرس ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر … قال لهم يسوع إملأوا الأجران ماء فملأوها إلي فوق ثم قال لهم استقوا الآن … فدعا رئيس المتكأ العريس وقال له كلُّ إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولاً ومتي سكروا فحينئذ الدون أما أنت فقد أبقت الخمر الجيدة إلي الآن هذه هي الآية الأولي التي فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه )
ومن المعروف أن الأجران الستة ، سعة كل واحد مطرين أو ثلاثة حسب حجمه ، والمطرين الإثنين يوافقان ثمانية وسبعين لتراً تقريباً ، والثلاثة مائة وسبع عشر لتر ، أي أنه بافتراض أن الجرن الواحد يسع مطرين فقط وليس ثلاثة ، هذا يعني أن الرب أعد لهم أربع مائة وثمانية وستين لتراً من الخمر ، وهذا يكفي جميع المدعوين ويفيض بكثرة ، لذلك أظهرت هذه المعجزة مجد المسيح أمام تلاميذه ، ليس فقط في خلق الخمر من الماء ، ولكن أيضاً في وفرة الخمر للجميع بغني[5].
ملحوظة
+ هذا العيد هو آخر أعياد الظهور الإلهي وختام نغمة الفرح لهذا الشهر وهو الفرح بظهور إبن الله لذلك تُصلِّي الكنيسة دائماً في هذه الأعياد ” يسوع المسيح ابن الله ولد في بيت لحم – قبل إليه الختان – اعتمد في الأردن … وهكذا ”
+ يقول العلَّامة يسي عبد المسيح عن نغمات ألحان الكنيسة :
” الألحان في الكنيسة القبطية خمسة نغمات ( طرائق ) :
( أ ) نغمة الفرح للأعياد السيدية وهي مفرحة سارة .
( ب ) نغمة الشعانين لعيد الشعانين وعيدي الصليب وهي أيضاً مفرحة
( ج ) نغمة كيهك لشهر كيهك وهي أيضاً مفرحة .
( د ) نغمة الصوم الكبير للصوم الكبير وهي محزنة مؤثرة
( ه ) نغمة السنوي لبقية السنة وهي نغمة مقبولة . ”
من هنا يتضح لنا أن نغمات الفرح في الكنيسة ( الخمسين يوم المُقدَّسة والأعياد السيدية ومن النيروز للصليب وشهر كيهك ) أضعاف نغمات الحزن ( الصوم الكبير والبصخة المُقدَّسة ) وحتي في هذا الوقت نُصلِّي شعانيني ( فرايحي ) يوم أحد الشعانين وفرايحي يوم خميس البصخة فلا ننسي الفرح بالخلاص العظيم[6]
ملخّص القراءات
الظهور الإلهي في الأسرة يتحقق في عبادتها ومخافتها لله وأجواء الفرح فيها مزمور عشيّة وباكر والقدّاس
وفِي غني الحياة وتقديس الجسد البولس
وفِي الثبات في الإبن والآب الكاثوليكون
وفِي شهادتها للمسيح الإبركسيس
وفِي وحدة الزوجين إنجيل عشيّة
وفِي الإيمان إنجيل باكر
وفِي حضور الرب فيها وشركة قديسيه إنجيل القدَّاس
أفكار مقترحة للعظات
(١) فرح الخليقة الجديدة
١- غني عطايا الله للإنسان الجديد تملأه فرحاً
” قد كثروا من ثمرة الحنطة وخمرهم وزيتهم ” مزمور عشيّة
” الخمر يُفرح قلب الإنسان ويبتهج قلبه بالزيت ” مزمور باكر
٢- المعمودية واسطة نوال الخليقة الجديدة
” فدفنا معه بالمعمودية لموته حتي كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب كذلك نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة ” البولس
٣- مسحة الروح القدس هي مصدر الاستنارة ومعرفة الحق في الإنسان الجديد
” وأما أنتم فلكم أيضاً مسحة من القدّوس وتعلمون كلَّ شيء لم أكتب إليكم لأنكم لستم تعلمون الحق بل لأنكم تعرفونه ” الكاثوليكون
٤- الإيمان بكرازة الخلاص هو المدخل لفرح البشر الحقيقي بخلاف زيف سحر العالم
” فإنحدر فيلبس إلي مدينة من السامرة وكان يكرز لهم بالمسيح ٠٠٠ فكان فرح عظيم في تلك المدينة ” الإبركسيس
٥- حضور المسيح له المجد هو مصدر الفرح والذي لا يُضاهيه كل أفراح العالم
” كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولاً ومتي سكروا فحينئذ الدون أما أنت فقد أبقت الخمر الجيدة إلي الآن ” إنجيل القدَّاس
(٢) الزواج المسيحي
١- الزواج المسيحي يأتي من حضور الله فيه ليجعل الزوجين جسداً واحداً
” من أجل هذا يترك الإنسان أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً إذ ليسا بعد إثنين بل جسدٌ واحدٌ فالذي جمعه الله لا يفرِّقه الإنسان ” إنجيل عشيّة
٢- أعضاء الإنسان مُقدَّسة وهي أسلحة برّ الله
” ولا تقدموا أعضائكم أسلحة إثم للخطية بل أقيموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات وأعضاءكم أسلحة بر لله ” البولس
٣- شركة قبول الإيمان للأسرة
” ولكن لما آمنوا بفيلبس وهو يبشر بالأمور المختصة بملكوت الله باسم يسوع المسيح اعتمدوا رجالاً ونساء ” الكاثوليكون
٤- الله يبارك أفراحنا وارتباطنا الزيجي بحضوره الإلهي
” وفِي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ودُعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلي العرس ” إنجيل القدَّاس
(٣) مفهوم الشفاعة
١- القديسون يعرضون طلباتنا ومشاكلنا واحتياجاتنا أمام الله دون طلب شيء معين
” ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر ”
٢- استجابة الله للبشر ترتبط بتدبير الخلاص لهم وما هو لأجل خلاصهم
” قال لها يسوع ما لي ولَك يا امرأة لم تأتي ساعتي بعد (الصليب ) ”
٣- يوصينا القديسين بطاعة كلام الرب ووصاياه والإيمان بقدرته الإلهية
” قالت أمه للخدَّام مهما يقول لكم فإفعلوه ”
٤- بساطة تصديق الإنسان لكلام الله مهما كان عجز العقل عن فهمه
” قال لهم يسوع إملأوا الأجران ماء فملأوها إلي فوق
٥- هدف المُعجزات إعلان مجد الله وليس البشر
” هذه هي الآية الأولي التي فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه ”
عظات آبائية
القديس كيرلس الأسكندري
عرس قانا الجليل حسب تعليم القديس كيرلس الكبير
لقد نزل كلمة اللَّه من السماء، لكي يصير عريسًا للطبيعة الإنسانية، فأخذها مسكنًا له، لكي يخطبها ويقودها إليه فتلد ثمار الحكمة الروحية.
تم الزواج في اليوم الثالث، أي في نهاية (ملء) الدهور، لأن رقم ثلاثة هو البداية والوسط والنهاية. وهذه الثلاثة هي أبعاد الزمن كله. وينسجم تمامًا مع ما قاله أحد الأنبياء: “لقد ضُرب وسيعصبنا، بعد يومين يحيينا، وفي اليوم الثالث يقيمنا… لنحيا قدامه” (هو ٦: ١- ٣)
لم يأتِ لكي يشترك في العرس بل بالأكثر ليحقق معجزاته، ويقدس بدء الميلاد البشري الذي يتعلق بالجسد. كان لائقًا بذاك الذي جاء لتجديد طبيعة الإنسان نفسها وتقديمها بكاملها إلى حالٍ أفضلٍ أن يقدم بركته ليس فقط لمن ولدوا بالفعل وإنما أيضًا يعد بالبركة للذين يولدون فيما بعد، مقدسًا مجيئهم في هذا العالم… بتقديس الزواج، لقد أزال الحزن القديم على الولادة.
جاء (إلى العرس) لكي يقدس بداية ميلاده، أعني ميلاده حسب الجسد… أن يهيئ نعمة، مقدمًا إياها للذين سيولدون، ويجعل مجيئهم مقدسًا…
قيل للمرأة من قبل اللَّه: “بالحزن سوف تحبلين” (تك ٣: ١٦). ألم تكن الحاجة بالأكثر إلى القضاء على هذا اللعنة أيضًا، وإلا كيف يمكننا أن نتفادي زواجًا مدانًا؟ لكن لأن المخلص هو محب البشر فإنه هو الذي يرفع هذه اللعنة، إذ هو فرح الكل وسعادتهم. لقد أكرم الزواج بحضوره لكي يزيل العار القديم الخاص بالحبل. لأنه إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء القديمة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدًا” (٢كو ٥: ١٧).
لم يأتِ المخلص إلى العرس بإرادته وحده، بل بدعوةٍ، أي برجاء وإلحاح أصوات القديسين، ولكن الخمر فرغت ولم يعد لدى المحتفلين منها أي شيء، لأن الناموس لم يكمل شيئًا، ولم تعطِ الوصايا الموسوية الفرح، ولم يستطع الناموس الطبيعي المغروس فينا أن يخلصنا[7].
القديس ساويرس الأنطاكي
مريم عروس في قانا الجليل
” حين أراد أن يوضح بطريقة عمليه و يعلمنا أن الزواج مقدس و لا يعطلنا عن الله فإن ربنا و إلهنا يسوع المسيح الاله الواحد، الذي ولد حسب الجسد من العذراء و حفظ بتوليتها حتي بعد ولادته ، و الذي قد بارك العالم بتدبير البتولية ، قد شارك في عرس قانا الجليل مع أمه العذراء و تلاميذه
لقد دعوهم إلي العرس ربما بسبب العلاقات البشرية أو الروابط العائلية كأشخاص معروفين لأصحاب العرس ، و لكن ذاك الذي خلق كل شيء بالحكمة” (مز ١٠٤ : ٢٤) قد أطاع التدبير و بارك العرس حيث كان مزمعا أن يتمم أول معجزاته
القديس يوحنا اللاهوتي فقط هو الذي ذكر ذلك دون الأنجيلين الآخرين ، يوحنا عاش بتولآ و قضي حياته لا يعرف العلاقات الجسدية ، و كان محبوبا بطريقة خاصة عند يسوع، لم يحتقر الزواج و إلا ما كان ذكر هذه الحادثة.
والآن دعونا ننظر إلي المعجزة التي صنعها يسوع حين أراد أن يكرم حفل العرس يقول القديس يوحنا : ” و حين فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر” (يو ٢ : ٣) هذا أولآ يكشف أن المدعوين جميعهم لم يكن عندهم أفكار ساميه و لائقة بالله ، و كانوا قد تضرعوا إليه لكي يتدخل حين فرغت الخمر ، لأن كل من له احتياج يسأل فيأخذ احتياجه ، و لكن كما قلت لقد دعوه إلي العرس كإنسان معروف لديهم دون أن ينتبهوا إطلاقا إلي طبيعته الإلهية ، و حين نابت عنهم القديسة مريم العذراء ، و تقدمت بدلآ منهم و سألته ، رفض يسوع أولا طلبها ! لئلا يبدو أنه يرغب في المجد الباطل، أو لئلا يظن أنه مع أمه متطلعين إلي تمجيد الناس حين استغل فرصة سؤالهم ليتمم المعجزة.
كان يحاول أن يحفظ أفكارهم بعيدآ عن هذا الظن الخاطئ و يريهم أنه يتصرف بدافع من الاهتمام و الاحتياج العملي لهم، و ليس لأجل المجد الباطل ، لذلك أجاب أمه بخشوع ليعلم الحاضرين الحق و يعطيهم درسأ و ليس لكي يغضب أمه. ثم أجابها “ما لي و لك يا امرأة لم تأت ساعتي بعد” (يو ٢ : ٤) ، لقد أوضحت أمه نفسها أن هذه الكلمات لم تكن توبيخآ ، و لكنها عارفة أنها فرصة للتعليم بسبب وجود غرباء، لذلك لم تتركه بطريقة الانسان الذي قوبل بالإنتهار و لم تصمت كأنها ندمت علي تدخلها ، كما يحدث مع شخص صدوه عن الكلام ، و لكن علي العكس بكل معرفة و يقظة عقلية و إدراك لما هو مزمع أن يتممه، خاطبت الخدام كما لو أن يسوع لم يقل شيئآ علي الاطلاق ” كل ما قال لكم فأفعلوا” (يو ٢ : ٥) ، كان رجاؤها أنه سيظهر شيئآ أعظم يليق بلاهوته!
و يسوع نفسه و قد عبر عن إتفاق كامل مع أفكار أمه أجابها ” لم تأت ساعتي بعد” كما لو كان يقول إنك تؤمنين إنني سأصنع الاية العظيمة ، و تعليمين أيضا إنني أفعل كل شيء في الوقت المناسب ، و لكن أصغر جزء من الزمان هو تحت سلطاني و تدبيري ، إنني أظهر و كأنني ” أتقدم في الحكمة و القامة و النعمة” (لو ٢ : ٥٢) ، و ذلك أظهره بالايات و العجائب ، إنني أحفظ التدبير
لذلك فإنه ( و في الحال) بعد أن قال لها ” لم تأتي ساعتي بعد” أتم معجزة عظيمة ، تفوق قدرة الانسان المحكوم بقواعد الزمان و تتابعه!
في الحال أعطي الأوامر للخدام معلما إيانآ ألا نعطي أمهاتنا حين يطلبن و لا نحزنهم أبدآ!
و حين نفحص هذه الكلمات بانتباه ، نجد أن والدة الاله بعد أن حبلت و صارت خادمة لسر التدبير ( الإلهي ) ، قد امتلات بالروح القدس و عرفت مقدما ( كنبيه) ما هو مزمع (إش ٨ : ٣) أن يتم ، كانت بالحقيقة نبيه كما يقول عنها إشعياء النبي
لقد علمت أن يسوع قادر أن يصنع الخمر قبل أن يظهر أمام أي إنسان ، و مثلما كانت تعلم مقدما ما هو مزمع أن يتم ، و أن يسوع مزمع أن يأمر الخدام بأن يملأوا الاجران ماء ليحولها إلي خمر ، فكرت أيضا أن تعطيهم أمرآ مسبقا قائلة لهم “مهما قال لكم فافعلوه (يو ٢ : ٥) ، هكذا فإن سابق المعرفة كان سمة مشتركة بينها و بين يسوع ، هو كإله و هي كنبيه!! [8]
القديس أغسطينوس
يسوع في عرس قانا الجليل
إن معجزة ربنا يسوع المسيح ، التي بها حول الماء خمراً ، ليست بالمستغربة لأولئك الذين يعلمون أنها من عمل الرب . لأن الذي صنع الخمر يوم ذاك في حفلة العرس ، في تلك الأجران الستة ، بعد أن أمر أن تملأ بالماء، هو يفعل نفس الشيء في الكروم كل سنة لأنه كما أن الماء الذي وضعه الخدام في الأجران قد تحول إلى خمر ، بصنيع الرب ، هكذا بنفس الكيفية يحدث أن ما تصبه السحب يتحول إلى خمر ، بواسطة الرب ذاته ، أيضاً ولكننا لا نتعجب من هذه الأخيرة ، لأنها تحدث في كل عام ، ففقدت أسباب العجب باستمرار حدوثها .
