“( وعلمه فوقي محبة “( نش ٤:٢
نعم حقاً نسبحك. نعم حقاً نمجدك. يا ربى يسوع المسيح مخلصى الصالح.
لا نتعب أبداً. ولا نكف عن تسبيحك. يا ربى يسوع المسيح مخلصى الصالح ابصالية السبت
المحبة الكاملة هي أن يود الإنسان أن يقدم حياته من أجل كل البشر. لكن هل يبلغ الحب كل هذا العلو دفعة واحدة؟ لا، فإنه إذ يُولد يحتاج أن ينتعش، وإذ ينتعش يتقوى، وإذ يتقوى يصير كاملًا[1]
شواهد القراءات
(مز ١٨ : ١ ، ٤) ، (يو ١٥ : ٧ – ١٦) ، (مز ٤٤ : ١-٤) ، (يو ١ : ١ – ١٧) ، (رو ١٠ : ٤ – ١٨) ، (١يو ١ : ١ – ٢ : ١ – ٦) ، (أع ٣ : ١ – ١٦) ، (مز ١٣٨: ١٥-١٦) ، (يو ٢١ : ١٥ – ٢٥)
ملاحظات علي قراءات يوم ٤ طوبة
+ قراءة إنجيل عشيّة اليوم (يو ١٥ : ٧ – ١٦) هي نفس قراءة إنجيل عشيّة يوم ٢٨ مسري ( تذكار نياحة الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب )
وهي القراءة التي تتكلم عن صداقة الله مع الإنسان ، وأسرار الله المُعلنة لأولاده الأحباء ، والتي كان أبونا إبراهيم نموذجاً لها في العهد القديم (تك ١٨ : ١٧) ، ويوحنا الحبيب في العهد الجديد (يو ١٣ : ٢٥)
+ قراءة إنجيل باكر اليوم (يو ١ : ١ – ١٧) هي نفس قراءة إنجيل القداس ليوم ٢٤ هاتور ( تذكار الأربعة والعشرين قسيساً )، وإنجيل باكر ليوم ١ نسئ ( شهادة أفتيخوس تلميذ يوحنا الإنجيلي )
جاءت إفتتاحية إنجيل يوحنا الحبيب لأجل تذكاره ( ٤ طوبه ) ، وتذكار تلميذه ( ١ نسئ ) ، أمّا مجيئها في تذكار الأربعة والعشرين قسيس للإشارة إلي رسالة كهنوت العهد الجديد وهي الشهادة للنور الحقيقي مثل يوحنا المعمدان (يو ١ : ٧)
كما أنها تُشبه قراءة إنجيل باكر (يو ١: ١٤ – ١٧) ليوم ٢٩ كيهك وهو الموافق لعيد الميلاد المجيد ، والكلام هنا يخص تجسّد الكلمة (يو ١ : ١٤) ، وقراءة إنجيل القداس (يو ١ : ١ – ١٣) ليوم ٣٠ كيهك ، وهو اليوم الموافق لنياحة القديس يوأنس قمص شيهيت ، وهنا التركيز علي صورة أولاد الله المولودين ليس من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله ولدوا ، والذين شهدوا للنور الحقيقي في حياتهم
+ قراءة البولس اليوم (رو ١٠: ٤ – ١٨) تكررت في قراءات أيّام ٢٦ بشنس ، ٥ أبيب ، ١ نسئ
وهي القراءة التي تختص ببرّ العهد الجديد وكرازة الرسل للشعوب والأمم
لذلك جاءت في تذكار يوحنا الحبيب ( ٤ طوبه ) وتلميذه ( ١ نسئ ) وتوما الرسول ( ٢٦ بشنس ) وبطرس وبولس الرسولين ( ٥ أبيب )
+ قراءة الكاثوليكون اليوم (١يو ١: ١ – ٢ : ١ – ٦) تكررت أيضاً في قراءات يومي ٢٩ برمهات ، ١ نسئ
وهنا الرسالة من يوحنا وشهادته التي بدأ بها رسالته لذلك جاءت في تذكاره ( ٤ طوبه ) وتذكار تلميذه ( ١ نسئ ) وعن ظهور الله في الجسد كشاهد عيان لها لذلك جاءت في قراءة عيد البشارة ( ٢٩ برمهات )
كما أنها تُشبه قراءة الكاثوليكون (١يو ١: ١ – ٢ : ١ – ٢) للأحد الثاني من كيهك
مجئ القراءة اليوم (يحكي من خلال الآيات الزائدة من ٣ الي ٦ عن قراءة الأحد الثاني من كيهك ) كيف نعيش في كمال المحبَّة الإلهية ، التي كانت سيرة القديس يوحنا الإنجيلي
أمَّا مجيئها في قراءة الأحد الثاني من كيهك للإشارة إلي الظهور الإلهي لإبن الله في الجسد ” فإن الحياة أظهرت … ”
+ قراءة الإبركسيس (أع ٣ : ١ – ١٦) اليوم تكررت في أيام ٢٦ بشنس ، ٥ أبيب ، ١نسئ
تتكلّم هذه القراءة عن ذهاب القديس بطرس والقديس يوحنا للهيكل للصلاة ومعجزة شفاء المُقعد من بطن أُمه وشهادة القديس بطرس أمام الجميع بقوة قيامة المسيح
لذلك تأتي في تذكار يوحنا الحبيب ( ٤ طوبه ) وتذكار بطرس وبولس (٥ أبيب ) وأبو يحنس تلميذ يوحنا الحبيب ( ١ نسئ ) وأيضاً في تذكار توما الرسول ( ٢٦ بشنس )
ومجيئها اليوم لأجل ذهاب يوحنا الحبيب إلي الهيكل
القراءات المُحوَّلة علي قراءة هذا اليوم
٢٤ كيهك شهادة أغناطيوس تلميذ يوحنا الإنجيلي
٢٩ أمشير شهادة القديس بوليكربوس تلميذ يوحنا الإنجيلي
١٦ برمودة شهادة القديس أنتيباس تلميذ يوحنا الإنجيلي
١٦ بشنس تكريس كنيسة علي إسم القديس يوحنا الإنجيلي في الإسكندرية
١٦ أبيب نياحة القديس يوحنا صاحب الإنجيل الذهب
شرح القراءات
تذكار اليوم هو نياحة القديس يوحنا إبن زبدي الإنجيلي ومُحوّل عليه خمسة قراءات منهم ما يخص تلاميذ القديس مثل القديس أغناطيوس (٢٤ كيهك ) والقديس بوليكربوس ( ٢٩ أمشير ) والقديس أنثيبوس ( ١٦ برمودة ) أو مايخص الإسم يوحنا فقط مثل نياحة يوحنا صاحب الإنجيل الذهب ( ١٦ أبيب )
وتزامن قراءات اليوم بعد تجسد الكلمة وميلاده المجيد وظهور نوره للأمم مع تذكار القديس يوحنا الإنجيلي يُشير إلي شهادته لنعمة العهد الجديد ومجد أولاد الله وغني استعلان محبّة الآب للبشر
لذلك تدور قراءات اليوم علي شهود نعمة العهد الجديد وشهود مجد الله
تبدأ المزامير بمجد الله الذي تُعلنه الخليقة كما كرازة الرسل (مزمور عشيّة )
وصلاح القلب ونعمة كلام الشفتين ( مزمور باكر )
ونمو الكنيسة بقديسين أكثر من الرمل ( مزمور القداس )
في مزمور عشية يُسْتَعلن مجد الله في الخليقة وفِي كرازة آبائنا الرسل الأطهار في كل الأرض ولجميع الشعوب
( السموات تُذيع مجد الله الفلك يُخبر بعمل يديه في كل الأرض خرجت أقوالهم وإلي أقطار المسكونة بلغت تعاليمهم )
وفِي مزمور باكر تنسكب النعمة في القلوب والشفتين وتقدِّس الكيان كله
( فاض قلبي كلمة صالحة أقول أنا أعمالي أنا للملك إنسكبت النعمة من شفتيك لذلك باركك الله إلي الدهر )
وفِي مزمور القداس يُثمر الميلاد المجيد لإبن الله بكرامة ومجد ونمو قديسي العهد الجديد أكثر من الرمل كما يُعَبَّرْ عنه في ذلك المزمور الذي يسمِّيه المفسرين مزمور العلاقة العجيبة لله مع الإنسان وغني حبّه له
( وأنا لقد أكرم عليَّ جداً أضفياؤك يا الله واعتزت جداً رئاستهم أحصيهم فيكثرون أكثر من الرمل )
وتتكلّم القراءات عن غني شهادة الكارزين والآباء الرسل في إيمانهم وطاعتهم للكلمة الإلهية ( البولس )
وفِي شهادة حياتهم ومحبتهم ( الكاثوليكون )
وفِي رصيدهم الإلهي إسم المسيح ( الإبركسيس )
يبدأ البولس بالكلام عن كلمة الإيمان ودعوة الخلاص وقبولها وطاعة الإنجيل واستعلان ذراع الرب في انتشار الكرازة
( أي كلمة الإيمان التي نُنادي بها لأنك إن اعترفت بفمك أن الرب هو يسوع وآمنت بقلبك أن الله قد أقامه من بين الأموات فإنك تخلص … لأنه لا فرق بين اليهودي واليوناني إذ للجميع ربّ واحد غنيّ لكلّ من يدعوه لأن كل من يدعوا بإسم الرب يخلص … ما أجمل أقدام المبشِّرين بالخيرات لكن ليس الجميع قد أطاعوا الإنجيل لأن أشعياء يقول يارب من آمن بخبرنا ولمن أستعلنت ذراع الرب إذاً الإيمان بالسمع والسمع بكلمة المسيح لكنني أقول ألعلَّهم لم يسمعوا وكيف ذلك وقد خرج صوتهم إلي الأرض كلها وإلي أقاصي المسكونة بلغت أقوالهم )
ويتكلّم الكاثوليكون عن غني شهادة الكارزين في شركتهم مع المسيح وسلوكهم في النور وحفظهم كلمته وثباتهم فيه وكمال محبة الله فيهم
( الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهه كلمة الحياة فإن الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونعلمكم بالحياة الأبديّة التي كانت عند الآب وأظهرت لنا … ولكن إن سلكنا في النور كما هو ساكن في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض ودم يسوع المسيح إبنه يطهرنا من كل خطيّة … من يقول إني قد عرفته وهو لايحفظ وصاياه فهو كاذب وليس الحق فيه وأما من يحفظ كلمته فحقاً في هذا قد كَمُلت محبة الله بهذا نعلم أننا ثابتون فيه من يقول إني ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضاً )
وفِي الإبركسيس الرصيد والضمان للكارزين إسم المسيح الذي يهب الشفاء ويعطي القوة للشهادة لقيامته
( فقال بطرس ليس لي فضة ولا ذهب ولكن الذي لي فإيّاه أعطيك بإسم يسوع المسيح الناصري قم وأمش وأمسكه بيده اليمني وأقامه ففي الحال تشدّدت ساقاه وكعباه فوثب ووقف وصار يمشي ودخل معهما إلي الهيكل وهو يمشي ويثب ويسبّح الله …. ورئيس الحياة قتلتموه هذا الذي أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك وبالإيمان بإسمه هذا الذي ترونه وتعرفونه إسمه الذي ثبت والإيمان الذي بواسطته أعطاه هذه الصحة أمامكم أجمعين )
أما الأناجيل فتتكلّم عن غني محبة الله التي تجعلنا أصدقائه ( إنجيل عشيّة )
وغني نعمته التي تعطينا سلطان أولاد الله ( إنجيل باكر )
وغني غفرانه الذي يحتوي كل الضعف البشري ( إنجيل القدَّاس )
يتكلَّم إنجيل عشيّة عن غني محبة الله التي إن ثبتّنا فيها نتمتَّع بصداقته الإلهية ونمتلئ من الفرح ويدوم ثمره فينا
( ان حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي … لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم … لكني قد دعوتكم أصدقائي لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي … وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم )
ويتكلّم إنجيل باكر عن غني النعمة التي تُصيّرنا أولاد الله فنري مجده ونمتلئ من نعمته
( وأما كلُّ الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله … والكلم صار جسداً وحلَّ بيننا ورأينا مجده … لأنه من ملئه نحن جميعاً أخذنا )
وفِي إنجيل القدَّاس عن غني الغفران الإلهي الذي يحتوي كل ضعفنا وجهلنا وتأكيد الرب لبطرس علي محبّته له غير المشروطة وغير المحدودة
( قال يسوع لسمعان بطرس يا سمعان إبن يونا أتحِبُني أكثر من هؤلاء قال له نعم يارب أنت تعلم إني أحبك قال له أرع خرافي )
ملخّص القراءات
عمل الله ( الظهور الإلهي ) سيملأ كل الأرض وإنسكاب النعمة من تجسّد الكلمة سيجعل البشر قديسين أكثر من رمل الأرض مزمور عشيّة وباكر والقدّاس
والشهادة للكلمة المُتجسِّد تظهر في الطاعة لكلمته والسلوك في النور والإغتناء بإسمه القدّوس
البولس والكاثوليكون والإبركسيس
أفكار مقترحة للعظات
(١) برّ المسيح
١- المبادرة ودعوة الحب دائماً من الله أولاً
” ليس أتم أخترتموني بل أنا اخترتكم وأطلقكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم ” إنجيل عشيّة
٢- سخاء عطايا الله للإنسان
” لأنه من ملئه نحن جميعاً أخذنا ونعمةً فوق نعمةٍ ” إنجيل باكر
٣- إستجابة الإنسان يجب أن تكون من القلب
” لأن القلب يؤمن به للبر وبالفم يعترف به للخلاص ” البولس
٤- شفاعة ابن الله الكفَّارية
” وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار ” الكاثوليكون
٥- غني إسم المسيح فوق كل إمكانيات البشر
” فقال بطرس ليس لي فضة ولا ذهب ولكن الذي لي فإياه أعطيك بإسم يسوع المسيح الناصري قم وإمش ” الإبركسيس
٦- تجديد دعوة الحب يتجاوز كل الضعف البشري
” يا سمعان بن يونا أتُحبُّني أكثر من هؤلاء قال له نعم يارب أنت تعلم إن أحبك قال له أرع خرافي ” إنجيل القدَّاس
(٢) ثمار ظهوره الإلهي فينا
١-تلاميذي – أصدقائي
” بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذي … لكني قد دعوتكم أصدقائي ” إنجيل عشيّة
٢- أولاد الله – مولودين من الله
” وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله … الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله ” إنجيل باكر
٣- المبشِّرين بالخيرات
” كما هو مكتوب ما أجمل أقدام المبشرين بالخيرات ” البولس
٤- ثابتون فيه
” وأما من يحفظ كلمته فحقاً في هذا قد كملت محبة الله بهذا نعلم أننا ثابتون فيه ” الكاثوليكون
٥- شهود
” ورئيس الحياة قتلتموه هذا الذي أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك ” الإبركسيس
(٣) الشركة مع الثالوث الكاثوليكون
١- ظهور الحياة الأبديّة
” فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونُعلمكم بالحياة الأبديّة التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا ”
٢- ملء الفرح
” وأما شركتنا نحن فهي مع الآب وإبنه يسوع المسيح وهذا ما نكتبه إليكم لكي يكون فرحكم كاملاً ”
٣- أعمال النور
” وهذا هو الوعد الذي سمعناه منه ونبشركم به : أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة فإن قلنا أن لنا شركة معه ونسلك في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق ”
٤- الغفران الكامل والدائم لكل التائبين
” وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم ”
٥- كمال الحب الإلهي
” وأما من يحفظ كلمته فحقاً في هذا قد كَمُلت محبة الله بهذا نعلم أننا ثابتون فيه ”
عظات آبائية
القديس كيرلس الأسكندري
مفهوم التلميذ الذي كان يسوع يحبه في فكر القديس كيرلس الكبير
(يو ١: ٢٣ – ٢٦): “وكان متكئا في حضن يسوع واحد من تلاميذه، كان يسوع يحبه. فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه. فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له: يا سيد، من هو؟ أجاب يسوع: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه”.