ولكن نظراً لأن الناس قد فقدوا تأملهم في أعمال الله، بسبب اهتمامهم بأشياء أخرى، بدلا من أن يسبحوه يومياً كخالق ، فاحتفظ الله لنفسه ، كما يبدو ، بعمل بعض الأفعال غير العادية ، حتى يستنهض الناس من رقاد نومهم لكى يعبدوه ، بعد أن تبهرهم الأعاجيب إن الرب ، عندما دعي ، حضر إلى العرس . ولكن أية غرابة إذا كان يأتي إلى ذلك البيت لعرس ، ما دام قد أتى هو إلى هذا العالم ، إلى عرس ؟ لأنه حقاً، إن لم يكن قد أتى إلى عرس، إذن فليست له هنا عروس. ولكن ماذا يقول الرسول؟ , “لأنى خطبتكم لرجل واحد . لكي أحضركم كعذراء عفيفة إلى المسيح ” .
إذن ، فعنده هنا عروس قد فداها بدمه ، وأعطاها الروح القدس كعربون . لقد حررها، . من عبودية الشيطان ، ومات من أجل خطاياها ، وأقيم من الأموات لتبريرها . فمن ذا الذي يصنع مثل هذه التقدمات لعروسه ؟ إن الرجال قد يقدمون لعروس كل نوع من الحلى الأرضية : ذهباً ، فضة ، أحجاراً كريمة ، بيوتاً ، عبيداً ، عقارات ، وحقولا ـ ولكن هل يقدم أحد دم نفسه ؟ لأنه إن كان أحد يعطى دم نفسه إلى عروسه ، فلن يعيش حتى تكون هي له عروسا .
ولكن الرب ، وهو يموت بدون خوف ، أعطى دم نفسه لها ، وهو الذي بعد أن قام ، حق له أن يأخذها ، تلك التي قد وحدها معه في بطن العذراء . لأن الكلمة كان العريس ، والجسد البشرى كان العروس ، وكلاهما واحد ، ابن الله ، وهو بذاته أيضا ابن الانسان
إن بطن العذراء مريم ، الذي فيه قد صار رأس الكنيسة ، كان هو غرفة العرس . ومن هنا قد أتى، كعريس من خدره ، كما تنبأ الكتاب المقدس : ” يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق “. لقد أتى من خدره كعريس، لأنه قد دعي ، وحضر إلى العرس .
لقد أراد الرب، بذهابه إلى العرس الذي كان قد دعي إليه ـ فضلا عن المغذى الروحاني – أراد أن يؤكد لنا أن الزواج أمر من وضعه هو بذاته لأنه كان لابد أن يقوم أولئك الذين تحدث عنهم الرسول و مانعين عن الزواج ، مؤكدين أن الزواج شر ، ومن وضع الشيطان . من أجل هذا إذن ، عندما دعي الرب ، قد لبى الدعوة ، وأتى إلى العرس ، ليؤكد رباط العفة . ولكي يعلن على الملأ ، سر الزواج .
الماء والخمر
أما الآن فلنبدأ في أن نزيح الستار عن المعاني الخفية التي لهذه الأسرار . لقد كانت هناك نبوة في الأزمنة الغابرة ، ولم تنقطع النبوة عن أي زمان . أما النبوة، فنظراً لأنهم لم يفهموا المسيح ، فكانت الماء . لأن الخمر كانت ، بطريقة ما ، كامنة في الماء . ويخبرنا الرسول عما ينبغي أن تفهمه من هذه الماء “لأنه حتى اليوم ، ذلك البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق باق ، غير منكشف ، الذي يبطل في المسيح .
لكن حتى اليوم حين يقرأ موسى ، البرقع موضوع على قلبهم ، ثم يقول : ( ولكن عندما يرجع إلى الرب “يرفع البرقع” . إنه يعنى بالبرقع ، الغطاء الموجود فوق النبوة ، حتى أنها لم تكن مفهومة . عندما تمضى إلى الرب ، فإن البرقع يرفع . وهكذا الحال أيضاً مع عدم القدرة على التذوق ، التي تزول عندما تأتى إلى الرب . وما كان ماء ، الآن يصبح خمراً لك . إقرأ جميع كتب الأنبياء . فإن لم يكن المسيح مفهوما فيها ، فلا الذي تجده فيها سوى شيئا سمجاً لا طعم له .
ولكن إفهم المسيح فيها ، وسوف تجد فيما تقرأه ، ليس طمعاً ومذاقاً فحسب ، ولكن سوف يجعلك ثملا ، محولا العقل عن الجسد ، حتى تنسى الأشياء التي مضت ، وتمتد إلى ما هو قدام .
ومن أين يمكن أن نبرهن أنه في كل العصور الماضية إلى الوقت الذي جاء فيه الرب ، لم تبطل النبوة بخصوصه ؟ من كلام الرب ذاته . لأنه لما قام من الأموات وجد أن تلاميذه كانوا يتشككون في ذاك الذي كانوا قد تبعوه … وهذا ما قاله التلاميذ أنفسهم آسفين بعد قيامته ، عندما قابل بعضهم في الطريق . . . أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء .
أما كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده . ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لها الأمور المختصة به في جميع الكتب ، إن هذه كانت بمثابة الماء . ومن ثم فقد دعى التلاميذ من الرب أغبياء ، لأنه حتى الآن كان مذاقها بعد ماء ، وليس كالخمر .
ثم كيف أنه جعل من الماء خمراً ؟ عندما فتح أذهانهم ، وأخذ يفسر لهم الكتب ، مبتدئاً من موسى ، ومن خلال جميع الأنبياء . ثم بعد أن ثملوا بها ، قالوا : و ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب ؟ ، لأنهم فهموا المسيح في هذه الكتب التي لم يكونوا يعرفونه فيها قبلا .
ولهذا فإن ربنا يسوع المسيح حول الماء إلى خمر ، وهذا قد أصبح له مذاق يختلف عن ذي قبل ، وأصبح يسكر بعد أن كان لا يفعل . ولو أنه أمر أن يصب الماء خارج الأجران ، وهكذا كان يضع بنفسه الخمر من معين المسكرات الخفى ، بالطريقة التي صنع بها الخبز وأشبع هذه الآلاف العديدة ، لأن خمسة أرغفة لم تكن في حد ذاتها كافية لاشباع خمسة آلاف رجل ، ولا لأن تملأ اثنتي عشرة قفة ، ولكن قوة الرب الكاملة ، كانت بمثابة معيناً لا ينضب من الخبز .
وهكذا أيضا كان يمكنه بعد أن ينضح الماء خارجاً ، أن يصب الخمر داخلا . ولكن لو أنه فعل هذا ، لكان يبدوا أنه قد لفظ الأسفار القديمة خارجاً . أما عندما يحول الماء ذاته إلى خمر ، فإنه يظهر لنا أن الأسفار القديمة هي الأخرى صادرة منه ، لأن بسلطانه وأمره امتلأت الأجران ماء . إنها من الرب حقا ، وكذلك الأسفار العتيقة منه أيضا . ولكن لا يكون لها طعم ، ما لم يفهم المسيح فيها ؟[9]
القديس يوحنا ذهبي الفم
عظة موجهه للعازمين على الزواج
شرح قول الأنجيل ” أظهر يسوع مجده ” (يو٢: ١١)
أظهر يسوع مجده فآمن به تلاميذه” مملوءة بالحق هذه الكلمات الإلهية، لأن التلاميذ آمنوا بيسوع كرب الخليقة الذي “أسس الأرض على المياه” وأخرج الزروع والعشب من الأرض وصنع الإنسان. ها هو اليوم يعيد إعلان مجده الإلهي الذي سبق يوحنا الإنجيلي ووصفه قائلا ” في البدء كان الكلمة… كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان “. اليوم يخلق من الماء خمرا، ويصنع الزيجة من جديد كما في الفردوس قبل السقوط.
اليوم يعيد للزيجة كرامتها، ويمجد رباط الرجل والمرأة ذلك الرباط الذي تدنس بالخطية مثل كل شئ لأنه حيث يملك الموت واللعنة لا يبقى اتفاق بل تشویش ومنازعات، لكنه ليس عبثا أن يسجل الإنجيل عمل الخلق المجيد في العرس. لقد سألني البعض: لماذا أظهر الرب مجده في هذه المناسبة ؟ وأنا أقول لكم إنه أراد أن يظهر مجد لاهوته المساوى للآب وأن يعيد للزيجة الاتحاد القديم الذي حولته الخطية إلى رئيس ومرؤوس.
وحسنا سجل الإنجيل بكل دقة أن الذين أقاموا الوليمة دعوا الرب وتلاميذه والعذراء القديسة لكي يؤكد أن الرسل لم يبشروا بالبتولية فقط بل بالزيجة المكرمة أيضا وتعلموا من رب الكل رعاية البتوليين والمتزوجين، وأما الرب فهو المعلم الصالح الذي أخذ تلاميذه إلى العرس لئلا يظن ماني ومارقيون(من الهراطقة) أن الرب كان بتولا يكره الزيجة والمتزوجين أو أن الرسل القديسين علموا الناس الامتناع عن الزيجة بل ها المتبتلون يشاركون المتزوجين الفرح ويأكلون من طعام الوليمة أي اللحم ويشربون مما يقدم في الوليمة أي الخمر.
وحسناً قال الرسول البتول : ” ليكن الزواج مكرماً عند كل واحد والمضطجع غير نجس” (عب١٣: ٤). لم يقل “الزواج مكرماً “عند المتزوجين، بل عند كل أحد، عند الكنيسة بأسرها. وأما كرامة الزواج فقد أظهرها الرب بقبوله أن يكون مع المتكئين في العرس . هلموا وانظروا يا من يصنعون المتكئات: هل الرب جالس بينكم يوزع الطعام والشراب أم الجالس هم الأصدقاء والمعارف الذين يوزعون الأحاديث الفارغة واللهو والعبث وشهوات الجسد والبطنة.
محبة المسيح لنا ومحبتنا للمسيح هي حرية كاملة وتجعلنا نختار وهو يبارك الاختيار طالما أنه وفق الوصية، لذلك جلس الرب مع الحاضرين وأكل وشرب مثلهم ونفذت الخمر وجاءت الأم تشكو: سوف يفقد العرس بهجته، وربما تحولت الوليمة إلى شجار وسيصرخ الحاضرون يطلبون الخمر، وتحرك قلب الأم فجاءت تسأل ابنها لكي يتدخل، وهنا لا يخفى يوحنا درايته بسر المسيح “، فهو وإن كان لم يسجل ميلاد الرب من العذراء واكتفى بميلاده الأزلي قبل كل الدهور من الآب، إلا أنه يؤكد هنا أن العذراء تعرف من ولدته وبكل دقة يسجل الإنجيلي كلمات المخلص “مالي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتی بعد “(يو ٢: ٤).
عن أية ساعة كان يتحدث؟ كان يريد أن يقول لها إن ساعة تقديم الخمر الحقيقي الذي سيعطى للناس لن يقدم الآن بل عندما يأتي ملكوت الله بقوة، أي عندما يحل الروح القدس ويجدد ويكمل كل شئ. كان الرب يعني بهذه الكلمات أنه لا يستطيع أن يعطيهم الخمر القديم، وأنه يريد أن يعطى الخمر الجديد التي ” تفرح قلب الإنسان ” (مز ١٠٤: ١٥) والفرح من ثمار الروح القدس، وكيف يفرح الإنسان واللعنة والموت في كل شيء إلى أن تشرق شمس الملكوت وفي عرس قانا الجليل كان يوم الملكوت لازال في بدايته.
ولكن شمس البر لم يمتنع أن يلمس بدفء أشعة لاهوته الماء، ويعلن بشكل مستتر أنه جاء لكي يعطى الخمر الحقيقي الذي كل من يشرب منه لا يموت وكل من يذوقه ينسى العالم وما فيه وينتعشون بمحبة المسيح، فلا يعودون يفكرون في ذواتهم لأنهم مجدوها عندما “لبسوا المسيح” في سر الحميم الجديد .
أنتم ترون مقدار كرامة هذا العيد لأنه .. المثال الذي أعطاه الرب لكرامة الزيجة، وجعل الكنيسة الجامعة تقدم كأس الرب وجسده في الزيجة علامة عهد أبدى بدم الحمل الذي بلا عيب. لماذا يقول الرسول بأن المرأة تحسب زانية إذا صارت مع رجل آخر غير رجلها؟ لأنهما ارتبطا بعهد المحبة الأبدى وفي سر جسد الرب ودمه وليس بالورق والكتابة يا من تزوجتم يا من تعزمون على الزواج أنتم لا توقعون وثيقة بالحبر بل بدم الرب عهداً جديدا لمحبة أبدية. احترزوا لأنفسكم لئلا يتحول عهد البركة والخلاص إلى دينونة رهيبة إذا تدنس بالزني.
يا من تعزمون على الزواج إن كلمات الإنجيل موجهة إليكم، لقد طلبت والدة الإله الخمر الجديد لكم عندما دعيتم إلى العرس مع ابنها. العرس هو للجميع، هو كمال شركة القديسين وهو مثال الملكوت الآتى وليست هذه هي لغتي أنا بل هي لغة الرب الذي شبه الملكوت بالعرس الذي يتكئ فيه الذين يعرفونه فقط والذين عليهم لباس العرس. إذا كان متى ولوقا قد ذكرا سلسلة أنساب الرب، فإن كلاهما أراد أن يؤكد لنا أن الرب جاء إلينا كثمرة زواج هؤلاء القديسين الذين نالوا المواعيد وخدموا سر التجسد بالزيجة، واشتاق كل واحد منهم أن يأتي المسيح من نسله.