من الطبيعي أن نمتلئ بالإعجاب، للغيرة والحمية اللتان ظهرتا من التلاميذ القديسين وخاصة مما حدث بعد هذا القول، في حبهم لله، وبسبب تدقيقهم الشديد في تقواهم وإخلاصهم للرب.
فلأنهم لم يتمكنوا بأنفسهم أن يعرفوا من هو الشخص المذنب، أيا كان هذا الشخص، ولأنهم رفضوا أن يضعوا ثقتهم في أمور غير أكيدة ومشكوك فيها ، فإنهم يستسلمون لحب الاستطلاع عن طريق الأسئلة، وجعلوا واحدا بارزا بينهم . وأعني به بطرس . هو الذي ينوب عنهم في اشتياقهم لمعرفة الحقيقة. ولكن بطرس يتحاشى أن ينطق السؤال بفمه هو شخصيا، ويستودع مهمة توجيه السؤال للتلميذ الذي كان متكئا في حضن المسيح، والذي كان المسيح يحبه بسبب نقاوته الواضحة جدا، وأعني به يوحنا، كاتب هذه البشارة التي أمامنا؛ الذي عندما يتحدث عن نفسه بأنه التلميذ الذي يحبه المسيح، فإنه أخفى إسمه، ودفنه في صمت، لئلا يبدو لأي إنسان أنه يظهر نفسه بإفتخار. لأنه عقل القديسين لا يتلوث بمثل هذه الشهوة. وهكذا فإذ إتجه بلطف نحو سيده ، وفي همس خفى حاول أن يعرف من هو الذي يكون “إبن الهلاك” انظر( يو ١٧ : ١١)
ولكن المخلص لم يعطه أي توضيح أكثر عن الأمر سوى ما سبق أن أنبأ به الأنبياء قديما بالقول: ” الذي يأكل خبزي رفع على عقبه” انظر (مز ٤١: ٩)
فحينما غمس اللقمة، أعطاها ليهوذا، مبينا بهذا أنه هو الذي كان يأكل خبزه. وهكذا أزال الخوف الذي شعر به التلاميذ القديسون، كما يبدو أيضا إنه يذكرهم بنبوة أخرى وهي التي تقول: ” بل أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي. الذي معه كانت تحلو لنا العشرة: إلى بيت الله كنا نذهب في الجمهور” انظر (مز ٥٥: ١٣، ١٤)
ففي وقت ما كان الخائن نفسه رفيقا وصديقا للمخلص، يأكل معه على نفس المائدة، ويشترك في كل شيء مما يحسب علامة مميزة للتلمذة؛ إذ أنه كان له نصيب بين التلاميذ القديسين الآخرين، الذين إذ كرسوا كل حياتهم للمخلص وهم يجولون برفقته في طول اليهودية وعرضها، فقد كانوا ملازمین له بكل غيرة في كل أعماله المقتدرة، وكانوا يسرعون في كل المناسبات لكي يفعلوا كل ما يمكن أن يؤدي إلى مجده وكرامته. ومع ذلك فإن هذا الصديق المرافق إستبدل العبادة والشكر التي تحق لذلك الذي قد كرمه هكذا، بأن يستعبد للشهوات الدنيئة.
لاحظوا أيضا، كيف أن الإنجيلي الحكيم، يستثيرنا لكي تكون لنا الرغبة في الحياة بالطريقة التي تتفق تماما مع العقل، وأن يدرب قوانا العقلية بإشتياق، لكي نتمكن وبسهولة تامة أن نعمل بحسب المقاصد الإلهية، وأن نسعى . بقدر ما نستطيع أن نتمم بصورة شاملة . الشروط اللازمة لرؤية الله. فهو يخبرنا أنه كان هو نفسه موضع تكريم ومحبة من المسيح مخلصنا، حتى إنه يجلس بجواره، وفي الواقع يتكئ في حضن الرب، معتبرا هذا الأمر علامة على محبة الرب الفائقة له.
لذلك، فالذين سيكونون أقرب إلى الله، وفي أعلى مكان في إكرامه لهم، هم أولئك الذين تكون قلوبهم نقية: ويهبهم المخلص نفسه أيضا كرامة عظيمة حينما يقول ” طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعانون الله”
(متى ٥: ٨)
وكبرهان على صدق هنا القول، نأتي بهذا الإنجيلي الحكيم نفسه. لأنه قد رأي مجد المسيح – بحسب
كلماته هو نفسها عندما قال: ” رأينا مجده، مجدا كما لوحيد من الآب، مملوء نعمة وحقا” (يو ١: ١٤).
فبالتأكيد لا يستطيع أحد أن يتفرس – بالعيون الجسدية – في طبيعة ذاك الذي لا يمكن أن يرى مطلقا بالنسبة لكل المخلوقات.
لأنه، بحسب كلمات المخلص: “ليس أن أحدا رأى الآب إلا الذي من الله (يو ٦: ٤٦)
أي الإبن؛ هو الذي رأى الآب. فالذين يحفظون عقولهم غير ملوثة بصبغة العالم، والذين يتحررون من التصورات الباطلة الخاصة بهذه الحياة، فيبدو أن المسيح يكشف لهم مجده الخاص بطريقة سامية جدا وربما تفوق الإدراك، وبهذا يريهم أيضا مجد الآب. فلابد أنه بهذا المعنى، قال ” من رأني فقد رأي الآب” (يو ١٤: ٩)[2]
القديس غريغوريوس النيسي
شهود الحق والحقيقة
الواحد دُعى رأس وقمة الخورس الرسولي، نال المجد المقابل لرتبته، بواسطة ألم الصليب المحرر. لأن ذاك الذي علق على الصليب، صار نموذجا للصورة الملوكية (وأعني بالصورة الملوكية، الصليب)، ولم يخجل من إجتياز الألم، بل إفتخر بعلامة الإنتصار (الصليب). لأنه، لم ينل هؤلاء، ولا نحن، ولا الآتيين بعدنا، ولا أي أحد آخر، المجد الذي لربنا يسوع المسيح، هكذا يؤكد الرسول بولس. وهكذا يتضح أيضا، كيف يكرم القديس بطرس، صليب المسيح المكرم. لأنه حكم أنه مستحق بخشوع كبير وورع، أن يصلب منكس الرأس، حتى لا يظن، أنه مساؤ للمخلص الذي صلب لأجل البشرية كافة، وبأيدي مفتوحة، ليحتضن كل المسكونة. بالنسبة ليعقوب أيضا، فقد قطعوا رأسه، خاصة وأنه كان متعجلاً أن يتمتع برأسه الحقيقة يسوع المسيح ربنا. لأن رأس الإنسان بحسب الرسول بولس هو المسيح(١كو١١: ٣)، وهو رأس الكنيسة: « كما أن المسيح أيضا رأس الكنيسة»(أف٥: ٢٣)، أخيرا فإن المطوب يوحنا، بعدما جاهد طوال حياته، بجاهدات مختلفة، وتميز بشهادة الكثيرين، بالتقوى والورع، حكم عليه، بأن يوضع في ماء مغلي، وأحصي ضمن حقل الشهداء (لأن الشهادة بحسب حكم القضاة العادلين، لا يحكم عليها، كعاقبة أو خاتمة للحياة، بل بقبول ورضى الإرادة ).
هذه كانت هي الطريقة التي إستشهد بها هؤلاء الرسل، والذين منحوا الكنائس، بموتهم، تذكاراتهم الخالدة، بالحقيقة، يجب أن تؤدى تذكارات هؤلاء الرجال القديسون الذين ذكروا من الكافة، ليس فقط بسبب توافقهم في السلوك بتقوى وورع، بل بسبب المساواة في إستحقاقهم للحياة الأبدية. لأن هؤلاء الثلاثة (بطرس، ويعقوب، ويوحنا)، كانوا دائما مع الرب، وكانت لهم مكانة متميزة ودالة كبيرة، عن بقية الرسل، والتي لم ينالوها بسبب الصداقة الإنسانية، بل بسبب الحكم الإلهي لمكانتهم، وقيمتهم الحقيقية. ولذلك، نجد أن الرب في المعجزات العظيمة التي أجراها، كان يأخذ هؤلاء فقط معه، کشهود موضع ثقة، وصادقين جدا. وهذا قد حدث على الجبل (لأن بطرس ويعقوب ويوحنا) كانوا هناك، عندما تجلى الرب وتغيرت هيئته، وأضاء وجه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور، وكان معه موسى وإيليا، وإذ سحابة نيرة ظللتهم، وهناك أظهر لهم تلك الصورة العظيمة التي لملكوت الله. نفس الأمر حدث في حالة إبنة يايرس التي كانت قد ماتت، وأقامها الرب(مر٥: ٣٧). لأن هناك كان هؤلاء الثلاثة موجودين أيضا، وشهود على هذه المعجزة. وحتى لا أطيل في هذه الوقائع واحدة تلو الأخرى، أشير أيضا إلى ساعات آلامه الخلاصية، فقد أخذ معه نفس التلاميذ، وقال لهم وهم المؤمنون به، والمكرسون له: « الآن نفسي قد اضطربت»(يو١٢: ٢٧).
أقول هذه الأمور، لا لكي أقلل من شأن بقية الرسل، بل لكي أوكد على فضيلة أولئك الرسل (بطرس ويعقوب ويوحنا). وإن كان يجب أن أقول الحقيقة، فهذا أيضا يشمل مديح الرسل بشكل عام. لأنه، أن يحدد أحد إمتياز وسمو القديسين، فهذا ليس عمل إستحسان إنساني، بل هو عمل مرتبط بقضاء وحكم الله الحقيقي. لكن نحن الذين إستحققنا أن نحتفل بتذكارات هؤلاء القديسون العظماء، فهناك ضرورة أن نشكر الله ليس بقدر ما نحن مدينيين به من شكر، لأن هذا غير ممكن، بل على قدر ما نستطيع، الأمر الذي من السهل قبوله. القديسون يطلبون منا هذا الإكرام، لا لكي يربحوا التمجيد، بل لكي ننعم نحن بالمشاركة في هذا التمجيد.
الرأي الواحد والإيمان المشترك:
الأمر الآخر، كما أعتقد أنه لا أحد من الأتقياء، يجهل أننا نصنع تذكارات، ليس فقط لبطرس، ويعقوب، ويوحنا، بل لكل حقل الرسل المتوافق والمتجانس معا. فإن كان وفقا لحقيقة العقائد، أن الأعضاء التي لها ترتيب ولها مكانها، يشكلون معا الجسد الواحد، فمن الواضح أنه، عندما يكرم عضو، يكرم معه باقي الأعضاء، كما يقول الرسول بولس: «وإن كان عضو واحد يكرم، فجميع الأعضاء تفرح معه»(١كو١٢: ٢٦)، وهذا ينطبق على أولئك الرجال الطوباويين الكاملين، إذ أن كل سلوكهم، يتفق ويتوافق مع الحقيقة، وجميعهم لهم رأي واحد، وإيمان مشترك. وكما أن السمات التقوية التي يمتازون بها، هي مشتركة فيما بينهم، فإن المديح من قبل الحق، هو أيضا مشترك فيما بينهم. من هو ذا الذي لم يفرح وبحق، ولم يمتلىء بالروح القدس، عندما يكون قد إستحق أن يشارك في الخورس الرسولي الذي قاد كل المسكونة لمعرفة الحق، والذي مدّ شبكة التقوى، لكي تصطاد العالم كافة، وأقام مصيدة الحقيقة في كل مكان، حتى يجمع البشرية جمعاء معا، والتي كانت تحت الخطية، وفي حالة توحش، وقادها نحو ذاك الذي أشرق عليها، وخلصها؟ « في كل الأرض خرج منطقهم، وإلى أقصى المسكونة كلماتهم»(مز١٩: ٤). إن أساسات الكنيسة، وأعمدتها، ودعائم الحقيقة، هذه هي المنابع الأبدية للخلاص التي إنطلقت وإندفعت، بفيض وغنى، لتعلن الينبوع الإلهي للتعليم. إن الصوت النبوي الذي يقول:« فتستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص”(إش١٢: ٣)، يُحيلنا نحو هؤلاء.