ولا تحزن وتقل قد جاء الرب وتجسد ولم يعد الزواج خادماً للتجسد، فأنتم تكملون أعضاء جسد المسيح لأن منكم سيخرج الذين يرثون الملكوت- الأعضاء الجدد في جسد المسيح – ومتى أكملت هذه الأعضاء فإنه سيأتي في مجده وبهاء قوته لكي يدين الأحياء والأموات. مبارك هو من يرتبط بزوجة لأن الرب يمد إليهما يده بالبركة والتقديس والمعونة. كان الرب يريد جسداً من الإنسانية، وكان يستطيع أن يخلق لنفسه جسداً كما خلق من قبل ولكنه أراد جسداً من الإنسانية نفسها، وكانت الزيجة هي خادم تدبير الله.
الذين ذاقوا أسرار ملكوت الله يعرفون أن “الزواج مكرم”، والكرامة ليست سوى التقديس، وليس في الكنيسة شيئاً مكرماً من قبل الإنسان بل من الله، ولولا قداسة الزيجة ما تجاسر الرسول أن يقول ” أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة ” (أف٢٥:٥). فكيف يمزج بين حب دنس وحب مقدس، ولكن لأن محبة الرجال لزوجاتهم مقدسة يقول الرسول ” أما أنتم الأفراد فليحب كل واحد امرأته هكذا كنفسه” (أف ٥: ٣٣) فكيف صارت هذه العلاقة مقدسة؟ لأنها صارت مثالا لأعظم ما في الناموس من وصايا ” تحب قريبك كنفسك” وهكذا لم يجد الرسول مثالا في البتولية لمحبة المسيح لكنيسته ولا كلمة أفضل من الزيجة ليصف بها علاقة الرب بنا بل أخذ من الزيجة الكلام والاسم وقدم للزيجة ما أخذ منها أي السر العظيم الذي صار مثالاً لكل زيجة تتم في الرب (أف ٥: ٢٣).
ولو كانت محبة الرجال لزوجاتهم من الجسد وليست من الله لما صارت علاقة اتحاد الرب بالكنيسة مثالاً.وأنتم يا من تزوجتم، ويا من ترغبون في الزواج عليكم أن تعرفوا هذه الحقيقة أن الرب أخذ الكنيسة من الأمم الزانية ولم يكن يطمع في شئ عندها، لأنه لم يكن فيها ما يمكن أن يشتهيه، فلا تطمع في مال أو لقب ولا تسعى وراء مصلحة أو منفعة زمنية.
لا تتزوج لأجل هذه الأمور لأن هذا هو الدنس الحقيقي الذي يخلق ويلد كل أنواع دنس عدم الاتفاق، أما الرب فقد “خرج من عند الآب” لكي يخطب عروسا من اليهود الذين كانت لهم “المواعيد والشريعة”، كان عندهم شيئاً، لكن تلك التي تملك رفضت العريس السمائي، فخرج وراء الزانية من الأمم واختارها لأنه أحبها. لا تختر إلا من تحب ولا تحب تلك التي لها وجه جميل أو لسان عذب. حسن الجسد عطية من الله إذا رافقه الصدق والاتضاع والإيمان والمحبة التي هی تاج الكل.
لا تطلب حسنا لئلا تحصد ثمار الجسد ولكن اطلب الاثنين معا إذا توافرا، وتمسك بجمال الروح لأن له وعد بميراث الملكوت الذي لا يفنى. يقول الرسول “أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة”(أف٥: ٢٥)، ويالعظم هذا السر أن شمعة صغيرة تحاول أن تتشبه بالشمس، اسمعوا جيدا: إن الرب قال إنه هو “نور العالم” ولكنه طلب منا أن نضئ نورا قدام الناس، وهذا يتحقق إذا اتحدنا به وصرنا مثله حينئذ تصبح الزيجة بالحق مكرمة، ليس من الناس بل من الخالق لذلك أفيقوا من سكر العالم واشربوا من خمر الإنجيل كما استفاق الذين كانوا في العرس.
لقد أظهر يسوع مجده في قانا الجليل، فأظهروا مجد المسيح في زيجاتكم وفي أولادكم وبناتكم، أظهروا ذلك “السر العظيم” في احتفالاتكم وفي حياتكم وفي أحاديثكم حتى يرى الناس أن الزيجة مكرمة من الله. لا تجعلوا ولائمكم للخلاعة والموسيقى الماجنة.
بماذا تحتفلون؟ أنا لا أدرى هل لأن رجلا يريد أن يتزوج بامرأة على مثال شريعة العالم أم لأنه يتشبه بالمسيح؟ وهل هذا يتطلب منا حضور النساء الراقصات؟ إن الزيجة رهيبة جداً لأنها نبيحة، فبأي شي تحتفلون؟ أبرباط الكمال الذي هو المحبة أم بما سينال هذا أو ذاك من مال وقصور وعبيد، وكيف سيحاربون العالم وهم يولدون في بيت لا يعرف المسيح بل العالم؟ لا ترغب في الموسيقى الماجنة بل اطلب موسیقی الوداعة، وعوضا عن أغاني العالم أطلب ألحان الاتضاع، فهذه هي التي تبعد الدنس عن الزيجة أما الطمع ومحبة المال والمجد الباطل الذي يدعوه الرب “رجس قدام الله” فهو لا يدنس الزيجة فقط بل يدنس بتولية الروح، لأن بتولية الجسد ليست مكرمة مثل بتولية الروح.
إن الله يقول لموسى يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحداً” (مت١٩: ٥، مر١٠: ٧، أف٥: ٣١) ومن هو الجسد الواحد سوى الكنيسة رب واحد إيمان واحد معمودية واحدة”(أف٤: ٥) وفترة انتظار الخطوبة حسنة ومطلوبة، والانتظار وحده يكشف عن نوع المحبة. لماذا تسرع وترى جسد عروسك وأنت لم تر روحها ولا عرفت إيمانها. إن المسيح لا يتحد إلا بالذين يعترفون به.
الجسد قريب وسهل ولكن سهولة الالتصاق بالجسد هي آلام حقيقية لأن سرعة طلب الجسد تعنى عدم تمكن المحبة، وسرعة الحصول عليه تعنى انعدام الصبر والاحتمال. الجسد هو سبب العداوة لأن الاتحاد به يتم حسب قوانين الجسد وشريعة العالم، ولكن متى تم الاتحاد روحيا أولا وبعد ذلك جسديا فهو اتحاد كامل.
لماذا يقول الرب “لأجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته”؟ لأجل من ؟ لأجل الأب والأم والأقارب وكل من يعرفه الرجل وتعرفه المرأة هؤلاء شركاء في الوليمة فلا تجعل الأنظار تطاردكم، ولا تجعل الذنب يمتزج بالفرح فلا هو ذنب ولا هو فرح بل مزيج من المر والعسل.
الكنيسة جسد الرب الواحد هي جسده لأنها منه وكذا الرجل والمرأة جسد واحد لأنها منه، لكن هذه الوحدة تهددها كراهية الرجل وعناد المرأة، لا تطلب سوى الوحدة فتجد كل كنوز العالم تحت قدميك، أما إذا طلبت كنوز العالم لا تجد الوحدة، لهذا السبب أوصى الرسول الرجال بالمحبة الإلهية وطلب من النساء الطاعة لكن لا تخطئ في فهم هذه الكلمات ” الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضاً رأس الكنيسة” (أف٥: ٢٣).
الرجل رأس ليس بالعنف ولا بالقوة بل رأس بالمحبة. هل خطف الرب الكنيسة أو يسود عليها عنوة ؟ في العهد الجديد القوة للمحبة، والسيادة للبذل، وأعظم العطايا هي المحبة، والطاعة ليست فرضا ولا عن خوف بل هي طاعة المحبة. لا تقل لي إن الكنيسة تطيع سيدها عن رهبة، مثل هذه الطاعة لا يطلبها العريس السماوي.
الكنيسة تطيع ذاك الذي ترك مجده وأخلى نفسه وأخذ صورة العبد” (في٢: ٧)، إن أخذت صورة العبد أخذت زوجتك صورة الكنيسة، وإن أخذت صورة قيصر أخذت زوجتك صورة حواء القديمة وتشاورت مع الحية وأهلكت حياتك. لقد تذكر الرسول كل هذا ولذلك طلب المحبة من الرجال والطاعة من النساء وجعل المثال للمحبة والطاعة: المسيح والكنيسة حتى لا يخطئ أحد في الفهم.
مبارك هذا اليوم الذي خلق فيه الرب الخمر من الماء، وخلق فيه من العرس بركة الزيجة وردنا إلى الفرح الحقيقي بخمر دمه وخبز جسده الوليمة السمائية الحقيقية. مبارك هو الآب والابن والروح القدس آمين [10].
عظة أخري لذهبي الفم عن كرامة الأسرة عامّة والمرأة خاصة
خاتمة عن اكرام الوالدين
لأنى أريد أن أحدثكم عن شكل أخر من أشكال السلطة، والتي أصلها ليس من الخطية بل من طبيعتنا ذاتها. ما هي هذه السلطة؟ انها سلطة الوالدين على أبنائهم، لأن هذا النوع من الكرامة يمثل مكافأة لهم لأجل تعبهم، لذلك يقول أحد الحكماء ” أخدم أولئك الذين أنجبوك كما لو كانوا سادتك ” ثم يعلل ذلك قائلاً ” لأنه ماذا يمكنك أن تقدم لهم عوضاً عما فعلوه لأجلك ” فأى شيء يمكن للابن أن يقدمه من تعويض لوالديه ؟ لا شيء آخر يعينه سوى أن الوالدين هما الذين أنجبوكم أما أنت فلا تستطيع أن تولدهم.
لذلك فإننا نشعر تجاههم بالصغر ومن جهة أخرى نزداد فخراً بهم وهذا يشرفنا ، ليس فقط بسبب ناموس الطبيعة ، لأنه قبل الطبيعة خوفاً هو من الله ، كما أن الله يريد أن يكرم الوالدين بواسطة أبنائهم ، وأولئك الذين يفعلون ذلك يكافئهم الله بوافر الخيرات والعطايا ، بينما أولئك الذين ينتهكون ناموسه ينزل عليهم شديد عقابه من المصائب والشرور ، إذ يقول ” ومن شتم أباه أو أمه يقتل قتلاً أما عن أولئك الذين يكرمون أباهم وأمهم فيقول ” أكرم أباك وأمك لكى تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك ” فالشيخوخة الصالحة وطول العمر كخير عظيم يعتبرا مكافأة لأولئك الذين يكومون والديهم ، بينما اسوء شر ألا وهو الموت المبكر ، فهذا يعتبر جزاء لأولئك الذين يزدرون بوالديهم فهؤلاء في محبة ينجذبون نحو والديهم ( بدافع ) وعد الكرامة ، أما أولئك فبدون إرادتهم يبتعدون عن ازدراء والديهم خوفاً من العقوبة ، لأنه لم يطلب فقط بأن يعاقب بالموت من يعتدى على أبيه ولا هذا العقاب نتيجة قرار من المحكمة بعد أن يسوقه إلى الساحة خارج المدينة ، ولا أن تقطع رأسه خارج المدينة ، بل يسوقه والده بنفسه في وسط المدينة وبدون أي أدلة يكون قول أبيه مصدقاً وحقاً .
لأن ذاك الأب الذى بذل ماله وقوته الجسدية وكل ما بوسعه لأجل ابنه ، فإنه لا يتهمه أبداً إلا كان هذا الابن عاقًا بدرجة لا تحتمل . فإنه يقوده إلى وسط المدينة ثم يدعوا كل الشعب ويتلوا التهمة ، وكل من يسمع يأخذ كل منهم حجر ويرجمون ذاك الذى اعتدى على أبيه ، والمشروع لا يريد أن يكونوا مشاهدين لعقوبة الرجل بل أن يكونوا مشاركين في هذا العمل حيث يرى كل واحد في يمينه الحجر وهو يلقيها على رأس ذاك الذى اعتدى على أبيه ، فيكون تذكار هام ( عبرة ) لتقويمه ، ليس هذا فقط بل أن المشروع يلمح لنا أن الذى يهين والديه لا يظلمهما فقط بل أنه يظلم كل البشر ، لذلك فهو يدعو كل الناس حتى تشارك في عقابه كمن تعرضوا للإهانة ذاتها كلهم ، ويجتمع كل الشعب في ذات المكان في المدينة ، حتى يعلم ( يتعظ ) الذين لا علاقة لهم بأولئك الذين يسيئون لوالديهم ولكى يسخطون من الإساءة للوالدين ، حتى يدركوا أن الإهانة موجهة للطبيعة البشرية ذاتها ، وأن ينبذوا مثل هذا الإنسان كمثل المرض المعدى أو الداء المنتشر ويطرده ليس فقط من المدينة بل من نور الحياة. لأن ذاك الإنسان مثل خصم وعدو مشترك لكل البشرية ولله وللطبيعة وللشرائع ولحياتنا أجمعين، لذلك فهو يأمر كل فرد أن يشارك في المذبحة ( عملية الرجم ) كمن يقوم بتطهير المدينة.
أتمنى أن تكون الفوائد التي حصلتم عليها كثيرة ، لأنكم قبلتم بكل سرور حديثي عن أولئك الذين يسيئون إلى والديهم ، فأطردوهم ليس بالحجارة بل بأصواتكم ، لأنه من الواضح أن كل واحد منكم قد أظهر لأبيه مقداراً وافراً من المودة ، وهكذا عادة نندهش من الشرائع التي تعاقب الخطاة عندما لا نشارك نحن في فعل الخطايا ، لكل هذا فلنسر من محبة الله للبشر الذى يعتنى بحياتنا ، مظهراً عنايته بالوالدين ، وأيضاً يعتنى بالأولاد وكل شيء يرتبه لأجل خلاصنا ، الذى يليق به المجد والكرامة والسجود مع الأب غير المبتدئ والروح القدس الآن وكل آوان وإلى دهر الدهور أمين .
المرأة وحريتها
وإن تحدثنا أولاً عن النساء فإنك تجد أن بولس الذى قد أحاطهن بالقيود، فإنه عاد وبرهن من ذلك قائلاً ” والمرأة التي لها رجل غير مؤمن وهو يرتضى أن يسكن معها ، فلا تتركه ” لماذا ؟ ” لأنه كيف تعلمين أيتها المرأة ، هل تخلصين الرجل ؟ أو كيف تعلم أيها الرجل ، هل تخلص المرأة ؟ ويقول كيف يمكن للمرأة أن تخلصه ؟ بأن تعلمه وتعظه وأن تقوده إلى كلمة التقوى .