الشركة في تذكارات القديسين:
نقيم تذكار لبطرس، هامة الرسل، ومعه يتمجد بقية أعضاء الكنيسة، وتتقوى كنيسة الله. لأن هذا هو بحسب عطية الله، الصخرة الثابتة والصلبة التي لا تتزعزع ولا تنكسر، والتي فوقها بني المخلص كنيسته. يقام التذكار أيضا ليعقوب، ويوحنا، واللذان دعيا من قبل المخلص «أبني الرعد»، واللذان يحملان معهما، كل السحب التي تحمل المطر، فعندما يظهر صوت الرعد، فمن الضروري أن تتجمع السحب. ونعني بالسحب كلمات الرسل، والأنبياء، والتي وإن كانت أزمنة كرازتهم مختلفة، إلا أن نواميس التقوى، متوافقة. لأن مواهبهم قد إنطلقت من الروح الواحد. ولماذا أتجرأ، أن أهتم بالأمور غير الممكنة، وأحاول أن أقيم تذكار للعمل الرسولي، بإستحقاق؟ إن شجاعتنا لتوجيه الثناء والمديح، لا تتوجه إلى سمعان المعروف لدينا من خلال الصبر، بل تتجه نحو الإيمان الراسخ لذاك الذي هو سند الكنيسة مجتمعة. ولا توجه كلامنا أيضا إلى إبني زبدي، بل إلى « ابني الرعد». أين ستتوقف كلمتنا الموجزة هذه، في اللحظة التي فيها، يطال مثل هذا الرعد الكبير والقوي، أسماع الجميع؟ إذا، بعدما تبادر إلى أن نوفي ما علينا من دين، كرد وإمتنان لهذه المحبة الكبيرة التي للقديسين، فلنجأ إلى الصمت غير الضار أو الذي لا خطر منه، عارفين جيدا، أنه بهذا فقط، نكون مستحقين أن نشارك في إقامة تذكارات القديسين، وأن نتمثل بهم، ونقتدي بفضائلهم. وينبغي ألا نحصر الحديث عن حياتهم، في كلامنا فقط، بل أن نحفظ طريقة حياتهم، داخل إرادتنا. لأن التلمذة الحقيقية للقديس، لا تبرهن عليها تلك العادة التي لا يحكمها الضمير، بل تقوى الإيمان، وحياة مدعمة بعقائد مشتركة، وسلوك ومسيرة تقتضي بنفس النماذج. ألا تكرم ذكرى الشهداء؟ فلتكرّم رؤيتهم ورأيهم. لأن الشركة في التذكار، هي في الإتفاق في الرأى. وهل الإستنارة، بسبب أن معرفة مجد إنجيل المسيح، قد أشرقت في أولئك القديسين فقط؟ هل النعمة قد أُرسلت فقط، لهؤلاء؟ إن الوصايا واحدة، والسلوك واحد، ومشرع الجهاد واحد، وواحدة هي مجازاة الحقيقة، والتي ليتنا جميعا أن ننالها، بالنعمة والرأفات ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس، المجد والقوة والكرامة إلى الأبد آمين[3].
وأيضاً للقديس غريغوريوس النيسي
وصية المحبة
” وعلمه فوقى محبة ” (نش٢: ٤-٥) . ان تعاليم الأنجيل تنحصر فى ممارسة المحبة تجاه الله وتجاه بعضنا بعضا . لأن كل شىء يسير فى الطريق السليم اذا ما تمت ممارسته وفقا لوصية المحبة فان قايين لم يحاسبه الله لأنه قدم قربانا غير قربان أخيه (تك٤: ٥) لأنه لولاحظ الأمر لقدم القربان المناسب ولكن الله حاسبه لانعدام المحبة نحو أخيه .
ولذلك يجب أن نلاحظ وصية المحبة التى يعلمنا الناموس اياها كيف نحب الله ؟ وكيف نحب أقاربنا وزوجاتنا وأعداءنا . هذه هى الوصية العظمى التى هى المحبة التى تقودنا الى الكمال ويجب ألا نتركها قط بل يجب أن نحب الله من كل قلوبنا ومن كل نفوسنا ومن كل فكرنا ومن كل قدرتنا وأن نحب أقاربنا مثل أنفسنا ، واذا كنا أنقياء فأننا سوف نحب زوجاتنا كما أحب المسيح أيضا الكنيسة (أف٥: ٢٥) واذا كنا بشرا جسدانيين فاننا سوف نحبهن مثل أجسادنا (أف٥: ٢٨) وهذه هى تعاليم بولس الرسول فى رسالة أفسس .
ويجب أيضا أن نحب أعداءنا بأن لا نرد الشر بالشر ولكن نقابل العداوة بالمحبة . ولكننا نرى الكثيرين لا يسلكون بالمحبة الحقيقية لأنهم يحبون بكل قدرتهم المال والكرامة والشهوات الجسدية لدرجة أنهم لا يقدرون أن يكفوا عن ذلك . وأصبحت محبتهم لله أمرا ظاهريا فقط ولا يوجد عندهم محبة للآخرين ولا للأعداء لأنهم يكرهونهم ولذلك هم يتألمون ويواجهون مصاعب كثيرة ولذلك تقول عروس النشيد ” علمة فوقى محبة ” (نش٢: ٤) ولذلك يجب أن نقدم لله واجبات المحبة . المطلوبة منا وأن نسلك بمحبة مع كل الناس . ولكن علينا أن نعرف بأن العريس هو الذى أحب العروس أولا ثم تجاوبت هى مع محبته واتحدت به وثبتت فى نعمته وبالرعاية والاهتمام اقتربت النفس من الله لأن لها ميلا دائما ورغبة مستمرة للتقدم الدائم نحوه .
المحبة الروحية :
كلنا مطالبون أن نسلك فى وصية بولس الرسول بأن ” نخلع الانسان العتيق ” (كو٣: ٩) مع كل أعمالة وشهواته التى هى الملابس البالية، وعن طريق طهارة الحياة التى نحياها نلبس الملابس البيضاء التى للرب والتى كشفت لنا على جبل التجلى ، وكل الذين تغيروا الى تلك الصورة الالهيه التى بلا خطية صاروا عروسا للمسيح لانهم قد لبسوا الملابس البيضاء التى هى طهارة الفكر ونقاوته. لأن البعض لا يرتدون الملابس البيضاء ولا يحيون فى نقاوة الضمير التى تليق بذلك العرس السمائى وعندئذ يكونون مشغولين بأفكارهم الخاصة ويحاولون أن يفسروا ما جاء بالعرس السمائى فى سفر نشيد الانشاد بالمستوى الجسدى المنحط الذى هو الشهوات الجسدية ويصيرون مملوئين ، بالنجاسة فهذه كلها يجب أن نطردها عن جماعة الرب الذين يشتركون بفرح فى العرس السمائى حتى لا يكون نصيبنا هو البكاء وصرير الاسنان بدلا من السعادة الروحية فى الزيجة الالهية. وهذا التوضيح يجب أن نفهمه قبل أن نشرح سفر نشيد الانشاد .لاننا فى هذا السفر نجد النفس تستعد للعرس السمائى مع الله الذى هو عريس الروح لأنه يريد أن ” جميع الناس يخلصون والى معرفة الحق يقبلون”(١تيمو٢: ٤) . فالأنجيل يكشف لنا كمال ومجد طريق الخلاص الذى هو الحب . لأن البعض يخلصون بالخوف بأن يضعوا أمام نفوسهم العقاب الأبدى فى الجحيم فيهربون حينئذ من الخطية . وآخرون يعيشون فى الفضيلة بسبب المكافأة التى وعد بها الله للأبرار وهؤلاء يصلون الى هدفهم خلال رجائهم فى الحصول على المكافأة وليس خلال الحب . ولكن الذى يسلك فى الروح ليصل الى الكمال فأنه ينزع الخوف لأنه ناموس العبيد الذين لن يمكثوا مع رب البيت لعدم وجود الحب ، وهم دائما يخافون لئلا يطردهم سيدهم من البيت . والذين يعيشون مع الله للحصول على المكافأة فانهم يحبون العطية أكثر من المعطى . ولكن الذى يحب الله من كل قلبه ومن كل نفسه ومن كل قوته (تث٦: ٥) فهم يحبون الله ويتعلقون به أكثر من كل المخلوقات ، ويدركون أن الله هو مصدر كل البر والصلاح وهو خالق كل الموجودات وهو الذى يدعونا لكى نشترك معه وهو الذى يطلب منا أن ننال هذا الخلاص اذا ما نحن أحببناه وأنصتنا اليه .
طلب الحب :
منذ أن بدأت العروس فى السبر والتقدم وهى لا تكتفى بدرجة معينة بالكمال بل تسعى دائما وتتقدم وهى تشبه أحيانا بالفرس الذى طرح فرعون فى البحر (نش١: ٩) وبأنواع السلاسل والزينة التى حول الرقبة (نش١: ١٠-١١) وهى قانعة بهذه الدرجات بل يصعد وتنمو دائما حتى تصير مثل قارورة الطيب المملوءة بالرائحة الذكية حيث تأخذ من رائحة الرسالة الالهية ثم تأتى بعد ذلك الى الثمر الذى هو عناقيد العنب فى الكرمة الذى له الرائحة الذكية ثم تنمو بعد ذلك وتأخذ لقب الجميلة والمحبوبة والتى لها عينان جميلتان مثل الحمامة.
ثم تتقدم أكثر فأكثر حتى تبصر جيدا وتدرك جمال الكلمة وكيف نزل كظل الى السرير فى هذه الحياة فى شكل الطبيعة البشرية حيث أشار الى التجسد “ها أنت جميل ياحبيبى وحلو وسريرنا أخضر”(نش١: ١٦) ثم تشتاق بعد ذلك الدخول فى الفضيلة فتقول ” جوائز بيتنا أرز وروافدنا سرو ” (نش١: ١٧) ومعناه أن هذا الخشب (السرو) المصنوع منه أثاث البيت يرمز الى الثبات الدائم والنمو المتواصل فى الكمال لأن هذا الخشب لا يسوس ولا يعفن قط .
ثم يشرح الوحى الالهى نمو النفس فى الفضيلة بمقارنتها بالسوسن بين الشوك ” كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتى بين البنات ” (نش٢:٢) وبعد ذلك تدرك العروس الفرق بين عريسها وبين الآخرين فتقول أنه ” كالتفاح بين شجر الوعر (الغابة) كذلك حبيبى بين البنين ” (نش٢: ٣) وتشعر النفس أن العريس هو مثل الربيع بين الفصول فتأتى الى ظله ” تحت ظله اشتهيت أن أجلس ” (نش٢: ٣) والظل هنا هو الناموس والأنبياء ثم تدخل النفس الى بيته ” ادخلنى الى بيت الخمر ” (نش٢: ٤) وبيت الخمر هو بيت الحب (الكنيسة ) حيث تزود العروس بالروائح وتتغذى بالتفاح (الأسرار ) وعن طريق جروحات المحبة الغالية ( الصليب ) استقبلت سهمة الذى بيده اليمنى ثم صارت هى سهما فى يده وقذف هو هذا السهم بيده اليمنى فأتت بالقرب من نفسه ورفعها بيده اليسرى ووجه رأسها الى السماء حيث الهدف الأعلى لها وحين وصلت العروس الى مراتب الكمال فأنها تشرح للنفوس الأخرى مدى محبتها للعريس الذى تشتاق اليه وهى تثير محبتهم أيضا بنوع من القسم . ولكن رغم ذلك هى لا تكف عن السعى نحو الكمال لأنه لا يوجد حدود لهذا الكمال ، وعندئذ يصير أقصى ما وصلت اليه عروس النشيد كأنه بداية لما هو مبسوط أمامها أن تشتاق اليه .
وكل هذا هو تصوير لدعوة العروس خلال سماع حواسها الروحية للتأمل فى الأسرار الروحية فتبدأ تنظر الى من تحبه ، وكأنه يظهر لها فى أشكال مختلفة ، فهو هنا يشبه بالظبى وبغفر الأيائل (جمع أيل) ” ارجع واشبه يا حبيبى الظبى أو غفر الأيائل على الجبال المشعبة “(نش٢: ١٧) ولكن الرؤية لا تظل على نفس المكان لأنه يقف على الجبال ويقف من مكان لآخر . ثم تصل العروس ثانية الى درجات أخرى من الكمال حينما تأتيها الدعوة ثانية أن تترك ظل الحائط وتأتى الى النور وتستريح على شقق الصخرة ” فى محاجئ الصخر فى ستر المعاقل ” (نش٢: ١٤) ثم تنعم بوقت الربيع وتجمع الزهور وتسعد بمسرات الربيع وسط أشجان الطيور .
خلال كل هذا تجرز العروس كل كمال واآن هى تستعد أن تبصر وجه العريس بوضوح وصراحة وأن تنصت اليه مباشرة بدلا من أن تسمعه خلال الآخرين . أى سعادة رائعة يمكن أن نتخيلها حين نرى الرب ويصير كل ما وصلت اليه كأنه بداية لرجائها فى الوصول الى ما لم تصل اليه . وهى الأن تسمع صوت الرب مباشرة حين يأمر الصيادين ويعطيهم ثقته بخصوص الكرمة الروحية التى هى النفس أن يمسكوا الثعالب الصغيرة المفسدة . وهذا هو اتحاد الاثنين معا . الله جاء الى النفس (بالتجسد ) والنفس اتجهت لكى تتحد معه ” حبيبى لى وأنا له الراعى بين السوسن ” (نش٢: ١٦) أنه حول طبيعتنا من عالم الظل الى أقصى الحق عندئذ تصعد الروح وترتقى وتتقدم من فضيلة لأخرى حتى تكمل كل رجائها فى الوصول الى أعلى القامات . لأنه بالتأكيد لا شىء يفوق فرح الوجود مع المحبوب . وحين تصل النفس الى هذه الدرجة فان الروح تظل تبكى كما لو كانت لم تصل بعد الى هدفها وكأنها لم تمتلك بعد ما كانت تشتاق اليه وتظل فى شغف وشوق وتعبر عن شوقها هذا بتلك الآيات ” فى الليل على فراشى طلبت من تحبه نفسى طلبته فما وجدته ” (نش٣: ١-٢) أنه لا يوجد أى حدود للوصول الى عظمة الوجود الالهى ولا يوجد أى قياس بشرى للمعرفة أن يصير مبدأ لادراك هدفنا أو يعوقنا للتقدم الدائم نحو السماء ، بل ان الروح التى تسير نحو الحق فى الطرق الالهية يتم قيادتها الى كل درجة من التقدم الروحى نحو الكمال حتى يصير الوصول الى هذا الكمال ممكنا أن يصير كأنه بداية الشوق نحو الأشياء السمائية .
والآن يجب أن ندرك التعاليم المقدمة الينا ونضعها فى فكرنا وان نستعد للعرس الالهى بالكامل فى الأمور الالهية السمائية وأن نحول الفكر من المستوى الجسدى الى المستوى الروحى . ومن خلال الرموز نستطيع أن نتعلم الكثير .وهنا تفسير تلك الرموز : العروس تشير الى الروح والله هو العريس الذى تحبه الروح من كل قلبها ومن كل نفسها ومن كل قدرتها وعندئذ تصل النفس الى أقصى أملها عندما تتحد فعلا مع من تحبه ” وجدت من تحبه نفسى فأمسكته ولم ارخه حتى ادخلته بيت أمى وحجرة من حبلت بى ” (نش٣: ٤) وتتحدث النفس عن الشركة مع الله فى البر كأنه سرير ” سريرنا أخضر ” (نش١: ١٦) والليل يشير الى التأمل فى غير المنظور مثل موسى النبى الذى دخل فى الظلام الى حيث يوجد الله وكما يقول داود النبى ” جعل الظلمة ستره حوله ” (مز١٨: ١١) ولذلك تقول عروس النشيد ” فى الليل على فراشى طلبت من تحبه نفسى ” (نش٣: ١) وحين تصل النفس الى هذه القامة فانها تشعر أيضا أنها لم تصل الى الكمال بعد وكأنها لم تبدأ بعد ولكن حين تدخل النفس الى العرس الالهى فانها تستريح فى الشركة مع الله وكأنها تنام على سرير ولكنها فجأة تتقدم الى العالم غير المنظور محاطة بالوجود الالهى غير المنظور ، وتبحث عن ذلك الذى هو مخبأ فى السحاب المظلم غير المنظور .
ثم تشعر النفس بالحب نحو ذلك الذى تشتاق اليه واذ بالمحبوب نفسه يبقى فى أفكارنا وعندئذ تبصره النفس بالليل على الفراش وتتعلم من وجوده الأبدى أنه بلا بداية ولا نهاية أما جوهره وكيانه فهذا الذى لم تستطع النفس أن تدركه لذلك تقول ” طلبته فما وجدته ” (نش٣: ١) لقد دعوته باسمه ولكن لا يوجد أى أسم يستطيع أن يحتويه لان اسمه لا يحده أى معنى لأنه فوق كل الأسماء ولذلك تقول العروس طلبته فما وجدته لأنها تأكدت أنه لا نهاية لعظمة الله القدوس ” عظيم هو الرب وحميد جدا وليس لعظمته استقصاء ” (مز١٤٥: ٣) ثم قامت الروح بعد ذلك وتقدمت الى العالم الروحى الفائق الذى تدعوه العروس هنا (المدينة ) حيث توجد الرياسات والقوات والعروش وكل أجناد الملائكة السمائيين ومل الجمع غير المحصى ، ولها رجاء وأمل أن تجد ذاك الذى تحبه . وفى بحثها عنه فانها تجد كل جيش الملائكة ” وجدنى الحرس الطائف فى المدينة ” (نش٣:٣) ولكنها لم تجد وسط هذه الأمور هدفها . وعندئذ تسأل النفس ذاتها هل من الممكن ادراك ذاك الذى أحبه ؟ هل رأيتم الذى تحبه نفسى ؟ ولكن كانت الأجابة الوحيدة هى الصمت وبصمتهم أفادوها أن ما تبحث عنه هو فوق ادراكهم .
وحينما ذهبت النفس بفكرها الى المدينة السمائية ولم تدرك حبيبها حتى عن الأشياء الروحية غير المادية ، وعندئذ نست كل ما أخذته وحصلت عليه من مثل لأنها أدركت أن ما تبحث عنه يفوق الادراك فى جوهره وأن كل ما يمكن أن تفهمه كأنه لا شىء ولذلك تقول ” فما جاوزتهم الا قليلا ” (نش٣: ٤) .لقد تركت النفس كل المخلوقات المرئية وكل المخلوقات الروحانية أيضا وعندئذ بالايمان فقط وجدت من تحبه وأدخلته الى حجرتها (نش٣: ٤-٥) وهذه الحجرة هى القلب الذى يدخل الله فيه وعندئذ ترجع النفس الى حالتها الأولى التى كانت عليها منذ البدء وقامتها التى ولدت بها من الأم (فى ذلك الميلاد الثانى بالمعمودية )[4] .
القديس أغسطينوس
مفهوم التجسد الالهي عند القديس يوحنا الرسول الإنجيلي
” ١-الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته ايدينا من جهة كلمة الحياة ” ، من كان يستطيع ان يلمس (الكلمة ) لولا ان ( الكلمة صار جسداً )(يو١: ١٤) .
لقد صار الكلمة جسداً ولمسناه منذ ان تجسد من العذراء، ولكن وجوده لم يبدأ من ذلك الحين لان الرسول يقول (الذي كان من البدء )(١يو ١:١) ، لاحظوا كيف تدعم رسالته شهادة انجيله حيث يقول ” في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الله الكلمة )(يو ١:١) .
وربما يأخذ احد عبارة (من جهة كلمة الحياة ) انها نوع من التعبير اللغوي عن المسيح ولا يقصد بها جسد المسيح الذي (لمسناه بايدينا) ، لنري ماذا ما قال الرسول بعد ذلك ،(الحياة اظهرت ) ،المسيح اذن هو (كلمة الحياة ) ولكن أين ظهرت وباي شكل ؟انه كان من البدء ولم يظهر للبشر فقط ولكن للملائكة الذين نظرته واقتاتوا به كطعام لحياتهم ولكن ماذا يقول الكتاب (أكل الناس طعام الملائكة) (مز٧٨: ٢٥) (الحياة أظهرت ) في الجسد لانها استعلنت وصارت ظاهرة ، وهكذا صار الذي كان لا يمكن رؤيته الا بالقلب ، صار ممكناً ان نراه بعيوننا لكي يشفي قلوبنا ، بالقلب فقط يمكننا ان نري (الكلمة ) ولكن الجسد يمكن ان نراه بالاعين ، كان لنا الوسيلة التي يمكنها ان تري (الجسد) ولكن بنفس الوسيلة لا يمكن ان نري الكلمة ، لقد صار الكلمة جسداً لكي نراه بعيوننا فيشفي داخلنا ما نستطيع به ان نري (الكلمة ) .
٢- (وقد رأينا ونشهد) الذين لا يعرفون اللغة اليونانية لا يفهمون معني كلمة (نشهد) . إنها كلمة يستخدمها الجميع ولها تقديس روحي أيضاً وتوقير ديني لان الذين ندعوهم في لغتنا شهوداً يطلق عليهم باليونانية (شهداء) . هل يوجد انسان لم يسمع عن الشهداء ؟ هل يوجد انسان مسيحي لا يردد اسم الشهداء بفمه طول اليوم وكل يوم ؟ ليت أسماءهم تسكن في قلوبنا ايضاً حتي نتمثل بآلامهم ولا يتجرعون كأس الالام مرة ثانية بخطايانا .
(لقد رأينا ونشهد ) كأن يقول (لقد رأينا وصرنا شهداء ) أي انه من اجل الشهادة التي نحملها لما رأيناه ، والشهادة التي نحملها لما سمعناه من أولئك الذين شاهدوا ، تحملنا آلام الشهداء ، هكذا احتمل الشهداء الكثير لان شهادتهم كانت تثير عليهم غضب وغيظ الذين شهدوا امامهم ، الشهداء هم (شهود لله ) والله يفرح كثيراً ان يكون له شهود من بني البشر ويكون هو ايضاً شاهداً لهم .
(رأينا ونشهد ) يقول الرسول (رأينا ) اين رأوا ما رأوه ؟ في الظهور ! في الاستعلان ! ماذا يعني ذلك ؟
في وضح النهار ، في نور الشمس ، كيف امكننا ان نراه في نور الشمس ذلك الذي هو خالق الشمس ؟ لولا أنه ” جعل في الشمس مظلته وهو مثل العريس الخارج من خدره يتهلل مثل الجبار المسرع في طريقه ” (مز ١٩: ٥) . هو قبل الشمس وقبل النجوم وقبل كوكب الصبح ، قبل الملائكة ، الخالق الحقيقي ” لان به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان ” ولكن لكي تراه عيوننا الجسدية التي تري نور الشمس جعل في الشمس مظلته أي انه ظهر في جسده في نور النهار وحجال العرس هو رحم العذراء ، لان في هذا الرحم اتحد الاثنان العريس والعروس ، العريس هو (الكلمة ) والعروس هي (الطبيعة الجسدية ) لأنه مكتوب “ويكون الاثنان جسداً واحداً “(تك ٢: ٢٤) والرب قال في الانجيل ” إذاً ليسا بعد اثنين بل جسداً واحداً “( مت١٩: ٦) واشعياء يتكلم عن هذين الاثنين في حديثه عن المسيح ويقول ” كساني رداء البر مثل عريس يتزين بعمامته ومثل عروس تتزين بحليها “( اش ٦١: ١٠) .
المتكلم هنا يجعل نفسه في وقت واحد العريس والعروس لانه ليس بعد اثنين بل جسداً واحداً (لأن الكلمة صار جسداً وحل فينا ) الي هذا الجسد قد انضمت الكنيسة كلها وبذلك صار المسيح الواحد كله (الرأس والجسد )[5] .
وأيضاً للقديس أغسطينوس
“يا سمعان بن يونا أتحبُّني…؟ ارع غنمي” (يو21).
ليتنا لا نحب ذواتنا إنَّما نحبُّه هو، وبرعايتنا لغنمه نطلب ما له وليس ما لنا، لأنَّه من يقدر أن يحيا بذاته، يموت بالتأكيد إن أحب ذاته. وهو بهذا لا يكون محبًا لنفسه، إذ بحبُّه لنفسه يفقد حياته.
ليت رعاة القطيع لا يكونوا محبِّين لذواتهم، لئلاَّ يرعوا القطيع كما لو كان مِلكًا لهم وليس قطيع المسيح.
فيطلبون ربحًا ماديًا بكونهم “محبِّين للمال”،
أو يتحكَّمون في الشعب بكونهم “متشامخين”،
أو يطلبون مجدًا من الكرامة المقدَّمة لهم بكونهم “متكبِّرين”،
أو يسقطون في هرطقات “كمجدِّفين”،
ويحتقرون الآباء القدِّيسين “كعصاة على الوالدين”،
ويردُّون الخير بالشرّ على من يرغبون في إصلاحهم حتى لا يهلكوا بكونهم “ناكرين للمعروف”،
ويقتلون أرواحهم وأرواح الغير “كمن هم بلا رحمة”،
ويحاولون تشويه شخصيَّات القدِّيسين “كشهود زور”،
ويطلقون العنان للشهوات الدنيئة “كغير طاهرين”،
ويشتكون دائمًا… “كغير رحماء”،
ولا يعرفون شيئًا عن خدمة الحب، “كمن لا عطف فيهم”،
ويقلقلون البشريَّة بمناقشاتهم الغبيَّة “كعنيدين”،
ولا يفهمون ما يقولونه أو ما يصرُّون عليه “كعميان”،
ويفضِّلون المباهج الجسديَّة عن الفرح الروحي “كمحبِّين للذات أكثر من حبُّهم لله”.
هذه وغيرها من الرذائل المشابهة سواء كانت كلَّها في مجموعها في شخصٍ واحد، أو إحداها تسيطر على شخص وغيرها على آخر، فإنَّها تظهر بشكلٍ أو آخر من هذا الجذر، وهو أن يكونوا “محبِّين لأنفسهم”. هذه الرذيلة التي يلزم أن يتحفَّظ منها من يرعون قطيع المسيح، لئلاَّ يطلبوا ما لذواتهم وليس ما ليسوع المسيح، ويستخدمون من سفك المسيح دمه لأجلهم، يستخدمونهم لأجل تحقيق شهواتهم.
هؤلاء الذين يرعون قطيعه، يلزم أن يكون حبُّهم عظيمًا، بغيرة روحيَّة حتى يتغلَّب على الخوف من الموت، هذا الذي يجعلنا (الخوف من الموت) لا نرغب في الموت لكي نحيا مع المسيح. فالرسول بولس أيضًا يود أن يُنفَق ويكون مع المسيح (في ١: ٢٣)[6].
عظات آباء وخدام معاصرين
قداسة البابا تواضروس الثاني
التلميذ الذى كان يسوع يحبه
اليوم نياحة يوحنا الرسول وهو أحد تلاميذ الرب الاثنى عشر ، معنى اسمه ” الله يتحنن ” كان عمله صيادا وتلميذا ليوحنا المعمدان وانتقل الى تلمذة المسيح وهو ابن عشرين سنة . ، أبوه (زبدى ) يعنى ” هبة الله ” ، أمه (سالومة ) تعنى ” سلام صهيون ” ، أخوه (يعقوب الملقب بالكبير ) هو أحد التلاميذ الاثنى عشر ، وهو أول شهيد من الاثنى عشر ، وقد استشهد عام ٤٤م: ألقابه : الانجيلى ــ اللاهوتى ــ الرائى ـــ الحبيب ـــ البتول ــ رسول المحبة ـــ التلميذ الذى كان يسوع يحبه .
رمزه: النسر ضمن الحيوانات الأربعة التى تحمل العرش الالهى (رؤ٤: ٧) .
كان أحد التلاميذ الثلاثة الذين لهم مكانة خاصة عند المخلص :
١-حضر معجزة اقامة ابنة يايرس . (لو٨: ٥١ ؛ مر٥: ١)
٢- حضر حادثة التجلي على جبل تابور . (٢بط١: ١٦ و مر ٩: و مت ١٧ و لو ٩)
٣- حضر شفاء حماة سمعان (مر ١: ٢٩- ٣٠ )
٤- حضر فى البستان ليلة آلام المسيح . (مر١٤: ٣٢- ٣٣ و مت٢٦: ٢٦- ٣٧)
٥- هو الوحيد الذى رافق معلمة حتى الجاجثة . (يو١٩: ٢٦- ٢٧)
٦- هو أحد شهود القيامة الاوائل . (يو ٢٠: ١- ١٠)
٧- هو أحد الرسل الذين حضروا صعود الرب يوم الأربعين. (مر ١٦: ١٤- ١٩) و (لو ٢٤: ٥٢ )و (أع١: ١٣- ١٤)
٨- جاهر باسم المسيح واحتمل السجن والعذاب . (أع ٤: ١ و ١٣-٢٠)
الرعاية والراعى
اعادة بطرس الرسول الى مرتبتة .
الراعى يتميز عن الرعية بأنه أكثر حبا ، والرعاية موهبة من الروح تتضمن:
١- اقتداء بحياة المسيح فى الكنيسة
٢- سعى دائم لنمو المحبة
٣- اعلان حقيقى لحب الحياة
أساس الرعاية هو المحبة أو تعب المحبة ، ولذا قيل عن الكنيسة أنها ينبوع الحب الدائم للجميع .
مثل : محبة الغريب ــــــــــــــــــــــــــــــــ السامرى الصالح (لو ١٠ )
محبة الفقراء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الانبا آبرام .
محبة الخطاة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأب لابنه الضال . (لو ١٥)
محبة المسيئين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اسطفانوس لراجميه . (أع٧: ٥٤-٦٠)
بطرس الرسول هو شهيد المحبة وقد صلب منكس الرأس بعد أن قيل له : اتبعنى أنت .