على الرغم من أنك قلت لنا البارحة أيها الطوباوي بولس ” ولكن لست آذن للمرأة فكيف إذن تجعلها معلماً للرجل ، ولكنى لا أطرح ذلك مناقضاً نفسى ، بل أننى أتفق كثيراً جداً مع ما أقول ، اسمع إذن ، عن أي شيء قد أبعدها عن كرسي التعاليم ولأى سبب قد اعادها مجدداً إليه ؟ كى تعرف حكمة بولس ، لأنه يقول ، فيعلم الرجل ، لماذا ؟ لأنه لم يغوى بل هكذا يقول ” آدم لم يغو ” ويقول أيضاً ” لتتعلم المرأة ” لأنها قد غويت وهكذا يقول ” لكن المرأة أغويت فحصلت في التعدى ” ولكن عندما يتحدث عن الرجل غير المؤمن بينما المرأة مؤمنة فإنه هنا يقول على النقيض فلتعلم المرأة ، لماذا ؟ لأنها – في هذه الحالة – لم تغوى بل إنها مؤمنة ، فيتعلم إذن الرجل لأنه قد أغوى حيث أنه غير مؤمن ( وكأنه ) يقول انعكس التعليم ، فلينعكس إذن من له السيادة .
أريت كيف أن العبودية في كل مكان ليست من نتاج الطبيعة بل الغواية والخطية ، فقد أتت الغواية في البدء أولاً على المرأة وتبع الغواية الخضوع وبعد ذلك تحولت الغواية على الرجل وانتقل عليه بالتبعية الخضوع ، ومثلما صار منذ البدء خلاص المرأة معهوداً للرجل ، لأنه لم يغوى إذ يقول الآتي ” وإلى رجلك يكون اعتمادك وهو يسود عليك ” وهكذا ففي هذه الحالة صارت المرأة المؤمنة تتعهد هي بخلاص الرجل غير المؤمن إذ يقول ” لأنه كيف تعلمين أيتها المرأة ، هل تخلصين الرجل ” فماذا يمكن أن يكون أكثر وضوحًا من هذا البرهان ، بأن العبودية ليست من نتاج الطبيعة بل الخطية ؟ وهذا ما يمكن قوله عن العبيد . ” دعيت وأنت عبد فلا يهمك ” فأنظر كيف يظهر ثانياً أن العبودية مجرد اسم بدون أي أهمية عندما توجد فضيلة ” بل وإن استطعت أن تصير حراً فأستعملها بالحرى ” .
أي لتبقى في العبودية. لماذا؟ لأن من دعي في الرب وهو عبد فهو عتيق الرب. كذلك أيضاً الحر المدعو هو عبد للمسيح ” أترى كيف أن العبودية هنا مجرد اسم ولكن في الواقع هي حرية؟ فلأى سبب إذن تركك أن تصير عبداً ؟ حتى تعرف امتياز الحرية، لأنه كما في حالة الثلاث فتيه فإنه بدلاً من أن يطفئ الأتون فقد كان الأكثر إثارة للدهشة أنه حفظهم بلا ضرر بينما النار مازالت مشتعلة، هكذا أيضاً فالأكثر إثارة للعجب أنه بدل من أن يلغى العبودية أظهر الحرية بينما في الواقع لم تزل العبودية قائمة.[11]
القديس غريغوريوس النيسي
طلب الحب
منذ أن بدأت العروس فى السبر والتقدم وهى لا تكتفى بدرجة معينة بالكمال بل تسعى دائما وتتقدم وهى تشبه أحيانا بالفرس الذى طرح فرعون فى البحر (نش١: ٩) وبأنواع السلاسل والزينة التى حول الرقبة (نش١: ١٠-١١) وهى قانعة بهذه الدرجات بل يصعد وتنمو دائما حتى تصير مثل قارورة الطيب المملوءة بالرائحة الذكية حيث تأخذ من رائحة الرسالة الالهية ثم تأتى بعد ذلك الى الثمر الذى هو عناقيد العنب فى الكرمة الذى له الرائحة الذكية ثم تنمو بعد ذلك وتأخذ لقب الجميلة والمحبوبة والتى لها عينان جميلتان مثل الحمامة.
ثم تتقدم أكثر فأكثر حتى تبصر جيدا وتدرك جمال الكلمة وكيف نزل كظل الى السرير فى هذه الحياة فى شكل الطبيعة البشرية حيث أشار الى التجسد “ها أنت جميل يا حبيبي وحلو وسريرنا أخضر”(نش١: ١٦) ثم تشتاق بعد ذلك الدخول فى الفضيلة فتقول ” جوائز بيتنا أرز وروافدنا سرو ” (نش١: ١٧) ومعناه أن هذا الخشب (السرو) المصنوع منه أثاث البيت يرمز الى الثبات الدائم والنمو المتواصل في الكمال لأن هذا الخشب لا يسوس ولا يعفن قط .
ثم يشرح الوحى الالهى نمو النفس فى الفضيلة بمقارنتها بالسوسن بين الشوك ” كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتى بين البنات ” (نش٢:٢) وبعد ذلك تدرك العروس الفرق بين عريسها وبين الآخرين فتقول أنه ” كالتفاح بين شجر الوعر (الغابة) كذلك حبيبى بين البنين ” (نش٢: ٣) وتشعر النفس أن العريس هو مثل الربيع بين الفصول فتأتى الى ظله ” تحت ظله اشتهيت أن أجلس ” (نش٢: ٣) والظل هنا هو الناموس والأنبياء ثم تدخل النفس الى بيته ” ادخلنى الى بيت الخمر ” (نش٢: ٤) وبيت الخمر هو بيت الحب (الكنيسة ) حيث تزود العروس بالروائح وتتغذى بالتفاح (الأسرار ) وعن طريق جروحات المحبة الغالية ( الصليب ) استقبلت سهمة الذى بيده اليمنى ثم صارت هي سهما في يده وقذف هو هذا السهم بيده اليمنى فأتت بالقرب من نفسه ورفعها بيده اليسرى ووجه رأسها الى السماء حيث الهدف الأعلى لها وحين وصلت العروس الى مراتب الكمال فأنها تشرح للنفوس الأخرى مدى محبتها للعريس الذى تشتاق اليه وهى تثير محبتهم أيضا بنوع من القسم .
ولكن رغم ذلك هي لا تكف عن السعي نحو الكمال لأنه لا يوجد حدود لهذا الكمال ، وعندئذ يصير أقصى ما وصلت اليه عروس النشيد كأنه بداية لما هو مبسوط أمامها أن تشتاق اليه . وكل هذا هو تصوير لدعوة العروس خلال سماع حواسها الروحية للتأمل فى الأسرار الروحية فتبدأ تنظر الى من تحبه ، وكأنه يظهر لها في أشكال مختلفة ، فهو هنا يشبه بالظبى وبغفر الأيائل (جمع أيل) ” ارجع واشبه يا حبيبي الظبى أو غفر الأيائل على الجبال المشعبة “(نش٢: ١٧) ولكن الرؤية لا تظل على نفس المكان لأنه يقف على الجبال ويقف من مكان لآخر .
ثم تصل العروس ثانية الى درجات أخرى من الكمال حينما تأتيها الدعوة ثانية أن تترك ظل الحائط وتأتى الى النور وتستريح على شقق الصخرة ” في محاجئ الصخر في ستر المعاقل ” (نش٢: ١٤) ثم تنعم بوقت الربيع وتجمع الزهور وتسعد بمسرات الربيع وسط أشجان الطيور. خلال كل هذا تجرز العروس كل كمال واآن هى تستعد أن تبصر وجه العريس بوضوح وصراحة وأن تنصت اليه مباشرة بدلا من أن تسمعه خلال الآخرين. أي سعادة رائعة يمكن أن نتخيلها حين نرى الرب ويصير كل ما وصلت اليه كأنه بداية لرجائها في الوصول الى ما لم تصل اليه.
وهي الأن تسمع صوت الرب مباشرة حين يأمر الصيادين ويعطيهم ثقته بخصوص الكرمة الروحية التى هى النفس أن يمسكوا الثعالب الصغيرة المفسدة. وهذا هو اتحاد الاثنين معا. الله جاء الى النفس (بالتجسد) والنفس اتجهت لكي تتحد معه ” حبيبى لى وأنا له الراعي بين السوسن ” (نش٢: ١٦) أنه حول طبيعتنا من عالم الظل الى أقصى الحق عندئذ تصعد الروح وترتقى وتتقدم من فضيلة لأخرى حتى تكمل كل رجائها فى الوصول الى أعلى القامات.
لأنه بالتأكيد لا شيء يفوق فرح الوجود مع المحبوب. وحين تصل النفس الى هذه الدرجة فان الروح تظل تبكى كما لو كانت لم تصل بعد الى هدفها وكأنها لم تمتلك بعد ما كانت تشتاق اليه وتظل فى شغف وشوق وتعبر عن شوقها هذا بتلك الآيات ” فى الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسى طلبته فما وجدته ” (نش٣: ١-٢) أنه لا يوجد أى حدود للوصول الى عظمة الوجود الالهى ولا يوجد أى قياس بشرى للمعرفة أن يصير مبدأ لأدراك هدفنا أو يعوقنا للتقدم الدائم نحو السماء ، بل ان الروح التى تسير نحو الحق فى الطرق الالهية يتم قيادتها الى كل درجة من التقدم الروحى نحو الكمال حتى يصير الوصول الى هذا الكمال ممكنا أن يصير كأنه بداية الشوق نحو الأشياء السمائية .
والآن يجب أن ندرك التعاليم المقدمة الينا ونضعها فى فكرنا وان نستعد للعرس الالهى بالكامل فى الأمور الالهية السمائية وأن نحول الفكر من المستوى الجسدي الى المستوى الروحي.
ومن خلال الرموز نستطيع أن نتعلم الكثير .وهنا تفسير تلك الرموز : العروس تشير الى الروح والله هو العريس الذى تحبه الروح من كل قلبها ومن كل نفسها ومن كل قدرتها وعندئذ تصل النفس الى أقصى أملها عندما تتحد فعلا مع من تحبه ” وجدت من تحبه نفسى فأمسكته ولم ارخه حتى ادخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بي ” (نش٣: ٤) وتتحدث النفس عن الشركة مع الله فى البر كأنه سرير ” سريرنا أخضر ” (نش١: ١٦) والليل يشير الى التأمل فى غير المنظور مثل موسى النبي الذى دخل فى الظلام الى حيث يوجد الله وكما يقول داود النبي ” جعل الظلمة ستره حوله ” (مز١٨: ١١) ولذلك تقول عروس النشيد ” فى الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسى ” (نش٣: ١) وحين تصل النفس الى هذه القامة فأنها تشعر أيضا أنها لم تصل الى الكمال بعد وكأنها لم تبدأ بعد ولكن حين تدخل النفس الى العرس الالهى فانها تستريح فى الشركة مع الله وكأنها تنام على سرير ولكنها فجأة تتقدم الى العالم غير المنظور محاطة بالوجود الالهى غير المنظور ، وتبحث عن ذلك الذى هو مخبأ فى السحاب المظلم غير المنظور .
ثم تشعر النفس بالحب نحو ذلك الذى تشتاق اليه واذ بالمحبوب نفسه يبقى في أفكارنا وعندئذ تبصره النفس بالليل على الفراش وتتعلم من وجوده الأبدي أنه بلا بداية ولا نهاية أما جوهره وكيانه فهذا الذى لم تستطع النفس أن تدركه لذلك تقول ” طلبته فما وجدته ” (نش٣: ١) لقد دعوته باسمه ولكن لا يوجد أي أسم يستطيع أن يحتويه لان اسمه لا يحده أى معنى لأنه فوق كل الأسماء ولذلك تقول العروس طلبته فما وجدته لأنها تأكدت أنه لا نهاية لعظمة الله القدوس ” عظيم هو الرب وحميد جدا وليس لعظمته استقصاء ” (مز١٤٥: ٣) ثم قامت الروح بعد ذلك وتقدمت الى العالم الروحي الفائق الذى تدعوه العروس هنا (المدينة ) حيث توجد الرئاسات والقوات والعروش وكل أجناد الملائكة السمائيين ومل الجمع غير المحصي ، ولها رجاء وأمل أن تجد ذاك الذى تحبه .
وفى بحثها عنه فانها تجد كل جيش الملائكة ” وجدنى الحرس الطائف فى المدينة ” (نش٣:٣) ولكنها لم تجد وسط هذه الأمور هدفها. وعندئذ تسأل النفس ذاتها هل من الممكن ادراك ذاك الذى أحبه ؟ هل رأيتم الذى تحبه نفسى؟ ولكن كانت الأجابة الوحيدة هى الصمت وبصمتهم أفادوها أن ما تبحث عنه هو فوق ادراكهم . وحينما ذهبت النفس بفكرها الى المدينة السمائية ولم تدرك حبيبها حتى عن الأشياء الروحية غير المادية ، وعندئذ نست كل ما أخذته وحصلت عليه من مثل لأنها أدركت أن ما تبحث عنه يفوق الادراك فى جوهره وأن كل ما يمكن أن تفهمه كأنه لا شىء ولذلك تقول ” فما جاوزتهم الا قليلا ” (نش٣: ٤) .
لقد تركت النفس كل المخلوقات المرئية وكل المخلوقات الروحانية أيضا وعندئذ بالايمان فقط وجدت من تحبه وأدخلته الى حجرتها (نش٣: ٤-٥) وهذه الحجرة هى القلب الذى يدخل الله فيه وعندئذ ترجع النفس الى حالتها الأولى التى كانت عليها منذ البدء وقامتها التى ولدت بها من الأم (فى ذلك الميلاد الثانى بالمعمودية )[12] .
عظات آباء وخدام معاصرين
قداسة البابا تواضروس الثاني
عرس قانا الجليل
كانت هذه الآية بداية الآيات التي فعلها السيد المسيح له المجد : في بدء خدمته وحضوره هذا الفرح لمباركة سر الزواج وجعله شركة مقدسة كما هو واضح من صلوات الاكليل المقدس . وقوله في اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل (يو٢: ١) يشير الى قيامته التي صارت في اليوم الثالث من آلامه، وبها صار لنا الفرح السمانى .
لقد حضر السيد هذا العرس مع أمه وبعض تلاميذه في قانا الجليل التي تبعد ٦ أميال شرق الناصرة والتي تمت فيها آية شفاء ابن خادم الملك (يو٤: ٤٦- ٥٤) وقيل أنه بنيت في موضع العرس كنيسة آثارها باقية حتى الآن .