ما هو السؤال الذى وجهه الرب لبطرس بعد القيامة سوى أتحبنى ؟
” ولم يكن كافيا أن يوجه هذا السؤال مرة واحدة بل مرتين وثلاث مرات ، ثلاث مرات بالخوف أنكر وثلاث مرات بالحب يعترف …” . ( القديس أوغسطينوس )[7]
المتنيح الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف والبهنسا
(يو۲۱ : ١٥ – ٢٤ )الرب والتلاميذ :
سأل الرب بطرس ثلاث مرات أن كان يحبه . وفي هذا رمز للثالوث المقدس الذي يؤمن به .
وفي كل مرة من الثلاث يسأل : “أتحبني ” والخدمة لابد أن يسبقها القدس المحبة الكاملة .
وكان بطرس قد عاد إلى الصيد وكأنه يعود إلى العالم وهنا يجدد الرب دعوته له . وهكذا يعمل معنا دائما فيجدد دعوة المرتد ويجدد قوة الخائر وقد كان الرسول يقول سابقا ” أنا لاأشك ” أما الآن فيقول ” أنت تعلم يارب أني أحبك “.
وسأله الرب أتحبني أكثر من هؤلاء وكلمة هؤلاء في اللغة العربية تعني العاقل ولكنها في اليونانية تعني العاقل وغير العاقل والرب يقصد :
۱ – أتحبني أكثر من الشبك والسمك والعالم .
٢- أكثر من أقربائك وزملائك .
٣- أكثر من محبة هؤلاء لی .
وهكذا يلزمنا أن نشعر بحبنا الكامل للرب . وبأنه لاأمتياز فينا عن غيرنا . وحين تألم بطرس شجعه الرب وظهر له حبه الكامل وانه يثق فيه على الرغم من كل ماحدث من خطأ فهو يصفح . أو من إنكار فهو ينسى أو من انحدار في المستوى فهو يستر ولعل الرب سأله ثلاث مرات عن محبته لأنه أنكره ثلاث مرات .
ذكر الرب الخراف قاصدا الحملان ( آیه ١٥ ) الصغيرة وذكر الغنم ( ١٦ ) قاصدا الكبيرة فالصغيرة تحتاج عناية والكبيرة تحتاج اهتماما خاصا حتى تنمو وتثمر .
ويقول له ( ۱۸ ) أنه لما كان صغيرا كان يمنطق نفسه ولما يكبر يمنطقه الناس والمنطقة حزام يشتد به الإنسان في العمل .
والحقيقة أن الشاب يمنطق نفسه . وأما الشيخ في منطقونه . وفي الحياة الروحية يرسم الإنسان لنفسه خططا ويكون غيورا متحمسا لتنفيذها ولكنه كلما نما في النعمة يتعلم التسليم لله ويختبر قيادة الرب له حيثما شاء الرب . وهكذا لما كان بطرس صغيرا اعتمد على نفسه فأخطأ . ولكن لما كبر سلم للرب فحمله إلى الصليب وكان مسرورا .
مات أغلب التلاميذ قبل يوحنا الحبيب الذي عاش حتى ظن البعض أن الرب لما قال أنه يبقى حتى يجئ قصد أنه لا يموت إلى المجيع الثاني . أما الرب فغالبا ماقصد أنه يبقى في مكانه حتى يعود إليه بعد لحظات .
٢١ : ٢٥
في نهاية الإصحاح الماضي قيل أن الرب صنع آيات كثيرة لم تكتب في الكتاب وهنا يختم بقوله أنه عمل أشياء كثيرة لو كتبت لما وسع العالم الكتب . الرب هو الإله الذي يملأ الكون والذي يشغل الدهور الأبدية . ولو سجلت أعماله لما وسعها الكون . وما سجل إلا شهادة بسيطة لعمله الخلاصی فينا.
[8]“الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر ” (يو ۱ :۱۸).
المتنيح الأنبا كيرلس مطران ميلانو
هلم نتحاجج
ان كنت للاثام راصداً يارب فمن يقدر أن يقف امامك (مز ۳:۱۳۰).
لكن هلم نتحاجج كما أنت تقول يا سيدى؟!
هلم نتحاجج لكى أسمع صوتك وأعرف طبيعتى المرة.. ويكفيني أن أتذوق حلاوة معرفتك الحقيقية. قال لی: اسألك يابنى؟ وأسأل كل أخوتك الذين على الأرض؟! أخبرني أين أنت؟! وأين هم؟! أنا أريد الكل يخلصون.. وأريد الكل الى معرفة الحق يقبلون.أنا لذتى فى بنى ادم لذتى فيكم أنا متشوق لأولادى المقربين منى والمبتعدين عنى؟! قلت: يا اله المحبة.. كيف تتشوق لأولادك المقتربين منك؟!
أجابني.. هم أمام عينى.. هم منقوشون على كفى هم في بيتي.. في مسكني.. ولكن عيونهم الداخلية لم ترتفع نحو حدقة عيني فيروا أنفسهم في..؟! لم يفتحوا أعينهم ليبصروا أسماءهم المنقوشة على كفى؟! ولكي يدركوا بأننى حفرتها بارادتى وحدى لخلاصهم.. ولو ادركوا لهتفوا كل حين قائلين.. تسبحتى وقوتى هو الرب وقد صار لي خلاصاً مقدساً؟! ثم قال لى.. هلم نتحاجج معا ؟ ! هلم أتحاجج معكم؟! انتم أولادى.. أنتم في كنائسي.. في هياكلي.. في مساكني؟! أجسادكم هيكلاً.. ومسكناً لروحى القدوس.. لكن أين مسكنى فيكم؟! أين بيت راحتى في قلوبكم؟! أنت تعلم أنك غريب على الأرض.. وتردد قائلاً “أنك غريب.. ونزيل مثل جميع ابائك” وتقول “باطل” الأباطيل الكل باطل وقبض الريح، وماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه .. ومملكتى ليست من هذا العالم”.
أنت تعلم أنك غريب وعرياناً خرجت من ..البطن وعرياناً تعود الى بطن الأرض..؟!
أنت تعلم موطنك عندى.. وبيتك الأبدى على يمينى.. فلماذا وانت غريب يظهر العالم أمامك كأنه مؤبد؟ وكيف يخدعك العمر بأنه ثابت؟! يابني.. أستيقظ.. لان أعمالك تؤكد بأنك لست غريباً كما تقول.. ولا نزيلاً مثل جميع ابانك؟! وسألنى.. من الذى قال لك.. ولأخوتك” لاتكنزوا لكم كنوزاً على الأرض؟! ألست أنا أبوكم السماوى واهب الغنى.. الذي يعول كل البشرية.. ويطعم كل ذى جسد حي..؟! وهل تعلم أنت وأخوتك.. لماذا قلت لكم “لا” تكنزوا؟! أليس لكى يعلم الكل أنهم غرباء على الأرض؟! فيكنزوا كنوزهم عندي في سماء موطنهم؟! أنا أقول لأودى.. “لاتكنزوا.. بل أكنزوا؟!.. لا تكنز ما تفقده وما يفقدك نفسك؟! بل اكنز ما تحفظ به حياتك للأبدية؟! فرحت بما قاله السيد الرب.. وادركت أن الرب يقول لى ولأخوتى.. “أكنزوا لكم كنوزاً في السماء” .. وأنتم على الأرض؟! الرب يقول “هلم نتحاجج ؟!” لكن ومن يقدر أن يقف أمامك؟! لكن هلم نتحاجج لكى نتعلم.. لأننا من جهلنا نخطئ.. ومن أخطائنا نتعلم… ليس فينا كامل.. بل نسعى جميعاً نحو الكمال؟! احسست بسؤال من الداخل يقول لى.. الرب يسألك ؟! من أنا عندك؟! ومن أنا عند أخوتك ؟! قلت أنت يالله هو حياة كل احد ولكن تكرر السؤال مرة أخرى؟! فأجبته.. أنت هو القيامة والحياة.. وأنت هو البداية والنهاية ونور العالم.. وخبز الحياة.. والراعى الصالح.. ومريح التعابي.. ومعزى النفوس.. وينبوع الماء الحي. وبعد ما سمع ما قلته.. سألني؟! أنتم تقولون أنى أنا هو ينبوع الماء الحي..
“هلم نتحاجج ؟!” لماذا وأنتم بالقرب منى تحفرون لأنفسكم ابارا مشققة لا تضبط ماء ؟! أصبت بحيرة.. بماذا أحتج ؟! وكيف نرد؟! لكن قلت في قلبي كيف يكون الانسان قريباً من الرب ينبوع الماء الحى ولم يرتوي ؟ وكيف يترك الينبوع الحقيقي.. ويحفر لنفسه بئراً لا تضبط ماء؟! . فأجابني.. كثيرون يعملون فى مسكني.. ينشغلون بعملهم.. لا يشاركونني معهم.. هم لا يروننى أنا القريب منهم.. لا يتمثلون بي وهم في بيتي.. لا يرثون طبائعي وهم في كرمي.. أنهم يستندون على الشكليات يتهافتون عليها.. ويفرون من الجواهر ويهربون بعيداً عنها؟! جلست أفكر فيما سمعته.. فأدركت معنى الابار التي يحفرها البعض وهى لا تضبط ماء.علمت أن هذه الابار هى الأعمال التى تتم بعيداً عن محبة المسيح الحقيقة وذكرني قلبي بما قاله السيد الرب على لسان معلمنا بولس الرسول.. “بأنني لو تكلمت بلغة الناس والملائكة .. وان سلمت جسدي حتى يحترق.. وان أطعمت أموالى وليست لى محبة الله الحقيقية فلست شيئاً؟! ” عدت الى الرب وقلت.. هذا ما أرجوه.. وما أهمس به سرآ في أذنك ياسيدي.. كما علمتني أمي الكنيسة.. وأردده لك قائلا “أجعلنا مملوئين من شوق محبتك الحقيقية[9]“.
القديس القمص بيشوي كامل
كيف أنمو في محبة المسيح (حزقيال ١٦:١-١٤)
مقدمة :
في الحقيقة نحن نغالط أنفسنا حين نطلب أن نتعلم كيف نحب الله ، فنحن بهذا نضع الله في الصورة التي لا تليق به كأنه غير جذاب حتى أننا نغضب على محبته . ولو أننى تأملت محبة الرب التي جذبت المجدلية ومتى وزكا ويوحنا لأدركت مقدار جاذبية الله ومحبته لنا . أما محبتنا فهى طاقة موجودة فينا ينقصها التوجيه ، فحين نوجه الطفل نحو محبة العالم يصير إنساناً عالمياً ، ونحن نوجهه نحو محبة المسيح نخلق منه مسيحياً حقيقياً ” لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا ” (رو ٥ : ٥) . إذن ، فنحن نملك إمكانية الحب بفعل الروح فينا ، وطالما اختبرنا فترات من الفتور الشديد التي تقطعها لمسات الروح فتلتهب قلوبنا بحب لا ندرى مصدره . إنه الروح القدس ، روح الحب الذى من عند الآب ينبثق . وفى تعبيرها الأرثوذكسى نؤمن أنه ينبثق من الآب في الابن ، فهو الذى يوحدنا مع المسيح بفعل محبته المنسكبة فينا .
دواعى المحبة :
قال الرب : ” إن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة ، فكم بالحرى الآب الذى من السماء يعطى الروح القدس للذين يسألونه ” (لو ١١ : ١٣) . لقد أخذت من الآب بركات كثيرة فما هو مقياسها ودليل الاستفادة منها ؟ إن امتلاء القلب بمحبة الله أكثر من كل شيء في الوجود هو دليل وعلامة الملء بالروح . ونحن حين ندرس الإصحاح ١٦ من سفر حزقيال تظهر لنا رعاية الله. فأورشليم هنا تعنى النفس البشرية التي يخاطبها الرب قائلاً : ” كنت غريبة ، ويوم وُلدت لم تُقطع سُرتك ، وُلدت في خزى وعار ، وأوشك نزيف الخطية أن يهلكك . لم تُشفق عليك عين بسبب قذارتك فكرهوك . انقطع رجاء الكل في حياتك فتركوك للموت في دماء الخطية. أما أنا فلما مررت بك قلت لك : بدمك عيشى ، بدمك عيشى ! الخطية نزعت عنك ثياب النعمةً ، أما أنا فمررت بك وإذا زمنك زمن الحب ” . حقاً لكل منا زمن اسمه زمن الحب ، فيه وزعنا محبتنا العالم بكل ما فيه ، مع أن الرب هو الوحيد الذى يستحق كل ما لدينا من حب .
” + بسط ذيلى عليكى ، وسترت عورتك ، وحلفت لك ، ودخلت في عهد معك ” . كان العهد القديم بدم تيوس وعجول أما العهد الجديد فقد كتبه المسيح بدمه على الخشبة. يا ليتنا ندخل في عهد مع الرب . ” فصرت لى ” ليس لندخل ضمن ملكية الله بل ليدخل الله ضمن ملكيتنا .
+ ثم يبدأ الرب في تجميلنا لتصبح نفوسنا عروساً له ، كما نرى في مثل الابن الضال . ” حممتك ” يشير إلى المعمودية التي يجب أن نتذكرها كل يوم حين نتلامس مع الماء أثناء غسيل الوجه أو الأيدى أو أثناء الاستحمام . لقد اغتسلنا بدم المسيح في المعمودية ، ولو كانت لنا العين الروحية لرأينا المسيح يعمد وليس الكاهن . ” مسحتك بالزيت ” يعنى مسحة الميرون التي بها نثبت في الروح القدس . ” ألبستك مطرزة ” فقد صرنا نلبس الرب يسوع نفسه وينبغى أن نتذكر ذلك كلما ارتدينا ثيابنا .
+ حليتك بالحلى ، فوضعت أسورة في يديك ، وطوقاً في عنقك ، وخزامة في أنفك ، وأقراطاً في أذنيك ، وتاج جمال على رأسك ” أي أن الرب قد قدس حواسنا كلها .
+ ” وأكلت السميذ والعسل والزيت ” أي غذى نفوسنا بواسائط النعمة
” + وجملت جداً جداً فصلحت لمملكة ، وخرج لك اسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملاً ببهائى الذى جعلته عليك ” . إن محبة الله لا تنقص أمام جحود الإنسان ، ولعل ذبيحة الرب لآدم تؤكد لنا هذه الحقيقة ، وما كانت هذه الذبيحة إلا رمزاً لذبيحة الصليب . إذن ، نحن نملك طاقة حب كاملة والله لا ينقصه وصف لأن حلاوته كاملة ، ولكن هناك أسباباً لفتور المحبة من جهتنا لما نكتشفها ونعالجها نقول للرب ما قالته العروس : ” أنا لحبيبى وحبيبى لى ” .