قيل أن العروسين كانا فقيرين ومع ذلك حضر اليهما ملك الملوك ومازال يلبى دعوة الجميع .
كان الفرح والسرور بحضوره هذا الحفل البسيط ، واستجابة لطلب والدته السيدة العذراء ….استجاب لها فى اتضاع وتقدير للأمومة التى لم ينسها حتى النهاية فى أشد آلامه وهو على الصليب (يو١٩: ٢٦) بل ومازال يستجيب شفاعاتها وتوسلاتها عن ضعفنا فى كل حين .
صانع الخمر الجديدة
الخمر الجديدة التى حولها الرب يسوع تشير الى سر الافخارستيا ، اذ نشرب خمرا جديدة قدسها الرب يسوع وأعطاها لنا دما كريما للعهد الجديد الذى له . .. الخمر التى صيرها الرب فى عرس قانا الجليل لابد أنها انتهت أخيرا . أما الخمر الجديدة الذى يعطيه لنا فهو حياه آبدية .
وهنا ليتنا نسأل: هل لنا لباس العرس للاشتراك فى عرسه الدائم (مت٢٢: ١- ١٤)؟
فالعريس والعروس يجب أن يكونا على حب واخلاص متبادل، حيث تتوفر لهما السعادة فى حياتهما .
وأنت كعروس للمسيح هل كونت علاقة وطيدة معه؟
هل أحببته كما أحبك ؟ هل تجلس اليه وتحدثه عن كل ما بقلبك وفكرك؟[13]
قداسة البطريرك زكا الأول عيواص
العذراء الشفيعة في عرس قانا الجليل
وتزداد مسؤولية العذراء مريم لما بدأ يسوع تدابيره الإلهية جهراً وهو في الثلاثين من عمره ، ففي عرس قانا الجليل سمعناها تقول له :” ليس عندهم خمر “فيجيبها :” مالي ولك يا امرأة لم تأت ساعتي بعد ” وتلتفت مريم الي الخدام قائلة :” مهما يأمركم به فافعلوه ” علما منها أنه لا يخيب لها أملاً ، وهكذا اجترح الرب أولي معجزاته أمام تلاميذه بناء علي طلب والدته ، فحَّول الماء خمراً .
وكان موقف مريم من رسالة الرب يسوع واضحاً ، فهي مؤمنة بابنها وهل يمكن أن تشك به ، وقد أعلن لها الملاك عندما بشرها عن مركزه الإلهي ، فهو ” قدوس وابن العلي يدعي ، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك علي آل يعقوب الي الأبد ” . فلما نقرأ في الانجيل المقدس ان أقرباءه خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا انه مختل (مر ٣: ٢١) لا يعني أن أمه جارت هؤلاء وتنكرت لابنها ، ونقرأ أيضاً ما كتب مرقس قائلاً :” فجاء حينئذ اخوته وأمه ووقفوا خارجاً وأرسلوا اليه يدعونه ، وكان الجمع حوله ، فقالوا له هوذا أمك واخوتك خارجاً يطلبونك ، فأجابهم قائلاً ، من أمي واخوتي ، ثم نظر حوله الي الجالسين وقال ، ها أمي واخوتي ، لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي “(مر ٣: ٣١- ٣٥) . وبهذا الكلام لا يريد السيد المسيح أن ينتقص من كرامة أمه ، انما يريد أن يرفع المؤمنين به ، وخاصة تلاميذه الذين كان قد اختارهم لتوَّه ، أن يرفعهم الي درجتها الروحية السامية ، ولا غرو فقد ذكر الانجيل المقدس عن أمه ” أنها كانت تحفظ الكلام مفتكرة به في نفسها ” فكل تلميذ وكل مؤمن من الجنسين يحفظ كمريم كلام الله ويعمل به ينال ما نالته من نعمة .
ويذكر الانجيل المقدس أيضاً (لو ١١: ٢٧- ٢٨) أن امرأة في أورشليم رفعت من الجمع صوتها قائلة ليسوع :” طوبي للبطن الذي حملك ، وللثديين اللذين رضعتهما ، أما هو فقال ” بل طوبي للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه ” وهذه الآية أيضاً تتضمن مديحاً للعذراء .
العذراء عند الصليب تسلّم الي يوحنا الحبيب
وقد تبعت العذراء مريم ابنها يسوع الي الجلجلة ، وتحت الصليب تحققت فيها النبوة التي فان بها سمعان الشيخ وهي :” يجوز في نفسك سيف الحزن ” فقد رأت ابنها البار القدوس معلقاً علي الصليب ، بل رأته ميتاً ، واشتركت بدفنه ، ثم رأته قائماً من بين الأموات ، ولابد أنها كانت مع تلاميذه في جبل الزيتون فرأته صاعداً الي السماء .
وذكر سفر أعمال الرسل (١: ١٤) العذراء مريم مع التلاميذ واخوة الرب تواظب علي الصلاة ، وكانت معهم يوم الخمسين في العلية ، حيث حلَّ عليهم الروح القدس ، ويوم الخمسين هذا يعتبر يوم ميلاد الكنيسة ، فقد آمن ثلاثة آلاف شخص علي أثر خطاب هامة الرسل بطرس ، واعتمدوا ، ولضرورة المعمودية للخلاص بحسب قول الرب :” من آمن واعتمد خلص ، ومن لم يؤمن يدان ” يتساءل بعضهم هل نالت العذراء مريم سر المعمودية ؟ لقد سكت الكتاب عن ذلك حتي لم يذكر عن الرسل أنهم اعتمدوا أم لا ؟
وفي الكنيسة السريانية يذكر مار ايوانيس الداري (ت ٨٦٠) في معرض بحثه تقديس الميرون علي أيدي الرسل ، ان العذراء اعتمدت ، وقصده بذلك اعطاء موضوع المعمودية والميرون أهمية كبري ، ولم نعثر في التقليد علي نص آخر يؤيد رأي الداري ، علي كل حال ليس هذا الأمر عقيدة قررتها الكنيسة ، انما هو مجرد رأي خاص لأحد الآباء[14] .
المتنيح القمص تادرس البراموسي
اليوم الثالث عشر من شهر طوبه المبارك
( مالي ولك يا امرأة لم تأت ساعتي بعد ) (يو ۲ : ۱ – ۱۱)
دعى الرب يسوع إلى عرس قانا الجليل ومعه تلاميذه بعـد أن إختـار البعض منهم ولم يمضي على إختيارهم إلا ثلاثة أيام بعد مقابلته مع نثنائيل وكانت السيدة العذراء حاضرة هناك لأن الرب يسوع دائماً يلبي دعوة لكم من يدعوه وله طابع خاص في أي حفل يحضره كما دعي مـن سـمعان الفريسي ليتعشى معه وبطريقة روحية حول الحفل العـالمي إلى مجتمع روحي وقدم الملامة إلى سمعان الفريسي الذي لم يقابله بالطقوس كانت سائدة بين اليهود وفضل المرأة عنه . فقال له أنت لم تُقبل فمي أما هذه المرأة فقد غسلت رجلي بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها ؛ أنت لم تدهن رأسي بزيت وهذه دهنت بالطيب قدمي وقد تم خلاص هذه المرأة عندما قال لها الرب يسوع مغفورة لك خطاياك وهذه كانت معجـزة إذ نالت المرأة الخاطئة مغفرة خطاياها .
وفي عرس قانا الجليل حدث ما لم يتوقعه أحد جاءت السيدة العذراء إلى إبنها الحبيب وكان الخمر قد نفذ – وهذه عادة اليهود أنه من الضروري وجود خمر في الحفل وله طقوس معينة – طلبت السيدة العذراء من الرب يسوع قائلة ليس لهم خمر وهي متأكدة تمام التأكيـد أن هـذا الفـراغ لا يسدده إلا يسوع ؛ فقال لها مالي ولك يا امرأة ؛ أنا مجرد مدعو ماذا أفعل ؟ لكن كان يعرف قصدها ولماذا كلمته ؛ قال لها ساعتى لم تأت بعد ؛ قد يسمع هذا الكلام من البعيدين عن الله يقول أنه رفض طلب أمه وهذا لا يمكن أن يحدث لأنه رب الطاعة فكيف لا يكـون مطيـع ؟ !! كانت واثقة تماماً أن الرب سينفذ كلامها لذلك قالت للخدام ما يقولـه لكم إفعلوه ؛ وكانت ستة أجران من الحجارة موضوعة هنـاك حسب تطهير اليهود يسع كل واحد مطرين أو ثلاثة ؛ فقال لهم يسوع إمـلأوا الأجران ماء ؛ أظن أن كل من سمع كلامه مع أمه فكر أنه كباقي الناس التـي غير مطيع أو هي طلبت طلب في غير محله لكن عندما أمـر الخـدام أن يملأوا الأجران ماء تأكدوا أن معلم الناموس لا يحتاج من يعلمه ولا سيما في طاعة الوالدين .
ملأ الخدام الأجران إلى فوق ثم قال لهم إستقوا الآن وقدموا إلى رئـيس المتكأ ولم يفعل أكثر من أن أمر أن يملأوا الماء . لم يطلب تحويل المـاء ولم يضيف عليه مواد أخرى لكن مجرد الأمر حدثت الآيـة وكـانـت أول معجزة صنعها يسوع بعد أن إبتدأ خدمته الجهارية ؛ هنا يظهر الفرق بين الخمر الذي كانوا يستعملونه للشكر والعربدة والخمر الذي أمر به الرب يسوع . لما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمراً لم يكن يعلم من أين هـي لأنه رجل مدمن الخمر يعرف الجيد من الردئ ؛ دعا رئيس المتكأ العريس . وقال له كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولا ومتى سـكروا فحينئـذ الدون ؛ لم يعرف العريس من أين جاءت هذه الخمـرة التـي أفاقـت السكارى . لم تزد من سكرهم ومجونهم بل جعلتهم يفيقوا من سكرهم لابد أن يكون العريس قد سألة الخدام بنقاذ الخمر وعرف من أين جاءوا بالخمر الجديدة وعرف بالمعجزة لأنها جعلت الكثيرين مـن المدعوين يؤمنوا بيسوع .
كان لرئيس المتكأ كله عتاب للعريس لماذا أنت أبقيت الخمر الجيـدة إلى الآن ؟ وكانت هذه بداية الآيات التي صنعها الرب يسوع في قانا الجليل فآمن به تلاميذه لأنه أظهر مجـذه أمـامهم وفي هـذه الآيـة جملـة فوائد منها :
أولا : نرى كيف تكون طاعة الوالدين
ثانياً : كيف نسد حاجة المحتاجين
ثالثا : إعطاء درس للسكارى أن الخمر يذهب العقل فصنع خمراً لـيـس للسكر بل لليقظة من السكر .
رابعاً : أظهر مجده أمام تلاميذه وأمام الشعب أن كل شئ يطيعه ولا يعثر اعد عليه شيء.
وهكذا كان الرب يسوع المعطي للجميع بسخاء لم يتـرك المجاملـة في الأفراح أو في أي موقف آخر كدعوة سمعان الفريسي ودعوته في موت لعازر ودعوته في عرس قانا الجليل وفي كل دعوة كان يتمجـد في شـئ معين؛ في دعوة الفريسي كان ثوبة المرأة الخاطئة التي غـسلت رجليـه بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها . وهذا الموقف كان مهماً جداً لأنـه جاء لأجل؛ وفي إقامة لعازر رأى الناس أنه هو المحيي ولا سيـما كان له أربعة أيام في القبر بمعنى قد أنتن كما قالت أخته كما أظهر طاعته لوالدته أمام الجميع؛ وفي كل يوم نرى أشياء كثيرة تحدث غريبة وعجيبة في حياة الرب يسوع على الأرض لأنه رب السماء والأرض به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء. [15]
المتنيح الدكتور وليم سليمان: من الغريزة الى المشكلة
١-تحليل الغريزة الجنسية
٢- المجتمع والعائلة –
٣- المرأة والزواج
٤ ـ أ- تصفية المشكلة
ب- حصرها
. الغريزة الجنسية ناحية من نواحي حياة الإنسان التي ترتبط فيها عوامل متعددة ، وتتشابك وتتعقد و لكي نستطيع أن نفهمها جيداً ، ينبغي لنا أول كل شيء أن نعرف هذه العوامل المتفاعلة مع بعضها البعض، فإن ذلك أدعى إلى معرفة الأسباب التي تجعلها تقلق حياة الكثيرين . تنطوى كلمة “الغريزة الجنسية ” على عدة نواح تتطلب إشباعها ، بعضها نفسى كميل الفرد إلى فرد آخر يبادله حبا وعطفا خاصا ، والميل إلى الجمال ، ولذة الرعاية ، والتجاذب الجنسي . و بعضها حي كطلب اللذة الجسدية العضوية والواقع إن هذه المعاني التي تكون – بتفاعلها و تکاملها ـ هذه الناحية الهامة من حياة الإنسان ،كلها سامية مقدسة ، بل إنها بذور الحياة العالية الراقية ، التي في إمكان كل واحد أن يصل إليها ويحياها .فميل الفرد إلى آخر يتبادل معه صداقة ومحبة وإخلاصا يتضمن تحته معان أخرى ، إنه يعني رغبة قوية في الألفة مع البشر وفي التفاهم معهم . كل واحد بود لو يفهمه الآخرون ، وإنه ليسوؤه جدا أن يغلق إخوانه أذهانهم حياله .
وإن كثيرا من المتاعب النفسية والانحرافات ناشيء من هذا الأمر، من أن الفرد يعيش وحيدا ، بينه وبين الآخرين حواجز و سدود .وثمة معنى آخر . فالميل إلى الصداقة يتضمن الرغبة في المساواة، وأن الألفة والمحبة الأخوية لا تنشأ ولا تثمر إلا إذا فهم أطرافها أنهم جميعا في مستو واحد ، وكل واحد جدير بالآخرين . لهذا يود الصديق أن يفهم أن صديقه يحترمه، و يود أيضا أن يؤكد لذلك الأخ العزيز أنه يكن له ـ بالتالى ـ مودة وإخلاصا ، وأنه عظيم القدر لديه. والميل إلى الجمال، إنه شوق إلى مافى هذا الكوكب من روعة ومن سمو . بهذا الميل يحس. الإنسان بما في الأرض و النهر والجبل والغابة والبحر والصحراء والنبات والحيوان. . يحس بما في كل ذلك من حكمة وجمال. وبدلا من أن يطمع في امتلاك الشيء والاستيلاء عليه، يود لو يقتنيه في ذهنه ، ويطبع صورته في مخيلته .والشوق إلى الرعاية مظهر آخر من مظاهر الغريزة الجنسية : وهو يعني رغبة حارة إلى خدمة الآخرين . وإن الإنسان لا يسعد بأن يخدمه غيره، بقدر ما يرضى ويفرح حين يقدم هو إلى أحبائه عملا ينفعهم. إن هذا يقنعه بأنه مفيد في هذه الحياة. وليست خدمة الآخرين فحسب هي موضوع هذا الميل، بل خدمة المثل العليا والكفاح من أجلها، فيحس الإنسان بأن عليه دوراً ورسالة يجب أن يقوم بها ، ويتصاعد ذلك الميل فيصير ارتباطا بين الفرد والمعاني المجردة ، وتتجسد هذه المعاني فيه فيصير معبرا عنها ، ممثلا لها في الحياة العملية ، بل بالحرى مدافعا عنها ومكافحاً لأجل تحقيقها .