أسباب فتور المحبة
١ – الضيقات :
يعلمنا الرسول أن نفتخر في الضيقات إذ يقول : ” نفتخر أيضاً في الضيقات عالمين أن الضيق يُنشئ صبراً والصبر تزكية والتزكية رجاء والرجاء لا يخزى ” (رو ٥ : ٣) . كثيراً ما تهز الضيقات المادية محبتنا لله ، وهكذا نحب الرب بقدر نجاحنا المادى أو الدنيوى . هذه ليست محبة !! الرسول لا يطلب منا أن نحتمل الضيقات بل أن نفتخر بها إذ يرى محبة الله خلالها .
+ كنت أزور فتاة مريضة لازمت فراشها ثلاثة اشهر بألم شديد ، سألتها عما استفادته من هذه التجربة ، فقالت : لقد فهمت الآن قيمة نفسى تماماً . ولو أن ألف إنسان حدثونى عن التواضع لما استفدت منهم كما استفدت من مرضى ، شكراً لمحبة الله ودروسه الحلوة . لقد اعطى الرب لهذه الفتاة فضيلة التواضع في ثلاثة أشهر بينما يجاهد القديسون لأجلها سنوات طويلة . الضيقات هي عمليات تجميل يجريها الرب في نفوسنا لتصير لائقة بعرسه المبارك . لهذا يصلى المرنم : ” ابلنى يارب وجربنى ، نق قلبى وكليتى ” !! هل يطلب الإنسان البلوى والتجربة ؟ ! نعم إن كانت هي طريق النقاوة ! ليتنا ندرك هذا السر فنشكر الله ونفرح بتجاربه المتنوعة (يع ١ : ٢ – ٥) .
٢ – الخطية :
هذه تطفئ محبة الله في القلب ، فمع أننا ننادى الرب طوال النهار : ” يا أبانا الذى في السماوات ” ، إلا أننا نجرح أبوة قلبه كل حين بخطايانا الكثيرة ، متجاهلين أن الرب يحبنا بالقدر الذى به يحب ابنه الوحيد . ليتنا نعتبر الخطية في ضوء محبة الله ، فالخطية إساءة لهذه المحبة . نحن نجرح المسيح ولكنه يتألم لأجلنا . متى يصير شعورنا نحو الخطية مرهفاً جداً ؟ ! .
ما هي نظرتنا نحو خطايا الآخرين ؟ هم جرحوا المسيح ؟ فليكن ونحن حينما ندينهم نضاعف جراحاته ! خطيه الإدانة تجرح المسيح مضاعفاً . ليتنا نضمد جراحات يسوع لما نراه مجروحاً فنبحث عن البعيدين ونجدبهم إلى بيت الرب كإعلان عن محبتنا له . أعرض ليسوع خطاياك وتب عنها ، وتب أيضاً عن خطايا زملائك فتكسبهم للمسيح.
التوبة هي أهم علامات الحب .
والمجدلية قدمت لنا أعمق درس في الحب إذ غفرت لها خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً . ومن التوبة يتولد أختبار الدين ؛ أنا مدين للمسيح بحياتى التي أعطاها لى بموته . يا ليتنى أرفع رأسى نحو الصليب وأسأل نفسى : هل سددت ما على من دين ؟ هل أعطيت الرب كرامتى وصحتى وشبابى ؟ حتى هذا كله لا يوفى شيئاً ! .
اختبار التوبة يعطينا إحساساً بالشكر ، فنرفع قلوبنا كل يوم وفى كل مكان ونردد اسم يسوع قائلين : ياربى يسوع المسيح ارحمنى ، ياربى يسوع المسيح احرسنى ، ياربى يسوع المسيح اغفر لى ، ياربى يسوع المسيح ارع حياتى .. اذكر اخوتى .. أنا لك وأنت لى .. وهكذا ، هذه الصلوات القصيرة تولد في القلب محبة شديدة للمسيح بالروح القدس المنسكب فينا كتيار نازل من السماء ، يثمرفينا شكراً دائماً ، وصلاة متواترة ، وحديثاً حاراً عن الرب .
محبة الله لا يستطيع إنسان أن يتكلم عنها ، هي عطية الروح تغمرنا إذا طلبناها بصدق ومثابرة . ولربنا المجد إلى الأبد ، آمين[10] .
المتنيح القمص لوقا سيداروس
عودة إلى صيد السمك
عدت إلى سابق عهدي، استقرت نفسي في الحق. شعرت إنني رجعت إلى شخصي الأول ولكن بسلام جديد وخبرة جديدة بالسماء والقيامة وإيمان ثابت بشخص المسيح الإله المتجسد الذي مات عنا وقام وأقامنا معه وغلب سلطان الموت. في مساء أحد الأيام وحولي بعض إخوتي التلاميذ. قلت: ما رأيكم ”
أنا أذهب لأتصيد “. قالوا لي بسرور : ” نذهب نحن أيضاً معك “. ركبنا القارب وابتعدنا قليلاً عن الشاطئ وصرنا نطرح الشبكة وننتظر قليلاً ثم نسحبها فلا نجد شيئاً. ثم عاودنا وكررنا هذا العمل. والأمل في الصيد موجود. والصبر وطول البال إحدى الصفات التي اكتسبتها منذ تعلمت هذه المهنة. ظللنا على هذا الحال حتى لاح الفجر وبدأ أول ضوء ينير مع نسيم هاديء. أحسسنا جميعاً بإحساس جميل. ورغم أننا لم نصطد شيئاً لمرنجزع ولم نيأس ولم تتأذ نفوسنا.. شيء غريب لم نختبره من قبل.
كان في الماضي إذا مررنا بهذه الخبرة في عدم الصيد يخيب منا الأمل ونفقد الرجاء ونشعر في داخلنا بخيبة الأمل ونكتئب. فما بالنا الآن.. هل تغيرنا حقاً حتى في مواجهة مثل هذه الظروف؟ حانت من أحدنا التفاتة نحو الشاطئ وإذ برجل واقف على الشاطئ. لم نتحققه جيداً بسبب أننا لسنا في وضح النهار. ثم سمعناه يقول: ” يا غلمان ألعل عندكم إداماً؟ ” ( أي غموس ). رددت لتوي وقلت: لا شيء البتة.. تعبنا كل الليل والمحصلة صفر، فلم نصطد شيئاً. فقال: ” ألقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فتجدوا “. بدون تفكير وجدت نفسي أطرح الشبكة كما قال. لم تمض ثواني حتى شعرت بثقل غريب كأني ألقيت الشبكة على حوض مملوء بالسمك. صرخت لوقتي من الدهشة والفرح. كاد جذب الشبكة يشدني لأقع في البحيرة ولكنني تمالكت نفسي بقوة وكان يوحنا يسندني. كان يوحنا يسبقني دائماً. نظر بسرعة نحو
الرجل الواقف على الشاطئ. صاح يوحنا يا بطرس هو الرب.. هو الرب. امتلأت رهبة وارتبكت. لبست ثيابي لأني كنت عرياناً.. ألقيت نفسي في الماء كأني أخبئ نفسي في الماء. ولكن ممن؟ وهو يفحص أعماق النفس ويعلم ما بداخل الصدور. على كل حال اتخذت جذب الشبكة حجة وبدأت أجذبها إلى الشاطئ. ثقيلة جداً جداً. ولكن شيء
غريب يحدث إن الشبكة الضعيفة لم تتخرق من هذا السمك الكبير.كنت أشعر بقوة تسندني. جذبت الشبكة إلى الشاطئ.. وتعجبت من السمك.. السمك كبير جداً وكثير جداً.. وعلى غير عادة الصيادين دفعني هذا الإعجاز إلى أن أعد السمك. ليس عشرة ولاعشرین.. بل ” مئة وثلاثاً وخمسين ” سمكة كبيرة. إنها معجزة عجيبة بكل المقاييس. ويا للعجب ما أن خرجنا من المركب حتى وجدنا ” جمراً موضوعاً عليه وخبزاً “. كأن الرب أعد المائدة ليطعمنا كعادته. عدت أسال نفسي ألم يقل هو هل عندكم إدام؟ لقد سأل عن طعام..
وهو يطعم كل أحد من غنی رضاه. ” ولم يجسر أحد من التلاميذ أن يسأله: من أنت؟ “. لقد عرفناه من شخصه ومن أعماله. قال الرب : ” قدموا من السمك الذي أمسكتم الآن “.يا سيدى أنت صاحب الكل وواهب الكل.. هل أمسكناه من غير كلمتك.. أنت الذي هيأته بإعجاز وأعطيته لنا.. فهل تسأل منا كأننا أصحاب فضل أو كأن بقوتنا أمسكناه. كمثل أب يعطي ابنه كل العطايا ثم يسأل منه أن يعطيه جزءاً. من يدك يا سيدي وأعطيناك.. هذا قانون عرفه الآباء من البدء.. قدمنا من السمك ووضعناه على الجمر. وبارك فأكلنا معه. ثم بعد أن أكلنا أخذني الرب بذراعي وانتحی بي ناحية وحدنا. ثم فاجأني الرب بسؤال : ” يا سمعان بن يونا، أتحبني أكثر من هؤلاء؟ “.هالني ما سمعت ووقع على السؤال وقع الصاعقة ماذا تقول يا سيدي
يا فاحص القلوب؟ هل تطلب حبي أنا؟ أنا غير مستأهل لحبك وعطفك وحنانك الذي حؤطتني به وغير مستحق أن أكون لك خادماً ورسولاً. یا سيدي أنت تعلم كل شيء : ” نعم يارب، أنت تعلم أني أحبك “. فقال لي الرب: ” ارع خرافي “. وبعد لحظة كرر الرب ذات السؤال بنبرة صوته العجيب الفعل في أعماق النفس: ” يا سمعان بن يونا، أتحبني؟ ” یا رب أنت تعلم أني أحبك رغم ضعف بشريتي.. رغم جحودي وإنكاري. لقد اعتمدت على ذاتي فزلقت قدمي. لقد اعتبرت نفسي أشجع من
الكل وأكثر تضحية حتى قلت لو تركك الجميع لا أتركك. وتجرأت وقلت لو بلغ الأمر أن أموت عنك. لم تمض ساعات على كلامي هذا وإذا بي في غاية الضعف ولولا صلاتك عني لهلكت في مذلتي ولكنك أبقيت إيماني بك. نعم يا سيدي أنا أحبك. على أن الرب للمرة الثالثة قالها: ” يا سمعان بن يونا، أتحبني؟ “. لم أتمالك نفسي من البكاء .. لقد بلغ بي التأثر أي مبلغ. كفف الرب دموعي وعزاني وأعطاني هذه المسئولية الإلهية ” ارع خرافي “يا سيدي هي خرافك وأنت الراعي الصالح الذي بذل نفسه عنها.. يا سيدي أنت اشتريتها بدمك وأنت ترعاها.. أنت تحفظها فلا يهلك منها أحد..ولكني أدركت للحال إنني سوف لا أحيا بذاتي بل للقائم من الأموات الذي أحياني. ولن أخدم بذاتي بل بقوة ونعمة منه. ولن أعمل شيئاً من ذاتي لأن بدونه لا أقدر على أتفه الأمور. حانت مني التفاتة فوجدت يوحنا التلميذ الحبيب يسير خلفنا. قلت : ” يارب، وهذا ما له؟ ” قال الرب: ” إن كنت أشاء أنه يبقى كى أجيء، فماذا لك؟ اتبعني أنت! “. كن في ما لنفسك ولا تشغل بالك بما لي
مع الآخرين. أنت لك وزنتك أعطيتها لك ولآخر أعطي وزنات أخرى. كل واحد على قدر طاقته. وليكن فيك هذا الفكر الذي للبنيان فأنتم لستم متنافسين متسابقين من هو الأكبر ومن هو الأعظم. لقد غسلتكم من هذه الأفكار والمبادئ التي يعيش أهل العالم بمقتضاها. أما أنتم فلكم فكري الخاص. كل ما للآب هو لي وقد أعطيتكم كل ما لي. عش إذاً بهذا الفكر. كل الخير الذي أستودعه فيك هو لحساب الكل. وكل مواهب أخيك هي لك. هي شركة في جسد واحد. كلما يكرم عضو تفرح باقي الأعضاء[11].
المتنيح القمص تادرس البراموسي
اليوم الرابع من شهر طوبه المبارك
یا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء (يو ٢١: ١٥ – ٢٥)
كان للرب يسوع طريقة جميلة في تعليم التلاميذ وتهذيبهم ولم يترك لهـم مجال لكي يدخل الشيطان فيما بينهم بل دائما ينبههم عن الخطر المحيط بهم مثل أفكار الكتبة والفريسيين وريائهم وعـاداتهم وتقاليـدهم لأن التلاميذ كانوا ساكنين بينهم ولهم نفس الأفكار وفيهم نفس الأعمـال. ولما رأى فكر الكبرياء يتسلط عليهم بسرعة حاول إقلاع هذه الرذيلـة من قلوبهم لأنه دائماً يريد منهم أن يسلكوا طريق الكمال كمـا قال الكتاب المقدس كونُوا كاملين كما أن أبوكم الذي في الـسّموات هو کامل (مت ٥ : ٤٨) .ولما أنكرة بطرس الرسول وتكـرر الإنكـار ثلاثة مرات مع علم الرب يسوع أن بطرس شجاع وجرئ لكنه متسرع لأنه في مواقف كثيرة كان بطرس سريع الرد ؛ وكان الجميع يحترمونـه لكبر سنه لكن الرب يسوع كان له نظرة ثاقبة في حياة بطرس وتصرفاته ؛ هذا الذي أنكرة أمام جارية حقيرة فمن غير الممكن أن يهرب من ميدان الخدمة عند أول تجربة ؛ ولا يقدر أن يصمد أمام التجارب .
أراد أن يبث فيه روح الإحتمال والصبر لأنه لابد له أن يقف أمام ملوك وولاة لأجل إسم المسيح ؛ ولما جاء الوقت المعين وجد الـرب يسوع فرصة متاحة فسأله يا سمعان بن يونا أتحبنـي أكثـر مـن هـؤلاء ؟
وهذا يقدمة الرب يسوع لكل خادم وخادمة في مجال الخدمـة وللأبـاء الكهنة بكل رتبهم . قال بطرس الرسول رداً على كلام الـرب ” نعـم يارب أنت تعلم إني أحبك” ؛ ماذا يكون جوابنا نحن الكهنة والخـداه على الرب يسوع ؟ نقول له جرفنا تيار العالم وأهملنا الخدمة ؛ ونقول له إنغمسنا في الخطية ولم نقدر أن نفلت من نيرهـا أو إستغلينا الخدمـة للوصول لأغراضنا الشخصية ؛ نوايانا الغير حسنة تقودنا إلى المشاحنات والخلافات وكل واحد منا يريد أن يكون رئيساً وقائداً ؛ وأيـن كـلام الرب ليكن كبيركم خادماً لصغيركم أو ماذا تقول ؟ سمـع بطـرس رد الرب يسوع إرعى غنمي ؛ كرر له الرب يسوع أن يرعى غنمه ثلاثـة مرات وجدد له الدعوة للتلمذة ؛ وماذا يقول لنا نحن المتخاذلين المتراخين والمتكاسلين ؟ ولربما نكون قد تركنا الهدف وضلينا الطريق .
أبي الكاهن وأخي الخادم تذكر من أين سقطت وقم ؛ حيـاة الإنـسان مراحل لها إمكانيات محدودة لكل مرحلة ؛ طفل ثم فتى ثم شاب ثم رجل ثم شيخ ثم كهل ؛ هذه مراحل الحياة لكل منها قوة معينة لا نتخطاها إلى المرحلة الأخرى فلنسهر ونستعد لأن الرب قريب .
كثيراً ما يتدخل الإنسان فيما لا يعنيه ويسبب لنفسه حرج ومـشاكل لا حصر لها . لو الإنسان إتبع قول القديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك حينما قال « تكلمت كثيراً فندمت أما عن السكوت فلم أندم قط » قال للرب يسوع وهذا ما له ؟ بمعنى لماذا يسير معك بإستمرار ؟ قال له الرب يسوع إن كنت أشاء أن يبقى حتى أجئ فماذا لك إتـبعني أنـت الأسـود وبهذا عرض نفسه للكلام . قـال القـديس الأنبـا موسـى الأسود “من ظن في أنه بلا عيب فقد حوى في ذاته سائر العيـوب “.
وقال أحد الحكماء من حكم نفسه أفضل ممن يحكم المدينة ؛ ما أعظـم أقوال الله وما أجمل أن نعيش له بالطاعة محتملين كل ما يأتي علينا بصبر سالكين في طريق الرب ووصاياه بلا عيب ؛ ناظرين إلى الخدمـة بكـل الحب والعطاء لكي لا نـسمع الـصـوت إعـط حـساب وكالتـك ؛ أو من يضع يده على المحراث وينظـر لـوراء لا يـصلح لملكـوت السّموات ؛ كن أميناً يا أخي وتاجر بالوزنة[12].
القديس الأرشيدياكون حبيب جرجس: محبة الله
المحبة شيء عظيم تدنو به النفس وهي واثقة ثابتة فرحة مسرورة ، وتقرب من موضوع حبها وهي مستبشرة آمنة بتلك الثقة والدالة . مستشيرة من تحبه في كل أمر ، ولا تفعل شيئاً يخالف ارادته مزدرية بكل ما يعترض طريقها .
من يحب لا يستصعب شيئاً ، لان النفس التي تحب الله ترتقي فوق الصعوبات وتستسهل الضيقات ، وتصير المسالك الوعرة أمامها ممهدة ، والمعوجات طرقاً مستقيمة ، كل وطاء يرتفع أمامها ، وكل جبل عال ينخفض تحت أقدامها ، ولا يوجد شيء لا تقدر عليه المحبة .
المحبة دائماً مرتفعة الي فوق ، متقدمة الي الامام ، ولا ترجع الي الوراء ولا تريد أن تقف عند حد حتي تحصل علي ما ترغبه وترجوه وتشتهيه ممن تحبه ، ولا تطيق أن يثبطها أدني عائق أو يرجعها عن غرضها ، المحبة قوية في ذاتها ، لا تشعر بضعف أو عجز ، بل تحسب كل شيء مستطاعاً لها ، هي قادرة علي كل شيء ، ولا تقدر قوة أن تقف دونها بل تهزأ بكل شيء في سبيل تقدمها ، تحب الحرية والتنزه عن الدنايا ، ولا تطمع بخير زمني ، ولا تهلع عند الضيقة ، لانها قوية كالموت ، وعميقة كالهاوية ، مستمرة كلهيب نار ، ان انفق الانسان كل ما في الارض لشرائها لا تقبل ، لا ثمن لها ، تحتقر كل ما هو مادي ، وتزدري بكل كرامة دنيوية ، ولا تقبل رشوة ، ولا تسكن إلا في القلب والروح ولا تعرف إلا الاحساس والشعور .
المحبة تأبي الخفاء وتحب الصراحة والظهور ، ومهما اجتهد صاحبها أن يخفيها تجلت باسمي مظاهرها ، لا تجزع من خوف ولا ترهب وعيداً ولا تخشي تهديداً ، ومهما ضيق عليها فلا تتواري ، بل كشعلة مستمرة وكنار مضطرمة تتصاعد وتنير طريقها .
المحبة ثابتة وغير متزعزعة ، كما تسر في الرخاء لا تستاء في الشدة ، لا يهمها ما يعطي لها من المواهب قدر ما تنظر وتعتبر الواهب نفسه .
متي حلت محبة الله في القلب كانت هي المحرك والمسلط والباعث والملهم والقائد والمرشد والمعلم والمتكلم والمنظم والمذكر والمقوي والمساعد والمنير والمبكت والمعزي والمسلي وبالجملة الفاعل لكل شيء ، اذا انسكبت في القلب ملأته بالفضائل وفاضت منه ينابيع البركات . وظهرت أثمارها في حياة الانسان .
لا شيء في الحياة ولا في الفضائل إلا وهو نتيجة من نتائج المحبة ، أو ثمرة من ثمراتها أو مظهر من مظاهرها ، أو شعاع من أنوارها ، أو حركة من قوتها ، أو فعل من أفعالها ، أو عنصر من عناصرها ، فالايمان محبة متمسكة بمحبوبها ، والرجاء محبة منتظرة ومتوقعة قرب مجيء حبيبها ، والسلام محبة هادئة ، ودرس كلام الله محبة تقرأ رسائل محبوبها ، والصلاة محبة متوسلة تسكب نفسها أمام المحب وتفيض من ملء شغفها ، وتعلن عواطفها نحو من تحبه ، والتواضع محبة جالسة تحت أقدام الحبيب ، والصبر محبة تقبل كل ما يرد اليها ممن تحب ، والحمية والغيرة محبة متوقدة تغار علي مجد المحبوب ، والكرازة بالانجيل محبة تنشر مبادئها وترغب خلاص الجميع لمعرفة الحبيب ، وكره الخطية محبة الابتعاد عن كل ما يفرقها عن محبوبها ، والشفقة محبة مساعدة ، والحكمة محبة تظهر في رزانتها ، والعدل محبة تظهر الحق ، وهكذا لا تجد فضيلة إلا وهي مظهر من مظاهر المحبة .
متي سادت المحبة علي الجميع حولت كل شيء الي صلاح وخير ، تقوي الذاكرة ، وتحيي الارادة ، وتهب اللسان فصاحة ، وتمنح القاضي عدلاً ، والمحامي حقاً ، والطبيب طيبة ، والكاتب صدقاً، والمعلم اخلاصاً، والعالم دقة ، والمهندس ضبطاً ، والتاجر أمانة ، وتحدث تغييراً حتي في ظواهر الانسان ، فتكسب العينين اشراقاً وضياء ، والوجه لمعاناً وصفاء ، والملامح سكوناً، حتي الصوت تكسبه حسن الايقاع وجميل النغم[13]
المتنيح الدكتور وليم سليمان
اختبار الحب العظيم
يحفظ تراث الرهبنة الحوارات التي دارت في البرية المصرية بين بعض رهبان الكنائس الاخرى ومن أشهرهم يوحنا كاسيان وبين الرهبان المصريين فلقد حضر هذا الراهب الى مصر من ديره الاول في بيت لحم في السنوات الاخيرة من القرن الرابع ، وعاش بين آباء البرية الاقباط ، ثم عاد واستقر في دير انشأه في مرسيليا بفرنسا . وطلب منه أسقف المنطقة بعد ذلك أن يكتب في لغة بسيطة عما شاهده من حياة أولئك القديسين البسيطة . ولقد تجول كاسيان في ربوع مصر يبحث عن آبائها المنتشرين في أرجائها . وهكذا جاء مع صحبه الى بلدة بجوار بحيرة المنزلة اسمها تنيس تحيط بها البحيرات المالحة من كل جانب . وذهبوا الى أسقف المنطقة الذي يدعى ارشيبوس . واذ عرف انهم يرغبون في لقاء النساك القديسين المقيمين حتى في الاماكن النائية ، أخذ عكازه ومزوده كعادة الرهبان الى منطقة تحولت الى مستنقعات بسبب طغيان البحر فصارت خرابا وهجرها سكانها . وصارت مسكنا لراغبي حياة العزلة والنسك واختار الاسقف أن يأخذهم الى أب ناسك قديس تقدم في العمر حتى جاوز المائة ، نشيطا في الروح ـ هو القديس شيريمون .
يقول يوحنا كاسيان :
« وبالتطلع الى وجه هذا الرجل العجيب وطريقة سيره – سألناه بانسحاق أن يقول لنا كلمة . ويعطينا تعليما . واذ أخبرناه أن غاية مجيئنا الواحدة هي اشتياقنا الى التعليم الروحي تنهد تنهدا عميقا وقال : « أي تعاليم يمكنني أن اعلمكم بها ، وأنا قد وهـن بي ضعف السن..” ولكن الزوار صمموا على أن « تترك صمتك قليلا وتزرع فينـا المبادىء التي يمكننا أن نعتنقها .. فنحن نعلم بفتورنا وعدم استحقاقنا لكن على الاقل من أجل مشقة الرحلة الطويلة اذ اسرعنا بأشتياق للمجيء هنا من ديرنا في بيت لحم لاجل الاستماع الى تعاليمك والانتفاع بها .
يقول القديس شيريمون ان الرسول الطوباوي بولس يجمل مجموع الخلاص في الفضائل الثلاثة : « الايمان والرجاء والمحبة » ثم يواصل شرحه موضحا قول الرسول : « هذه الثلاثة ـ ولكن اعظمهن المحبـة » (١کو ۱۳ : ۱۳) . كيف ؟ الايمان بوجود الله يجعلنا نبعد عن الخطية ، خوفا من الدينونة المقبلة والرجاء في حياة الدهر الآتى يجعلنا نحرص على الصلاح من أجل الحصول على المجد الابدي أما المحبة فانها « تشعل فينا حب السيد المسيح وحب ثمار الروح » « هذه الامور الثلاثة ، ولو ان ظاهرها يشير الى هدف واحد ونهاية واحدة ( لانها تحثنا على الابتعاد عن الامور غير اللائقة ) الا أنهــا تختلف فيما بينها في السمو فالمحبة تتعلق بالله وبالذين نالوا في داخلهم أن يكونوا على صورة الله ومثاله » بهذا القول يربط القديس شيريمون بين العهـدين ربطا مبدعا ، ويجعل كمال القديم في العهد الجديد .انه كاتب مبدع متعلم في ملكوت السموات . (متی ١٣ : ٥٢) يخرج من كنزه جواهر جديدة ويحرر القديمة من صدأ الحرف وتراب الشكلية . فسفر التكوين يعلـن ان الله خلق الانسان على صورته ومثاله (٢٧ ، ١: ٢٦ ،٢٧)
والعهد الجديد يعلمنا أن « الله محبة » (١يو ٤ : ٨ ، ١٦) . واذن يكون الانسان محبة ـ لانه على صورة الله وشبهه بعد هذا يحول القديس المختبر هذه الفضائل الثلاثة الى ممارسة عملية فيها النمو الروحي ، يقول : « متی رغب انسان الكمال ، يلتزم أن يتقدم من المرحلة الاولى التي للخوف والتي دعيت بحق عبودية اذ قيل عنها « متى فعلتم ما أمرتم به فقولوا اننا عبيد بطالون » (لو ۱۷ : ۱۰) . « متقدما خطوة تالية صاعـدا الى طريق الرجاء المرتفع ، حيث لا يدعى بعد عبدا ـ بل أجيرا ينتظر المكافأة .. واذ يظهر الانسان في هذه المرحلة كأجير ينتظر الاجرة الموعود بها لا يقدر أن يدرك حب الابن الواثق من محبة أبيه وسخائه وأن كل ما للاب هو له » .
ويستخلص المعلم شعور الاجير هذا من قصة الابن الضال :« ولهذا فان ذلك الضال الذي خسر اسم « الابن » ( رغم بنوته لابيه ) لم يقدر أن يتجاسر ويطمع في أن يطلب ما للبنوة عندما قال « لست مستحقا أن أدعى لك ابنا » . وتدرج هذا التائب في مراحل الفضائل : « لانه بعد ما أكل خرنوب الخنازير .. و « رجع الى نفسه » غلب عليه خوف مفيد مشمئزا من قذارة الخنازير خائفا من عقوبة الجوع القارس « وكما لو كان عبدا اشتاق أن يكون أجيرا ، وفكر في الاجرة : « كم من أجير لابى يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعا . أقوم وأذهب الى أبي وأقول له : يا أبي أخطأت الى السماء وقدامك ولست مستحقا أن ادعى لك ابنا ـ اجعلني كأحد أجرائك » (لو ١٥ : ۱۷ – ۱۹) .
« ومع كلمات التوبة المملوءة انسحاقا ، ركض اليـه أبوه وقابله بعطف عظيم أكثر مما طلب الابن ( التائب ) قاطعا حديثه لكي لا ينطق بما هو أقل ـ اذ لا يريد أن يجعله أجيرا .« فاذ قطع الضال المرحلتين الاوليين بغير توان ( أي مرحلة العبد والاجير أو الايمان والرجاء ) أعاده الآب الى كرامة بنوته السابقة « ونحن أيضا يجدر بنا أن نسرع هكذا بغير توان بواسطة نعمة الحب الثابتة فينا الى المرحلة الثالثة التي للبنوة ، حيث نؤمن أن كل ما للاب هو لنا ، ويمكننا أن نتمثل بالابن في قوله « كل ما للاب فهو لی » (یو ١٦ : ١٥) .