ويأتى بعد ذلك المظهر الرابع، إنه الرغبة في التجاذب الجنسي، أي ميل الفتى إلى الأنوثة، أي إلى جنس الفتاة عموما. وهو رغبة في أن يحيا كبشر، بصرف النظر عن أي فارق، أو كما قال القديس بولس “ليس ذكر ولا أنثى، بل المسيح الكل في الكل “هوالارتفاع من الحب الجنسى إلى التعاطف البشري . .. ، كل هذه هي المظاهر المعنوية النفسية التي تنطوي عليها هذه الغريزة ، وإنها كما قلنا بذور الحياة الراقية السامية ، وتبدو لنا من خلالها الغزيزة الجنسية غريزة ألفة وتفاهم ، وأمن وسلام ، وخدمة ورعاية ، وشوق إلى الجمال والمثل العليا .
كثيرا ما ينشر المجتمع القلق والخوف. وهو ذا شبح الحرب يظلل الدول على الدوام، فما يفرغ العالم من حرب إلا ليستعد لأخرى ، وكل هذا ينفى السكينة والهدوء من نفوس الذين يعيشون على سطح هذه الأرض . وإن الخوف من الغارات ليملأ الطفولة والصبا رعبا و اضطرابا، فما يكاد يظهر القمر ـ القمر الجميل الحلو – إلا وتبدأ آلام الطفل، فلقد ارتبط نور القمر في ذهنه بتلك الأصوات المزعجة التي توقظه من نومه مذعورا مرتعبا . والغريزة الجنسية غريزة أمن وسلام ، فهل من العجيب أن تضطرب في هذا المحيط . المزعج . . وهي أيضا غريزة كرامة ومساواة، تثير في نفس الفرد رغبة في أن يحترمه الآخرون وفي أن يحترمهم . وهو يود ألا يرى فيهم إلا صفتهم كبشر ، لأن هذه هي أثمن ما فيهم وهي تعلو على كل ما يمتلكون .
أما المجتمع فإنه يقلب هذه المعايير ، يقدر الأنسان لأنه غنى ، أو ذو سطوة . وهو يضع الناس طبقات ، ويحترم الرجل لأنه قتل الملايين وأفنى البلاد ، فيقيم التماثيل لقادة الحروب و يسميهم أبطالا ، و يمجد الشر والغدر فيهم . و لقد رأينا هذه الناحية من حياة الإنسان ـ أي غريزة الجنس فيه ـ تتضمن ميلا للجمال وللكفاح من أجل المثل العليا . أما المجتمع فكثيرا ما يضع معايير أخرى للجمال ، فهو لا يراه في الفضيلة و الفكرة الحسنة بقدر ما يراه في التزين بالذهب ، والثوب الغالي . وهو يسخر من المثل العليا ويسمى أصحابها رجال الأوهام ، وحين تستعرض الصحف والمجلات و الكتب والسينما وغيرها من الوسائل التي عند المجتمع لنشر الأفكار ، ترى أن تلك المثل ليس لها حظ كبير من تقديره ومن عنايته .وهكذا تبدأ المشكلة ، لأن كل مافي الإنسان من خير يصطدم بعقبات مصطنعة تمنعه من أن يثمر وأن يزدهر .
لا تظهر الغريزة الجنسية في حياة الفرد إلا متأخرة ، فالطفولة عند الإنسان طويلة على خلاف الحيوان والطيور . وما ذلك إلا لكى تتاح له فرصة التعلم والتدرب واكتساب العادات والمهارات التي تعينه في حياته . و الإنسان يعيش في العائلة كل طفولته ، لا ينفصل عنها إلا بعد مدة طويلة حين يكون قادراً على الاستقلال والعمل بمفرده ، وهو طوال إقامته بهـا يخضع لما يكون فيها من أفكار ومن مبادىء .و العائله المهملة المنحلة تنشر في طفلها خوفا وقلقا فتضطرب نفسيته . والطفل الذي يعيش بحوار أم مهددة ، أو أب ثائر ، طفل تنتشر في نفسه عوامل الانحراف . وكثيرا ما تنتقل المعايير الاجتماعية لكى تعيش و تستقر داخل العائلة . والطفل منذ نشأته يسمع تقدير المال ، ويرى كل من حوله يرجون له أن يكون غنيا ، ذا منصب كبير وسلطان وجاه . فإذا حاول هذا الولد يوما أن يقتنى متعة ذهنية ـ كشراء كتاب أو صورة جميلة ـ لم يقابل إلا بالتقريع والإيلام وكثيرا ما يحرض الطفل في العائلة على أن يكون بلا فائدة لأحد .
فهو يدفع دفعا کی ينتصر على زملائه في المدرسة ، وبدلا من أن يحرض كى ينتصر على مشكلات العلم ، يؤمر بأن يمنع عن زميله كل معونة يستطيع أن يقدمها له ، لأن ذلك معناه أن يفيد منافسه ، وأن يعطيه فرصة للتقدم عليه . فالأنانية في مثل هذه العائلة فضيلة على الطفل أن يقتنيها .والولد محروم من الهواية ـ وهي العمل من أجل المتعة و ليس من أجل الحرفة والكسب . فهو بالتالى محروم من أن يبذل جهده برضى وسرور ، فيتأنق فيما يعمل ويكتسب الفن والمهارة . وهكذا يحرم من مرحلة الصبا ، وهو منذ نشأته رجل صغير ـ يحمل النير و يثقله الهم ، ومن المعروف أن تكامل كل مرحلة يتوقف إلى حد كبير على تكامل المرحلة السابقة . لهذا ليس عجيبا أن نرى مرحلة المراهقة مليئة بالمتاعب ، لأن رحلة الصبا لم تعالج علاجا صحيحا .
فإذا أضفنا إلى كل ذلك ما يصاحب حياته من فوضى وعدم نظام ، في المأكل والملبس وأسلوب الحياة عموما ـ وجدنا أن مثل هذا الولد لم تتهيأ حياته لكي يفرق بين الأمور و بعضها البعض ، بين الصالح منها وغير الصالح ، بين الروحي والجسدي .
المجتمع إذن والعائلة يمنعان النواحي المعنوية للغريزة الجنسية من أن تجد أرضا صالحة للنمو والاستقرار . لذلك فإن الولد تنقلب الأمور أمام عينيه ، ويصبح غير قادر على أن يبصرالخير وأن يعمله . فهو لا يعيش ملء ما فيه من ذهن و من روح ، بل إن قليلا مما لديه من ثروة معنوية كان من الممكن أن يكفيه لكي يعيش هذه الحياة المادية . وهو لا يحس الايمان في هذا الوسط ، ولا يتمتع بالسعادة الفكرية ، ولا يستطيع أن يتخيل وأن يضع المشاريع العالية . فإذا نما وصار شابا ورجلا ، عاش كما أريد له أن يعيش . وإذا الغريزة الجنسية تصبح مصدر متاعب وشرور .
وإذا الزواج لديه أنانية ومادة ، والبيت مأوى و مطعم ، والمرأة لا تقدير لها و حين نود أن نواجه هذا الموقف ، يجب أولا أن نمهد له بايضاح الفكر الصحيح عن المرأة وعن الزواج ، لأن في هذين ستركز كل تلك الانحرافات في الاصحاحات الأولى لسفر التكوين ، يتحدث إلينا الكتاب المقدس عن تأسيس أول عائلة على الأرض ، وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا . . فخلق الله الإنسان على صورته . . وأخذ الرب الإله آدم و وضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها وقال الرب الإله ، ليس جيدا أن يكون آدم وحده ، فأصنع له معينا نظيره . . فأوقع الرب الإله سبانا على آدم فنام ، فأخذ واحدا من أضلاعه وملاء مكانها لحما . ونى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم . فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي ، ولحم من لحمى . . . لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحدا .. وباركهم الله وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها . . ورأى الله كل ما عمل ، فإذا هو حسن جدا . . .
هذه قصة العائلة الأولى ، وهي على إيجازها مليئة بالتعليم والتوجيه .
أولا : كان لأبوينا الأولين هدف موضوعي . كان عليهما أن يعملا الجنة ويحفظاها و أن يخضعا الأرض ويتسلطا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض .
ثانيا : لم يكن آدم يعمل وحده ، بل كانت حواء معينا له .
ثالثاً :, الرجل ليس من دون المرأة ، ولا المرأة من دون الرجل في الرب ، لأنه كما أن المرأة هي من الرجل ، هكذا الرجل أيضا هو بالمرأة . و لكن جميع الأشياء هي من الله (١ کو ۱۱ :۸ و ۱۲) ، فالمرأة ضلع من آدم ، وهما الاثنان جسد واحد ، وهذه هي الوحدة التي تتم في العائلة .و العائلة السليمة هي التي تفهم المرأة هذا الفهم ، فهي معين الرجل ، وأكثر ما يثير المرأة ويحرك مشاعرها أهداف الرجل في الحياة ، وما لديه من ذكاء وقوة ومثل . والمرأة تقدر العظمة ، وهي تريد أن تربط نفسها بالأهداف الممتازة العالية ، وأن تساهم في الوصول إليها، وهي تود أن تعين وأن تلهم رجلها كي يجعل من تلك الأهداف حقيقة واقعة والمرأة تثور دائما ضد اللعب بالشهوة والعبث بها ، وإنها تعتبر الجنس شيئا ، والشهوة شيئا آخر ، وهذه الأخيرة لديها شيء تافه حيوانى ، لأن الجنس مرتبط لديها برغبات الأمومة، وهذه الرغبات ثمينة لديها ، حتى أنها لتحميها وتحفظها بكل عناية وغيرة ، و تدفع عنها كل ما يشينها و يقلل من رو روعتها ،هذه هي المرأة في جوهرها . وهي شيء ثمين له قيمته . وفي العهد القديم قصة خالدة تظهر انا هذه القيمة : أحب يعقوب راحيل ، فقال لأبيها أخدمك سبع سنين و تعطيني راحيل ابنتك الصغرى. فخدم يعقوب أبا راحيل سبع سنين ، و وكانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها ، وإن الكنيسة لتستقبلها بالإكرام والترحيب إذ تأتى حاملة وليدها تعمده ، إنها تشبهها بالعذراء ، وهي تحمل ابنها لتقدمه ذاهبة به إلى الهيكل ، إلى سمعان الشيخ
والزواج – إن القديس بولس ليتحدث عنه ، فيقف الإنسان أمام كلامه متعجبا ، لأنه يرفعه إلى أعلى مرتبة يمكن أن يرتفع إليها نظام إنساني . و أيها النساء ، اخضعن لرجالكن كما للرب . لأن الرجل هو رأس المرأة ، كما أن المسيح أيضا رأس الكنيسة . . ولكن كما تخضع الكنيسة للمسيح ، كذلك النساء لرجالهن في كل شيء ..”أيها الرجال ، أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها . كذلك يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم كاجسادهم . . كما الرب أيضا للكنيسة لأننا أعضاء جسمه ، من لحمه ومن عظامه . من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه و يلتصق بامرأته ، ويكون الاثنان جسدا واحدا . . هذا السر عظيم !” و عظمته مستمدة من أن الوحدة بين الرجل والمرأة فيه هي كالوحدة بين المسيح والكنيسة .