« وتحثنا وصايا مخلصنا الى ما يشبه ذلك اذ يقول « كونوا انتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل » ( مت ٥ : ٤٨) .. هكذا يشير القديس المعلم الى معنى الكمال في المسيحية ـ انه المحبة ، التي هي كمال الناموس ( رو ۱۳ : ۹ ) وهي رباط الكـمال (کو ٣ : ١٤) . ان السيد في صلاته الاخيرة الى أبيه الصالح يطلب أن يكون المؤمنون به واحدا في المحبة : « ليكون الجميع واحدا كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضا واحدا فينا » ، ويعلن الرب أنه بهذه المحبة والوحدة « يؤمن العالم أنك أرسلتني » .« وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد . أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين الى واحد ـ وليعلم العالم أنك أرسلتني .. » (يو ۱۷ : ۲۰ – ۲۳) .
ويواصل القديس شيريمون تعليمه الروحي :
- « ويجدر بنا أن نبذل طاقتنا لكي نرتقي في اشتياق كامـل من الخوف الى الرجاء ، ومن الرجاء الى محبة الله ومحبة الفضائل ذاتها وهكذا اذ نعبر في ثبات الى محبة الصلاح ذاته ، نثبت في الصلاح قدر ما تستطيع الطبيعة البشرية » وفي حديث يعبر عن خبرة طويلة تحولت فصارت طبيعة ثابتة ، يمارسها المؤمن في « بساطة » وهدوء ـ كما بالنسبة للتنفس أو جريان الدم في العروق ثم تتحول هذه البساطة الى ابتهاج وفرح بممارسة الفضيلة بهذه الطبيعة الجديدة يعلمنا القديس عن أنه : يوجد فرق شاسع بين من يخمد نيران الخطية في داخله خوفا من جهنم ، أو مترجيا الجزاء المقبل ـ وبين من يبغض الخطيـة ذاتها ودنسها بدافع الحب الالهي . فبالحب يحافظ على فضيلة النقاوة ببساطة غیر منتظر أي جزاء مقبل ـ انما يبتهج بمعرفة الصلاح الحاضر ،صانعاً الخير ليس عن خوف من العقاب بل ابتهاجا بالفضيلة . مثل هذا يحتفظ في أعماقه بمحبة الفضيلة ذاتها ، ولا يسمح لاى شيء مضاد أن يدخل الى قلبه انما يكره ذلك فعلا كراهية شديدة » . وبهذا « يكتسب الثبات في الصلاح … ويتحصن بفضيلة السلام الدائم . أما من جهة قهر هجوم الخطايا فيتمتع الآن بحالة ثابتة من الامن ، ويبلغ الى محبة الفضيلة نفسها . وبهذا يحتفظ بالصلاح بصفة مستمرة اذ يعكف على المداومة عليها » ..
ويعود القديس شيريمون مرة أخرى الى الربط بين المحبة وصورة الله ، « من يتكل على معونة الله وليس على مجهوده الذاتي يوهب له أن يبلغ هذه الحالة ـ فينتقل من حالة العبودية التي يسودها الخوف ، ومن حالة الطمع « الاجراء » حيث لا يطلب كثيرا مجد الواهب كجزاء ـ عابرا الى حالة التبني حيث لا يعود هناك خوف ولا طمع ، بل يكون الحب الذي لا يسقط أبدا ..« ومن يصير بالمحبة على صورة الله ومثاله يبتهج في الصلاح من أجل الصلاح ذاته ، ويكون له مثل هذا الشعور من جهة الصبر والوداعة . « فلا يغضب بسبب أخطاء الخطاة ، انما في حنو وترفق يطلب لهم الصفح لاجل ضعفاتهم … لهذا لا يظهر بغضا على الذين ضلوا من رحمة مترنما لله بكل سلام عقلي .« واذ يكون عقله دائم الاتضاع ، يستطيع أن ينفذ الوصية الانجيلية بكمالها : « احبوا أعـداءكم .. صلوا لاجـل الذين يسيئون اليكم » ( مت ٥ : ٤٤).
ويواصـل المعلم الروحي :
« وبهذا ننال الجزاء الذي يلحق بهذه الوصية ـ اذ لا نكون فقط على صورة الله ومثاله ، بل وندعى أبناء الله اذ يقول الرب « لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات » (مت ٥ : ٤٥) وهنا أيضا يكشف المعلم المختبر الهـدوء الذي يسكن في النفس حين تحيا بطبيعة البنوة : « كيف يمكن للطبيعة البشرية أن تتشبه بالله سـوى أن تظهـر محبة هادئة في الداخل نحو الصالحين والطالحين متمثلة بالله الذي يفعل الصلاح حبا في الصلاح ذاته فتبلغ الى التبنى الحقيقي الذي لاولاد الله … » ذلك أنه « عندما يكتسب أي انسان محبة الصلاح التي تكلمنا عنها والتي بها نتشبه بالله حينئذ يوهب له قلب الله الحنون فيصلي من أجل المسيئين اليه قائلا على نفس المثـال « يا أبتاه اغفر لهم لانهم لا يعلمون ماذا يفعلون » (مت ٢٣ :٣٤) .
ويقدم المعلم صاحب الخبرة في تعليم تلاميذه وارشادهم « العلامة الواضحة. » التي تكشف للنفس أنها لم تصل بعد الى هذه المحبة الهادئة الثابتة – هذه العلامة هي « عدم حزن النفس من أجل أخطاء الآخرين في حنو ـ أنما تحكم عليهم كديان في يوم عنيف » . « فلا يقدر انسان أن ينـال كمال نقـاوة القلب من لا ينفذ قول الرسول : « احملوا بعضكم أثقال بعض ، وهكذا تمموا ناموس المسيح » (غل ٢:٦) . ويفتح القديس طريق الكمال أمام الانسان الذي لا يحرك قلـبـه وارادته وفعله ـ الا المحبة . فيوضح أن ثمة درجات الكمال وقياساته المتنوعة ، ذلك أن « نجما يمتاز عن نجم » (١کو ١٥ : ٤١، ٤٢) « والرب يدعونا من الاشياء السامية الى الاسمى من كمال الى آخر .
بمعنى أن يصعد بغيرة الروح من الخوف الى الرجاء واخيرا الى المحبة التي هي آخر مرحلة .. فيها ثقة كاملة ، وفرح دائم ، تبعدهم عن خوف العبيد ورجاء الاجير الى محبة الله ، وتجعلهم ابناء وتنقلهم من كمال الى كمال أعظم » فالمحبة أعظم من جميع المواهب ، ولا شيء أبقى منها ولا أكثر ثباتا – (١کو ۱۲ : ۳۱ – ۱۳ : ۱ – ۳)۰وفي حديث هذا المعلم نجد تواصل التعليم الروحي الاصيل واستمراره . ففي بستان الرهبان نقرأ أن أبا الرهبان القديس انطونيوس قال مرة لتلاميذه : « أنا لا أخاف الله » . فدهشوا ، وقالوا له : ما هذه الكلمة الصعبة يا أبانا … قال لهم : « لاني أحبه يا أولادى ـ والحب يطرد الخوف » .
وواضح أن أب الرهبان العظيم كان يردد ما قاله القديس يوحنـا الانجيلي : « لا خوف في المحبة ـ بل المحبة الكاملة تطرح الخوف الى خارج .. » (١یو ٤ :١٨) ( انظر ترويض الاذهان في بستان الرهبان للقمص ارمانيوس حبشي شتا البرماوى الباب الثاني ، رقم ٢) . ويتابع القديس شيريمون هذا التعليم شارحا ومفصلا وموضحـا جوانب جديدة مبدعة فيه . فيقول : « من يثبت في هذا الحب الكامل ، بالتأكيد يتدرج الى درجة أعلى ـ وهي الخوف النابع من الحب ـ الذي ليس هو الخوف من العقوبة ، وفقدان المجازاة ، انمـا هو الخوف من الحب العظيم » .
هنا تصل الحياة الروحية الى ذروتها ، فتصبح علاقة حية واقعية بين الانسان والهه . لیست خضوعا مصمتـا لوصية مكتوبة ، وتنفيـذا حرفيا لرسوم شكلية دون دفء علاقة المحبة والفـرح بالصداقة والثقـة الهادئة والثابتة في الله . بل يصور القديس هذه العلاقة الحلوة كما بين الاخ وأخيه ، والصديق وصديقه ، والحبيب ومن يحب : « فالابن في محبته للاب اللطيف يهابه ، والاخ يخاف من أخيه ، وهكذا الصديق وصديقه ، والزوج ورفيقه ، ولكنه ليس خوفا من الضرب ، بل حرصا على مشاعر الحب كي لا تجرح . فيحرص في كل كلمة وكل تصرف ألا تفتر محبته تجاهه » . ولدى اشعياء أن مخافة الرب هي كنز الصديق (٣٣: ٦) . كيف ؟ يقول القديس شيريمون : « يوجد فرق بين الخوف الذي لا ينقصه شيء ، والذي هو كنز الحكمة والمعرفة (أش٣٣ : ٦) والذي هو رأس الحكمة (مز ١١١ : ١٠) وبين الخوف من العقوبة الذي يستبعد ( بضم الياء ) من قلوب الكاملين بملء المحبة » (١يو ٤ : ١٨) .
ولذلك يوضح المعلم أنه يوجد خوف مزدوج ، ويدعونا الله أن نخطو من خوف العبودية (رو ٨ : ١٥، عب ٢ : ١٥) وهو الخوف من القصاص المرعب الى ملء حرية المحبة وثقة الاحباء أبناء الله . وهنا يظهر ابراهيم أبو الآباء كنموذج وقدوة ، فلقد صارت علاقته بالله علاقة ثقة وألفة وصداقة . حتى أنه « دعى خليل ( أي صديق » الله » (یع ۲ : ۲۳ ، اش ٨:٤١ ، ۲ أی ۲۰ : ۷) .
ويواصل القديس شيريمون تعليمه موضحا أن يسوع المسيح ابن الله يقدم هذا المثل الكامل لهذا الحب ، فلقد أعلن النبي مقدما أنه « يحل عليه روح الرب ـ «روح الحكمة والفهم ، «روح المشورة والقوة ، «روح المعرفة ومخافة الرب » مخافة المحبوب من نحو من يحب . بل يتحول الخوف من « عذاب » الى فرح ومسرة وتنعم . فالنبي يواصل : « ولذته تكون في مخافة الرب » أو « ويتنعم بمخافة الرب » بحسب الترجمة اليسوعية (اش ۱۱ : ۱ – ۳).
ويعلق المعلم على ذلك قائلا « ان هذا هو عظمة غنى هذا الخوف أنه اذ يستقر على أحد بقوته لا يستحوذ على جزء من عقله بل كل عقله ، وليس ذلك بغير ادراك ـ لانه مرتبط ارتباطـا وثيقا بالمحبـة التي « لا تسقط أبدا » (١کو ۱۳ : ۸).« هذا هو الخوف الذي ينتمي للكمال ـ اذ أن الاله المتجسد جــاء ليس فقط ليخلص البشرية وانما لكي يرسم لنا أيضا صـورة الكمال ومثال الصلاح ، لانه « ابن الله الحقيقي « الذي لم يفعل خطية .. » (١بط ۲ : ۲۲) ، فلا يشعر بخوف العقوبة المرعب » بل تمثلت فيه المحبة الكاملة المطلقة ، وهو يدعونا لان ندخل في شركة هذه الوحدة ، ونمتلىء بسعادتها ونختبر نعيمها وفرحها هنا على هذه الارض ، تمهيدا للفرح الدائم إلى الأبد في الدهر الآتى[14] .
من وحي قراءات اليوم
” فحقاً في هذا قد كملت محبة الله ” الكاثوليكون
يارب …
+ لا تسمح بأن يكون الحب إنجازنا العظيم أكثر من أن يكون إهتمامنا البسيط
+ وأن لا يكون أضواءاً برَّاقة أكثر منه شموعاً هادئة
+ وأن لا يكون ما يراه عموم الناس قدر ما يشعر به الأقربون
+ وأن يُغلِّف الحب أعمالنا البسيطة والصغيرة
+ إجعل حُبّك فينا أقوي من جحود العالم ، وهياج المُقاومين ، وبرودة المُحيطين
+ وإجعله يرفعنا فوق ظروف حياتنا الصعبة
+ ويدخل إلي أعماق نفوسنا فيُحرِّرنا من الخوف والقلق
+ ويفتح عيون قلوبنا لمستقبل نعمتك فينا ، ويهبنا يقين أبديتنا في ملكوتك
+ فكل ما نعرفه خارجاً عن محبتك هو وهم ، وما نعيشه خُلواً من حبك هو فقر
+ وما نسعي إليه بعيداً عن حبك هو ندم العمر .. لك كل المجد والإكرام والعز إلي الأبد
المراجع
٢٤- القديس أغسطينوس – تفسير أعمال الرسل ٢ – القمص تادرس يعقوب ملطي
٢٥- شرح إنجيل يوحنا لكيرلس عامود الدين – مشروع الكنوز القبطية
٢٦- كتاب إسطفانوس أول شهداء المسيحية للقديس غريغوريوس النيسي – ترجمة دكتور سعيد حكيم يعقوب
٢٧- كتاب من مجد إلي مجد للقديس غريغوريوس النيسي – ترجمة القمص إشعياء ميخائيل
٢٨- كتاب عظات القديس أغسطينوس علي رسالة يوحنا الأولي – ترجمة القمص بنيامين مرجان باسيلي
٢٩- تفسير سفر الأمثال ( إصحاح ٢٨ ) – القمص تادرس يعقوب ملطي
٣٠- كتاب المنجلية القبطية الأرثوذكسية – قداسة البابا تواضروس الثاني
٣١- كتاب دراسات في الكتاب المقدس – إنجيل متي ( الإصحاح الحادي والعشرين ) – الأنبا أثناسيوس مطران كرسي بني سويف والبهنسا
٣٢- كتاب شفتاك يا عروس تقطران شهداً ( الجزء الأول ) – إصدار دير الأنبا شنوده العامر بإيبارشية ميلانو
٣٣- الكتاب الشهري للشباب والخدام عدد ديسمبر ٢٠٠٤ – إصدار بيت التكريس لخدمة الكرازة
٣٤- كتاب القديس بطرس يعلمني – القمص لوقا سيداروس
٣٥- كتاب تأملات وعناصر روحية في آحاد وأيام السنة التوتية ( الجزء الرابع ) – إعداد القمص تادرس البراموسي
٣٦- كتاب تاريخ الوعظ وأهميته – القديس الأرشيدياكون حبيب جرجس – مشروع الكنوز القبطية
٣٧- المرجع : مجلة مدارس الأحد – عدد شهر مارس لسنة ١٩٨٨