وإنك إذ تحضر صلاة الاكليل ، التي فيها يقف الاثنان أمام هيكل الله لتشعر بالروحانية العميقة ، و بأن الكنيسة تفتح لهذين الفردين حياة ممتازة سامية بالحقيقة . وإننا لنستطيع أن نكون فكرة صحيحة للبيت الذي سيعيشان فيه . فلن يكون بيتهما مجرد مأوى للنوم ومطعماً وحسب . بل سيكون بالحرى عشا المحبة والوحدة ، التي تتم دون كلام ، لأن الروح القدس نفسه يصنعها . وهو كنيسة للعبادة ، وعلية يأتى إليها المسيح المقام ، ليقول لمن يسكنها وهي مغلقة عليهم بهدوء : سلام لكم .. إنه رمز للبيت السماني ، الذي سينتقل إليه الزوجان حين ينتهيان من هذه الحياة . إن حياتهما فيه مقدمة وتمهيد لمجدهما هناك وهو معهد للثقافة وهو مدرسة للحياة ، وبيئة لإظهار المواهب و توجيهها و تقدمها وهو معهد للثقافة والمعرفة . وإن القديس بولس يأمر الزوجة أن تذهب لرجلها في البيت تسأله عما لا تفهمه في الكنيسة فيه يربى العقل ، وتكون الشخصية . بل هو مصنع للعبقرية وللنبوغ ، ومنبع للوحي والالهام .هو دير فيه العزلة ، والخضوع والخدمة الكاملة والموت عن العالم ، وهو أيضا ندوة اجتماعية ، تزدهر فيها الصداقة والتفاهم والمحبة الأخوية و في البيت ستتحقق عمليا تلك المسيحية الحقيقية التي عاشها المسيحيون الأوائل : كل شيء مشترك . . وإذ يكسر أفراده الخبز يتناولون الطعام بابتهاج و بساطة قلب . . لهم قلب واحد و نفس واحدة ، ولا يقول أحد إن شيئا له ، بل كل شيء عندهم مشترك . . و ليس عندهم احتياج . . .وكما كان الرسل يخرجون للعمل والجهاد ثم يعودون إلى البيت حيث إخوانهم ، هكذا سيتم في بيت المسيحى ، حدث أن رجع بطرس و يوحنا من عند رؤساء الكهنة ، فلما أتيا إلى رفقائهما في البيت وأخبراهم بكل شيء ، رفع الجميع بنفس واحدة صوتا إلى الله ولما صلوا تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه ، وامتلأ الجميع من الروح القدس هكذا سيحدث في بيت المسيحي . ترتفع منه الصلوات ـ عن كل فرد فيه ، بل عن الآخرين – أيضا ـ إلى عرش النعمة ، لتجد لديه قبولا واستجابة .وفي البيت مع كل هذا أشياء أخرى . . وإن فيه لجوانب غامضة لا يمكن التعبير عنها ، مصدرها الرب إذ يعيش فيه ، وتوحيها محبة أفراده غير المحدودة ، فتصبغ كل شيء و تملأه من الجمال والهدوء . وإن الطعام الذي تصنعه الزوجة في البيت لرجلها ولبنيها ، لشيء يختلف تماما عما يقدم خارجه ، إنها تضيف إليه من نفسها و من عاطفتها أشياء لا يستطيع العالم كله أن يمنحها . وحين يأتى الولد إلى هذا المكان ، سيجد حياة مستقرة يستطيع أن ينمو فيها و أن يزدهر ، و تتكون نفسه سليمة متكاملة لا انحراف فيها ولا عوج . وإن والديه ليبذلان كل جهدهما من أجله ، يقرآن و يفكران و يتعلمان من أجل تربيته ، ويصومان و يصليان إلى الله كى يرعاه
ويوجهه . سيقدم له تراث الانسانية كلها ، وخبرة الحياة ، وحكمة العمل . وستكون له فرصة كي تنمو مواهبه وتجد مجالا تعمل فيه سيعتنى بجسمه وبصحته ، وسيكون في مأمن من كل ضعف ومن كل مرض ، يكتسب العادات الصالحة ، وتثبت فيه الحياة المتزنة . وفى والديه سيجد أصدقاء مخلصين له ، يحترمونه ويقدرونه فسيحبهم ويحب البيت الذي يعيش فيه ، لأنه يجد معهم المرح العذب ، والفرح العميق بالحياة ، والمحبة والحنان يغمرانه و يسعدانه . وسيتدرب فيه على خدمة الغير والتخفيف عنهم في شهامة ومروءة كل هذا سيتم للولد دون كلام ، بل يمتزج بنفسه ، و يندمج في حياته ، قبل أن يعرف النطق والحديث . وهكذا ستشبع كل نواحى غرائزه وميوله . ولن يحدث له ما يعيق رغباته وأشواقه ، بل إن البيت سيكون حصنا يمنع دخول أية فكرة أو تأثير خاطىء من الخارج وستزدهر غريزته الجنسية ، وتقوم بدورها في حياته ، كغريزة أمن وسلام ، ومحبة وكرامة ، وجمال وخدمة .
أ – في صلاة الأكليل تقرأ الكنيسة الآيات الأولى من انجيل القديس يوحنا “في البدء كان الكلمة . . . والانجيلي يتحدث في هذا الفصل عن وحدة الكلمة في الله ، ومجيء الحياة والنعمة من الكلمه و به كانت الحياة ، والحياة هي نور الناس . . الذين قبلوه أعطاهم سلطانا أن يصيروا أبناء الله . . والنعمة والحق بيسوع المسيح صارا . . .” و هذا الفصل نفسه وضعته الكنيسة في أول صلاة من صلواتها السبع اليومية : صلاة باكر وهنا مفتاح الموضوع : لن يتيسر للزوجين حياة سعيدة ، إلا لو سبق وحدتهما ببعضهما البعض ، وحدة كل منهما بالله فلقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله ، وهدف الإنسان هو أن يكون بالنعمة شريكا الله في طبيعته ، وأن يتحد به فيصير الإنسان في الله واحدا إلى الأبد . وفي هذا يقول القديس بطرس الرسول “قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة ، لكى تصيروا بها شركاء في الطبيعة الإلهية “.الرسالة الثانية ١: ٤ ، و لقد قال رب المجد “ليكونوا جميعا واحدا كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك – ليكونوا هم أيضا واحدا فينا .. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ، ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد . أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين في الوحدة ” يو ۱۷ : ۲۱ – ۲۳ ” “و لقد أعطى الإنسان فترة من الزمان تكون له فيها حرية إرادة كاملة يقرر مصيره ، وهل يختار أن يعيش مع الله أم لا . هذه الفترة المحدودة من الزمان ، والتي لا توازي شيئا إذا قيست بحياة الأبد غير المتناهية هي فترة عبور نا بهذه الحياة الدنيا . . . هي عمر نا و نصيبنا من السنين الذي وهبناه .في هذه الفترة يتحد الروح الخالد بجسد مطبوع بالغريزة على حب النفس . ولارادتنا الحرة سلطان على الغريزة ، لا لتعارضها أو تميتها بل لتستخدمها وتوجهها . . وجسد الانسان في ذلك يشبه سيارة ، والروح كالسائق الجالس إلى عجلة القيادة . وكل ما يصدر عن السيارة من سير وانحراف وغير ذلك يتضمن الوحدة بين إرادة السائق و بين آلات السيارة . والتربية هي تعليم الانسان قيادة ذاته ، والسيطرة عليها واستخدام طبائعها للسير في الاتجاه الصحيح المؤدى إلى الهدف الخالد.
إن هذا الترتيب الذي وضعته الكنيسة : أن يكون انجيل صلاة باكر هو أنجيل الاكليل ، توجيه هام لكل شاب . فالاتجاه الروحي في الحياة ، والسير طبقا لطبيعة الانسان و هدفه كما تظهره المسيحية لازم ، ليس فقط لذاته ولارضاء الله و نيل الملكوت ، و لكن أيضا و بالضرورة كي يشبع الانسان غرائزه وكي يسعد في الزواج . و ان يستطيع أن يكون عائلة مقدسة كالتي أشرنا إليها ، ولن يؤسس بيتا صالحا إلا لو عاش مع الله قبل أن يعيش مع امرأته .”غير المتزوج يهتم في ما للرب كيف يرضى الرب ، وأما المتزوج فيهتم في ما للعالم كيف يرضى امرأته . غير المتزوجة تهتم في ما للرب لتكون مقدسة جسداً وروحا ، وأما المتزوجة فتهتم في ما للعالم كيف ترضى رجلها . . ”
و هكذا نستطيع أن نصفى المشكلة الجنسية فنقول إن ما تثيره من متاعب ، ليس في الحقيقة ناشئا عنها هي بالذات ، و لكنه مترتب على انحراف الحياة عموما ، بحيث أنه لو عاش الانسان حياة سليمة متكاملة ، فإن المظاهر المعنوية لهذه الغريزة والتي تحدثنا عنها فيما سبق ، ستشبع ، لأن الحياة في الله هي كمال الانسان ، فيها يجد المحبة والصداقة والتفاهم والكرامة ، وفيها يخدم إخوانه ويكافح من أجل المثل العليا . و ينسى كل شيء إلا أنه إنسان ، فيكون المسيح الكل في الكل .فإذا انحرف عن حياته الطبيعية هذه ، واختفى هدفه الخالد من أمام عينيه ، ستبدأ حياته تتعقد ، وينتقل من “الغريزة ” إلى المشكلة ، . وتقوم البيئة ـ المجتمع والعائلة ـ في هـذا التحول بدور كبير .
ب ـ بعد ذلك لم يبق من الغريزة الجنسية إلا الناحية الجسدية العضوية ، لأن كل مظاهرها قد أشبعت .هذه الناحية الحسية يظل إشباعها ناقصا ، وهذا النقص في صالح الشاب نفسه . لأنه يترك فيه مقداراً الطاقة المختزنة ، و يخلق في نفسية الشاب بعض التوتر ، غير أنه ليس توتراً عميقا شاملا مثل ذلك الذي يتجلى في شخصية المنحرف ، بل هو تو تر سطحی محدود القدر من لأن نواحي حياته الأخرى تغمره . . هذا التوتر يكسب الشاب تلك الحماسة التي نعيدها في الشباب و تلك الطاقة البسيطة المختزنة المأمونة يستخدمها الشاب لانجاز ما يعجز عن انجازه الشيوخ ، ومن هنا كانت قوة الشباب وغير المتزوجين و في الرياضة البدنية ، والهواية اليدوية مجال لتخفيف ذلك التوتر . إلا أن طموحه السامي ، ومثله العليا ، وهدفه الخالد لتستغرق كل نشاطه. وهكذا تكون تلك الطاقة المختزنة دافعا له ، يحفزه و يقويه للعمل والكفاح [16] .
دكتور جميل نجيب سليمان
عيـد عرس قانا الجليل (يو ٢:١-١١)
تحتفل الكنيسة في 13 طوبة (٢١ يناير) بعيد عرس قانا الجليل. وقد جعلتـه الكنيسة أحد الأعياد السيدية الصغرى السبعة لأن المسيح أجرى فيه “بداية آياته” “وأظهر مجده فأمن به تلاميذه (يو ٢: ١١). وكانت الكنيسة إلى ما قبل القرن الرابع تعيـد للميلاد والغطـاس وعرس فانا الجليل عيدا واحداً جامعاً هو “عيد الظهور الإلهي” أو الـ “إبيفانيـا Epiphany” ففي الميلاد استعلان الرب في التجسد (شهادة الملائكة)، وفي الغطاس استعلانه فـي الأردن ساعة عماده (شهادة الآب والروح القدس)، وفي عرس قانا الجليل استعلانه كالعريس الحقيقي (شهادة المعمدان والعذراء والتلاميذ ورئيس المتكأ). ثم صار الاحتفال بكل عيد علـى حـدة، لينال حقه من التمجيد، كما ينال المؤمنون حقهم من التعليم.
المسيح في العرس:
كانت الأيام الأولى والمسيح يبدأ كرازته. بعد المعمودية أصعد يسوع إلى البريـة حيـث صام أربعين يوما، وبعد التجربة من أيليس، بدأ يجول يصنع خيراً. ومكتوب أن المعمـدان، وهو يعمد في بيت عبرة في عبر الأردن، رأى الرب مقبلا، فقال لمن حوله “هوذا حمـل الله الذي يرفع خطية العالم”، وشهد بما عاينه يوم الظهور الإلهي العظيم. ومرة أخرى في اليـوم التالي، كان واقفاً، مع اثنين من تلاميذه (يوحنا وأندراوس) ونظر يسوع ماشياً فقال من جديـد “هوذا حمل الله” مما جعل التلميذين يسعيان وراء الرب ويطلبان الجلوس إليه، فدعاهما إلـى البيت حيث مكثا معه طويلاً، وربما قضيا عنده الليل. ودعا أندراوس أخاه سمعان وأتى بـه إلى يسوع الذي غير اسمه إلى صفا (الذي تفسيره بطرس). وفي الغد دعا الرب فيلبس وعن طريقة انضم أيضا نثنائيل (برثلماوس) إلى جماعة التلاميذ الصغيرة (يو ١: ٢٦-٥١).
وفي اليوم الثالث كان عرس قانا الجليل. ويذكر الكتـاب “وكانـت أم يسوع هنـاك (يو٢: ١) ويبدو أنها كانت قريبة لأهل العرس، وذهبت مبكرا لتسهم فـي الإعـداد للحفـل “ودعي أيضا يسوع وتلاميذه إلى العرس” (يو ٢: ٢) أي تلاميذه الأوائل الخمسة المذكورين آنفا، لحضور العرس.
ها هو الرب، في بداية خدمته، ومعه أمه وتلاميذه، يشارك الناس أفراحهم، كمـا أن المسيح، بحضوره العرس واقترانه بعمل أولى آياته، بارك الزواج، والكنيسة جعلته ضـمن أسرارها السبعة “هذا السر عظيم” (أف ٥: ٣٢)، ليكن الزواج مكرماً عند كل أحد والمضجع غير نجس” (عب ١٣: ٤). وهي تستعيد حضور المسيح هذا العرس في صلوات الزيجة، فيقول الكاهن “يا من حضر في عرس قانا الجليل بارك هذا الزواج… بركة الرب الحالة فـي بيت العرس بقانا الجليل تحل عليكما وفي منزلكما وتجعل المحبـة فـي قلبيكما.. وتعـم منزلكما.. وتهبكما الحياة الهانئة وتمنحكما أولاداً مباركين”. ويرتل الشمامسة “بركة ربنا في عرس قانا الجليل لـ.. العريس و.. العروس”.
بين العذراء والمسيح:
“ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له: ليس لهم خمر. قال لها يسوع: مـالـي ولـك يـا امرأة. لم تأت ساعتي بعد. قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه” (يو٢: ٣-٥).
تصرفت العذراء مريم كصاحبة بيت وصاحبة دالة عند ابنها يسوع. فعندما عرفت بنفاد الخمر بادرت تطلب تدخل من تثق أنه في حضوره لا يمكن أن نعتاز. وهي فقـط حملـت إليه أمر نفاد الخمر دون أن تسأله شيئاً، وتيقنت أنه سوف يجبر هذا النقص ويرفع عن أهـل العرس حرجهم أمام المدعوين. والعذراء هنا كيهودية تقوم بدورها كأم إسرائيل القديم، وكـام المسيح هي أيضاً أم إسرائيل الجديد. فهي مثل كثيرين يتوسطون العهدين: يوحنـا المعمـدان الذي يقدم لإسرائيل “حمل الله الذي يرفع خطية العالم”، والتلاميذ الاثنـى عـشـر الكـارزين بالخلاص لإسرائيل وكل الأمم، والذين سيجلسون يوما على كراسي فـي ملكوت المسيح تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر” (لو ٢٢: ٢٨-٣٠).
فيما يبدو لم يرح طلب العذراء قلب المسيح، لأنها تعجلت ما لم يكن ينـوي أن يبـدأه الآن، أو لعله رأي فيما سألته تخليا من البشر عن أداء دورهم وبذل جهدهم قبل أن يتطلعـوا إلى حل من السماء، وربما أيضاً لأن الرب كان يدعو للإيمان به كابن الله الآتـي لـخـلاص العالم، دون حاجة إلى معجزات أو عطايا مادية، ويرى في طلب المعجزة لكي يتم التصديق والإيمان ضعفا وقصورا، وهو طوب “الذين آمنوا ولم يروا” (يو ۲۰: ۲۹).
من هنا فقد بادر العذراء بالقول “مالي ولك يا امرأة. لم تأت ساعتي بعـد” (يو ٢: ٤). ورغم ما يبدو من خشونة في ظاهر الكلام، فإن كلمة “يا امرأة. هنا لا تبدو صـادمة كما نراها نحن في بلادنا (على عكس استخدامها في الدول العربية بصورة عادية). ولقـد يـقـال لماذا لم يخاطبها بـ “يا أمي” (بالعبرية أما، والأرامية أم)؟ لعل الرب منـذ أن بـدأ خدمتـه الكرازية لم يقل لها يا أمي حيث “ينبغي أن يكون فيما لأبيه” (لو ٢: ٤٩) وفيما لكـل البـشـر الذين جاء لخلاصهم. ويوما فيوماً بين طفولته وصباه وكرازته “ببشارة ملكوت الله” (مر١: ١٤) حدث الخروج من كنف القرابة الجسدية ليصير قريب الكل. وهو لما أخبروه يوما، وهو في بيت يعلم ويشفي، أن أمه وإخوته خارجا يطلبونه، أشار إلى تلاميذه وقـال هـا أمـي وإخوتي. لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمـي” (مـت ۱۲: ٤٩، ٥٠)، (مر٣: ٣٤-٣٥). لقد اتسعت عائلته لتضم كل من يؤمن.
ودليلنا أن كلمة “يا امرأة” التي خاطب بها الرب أمه لا يمكن أن تحمل أي شبهة للإهانـة أو الخشونة، أن قائلها هو الرب “الذي لم يعرف (يعمل) خطية (ولا وجد فـي فـمـه مـكـر)” (٢كو٥: ٢١)، ( ١بط٢: ٢٢)، كما أنه استخدمها أيضاً في ساعة حنان واهتمـام بـأمر أمـه العذراء، وهو في عمق آلامه معلقاً على الصليب، وهو يودعها لرعاية التلميذ الذي كان يحبه قائلاً “يا امرأة. هوذا ابنك” (يو ١٩: ٢٦، ٢٧) . فقولها وسط هذه الظروف الأليمـة ينفـي عنها أي نوع من الإساءة.
ولم تأت ساعتي بعـد تشير إلى أن هناك مشيئة إلهية لكل عمل يقـوم بـه الابـن المتجسد على الأرض، باعتبار أن بدء خدمته الجهادية يعني بـدء الطريـق الـذي ينتهـي بالصليب. فالعذراء كأنما استبقت الوقت المعين الذي حدده.
على أن العذراء تفهمت ما قصده الرب ولم تنزعج. وألهمها الروح أن تقبل الترتيب الإلهي وأن تأخذ مكانها وسط جماعة المؤمنين، وألا يكون ابنها لها وحدها كسائر الأمهات، وإنما هـو لكل المؤمنين، وهو مخلصها (لو ١: ٤٧) ومخلص الجميع. وهي أدركت فيما بعـد أن اختيار السماء لها أن تكون أم مخلص العالم، وإن كان قد وهبها المقام السامي بين البشر، ولكـن كـان عليها أيضاً أن تحتمل كأم ما جاز فيه ابنها من آلام الصليب والموت، فيجوز في قلبهـا سـيف وتلتهب أحشاؤها (لو ٢: ٣٥). ولكن سيبقى لها أنها أطاعت قائلة للملاك المبشر “هوذا أنا أمـة الرب ليكن لي كقولك” (لو ١: ٣٨)، وفازت كما ذكرت في تسبحتها أمام أليصابات بأن “جميـع الأجيال تطويني” (لو١: ٤٨)، وأنها أم كل القديسين والمتشفعين من أجل البشر.
مع هذا، كانت العذراء واثقة من تحنن الرب وأنه سيتدخل في وقته المعين، لذا فقد أشـارت على الخدام بغير تردد وبما يشبه الأمر “مهما قال لكم فافعلوه” (يو٢: ٥). وإلى آخر الأيام ستظل هذه خدمة العذراء وسائر القديسين، للمؤمنين الطالبين معونتهم، أن يرفعوا طلباتهم أمـام عـرش النعمة ومكتوب أن “طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها” (يع٥: ١٦). فهم شفعاء بالتوسـل عنـد الوسيط الواحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح” (اتي ٢: ٥) و”الشفيع عنـد الله الآب يسوع المسيح البار” (١يو ۲: ١). ورسالتهم التي يوجهونها إلى من يتشفع بهم أن ينصتوا إلـى صوت الرب ويطيعوا وصيته في الكتاب، وينتظروا تدخل الرب في الوقت الذي يختاره.
المعجزة :
ربما بعد هنيهة، وبدافع محبته لأمه الذي لم يشأ أن يخذلها، ورفعاً للحرج عن أهل العرس الذين أكرموه بدعوته هو وتلاميذه، قال الرب للخدام: “املأوا الأجران ماء” (يو ۲: ۷) فهو ينوي أن يجعل الخير فائضاً على مثال “فيض النعمة وعطية البـر” (رو ٥: ۱۷) و”غنـى المسيح الذي لا يستقصي” (أف٣: ٨). وبعد أن ملأوا الأجران “إلى فوق”، وبغير أن يتـرك الرب طلبه أو يرفع طلبته أو يلمس الماء أو الأجران أو يتذوق محتواها للتأكد، فهو العـارف بكل شيء والقادر على كل شيء، قال للخدام “استقوا الآن، وقدموا إلى رئيس المتكأ (يو ۲: ٨). الرب أمر وهو على البعد، والماء تحول إلى خمر في لحظة، وهو حتـى لـم يستخدم بقايا خمر، فالخمر كانت قد نفدت وهو دائما الوقت المناسب لتـدخل الـرب بعـد أن يستنفد الجهد والموارد، ويقر المرء بفشله، لكي يسطع مجد الرب وتظهر قوته.
العريس:
فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمراً، ولم يكن يعلم من أين هـي (فكـل مـا جرى كان بعيداً عن مكان الحفل واعين المدعوين) دعا العريس وقال له (متعجباً): كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولا، ومتى سكروا فحينئذ الدون (لأنهم ساعتها لن يكونوا في وعيهم ليميزوا الجيد من الرديء) أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن” (يو ٢: ١٠)، فهـو يعبر عن دهشته من أن يؤتى في نهاية الحفل بخمر جيدة على غير المعتاد. والمقصود أيضاً أن الخمر كانت سائغة المذاق ولا تسكر فلا يمكن لصانع الخيرات إلا أن يصنع خيرا وحسناً. ولابد أن الخدام فيما بعد أفصحوا عما جرى. وربما حكت العذراء أيضاً لأقاربها ومعارفهـا وهكذا تحول مركز الثقل وموضع الاهتمام من العريس إلى شخص المسيح الذي كان حتـى قبـل قليل ضيفا مدعوا، ولكنه بعد أن سد الأعواز ساعة الاحتياج صار نجم الحفل والعريس الحقيقي (مت۹: ١٥، ٢٥: ۱، مر ۲: ۱۹، ۲۰، یو ۳: ۲۹)، والكنيسة هي العروس (یو ۳: ۲۹، رؤ۱۹: ۷، ۲۱: ۲، ۹، ۲۲: ۱۷) وأعضاؤها هم بنو العرس، وفترة وجوده على الأرض كانـت حفلـة عرس تنبيء عن العرس الممتد في الملكوت على الدوام الذي أشار إليه الرب كثيراً “إنساناً ملكـاً صنع عرساً لابنه” (مت۲۲: ۲)، “هوذا العريس مقبل فاخرجن للقائه” (مت٢٥: ٦)، “وأنتم مثـل أناس ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس حتى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقـت” (لـو ١٢: ٣٦)، “طوبي للمدعوين إلى عشاء عرس الخروف” (رؤ١٩: ٩).
“أظهر مجده فآمن به تلاميذه” (يو١١:٢)
كما رأينا فالمدعوون أظهروا إعجابهم بطعم الخمر الجيدة ولم يزيدوا. ولكـن تلاميـذه بنـو الملكوت “مجدوا الله في عمله المعجزي وقدرته الفائقة فازداد ايمانهم بـه. . وخلال خدمـة المسيح أعجبت امرأة بكلامه فطوبت البطن التي حملته والثديين اللذين رضعهما، فبادرهـا الـرب بالقول “بل طوبي للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه” (لو ۱۱: ۲۸). فالتوقف عند حد الإعجـاب بكلام الله، أو مجرد الاندهاش عند رؤية الآيات (كما كان يفعل سيمون الـساحر بعـد أن أمـن واعتمد – أع ٨: ١٣ – من الإبركسيس) لن يرضي الله ولن يغير الإنسان، وإنما حفظ كـلام الله وطاعته وتمجيد اسمه ونمو الإيمان به. وهناك من كانوا يتبعون الرب سعيا وراء شـبـع بطـونـهم من الخبز المجاني فقال لهم “اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية” (يو ٦: ٢٧).
الإيمان الحقيقي الثابت هو طريق ذو اتجاه واحد ولا يمكن الرجوع فيـه مـهـمـا كـانـت الأحوال. والمؤمن الحقيقي بعد اختباره لا يحتاج إلى معجزات ولا إلى رؤى. هـو يـقبـل المسيح الذي أحبه أولاً، وتكفيه معجزة تجسده وأنه مات من أجله، وليس له إله آخر، ويقـول للرب مع الرسول بطرس “يارب إلى من نذهب كلام الحياة الأبدية عندك. ونحن آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي” (يو ٦: ٦٨، ٦٩). وفي هذا الصدد فإن الرب قبل أن يـشفي ابن خادم الملك في كفرناحوم أبدى عدم رضاه قائلا لائما “لا تؤمنون إن لـم تـروا آيـات وعجائب” (يو ٤: ٤٨)، وبعد المعجزة يسجل الكتاب “فآمن هو وبيته كله” (يو٤: ٥٣). هـل لا نزال في حاجة إلى معجزة لكي نظل على إيماننا بالرب؟!
بعد المعجزة:
من الواضح أن العذراء فطنت إلى الموقع الذي أراده لها الرب: أن تخرج من محدوديـة دورها كام إلى رحابة جماعة المؤمنين لتكون أما روحية لهم وللكنيسة، كما أن المسيح ليس فقط ابنها، ولكنه مخلص كل البشر، رأس الكنيسة وإله الجميع. ففي نهاية المعجزة يـذكر الإنجيل وبعد هذا انحدر (الرب) إلى كفرناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه وأقاموا هنـاك أياماً ليست كثيرة” (يو٢: ١٢). فها هي العذراء تلتئم مع التلاميذ ضمن جماعـة واحـدة… كنيسة في جسد المسيح وهو رأسها، ويجمعها به الإيمان المشترك. كما نراها بعـد صعود الرب في العلية مع الاثنى عشر والنساء وإخوة الرب بالجسد “يواظبون بنفس واحـدة علـى الصلاة والطلبة” في انتظار حلول الروح القدس يوم الخمسين (أع ١: ١٤).
كما رأينا، فقد كان حضور يسوع العرس مصدراً للفرح والبركة. وإذا كان الـرب واقفـاً على الباب يقرع مستعداً لن يدخل للعشاء (رؤ ۳: ۲۰)، فلنفتح له أبوابنا للدخول، ليس فقـط للعشاء، وإنما نلزمه أن يمكث معنا (لو٢٤: ٢٩)، ففي حضوره الدائم فينا ينعقد عرس حياتنا الذي يستكمل في الأبدية [17].
من وحي قراءات اليوم
” فملأوها إلي فوق ” إنجيل القدَّاس
+ عجيبة هذه الآية وهذا التعبير الذي يُعْلِن ماذا فعل الخدّام بدعوة الرب
+ المطلوب خمر والرب يطلب منهم أن يملأوا الأجران ماء
+ ورغم غرابة الطلب ولا معقوليته ملأوها إلي فوق
+ كان يمكن أن يملأوه للمنتصف أو لأكثر قليلاً
+ كانت هذه أوِّل مُعجزة للرب فمن أين جاءت ثقتهم في كلمته وخبراتهم عن معجزاته
+ والعجيب طلبه منهم بعدها مُباشرة أن يُقَدِّموا إلي رئيس المُتَّكأ
+ وهم أطاعوا ببساطة رغم غرابة الطلب الأوَّل ولا معقولية الطلب الأخير
+ الماء هو إمكانيِّاتنا البسيطة التي نستصعب أن يُعطينا الرب من خلالها ملء الفرح
+ وأجراننا هي نفسيتنا الضعيفة وأوانيناً الخزفية التي يُرِيد الله أن يضع كنزه فيها
+ فهل نَتَمثَّلٌ بالخُدَّام فنقبل حضوره ونُطيع كلمته ببساطه التي تقودنا لخمر الروح الجيدة التي تُنْعِش الروح والنفس والجسد
المراجع
٧٩- القديس أغسطينوس – تفسير إنجيل يوحنا الإصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
٨٠- الأب ثيؤودورت أسقف كورش – أعمال ١٦
٨١- البابا غريغوريوس (الكبير) – تفسير إنجيل يوحنا الإصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
٨٢- كتاب أم الفرح وبناتها صفحة ١٢ – الأستاذة إيريس حبيب المصري
٨٣- (Herziene Statenvertaling , Het evangelie van Johannes , hoofdstok 2 : 6 , note van de opname )
٨٤- كتاب السنة الكنسية القبطية ص ١٦ – يسي عبد المسيح – إصدار الأغسطس نبيل فاروق فايز
٨٥- تفسير إنجيل يوحنا (الإصحاح الثاني ) – القمص تادرس يعقوب ملطي
٨٦- المرجع : كتاب العذراء في فكر الآباء – القمص بنيامين مرجان باسيلي
٨٧- المرجع : مجلة مدارس الأحد عدد شهر أبريل لسنة ١٩٦٤ – ترجمة الأستاذ شوقي ميخائيل
٨٨- مجلة مدارس الأحد عدد شهر مايو لسنة ٢٠٠٥
٨٩- كتاب عظات علي سفر التكوين للقديس يوحنا ذهبي الفم – ترجمة دكتور جورج فرج ومراجعة دكتور جورج عوض إبراهيم
٩٠- كتاب من مجد الي مجد للقديس غريغوريوس النيسي – ترجمة القمص إشعياء ميخائيل
٩١- كتاب المنجلية القبطية الأرثوذكسية – قداسة البابا تواضروس الثاني
٩٢- كتاب القديسة مريم العذراء في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية بقلم قداسة العلامة البطريرك زكا الأول عيواص (صفحة ٢٦ )
٩٣- كتاب تأملات وعناصر روحية في آحاد وأيام السنة التوتية ( الجزء الرابع ) – إعداد القمص تادرس البراموسي
٩٤- : مجلة مدارس الأحد عددي شهر أغسطس لسنة ١٩٤٩ ، شهر ديسمبر لسنة ١٩٥٦